البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب زكاة المعدن والركاز]
سمي المعدن معدنًا؛ لأنه مقام الجواهر، يقال: عدن بالمكان: إذا أقام به، ولهذا سميت {جَنَّاتِ عَدْنٍ} [التوبة: 72] [التوبة: 72] ؛ لأنها دار الإقامة.
والأصل في وجوب الزكاة فيه: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] [البقرة: 267] .
والمعدن: مما أخرج من الأرض.
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقطع بلال بن الحارث المعادن القبلية جلسيها وغوريها» . وأخذ منه الزكاة.
سميت: (قبلية) ، نسبة إلى ناحية من نواحي ساحل البحر بينها وبين المدينة مسيرة خمسة أيامٍ. وقوله: (جلسيها) : يعني: نجدتها، ونجدٌ يقال له: جلسٌ. وقوله: (وغوريها) نسبة إلى الغور.

(3/333)


وهو إجماعٌ لا خلاف في وجوب الزكاة في المعدن.

[مسألة: زكاة المعدن]
] : فإن استخرج الحر المسلم نصابًا من الذهب أو الفضة من معدنٍ في مواتٍ أو في أرض يملكها.. وجبت عليه الزكاة؛ لما ذكرناه، وإن استخرج ذلك مكاتبٌ أو ذمي.. لم يجب عليه شيءٌ.
وقال أبو حنيفة: (يجب على المكاتب) .
دليلنا: أن ذلك زكاة، فلا تؤخذ من المكاتب والذمي، كزكاة السائمة.
وإن وجده في أرضٍ مملوكة لغيره.. فهو ملكٌ لصاحب الأرض تجب عليه زكاته إذا قبضه.
وإن اشترى أرضًا، فظهر فيها معدنٌ.. كان مملوكًا له، فإن شاء.. عمله، وإن شاء.. تركه، ولا يتعرض له في ذلك أحدٌ.
وإن وجد في المعدن غير الذهب والفضة، كالحديد والرصاص وغيرهما.. لم تجب فيه الزكاة، وبه قال مالكٌ رحمة الله عليه.
وقال أبو حنيفة: (تجب في الذهب والفضة، وفي كل ما ينطبع إذا طبع، مثل: الحديد، والرصاص، والصفر، ولا تجب فيما لا ينطبع، مثل: الفيروزج، والزجاج) .
وقال أحمد رحمة الله عليه: (تجب في كل ما يُستخرج من الأرض) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في حجرٍ» .

(3/334)


ولأنه مقومٌ مستفادٌ من المعدن، فلم يتعلق به حق المعدن، كالفيروزج، والطين الأحمر مع أحمد؛ فإنه وافق في أنه لا شيء فيه.

[فرع: وجد دون النصاب]
] : فإن وجد دون النصاب من الذهب أو الفضة.. فلا شيء عليه. وبه قال مالكٌ، وأحمدُ وإسحاق، وهذه طريقة البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 149] : إن قلنا: الواجب فيه ربع العشر.. اعتبر فيه النصاب. وإن قلنا: يجب فيه الخمس.. ففيه قولان:
أحدهما: يعتبر النصاب فيه.
والثاني: لا يعتبر.
وقال أبو حنيفة: (لا يعتبر النصاب فيما يؤخذ من المعدن) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس فيما دون خمس أواقٍ من الورق صدقة، وليس فيما دون عشرين دينارًا من الذهب صدقة» . ولم يفرق بين أن يكون من المعدن أو غيره.

[فرع: كيفية وجود المعدن]
] : ولا يخلو ما يوجد من المعدن: إما أن يكون مجتمعًا، أو متفرقًا، فإن كان مجتمعًا بأن وجد بدرة واحدة لا غير.. اعتبرت بنفسها، فإن كانت نصابًا.. أخرج

(3/335)


عنها الزكاة، وإن نقصت عن النصاب.. لم يجب فيه شيءٌ، وإن كان متفرقًا.. ففيه ثلاث مسائل:
إحداهن: أن يتصل العمل والنيل، فيضم النيل بعضه إلى بعضٍ في إكمال النصاب، واتصال العمل: هو أن يعمل في الوقت الذي جرت العادة بالعمل فيه، واتصال النيل: هو أن لا يحقد المعدن، وحقد المعدن: هو أن لا ينيل شيئًا، تقول العرب: حقد المعدن: إذا لم ينل، وحقدت السماء: إذا انقطع مطرها، وسمي الحقد: حقدًا؛ لأن من حقد على غيره منعه بره.
المسألة الثانية: أن ينقطع العمل، ولا ينقطع النيل، ومعنى لم ينقطع النيل، أي: لو عمل، لناله، فإن كان انقطاع العمل لعذرٍ، مثل: إصلاح الآلة، أو هرب العبيد، أو مرضهم.. فإنه إذا عمل بعد زوال العذر.. ضم ما وجده بالعمل الثاني إلى ما وجده بالعمل الأول.
وإن كان انقطع العمل لغير عذرٍ، بأن قطع العمل باختياره يومًا أو يومين.. لم يضم ما وجد بالعمل الثاني إلى ما وجده بالعمل الأول، بل يعتبر كل واحدٍ بنفسه؛ لأنه قطعه باختياره.

(3/336)


المسألة الثالثة: أن يتصل العمل، وينقطع النيل اليومين والثالث، ثم يعود النيل، ففيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (لا يضم ما وجده بعد انقطاع النيل إلى ما وجده قبله) ؛ لأن النيل هو الأصل، فإذا لم يضم ما وجده بعد قطع العمل بغير عذرٍ إلى ما وجده قبله، فلأن لا يضم ما وجده بعد قطع النيل أولى.
و [الثاني] : قال في الجديد: (يضم) : وهو الصحيح؛ لأن انقطاع النيل لا صنع له فيه، بخلاف قطع العمل، ولأن العادة أن المعدن لا ينيل على الدوام، وإنما ينيل شيئًا بعد شيءٍ، فلو قلنا: لا يضم.. لأدى ذلك إلى إسقاط الزكاة في المعدن.

[مسألة: وجد رجلان معدنًا]
] : إذا وجد رجلان شيئًا من المعدن، فإن وجدا نصابين.. وجبت عليهما الزكاة، وإن وجدا أقل من نصابين، فإن قلنا: تثبت الخلطة في غير المواشي.. زكيا زكاة الخلطة، وإن قلنا: لا تثبت الخلطة في غير الماشية.. فلا زكاة عليهما؛ لأن كل واحدٍ منهما لم يجد نصابًا.

[مسألة: زكاة المعدن]
] : الحق الواجب في المعدن زكاة عندنا، وبه قال مالكٌ، وأحمدُ.
وقال أبو حنيفة: (ليس بزكاة، ويصرف مصرف الفيء) . وبه قال المزني، وأبو حفص بن الوكيل من أصحابنا.
دليلنا: أنه مستفاد من الأرض، فأشبه الزرع.
إذا ثبت هذا: فاختلف قول الشافعي في القدر الواجب في المعدن [على ثلاثة أقوالٍ] :
[الأول] : قال في " الأم " [2/34] و " الإملاء ": (يجب فيه ربع العشر) . وبه قال أحمد، وإسحاق.

(3/337)


قال الشيخ أبو حامد: وبه يفتى، وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في الرقة ربع العشر» .
والقول الثاني: (يجب فيه الخمس) . وبه قال أبو حنيفة؛ لما رُوي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي الركاز الخمس، فقيل له: وما الركاز؟ فقال: " الذهب والفضة اللذان خلقهما الله تعالى في الأرض يوم خلقها» .
والقول الثالث: إن وجد بدرة واحدة.. وجب فيها الخمس، وإن وجده بتعبٍ ومؤنة.. وجب فيه ربع العشر؛ لأنه حقٌ يتعلق بالمستفاد من الأرض، فاختلف بخفة المؤنة وثقلها، كالعشر، وهل يعتبر فيه الحول؟ فيه قولان.
أحدهما: يعتبر فيه الحول، فإذا تم الحول من حين وجده.. أخرج الزكاة عنه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في مالٍ حتى يحول عليه الحول» .
والثاني - وبه قال مالكٌ، وأبو حنيفة، وعامة أهل العلم، وهو الصحيح -: (أنه لا يعتبر فيه الحول، بل إذا وجد نصابًا.. أخرج عنه الزكاة في الحال) ؛ لأنه مالٌ مستفادٌ من الأرض، فلم يعتبر فيه الحول، كالحبوب، لأن الحول يراد لتكامل النماء، وهذا قد تكامل نماؤه.
وأما الخبر: فمحمولٌ على غير المعدن؛ لأنه لا يتكامل نماؤه إلا بالحول، بخلاف المعدن. هذا نقل الشيخ أبي حامد، وأصحابنا البغداديين، وقال المسعودي

(3/338)


[في " الإبانة " ق \ 150] : إن قلنا: إن الواجب في المعدن الخمس.. لم يعتبر فيه الحول كالركاز، وإن قلنا: الواجب فيه ربع العشر.. فهل يعتبر الحول؟ فيه قولان.

[فرع: كمل المعدن نصابًا]
] : قال ابن الحداد: إذا وجد دينارًا من المعدن، وفي يده مما سوى المعدن تسعة عشر دينارًا.. فإنه يلزمه أن يخرج في الحال ربع عشر الدينار المخرج من المعدن.
قال القاضي أبو الطيب: وهذا إذا قلنا: لا يعتبر الحول في المعدن، إلا أن الشافعي نص على هذه المسألة في (الركاز) ، ونقلها ابن الحداد إلى المعدن، ولا فرق بينهما؛ لأنه يعتبر فيهما النصاب ولا يعتبر فيهما الحول، وذلك: أنه إذا وجد من المعدن أقل من نصاب، وعنده نصابٌ من جنسه يجري في الحول.. فإنه يزكي ما وجده من المعدن في الحال، وإذا تم حول النصاب.. زكاه، ويكونان كـ: مالين في يده، تم حول أحدهما دون الآخر.
فإن كان الذي عنده أقل من النصاب، وتم النصاب بالذي وجده من المعدن.. فإنه يزكي المأخوذ من المعدن، ويستأنف الحول على الذي بيده من حين تم النصاب، فإذا تم الحول.. زكاه.
قال القاضي أبو الطيب: وهذا كرجلٍ معه عشرون دينارًا أحد عشر شهرًا، ثم بادل بتسعة عشر دينارًا منها تسعة عشر دينارًا، وبقي في ملكه دينارٌ، فإذا إذا مضى شهرٌ.. أخرج زكاة الدينار؛ لأن النصاب والحول قد وجدا فيه، ويستأنف الحول للتسعة عشر، ولا ينقطع الحول في الدينار؛ لأنه لم يخل عن نصابٍ في جميع الحول، كما قال الشافعي - فيمن معه أربعون شاة ستة أشهرٍ، ثم باع نصفها مشاعًا من رجلٍ -: (إنَّ

(3/339)


الحول لا يبطل في النصف الذي في يده) ؛ لأنه لم يخل من النصاب.
قال: وقد غلط بعض أصحابنا فيها، فقال: إذا كان معه تسعة عشر دينارًا، فوجد دينارًا مع آخر الحول أو بعده.. وجب حق المعدن في الدينار، ووجب في التسعة عشر ربع العشر؛ لأن الذي في يده قد حال عليه الحول، والذي وجده في حكم ما حال عليه الحول، فكأنه كان موجودًا في جميع الحول.
قال هذا القائل: فأما إذا وجد الدينارَ بعد مضي بعض الحول.. لم يجب عليه شيءٌ في التسعة عشر.
قال القاضي: وهذا خطأٌ؛ لأن الحول لا ينعقد على الذهب والفضة، مع نقصانه عن النصاب.
وأما قوله: إذا وجده بعد مضي بعض الحول على التسعة عشر فلا شيء منها.. فخلاف نص الشافعي في (الركاز) ، فإنه قال: (لو أخرج زكاة ماله في المحرم، ثم وجد الركاز في صفرٍ، وله مالٌ تجب فيه الزكاة.. كان في الركاز الخمس وإن كان الركاز دينارًا) .

[فرع: وقت وجوب زكاة المعدن]
] : ووقت وجوب الزكاة في المأخوذ من المعدن: عند حصوله في يده، وأما وقت إخراجها: فبعد تمييزه وإخلاصه، ومؤنة التمييز والإخلاص في خاص مال رب المال، وقال أبو حنيفة: (المؤنة من المعدن جميعه) .
دليلنا: أنها مؤنة للتخليص والتصفية، فكانت على رب المال، كمؤنة تصفية الطعام.
إذا ثبت هذا: فإذا دفع رب المال زكاة المعدن إلى الساعي قبل تخليصه.. وجب رده على رب المال؛ لأن تخليصه عليه. فإن كان باقيًا.. وجب رده. فإن اختلفا في المردود، فقال رب المال: ليس هذا الذي دفعته إليك، وقال الساعي: بل هو الذي دفعته إلي، أو اختلفا في قدره.. فالقول قول الساعي مع يمينه؛ لأنه أمينٌ، فإن ميزه

(3/340)


الساعي.. فإن القدر الذي يحصل منه يجزئ في الزكاة، فإن كان أقل مما يجب عليه.. لزم رب المال دفع التمام، ولا شيء للساعي بعمله؛ لأنه متطوع به.
وإن كان المأخوذ تالفًا.. وجب على الساعي قيمته، كما إذا قبض شيئًا بالسوم، فتلف في يده.. وجبت عليه قيمته، فإن كان المدفوع تراب ذهبٍ.. قومه بفضة، وإن كان تراب فضة.. قومه بذهبٍ؛ لئلا يؤدي إلى الربا، فإن اختلفا في قدر القيمة.. فالقول قول الساعي مع يمينه؛ لأنه غارمٌ، ولأنه أمينٌ.

[فرع: لا يباع المعدن قبل تخليصه]
] : ولا يجوز بيع تراب المعادن قبل التخليص بذهبٍ ولا فضة ولا بغيرها، وقال مالكٌ: (يجوزُ) .
دليلنا: أن المقصود مستورٌ بما لا مصلحة له فيه، فلم يجز بيعه، كتراب الصاغة الذي فيه برادة الذهب والفضة، وقد وافقنا مالكٌ على ذلك.
قال أبو إسحاق: وأما إذا باع ترابًا بعد أن ميز، وأُخذ منه الذهب والفضة، ثم وجد فيه فتاتٌ يسيرٌ.. جاز ذلك؛ لأن المقصود منه نفس التراب دون ما فيه، فجاز بيعه.

[مسألة: الركاز]
وأما الركاز: فهو المال المدفون في الأرض من زمن الجاهلية، واشتقاقه من قولهم: ركز يركز، يقال: ركز الرمح: إذا غرزه في الأرض، والواجب فيه الخمس، سواءٌ أظهره أو كتمه.
وقال أبو حنيفة: (هو بالخيار: بين أن يكتمه ولا شيء عليه، وبين أن يظهره ويخرج منه الخمس) .

(3/341)


دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي الركاز الخمس» ، وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن رجل وجد كنزًا في خربة؟ فقال: " إن وجدته في قرية مسكونة، أو في طريقٍ ميتاءٍ.. فعرفه حولًا كاملًا، وإن وجدته في خربة جاهلية، أو في قرية غير مسكونة.. ففيه وفي الركاز الخمس» .

[فرع: وجوب حق الركاز]
] : ولا يجب حق الركاز إلا على من يجب عليه حق الزكاة، فإن وجده مكاتبٌ أو ذميٌّ.. لم يجب عليه شيءٌ، وحكى ابن المنذر عن مالكٍ، والثوري، وأهل الرأي، وأصحاب العراق، والأوزاعي، ورواه أبو ثورٍ، عن الشافعي: (أنه يجب على الذمي الخمس فيما يجده من الركاز) .
وهذا ليس بصحيحٍ؛ لأنه زكاة، فلم تجب على الذمي، كسائر الزكوات.
وإن وجدت المرأة أو الصبي ركازًا.. كان لهما.
وقال الثوري: لا يكون لهما.
دليلنا: أنهما يملكان بجميع أسباب التمليك، فملكا الركاز بالوجود، كالرجل البالغ.

(3/342)


[فرع: أحوال وجود الركاز]
] إذا وجد ركازًا.. فلا يخلو: إما أن يجده في موضعٍ لم يملك قط، أو في موضعٍ قد ملك:
فإن وجده في موضع لم يملك، وهو الموات الذي لم يحيه أحدٌ قط.. فهو ركازٌ، ولا فرق في ذلك بين موات دار الإسلام أو موات دار أهل العهد، أو موات دار أهل الحرب.
وقال أبو حنيفة: (إن وجده في موات دار الإسلام، أو موات دار أهل العهد.. فهو ركازٌ يجب فيه الخمس، وإن وجده في موات دار أهل الحرب.. ملكه غنيمة له، ولا يخمس) . وقال مالكٌ: (يكون بين الجيش) .
وقال الأوزاعي: (يؤخذ خمسه، والباقي بين الجيش) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي الركاز الخمس» . ولم يفرق بين موات دار الإسلام وغيرها.
وإن وجده في موضع قد ملك.. نظرت:
فإن لم يعرف مالكه، مثل: مواضع عادٍ وقومه.. فالحكم فيه كالحكم فيما وجد في مواتٍ؛ لأن ما لا يعرف مالكه بمنزلة ما لم يملك.
وإن وجده في أرض عرف مالكها، فإن كانت في دار الإسلام، أو في دار أهل العهد.. لم يكن ركازًا، ولا يملكه، بل يحفظه إلى أن يجد صاحبه، فإن جاء.. أعطاه، وإلا كان لبيت المال؛ لأنه مالٌ محرزٌ في ملكه، والظاهر: أن صاحبه أحرزه.
وإن كان في دار الحرب.. فإنه يكون غنيمة، وبه قال أبو حنيفة.
وقال أبو ثورٍ، وأبو يوسف: (ينفرد به الواجد) .

(3/343)


دليلنا: أنا حكمنا بأن الموضع ملكٌ للمشركين، فالظاهر: أن ما كان فيه، فهو لهم.
وإن وجد الرجل في داره أو أرضه ركازًا، فإن قال: هو لي كنت دفنته.. قبل قوله من غير يمينٍ؛ لأن الظاهر أنه له، وإن قال: ليس لي.. قال الشافعي: (فالظاهر أنه ملكٌ لمن أخذ منه تلك الدار) . فإن ورثها من أبيه.. قسم المال بين جميع ورثة الأب، إن ادعوا ذلك، وإن ادعاه بعضهم دون بعضٍ.. دفع إلى من ادعاه نصيبه، ووقف نصيب من لم يدعه.
وإن قالوا: ليس بملكٍ لأبينا.. فالظاهر: أنه لمن انتقل منه الدار إلى الأب.
فإن لم يدعه أحدٌ ممن ملك هذه الدار.. قال ابن الصباغ: كان ذلك لقطة.
وإن اكترى من رجلٍ دارًا، فوجد فيها ركازًا، فادعى كل واحدٍ منهما: أنه له.. قال الشافعي: (فالقول قول المكتري) .
وقال المزني: القول قول المكري، وهذا خطأٌ؛ لأن يد المكتري على الدار وما فيها، فكان القول قوله فيما في يده.
ولا يحكم بأنه ركازٌ إلا بأن يكون من مال جاهليٍّ، يعلم أن مثله لم يضرب في الإسلام، بأن يكون عليه اسم أحدٍ من ملوك أهل الشرك أو صورة الصلبان، لأن الظاهر أنه لمشركٍ.
فأما إذا كان عليه آية من كتاب الله، أو اسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو أحدٌ من خلفاء المسلمين.. فليس بركازٍ، بل هو لقطة يجب تعريفها.

[فرع: بناء المشرك على كنز]
] : ذكر في " التعليق ": أن أبا إسحاق المروزي قال: إذا بنى المشرك بناءً، وكنز فيه كنزًا، وبلغته الدعوة، فعاند، ولم يسلم، ثم باد وهلك، فوجدنا ذلك الكنز.. فإنه

(3/344)


يكون فيئًا، ولا يكون ركازًا؛ لأن الركاز إنما هو من أموال الجاهلية العادية الذين لم يعرف هل بلغتهم الدعوة، أم لا؟ فأما إذا علم أن الدعوة بلغتهم: كان مالهم فيئًا، خمسه لأهل الخمس، وأربعة أخماسه لمن وجده، وإن لم تبلغهم الدعوة.. فهو موهبة من الله تعالى أباحه لنا، فكان ركازًا.

[فرع: وجد ركازًا لا علامة تدل عليه]
] : وإن وجد في الموات ركازًا لا علامة عليه لمسلم أو لمشركٍ، كالأواني من الذهب أو الفضة.. فذكر الشيخان أبو حامدٍ، وأبو إسحاق: أن المنصوص للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لقطة) ؛ لأنه يحتمل أنه لمسلم، ويحتمل أنه لمشركٍ، والظاهر أنه لقطة.
ومن أصحابنا من قال: إنه ركازٌ، وذكر ابن الصباغ: أن هذا قولٌ للشافعي في " الأم " [2/37] ؛ لأن الظاهر منه إذا كان من مواتٍ: أنه ركازٌ.

[فرع: وجد غير الذهب والفضة]
] : وإن وجد غير الذهب والفضة.. ففيه قولان:
[الأول] : قال في الجديد: (لا تجب فيه الزكاة) . وهو الصحيح؛ لأنه مقومٌ استفيد من الأرض، فلم يجب فيه شيءٌ، كما لو استخرج من المعدن.
و [الثاني] : قال في القديم: (يخمس كل ما وجد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي الركاز الخمس» . ولم يفرق) .
ولا يعتبر الحول فيما يؤخذ من الركاز، قولًا واحدًا، وهو قول كافة العلماء؛ لأنه مستفادٌ من الأرض، فلا يعتبر فيه الحول، كالحبوب والثمار، والفرق بينه وبين ما يؤخذ من المعدن على القول الضعيف: أن ما يؤخذ من المعدن أخذه بتعبٍ ومؤنة، فلهذا اعتبر فيه الحول، وهذا أخذه بغير تعبٍ ولا مؤنة.

(3/345)


[مسألة: اعتبارالنصاب في الركاز]
مسألة: [اعتبار النصاب في الركاز] : وهل يعتبر النصاب في الركاز؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (لا يعتبر فيه النصاب، بل تجب الزكاة في قليله وكثيره؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي الركاز الخمس» . ولم يفرق) ، ولأنه مال مخموس، فخمس قليله وكثيره، كالغنيمة.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجب إلا في النصاب) . قال الشافعي: (ولو كنت أنا الواجد، لخمست قليله وكثيره) . وهذا القول هو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ليس فيما دون مائتي درهم شيء، وليس فيما دون عشرين مثقالا من الذهب شيء» . ولم يفرق بين الركاز وغيره، ولأنه حق مصروف إلى أهل الصدقات، فاعتبر فيه النصاب، كسائر الزكوات) .
وأما الخبر الأول: فهو عام، وهذا خاص، والخاص يقدم على العام.
فعلى هذا: إذا وجد دون النصاب من الذهب أو الفضة، فإن لم يكن معه شيء من جنسه.. لم يجب عليه شيء.
وإن كان معه شيء من جنسه.. فلا يخلو: إما أن يكون الذي عنده نصابا أو أقل من النصاب:
فإن كان الذي عنده نصابا.. نظرت:
فإن وجد الركاز مع حؤول الحول على النصاب.. أخرج الخمس من الركاز، وعن النصاب ربع العشر، نص الشافعي عليه؛ لأن النصاب قد حال عليه الحول، ووجبت فيه الزكاة، والركاز لا يعتبر فيه الحول، فهو كما لو كان موجودا مع النصاب من أول الحول.
وإن وجد الركاز بعد حؤول الحول على النصاب الذي عنده.. لزمه أن يخرج الخمس عن الركاز، سواء كان قد زكى النصاب الذي عنده، أو لم يزكه، نص عليه الشافعي أيضا؛ لأن ما معه قد حال عليه الحول، والركاز في حكم ما حال عليه الحول.

(3/346)


قال ابن الصباغ: ولا خلاف بين أصحابنا في هاتين المسألتين.
وإن وجد الركاز قبل حؤول الحول على النصاب الذي عنده، مثل: أن يكون عنده مائتا درهم، فأقامت عنده أحد عشر شهرًا، ثم وجد من الركاز مائة درهم.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو اختيار الشيخ أبي حامد، وأبي إسحاق صاحب " المهذب " -: أنه لا يضم المائة من الركاز إلى ما عنده، بل إذا تم حول النصاب.. زكاه، وإذا تم حول المائة من حين وجدها.. أخرج عنها ربع عشرها؛ لأن النصاب الذي عنده لم يحل عليه الحول، والركاز وإن كان في حكم ما حال عليه الحول، إلا أنه كبعض نصاب حال عليه الحول، فلم تجب فيه عليه زكاة.
قال الشيخ أبو حامد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهذه ليست بمنصوصة للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولكنه قد نص على مثلها، فقال: (لو استفاد مائة درهم من الركاز، وليس معه مال سواها.. فلا شيء فيها؛ لأنها دون النصاب، فإن وجد بعدها مائة درهم أخرى ركازًا.. لم يجب فيها شيء) . فلم يوجب في الثانية شيئًا؛ لأن الذي معه لم يحل عليه الحول، ولا هو في حكم مال حال عليه الحول.
والوجه الثاني - وهو قول القاضي أبي الطيب في " شرح المولدات "، واختيار ابن الصباغ -: أن المائة تضم إلى النصاب وإن كان قبل الحول، ويخرج الخمس عن المائة، وإذا تم حول النصاب.. أخرج عنه ربع العشر.
واحتجا بنص الشافعي في المسألة قبلها، وهو إذا وجد ما دون النصاب بعد حؤول الحول على النصاب.. أنه يلزمه أن يخرج الخمس عن الركاز، وإن كان الحول الثاني لم يتم على ماله، ولا حكم للحول الذي انقضى قبل وجود الركاز، ولأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قد قال: (إذا كان ماله دينًا أو غائبًا، عرف الوقت الذي أصاب فيه الركاز، فإن كان ماله الغائب في يد من وكله، أو من عليه الدين مليئًا مقرًا به.. فهو كما لو كان المال في يده ويخرج زكاة الركاز) . ولم يعتبر وجوده في آخر جزء من آخر الحول أو بعده.

(3/347)


وأما المسألة التي احتج بها الشيخ أبو حامد: فقال القاضي: أراد الشافعي: إذا وجد المائة الثانية بعد تلف الأولى، فأما إذا وجد الثانية مع بقاء الأولى.. فإنه يخرج من الثانية خمسها؛ لأن الشافعي قال فيها: (فكان كمال يفيده في وقت، فتمر عليه سنة، ثم يفيد آخر في وقت، فتمر عليه سنة، فليس فيه الزكاة) . وأراد: إذا كان الأول قد خرج عن ملكه، وإلا فإذا كان باقيًا.. وجبت الزكاة في السنة الثانية.
هذا إذا كان الذي عنده نصابًا، فإن كان الذي عنده أقل من نصاب، بأن كان عنده مائة درهم، ثم وجد مائة درهم من الركاز، فإن وجدها مع آخر الحول على المائة، أو بعد الحول.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو المنصوص، وهو قول أبي علي الطبري، والشيخ أبي حامد -: (أنه يجب في المائة التي كانت عنده ربع العشر في الحال، ويجب في المائة التي أخذها ركازًا الخمس في الحال) ؛ لأن الذي عنده قد حال عليه الحول، وما وجده في حكم ما حال عليه الحول، فهو كما لو كان في يده مائتا درهم من أول الحول إلى آخره.
والوجه الثاني - وهو قول القاضي أبي الطيب، واختيار ابن الصباغ -: أنه يجب في المائة المأخوذة من الركاز الخمس؛ لأنه لا يعتبر فيها الحول، وقد انضمت إلى المائة الأخرى في النصاب، ولا يجب في المائة التي كانت عنده شيء، حتى يحول عليها الحول من حين تم النصاب؛ لأن الحول لا ينعقد عليها مع نقصانها عن النصاب.
والوجه الثالث: أنه لا يجب في المائتين شيء في الحال، بل يستأنف بهما الحول من حين تم النصاب، فإذا تم حولهما.. أخرج عنهما ربع العشر؛ لأن ما دون النصاب لا يجري في الحول.
وإن وجد المائة قبل تمام الحول على المائة التي كانت عنده.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول الشيخين: أبي حامد، وأبي إسحاق -: أنه لا يجب فيهما في الحال شيء، بل يستأنف الحول عليهما من حين تم النصاب، فإذا حال الحول عليهما.. وجب فيهما ربع العشر.
والثاني - وهو قول القاضي أبي الطيب، وابن الصباغ -: أنه يجب في المائة التي

(3/348)


وجدها من الركاز الخمس في الحال، ويستأنف الحول في المائة الثانية التي كانت عنده من حين تم النصاب، فإذا تم حولها، أخرج عنها ربع العشر..
ووجههما: ما ذكرناه في المسألة المتقدمة.

[مسألة: إخراج العبد الركاز]
] : إذا أمر السيد عبده بإخراج ركاز، أو يعمل في معدن، فوجد مالًا، أو وجده من غير إذن السيد.. كان ملكًا للسيد، وعليه الزكاة فيه إن كان ممن تجب عليه الزكاة.
وإن قال له السيد: خذه لنفسك، فإن قلنا: يملك العبد إذا ملك.. فهو للعبد، ولا زكاة على أحدهما فيه. وإن قلنا: لا يملك.. فهو للسيد، وزكاته عليه. وقال الثوري، والأوزاعي، وأبو عبيد: (إذا وجد العبد ركازًا.. أرضخ له منه) .
وقال أبو حنيفة، وأبو ثور: (هو له بعد الخمس) .
دليلنا: أن كسب العبد ملك للسيد، وذلك من كسبه، فكان للسيد كالصيد.
والله أعلم، وبالله التوفيق

(3/349)