البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب زكاة الثمار]
تجب الزكاة في ثمرة النخل والكرم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] الآية [البقرة: 267] .
والمرادُ بالإنفاق هاهنا: الزكاة؛ لأنه قال: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] [البقرة: 267] .
وإنفاقُ الخبيث ـ وهو الدون ـ في غير الزكاة يجوز، وروى عتاب بن أسيد: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في الكرم: «يخرص كما يخرص النخل، فتؤدى زكاته زبيبًا، كما تؤدى زكاة النخل تمرًا» . وإنما جعل النخل أصلًا، ورد إليه الكرم؛ لأنه قد كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - افتتح خيبر في سنة ستٍّ، وكان بها نخلٌ، و «كان يوجه عبد الله بن رواحة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يخرصها عليهم» . وكان خرص النخل عندهم مستفيضًا، ثم فتح الطائف

(3/228)


وهوازن سنة ثمانٍ، وكان بها كرمٌ، فأمرهم بخرصها، كما يخرص النخل.

[مسألة: وجوب الزكاة في بعض الثمار]
ولا تجب الزكاة في التفاح، والسفرجل، والمشمش، والرمان، والتين، والبطيخ، والقثاء، والخيار، والبقول، وطلع الفحال، وما أشبهها مما لا يقتات.
وقال أبو حنيفة: (تجب الزكاة في كل ما يقصد بزراعته نماء الأرض، فيجب في جميع ما تنبته الأرض إلا الحطبَ، والحشيشَ، والقصب الفارسي) .
دليلنا: ما روى معاذٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس في الخضراوات صدقةٌ» . ولأنه لا يقتات في حال الاختيار.. فلم يجب فيه زكاةٌ، كالحطب، والحشيش.
وهل تجب الزكاة في الزيتون؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (تجب فيه الزكاة) . وبه قال مالكٌ، والزهري،

(3/229)


والثوري، والأوزاعي؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} [الأنعام: 99] [الأنعام: 99] .
ثم قال: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] [الأنعام: 141] .
وقد روي ذلك عن عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
فإذا قلنا بهذا: لم تجب فيه الزكاة، حتى يبلغ خمسة أوسقٍ، ولا يدخله الخرص؛ لأنه مختلطٌ بورقه، فإن كان من الزيتون الذي لا يجيء منه الزيت، وإنما يؤكل أدمًا، كالبغدادي، فإنه إذا بدا في الصلاح.. أخرج عشره زيتونًا.
وإن كان يجيءُ منه الزيت، كالشامي.. قال الشافعي رحمة الله عليه في القديم: (إن أخرج زيتونًا.. جاز؛ لأنه حالة الادخار له، وأحب أن يخرج عشره زيتًا؛ لأنه نهاية ادخاره) . وحكى ابن المرزبان في جواز إخراج الزيتون وجهين. قال الشيخ أبو حامد: وهذا غلطٌ.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا تجب فيه الزكاة) . وبه قال ابن أبي ليلى؛ لأنها ثمرةٌ لا تقتات في حال الاختيار، فأشبهت التين.
وهل تجب الزكاة في الورس؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (تجب) ؛ لما روي: (أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إلى بني حفاشٍ بذلك) .

(3/230)


فعلى هذا: تجب الزكاة في قليله وكثيره؛ لأنه لا يوسقُ.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا تجب الزكاة) ؛ لأنه لا يقتات في حال الادخار.
فإذا قلنا بهذا: فلا زكاة في الزعفران.
وإن قلنا بالأول: ففي الزعفران قولان:
أحدهما: تجب فيه الزكاة؛ لأنه طيب كالورس.
والثاني: لا زكاة فيه؛ لأنه نبتٌ لا ساق له، والورس له ساقٌ.
وهل تجب الزكاة في العسل؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (تجب فيه الزكاة) ؛ لما روي: «أن قومًا أتوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعشور نحلهم، وحمى لهم واديًا» .
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا تجب فيه الزكاة) ؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما بعث معاذًا إلى اليمن.. قال: «لا تأخذ العشر إلا من أربعة: من الشعير، والحنطة، والعنب، والنخل» .
وروي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: (لا زكاة في العسل) . ولا مخالف له.
وهل تجب الزكاة في القرطم، وهو حب العصفر؟ فيه قولان:

(3/231)


[الأول] : قال في القديم: (تجب) . وروي ذلك عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
فعلى هذا: لا تجب فيه الزكاة حتى يبلغ خمسةَ أوسقٍ، كسائر الحبوب.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا تجب فيه الزكاة؛ لأنه ليس بمقتاتٍ، فأشبه السمسم) .

[مسألة: نصاب الثمار]
ولا تجب الزكاة في ثمرة النخل والكرم، حتى يبلغ يابسه خمسة أوسق، وبه قال جابرٌ، وابن عمر، ومن الفقهاء: مالكٌ، والأوزاعيٌ، والليث، وأبو يوسف، ومحمدٌ، وأحمدُ رحمة الله عليهم.
وقال أبو حنيفة: (تجب الزكاة في كل قليلٍ وكثيرٍ، ولو كانت حبةً واحدةً.. ـ وجب عشرها) .
دليلنا: ما روى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقةٌ» .
وروى جابرٌ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا زكاة في نخلٍ ولا كرمٍ حتى تبلغ خمسة أوسقٍ» .
إذا ثبت هذا: فالوسقُ: ستون صاعًا، فذلك ثلاثمائة صاعٍ، والصاعُ: أربعة أمداد، والمد: رطلٌ وثلثٌ، فذلك ألف وستمائة رطلٍ بالبغدادي، وهو ثمانمائة منٍّ؛ لما روى جابرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا زكاة في شيءٍ من

(3/232)


الحرث حتى يبلغ خمسة أوسقٍ، والوسق: ستون صاعًا» . وهل ذلك تحديدٌ، أو تقريبٌ؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه تقريبٌ، فلو نقص منه خمسة أرطالٍ.. لم يؤثر؛ لأن الوسق: حمل بعيرٍ، وذلك يزيد وينقص.
والثاني: أنه تحديدٌ. قال المحاملي: وهو الصحيح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «والوسق: ستون صاعًا» . فعلم أنه تحديدٌ.
فعلى هذا: لو نقص منه شيءٌ قل أو كثر.. لم تجب الزكاةُ.

[فرع: زكاة الثمار التي لا تجفف]
وإن كان له رطبٌ لم يجئ فيه تمرٌ، أو عنبٌ لم يجئ منه زبيبٌ.. وجبت فيه الزكاة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما سقته السماء.. ففيه العشر» .
وكيف يعتبر؟ فيه وجهان:
أحدهما: يعتبر بنفسه، فإن كان يبلغ يابسه خمسة أوسقٍ.. وجبت فيه الزكاة، وإن كان لا يبلغ.. لم تجب فيه؛ لأن الزكاة تجب فيه، فاعتبر بنفسه.
والثاني: يعتبر بغيره، فيقال: لو كان بدل هذه التمرة مما يجفف في العادة.. هل كان يبلغ النصاب؟ فإن كان يبلغ النصاب.. وجبت فيه، وإلا.. فلا تجب؛ لأنه لما لم يمكن أن يعتبر بنفسه.. اعتبر بغيره، كالجناية على الحر التي لا أرش لها مقدرٌ.

(3/233)


قال ابن الصباغ: فعلى هذا: ينبغي أن يعتبر بأقرب الأرطاب إليه مما يجفف.
فإن قيل: فقد قلتم لا يجيء منه تمرٌ ولا زبيبٌ، ثم قلتم: يعتبر بنفسه؟
فالجواب: أنه ما من رطبٍ إلا ويجيءُ منه تمرٌ، وما من عنبٍ إلا ويجيء منه زبيبٌ، وإنما منه ما لا يقصد إلى تجفيفه؛ لقلة ما يأتي منه.

[مسألة: أنواع التمر]
قال الشافعي: (وثمرُ النخل تختلف، فتثمر النخل، وتجد بتهامة، وهو بنجدٍ بسرٌ وبلحٌ، فيضم بعض ذلك إلى بعض؛ لأنها ثمرة عامٍ وإن كان بينهما الشهر والشهران. وإذا أثمرت في عامٍ قابلٍ.. لم يضمَّ) .
وجملةُ ذلك: أن إدراك الثمرة يختلف باختلاف البلاد، فتسرع في البلاد الحارة، وتتأخر في البلاد الباردة.
فإن كان له نخيلٌ بتهامة ـ وهي مكة وحواليها ـ ونخيلٌ بنجٍد ـ وهي من ذات عرق إلى حرر المدينة ـ ففيها أربع مسائل:
إحداهن: أن يطلعا في وقتٍ واحدٍ، ثم يدركا في وقتٍ واحدٍ، فيضم بعضه إلى بعضٍ؛ لأنهما ثمرة عامٍ واحدٍ.
الثانية: أن يطلعا في وقتٍ واحدٍ، ثم يدرك شيءٌ بعد شيءٍ، فيضم بعضه إلى بعضٍ أيضًا؛ لما ذكرناه.
الثالثة: أن تطلع التهامية ويبدو صلاحها، ثم تطلع النجدية، فالبغداديون من

(3/234)


أصحابنا قالوا: يضم بعضها إلى بعضٍ؛ لأنها ثمرة عامٍ واحدٍ، وهذا معنى قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن كان بينهما الشهر والشهران) .
وحكاها صاحب " الإبانة " [ق\ 136] على وجهين:
أحدهما: هذا، وهو الصحيح. والثاني: لا يضم إليها؛ لأن الزكاة قد وجبت في الأولى قبل حدوث الثانية.
الرابعة: أن تطلع التهامية ويبدو فيها الصلاح وتقطع، ثم تطلع النجدية، فاختلف أصحابنا البغداديون والخراسانيون.
فقال البغداديون: تضم النجدية إلى التهامية؛ لأنهما ثمرة عامٍ واحدٍ؛ لأن الله سبحانه وتعالى أجرى العادة أن إدراك الثمار لا تتفق في حالةٍ واحدةٍ ووقتٍ واحدٍ.
وقال الخراسانيون: لا تضم.

[فرع: ضم الثمر بعضه إلى بعض]
فإن أطلعت التهامية وبدا فيها الصلاح فجدت، ثم أطلعت النجدية، إما قبل جداد التهامية، أو بعده.. فقد ذكرنا أن التمرتين يضم بعضهما إلى بعضٍ.
فإن أطلعت التهامية مرة ثانيةً قبل أن تجد النجدية.. لم يضم هذه الثمرة الثانية في التهامية إلى ثمرتها الأولى ولا إلى النجدية؛ لأن هذه ثمرة عامٍ آخر، وإنما تقدمت لشدة حر البلد.

[مسألة: العشر فيما سقي بلا كلفة]
ويجب العشر فيما سقي بغير مؤنةٍ ثقيلةٍ، كماء السماء، والسيح، والبعل: وهو العثري، وهو الشجر الذي يشرب الماء بعروقه من ندى الأرض، وكذلك

(3/235)


ما يشرب من الماء الذي يجري إليه من نهرٍ، وإن كثرت المؤنة بجره؛ لأن ذلك ليس بمؤنةٍ للزروع، وإنما هو لإصلاح شرب الأرض فيجري مجرى إحياء الموات.
فأما ما سقي بمؤنةٍ ثقيلة، كالنواضح، والدواليب، والغروب.. ففيه نصف العشر.
والدليل عليه: ما روى جابرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما سقته السماءُ والأنهار.. ففيه العشر، وما سقي بالسواني.. ففيه نصف العشر» .
ولأن لخفةِ المؤنة تأثيرًا في الزكاة، ولهذا وجبت الزكاة في السائمة لخفة مؤنتها، ولم تجب في المعلوفة لثقل مؤنتها.
وإن سقي نصفه بالسيح، ونصفه بالناضح.. وجب فيه ثلاثة أرباع العشر اعتبارًا بالسقيين.
قال الشيخ أبو حامد: والاعتبار بما يعيش به الشجر، فإن عاش بالسيح ثلاثة أشهرٍ، وبالناضح ثلاثة أشهرٍ.. فهما نصفان، وإن سقي بأحدهما أكثر.. ففيه قولان:
أحدهما: يعتبر قدرهما.
قال الشيخ أبو حامد: وهو القياس؛ لأنه لو سقي بهما نصفين.. لقسطت الزكاة عليهما، فكذلك إذا تفاضلا.
والثاني: يعتبر الغالب، فإن كان الغالب السيح.. أخذ منه العشر، وإن كان

(3/236)


الغالب الناضح.. أخذ منه نصف العشر؛ لأن للغلبة تأثيرًا في الأصول، ولهذا إذا اجتمع الماء والمائع الطاهر.. كان الحكم للغالب.
وفي كيفية اعتبار الغالب وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\ 137] :
أحدهما ـ ولم يذكر في " التعليق " غيره ـ: أن الاعتبار بالزمان الذي يعيش فيه الشجر، لا بعدد السقيات؛ لأنه قد يعيش بالسقية الواحدة ما لا يعيش بالسقيات.
والثاني: أن الاعتبار بعدد السقيات، وإليه أومأ الشيخ أبو إسحاق في " المهذب "، حيث قال: يقسط على عدد السقيات.
وإن سقي بهما، وجهل قدر كل واحدٍ منهما.. قال أبو العباس: جعلا نصفين، ووجب فيه ثلاثة أرباع العشر؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر، فجعل نصفين. فإن كان له حائطان، أحدهما يسقى بالسيح، والآخر بالناضح.. ضم إلى الآخر في إكمال النصاب، وأخرج من المسقي بالسيح العشر، ومن المسقي بالناضح نصف العشر.
قال في " الإبانة " [ق\138] : إذا كان يسقى بالسيح، فانقطع، واحتيج إلى سقيه بالناضح، فسقي به.. فهل يثبت له حكم ما سقي بالسيح والناضح؟ فيه وجهان:
أحدهما: يثبت له؛ لوجوده.
والثاني: لا يثبت له؛ لأنه كان يسقى بالسيح، والحاجة إلى الناضح نادرةٌ، فلم يثبت حكمه.
قال: وهما كالوجهين فيمن علف السائمة ساعةً، ثم أعادها، وكالوجهين في الخليطين إذا ميزا المالين ساعةً لا غير، ثم خلطاه.
وإن اختلف الساعي ورب المال فيما يُسقى به، أو في قدره.. فالقول قول رب المال مع يمينه، واليمين ـ هاهنا ـ مستحبةٌ؛ لأن دعوى رب المال لا تخالف الظاهر.
فإن كان له حائطان، أحدهما يسقى بالسيح، والآخر بالنواضح.. ضم أحدهما

(3/237)


إلى الآخر، لإكمال النصاب، وأخرج من الذي يسقى بالسيح العشر، ومن المسقي بالناضح نصف العشر، وإن زادت الثمرة على خمسة أوسقٍ.. وجب فيما زاد بحسابه؛ لأنه يتجزأ من غير ضررٍ، فأشبه الأثمان.

[مسألة: لا تجب الزكاة إلا ببدو الصلاح]
ولا تجب الزكاة في الثمار حتى يبدو الصلاح فيها، وبدوّ الصلاح في النخل: إذا احمر ما يحمر من ثمرتها، أو اصفر ما يصفر منها.
قال الشيخ أبو حامدٍ: وذلك حالة كونها بسرًا؛ لأنها تسلم من الآفة والعاهة، مثل البر.
وإن كان عنبًا أسود.. فحتى يسود، وإن كان أبيض.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فحتى يتموه) .
فمن أصحابنا من قال.. معنى قوله: (يتموه) : يدور فيه ماء الحلاوة، والتموه: مأخوذٌ من الماء.
ومنهم من قال: معنى قوله: (يتموه) : تبدو فيه الصفرة؛ لأن الشيء إذا بدا اصفراره.. سمي: متموها، ولهذا يقال: موهت الفضة: إذا صفرت بالذهب.

[مسألة: نقص نصاب الزكاة قبل الوجوب]
] : فإذا ملك نصابًا تجب فيه الزكاة من الماشية، أو الدراهم، أو الدنانير، أو الثمار، فنقص نصابها قبل وجوب الزكاة، فإن كان لعذرٍ بأن قضى دينه، أو خفف عن نخله خوفًا عليها.. فإن ذلك ليس بمكروهٍ، ولا تجب عليه الزكاة.
وإن قصد بذلك الفرار من الزكاة.. قال الشيخ أبو حامدٍ: كره ذلك ولم يحرم.

(3/238)


وإذا حال عليه الحول.. فلا زكاة فيه، وقال مالك، وأحمدٌ: (إذا حال عليها الحول.. وجبت عليه الزكاة) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في مالٍ حتى يحول عليه الحول» .
وهذا لم يحل عليه الحول، فلا زكاة فيه، فلم يمنع من بيعه.

[مسألة: بدو صلاح الثمرة في ملكه]
إذا ملك الرجل ثمرة لم يبد فيها الصلاح، من غير شرط القطع، ثم بدا فيها الصلاح، وهي في ملكه.. وجبت عليه الزكاة، وذلك بأن يشتري النخل والثمرة، أو يوصى له بالثمرة، أو كانت النخلة له دون الثمرة، فاشترى الثمرة من مالكها من غير شرط القطع في أحد الوجهين، ثم بدا الصلاح بالثمرة، وهي في ملك الثاني.. وجبت عليه الزكاة؛ لأنه جاء وقت الوجوب وهي في ملكه.
وأما إذا اشترى ثمرة قبل بدو الصلاح فيها بشرط القطع.. صح البيع، فإن قطعها المشتري قبل بدو الصلاح فيها.. فلا كلام، وإن لم يقطعها المشتري حتى بدا الصلاح فيها.. فقد وجبت فيها الزكاة.
فإن اتفقا على قطعها، فإن كان المشتري قد خرصت عليه الثمرة، وضمن نصيب المساكين.. قطعت، وإن لم يخرص عليه.. لم يجز قطعها؛ لأن في ذلك إتلاف حق المساكين، فينفسخ البيع، وترد الثمرة إلى البائع، وتجب عليه الزكاة.
فإن قيل: كيف توجبون الزكاة عليه، وبدو الصلاح كان في ملك المشتري؟

(3/239)


قلنا: لأن وجوب القطع كان مستفادًا بالشرط، وإنما تعذر لبدو الصلاح، فصار الفسخ مستفادًا بالشرط، فاستند إلى حال العقد، فكأن العقد ارتفع من أصله لا من وقت الفسخ.
وإن اتفقا على تبقية الثمرة على النخل إلى وقت الجداد، فالمشهور من مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن ذلك جائزٌ، ولا يفسخ البيع، وتجب الزكاة على المشتري؛ لأن الحق لهما، وقد رضيا.
قال الشيخ أبو حامدٍ: وحكى أبو إسحاق قولًا آخر: أن البيع ينفسخ؛ لأنهما لو اتفقا على التبقية حال العقد.. لبطل البيع، فكذلك إذا وجد هذا الشرط المبطل بعد ذلك، قال: وهذا غلطٌ؛ لأن الشرط المبطل إنما يؤثر إذا قارن العقد، ألا ترى أنه لو اشترى عينًا إلى أجل مجهول.. لم يصح، ولو اشتراها إلى أجل معلوم، ثم بعد لزوم البيع اتفقا على أجلٍ مجهولٍ.. لم يؤثر في العقد فكذلك هاهنا.
وإن طلب البائع قطع الثمرة لتخلية نخله، وطلب المشتري تبقيتها إلى الجداد.. فذكر الشيخ أبو حامد والبغداديون من أصحابنا: أن البيع ينفسخ، وترجع الثمرة إلى البائع، فتجب عليه الزكاة؛ لأنه لا يمكن إجبار البائع على هذه التبقية؛ لأن البيع وقع بهذا الشرط، ولا يمكن القطع؛ لأن في ذلك إضرارًا بالمساكين، فلم يبق إلا الفسخ.
وحكى في " الإبانة " [ق\140] قولين:
أحدهما: ينفسخ البيع؛ لما ذكرناه.
والثاني: لا ينفسخ، ويجبر المشتري على القطع، ويؤخذ منه عشر ثمرته مقطوعًا. وهذا ليس بشيءٍ.
وإن رضي البائع بترك الثمرة إلى أوان الجداد، وطلب المشتري قطعها.. فحكى الشيخ أبو حامدٍ فيه قولين:
أحدهما: يجبر المشتري على التبقية، وهو الصحيح؛ لأن البائع زاده خيرًا، فهو كما لو أسلم إليه طعامًا على صفةٍ، فسلم إليه طعامًا أعلى منه صفةً.

(3/240)


قال في " الإبانة " [ق\140] : على هذا: فإن رجع البائع عن الرضا بترك الثمرة.. كان له ذلك؛ لأن رضاه بترك الثمرة إعارةٌ منه للنخل، وللمعير أن يرجع في العارية.
والقول الثاني: أن المشتري لا يجبر على التبقية، بل يفسخ العقد؛ لأنه يقول: إنما دخلت في العقد على أن تحصل لي الثمرة في الحال، ولا آمن التلف إذا تركتها.

[فرع: البيع للذمي قبل بدو الصلاح]
ذكر ابنُ الحداد: إذا باع المسلم نخلًا مثمرًا لم يبد صلحه من ذميٍّ، فبدا صلاحه.. فلا زكاة على واحدٍ منها. فإن وجد الذمي به عيبًا ـ بعد بدو الصلاح ـ فرده بالعيب.. لم تجب الزكاة على البائع؛ لأن وقت الوجوب هو في ملك الذمي، وليس هو من أهل الزكاة.
وإن باعه الذمي من مسلم، فبدا الصلاح فيه في ملك المسلم.. فالزكاة على المسلم، فلو رده بعيبٍ.. لم تسقط عنه الزكاة.

[مسألة: قطع الثمرة قبل بدو الصلاح]
إذا قطع رب المال الثمرة قبل بدو صلاحها.. لم تجب عليه الزكاة؛ لأن ذلك قبل الوجوب.
وهل يكره؟ ينظر فيه:
فإن كان ذلك لعذرٍ، مثل: أن قطعها ليأكلها، أو ليبيعها، أو ليخفف عن نخله.. لم يكره.. وإن قطعها للفرار من وجوب الزكاة، وكانت تبلغ نصابًا لو بقيت.. كره له ذلك، ولم يحرم.. وقد مضى خلاف مالكٍ، وأحمد فيها.

[مسألة: خشي على الثمار التلف]
وإن بدا الصلاح في الثمرة، وأصابها عطشٌ، وخاف أن تشرب الثمرة ماء النخلة، فتتلف النخلة، وكان قبل أوان جدادها.. جاز للمالك أن يقطع من الثمرة.. ما تدعو

(3/241)


الحاجة إليه في ذلك.. فإن كان الضر يزول بقطع الثمرة.. قطع البعض منها. وإن كان الضرر لا يزول إلا بقطع جميع الثمرة.. قطع جميعها؛ لأن في ذلك حظًا لرب المال يحفظ أصل نخله، وللمساكين في مستقبل الأحوال.
ولا يقطع إلا بمحضر الساعي؛ لأنه نائبٌ عن المساكين، فإذا حضر الساعي قبل القطع، فإن قلنا: إن القسمة فرز الحقين.. فإن الخارص يخرص ما في كل نخله من الرطب، ويفرد حق المساكين في نخلاتٍ بعينها، ويسلمها رب المال إلى الساعي، فإن رأى الساعي الحظ في بيعها وقسمة ثمنها.. فعل، وإن رأى الحظ في قسمتها رطبًا.. قطعها، وقسمها عليهم.
وإن قلنا: إن القسمة بيعٌ.. لم يجز قسمتها على رؤوس النخل، فيسلم رب المال عشر الثمرة مشاعًا إلى الساعي.
فإن رأى الساعي بيعها وتفرقة ثمنها.. باع عشرها مشاعًا، وفرق الثمن.
وإن رأى قسمتها.. سلمها الساعي مشاعًا إلى المساكين.
وإن قطعا الثمرة من النخل.. فهل تصح المقاسمة بالثمرة على هذا القول؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول الشيخ أبي إسحاق، وابن أبي هريرة، ولم يذكر في " التعليق " و " المجموع " غيره ـ: أن ذلك يصح بالكيل أو الوزن؛ لأن ذلك استيفاءٌ للزكاة لا معاوضةٌ، ألا ترى أن رب المال لو سلم أكثر مما وجب عليه.. صح.
والوجه الثاني ـ وهو اختيار القاضي أبي الطيب، والشيخ أبي إسحاق، وابن الصباغ ـ: أنه لا يصح، كما لا يجوز على رؤوس النخل، على هذا القول، فإن قطع رب المال الثمرة ـ عند خوف العطش ـ من غير إذن الإمام أو الساعي.. فقد أساء، ويعزر إن كان عالمًا.
وما الذي يؤخذ منه؟ روى المزني عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المختصر " [1، \ 228] : (أنه يؤخذ من ثمن عشرها، أو عشرها مقطوعة) . وظاهر هذا: أنه مخير.

(3/242)


وقال في " الأم " [2/28] : (يأخذ عشرها مقطوعة إن كانت باقية، أو ثمن عشرها إن كان قد استهلكها) . وأراد بالثمن: القيمة.
ولما نقله المزني تأويلان:
أحدهما: أنه أراد ما فسره في " الأم ".
والثاني: أنه أراد: أنه يفعل ما رأى فيه الحظ من أخذ عشرها أو ثمن عشرها.

[مسألة: الخرص بعد بدو الصلاح]
وإذا بدا الصلاح في ثمرة النخل والكرم، فإن الإمام يبعث من يخرصها، ويستفاد بالخرص جواز التضمين على رب المال.
وهل الخرص واجبٌ، أو مستحبٌ؟ قال الصيمري: فيه وجهان:
أحدهما: أنه واجب.
والثاني: أنه مستحب، وهو المشهور.
وقيل: مستحبٌ فيما يدلى، ويجب فيما لم يدل، كنخل الحجاز.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز الخرص، ولا يستفاد به جواز التضمين، وإنما يستفاد بالخرص؛ لئلا يتلفها رب المال أو ينقصها) .
دليلنا: ما روى عتاب بن أسيد: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمر في الكرم أن تخرص كما تخرص النخل» . وروي عن أبي بكر، وعمر: (أنهما أمرا بالخرص) .
واختلف أصحابنا في عدد من يخرص.
فمنهم من قال: فيه قولان.

(3/243)


أحدهما: لا يجوز أقل من خارصين؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث عبد الله بن رواحة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومعه غيره للخرص على أهل خيبر» ، ولأنهما كالمقومين.
والثاني: يجوز أن يكون واحدًا، وهو الصحيح؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث عبد الله بن رواحة إلى أهل خيبر خارصًا، وكان يخير اليهود، فيقول: إن شئتم.. فلكم، وإن شئتم.. فعلي» ، ولأنه بمنزلة الحاكم.
وحكى الصيمري قولًا ثالثًا ليس بمشهورٍ: إن كان الخرص على صبيٍّ، أو مجنونٍ، أو غائبٍ، فلا بد من اثنين، وإن كان على غيرهم.. جاز خارصٌ واحدٌ.
وقال أبو العباس، وأبو سعيد الاصطخري: يجوز خارصٌ واحدٌ، قولًا واحدًا؛ لما ذكرناه.
وهل يجوز أن يكون الخارص امرأةً؟ فيه وجهان، حكاهما الشاشي.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وكيفية الخرص: أن يأتي الخارص النخلة، فيطوف بها، ويرى ما فيها من الأعذاق، ويحزر ما عليها من الرطب، وما يجيء من ذلك من الثمر، ثم يجمل جميع ذلك.
وقال أبو العباس: وقد يجوز أن يعرف ما في كل نخلةٍ من الرطب، ثم يجمل

(3/244)


رطب جميع النخل، ثم يعرف ما يجيء من ذلك من التمر.
قال أصحابنا: ويصح ما قال أبو العباس، إذا كانت نوعًا واحدًا، إما برنيًا، وإما معقليًا، أو غيرهما، فأما إذا كانت النخل أنواعًا: فلا يصح؛ لأن من الرطب ما يكون كثير الماء قليل اللحم والشحم، فإذا جف.. كان تمره قليلًا، كالسكر والهلياث، ومنها ما يكون قليل الماء كثير اللحم والشحم، فإذا جف.. كان ثمره أكثر، كالبرني والمعقلي.. فلم يصح إلا بأن يحزر رطب كل نخلةٍ وما يجيء منه تمرٌ، فإذا خرصت الثمارُ، وعرف الساعي مبلغ حق المساكين منها.. فإن الثمرة تقر في يد رب المال؛ لأنه أمينٌ عليها، ولأن مؤنة تجفيفها عليه، فأقرت في يده.
فإن ضمن رب المال حق المساكين.. جاز؛ لحديث عبد الله بن رواحة: «أنه كان يضمن أهل خيبر» ويستفيد بهذا الضمان جواز التصرف فيها: بالأكل، والبيع والهبة، وغير ذلك.
قال الشيخُ أبو حامدٍ: ولكن لا يلزم عليه الضمان إلا بعد التصرف؛ لأن ما لا يضمن بالغصب والتسليم.. لم يضمن بالشرط، وإنما يضمن بالإتلاف كالوديعة. فإذا أتلفها أو باعها.. لزمه حق المساكين تمرًا مما خرص عليه، فيستفاد بالخرص التضمين، وبالتضمين التصرف، وبالتصرف لزوم الضمان.
فإن لم يخير رب المال أن يضمن.. لم يجبر على ذلك، وتقر الثمرة في يده، ولا يجوز له التصرف في الثمرة بشيء من وجوه التصرفات؛ لأن المال إما أن يكون مرهونًا بالزكاة، والتصرف بالرهن لا يجوز بغير إذن المرتهن، أو يستحق الفقراء جزءًا من المال، فيصير كالمال المشترك، ولا يجوز لأحد الشريكين التصرف بشيءٍ منه.

(3/245)


فإذا جفت الثمرة.. أخذ الساعي حق المساكين بالغًا ما بلغ، وكان الباقي لرب المال، وإن تصرف رب المال هاهنا بشيء من الثمرة بأكلٍ أو بيعٍ.. لزمه زكاة ما أتلفه تمرًا بالخرص، فتكون فائدة الخرص في هذه الحالة لزوم الزكاة فيما يتلفه رب المال.
ولو لم تكن خرصت الثمرة، فأتلفها رب المال، أو بعضها.. لزمه زكاة ما أتلفه، وعزر إن كان عالمًا، وإن كان جاهلًا.. لم يعزر، والقول قوله في قدر ما أتلفه.
وما الذي يلزمه دفعه؟
قال الشافعي: (عليه عشرها رطبًا) . واختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم من قال: يلزمه قيمة عشرها رطبًا؛ لأن الرطب لا مثل له.
ومنهم من قال: يضمن عشرها رطبًا، كما لو كان له أربعون شاةً، فأتلفها بعد وجوب الزكاة.. لزمه شاةٌ.
وتأول كلام الشافعي: إذا أفرد نصيب المساكين، واستقر ملكهم عليه. هكذا ذكره ابن الصباغ. وقال الشيخ أبو حامد، والمحاملي في " المجموع ": يلزمه ـ في هذه المسألة ـ زكاة ما أتلفه تمرًا، هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وذكر صاحب " الإبانة " [ق\140] : لو أتلف رب المال الثمرة بعد الخرص.. فماذا يجب عليه؟ فيه قولان، بناءً على أن الخرص: عبرةٌ، أو تضمينٌ:
فإن قلنا: إنه تضمينٌ.. وجب عليه عشر ما خرص تمرًا؛ لأن الزكاة قد لزمت في ذمته.
وإن قلنا.. عبرةٌ.. فعليه قيمة عشر الثمرة يوم أتلفها.
فإذا كانت الثمرة رطبًا لا يجيء منه تمرٌ، فأتلفها بعد الخرص.. وجب عليه قيمة عشره رطبًا، على القولين؛ لأنه ليس لهذه الثمرة حالة جفافٍ.

(3/246)


وإن أتلفها رب المال بعد بدو الصلاح، وقبل الخرص، فإن قلنا: الخرص عبرةٌ.. وجب عليه قيمة عشرها يوم أتلفها. وإن قلنا: إنه تضمينٌ.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه قيمة عشرها رطبًا يوم التلف؛ لأن الخرص إنما يكون له حكمٌ إذا وجد، فأما قبله.. فلا حكم له.
والثاني: يجب عليه عشره تمرًا؛ لأنه قد أمكنه تركها إلى أن تصير تمرًا.
قال صاحب " الإبانة " [ق\140] : وهل له أكل جميع الثمرة بعد الخرص؟ وأراد قبل أن يضمن:
إن قلنا: الخرص تضمينٌ.. فله ذلك، والعشر في ذمته.
وإن قلنا: إنه عبرةٌ.. فليس له أكل القدر الذي هو حق المساكين.
إذا ثبت ما ذكرناه: فقد روى سهل بن أبي حثمة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا خرصتم.. فاتركوا لهم الثلث، فإن لم تتركوا لهم الثلث.. فاتركوا لهم الربع» .
ولهذا تأويلان:
أحدهما ـ وهو تأويل الشافعي ـ: (أنه أراد: إذا خرصت الثمرة، وأقرت أمانةً في يد رب المال، أو ضمنها، ثم جاء الساعي ليأخذ الزكاة.. فيستحب له أن يترك له ثلث

(3/247)


الزكاة، أو ربعها في يد رب المال؛ ليفرقها على جيرانه؛ لأنهم يتوقعون ذلك منه) .
والتأويل الثاني: أن الثمرة إذا خرصت ولم يختر رب المال أن يضمن حق المساكين، وأمسكها أمانة في يده.. فقد قلنا: لا يجوز له أن يتصرف في شيء منها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتركوا لهم الثلث أو الربع» . ليتصرفوا فيه بالأكل والبيع وغيرهما، فإذا جاء وقت أخذ الزكاة.. أخذ منه زكاة ما تصرف فيه بالخرص.

[فرع: ادعاء تلف الثمرة بعد الخرص]
فإذا ادعى رب المال تلف جميع الثمرة بعد الخرص، فإن ادعى تلفها بأمرٍ ظاهر، كالبرد، والجراد، أو عطش عظيم.. لم يقبل قوله، حتى يقيم البينة على وجود ذلك؛ لأن ذلك مما يمكن إقامة البينة عليه.
فإن اتهمه الساعي أنها لم تتلف بذلك، ولم تشهد البينة أنها تلفت بذلك.. حلف رب المال.
وإن ادعى رب المال أنها تلفت بأمرٍ خفي، مثل: أن قال: سرقت.. لم يطالب بإقامة البينة على ذلك؛ لأن البينة قد تتعذر هاهنا، بل يحلف رب المال.
وهل اليمين في الموضوعين واجبةٌ، أو مستحبة؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها واجبةٌ، فإن لم يحلف.. أخذت منه الزكاة، لا بالنكول، ولكن بالوجوب المتقدم.
والثاني: أنها مستحبةٌ، فإن لم يحلف.. فلا شيء عليه.
وإن ادعى رب المال أنه تلف بعض الثمرة.. فالحكم في التالف كالحكم فيه إذا ادعى تلف الجميع، فإذا حلف.. لم تجب عليه زكاة التالف، وأما الباقي: فإن كان نصابًا أو أكثر.. أخرج زكاته، وإن كان أقل من نصابٍ، فإن قلنا: إن إمكان الأداء من شرائط الوجوب.. فلا زكاة عليه فيه. وإن قلنا: إن إمكان الأداء من شرائط الضمان.. أخرج زكاة الباقي.
وإن قال: أكلت بعضًا، وتلف بعضٌ، وبقي بعضٌ.. فالحكم في التالف على

(3/248)


ما مضى، ويضم ما بقي إلى ما أكل، فإن بلغ نصابًا، زكى الجميع، وإن لم يبلغ نصابًا.. فعلى القولين في إمكان الآداء.

[فرع: الثمرة تخرص وتقر بيد صاحب المال]
وإن خرصت الثمرة، وأقرت في يد رب المال: إما أمانة أو ضمانًا، وادعى أنه أحصى مكيلتها، وأن الخارص أخطأ في خرصه، فإن ادعى أنه أخطأ في خرصه فيما يجوز لمثله الخطأ، بأن قال: خرص علي عشرة أوسقٍ، فنقص وسقٌ، أو وسقٌ ونصفٌ، وما أشبه ذلك.. فالقول قول رب المال مع يمينه؛ لأن الخرص حزرٌ وتخمينٌ، ويجوز الخطأ في مثل ذلك، فإن حلف.. سقطت عنه زكاة ذلك، وإن نكل.. فعلى الوجهين.
فإن ادعى أن الخارص أخطأ في النصف أو الثلث.. لم يقبل؛ لأنه لا يخطئ مثل ذلك في العادة.
قال الشيخ أبو حامدٍ: ويقال له: إن شئت أن تدعي دعوى ـ تقبل منك.. فافعل.
وإن ادعى غلطًا يسيرًا، يجري بين الكيلين.. فهل يحط عنه؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\141] :
أحدهما: يحط عنه؛ لأن ما ادعاه محتملٌ.
والثاني: لا يحط؛ لأنه ذلك يجري بين الكيلين، ولعله لو كاله مرة أخرى، لوفى.
قال أبو العباس: فأما إذا قال: وجدت الثمرة خمسة أوسقٍ.. قبل قوله مع يمينه؛ لأنه لم يكذب الخارص، ويجوز أن تكون الثمرة قد سرقت، فقبل.

(3/249)


[فرع: ادعاء سرقة الثمار]
قال الشافعي: (فإن قال: سرق بعد ما صيرته إلى الجرين، فإن كان بعد ما يبس، وأمكنه أن يؤدي الزكاة إلى الوالي أو إلى أهل السهمان.. فقد ضمن ما أمكنه، ففرط، وإن لم يمكنه.. فلا ضمان عليه؛ لأنه لم يفرط) .

[مسألة: يؤخذ الأوسط من الثمار]
قال الشافعي: (ويترك لصاحب الحائط أجود الثمار من الكبيس، والبردي، ولا يؤخذ الجعرور، ولا مصران الفأرة، ولا عذقٌ من حبيق، ويؤخذ وسطٌ من الثمر، إلا أن تكون الثمرة كلها برديًا، فيؤخذ منه) .
وجملة ذلك: أنه إذا كان له نخيلٌ، فإذا كان نوعًا واحدًا.. فإنه تؤخذ منه الزكاة، وإن كان أنواعًا، فإن كان أربعة أنواع، أو خمسةً.. أخذ من كل نوع بقسطه؛ لأنه لا يشق. أو كان أنواعًا كثيرة.. ففيه ثلاثة أوجهٍ، حكاها في " الإفصاح ":
أحدها ـ وهو المشهور ـ: أنه لا يؤخذ من الجيد، وهو الكبيس والبردي، ولا من الرديء، وهو مصران الفأرة وعذقٌ من حبيقٍ، ولكن يؤخذ من الجعرور وهو أوسطها؛ لأن الأخذ من كل نوع يشق، فعدل إلى الوسط.
والثاني: يؤخذ من كل نوع بقسطه؛ لأنه أعدل.
والثالث: يؤخذ من الغالب منها؛ لأنه يشق الأخذ من كل نوعٍ، فأخذ من

(3/250)


الغالب، وهو الأكثر، ولا يؤخذ إلا التمر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الكرم: «تؤخذ زكاته زبيبًا، كما تؤخذ زكاة النخل تمرًا» .
فإن أخذ الساعي الرطب.. وجب رده إن كان باقيًا، وإن كان تالفًا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب رد قيمته؛ لأنه لا مثل له.
والثاني: يجب رد مثله، وليس بشيء.
وإن كانت النخل لا يأتي منها تمرٌ، أو كرمٌ لا يأتي منه زبيبٌ.. أخذ زكاته رطبًا وعنبًا، والكلام فيه كالنخل إذا خاف عليها العطش، وقد مضى ذكره.

[مسألة: مات مدين والثمرة لم يبدو صلاحها]
إذا مات رجلٌ، وخلف نخلًا، وعليها ثمرةٌ لم يبد صلاحها، وعليه دينٌ يستغرق التركة، فبدا صلاحها قبل بيعها في الدين.. فإن الزكاة تجب فيها على الورثة؛ لأن الدين لا يمنع انتقال الملك إليهم، على مذهب الشافعي، فإن كان لهم مالٌ غير ذلك.. أخرجوا الزكاة منه؛ لأن الوجوب حصل في ملكهم.
وإن لم يكن لهم مالٌ غير الثمرة، فإن قلنا: الزكاة تجب في الذمة، والعين مرتهنةٌ بها.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ ولم يذكر القاضي أبو الطيب، والشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره ـ: أن الدين أولى؛ لأنهما قد استويا، والدين أسبق، فقدم.
والثاني ـ ذكره ابن الصباغ ـ: أنهما سواءٌ، فإذا استوى حق الله وحق الآدميِّ.. فأيهما أولى بالتقديم؟ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: حق الله تعالى أولى؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فدين الله أحق أن يقضى» .

(3/251)


والثاني: حق الآدميِّ أولى؛ لأنه مبنيٌّ على الشح.
والثالث: يقسط المال عليهما.
وإن قلنا: إن الزكاة تتعلق بالعين.. وجب تقديم الزكاة، ثم يصرف ما بقي من التركة في الدين، ويجب على الورثة أن يغرموا قدر الزكاة للغرماء إذا أيسروا؛ لأنها وجبت عليهم. هذا إذا قلنا: إن الدين لا يمنع وجوب الزكاة.
فأما إذا قلنا: إن الدين يمنع وجوب الزكاة.. ففيه وجهان:
أحدهما: تجب الزكاة ـ هاهنا ـ على الورثة؛ لأن الدين لا يجب على الورثة، وإنما يجب على الميت، والزكاة تجب على الورثة دون الميت.
والثاني: لا يجب، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لأن ضعف ملك الورثة على الثمرة موجودٌ ـ هاهنا ـ وإن كان الدين على الميت؛ لأنهم يجبرون على بيعها لحق الغرماء.
وإن مات رجلٌ وخلف نخلًا لا ثمرة عليها، وعليه دينٌ يستغرق قيمتها، ثم أثمرت في يد الورثة، وبدا صلاحها.. فإن الثمرة للورثة، وتجب عليهم الزكاة، ولا يتعلق الدين بها على المذهب، وقال الإصطخري: الدين يمنع انتقال الملك إلى الورثة.
فعلى هذا: تحدث الثمرة هاهنا على ملك الميت، ويتعلق بها حق الغرماء. وهذا ليس بشيء.

[مسألة: ورثوا نخلًا جاز بيعها]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن ورثوا نخلًا، فاقتسموا بعدما حل بيع ثمرتها، وكان في جيمعها خمسة أوسقٍ.. فعليهم الصدقة؛ لأن أول وقت وجوبها كان وهم

(3/252)


شركاء، ولو اقتسموها قبل أن يحل بيعها.. فلا زكاة على أحدٍ منهم، حتى تبلغ حصته خمسة أوسقٍ) .
وجملة ذلك: أنه إذا مات رجلٌ ولا دين عليه، وخلف ابنين، وخلف نخلتين مثمرتين، أو غير مثمرتين، ثم أثمرتا، فإن الثمرة مشتركة بينهما. فإن قلنا: الخلطة لا تصح فيما عدا المواشي، فكل واحدٍ مخاطبٌ بزكاته على الانفراد، إن بلغ نصيبه نصابًا.. زكاه، وإن لم يبلغ.. فلا زكاة عليه، سواءٌ اقتسما أو لم يقتسما.
وإن قلنا: تصح الخلطة فيما عدا المواشي، فإن اقتسماها قبل بدو الصلاح.. صحت القسمة، واعتبر نصيب كل واحدٍ بانفراده، فإن بلغ نصابًا.. زكاه، وإلا فلا.
وإن اقتسما بعد بدو الصلاح.. فهل تصح القسمة؟
إن قلنا: الزكاة استحقاق جزء من العين.. لم تصح؛ لأن المساكين شركاء في المال، فلا تصح القسمة دونهم.
وإن قلنا: الزكاة تتعلق بالذمة، والعين مرهونةٌ بها.. صحت القسمةُ؛ لأن الرهن لا يمنع القسمة.
فعلى هذا: إذا جاء الساعي، ووجد المال في أيديهما.. أخذ من كل واحدٍ زكاة نصيبه.
وإن وجد المال في يد أحدهما دون الآخر.. أخذ جميع الزكاة مما في يده؛ لأن الزكاة تعلقت بالمال، ثم يرجع المأخوذ منه على صاحبه بزكاة نصيبه.
إذا ثبت هذا: فاعترض المزني على الشافعي، وقال: كيف تصح هذه القسمة عند الشافعي، والقسمة بيع عنده، سواءٌ كان قبل بدو الصلاح أو بعده، ولذلك لا يجوز بيع الرطب والجذع بالرطب والجذع؟
فالجواب: أن للشافعي في القسمة قولين:

(3/253)


أحدهما: (أنها إفراز حق) . فيجوز أن يكون أجاب بهذا على هذا القول.
والثاني: (أن القسمة بيعٌ) . فيصح القسمة فيها.
فعلى هذا: إذا تعاوضا بالدراهم، بأن يشتري أحدهما من صاحبه حصته من الثمرة والجذع بدارهم، ويبيعه كذلك في النخلة الأخرى وثمرتها بمثل تلك الدراهم، ويتقاصا، أو يقول أحدهما لصاحبه: ابتعت منك حصتك من ثمرة هذه النخلة، بحصتي من جذع النخلة الأخرى، وبعتك حصتي من ثمرة تلك النخلة، بحصتك من جذع هذه النخلة، أو يقول أحدهما: ابتعت منك حصتك من ثمرة هذه النخلة بحصتي من جذعها، فتحصل الثمرة لواحدٍ، والجذع لآخر، ثم يبتاع مبتاع الثمرة حصة صاحبه في جذع الأخرى بحصته من ثمرتها، فيصير لكل واحدٍ ثمرةٌ على جذع الآخر، أو تكون إحدى النخلتين لا ثمرة عليها، وقيمتها سواءٌ، فيقول أحدهما: ابتعت منك حصتك من ثمرة هذه النخلة وجذعها، بحصتي من جذع الأخرى.. فيصح.
وبالله التوفيق.

(3/254)