البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب زكاة مال التجارة]
قطع الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجديد: (أن الزكاة واجبة في أموال التجارة) . وبه قال عمر، وابن عمر، وجابرٌ، وعائشة، وبه قال الفقهاء السبعة، والثوري، وأبو حنيفة.
واختلف قول الشافعي في القديم، فقال فيه: (اختلف الناس في وجوب الزكاة في مال التجارة، فقال بعضهم: لا زكاة فيها، وهو قول ابن عباسٍ، وهو القياس - وبه قال داود - وقال بعضهم: تجب الزكاة فيها بكل حالٍ، وهذا أحب إلينا.. وذهبت طائفة إلى: أنه لا زكاة فيها حتى تنض وتصير دراهم أو دنانير، فإذا نضت أخذ منها زكاة عامٍ واحدٍ، وإليه ذهب عطاءٌ، وربيعة، ومالكٌ) .
دليلنا: ما روى أبو ذرٍّ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في الإبل صدقتها، وفي البقر صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البز صدقته» . قاله بالزاي المنقوطة، والبز: لا تجب فيه الصدقة إلا إذا كان للتجارة.

(3/306)


وروي عن سمرة بن جندب: أنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع» . وهذا نصٌّ؛ لأن الذي نعده للبيع هو عروض التجارة.
ولأن الأثمان لما كانت على ضربين:
منها: ما لا تجب فيه الزكاة، وهو الحلي المعدة لاستعمالٍ مباحٍ.
ومنها: ما تجب فيه لزكاة، وهو ما عدا ذلك.
والماشية على ضربين:
منها: ما لا تجب فيه الزكاة، وهي المعلوفة.
ومنه: ما تجب فيه الزكاة، وهي السائمة.

(3/307)


وجب - أيضًا - أن تكون العروض على ضربين:
منهما: ما لا تجب فيه الزكاة، وهو ما لا يكون للتجارة.
ومنها: ما تجب فيه الزكاة، وهو ما أعد للتجارة.
ووجه المشابهة بينهما: أنه مالٌ: يطلب فيه النماء، فوجبت فيه الزكاة، كالأثمان والسائمة.

[مسألة: المعاوضة شرط للتجارة]
] : ولا يصير العرض للتجارة، إلا بأن يملكه بعقد معاوضة، كالبيع والإجارة، وينوي بالعقد أنه للتجارة، فإن ورثه أو اتهبه، ونوى أنه للتجارة، أو اشتراه ولم ينو به التجارة.. لم يصر للتجارة، وبه قال مالكٌ، وأبو حنيفة.
وقال أحمد، وإسحاق: (تصير للتجارة) . وتابعهما الحسين الكرابيسي من أصحابنا.
دليلنا: أن كل ما لم تجب الزكاة فيه من أصله.. لم يصر للزكاة بمجرد النية، كالمعلوفة إذا نوى إسامتها، وفيه احترازٌ من الأثمان.
فإن قيل: أليس لو اشترى شاة بنية أنها أضحية.. لم تصر أضحية حتى ينوي بها بعد الشراء؟
قلنا: الفرق بينهما: أن الشراء يوجب الملك، وكونها أضحية توجب زوال الملك، وهما أمران متنافيان، فجرى مجرى من اشترى عبدًا بنية إعتاقه، فإن العتق لا يصح، وليس كذلك إذا اشترى عرضًا ونوى به التجار؛ لأن نية التجارة لا توجب زوال الملك، فلذلك جاز اجتماعهما.
فإن نوى بعرض التجارة القنية.. انقطع حول التجارة فيه؛ لأن نية القيمة اقترنت بفعل القنية، وهي الإمساك، فهو كالمسافر إذا نوى الإقامة.

(3/308)


[فرع: نية التجارة بالصداق]
] : إذا تزوجت امرأة بمالٍ، ونوت عند العقد أنه للتجارة، أو خالع الرجل امرأته بمالٍ، ونوى عند العقد أنه للتجارة.. ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 144] :
أحدهما: أنه يصير للتجارة، وهو طريقة البغداديين من أصحابنا؛ لأنه ملكه بعقد معاوضة، فهو كالمملوك بالبيع.
والثاني: لا يصير للتجارة؛ لأن النكاح والخلع ليس المقصود منهما العوض، بدليل: أنه يصح من غير عوضٍ.

[فرع: نية التجارة لا يبطلها الفسخ]
] : لو باع عرضًا لا بنية التجارة، ثم فسخ البيع، ونوى بالفسخ التجارة.. لم يصر للتجارة؛ لأن ذلك ليس بتجارة، بل هو منعٌ منها.
ولو باع عرضًا بنية التجارة.. صار ما قبضه للتجارة، فلو وجد به عيبًا، ففسخ البيع بنية التجارة.. قال في " الإبانة " [ق \ 144] : لم تبطل التجارة؛ لأن العقد الذي انعقد للتجارة لم يبطل من أصله.

[مسألة: شراء ما تجب الزكاة بعينه]
] : إذا اشترى للتجارة ما تجب الزكاة في عينه، كالسائمة من الماشية أو كالنخل والكرم، أو اشترى أرضًا للتجارة، فزرعها، أو كان بها زرعٌ.. نظرت:
فإن وجد نصاب إحدى الزكاتين دون الأخرى، كخمسٍ من الإبل لا تساوي مائتي درهمٍ، أو أربع من الإبل تساوي مائتي درهمٍ.. وجبت فيه زكاة ما وجد نصابه؛ لأنه ليس - هاهنا - زكاة تعارضها.

(3/309)


وإن وجد نصابهما.. فلا خلاف أن الزكاتين لا تجبان معًا، وأيهما يجب؟ ينظر فيه:
فإن اتفق حولاهما بأن اشترى خمسًا من الإبل للتجارة بعرض للقنية وأسامها، وقومت عند الحول، فبلغت قيمتها نصابًا.. ففيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (تجب زكاة التجارة) . وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، إلا أن أبا حنيفة يقول في التجارة والزرع كقولنا الجديد.
ووجه هذا: حديث سمرة بن جندب حيث قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع» . وهذا معدٌ للبيع، ولأن زكاة التجارة أعم؛ لأنها تجب في الثمرة، والجذع، وفي الأرض، والزرع، ولأنها تزاد بزيادة القيمة، فكان إيجابها آكد للمساكين.
و [الثاني] : قال في الجديد: (تجب زكاة العين) . وبه قال مالكٌ، وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في خمس من الإبل شاة، وفي أربعين شاة شاة، وفيما سقت السماءُ العشر» . ولم يفرق بين أن يكون للتجارة أو للقنية.
ولأن زكاة العين مجمعٌ عليها، بدليل: أن من قال: لا تجب زكاة العين.. يحكم بكفره، وزكاة التجارة مختلفٌ في وجوبها؛ ولهذا لا يكفر من قال: لا تجب.
وإن سبق حول إحدى الزكاتين، مثل: أن يكون عنده مائتا درهمٍ أقامت في يده أحد عشر شهرًا، فاشترى بها خمسًا من الإبل، فأسامها.. فإنه إذا مضى شهرٌ.. أتم حول زكاة التجارة.
وإن أقامت في يده ستة أشهرٍ، ثم اشترى بها أرضًا فيها نخلٌ للتجارة، فأقامت شهرًا، وبدا فيها الصلاح، وقد سبق حول زكاة العين.. فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول القاضي أبي حامدٍ -: أنها على قولين، كالأولى؛ لأن

(3/310)


الشافعي لم يفصل، ولأن الشافعي فرض الكلام في الثمرة، ويبعد أن يوافق آخر جزءٍ من حول التجارة أول بدو الصلاح، وبهذا قال أحمد.
والوجه الثاني - وهو قول أبي إسحاق المروزي، واختيار القاضي أبي الطيب -: أن التي سبق حولها تقدم، قولًا واحدًا، كما إذا وجد نصاب إحدى الزكاتين، فإنها أولى.
إذا ثبتَ هذا: فإنْ قلنا: تُقدَّمُ زكاة التجارة.. قوِّمت الأرض والزرع والجذوع والثمرة، وأخرج ربع العشر.
وإن قلنا: تقدم زكاة العين.. أخرج عن خمسٍ من الإبل شاة، وعن أربعين شاة شاة، وأخرج عشر الثمرة أو الزَّرْعِ، وهل تقوم الأرض أو الجذوع؟ فيه قولان حكاهما في " المهذب " و " الشامل "، وحكاهما صاحب " التعليق " و " المجموع " وجهين:
أحدهما: تقوم الأرض والجذوع، فإن بلغت القيمة نصابًا.. أخرج عنها زكاة التجارة، وإن لم تبلغ القيمة نصابًا.. لم يخرج شيئًا؛ لأن المخرج زكاة الثمرة، فبقيت الأرض والجذوع، ولا يتأتى فيها إيجاب زكاة العين، فوجبت فيهما زكاة التجارة.
والثاني: لا يقومان، ولا يجب فيها شيءٌ؛ لأنا إذا أوجبنا الزكاة في الثمار.. صارت الأرض والنخل، تبعًا لها، كما إذا ملك تسعًا من الإبل، فأخرج عنها شاة، فإن الأربعة تابعة للخمس.

[مسألة: اتجر بأربعين شاة]
فرعٌ: [اتجر بأربعين شاة] :
فإن اشترى أربعين شاة للتجارة، وأسامها، فإن قلنا: تجب زكاة التجارة، فأخرج عنها الزكاة في الحول الأول، فإذا جاء الحول الثاني قومها، فإن بلغت قيمتها نصابًا.. أخرج عنها الزكاة، وإن نقصت عن الأربعين، ولم تبلغ قيمتها نصابًا.. سقطت زكاة التجارة عنها.

(3/311)


وإن قلنا: تجب زكاة العين.. أخرج عنها في الحول الأول شاة، فإذا حال الحول الثاني.. لم يجب فيها زكاة العين؛ لأنها ناقصة عن الأربعين، وهل تجب فيها زكاة التجارة؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: لا تجب لأنا قد حكمنا بأن زكاة التجارة لا تجب فيها، وإنما تجب فيها زكاة العين، وقد نقص نصابها، فسقطت.
والثاني: تجب فيها زكاة التجارة، وهو الصحيح؛ لأنه مالٌ للتجارة، وإنما أسقطنا زكاة التجارة إذا كان هناك ما هو أقوى منها، فإذا سقط الأقوى.. رجع إلى زكاة التجارة، وينبغي على قياس ما قاله الشيخ أبو حامد: إذا أوجبنا فيها زكاة التجارة، فأخرج عنها في الحول الأول، ثم قومناها في الحول الثاني، ولم تبلغ قيمتها نصابًا، ولم تنقص عن الأربعين.. هل يجب فيها زكاة العين على هذين الوجهين؟ الصحيح: أنها تجب.
قال الشافعي: (ولو كان مكان النخل غرسٌ لا زكاة فيها.. زكاها زكاة التجارة) .
وهذا صحيح كما قال، إذا ملك الرجل غرسًا لا يحمل، كودي النخل أو شجرة مثمرة لا تجب الزكاة في ثمرتها، مثل: التفاح والتين، وإن كان ذلك للتجارة.. زكاه زكاة التجارة، قولًا واحدًا؛ لأنه لم يوجد - هاهنا - زكاة تعارضها.

[فرع: شراء الحلي المباح للتجارة]
] : فإن اشترت المرأة حليًا مباحًا للتجارة.. فإن الزكاة تجب فيه، سواءٌ كانت تلبسه أو لا تلبسه، لأن الرجل إذا كان له مالٌ لا تجب فيه الزكاة، وجعله للتجارة.. وجبت فيه الزكاة، فإذا جعل ما تجب فيه الزكاة للتجارة.. أولى أن تجب.
فعلى هذا: إن قلنا: إن الحلي المباح لا تجب فيه زكاة العين.. فهاهنا تجب زكاة التجارة، قولًا واحدًا إذا بلغت قيمته نصابًا.

(3/312)


وإن قلنا: الحلي المباح تجب فيه زكاة العين.. فقد ترادف هاهنا زكاتان، وأيهما تجب؟ فيه قولان، كما مضى.

[مسألة: شراء عرض التجارة]
] : إذا اشترى عرضًا للتجارة.. لم يخل: إما أن يشتريه بنقدٍ، أو بعرضٍ آخر:
فإن اشتراه بنقدٍ.. نظرت:
فإن اشتراه بنصابٍ من الأثمان.. فإنه يبني حول العرض على حول الثمن؛ لأن العرض فرعٌ لأصل تجب فيه الزكاة، فبنى حوله على حوله.
وإن اشتراه بدون النصاب من الأثمان.. ففيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها - وهو المذهب -: أن الحول ينعقد عليه من حين الشراء، فإن بلغت قيمته في آخر الحول نصابًا.. أخرج عنه الزكاة، ولا يعتبر وجوب النصاب في أول الحول، ولا في وسطه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في مالٍ حتى يحول عليه الحول» ، وهذا العرض قد حال عليه الحول، ولأن زكاة التجارة تجب في القيمة، وتقويم العرض في كل ساعة يشق، فاعتبر ذلك آخر الحول.
والوجه الثاني - حكاه في " التعليق " و " المجموع " و " المعتمد " عن أبي العباس ابن سريج -: أنه يعتبر وجود النصاب في أول الحول، وفي آخره، ولا يعتبر في وسطه، وهو قول أبي حنيفة؛ لأنه مالٌ نقص عن النصاب، فلم يخرج في الحول، كأربع من الإبل.
والثالث - حكاه أبو إسحاق المروزي في " الشرح " -: أنه يعتبر وجود النصاب في جميع السنة، كسائر أموال الزكاة. وحكى صاحب " المهذب " وصاحب " الشامل " هذا الوجه عن أبي العباس.

(3/313)


وإن اشتراه بعرضٍ للقنية.. نظرت:
فإن كان العرض من غير أموال الزكاة.. انعقد الحول عليه من حين الشراء.
وقال مالكٌ: (لا تجب الزكاة إلا فيما اشترى بالدراهم أو الدنانير) .
دليلنا: ما روي عن سمرة بن جندبٍ: أنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع» . وهذا معدٌ للبيع.
ولأنه مالٌ اشترى بنية التجارة، فوجب أن تجب فيه الزكاة، كما لو اشتراه بالدراهم والدنانير.
وإن اشترى العرض بنصابٍ من السائمة.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال أبو سعيدٍ الإصطخري: يبنى حول العرض على حول السائمة؛ لأن الشافعي قال: (لو اشترى عرضًا للتجارة بدراهم أو دنانير، أو بشيء تجب فيه الصدقة من الماشية، وكان إفادة ما اشترى به ذلك العرض من يومه.. لم يقوم العرض حتى يحول عليه الحول من يوم أفاد ثمن العرض) .
ولأن الماشية مالٌ تجب الزكاة في عينه، فبني حول العروض على حولها، كالدراهم والدنانير.
والوجه الثاني - وهو قول أكثر أصحابنا -: أن ابتداء الحول من يوم الشراء؛ لأنهما مالان نصابهما مختلفٌ، وقدر المخرج منهما مختلفٌ، فلم يبن حول أحدهما على حول الآخر، ويفارق الأثمان، فإن نصابها ونصاب التجارة متفقٌ، وكذلك زكاتهما متفقة.
ومن قال بهذا: تأول كلام الشافعي ثلاث تأويلاتٍ:
أحدها: أن معنى قوله: (أو ما تجب الصدقة - في عينه - من الماشية) أراد: إذا اشترى ماشية، أو ملكها بأي وجهٍ كان، فاشترى بها عرضًا يوم ملكها؛ لأنه قال: (وكان إفادة ما اشترى به ذلك العرض من يومه) . فإما إذا ملك الماشية، ومضت لها مدة، ثم اشترى بها عرضًا للتجارة.. فإنه يستأنف حول العرض من يوم ملكه.

(3/314)


والتأويل الثاني: أنها مصورة إذا كان لرجلٍ ماشية سائمة للتجارة، فهل تجب فيها زكاة العين، أو زكاة التجارة؟ فيه قولان.
فإذا قلنا: تجب زكاة التجارة، ثم اشترى بها عرضًا للتجارة.. فإنه يبني حول العرض على حول الماشية.
والتأويل الثالث: أن المراد بقوله: (حتى يحول الحول من يوم أفاد ثمن العرض) الدراهم والدنانير؛ لأن الشافعي قد يجمع بين مسائل، ثم يعطف بالجواب على بعضها دون بعضً، أو يفرع على بعضها دون بعضٍ.

[مسألة: باع عرضًا بعرض آخر وكلًا للتجارة]
] : وإن كان في يده عرضٌ للتجارة، فباعه بعرض التجارة.. بنى حول الثاني على حول الأول؛ لأن الزكاة تجب في القيمة، وقيمة الأول وقيمة الثاني واحدة.
وإن كان عنده نصابٌ من الدراهم أو الدنانير، فاشترى به عرضًا للتجارة.. فإن حول العرض يبنى على حول الدراهم والدنانير، ثم لا يخلو: إما أن يبقى عرضًا إلى آخر الحول، أو يبيعه قبل الحول:
فإن بقي عرضًا إلى آخر الحول.. فإنه يقوم ويؤدي زكاته مما بلغت قيمته، لا يختلف المذهب في ذلك؛ لأنه يتعذر، ويشق التقويم في كل يومٍ، فاعتبر آخر الحول.
وإن باعه قبل الحول.. نظرت.
فإن باعه بقدر قيمته، بأن اشترى عرضًا بمائتي درهمٍ، فباعه في أثناء الحول بمائتين.. بنى حول المائتين على حول العرض، كما بنى حول العرض على حول ما اشترى به.
وإن باعه بأكثر من قيمته، بأن باعه بثلاثمائة درهمٍ.. زكى المائتين لحولها.
وأما المائة الزائدة: فقد نص الشافعي هاهنا: (أنه لا يزكي المائة إلا لحولها) ، وقال في (القراض) : (إذا دفع إلى رجلٍ ألف درهمٍ قراضًا، فاشترى بها سلعة، وباعها بألفين قبل الحول أو بعده.. ففيه قولان:

(3/315)


أحدهما: أن زكاة الألفين على رب المال.
والثاني: أن على رب المال رأس المال وحصته من الربح) .
وظاهر هذا: أن الربح يزكى لحول الأصل.
واختلف أصحابنا في ذلك على ثلاث طرق:
فـ[الأول] : قال أبو العباس: المسألة على اختلاف حالين، فالذي قال: (يزكي المائتين لحولها، والمائة لحولها) أراد: إذا كان قد اشترى سلعة بمائتين تساوي مائتين، ثم باعها قبل الحول بثلاثمائة، والذي قال في (القراض) : (أنه يزكى لحول الأصل) أراد: إذا ظهر الربح يوم الشراء بأن اشترى سلعة بألفٍ تساوي ألفين، فيكون حولهما واحدًا.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا تأويلٌ صحيحٌ؛ لأن الشافعي قال في " الأم " [2/42] : (إذا رفع إليه ألفًا قراضًا، فاشترى بها عرضًا يساوي ألفين، فباعه قبل الحول أو بعده.. ففيه قولان) .
و [الطريق الثاني] : من أصحابنا من قال: المسألة على قولٍ واحدٍ: أن الربح لا يتبع الأصل في الحول، بل يزكى لحوله، والذي قال في (القراض) ، فإنما قصد به: أن يبين أن الزكاة على رب المال دون العامل، ولم يبين أنه يزكي لحولِ الأصل أو لحول نفسه.
و [الطريق الثالث] : من أصحابنا من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى، وجعل فيهما قولين:
أحدهما: أنه يزكي الربح لحول الأصل؛ لأنه نماء مالٍ، فزكي لحول أصله، كالسخال.
والثاني: يستأنف الحول في الربح، وهو الأصح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في مالٍ حتى يحول عليه الحول» .
ولأنها فائدة ناضة لم تتولد مما عنده، فلم يبن على حوله، كما لو استفاد من غير الربح.

(3/316)


فإذا قلنا بهذا: فمن أين ابتداء حول الربح؟ فيه وجهان:
أحدهما: من حين النض، وهو ظاهر كلام الشافعي؛ لأنه صار متحققًا.
والثاني - وهو قول أبي العباس -: من حين ظهر؛ لأنه إذا ظهر، ثم نض.. تحققنا أنه كان موجودًا من حين ظهر.
والذي قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أراد: إذا نض الربح حال ما ظهر.

[فرع: تبديل السلع أثناء الحول]
فرعٌ: [في تبديل السلع أثناء الحول] : قال ابن الحداد: لو أن رجلًا ملك عشرين دينارًا، فاشترى بها سلعة للتجارة حين ملك العشرين، فباعها بعد ستة أشهر بأربعين دينارًا، ثم اشترى بها سلعة للتجارة، فحال الحول من يوم استفاد العشرين الأولى، والسلعة تساوي مائة، فباعها بمائة.. فعليه أن يزكي عن خمسين دينارًا، ثم إذا مضت ستة أشهر.. زكى عن عشرين دينارًا من الخمسين الباقية، ثم إذا حال الحول الثاني.. زكى عن الثلاثين الباقية من الخمسين.
قال القاضي أبو الطيب: وهذا فرعه على القول المشهور في الربح، إذا نض قبل الحول.. لم يضم إلى حول الأصل، بل يستأنف به الحول؛ لأن السلعة الأولى التي اشتراها بعشرين لما باعها في نصف الحول بأربعين.. فقد نض الربح، وهو عشرون قبل الحول، فاستأنف به الحول، فلما اشترى بالكل سلعة، ومضت ستة أشهرٍ أخرى، وباعها بمائة.. فقد تم حول الأصل، وهو عشرون، فقسم الربح عليهما وعلى العشرين الربح الذي نض في أثناء الحول، فيتبع العشرين التي هي أصل نصف هذا الربح الثاني، وهو ثلاثون، فزكي لحوله؛ لأنه لم ينض قبل الحول فيها.
فإذا مضت ستة أشهرٍ أخرى، تم حول العشرين التي هي ربحٌ أولًا، فيلزمه زكاتها، ولا يضم الثلاثين التي هي ربحها إليها؛ لأنها نضت قبل تمام حولها، فإذا تم الحول الثاني.. تم حول هذه الثلاثين، فيزكيها، ويزكي أيضًا عن الخمسين التي زكاها في العام الأول.

(3/317)


[فرع: باع نقدًا بنقدٍ]
ٍ] : وإن كان معه دراهم، فباعها بدراهم أو دنانير، أو كان عنده دنانير، فباعها بدنانير أو دراهم، فإن فعل ذلك لغير التجارة.. انقطع الحول فيما باع، واستأنف الحول فيما تجدد ملكه عليه، وقد مضى الخلاف فيها مع مالكٍ وأبي حنيفة رحمة الله عليهما. وإن فعل ذلك للتجارة، كما يعمل الصيارف.. ففيه وجهان:
أحدهما: يبني حول الثاني على حول الأول؛ لأنه إذا بنى حول العرض على حول العرض في التجارة - وإن كان العرض لا تجب الزكاة في عينه - فلأن يبنى ذلك في الدراهم والدنانير في التجارة - والزكاة تجب بعينها - أولى.
والثاني: يستأنف الحول فيما تجدد ملكه عليه، وهو ظاهر كلام الشافعي؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في مالٍ، حتى يحول عليه الحول» .
ولأنه مالٌ تجب الزكاة في عينه، فإذا بادل به بجنسه.. استأنف الحول به، كما لو فعله لغير التجارة.

[فرع: التجارة بعرض ستة أشهر]
] : ذكر ابن الصباغ: إذا كان معه مائة درهمٍ، فاشترى بها عرضًا للتجارة، فلما مضت ستة أشهرٍ.. استفاد خمسين درهمًا، فلما تم حول العرض.. كانت قيمته مائة وخمسين درهمًا.. لم تجب الزكاة فيه؛ لأن الخمسين الثانية لم يتم حولها، فهي وإن ضمت إليه في النصاب، فلا تضم في الحول؛ لأنها ليست نماء المال، فإذا تم حول الخمسين.. زكى المائتين.
وإن كان معه مائة درهمٍ، فاشترى بها عرضًا للتجارة في أول المحرم، ثم استفاد مائة درهمٍ أول صفرٍ، واشترى بها عرضًا آخر، ثم استفاد مائة في أول ربيعٍ، فاشترى

(3/318)


بها عرضًا آخر، فإذا تم حول المائة الأولى، فإن كانت قيمة عرضها نصابًا.. زكاه، وإن كان أقل من نصابٍ.. لم تجب عليه زكاته، فإذا تم حول المائة الثانية.. قوم العرض الذي اشتراه بها، فإذا بلغت قيمته مع الأولى نصابًا.. زكاهما، وإن لم يبلغا نصابًا.. ضمهما إلى العرض الثالث عند تمام حوله، فإن كان الجميع نصابًا.. زكى الكل، وإن نقص عن نصابٍ.. لم تجب فيه زكاة.

[مسألة: مرور الحول على عروض التجارة]
] : وإذا حال الحول على عرض التجارة.. وجب تقويمه لإخراج الزكاة.
فإن كان قد اشتراه بجنسٍ من الأثمان.. نظرت:
فإن اشتراه بنصابٍ من الدراهم أو الدنانير.. فمذهب الشافعي: أنه يقوم بالنقد الذي اشتراه به، سواءٌ كان غالب نقد البلد أو غير نقده.
وقال ابن الحداد: يقوم بغالب نقد البلد. حكاه الشيخ أبو حامدٍ؛ لأن الرجل لو أتلف على غيره شيئًا، فإنه يقوم عليه بنقد البد دون ما اشترى به، والصحيح هو الأول؛ لأن العرض فرعٌ لما اشتري به، فإذا أمكن تقويمه بأصله.. كان أولى من تقويمه بغيره، ويخالف المتلف؛ لأنه لا مثل له، فيقوم بنقد البلد.
وإن اشترى العرض بدراهم أو دنانير أقل من نصابٍ.. ففيه وجهان:
أحدهما: يقوم بما اشتري به، لأنه أصلٌ يمكن التقويم به، فهو كما لو كان نصابًا.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أنه يقوم بنقد البلد؛ لأنه لا يبني حوله على حوله، فهو كما لو اشتراه بعرضٍ، والأول أصح. وإن اشترى سلعة بمائتي درهمٍ وعشرين دينارًا.. قال صاحب " الإبانة " [ق \ 147] : فإنه يقوم من السلعة ما اشترى بالدراهم بالدراهم، وما اشترى بالدنانير بالدنانير، فإن بلغت قيمة كل واحدٍ منهما نصابًا.. زكاهما.

(3/319)


وكيفية ذلك: أن تقوم الدراهم بالدنانير، وتقوم الدنانير بالدراهم، فإن كان قيمة الدنانير مائة درهمٍ علمنا أن ثلث السلعة مبيعٌ بالدنانير، وثلثيها مبيعٌ بالدراهم.
فإن اشتراه بعرض للقنية.. فقد قلنا: إنه يجري في الحول من يوم الشراء، ومضى خلاف مالكٍ فيها.
فإذا حال الحول: فإنه يقوم بغالب نقد البلد؛ لأنه لا يمكن تقويمه بما اشتري به.
وإن اشتراه بحلي ذهبٍ أو فضة، أو بقطعة ذهبٍ أو فضة.. فالذي يقتضيه المذهب: أنه يقوم بنقد البلد؛ لأن لا يمكن تقويمه بما اشتري به، فأشبه العروض، فإن كان في البلد نقدٌ واحدٌ.. قوم به، وإن كان فيه نقدان أو أكثر.. قوم بالغالب منها، وإن كانت متساوية، فإن كانت قيمة العرض تبلغ بأحدهما نصابًا دون الباقي.. قوم بالذي يبلغ به نصابًا، وإن كان يبلغ بكل واحدٍ منهما نصابًا.. ففيه أربعة أوجه:
أحدها - وهو قول أبي إسحاق، وهو الصحيح -: أنه يقوم بما شاء منهما؛ لأنه لا مزية لبعضها على بعضٍ.
والثاني: يقوم بأحظها للمساكين، كما نقول: إذا بلغ بأحدهما نصابًا دون الآخر.. قوم به.
والثالث: يقوم بالدراهم؛ لأنها أكثر استعمالًا؛ لأنها تشترى بها الأشياء المحقرات.
والرابع: يقوم بغالب نقد أقرب البلاد إليه؛ لأن نقود البلد لما تساوت.. صارت كالمعدومة، فعدل إلى نقد أقرب البلاد إليه.
إذا ثبت هذا: فإذا قوم العرض، فبلغت قيمته نصابًا، فإن أخرج الزكاة عنه، ثم باع العرض من بعد ذلك بزيادة على ما قوم العرض به.. فلا شيء عليه في هذه الزيادة؛ لأنها حدثت بعد إخراج الزكاة، فيستأنف بها الحول الثاني.

(3/320)


وإن باعها بنقصانٍ.. لم يؤثر ذلك؛ لأن هذا نقصٌ حدث في المال بعد وجوب الزكاة فيه واستقرارها.
وإن قوم العرض، ولم يخرج الزكاة عنه حتى باعه، فإن باعه بما قوم به، وهو ثمن مثله، أو بنقصانٍ يتغابن الناس بمثله.. وجب إخراج الزكاة مما بيع به؛ لأن ذلك قيمته.
وإن باعه بأقل من قيمته بنقصان لا يتغابن الناس بمثله، مثل: أن باع ما يساوي أربعين بخمسة وثلاثين.. أخذت الزكاة من قيمته، وهو أربعون، دون ما بيع به؛ لأن هذا نقصٌ بتفريطٍ من رب المال.
وإن باعه بزيادة، مثل: أن باع ما قومَ بأربعين بخمسين أو بستين.. فعليه أن يخرج الزكاة عن الأربعين، وهل يجب عليه أن يخرج الزكاة عن الزيادة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تجب عليه؛ لأن هذه زيادة حدثت بعد وجوب الزكاة، فلم تجب فيها الزكاة، كالسخال الحادثة بعد الحول.
والثاني: يجب إخراج الزكاة عنها؛ لأن هذه الزيادة حدثت في نفس المال، فينبغي أن يخرج الزكاة منها، كما لو كانت له مواش مهازيل حال عليها الحول، فقبل أن يخرج الزكاة سمنت، وحسنت، فإن الزكاة تخرج منها.
وإن حال الحول على العرض، فقوم، فلم تبلغ قيمته نصابًا.. لم تجب فيه الزكاة.
فإن بلغت قيمته نصابًا قبل الحول الثاني.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال الشيخ أبو إسحاق: لا زكاة فيه، حتى يحول الحول الثاني، فيقوم حينئذٍ، فإن كانت قيمته نصابًا.. زكاه؛ لأن وقت التقويم وقت حؤول الحول، والحول حال، ولا نصاب معه، فوجب أن يستأنف الحول.
و [الثاني] : قال أبو علي بن أبي هريرة: إذا بلغت قيمته نصابًا بعد اثني عشر شهرًا.. فذلك وقت حلول حوله؛ لأن حوله حين كمل النصاب، فلا فرق: بين أن تبلغ قيمتها عند مضي اثني عشر شهرًا، أو زيادة على ذلك.

(3/321)


[فرع: باع سلعته في الحول]
] : فإن اشترى سلعة بدراهم، ثم باعها في أثناء الحول بعشرين دينارًا، فحال الحول، والعشرون في يده.. قومت العشرون بالدراهم؛ لأنها أصل لها، فإن بلغت قيمة العشرين نصابًا من الدراهم.. ففيها الزكاة، وإن لم تبلغ قيمتها نصابًا من الدراهم، فإن قلنا بقول أبي علي بن أبي هريرة: إن الحول لا يسقط.. انتظر، فمتى تمت قيمتها نصابًا من الدراهم.. أخرج عنها الزكاة.
وإن قلنا بقول أبي إسحاق: وأن الحول الأول يسقط.. فهل ينتقل وجوب الزكاة من نصاب الدراهم إلى نصاب العشرين دينارًا؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 145] :
أحدهما: لا ينتقل؛ لأن هذه العشرين صارت بمنزلة العرض، بدليل: أنه يجب تقويمها بالدراهم.
والثاني: ينتقل إلى نصاب العشرين؛ لأنها نصابٌ تجب الزكاة في عينها، فكان اعتبارها أولى من اعتبار قيمتها.
فإذا قلنا بهذا: فمن أين يحتسب حول العشرين؟ فيه وجهان:
أحدهما: من وقت التقويم؛ لأن حول الدراهم إنما يبطل عند التقويم، لنقصانه عن النصاب.
والثاني: من وقت ما نضت في يده؛ لأنها في ملكه من ذلك الوقت.

[فرع: ابتداء التجارة بنصاب]
] : ذكر في " الإبانة " [ق \ 146] : لو اشترى سلعة بنصابٍ من الدراهم للتجارة، ثم باع السلعة في أثناء الحول بعشرة دنانير.. لم يسقط حكم الحول، وهذه العشرة الدنانير بمنزلة عرض التجارة، فأما إذا باع السلعة في خلال الحول بأقل من نصابٍ من الدراهم، مثل: أن باعها بمائة درهمٍ.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يسقط حكم الحول، كما لو باعها بعشرة دنانير، وكما لو تناقصت قيمة السلعة في أثناء الحول، حتى بلغت مائة.

(3/322)


والثاني: يسقط حكم الحول، فإذا اشترى بالمائة شيئًا آخر.. انعقد حولٌ جديدٌ من وقت ذلك الشراء؛ لأن زكاة التجارة تجب في الدراهم التي هي قيمة العرض، وقد نضت ناقصة عن النصاب، فصار كما لو انعقد الحول على مائتي درهمٍ، فنقصت في أثناء الحول، ويفارق العشرة؛ لأن العشرة لا تجب زكاة التجارة فيها.
وأما نقصان القيمة: فلأنه يشق مراعاة الزيادة والنقصان بالقيمة في أثناء الحول، فلم يعتبر.

[فرع: شراء شقصٍ من عقار]
] : قال ابن الحداد: لو أن رجلًا اشترى شقصًا من عقارٍ للتجارة بعشرين دينارًا، فحال الحول، وجاء الشفيع، والشقص يساوي مائة دينارٍ.. زكى المشتري عن مائة، وأخذه الشفيع بعشرين؛ لأن الاعتبار في الزكاة بقيمته آخر الحول، وفي الأخذ بالشفعة بالثمن الذي انعقد البيع به، فتحصل الزيادة هاهنا للشفيع.
وإن اشترى الشقص بمائة دينارٍ، وحال الحول، وهو يساوي عشرين دينارًا، فجاء الشفيع.. فإن شاء أخذه بمائة دينارٍ، ويجب على المشتري أن يخرج زكاة عشرين لا غير؛ لما ذكرناه.

[مسألة: تجارة الأصباغ ونحوها]
] : قال ابن الصباغ: إذا كان يبتاع النيل؛ ليصبغ به الثياب، أو العصفر، أو ما يبقى له عينٌ في المعمول به، مثل: الشحم للجلود وما أشبه ذلك.. فإنه تجب عليه زكاة التجارة؛ لأنه يستحق عوضها بالصبغ، ويجري مجرى العين في بيعها، ولهذا

(3/323)


جعل أصحابنا المفلس إذا اشترى ثوبًا ونيلًا، ثم صبغه به.. رجعا جميعًا فيه.
وإن كان مما لا يكون له عينٌ في المعمول به، كالصابون والأشنان للغسل.. فإن هذا لا تتعلق به الزكاة؛ لأنه لا يقابله بشيء من أجرة العمل.

[مسألة: إخراج الزكاة من نقد العرض]
] : إذا قوم العرض.. فما الذي يخرج في الزكاة؟
قال الشافعي في " المختصر " [1/241] و " الأم " [2/40] : (يخرج الزكاة من الذي قوم به) ، يعني: من الدراهم والدنانير.
وقال في القديم: فيه قولان:
(أحدهما: يخرج ربع العشر من قيمته.
والثاني: يقوم، ويجعل ربع العشر في عرضٍ ينتفع به المساكين، ويخرج العرض) .
وقال في موضع آخر: (ولا يجوز أن يخرج من مال التجارة إلا الدراهم، أو الدنانير، أو عرضًا بعينه) .
واختلف أصحابنا في ذلك على ثلاث طرقٍ:
فـ[الأول] : قال أبو العباس: فيها ثلاثة أقوالٍ:
أحدها: يتحتم عليه أن يخرج من قيمته.
والثاني: يتحتم عليه أن يخرج عرضًا بقيمة قدر الزكاة.
والثالث: أنه بالخيار، وأيهما أخرج.. أجزأه.
و [الطريق الثاني] : قال أبو إسحاق: فيه قولان:
أحدهما: يتحتم عليه إخراج الزكاة من القيمة.
والثاني: أنه بالخيار بين إخراج القيمة أو العرض.
و [الطريق الثالث] : قال أبو علي بن أبي هريرة: فيه قولان:

(3/324)


أحدهما: يتحتم عليه إخراج الزكاة من القيمة.
والثاني: يتحتم عليه أن يخرج عرضًا بقيمة قدر الزكاة.
وحكى الصيمري طريقة رابعة ليست بمشهورة: أن القول القديم: يجب إخراج العين إذا كانت برًا أو شعيرًا، أو ما ينتفع به المساكين، فأما العقار والرقيق: فلا.
وأما قوله الجديد: فيخرج القيمة بكل حالٍ.
فإذا قلنا: يتحتم عليه إخراج القيمة، قال المحاملي: وهو الصحيح.. فوجهه: أنها مالٌ وجبت فيه الزكاة، فتحتم الإخراج منها، كالدراهم والدنانير.
وإذا قلنا: يتحتم عليه إخراج العرض.. فوجهه: حديث سمرة بن جندبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع» . والعرض من الذي يعد للبيع، فوجب أن نخرج الصدقة منه.
وإذا قلنا: إنه مخيرٌ.. فوجهه: أن الزكاة تتعلق بهما، فخير بينهما.
إذا ثبت هذا: فذكر ابن الصباغ: أن الذي يذهب إليه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجديد: (أن زكاة التجارة تجب بالقيمة) . وبه قال مالكٌ، وأحمد، وقال أبو حنيفة: (تجب في العين) .
قال: وهكذا يحكى عن قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم الذي يوجب فيه إخراج العين.
دليلنا للأول: أن النصاب معتبرٌ بالقيمة، فتعلق الوجوب فيها.

[فرع: يخرج القيمة أو العرض]
إذا كان معه مائة درهمٍ، فاشترى بها مائتي قفيزٍ حنطة للتجارة، فحال الحول، وهي تساوي مائتي درهمٍ.. وجبت عليه الزكاة، فإن قلنا: يجب إخراج القيمة..

(3/325)


أخرج خمسة دراهم. وإن قلنا: يجب إخراج العرض.. أخرج خمسة أقفزة. وإن قلنا: إنه مخيرٌ بينهما.. خير بينهما.
فإن أخرج أربعة أقفزة قيمتها خمسة دراهم، فإن قلنا: يجب إخراج القيمة.. لم تجزه الأربعة الأقفزة؛ لأنها من غير جنس ما وجب عليه، فيجب عليه إخراج خمسة دراهم، ولا يرجع بالأقفزة؛ لأن الظاهر أنه تطوع بها. وإن قلنا: يجب عليه إخراج العرض.. لزمه إخراج قفيزٍ خامسٍ، ولا شيء له لزيادة قيمة الأربعة؛ لأنه متطوعٌ بذلك. وإن قلنا: إنه مخيرٌ.. خير بينهما.
فإن تأخر إخراج الزكاة، فنقصت قيمة الطعام.. نظرت:
فإن كان النقصان لسعر السوق بأن رخص الطعام، فصارت قيمته مائة درهمٍ، فإن كان قبل إمكان الأداء.. بنى على إمكان الأداء. فإن قلنا: إن إمكان الأداء من شرائط الوجوب.. فلا زكاة عليه. وإن قلنا: إنه من شرائط الضمان.. لزمه إخراج زكاة ما بقي. وإن قلنا: يلزمه إخراج القيمة.. أخرج درهمين ونصفًا. وإن قلنا: يلزمه إخراج العرض.. أخرج خمسة أقفزة، قيمتها درهمان ونصفٌ. وإن قلنا: إنه مخيرٌ.. خير بينهما. وإن كان النقصان بعد إمكان الأداء:
فإن قلنا: يجب عليه إخراج القيمة.. لزمه خمسة دراهم؛ لأنه ضامنٌ للنقصان. وإن قلنا: يجب عليه إخراج العوض.. أخرج خمسة أقفزة منها، ولا يلزمه ضمان نقصان القيمة؛ لأن نقصان السوق لا يلزمه مع بقاء العين. وإن قلنا: إنه مخيرٌ.. خير بينهما.
وإن كان نقصان قيمة الطعام، لتغير صفة فيه، فإن كان قبل إمكان الأداء من غير فعله، ولا تفريطه.
فإن قلنا: إن إمكان الأداء من شرائط الوجوب.. لم يجب عليه زكاة. وإن قلنا: إنه من شرائط الضمان.. وجبت عليه الزكاة لما بقي. فإن قلنا: يلزمه إخراج

(3/326)


القيمة.. أخرج درهمين ونصفًا. وإن قلنا: يلزمه إخراج العرض.. لزمه أن يخرج خمسة أقفزة منها. وإن قلنا: إنه مخيرٌ.. خير بينهما.
فإن كان ذلك بعد إمكان الأداء بغير فعله، أو كان قبله بفعله:
فإن قلنا: يجب إخراج القيمة.. أخرج خمسة دراهم. وإن قلنا: يلزمه أخراج العرض.. لزمه أن يخرج خمسة أقفزة منها، وما نقص من قيمتها، وهو درهمان ونصفٌ. وإن قلنا: إنه مخيرٌ.. خير بينهما.
وإن زادت قيمة الطعام بعد الحول، وقبل إخراج الزكاة، فبلغت قيمته أربعمائة درهمٍ، فإن كان قبل إمكان الأداء:
فإن قلنا: إن إمكان الأداء من شرائط الوجوب.. وجبت عليه زكاة أربعمائة للحول الأول. فإن قلنا: يجب عليه إخراج القيمة.. أخرج عشرة دراهم. وإن قلنا: يلزمه إخراج العرض.. أخرج خمسة أقفزة قيمتها عشرة دراهم. وإن قلنا: إنه مخيرٌ.. خير بينهما.
وإن قلنا: إن إمكان الأداء من شرائط الضمان، أو كانت هذه الزيادة حدثت بعد إمكان الأداء.. فلا يلزمه زكاة الزيادة للحول الأول. وإن قلنا: يلزمه إخراج القيمة.. أخرج خمسة دراهم. وإن قلنا: يلزمه إخراج العرض.. أخرج خمسة أقفزة قيمتها عشرة دراهم؛ لأن هذه الزيادة في ماله وفي مال المساكين.
وحكى القاضي أبو الطيب وجهًا آخر: أنه يجب عليه خمسة أقفزة، قيمتها خمسة دراهم؛ لأن هذه الزيادة حدثت بعد وجوب الزكاة، وهي محتسبة في الحول الثاني.
قال ابن الصباغ: وهذا لا وجه له؛ لأن على هذا القول المستحق خمسة أقفزة منها، أو مثلها من غيرها بصفتها.
وإن قلنا: إنه مخيرٌ.. خير بينهما.
فإن تلفت هذه الحنطة بعد إمكان الأداء، ثم زادت قيمتها بعد تلفها، فإن قلنا: يجب إخراج القيمة.. لزمه خمسة دراهم. وإن قلنا: يجب إخراج العرض.. لزمه خمسة أقفزة من مثلها بقيمتها الآن. وإن قلنا: إنه مخيرٌ بينهما.. خير بينهما.

(3/327)


فإن كان عبدًا للتجارة، فأصابه عورٌ، فنقصت قيمته.. فهو كالطعام إذا تغيرت صفته.
وإن كان بعينه بياضٌ، فزال، فزادت قيمته.. فهو كالطعام إذا زادت قيمته.

[فرع: الحول في مال التجارة]
] : إذا حال الحول على مال التجارة، وقيمته نصابٌ، فباعه رب المال قبل إخراج الزكاة.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: الحكم فيه كحكم من باع المال الذي تجب الزكاة في عينه بعد وجوب الزكاة فيه، وقبل إخراجها. وقد مضى الكلام فيه.
ومنهم من قال: يصح البيع هاهنا، قولًا واحدًا.
والفرق بينهما: أن الزكاة هاهنا، لا تجب في العين، وإنما تجب في القيمة، والقيمة موجودة في العرض وفي ثمنه، وما تجب الزكاة في عينه يزول بزوال العين بالبيع، فافترقا.

[مسألة: يدفع ربح المضاربة]
] : إذا دفع رجلٌ إلى رجلٍ ألف درهمٍ قراضًا، على أن الربح بينهما نصفان، واشترى العامل بها سلعة، فحال الحول وقد صار المال ألفي درهمٍ.. فمتى يملك العامل حصته من الربح؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يملكه إلا بالمقاسمة.
والثاني: يملكه بالظهور.. ويأتي توجيههما.

(3/328)


وأما الكلام في الزكاة: فلا يخلو: إما أن يكونا مسلمين أو كافرين، أو أحدهما مسلمًا والآخر كافرًا.
فإن كانا مسلمين، فإن قلنا: إن العامل لا يملك حصته من الربح إلا بالمقاسمة.. فزكاة الجميع على رب المال، فإن كانت السلعة باقية إلى حلول الحول.. فإنها تقوم، ويزكى الجميع لحول الأصل، وإن بيعت في أثناء الحول، ونض الربح.. فهل يضم الربح إلى رأس المال في حوله، أو يستأنف له الحول؟ على ما مضى من الطرق الثلاث.
فإن أخرج رب المال الزكاة من غير مال القراض.. جاز، وإن أراد إخراجها من مال القراض.. جاز؛ لأنه ملكه، ومن أين يحتسب؟ فيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: يحتسب من الربح. قال في " التعليق ": وهو الأصح، كمؤن المال.
والثاني: يحتسب من رأس المال؛ لأن الزكاة دينٌ عليه، وقد ثبت: أن رب المال لو كان عليه دينٌ فقضاه من مال القراض.. لاحتسب من رأس المال، فكذلك هاهنا.
فعلى هذا: إذا أخرج منه خمسين درهمًا.. انفسخ القراض فيها، فيبقى رأس المال تسعمائة وخمسين درهمًا.
والثالث: يحتسب من كل واحدٍ منهما بحصته؛ لأن الزكاة فيهما.
فعلى هذا: يبقى رأس المال تسعمائة وخمسة وسبعين درهمًا.
وحكى صاحب " الإبانة " [ق \ 147] وجهًا آخر: إن قلنا: إن الزكاة تتعلق بالعين. احتسب من الربح، كمؤن المال.
وإن قلنا: تتعلق بالذمة.. احتسب من رأس المال، كما لو قضى منه دينًا عليه في ذمته.
وإن قلنا: إن العامل يملك حصته من الربح قبل المقاسمة.. فإن على رب المال زكاة ألف وخمسمائة، فإن بقيت السلعة إلى آخر الحول.. زكى نصيبه من الربح لحول الأصل، وإن نض الربح قبل الحول.. فهل يضم إلى حول الأصل؟ على الطرق الثلاثة.

(3/329)


وإذا أخرج الزكاة من المال.. فمن أين يحتسب؟ على ما مضى من الأوجه.
وأما العامل: فلا يضم حول نصيبه إلى حول الأصل؛ لأنه لا يضم مال الرجل إلى مال غيره في الحول، ومن أين ابتداء حوله؟ فيه ثلاثة أوجهٍ، حكاها الشيخ أبو حامدٍ:
أحدها: من يوم ظهر الربح ولاح. قال: وهو الأصح؛ لأنه يملك حصته من الربح من حين يظهر.
والثاني: ابتداء حوله من حين يقوم المال على رب المال؛ لإخراج الزكاة، لأنه لا يتحقق الربح إلا بذلك.
والثالث: ابتداء حوله من حين المقاسمة؛ لأنه لا يستقر ملكه عليه إلا بذلك.
فإن قلنا: إن ابتداء حوله من حين الظهور، أو من حين التقويم، فإن كان نصيبه يبلغ نصابًا، أو معه من جنسه ما يبلغ به نصابًا، وهو جارٍ في حوله.. فعليه الزكاة.
وإن لم يبلغ نصيبه نصابًا، وليس معه ما يتم به نصابًا.. فهل يضم نصيبه إلى نصيب رب المال في النصاب؟
إن قلنا: إن الخلطة تصح في غير المواشي.. ضم نصيبه إلى نصيب صاحب رأس المال.
وإن قلنا: لا تصح المخالطة في غير المواشي.. فلا زكاة عليه.
وإن قلنا: إن ابتداء حوله من حين المقاسمة، فإن كان نصيبه يبلغ نصابًا، أو معه ما يبلغ به نصابًا.. زكاه.

(3/330)


وإن لم يبلغ نصابا.. فلا يتأتى هاهنا ضمه إلى نصيب رب المال؛ لأنهما لما اقتسما.. زالت الخلطة.
وهل يجب على العامل إخراج زكاة حصته قبل المقاسمة؟ فإن قلنا: إن ابتداء حوله من حين المقاسمة.. لم يجب عليه؛ لأن ماله لم يجر في الحول.
وإن قلنا: إن ابتداء حوله من حين ظهور الربح، أو من حين التقويم.. فقال البغداديون من أصحابنا: لا يجب عليه الإخراج؛ لأن هذا المال قد لا يحصل له، فأحسن أحواله: أن يكون كالمال الغائب الذي ترجى سلامته، ويخاف تلفه.
وحكى صاحب " الإبانة " [ق \ 148] فيه ثلاث طرقٍ:
أحدها: لا يجب عليه، وهو قول القفال؛ لأن ملكه غير مستقرٍّ على الربح، فهو كمال المكاتب.
والثاني: أنها على قولين، كالمال المغصوب؛ لأنه لا يقدر على التصرف بهذا المال كيف شاء، فهو كالمال المغصوب.
والثالث - وهو قول صاحب " التقريب " -: أن عليه إخراج الزكاة في الحال؛ لأن يده تصل إلى هذا المال، ويملك المقاسمة فيه متى شاء، فهو كدينٍ على مليءٍ مقر، بخلاف المغصوب.
فإذا قلنا: لا يجب عليه الإخراج، وأراد أن يخرج الزكاة من غير مال القراض.. جاز. وإن أراد إخراجها من عين مال القراض.. فهل يجوز؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز، ولرب المال منعه من ذلك؛ لأن الربح وقاية لرأس المال.
والثاني: يجوز، وهو المنصوص؛ لأن الزكاة وجبت فيه.
وإن كانا كافرين.. فلا زكاة عليهما.
وإن كان أحدهما مسلمًا، والآخر كافرًا.. نظرت:

(3/331)


فإن كان رب المال مسلمًا، والعامل كافرًا، فإن قلنا: إن زكاة الجميع على رب المال.. وجب عليه إخراج زكاة الجميع على ما مضى.
وإن قلنا: إنه لا تجب عليه زكاة نصيب العامل.. فعلى رب المال إخراج زكاة رأس المال، وحصته من الربح، على ما مضى، ولا تجب زكاة نصيب العامل على أحدهما.
وإن كان رب المال كافرًا، والعامل مسلمًا، فإن قلنا: إن العامل لا يملك حصته من الربح إلا بالمقاسمة.. لم يجب عليه في هذا المال زكاة قبل المقاسمة.
وإن قلنا: يملك العامل حصته بالظهور.. فلا زكاة على المالك في رأس المال وحصته من الربح، وتجب على العامل زكاة حصته.
وفي وقت ابتداء حوله وجهان:
أحدهما: من يوم الظهور.
والثاني: من وقت المقاسمة، ويسقط الوجه الثالث؛ لأن المال لا يقوم هاهنا على رب المال لإخراج الزكاة.
فإن أراد العامل أن يخرج زكاة نصيبه من الربح - من المال - قبل المقاسمة.. قال الشيخ أبو حامدٍ: لم يجز، وجهًا واحدًا؛ لأن رب المال يقول: أنا كافرٌ، وأنت تعرف ديني، ودخلت على أن لا تؤخذ الزكاة من مال.
والله أعلم، وبالله التوفيق

(3/332)