البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب صدقة الخلطة]
والخلطة خلطتان: خلطة أوصاف، وخلطة أعيان وأوصاف.
فأما (خلطة الأوصاف) : فهو أن يكون ملك كل واحدٍ من الرجلين متميزًا عن ملك الآخر، وإنما خلطا المالين في المرعى والمراح وغيرهما، على ما نذكره.
وأما (خلطةُ الأعيان) : وهو أن يكون المال مُشتركًا بينهما مُشاعًا، قال ابن الصباغ: ومن أصحابنا من يسمي هذه: خلطة الاشتراك، والأول: خُلطة الأعيان.
إذا ثبت هذا: فإن الخليطين في الماشية يزكيان زكاة الرجل الواحد، فإن كان لكل واحدِ عشرون من الغنم، وخلطاها حولًا.. وجبت عليهما شاةٌ، وكذلك: لو كانَ لكل واحدٍ منهما أربعونَ من الغنم، ولم ينفرد أحدُهما عن الآخر بالحول، وخلطاها حولًا.. وجبت عليهما شاةٌ واحدةٌ، وبه قال عطاءٌ، والأوزاعي، والليث، وأحمد، وإسحاقُ.
وقال أبو حنيفة: (لا تأثير للخلطةِ في الزكاةِ، وزكاتُهما كما لو كانا منفردين) .
وقال مالكٌ: (إن كان لكل واحدٍ نصابٌ، وخلطا المالين.. زكيا زكاةَ الواحدِ ـ كقولنا ـ وإن كان لكل واحدٍ أقل من نصابٍ، فخلطا المالين.. لم تجب عليهما زكاةٌ) ، كقول أبي حنيفة.
دليلنا: ما «روى أنسٌ: أنَّ أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما ولاه البحرين.. كتب له كتاب الصدقات: (هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي أمر الله بها، إلى أن

(3/208)


قال: ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع، خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية»
فمعنى قوله: «لا يُجمعُ بين مفترقٍ» ، أي: لا يجمعُ الساعي بين ملكين في مكانين؛ ليأخذ منهما زكاة الواحد، مثل: أن يكون لأحدهما مائة شاة وشاة، وللآخر مائة شاة، فليس للساعي أن يجمع بينهما؛ ليأخذ منها ثلاث شياه، بل يأخذ من كل واحدٍ منهما شاة، ووافقنا أبو حنيفة: أنَّ هذا مراده بقوله: «ولا يجمع بين مفترقٍ» .
وأما قوله: «ولا يفرق بين مجتمع» وهو موضع الدليل من الخبر: فيتصور ذلك في ثلاث مسائل:
إحداهنَّ: إذا كان بين ثلاثةِ أنفس مائة وعشرون شاةً، لكلّ واحدٍ أربعون، وهم مختلطون.. فليس للساعي أن يفرق بينهم؛ ليأخذ من كل واحدٍ شاةً، بل يأخذ منهم شاةً واحدةً.
الثانية: إذا اختلط الرجلان بأربعين شاةً.. فيجب عليهما شاةٌ، وليس لهما أن يفرقا حكميهما بعد تمام الحول، خشية وجوب الزكاة.
الثالثة: إذا كان لأحدهما مائة شاةٍ وشاةٌ، ولأحدهما مائة شاةٍ، فاختلطا حولًا.. وجبَ عليهما ثلاثُ شياه، ولا يفرقُ حكمهما، خشية وجوب الزكاة الثالثة عليهما.
وأما قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خشية الصدقة» : فالخشية خشيتان:
خشية من الساعي أن يغل الصدقة، وذلك في مسألتين:
إحداهما: إذا كان المال في مكانين.. فليس له أن يجمع بينهما، كما مضى.
الثانية: ليس له أن يفرق بين الشركاء الثلاثة في مائة وعشرين من الغنم.
وخشية أرباب الأموال أن تكثر الصدقة، وذلك في مسألتين: وهما الأخريان من الثلاثة المسائل.

(3/209)


ولنا من الخبر دليل ثانٍ: وهو قوله: «وما كان من خليطين، فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية» ، وهذا لا يكون إلا على مذهبنا.
قال الطحاوي: وقد يأتي التراجع على مذهب أبي حنيفة، بأن يكون بينهما ستون شاة، لأحدهما أربعون، وللآخر عشرون، وهي شركة بينهما، فإن الساعي إذا أخذ شاةً منهما، فإنها إنما وجبت على صاحب الأربعين، فيرجع عليه شريكه بثلث قيمتها.
قال أصحابنا: لا يصح حمل الخبر على هذا؛ لأنه قال: «يتراجعان بينهما بالسوية» ، وصاحب الأربعين لا يتأتى له الرجوع على صاحب العشرين في حالٍ من الأحوال، وقد قال: " بالسوية ".

[مسألة: شروط زكاة الماشية]
قال المحاملي: ولا تجب الزكاة في الماشية على المنفرد إلا بخمسة شروطٍ: شرطين في المالك، وثلاثة في المملوك:
فأما الشرطان في المالك: فأن يكون مسلمًا، حرًا، وأما الثلاثة في المملوك: فأن يكون المال نصابًا، وأن يكون سائمةً، وأن يمضي على ذلك حولٌ.
إذا ثبت هذا: فإن مال الخلطة لا يجب الزكاةُ فيه إلا بوجود هذه الخمسة الشرائط، مع سبع شرائط أخرى تختصُّ بالخلطة: خمس منها متفقٌ عليها على مذهبنا، واثنان مختلف فيهما.
فالمتفق عليها: الأولى: أن يكون مراحها واحدًا، وهو الموضع الذي تأوي إليه الغنم بالليل.
الثانية: أن يكون المسرحُ واحدًا، وهو المرعى، فإن رتعت ماشية كل واحدٍ منهما في مرعى منفرد.. لم تصح الخلطة.
قال المحاملي: وأصحابنا يعبرون عن المرعى بأن يكون الراعي واحدًا، وليس يحتاج إلى ذلك إذا كان المرعى واحدًا، سواءٌ كان الراعي واحدًا أو اثنين، ولكن لا ينفرد مالُ كل واحدٍ براعٍ.

(3/210)


وذكر في " الإبانة " [ق\115] : هل يشترطُ أن يكون الراعي مشتركًا يتفقان عليه؟ فيه وجهان:
الشريطة الثالثةُ: أن يكون المشربُ واحدًا، فأما إذا كان ماشية كل واحد يشرب على ماء منفردٍ.. فلا خلطة.
الشريطة الرابعة: أن يكون الفحل واحدًا، سواءٌ كان الفحل مشتركًا بينهما، أو لأحدهما، أو مستعارًا من غيرهما، فتصح الخلطة في ذلك كله.
هذه طريقة أصحابنا البغداديين.
وأما صاحب " الإبانة " [ق\115] : فقال: هل من شرطها أن يكون الفحل مشتركًا بينهما؟ فيه وجهان.
وإن كان مالُ أحدهما ضأنًا، ومال الآخر مَعزًا، وخلطا المالين، ولكل واحدٍ منهما فحلٌ.. صحت الخلطة؛ لأنه لا يمكنُ اختلاطهما في الفحل، كما لو كان مالُ أحدهما إناثًا، ومال الآخر ذكورًا من جنسٍ.
الشريطةُ الخامسةُ: أن يكون المال المختلط نصابًا، فإن كان لكل واحدٍ منهما أربعون شاةً، فخالط كل واحدٍ صاحبه بخمس عشرة، فصار مال الخلطة ثلاثين.. لم تصح الخلطة، بل يزكيان زكاةَ المنفردين على كل واحدٍ شاةٌ، وهذه الشريطة التي ذكرها قد مضت في مال المنفرد، فلا معنى لإعادتها.
وأما الشريطتان المختلفُ فيهما في مذهبنا فهما: الحلب، والنية.
فأما الحلب: فقال الشافعي: (وأن يحلبا معًا) .
واختلف أصحابنا في ذلك [على ثلاثة أقوالٍ] :
فـ[الأول] : قال أبو إسحاق المروزي: لا يشترط أن يحلب لبنُ أحدهما فوقَ لبن الآخر؛ لأن لبن أحدِهما قد يكون أكثر من لبن الآخر، فإذا قسماه بالسوية بينهما كان ذلك ربًا.
واختلف أصحابنا في حكاية قول أبي إسحاق في تأويل مراد الشافعي بقوله: (وأن يحلبا معًا) على ثلاثة أوجه:

(3/211)


فـ[الأول] : قال الشيخ أبو حامد في " التعليق ": قال أبو إسحاق: مراد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن يكون موضع الحلب واحدًا، وهو المكان.
و [الوجه الثاني] : حكى المحاملي وصاحب " الفروع ": أن أبا إسحاق قال: مراد الشافعي: أن يكون الإناء واحدًا.
و [الوجه الثالث] : حكى ابن الصباغ صاحب " الشامل ": أن أبا إسحاق المروزي قال: مراد الشافعي: أن يكون الحالب واحدًا، فاختلفوا في حكاية مذهب أبي إسحاق، وذكروا: أنه الصحيح. وأما خلط اللبنين: فلا يعتبر؛ لأن ذلك يؤدي إلى الربا.
و [القول] الثاني: من أصحابنا من قال: يعتبر أن يحلبا معًا، ويخلطا اللبنين، ثم يقسمانه بالسوية، قال ابن الصباغ على هذا: ولا اعتبار بالتفاضل الذي يحصل فيه؛ لأن أحدهما يسامح الآخر به، كالمسافرين يخلطون أزوادهم، ثم يأكلون، وإن كان قد يأكل بعضهم أكثر من بعض.
و [القول] الثالث: من أصحابنا من قال: يعتبر أن يكون الحالب واحدًا، والإناء واحدًا، ويخلط اللبنين.
والأول أصح: لأن اللبن من النماء، فلا يعتبر فيه الخلط، كالصوف، ويخالف المسافرين؛ لأن كل واحد منهم يدعو الآخر إلى طعامه، فيكون ذلك إباحة منه له.
واختلف أصحابنا في نية الخلطة، وجهان:
فأحدهما: منهم من قال: إنها معتبرة؛ لأن الخلطة تؤثر في الفرض، فافتقرت إلى النية.
والثاني: منهم من قال: لا يعتبر؛ لأن الخلطة إنما أثرت؛ لخفة المؤنة، وذلك موجود من غير نية.
فإن اختل شرط من هذه الشروط.. لم تصح الخلطة، وهذا إنما هو في خلطة الأوصاف.
فأما خلطة الأعيان: فإن هذه الشرائط موجودة فيها ضرورة.

(3/212)


وقال مالك: (يعتبر ثلاثة شروط لا غير: الراعي، والمسرح، والفحل) .
دليلنا: ما روى سعد بن أبي وقاص: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «والخليطان: ما اجتمعا في الرعي، والسقي، والفحل "، وفي رواية: " والحوض» . فنص على هذه الأشياء، ونبه على ما سواها؛ لأن المؤنة تخف بها.

[فرع: شركة المكاتب أو الذمي]
فإن ملك من تجب عليه الزكاة أربعين شاة، خالط مكاتبًا، أو ذميًا.. لم تصح الخلطة، ووجب على الحر المسلم زكاة المنفرد.
وقال أبو ثور: (تصح الخلطة مع المكاتب) ؛ لأن المكاتب عنده من أهل الزكاة.
وقال أبو حنيفة: (لا تجب على الحر المسلم زكاة المنفرد، كما لا تجب على شريكه) .
والدليل على أبي ثور: أن المكاتب ناقص بالرق، فلم تجب عليه الزكاة، كالقن.
وعلى أبي حنيفة: أن الزكاة تجب عليه إذا كان منفردًا، فلا تسقط عنه الزكاة بخلطة من لا تجب عليه الزكاة، كما لو خلط الأثمان بالصفر والنحاس) .

[مسألة: أنواع الخلطة]
] : وإذا وُجدت الخلطة.. فلا تخلو من ثلاثة أحوال:
إما أن يكون لم يثبت لمال أحدهما حكم الانفراد، أو لم يثبت لمالهما حكم الانفراد، أو ثبت لمال أحدهما دون الآخر حكم الانفراد.
فـ[الأول] إن لم يثبت [لمال] أحدهما حكم الانفراد، بأن ملك كل واحدٍ

(3/213)


عشرين من الغنم، ثم خلطاها، أو ملك كل واحدٍ أربعين من الغنم، وخلطاها عقيب الملك حولًا.. فإنهما يزكيان زكاة الخلطة.
و [الحال الثاني] : إن ثبت لمالهما حكم الانفراد.. نظرت:
فإن كان حولهما متفقًا، مثلُ: أن ملك كل واحد منهما أربعين من الغنم، أول المحرم، ثم خلطاها أول صفر.. ففيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يزكيان زكاة الخلطة، فتجبُ عليهما شاةٌ أول المحرم) . وبه قال مالك؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يفرق بين مجتمع» ، ولأنه لما كان الاعتبار في قدر الزكاة آخر الحول.. وجب أن تعتبر الخلطة في آخره أيضًا.
و [الثاني] : قال في الجديد: (يزكيان زكاة الانفراد) ، فيجب على كل واحدٍ منهما شاةٌ أول المحرم، وهو الصحيح، وبه قال أحمد؛ لأنهما شخصان ثبت لمالِ كل واحدٍ منهما حكم الانفراد في بعض الحول، فزكيا زكاة الانفراد، كما لو اختلطا أول الحول وانفردا آخره. وأما في الحول الثاني وما بعده: فيزكيان زكاة الخلطة على القولين؛ لأن الخلطة موجودةٌ في جميعه.
وإن كان حولهما مختلفًا، مثل: أن ملك أحدهما في أول المحرم أربعين شاةً، وملك الآخر في أول صفر أربعين، ثم خلطاها في أول ربيع، فإذا بلغا أول المحرم، فإن قلنا بالقول القديم.. أخرج الذي ملك أول المحرم نصف شاةٍ، فإذا بلغا أول صفرٍ.. أخرج الثاني نصف شاةٍ، وعلى هذا في الحول الثاني وما بعده.
وإن قلنا بالقول الجديد.. أخرج كل واحدٍ منهما شاةً عند تمام حوله الأول.
وأما في الحول الثاني وما بعده: ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو المذهب ـ أنهما يزكيان زكاة الخلطة؛ لأنهما صارا خليطين في جميع السنة، إلا أنه لا يجب على كل واحد منهما إلا إخراج نصف شاة عند تمام حوله.
والثاني ـ وهو قول أبي العباس ابن سُريج ـ: أنهما يزكيان زكاة الانفراد في جميع الأحوال، كالسنة الأولى.

(3/214)


و [الحال الثالث] إن ثبت لمال أحدهما حكم الانفراد دون الآخر، مثل: أن ملك رجل أربعين شاةً أول المحرم، فلما جاء صفر.. خالط بها رجلًا له أربعون شاة، ثم جاء ثالثٌ، فاشترى تلك الأربعين من الثاني، وصورها الشيخ أبو حامد: أن الأول ملك في أول المحرم، وملك الثاني في أول صفر، وخلطاها قبل انفراد الثاني بالحولِ.
قال ابن الصباغ: وهذا يتصور أن تحصل الخلطة عقيب القبول، ولا يعتبر الزمان اليسير.
إذا ثبت هذا: وبلغا أول المحرم، فإن قلنا بقوله القديم.. وجب على الأول نصفُ شاة، وكذلك في الحول الثاني وما بعده.
وإن قلنا بقوله الجديد.. وجب عليه شاةٌ، وأما في الحول الثاني وما بعده: فعلى المذهب: يزكيان زكاة الخلطة، وعلى قول أبي العباس ابن سريج: يزكيان زكاة الانفراد؛ لأن حولهما مختلفٌ.
فإذا بلغا أول صفرٍ، فإن قلنا بالقول القديم.. وجب على الثاني نصف شاةٍ، وإن قلنا بالقول الجديد.. ففيه وجهانِ:
أحدهما: يجب عليه شاةٌ؛ لأن خليطه لم يرتفق بخلطته، فلم يرتفق هو أيضًا.
والثاني: يجب عليه نصف شاةٍ، وهو الصحيح؛ لأنه خليطٌ للأول في جميع السنة.
وما قاله الأول لا يصح؛ لأن أحد الخليطين قد يرتفق بالخلطة دون الآخر، ألا ترى أن في هذه المسألة: إذا حال الحول الثاني على الأول.. فإنه يزكي زكاة الخلطة على المذهب، ثم لو تقاسما قبل تمام الحول الثاني.. وجب على الثاني شاةٌ عند تمام حوله، فقد ارتفق الأول دون الثاني.

[فرع: وجود النصاب نصف حول]
إذا ملك رجلٌ أربعين شاةً، وأقامت في يده نصف الحول، ثم باع نصفها مشاعًا من آخر، فإن حول البائع ينقطع في النصف الذي باع، وهل ينقطع في حوله الذي لم يُبع؟ فيه طريقان:

(3/215)


أحدهما ـ وهو قول أبي علي بن خيران ـ: أنها على القولين، هل يُبنى حول الخلطة على حول الانفراد؟
فإن قلنا بالقول القديم: (إن حول الخلطة يبنى على حول الانفراد) .. لم ينقطع.
وإن قلنا بالقول الجديد: (إنه لا يبنى) .. انقطع الحول فيما لم يبع، فيستأنفان الحول من يوم البيع. قال: لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (فمن له ستون شاةً مضى عليها نصف الحول، ثم باع ثلثها مشاعًا.. إنه يجب على البائع شاةٌ عند تمام حوله) ، ولو صح بناءُ حول الخلطة على حول الانفراد.. لأوجب عليه ثلثي شاةٍ.
والطريق الثاني ـ وهو المنصوص في " المختصر " [1/208] و " الأم " [2/13] ، وبه قال أبو العباس، وأبو إسحاق، وعامة أصحابنا ـ: (إن حول البائع لا ينقطع فيما لم يبع، قولًا واحدًا، فيجب عليه نصف شاةٍ عند تمام حوله) ؛ لأن نصيبه لم ينفك من نصابٍ، إما منفردًا، أو مختلطًا؛ لأنه لو كان منفردًا يملك النصاب أول الحول، ثم صار خليطًا للمشتري آخر الحول.. فلم ينقطع الحولُ فيه. هذا الكلام في البائع.
وأما المبتاع: فإن ابتداء حوله من حين الابتياع، فإذا تم حوله.. نظرت في البائع:
فإن كان قد أخرج زكاته من الأربعين.. فلا زكاة على المشتري؛ لأن النصاب نقص قبل الحول.
وإن أخرجها من غير الأربعين، فإن قلنا: إن الزكاة تعلقت بذمة البائع.. لم ينقطع حول المبتاع، فيجب عليه نصف شاةٍ عند تمام حوله.
وإن قلنا: إن الزكاة تتعلق بالعين، فإن نتجت شاةٌ سخلةً مع تمام الحول أو قبله.. لم ينقطع حول المبتاع أيضًا، وإن لم تنتج شاةٌ سخلةً.. ففيه طريقان:
قال عامة أصحابنا: ينقطع حول المبتاع بحؤول الحول على مال البائع؛ لأن أهل الزكاة ملكوا نصف شاة منها، فنقص المال عن النصاب، فإذا أخرج البائع الزكاة من غيرها.. عاد إليه ملك ذلك النصف بالإخراج، فيعتبر حولهما جميعًا من ذلك الوقت.

(3/216)


وذكر أبو إسحاق في " الشرح ": أن على هذا القول قولين:
أحدهما: هذا.
والثاني: لا ينقطع حول المبتاع؛ لأن رب المال إذا أخرج الزكاة من غير المال.. تبينّا أن المساكين لم يملكوا جزءًا من المال.
والطريق الأول أصح. فأما إذا باع عشرين منها بأعيانها، وسلمها إلى المبتاع من غير تفريق بينهما في المكان.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول أبي الطيب بن سلمة ـ: أن حكمها حكم الأول.
والثاني: أن حول البائع ينقطع فيما لم يبع، ويستأنفان الحول من حين البيع؛ لأنه لما أفردها بالبيع.. صار كما لو أفردها عن ماله في المكان، ثم باعها.
والأول أصح؛ لأنها لم تنفرد عن ماله في المكان.

[فرع: لا ينقطع الحول فيما لم يبع]
وإن ملك رجلٌ ثمانين شاةً، ومضى عليها نصفُ الحول، ثم باع نصفها مشاعًا.. فإن حول البائع لا ينقطع فيما لم يبع، بلا خلافٍ.
فإذا تم حوله من حين ملكها، فإن قلنا بقوله القديم: (وأن حول الخلطة يبنى على حول الانفراد) .. وجب عليه نصف شاةٍ، ويجبُ على المبتاع نصفُ شاةٍ عند تمام حوله.
وإن قلنا بقوله الجديد: (وأن حول الخلطة لا يبنى على حول الانفراد) .. وجب على البائع شاةٌ عند تمام حوله، وفي المبتاع وجهان:
أحدهما: يجب عليه شاةٌ؛ لأن خليطه لم يرتفق به، فلم يرتفق هو به أيضًا.
والثاني ـ وهو الصحيح ـ أن عليه نصف شاةٍ؛ لأن ماله لم ينفك عن الخلطة في جميع الحول.

(3/217)


قال الشيخ أبو حامدٍ: هكذا درسها أصحابنا، إلا أني أذهب: أن البائع يجب عليه نصف شاة عند تمام حوله على القولين؛ لأن ماله لم ينفك عن الخلطة في جميع الحول، وكذلك المبتاع: يجب عليه نصف شاةٍ؛ لهذه العلة.

[فرع: انقطاع الحول]
إذا ملك رجلٌ أربعين شاةً في أول المحرم، وملك آخر أربعين في أول المحرم، وأقاما منفردين ستةَ أشهرٍ، ثم باع أحدهما جميع غنمه بجميع الآخر.. انقطع حولُ كل واحدٍ منهما فيما باعَ، واستأنف الحولُ فيما اشترى، فإن بقيا منفردين إلى آخر الحول.. زكيا زكاة الانفراد من حين التبايع، فإن خلطا عقيب التبايع.. صحت الخلطة، وزكيا زكاة الخلطة.
وإن مضى زمانٌ، ثم تخالطا.. فعلى القولين في حال الخلطة: هل يُبنى على حول الانفراد؟
وإن باع كل واحدٍ منهما نصف غنمه مشاعًا بنصف غنم الآخر مشاعًا، ثم تخالطا عقيب التبايع.. فإن حول كل واحدٍ منهما ينقطع فيما باعَ، وهل ينقطع فيما لم يبع؟ فيه طريقان:
قال عامة أصحابنا: لا ينقطع، قولًا واحدًا.
وقال ابن خيران: فيه قولان، وقد مضى ذلك.
فإن قلنا: ينقطع.. استأنف الحول من حين البيع.
وإن قلنا: لا ينقطع.
فإذا بلغا أول المحرم، فإن قلنا بقوله القديم: (وأن حول الخلطة يبنى على حول الانفراد) .. وجب على كل واحدٍ منهما ربعُ شاةٍ؛ لأنه مخالطٌ حال الوجوب بعشرين لسنتين. وإن قلنا بقوله الجديد.. وجب على كل واحدٍ منهما نصف شاةٍ.
فإذا بلغا أول رجب، وهو وقت تبايعهما، فعلى القديم: يجب على كل واحدٍ منهما ربع شاةٍ، وعلى الجديد: فيه وجهان:

(3/218)


أحدهما: يجب على كل واحدٍ منهما نصفُ شاةٍ؛ لأن شريكه لم يرتفق بخلطته، فلم يرتفق هو به أيضًا.
والثاني: يجب على كل واحدٍ منهما ربعُ شاةٍ؛ لأن هذا المال كان مختلطًا من حين ملك.

[مسألة: اجتماع حول المشتركين]
إذا كان بين رجلين أربعون شاةً، لكل واحدٍ عشرون، ولأحدهما أربعون شاةً منفردةً، واتفق حول الجميع.. ففيها ستة أوجهٍ:
أحدها ـ وهو المنصوص للشافعي، وبه قال عامة أصحابنا ـ (أنه يجب في الجميع شاةٌ، ربعها على صاحب العشرين، وثلاثة أرباعها على صاحب الستين) ؛ لأن مال الرجل الواحد يضم بعضه إلى بعض بحكم الملك وإن افترقت الأماكن به، ثم يضم ذلك إلى مال خليطه، فيصير كأن الثمانين في مكانٍ واحدٍ، فجيب فيها شاةٌ مقسطةٌ على الملكين.
والثاني ـ وهو قولُ أبي علي بن أبي هريرة، وأبي علي الطبري، وقياسُ قول ابن الحداد ـ: أنه يجب على صاحب الستين ثلاثة أرباع شاةٍ، وعلى صاحب العشرين نصفُ شاةٍ؛ لأن مال الرجل يضم بعضه إلى بعض بحكم الملك، وأما صاحب العشرين: فلم يخالط من مال خليطه إلا بعشرين، فلم يرتفق بغيرها.
والثالث ـ وهو اختيار أبي زيد والخضري ـ أنه يجب على صاحب الستين أحد عشر جزءًا من اثني عشر جزءًا من شاةٍ، وعلى صاحب العشرين نصف شاةٍ؛ لأن صاحب الستين لو انفرد بجميع غنمه.. لوجب عليه شاةٌ، فيخص الأربعين التي انفرد بها ثلثا شاةٍ، ولو خالط بجميع غنمه.. لوجب عليه ثلاثةُ أرباع شاةٍ، لكنه لم يخالط منها إلا بعشرين فيجب فيه ربع شاةٍ، فإذا ضممت ثلثي شاةٍ وربعها.. كان ذلك أحد عشر جزءًا من اثني عشر جزءًا، وأما صاحب العشرين: فلم يخالط إلا بعشرين، فلم يرتفق بغيرها.

(3/219)


والرابع ـ ما حكاه الشيخ أبو حامدٍ، عن أبي علي بن أبي هريرة أيضًا ـ: أنه يجب على صاحب العشرين نصفُ شاةٍ؛ لما ذكرناه، وعلى صاحب الستين شاةٌ؛ لأن له مالًا منفردًا، ومالًا مختلطًا، فغلبت زكاة الانفرادِ؛ لأنها أقوى لكونها مجمعٌ عليها.
والخامسُ ـ يحكى عن أبي العباس ـ: أنه يجب على صاحب الستين شاةٌ وسدس شاةٍ؛ لأن حصة الأربعين ثلثا شاةٍ من زكاة الانفراد، وحصة العشرين نصفُ شاةٍ؛ لكونه مخالطًا بها بعشرين، وعلى صاحب العشرين نصفُ شاةٍ.
قال ابن الصباغ: وهذا ضعيفٌ؛ لأنه ضم الأربعين إلى العشرين، ولم يضم العشرين إلى الأربعين.
والسادس ـ حكاه في " الإبانة " [ق\118] : أنه يجب على صاحب الستين شاةٌ ونصف شاةٍ، وعلى صاحب العشرينَ نصفُ شاةٍ؛ لأن الأربعين منفردةٌ، فجيب فيها شاةٌ، والعشرين مخالطٌ بها بعشرين، فيجبُ فيها نصف شاةٍ، وهذا ضعيفٌ أيضًا؛ لأن مال الرجل الواحد يضم بعضه إلى بعض بحكم الملك وإن تفرقت الأماكنُ به.
إذا ثبت هذا: فقد ذكر الشافعي في " الأم " [2/17] نظير هذه المسألة، فقال: (إذا ملك الرجل أربعين شاةً ببلدٍ، وله أربعون ببلدٍ أخرى، فلما مضى له ستةُ أشهرٍ.. باع نصف إحدى الأربعين مشاعًا من رجلٍ.. انقطع حوله فيما باعَ، ولم ينقطع فيما لم يبع، فإن لم يقاسمه حتى حال الحول على البائع من يوم ملك غنمه.. وجبت عليه شاةٌ، وإذا حال الحول على المبتاع من حين البيع.. وجب عليه نصف شاةٍ) .
قال المحاملي: والقاضي أبو الطيب: إنما أوجب الشافعي على صاحب الستين شاةً؛ لأن حول الخلطة لا يبنى على حول الانفراد، على قوله الجديد، وقد كان منفردًا أول الحول، وأما صاحب العشرين على هذا القول: ففيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه ربع شاةٍ؛ لأن ماله لم ينفك عن الخلطة في جميع الحول.
والثاني ـ وهو المنصوص ـ: (أنه يجب عليه نصف شاةٍ) ؛ لأن شريكه لم يرتفق بشركته، فلم يرتفق هو أيضًا بشركته.

(3/220)


وأما على القول القديم، وهو: (أن حول الخلطة يبنى عل حول الانفراد) : فيجب على صاحب الستين ثلاثة أرباع شاةٍ، وعلى صاحب العشرين ربع شاةٍ.

[فرع: مشاركة جماعة في ستين شاة]
إذا كان لرجل ستون شاةً، فخالط بكل عشرين منها رجلًا له عشرون شاةً، وحالَ الحولُ على الجميع.. ففيه خمسةُ أوجه.
أحدُها: يجب عليهم شاةٌ، على صاحب الستين نصفها، وعلى كل واحدٍ من خلطائه سدسُها؛ لأن مال الرجل الواحد ينضم بعضه إلى بعض بحكم الملك، ثم ينضم ذلك إلى خلطائه، فيصير كالمائة والعشرين في مكان واحدٍ، فوجب فيها شاةٌ مقسطةٌ على الأملاك.
والثاني: يجب على صاحب الستين نصفُ شاةٍ، وعلى كل واحدٍ من خلطائه نصفُ شاةٍ، وهو قول ابن الحداد، واختيار القاضي أبي الطيب بن سلمة؛ لأن مال الرجل ينضم بعضه إلى بعض بحكم الملك، وهو مخالطٌ بجميعه، فانضم مال خلطائه في حقه؛ لكونه مخالطًا لكل واحد منهم، فصارا كما لو خلط بستين شاةً رجلًا له ستون، وكل واحد من خلطائه لم يخالط إلا بعشرين.. فلم يرتفق بغيرها، ولا يرتفق واحدٌ من خلطائه بالآخرين؛ لأنه لا خلطة بينه وبينهما.
والثالث: تجب على صاحب الستين ثلاثةُ أرباع شاةٍ، وعلى كل واحدٍ من خلطائه نصفُ شاةٍ؛ لأن مال صاحب الستين ينضم بعضه إلى بعض بحكم الملك، ولا يمكن ضمه إلى كل واحدٍ من خلطائه، بل ينضم إلى مال واحدٍ منهم، فيصير كأنه مخالطٌ بستين رجلًا له عشرون، فجيب عليه ثلاثة أرباع شاةٍ، وكل واحدٍ من خلطائه لم يخالطه إلا بعشرين، فلم يرتفق بغيرها.
والرابع ـ حكاه القاضي أبو الطيب في " شرح المولدات " ـ: أنه يجب على صاحب الستين شاةٌ ونصفُ شاةٍ، وعلى كل واحدٍ من خلطائه نصف شاةٍ؛ لأن كل عشرين من غنمه منقطعة على من لم يخالطه بها، فيجب أن تكون منقطعةً في حقه أيضًا عن الأربعين التي خالط بها الآخرين، فيجبُ في كل أربعين شاةٌ، عليه نصفها.

(3/221)


والخامسُ ـ حكاه الشيخ أبو حامدٍ، والمحاملي، وصاحب " المهذب " ـ: أنه يجب على صاحب الستين شاةٌ، على قول من قال في الأولى: يغلب زكاةُ الانفراد؛ لأنه لا يمكن ضم ماله مع تفرقه إلى أموال خلطائه، فيجعل كأنه منفردٌ بالستين، فيجب عليه فيها شاةٌ، وعلى كل واحدٍ من خلطائه نصفُ شاةٍ.
وأما ابن الصباغ: فقال: لا يمكن هذا في هذه المسألة؛ لأنه ليس هاهنا مالٌ منفردٌ، فيغلبُ حكمه.

[فرع: خالط غنمه مع اثنين]
فرعٌ: [خالط غنمه معاثنين] :
وإن كان له أربعون شاةً، فخالط بكل عشرين منها رجلًا له أربعون شاةً:
فعلى الوجه الأول في الفروع قبل هذا: تجب عليهم شاةٌ، على كل واحدٍ ثلثها.
وعلى قول ابن الحداد: يجب على الذي فرق ماله ثلث شاةٍ، وعلى كل واحدٍ من خلطائه ثلثا شاةٍ.
وعلى الوجه الثالث: ينضم ماله بعضه إلى بعض، ثم ينضم إلى أحد خليطيه في حق نفسه، فيجب عليه نصف شاةٍ، وعلى كل واحدٍ من خليطيه ثلثا شاةٍ؛ لأنه لا يرتفق إلا بما خولط به.
وعلى الوجه الرابع ـ الذي قطع مال الرجل بعضه من بعض لافتراقه في الخلطة ـ: يجب عليه ثلثا شاةٍ، في كل عشرين ثلثها، وعلى كل واحدٍ من خليطيه ثلثا شاةٍ.
ويأتي على الوجه الخامس الذي حكاه الشيخُ أبو حامد في تغليب الانفراد: يجبُ على كل من فرق ماله شاةٌ، وعلى كل واحدٍ من خليطيه ثلثا شاةٍ.

[فرع: المشاركة بنصف ما يملك]
وإن كان لرجلٍ عشرٌ من الإبل، فخالط بكل خمسٍ منها رجلًا له خمس عشرةَ من الإبل، وبالخمس الأخرى رجلًا له خمسةَ عشرَ:

(3/222)


فعلى الوجه الأول ـ وهو المنصوص ـ: (يجب في الجميع بنت لبون: على صاحب العشر ربعها، وعلى كل واحدٍ من خليطيه ثلاثة أثمانها) .
وعلى قول ابن الحداد: يجب على صاحب العشر ربع بنت لبون، وعلى كل واحدٍ من خليطيه ثلاث شياهٍ.
وعلى قول من قطع الخمس عن الخمس الأخرى، قال: يجب على صاحب العشر شاتان، وعلى كل واحدٍ من خلطائه ثلاث شياه، وكذلك: على قول من غلب زكاة الانفراد، وهذا ضعيفٌ.
وعلى قول من ضم بعض ماله إلى بعضٍ، وضمه إلى مال أحد خليطيه، قال: يجب على صاحب العشر خمسا بنت مخاض، وعلى كل واحدٍ من خليطيه ثلاث شياهٍ.
وإن كانت له عشرٌ من الإبل، فخالط بكل خمسٍ رجلًا له عشرونَ:
فعلى الوجه الأول: يجب على الجميع حقةٌ: على صاحب العشر خمسها، وعلى كل واحدٍ من خليطيه خمساها.
وعلى قول ابن الحداد: يجب على صاحب العشر خمس حقةٍ، وعلى كل واحدٍ من خليطيه أربعة أخماس ابنة مخاضٍ.
وعلى قول من قطع أحد ماليه عن الآخر: يجب على صاحب العشرة خمسا بنت مخاضٍ، وعلى كل واحدٍ من خليطيه أربعةً أخماسِ بنت مخاضٍ.

(3/223)


وعلى قول من ضم مال الرجل الواحد بعضه إلى بعض، وضمه إلى أحد خليطيه: يجب على صاحب العشر ثلثا بنت مخاض، وعلى كل واحدٍ من خليطيه أربعة أخماسِ بنت مخاضٍ.
وعلى قول من غلب زكاة الانفراد: يجب على صاحب العشر شاتان، وعلى كل واحدٍ من خليطيه أربعةُ أخماسِ بنت مخاضٍ.

[مسألة: خلطة الأعيان والأوصاف]
قد ذكرنا: أن الخلطة خلطتان: خلطة أعيان، وخلطة أوصافٍ، وهما سواءٌ في أنه يجب فيهما ما يجب على الواحد.
واختلف قول الشافعي إلى ماذا ينصرف إطلاقُ اسم الخلطة في اللغة وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والخليطان يتراجعان بينهما بالسوية» ؟
فقال في القديم: (ينصرف إلى خلطة الأوصاف) .
وقال في الجديد: (ينصرف إلى خلطة الأعيان) .
إذا ثبت هذا: فالكلام هاهنا في أخذ الساعي الزكاة من المال، وفي التراجع.
فإن كانت الخلطة خلطة الأعيان.. أخذ منه، ولا تراجع بينهما إلا في الإبل التي يجب فيها الغنم، فإن الساعي إذا وجد في يد أحدهما خمسًا من الإبل.. أخذ منه شاةً، ويرجع على خليطه.
وإن كانت خلطة أوصافٍ، فإن كان الفرض موجودًا في مال أحدهما دون الآخر، أو كان بينهما أربعون شاةً.. فإن الساعي يأخذ الفرض من مال أحدهما، بلا خلافٍ؛ لأنه لا يمكنه غير ذلك، وإن أمكنه أن يأخذ زكاة كل واحدٍ منهما من ماله، بأن كان لكل واحدٍ مائة شاةٍ.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق ـ أن الساعي لا يجوز له أن يأخذ من مال أحدهما إلا شاةً؛ لأنه لا حاجة به إلى أن يأخذ ذلك من مال خليطه.

(3/224)


والثاني ـ وهو قول أبي علي بن أبي هريرة ـ: أنه يجوز له أن يأخذ الكل من مال أحدهما بكل حالٍ؛ لأنه كالمال الواحد.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا أشبه بمذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والأول أقيسُ.
فإذا أخذ الساعي الزكاة من غير زيادةٍ من مالِ أحدهما.. رجع على خليطه من قيمة المأخوذ بقدر ماله من المال الذي وجبت فيه الزكاة عليهما، فإن اتفقا على قيمة المأخوذ.. فلا كلام، وإن اختلفا، فإن كان للمأخوذ منه بينةٌ بقيمة ما أُخذ منه.. عمل بها، وإن لم يكن له بينةٌ.. فالقولُ قول المرجوع عليه مع يمينه؛ لأنه غارمٌ.
وإن أخذ الساعي من أحدهما أكثر من الفرض بغير تأويل، بأن أخذ من الأربعين شاتين، أو أخذ شاة ربى، أو ماخضًا، أو فحل الغنم، أو سنًا أكبر من سن الفرض.. يرجع المأخوذ منه على خليطه بحصته من قيمة الواجب، لا من الزيادة، مثل: أن يأخذ منه ابنة لبون مكان ابنة مخاضٍ، فإنه يرجع عليه من قيمة ابنة مخاضٍ؛ لأن الساعي ظلمه، فلا يرجع على غير من ظلمه.
وهكذا: لو تطوع أحدهما بتسليم ذلك.. لم يرجع على خليطه إلا من قدر الواجب لا غير؛ لأنه متطوعٌ بالزيادة.
وإن أخذ الساعي من أحدهما أكثر من الواجب بتأويلٍ، بأن أخذ الكبيرة عن الصغار، أو الصحيحة عن المراض على قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.. رجع المأخوذ منه على خليطه من قيمة ما أخذ منه؛ لئلا يؤدي إلى نقض اجتهاد الإمام.
فإن أخذ من أحدهما قيمة الفرض على مذهب أبي حنيفة.. فهل يرجع على خليطه منهما؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق ـ: أنه لا يرجع عليه بشيء؛ لأن القيمة لا تجزئ عندنا.
والثاني ـ وهو المنصوص في " الأم ": (أنه يرجع عليه بحصته من القيمة) ؛ لأنه أخذه باجتهاده، فأشبه إذا أخذ الكبيرة عن الصغار.

(3/225)


[مسألة: فيما تصح الخلطة فيه]
] : وهل تصح الخلطة فيما عدا الماشية من الأموالِ: كالدراهم، والدنانير، وأموال التجارة، والزروع، والثمار؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (لا تأثير لها في ذلك) . وبه قال مالكٌ.
ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقةٌ» . وهذا عامٌ إذا كان لواحدٍ أو لاثنينِ، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والخليطان ما اجتمعا في الرعي والفحل والحوض» .
فثبت: أن ما لا يوجد فيه ذلك.. لا تؤثر فيه الخلطةُ؛ ولأن الخلطة إنما تصح في جنس المال الذي يرتفق بها رب المال تارةً، ويستضر بها تارةً، وهي الماشية؛ لأنه لو كان بين ثلاثةٍ مائة وعشرون من الغنم، لكل واحدٍ أربعون.. لوجب عليهم شاةٌ وحدةٌ عند الاختلاط، ولو تفرقوا.. لوجب على كل واحدٍ شاةٌ. فهذا وجه ارتفاقهم في الخلطة.
وأما وجه استضرارهم: فلو كان بين رجلين أربعون من الغنم.. لوجب عليهما شاةٌ، ولو تفرقا.. لم يجب عليهما شيءٌ.
وأما الخلطةُ في غير المواشي: ففيها مضرةٌ على أرباب الأموال بكل حالٍ من غير ارتفاقٍ، وذلك أنه: إذا كان مال كل واحدٍ منهما أقل من نصابٍ، ويبلغان بمجموعهما النصاب.. وجبت عليهما الزكاة عند الخلطة، وإذا افترقا.. لم يجب عليهما الزكاةٌ.

(3/226)


ولو كان مع كل واحدٍ منهما نصابٌ، فاختلطا.. فلا مضرة عليهما في الخلطة، ولا منفعة، فلذلك لم تصح الخلطةُ في غير الماشية.
و [الثاني] : قال في الجديد: (تصح الخلطةُ) . وبه قال أحمدُ، وهو الصحيحُ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يفرق بين مجتمعٍ» . وهذا عام في الماشية، وغيرها.
ولأن المؤن تخف في الخلطة، وذلك لأن في عروض التجارة يكون دكانهما واحدًا، وميزانهما وحمالهما واحدًا، وكيالهما واحدًا.
وكذلك في الزروع والثمار: يكون أكارهما واحدًا، وصعادهما واحدا، وسقاؤهما واحدًا، وما جرى هذا المجرى.. فأثرت الخلطة فيهما، كالمواشي.
إذا ثبت هذا: فإن قلنا بالقول القديم: فإن بلغ مال أحدهما نصابًا.. زكاه، وإن لم يبلغ.. لم يجب عليه الزكاة.
وإن قلنا بالقول الجديد: فلا خلاف بين أصحابنا أن خلطة الأعيان تصح بها، وهل تصح في خلطة الأوصاف؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تصح؛ لأن الاختلاط لا يحصل.
والثاني: يصح، وهو الأصح الصحيح؛ لأن ما صح فيه خلطة الأعيان.. صح فيه خلطة الأوصاف، كالمواشي.
والله أعلم وبالله التوفيق

(3/227)