البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب زكاة الفطر]
زكاة الفطر مفروضة، والواجب والمفروض عندنا واحد.
وقال أبو حنيفة: (هي واجبة، وليست بمفروضة) ؛ لأن الواجب عنده أقل درجة من المفروض، فالمفروض: ما ثبت بالأخبار المتواترة، كالصلوات الخمس، والواجب: ما ثبت بأخبار الآحاد، مثل: الوتر عنده، وهذا خلاف في التسمية لا غير.
وقال الأصم، وابن عُلية، وقوم من أهل البصرة: لا تجب زكاة الفطر.
وبه قال أبو الحسين ابن اللبان الفرضي من أصحابنا.
دليلنا: ما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض زكاة الفطر على الناس في رمضان صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، على كل ذكر وأنثى، حر وعبد من المسلمين» . فلنا منه دليلان:
أحدهما: قوله: (فرض) بمعنى: ألزم، وحتم، ولا يجوز أن يكون معناه

(3/350)


قدر؛ لأنه قال: (على الناس) ولو كان المراد التقدير.. لقال: للناس.
والثاني: أنه قال: (زكاة) ، والزكاة: لا تكون إلا مفروضة لازمة..

[مسألة: الفطرة على المسلم]
] : قال الشافعي: (ولم يفرضها إلا على المسلمين) .
وجملة ذلك: أن من قال من أصحابنا: إن الكفار الأصليين غير مخاطبين بالشرائع.. قال: لا تجب عليهم زكاة الفطر، واحتج بقول الشافعي هاهنا: (إلا على المسلمين) . ومن قال من أصحابنا: إن الكفار الأصليين مخاطبون بالشرائع.. قال زكاة الفطر واجبة عليهم.
ونقول: معنى قوله: (إلا على المسلمين) ، أي: فرض الأداء.
وإن كان الكافر مرتدًا.. فعلى ما ذكرناه من الأقوال الثلاثة في أول الزكاة.
وأمَّا المكاتب: فالمنصوص للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في عامة كتبه: (أنه لا تجب زكاة فطرته في ماله ولا على سيده) . وبه قال ابن عمر، وأبو حنيفة.
وروى أبو ثور، عن الشافعي: (أن زكاة فطره تجب على سيده) . وبه قال عطاء، ومالك رحمة الله عليهما، وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (تجب في كسبه) . وحكاه في " المهذب " وجهًا عن بعض أصحابنا.
دليلنا: أن المكاتب ناقص الملك، بدليل: أنه لا تجب عليه زكاة المال، فلم تجب عليه زكاة الفطر؛ كالذمي، والدليل على أنها لا تجب على سيده: أنه معه كالأجنبي، ولهذا يصح البيع بينهما.

[فرع: وجوب الفطرة]
] : ولا تجب زكاة الفطر إلا على من فضل عن قوته وقوت من تلزمه نفقته ليلة الفطر ويومه ما يؤدى في الفطرة، ولا يعتبر ملك النصاب بعد القوت، وبه قال عطاء، ومالك، وأحمد، وإسحاق.

(3/351)


وقال أبو حنيفة: (لا تجب إلا على من ملك نصابا من الذهب أو الورق أو ما قيمته نصاب)
دليلنا: ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس: صاعا من تمر، أو صاعا من شعير، على كل حر وعبد، ذكر وأنثى» . ولم يفرق بين أن يكون واجدا للنصاب أو غير واجد.
وإن فضل معه نصف صاع.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه إخراجه، كما لو وجبت عليه رقبة، فلم يجد إلا نصفها.
والثاني: يلزمه، وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر.. فأتوا منه ما استطعتم» .
ولأنه لو ملك نصف عبد.. للزمه نصف فطرته، فكذلك إذا ملك نصف صاع.. لزمه إخراجه.
وإن كان معسرا حال الوجوب، ثم أيسر بعد ذلك.. لم يلزمه الإخراج، بل يستحب له. وقال مالك رحمة الله عليه: (يلزمه الإخراج إذا أيسر يوم الفطر) .
دليلنا: أنه لم يكن موسرا وقت الوجوب، فلم يلزمه إذا أيسر بعد ذلك، كما لو أيسر بعد يوم الفطر.

[مسألة: وجوب الفطرة على من تجب عليه النفقة]
] الفطرة تابعة للنفقة، فمن وجبت نفقته على شخص.. وجبت فطرته عليه، فإن كان له ابن صغير معسر، والأب موسر.. فنفقة الابن وفطرته على الأب، قال أصحابنا: وهذا إجماع.

(3/352)


وإن كان الابن صغيرًا موسرًا.. فنفقته وفطرته في ماله، وبه قال أبو حنيفة، وأبو يوسف.
وقال محمد بن الحسن: نفقته في ماله، وفطرته على أبيه.
دليلنا: أن نفقته في ماله، فكانت فطرته في ماله، كالأب.
وأما إذا كان له ابن ابن، أو ابن بنت صغير معسر.. لزم الجد نفقته وفطرته.
وقال أبو حنيفة: (لا يلزمه) .
دليلنا: أنه يطلق عليه اسم الولد.. فلزم الجد نفقته وفطرته، كولده الصغير من صلبه.
وأما الآباء والأجداد والأمهات والجدات: فمن كان منهم فقيرًا زمنًا.. فإن نفقته وفطرته على ابنه، أو ابن ابنه وإن سفل، وإن كان معسرًا صحيحا.. فهل تجب نفقته وفطرته على ابنه؟ فيه طريقان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: أنها على قولين.
والثاني: لا يلزمه، قولًا واحدًا، ويأتي توجيه ذلك في (النفقات) .
وأما الولد الكبير: فإن كان معسرًا زمنًا.. وجبت نفقته وفطرته على الأب أيضًا، وإن كان معسرًا صحيحا.. بني على الأقوال في وجوبها على الأب الصحيح:
فإن قلنا: لا تجب نفقته وفطرته، قولًا واحدًا.. فالابن البالغ الصحيح أولى أن لا تجب نفقته ولا فطرته. وإن قلنا: في الأب قولان.. ففي الولد البالغ الصحيح طريقان:
أحدهما: أنها على قولين.
والثاني: لا تجب، قولًا واحدًا. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (لا يجب عليه فطرة من لا ولاية له عليه، فلا تجب على الأولاد فطرة الوالدين، ولا تجب على الأب فطرة الابن البالغ بحال) .

(3/353)


دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ممن تمونون ". ولم يفرق، وروي عن علي كرم الله وجهه: أنه قال: (من جرت عليك نفقته، فأطعم عنه نصف صاع، من بر، أو صاعًا من تمر أو شعير) . ولا يعرف له مخالف.
فإن كان للوالد أو الولد عبد يحتاج إليه للخدمة.. وجبت نفقته وفطرته على من وجبت عليه نفقة مولاه وفطرته؛ لأنه تابع له.
وإن كان مستغنيًا عن خدمته.. كانت نفقة مولاه وزكاة فطرهما في قيمته، فيباع منه بقدر ذلك، فإن تعذر بيع جزء منه.. بيع جميعه.

[فرع: فطرة زوجة الأب]
] : إذا كان له أب يلزمه نفقته، وللأب زوجة.. فهل يلزم الابن فطرة الزوجة.. فيه وجهان، ذكرهما في " الإبانة " [ق \ 151] :
أحدهما: يلزمه كما يلزمه نفقتها.
والثاني: لا يلزمه، كما لا يلزم الأب. والأول أصح. وإن كان له ابن تلزمه نفقته، وللابن زوجة.. لم يلزم الأب فطرة الزوجة، كما لا يلزمه نفقتها.

(3/354)


[فرع: تطوع النفقة لا يلزم زكاة الفطر]
] : وإن تطوع رجل على إنسان بالنفقة.. لم يلزمه زكاة فطرته.
وقال أحمد رحمة الله عليه: (تلزمه زكاة فطره) .
دليلنا: أن من لا تلزمه نفقته، لا تلزمه فطرته، كما لو لم يتطوع عليه، وعكسه من يلزمه نفقته.

[فرع: وجوب فطرة العبد والأمة]
] : ويجب عليه فطرة عبده وأمته المسلمين.
وقال داود: (لا يجب على السيد، بل يجب على العبد، وعلى السيد أن يتركه ليكتسب ما يؤدي في الفطرة) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على كل حر وعبد» .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق، إلا صدقة الفطر في الرقيق» . فدل على وجوبها على السيد.
وروي عن أبي سعيد الخدري: أنه قال: «كنا نؤدي إذ فينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في زكاة الفطر عن كل حر وعبد، صاعا من طعام، أو صاعا من شعير، أو صاعا من تمر، أو صاعا من أقط، أو صاعا من زبيب» . فأخبر أنهم كانوا يؤدون عن العبيد، فدل على وجوبها على السيد.

(3/355)


وأما الجواب عن قوله: «على كل حر وعبد» : فمن قال من أصحابنا: إن زكاة العبد تجب على السيد.. قال معناه: عن كل حر وعبد، والعرب تستعمل (على) في موضع (عن) .
قال الشاعر:
إذا رضيت علي بنو قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها
وأراد: إذا رضيت عني.
ومن قال من أصحابنا: إن الزكاة تجب على العبد، ثم يتحملها السيد.. قال: يحمل هذا على الوجوب على العبد، وأما الأداء: فعلى السيد، بدليل حديث أبي سعيد الخدري.
إذا ثبت هذا: فحكم أم الولد والمدبر والمعتق نصفه.. حكم العبد القن؛ لأنه باق على ملكه.

[مسألة: زكاة العبيد]
] : قال الشافعي: (ويؤدي عن عبيده الحضور والغيب وإن لم يرج وجوعهم إذا علم حياتهم) .
قال الشيخ أبو حامد: إذا غاب له عبد، فأهل شوال، وهو يعلم حياته.. وجبت عليه زكاته، سواء كان آبقا أو غير آبق، وسواء كان يرجو عودته أو لا يرجو؛ لأن الزكاة تجب بسبب الملك، والملك موجود وإن لم يكن فيه منفعة، كالعبد الزمن.
وإن لم يعلم حياته.. فظاهر ما قاله الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هاهنا: (أنه لا يجب على السيد) .

(3/356)


وقال في موضع آخر: (يزكي عنهم وإن لم يعلم حياتهم) .
فاختلف أصحابنا فيه على طريقين:
فمنهم من قال: تجب عليه، قولًا واحدا، ولم يجعل لكلام الشافعي دليل خطاب.
ومنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: لا يجب عليه، كما لا يجب عليه زكاة ماله الغائب الذي لا يعلم سلامته.
والثاني: يجب عليه، وهو الصحيح؛ لأن الأصل فيه الحياة، ويخالف زكاة المال، لأنها لا تجب إلا في الأموال النامية، بدليل: أنها لا تجب في البغال والحمير، وهاهنا: تجب الزكاة لأجل الملك، والملك موجود.
وهكذا ذكر الشيخ أبو حامد، وأصحابنا البغداديون.
وذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": أنه إذا أبق له عبد.. فهل تجب زكاة فطرته؟ على طريقين، ولم يفصل بين أن يعلم حياته أو لا يعلم، وهي طريقة المسعودي [في " الإبانة " ق \ 152] .
فإذا قلنا: تجب زكاة عبده الغائب الذي لا يعلم حياته.. فهل يجب عليه إخراجها قبل أن يعود إليه؟ ذكر ابن الصباغ في " الشامل ": أن الشيخ أبا حامد حكى عن " الإملاء " قولين:
أحدهما: يجب.
والثاني: لا يجب حتى يعود إليه كالمال المغصوب.

(3/357)


قال ابن الصباغ: وهذا يبعد؛ لأن إمكان الأداء شرط في ضمان زكاة المال، والمال الغائب يتعذر فيه الأداء، وزكاة الفطر تجب عما لا يؤدى منه.

[فرع: زكاة المرهون والمغضوب]
فرع: [تؤدى زكاة المرهون والمغضوب] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويؤدي عمن كان مرهونا أو مغصوبا) .
وهذا كما قال: إذا كان له عبد مرهون.. فإنه يجب عليه زكاة فطره؛ لأن ملكه ثابت عليه.
وإن كان له عبد مغصوب.. فقال البغداديون من أصحابنا: يجب على السيد زكاة فطره، قولا واحدا؛ لبقاء الملك عليه.
وحكى في " الإبانة " [ق \ 152] : أن من أصحابنا من قال: في زكاته قولان، كالمال المغصوب.

[فرع: فيما لوملك العبد عبدا]
فرع: [فيما لو ملك العبد عبدا] : وإن ملك عبده عبدا، فإن قلنا: إنه يملك.. لم تجب زكاته على السيد، ولا على العبد، وإن قلنا: إن العبد لا يملك.. كانت زكاة فطرهما على السيد.

[فرع: زكاة المملوك لاثنين أو أكثر]
] : وإن كان بين اثنين، أو بين جماعة عبد مملوك.. وجب زكاة فطرته على الموالي، على كل مولى بحصته.
وقال أبو حنيفة: (لا تجب زكاة العبد المشترك على واحد) .
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يجب على كل واحد صاع) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على كل حر وعبد» . ولم يفرق بين أن يكون لواحد أو لأكثر، ولأن نفقته تجب عليهم على قدر أملاكهم، فكذلك زكاة فطرته.

(3/358)


[فرع: زكاة المبعض]
] : وإن كان نصفه حرا ونصفه عبدا.. وجبت زكاة فطرته عليه وعلى سيده.
وقال أبو حنيفة: (لا تجب عليه، ولا على سيده) .
وقال مالك رحمة الله عليه: (يجب على السيد نصف فطرته، ولا شيء على العبد) .
وقال عبد الملك بن الماجشون؛ يجب على السيد جميع فطرته.
دليلنا: ما ذكرناه في التي قبلها.
إذا ثبت هذا: فإن لم يكن بينه وبين السيد مهايأة.. فإن نصف كسبه له، ونصفه لسيده، وكذلك النفقة والفطرة، فإذا أهل شوال، فإن كان العبد يملك نصف صاع فاضلا عن نصف نفقته ليلة الفطر ويومه.. لزمه إخراجه، وإن لم يملك ذلك فاضلا عن نصف نفقته.. لم يجب عليه شيء، ويخرج المولى نصف صاع عنه.
وإن كان بينهما مهايأة.. فإن النفقة والكسب يدخلان فيها.
وأما زكاة الفطر: ففيها طريقان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 152] :
[الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان.
و [الثاني] : منهم من قال: لا يدخل فيها، قولا واحدا، وهي طريقة أصحابنا البغداديين؛ لأن المهايأة معاوضة كسب يوم بكسب يوم، والفطرة حق لله تعالى، فلا تصح المعاوضة عليها.
فعلى هذا: إذا أهل شوال في يوم السيد.. فعلى السيد نصف صاع فاضل عن نفقة السيد، وعن جميع نفقة العبد.
فإن كان العبد يملك نصف صاع.. لزمه إخراجه وإن لم يفضل عن نفقته؛ لأن نفقته في هذا اليوم على السيد، وإن كان يوم الفطر في حق العبد.. فعلى السيد نصف

(3/359)


صاع فاضل عن جميع نفقة نفسه ليلة الفطر ويومه لا غير؛ لأن نفقة العبد في هذا اليوم على نفسه، وعلى العبد نصف صاع فاضل عن جميع نفقته ليلة الفطر ويومه.

[فرع: فطرة العبد المقارض]
] : وتجب فطرة العبد الذي في يد العامل في القراض.
وقال أبو حنيفة: (لا تجب) .
دليلنا: أن ملكه ثابت عليه، فهو كما لو كان بيده.
وإن كان بيده عبد للتجارة.. وجبت عليه زكاة فطرته، وبه قال مالك رحمة الله عليه.
وقال أبو حنيفة: (لا تجب عليه) .
دليلنا: أنه شخص من أهل الفطرة، فوجبت زكاة فطرته، كما لو لم يكن للتجارة.

[فرع: فطرة الزوجة على زوجها]
] : ويجب على الرجل فطرة زوجته المسلمة، وبه قال مالك رحمة الله عليه.
وقال الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه: (لا يجب على الرجل زكاة زوجته) .
دليلنا: ما روي في حديث ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ممن تمونون "، ولأن كل معنى يتحمل بالملك والنسب.. جاز أن يتحمل بالزوجية، كالنفقة، أو نقول: لأنه ملك يستحق به النفقة، فجاز أن يستحق به الفطرة، كالملك، وفيه احتراز من عقد الإجارة.
وإن كانت الزوجة ممن يخدم مثلها نفسها في العادة.. لم يجب على الزوج أن يخدمها، فإن تطوع وأخدمها بخادم يملكه.. وجبت عليه زكاة فطرته؛ لأنه ملكه،

(3/360)


وإن كان لها خادم تملكه، وتراضيا على أنه يخدمها.. لم يجب على الزوج فطرته، ولا نفقته.
وإن كانت ممن لا تخدم نفسها في العادة.. وجب على الزوج أن يخدمها بخادم، وهو بالخيار: بين أن يشتري خادما ويتركه في خدمتها، وبين أن يكتري لها خادما.
وإن كان لها خادم مملوك لها، واتفقا على أنه يخدمها.. جاز، فإن اشترى خادما، وجعله في خدمتها.. وجب عليه فطرته؛ لأنه مملوكه، وإن اكترى لها خادما.. لم يجب عليه فطرته، وإن اتفقا على أن يخدمها مملوكها.. وجب على الزوج نفقته وفطرته.
وإن نشزت الزوجة.. لم تجب عليه فطرتها، ولا فطرة خادمها؛ لأن نفقتها تسقط، فسقط ما يتبعها.

[فرع: لا تجب الفطرة على غير مسلم]
] : ولا يجب عليه إلا فطرة مسلم، فإن كان لمسلم عبد كافر أو زوجة ذمية.. لم تجب عليه فطرتهما، وكذلك إذا كان له أب كافر، أو ابن كافر، بأن يسلم أحدهما، ويبقى الآخر على الكفر.
وقال أبو حنيفة: (تجب عليه فطرة عبده الكافر اعتبارا بحال المؤدي) .
فأما الزوجة: فلا تجب عليه فطرتها عنده، مسلمة كانت، أو كافرة.
دليلنا: ما روي عن ابن عمر: أنه قال: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقة الفطر من رمضان على الناس صاعا من تمر أو شعير على كل ذكر وأنثى، حر وعبد من المسلمين»
وقد روي في الخبر: «طهرة للصائم» . والكافر لا طهرة له.

(3/361)


فأما إذا كان العبد مسلما والسيد كافرا، مثل: أن يكون للكافر عبد كافر، فأسلم العبد، فقبل أن يزال ملكه عنه أهل شوال.. فهل يجب على السيد فطرته؟ إن قلنا: إن زكاة الفطر تجب على السيد.. لم يجب عليه هاهنا؛ لأنه ليس من أهل الوجوب.
وإن قلنا: إن الفطرة تجب على العبد، ثم يتحملها السيد.. وجب على السيد أداؤها هاهنا؛ لأن الوجوب كان على المسلم.

[مسألة: يؤدي الفقير بما زاد عن نفقته]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن لم يكن عنده بعد القوت ليومه إلا ما يؤدي عن بعضهم.. أدى عن بعضهم) .
وجملة ذلك: أنه إذا فضل عن قوته وقوتهم ليلة الفطر ويومه ما يؤدي عنهم لزمه أن يؤدي عنهم على ما مضى.
وإن لم يجد إلا ما يؤدي عن بعضهم.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال بظاهر كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأنه إذا فضل عنده صاع.. أخرجه عمن شاء منهم؛ لأن زكاة الكل واجبة عليه. قال شيخ أبو حامد في " التعليق ": وهذا ظاهر المذهب. ومنهم من قال: يخرجه عنهم جميعا. حكاه في " الإبانة " [ق \ 153] ، وهو غريب.
ومن أصحابنا من قال: يجب عليه أن يخرج أولا عن نفسه، ثم هو بالخيار في حق الباقين؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول» .

(3/362)


ومن أصحابنا من قال: يجب عليه أن يبدأ بفطرة نفسه، ثم بفطرة الزوجة؛ لأنها تجب بحكم المعاوضة، ثم بابنه الصغير؛ لأن نفقته ثبتت بنص القرآن، ثم بأبيه قبل أمه؛ لأنه لو كان الابن معسرا، لكان الأب ينفق عليه قبل أمه، ثم بأمه قبل الابن الكبير؛ لأن حالها آكد، ثم بالابن الكبير المعسر.
ومن أصحابنا من قال: يقدم الابن الكبير المعسر على الأب والأم؛ لأن النص ورد بنفقة الولد.
ومن أصحابنا من قال: تقدم الأم على الأب؛ «لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للذي قال: من أبر؟ قال: " أمك "، ثم عاد، فقال: " أمك " ثلاث مرات، ثم قال: ومن؟ قال: أباك»
ومن أصحابنا من قال: هما سواء، فيخرج عن أيهما شاء.

(3/363)


وقال أبو علي بن أبي هريرة: تقدم فطرة الأقارب على فطرة الزوجة؛ لأنه يقدر على إزالة سبب الزوجية بالطلاق، ولا يقدر على إزالة سبب القرابة.
ومنهم من قال: تقدم فطرة الزوجة على فطرة نفسه؛ لأنها تجب بحكم المعاوضة.

[فرع: ممن تطلب الفطرة ابتداء]
] : ومن وجبت فطرته على غيره.. فهل تجب على المؤدي ابتداء، أو على المؤدى عنه، ثم يتحملها المؤدي؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها وجبت على المؤدي ابتداء؛ لأنها تجب في ماله.
والثاني: أنها وجبت على المؤدى عنه؛ لأنها تجب لتطهيره، فإن أخرجها المؤدى عنه، مثل: أن تخرج الزوجة فطرتها من مالها، أو الأب أو الابن إذا كانا فقيرين وقت الوجوب، ثم اقترضا أو اكتسبا مالًا بعد الوجوب، وأخرجاه عن زكاة فطرهما، فإن أخرجوا ذلك بإذن المؤدي.. جاز، كما لو أخرج عنه زكاة ماله بإذنه، وإن كان بغير إذنه، فإن قلنا: إنها وجبت على المؤدي ابتداء.. لم يجز، كما لو أخرج عن غيره زكاة ماله بغير إذنه. وإن قلنا: إنها وجبت على المؤدى عنه ابتداء.. جاز.

[فرع: موسرة وزوجها معسر]
] : وإن كانت له زوجة موسرة، وهو معسر.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أحببت لها أن تخرجها، ولا يتبين لي أن يجب عليها) ، وقال في موضع آخر بعدها: (إذا زوج السيد أمته بعبد أو مكاتب أو حر معسر.. أن على السيد فطرتها) .
واختلف أصحابنا فيها:

(3/364)


فمنهم من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى، وجعلهما على قولين:
أحدهما: لا يجب على الحرة ولا على سيد الأمة، لأن المخاطب بها هو الزوج، فإذا أعسر، وعجز عنها.. لم يجب على غيره.
والثاني: يجب عليهما؛ لأن الفطرة كانت في الأصل واجبة على الحرة، وعلى سيد الأمة، وإنما انتقلت عنهما بالزوجية، فإذا لم يكن من انتقلت إليه عنها بالزوجية من أهل التحمل.. عادت إلى من كانت عليه.
ومن أصحابنا من قال: يُبنى ذلك على: أن الفطرة وجبت ابتداء على الزوج، أو على الزوجة، ثم يتحمل عنها الزوج، فإن قلنا: إنها وجبت ابتداء على الزوج.. لم يجب على الزوجة ولا على سيد الأمة. وإن قلنا: إنها وجبت على الزوجة.. لم يتحملها الزوج، ووجبت على الزوجة وعلى سيد الأمة؛ لأن الوجوب كان عليهما، والزوج يتحمل، فإذا عجز.. بقي الوجوب في محله.
وهذا القول يوافق الأول في الحكم، وإنما خالفه في السبيل؛ لأن الأول يقول: هما قولان أصليان، والثاني يقول: هما مبنيان.
وقال أبو إسحاق: بل المسألتان على ظاهرهما، فيجب على السيد، ولا يجب على الحرة الموسرة؛ لأن الحرة يجب عليها تسليم نفسها ليلًا ونهارًا، فانتقلت فطرتها عنها بغير اختيارها، والسيد لا يجب عليه تسليم الأمة ليلًا ونهارًا، وإنما يجب عليه بالليل لا غير، ولا يجب على الزوج نفقتها ولا فطرتها، فإذا تطوع السيد بتسليمها ليلًا ونهارًا.. لم يسقط عنه ما وجب عليه من النفقة والفطرة بذلك.

[مسألة: وقت دفع الفطرة]
] : ومتى تجب زكاة الفطر؟ فيه قولان مشهوران:
أحدهما - قاله في القديم -: (أنها تجب بطلوع الفجر من يوم الفطر) . وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وأبو ثور، وهي إحدى الروايتين عن مالك رحمة الله عليه؛

(3/365)


لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم» . وأراد به: يوم الفطر، فدل على أنه وقت الوجوب.
ولما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقة الفطر من رمضان» . والفطر منه يكون يوم الفطر.
ولأنه حق يتعلق بمال مخرج في يوم عيد، فتعلق باليوم، كالأضحية.
و [الثاني] : قال في الجديد: (يجب بغروب الشمس من آخر يوم من شهر رمضان) . وبه قال الثوري، وأحمد، وإسحاق، وهو الرواية الأخرى عن مالك رحمة الله عليه؛ لما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث» . فينبغي أن يجب ذلك على من أدرك جزءا من الصوم، ولما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: «فرض النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقة الفطر من رمضان» . والفطر منه إذا غابت الشمس من آخر يوم منه.
وحكى المسعودي في [" الإبانة " ق \ 115] قولا ثالثا غريبا: أنه لا تجب إلا بغروب الشمس، وبطلوع الفجر من يوم الفطر. وقال بعض أصحاب مالك: لا تجب إلا بطلوع الشمس من يوم الفطر. وهذا ليس بشيء؛ لما ذكرناه للقولين.
فإن تزوج امرأة أو رزق ولدا، أو اشترى رقيقا، فغربت الشمس ليلة الفطر، وهم عنده.. وجبت عليه زكاة فطرهم على القول الجديد.

(3/366)


وإن لم يطلع الفجر وهم عنده، فإن قلنا بقوله القديم.. لم يجب عليه زكاة فطرهم إلا إذا طلع الفجر، وهم عنده وإن لم يكونوا عنده عند غروب الشمس. وإن قلنا بالقول الثالث.. لم تجب عليه زكاة فطرهم، حتى تغرب الشمس ليلة الفطر، ويطلع الفجر من يوم الفطر وهم عنده.
وإن دخل عليه الوقت، وهم عنده، فماتوا قبل أن يتمكن من أداء الزكاة عنهم.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا تجب عليه زكاة فطرهم، كما لا تجب عليه زكاة المال إذا هلك المال قبل التمكن من أداء زكاته.
والثاني: يجب عليه، كما لو ظاهر من امرأته، ووجبت عليه الكفارة، ثم ماتت قبل أن يتمكن من تحصيل الرقبة، فإنها لا تسقط عنه.

[فرع: تعجيل زكاة الفطر]
] : ويجوز تقديم زكاة الفطر من أول شهر رمضان، ولا يجوز إخراجها قبل دخول شهر رمضان.
وقال أبو حنيفة: (يجوز) .
وقال أحمد: (يجوز إخراجها قبل يوم الفطر بيوم أو يومين، ولا يجوز قبل ذلك) .
دليلنا: أن الزكاة تتعلق بسببين: الصوم، والإفطار في آخر الشهر، فإذا وجد أحدهما.. جاز تقديمها على الآخر، ولا يجوز قبلهما، كزكاة المال: كما لو أراد أن يخرج زكاة المال قبل أن يملك النصاب.
والمستحب: أن يخرجها يوم العيد قبل الصلاة؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بزكاة الفطر أن تخرج قبل خروج الناس إلى الصلاة» .

(3/367)


فإن أخرجها بعد الصلاة يوم العيد وقبل خروج يوم الفطر.. لم يأثم، وإن أخرها عن يوم الفطر.. أثم بذلك، وإذا أخرجها بعد ذلك.. أجزأه.
وحُكي عن ابن سيرين، والنخعي: أنهما كانا يرخصان في تأخيرها عن يوم الفطر.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم» .
وروى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة.. فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة.. فهي صدقة من الصدقات» . فدل على ما قلناه.

[مسألة: مات بعد إهلال شوال]
] : وإذا مات رجل، وخلف عبدًا، ولا دين عليه:
فإن مات بعدما أهل شوال.. فإن زكاة فطرهما قد وجبت على السيد، فإن أخرجها الورثة من غيره، أو من أموالهم.. استقر ملكهم على العبد، وإلا بيع جزء من العبد، وأخرجت منه زكاة الفطر. وإن تعذر ذلك.. بيع جميعه، وأُديت زكاة فطرهما منه، وقسم باقي الثمن بين الورثة.
وإن مات بعدما أهل شوال، وعليه دين، وله مال سوى العبد.. فإن فطرة السيد، وفطرة العبد، والدين قد وجبت في ذمة السيد.
فإن اتسع المال للجميع.. قضى الجميع، وإن ضاق المال.. فإن فطرة السيد، والدين على ثلاثة أقوال:
أحدها: تقدم الفطرة؛ لأنها دين لله، فكان أحق بالتقديم.
والثاني: يقدم الدين؛ لأنه دين للآدمي، وهو شحيح.

(3/368)


والثالث: أنهما سواء؛ لتساويهما في الوجوب.
وأما فطرة العبد والدين: ففيهما طريقان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: هي كفطرة السيد مع الدين، على هذه الأقوال الثلاثة.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: تقدم فطرة العبد على الدين، قولًا واحدًا؛ لأنها تتعلق بالعين، والدين متعلق بالذمة.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا غلط؛ لأن فطرة العبد لا تتعلق أيضاُ بالعين، وإنما هي بالذمة.
فإن مات السيد قبل أن يهل شوال، وعليه دين:
فإن قلنا: إن الدين لا يمنع انتقال الملك إلى الورثة، وهو المذهب.. فإن فطرة العبد تجب على الورثة؛ لأنه ملك لهم، وكونه كالمرهون بالدين لا يمنع وجوب الفطرة، كما لو كان له عبد مرهون.
وإن قلنا بقول أبي سعيد الإصطخري، وأن الدين يمنع انتقال الملك إلى الورثة. ففيه وجهان:
[الأول] : قال الشيخ أبو حامد: لا تجب زكاة فطرة العبد على أحد؛ لأن الميت لا يجب عليه شيء، ولا تملكه الورثة.
و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: تجب زكاة فطره في تركة الميت؛ لأنه باق على ملكه.

[فرع: فطرة العبد الموصى به على من يملكه وقت الوجوب]
] : إذا أوصى رجل لرجل بعبد يخرج من ثلثه، فأهل شوال، ثم مات الموصى له.. فإن زكاة العبد على الموصي؛ لأنه على ملكه وقت الوجوب، وإن مات الموصي، ثم قبل الموصى له الوصية، ثم أهل شوال.. فإن زكاة العبد على الموصى له؛ لأنه على ملكه وقت الوجوب.

(3/369)


وإن مات الموصي، ثم أهل شوال قبل أن يقبل الموصى له الوصية:
فإن قلنا: برواية ابن عبد الحكم، عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أن الموصى له يملك الموصى به بنفس الموت) .. فإن فطرة العبد على الموصى له، سواء قبل أو لم يقبل؛ لأن الملك قد حصل له؛ لأنه وإن رد الوصية بعد هذا.. فإن الملك يحصل للورثة بنفس الرد.
وإن قلنا: إن الملك مراعى في الموصى به.. نظرت:
فإن قبل الموصى له بالعبد.. تبينا أنه ملكه بالموت، فيجب عليه زكاة العبد.
وإن لم يقبل.. تبينا أن ملكه انتقل إلى الورثة بالموت، فتكون زكاة العبد عليهم.
وإن قلنا: إن الموصى له لا يملك إلا بالموت والقبول.. ففيه وجهان حكاهما في " الإبانة " [ق \ 153] :
أحدهما - وهو طريقة أصحابنا البغداديين -: أن زكاة العبد تجب في تركة الميت؛ لأنه مبقى على ملكه وقت الوجوب.
والثاني: لا يجب على أحد؛ لأن الميت لا يمكن الإيجاب عليه.
فإن مات الموصي، ثم أهل شوال، ثم مات الموصى له قبل القبول:
فإن قلنا برواية ابن عبد الحكم.. فزكاة العبد في تركة الموصى له.
وإن قلنا: إنه مراعى، فإن قبل ورثة الموصى له الوصية.. تبينا أن الملك وقع لمورثهم بموت الموصي، فتكون فطرة العبد في تركة الموصى له، وإن ردوا.. تبينا أن الملك وقع لورثة الموصي بموته، فتكون فطرة العبد عليهم.
وإن قلنا: لا يملك إلا بالقبول.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو المشهور -: أنها في تركة الموصي.
والثاني: لا تجب على أحد.

(3/370)


وإن مات الموصي، ثم مات الموصى له قبل القبول، ثم أهل شوال:
فإن قلنا برواية ابن عبد الحكم.. كانت الفطرة هاهنا على ورثة الموصى له.
وإن قلنا: إن الملك مراعى.. نظرت:
فإن قبل ورثة الموصى له الوصية ... كانت الفطرة عليهم؛ لأن مورثهم ملك العبد بموت الموصي، ثم مات، وجاء وقت الوجوب وهو في ملكهم.
وإن لم يقبلوا، أو ردوا الوصية.. كانت الفطرة على ورثة الموصي.
وإن قلنا: إن الملك يحصل بالقبول.. فعلى الوجهين الأولين:
أحدهما: تجب في تركة الموصي.
والثاني: لا تجب على أحد.

[فرع: الوصية لرجل بالرقبة ولآخر بالمنفعة]
] : ذكر الشيخ أبو حامد: أن الشافعي قال في الأم [2/55] : (لو أوصى لرجل برقبة عبد، ولآخر بمنفعته، وقبلا الوصية، ثم أهل شوال.. فإن فطرة العبد على الموصى له بالرقبة؛ لأنها تتعلق بالرقبة، ومالك المنفعة كالمستأجر) .
قال ابن الصباغ: وهكذا ينبغي أن تجب النفقة عليه.
قلت: وقد حكى في " المهذب " في نفقته ثلاثة أوجه:
أحدها: تجب على الموصى له بالرقبة.
والثاني: أنها على الموصى له بالمنفعة.
والثالث: أنها في كسبه، فينبغي أن تكون زكاة فطره كنفقته.

[فرع: فطرة العبد في مدة الخيار]
] : إذا اشترى عبدًا، فأهل شوال في خيار المجلس أو الشرط:
فإن قلنا: إن المشتري يملك بنفس العقد.. فإن الفطرة تجب عليه، سواء اختار البيع أو فسخه بعد ذلك.

(3/371)


وإن قلنا: لا يملكه إلا بالعقد، وانقضى الخيار.. كانت الفطرة على البائع، سواء اختار البيع أو فسخه بعد ذلك.
وإن قلنا: إن الملك موقوف.. كانت الفطرة موقوفة أيضًا، فإن اختار البيع.. كانت الفطرة على المشتري، وإن فسخاه.. كانت الفطرة على البائع.

[فرع: وجوب الفطرة على أهل البادية]
] : زكاة الفطر واجبة على أهل البادية، وروي ذلك عن ابن الزبير.
وقال عطاء، والزهري، وربيعة رحمة الله عليهم: لا يجب عليهم.
دليلنا: عموم حديث ابن عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ ولأنه مسلم موسر بها.. فوجبت عليه، كأهل القرى.

[مسألة: ما يجب في صدقة الفطر]
] : الواجب في الفطرة: صاع من أي جنس كان من الطعام، وروي ذلك عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق، والحسن البصري، وأبو العالية، وأبو الشعثاء جابر بن زيد رحمة الله عليهم.
وقال أبو حنيفة: (الواجب من البر نصف صاع) ، وروي ذلك عن أبي بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وابن مسعود، وجابر بن عبد الله، وأبي هريرة، وابن الزبير، ومعاوية، وأسماء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
واختلفت الرواية فيه عن علي، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وقال ابن المنذر: لا يثبت ذلك عن أبي بكر، وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
وعن أبي حنيفة في الزبيب روايتان:
إحداهما: (صاع) .
والثانية: (نصف صاع) .

(3/372)


دليلنا: ما روي عن أبي سعيد الخدري: أنه قال: «كنا نخرج إذ فينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في زكاة الفطر صاعًا من طعام، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من أقط، عن كل صغير وكبير، حر أو مملوك، فلم نزل نخرجه حتى قدم معاوية المدينة، فكلم الناس على المنبر، فكان فيما تكلم به أن قال: إني أرى مدين من تمر الشام تعدل صاعًا من تمر، فأخذ الناس بذلك، وأنا لا أخرج إلا ذاك» .
ولأنها زكاة تتعلق بالحبوب، فاستوى فيها الحنطة والشعير، كالعشر.
إذا ثبت هذا: فالصاع: أربعة أمداد، والمد: رطل وثلث بالبغدادي، فصار خمسة أرطال وثلث رطل، وبه قال مالك، وأحمد رحمة الله عليهما.
وقال أبو حنيفة: (الصاع: أربعة أمداد، إلا أن المد رطلان، فتصير ثمانية أرطال) .
دليلنا: أن الرشيد لما حج.. جمع بين مالك رحمة الله عليه وأبي يوسف، فقال له مالك رحمة الله عليه: كم الصاع؟ فقال: ثمانية أرطال، فأحضر مالك أهل المدينة بصيعانهم، فمنهم من قال: حدثني أبي، عن جدي: أنه قال: دفع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الفطرة بهذا الصاع. ومنهم من يقول: حدثتني أمي، عن جدتي: أنها أخرجت الفطرة إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهذا الصاع، فعايروها، فوجدوها خمسة أرطال وثلثًا، فرجع أبو يوسف إلى قول مالك رحمة الله عليه.

(3/373)


قال ابن الصباغ: والأصل في الطعام الكيل، وإنما قدره العلماء بالوزن، لئلا تختلف المكاييل. ويبطل فيها النقل.

[مسألة: ما يجزئ من الأصناف في الفطرة]
واختلف أصحابنا في جنس المخرج في زكاة الفطر:
فقال عامتهم: لا يجزئه إلا من غالب قوت بلده، وإن كان يقتات دونه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم» . وغناهم إنما يحصل بقوت البلد. قال المحاملي: وهذا هو المذهب. ومن أصحابنا من قال: يجوز من كل قوت؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: «كنا نخرج صاعا من طعام، أو صاعا من أقط، أو صاعا من شعير، أو صاعا من تمر، أو صاعا من زبيب» . وأهل المدينة لم يكونوا يقتاتون ذلك كله، فدل على أنه يجوز التخيير.
وقال أبو عبيد بن حرب: الواجب من غالب قوت المخرج. واختاره الشيخ أبو حامد، قال: لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (وأي قوت كان الأغلب على رجل.. أدى منه) ، ولأنه لما وجب عليه أداء ما فضل من قوته.. وجب من غالب قوته.
ومن قال بالأول.. قال: أراد الشافعي: إذا كان الرجل يقتات غالب قوت البلد.
إذا ثبت هذا: فإن عدل عن قوت البلد، أو عن قوته، إلى قوت غيره، فإن كان الذي عدل إليه أعلى منه.. أجزأه.

(3/374)


وإن كان أدنى.. ففيه قولان:
أحدهما: يجزئه، وبه قال أبو حنيفة، وأبو إسحاق المروزي؛ لأن الخبر ورد بالتخيير.
والثاني: لا يجزئه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم» . والغنى لا يحصل بدون قوت البلد. ومن قال بهذا.. قال: أراد بالخبر: التمر لمن قوته التمر، والبر لمن قوته البر.
وقد اختلف في البر والتمر:
فقال قوم: البر أفضل.
وقال آخرون: بل التمر أفضل.
وإن كان في بلد قوتهم أجناس مختلفة، وهي كلها غالبة.. فالأفضل أن يخرج من أفضلها، ومن أيها أخرج.. جاز.
وقال أحمد رحمة الله عليه: (لا يجوز إلا من الأجناس الخمسة المنصوص عليها) .
دليلنا: أنه قوت معتاد، فأجزأ، كالخمسة المنصوص عليها.

[فرع: فيمن قوتهم الأقط]
وإن كان في موضع قوتهم الأقط.. فهل يجزئ؟ فيه طريقان:
[الطريق الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: لا يجزئه. قال الشيخ أبو حامد: وهو الأقيس؛ لأنه قوت لا تجب فيه الزكاة، فأشبه اللحم.

(3/375)


والثاني: يجزئه. قال: وهو الأشبه بالسنة؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
و [الطريق الثاني] : منهم من قال: يجزئه، قولا واحدا؛ لما ذكرناه.
فإذا قلنا: لا يجزئه الأقط.. لم يجزئه إخراج اللبن.
وإن قلنا: يجزئه إخراج الأقط.. فهل يجزئه إخراج اللبن؟
قال أصحابنا البغداديون: يجزئه إخراج اللبن مع وجود الأقط، ومع عدمه؛ لأنه أكمل منه، ويجزئه إخراج الجبن؛ لأنه مثله.
وذكر المسعودي [في " الإبانة " ق \ 154] : إذا قلنا يجزئه الأقط.. فهل يجزئه اللبن؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجزئه؛ لما ذكرناه.
والثاني: لا يجزئه؛ لأنه يدخر، وأما المصل: فلا يجزئه؛ لأنه لبن منزوع الزبد.

[فرع: فاقد القوت]
] : وإن كان في بلد لا قوت فيه.. أخرج من قوت أقرب البلاد إليه، ولا يجوز أن يخرج من جنسين، كما لا يجوز في كفارة اليمين: أن يكسو خمسة، ويطعم خمسة.
وإن كان عبد بين شريكين قوتهما مختلف.. ففيه ثلاثة أوجه:
[أحدهما] : قال أبو العباس: يخرجان من أدنى القوتين؛ لأنها لا تتبعض.
و [الثاني] : قال أبو إسحاق: يخرج كل واحد منهما نصف صاع من قوته؛ لأنه لا يتبعض ما وجب عليه.

(3/376)


و [الثالث] : من أصحابنا من قال: يعتبر قوت العبد أو قوت البلد الذي هو فيه؛ لأن ذلك يجب طهرة له، فاعتبر حاله.

[فرع: جواز الحب القديم لا المسوس]
] : ولا يجوز إخراج حب مسوس؛ لأن السوس قد أكل جوفه.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن أخرج من طعام قديم لم يتغير طعمه، إلا أن قيمته أقل من قيمة الحديث.. أجزأه؛ لأن القدم ليس بعيب) .
ولا يجوز إخراج الدقيق والسويق، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة، وأحمد رحمة الله عليهما: (يجوز) . وبه قال أبو القاسم الأنماطي من أصحابنا، وهذا ليس بصحيح؛ لأنه ناقص المنفعة، فلم يجز، كالخبز.
وبالله التوفيق

(3/377)