البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب قسم الصدقات]
والأموال على ضربين: ظاهرة، وباطنة:
فأما الباطنة: فهي الدراهم والدنانير، والركاز، وعروض التجارة، فيجوز لرب المال أن يفرق زكاتها بنفسه.
قال المحاملي: وهو إجماع، ويجوز أن يوكل من يخرج زكاتها، كما يجوز أن يوكل من يقضي عنه الدين، ويجوز أن يدفعها إلى الإمام؛ لأنه نائب عن أهل الصدقات.
وتفرقته بنفسه أفضل من دفعها إلى وكيله؛ لأنه على ثقة من تفرقته بنفسه، وعلى شك من تفرقة الوكيل.
وأما الأموال الظاهرة: فهي المواشي، والثمار، والزروع، وزكاة المعدن.
وفي زكاة الفطر وجهان:
أحدهما: أنها من الأموال الباطنة، فيكون حكمها ما ذكرناه.
والثاني: أنها من الأموال الظاهرة، وفي زكاة الأموال الظاهرة قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يجب دفعها إلى الإمام أو النائب عنه، فإن فرقها بنفسه.. أعاد) . وبه قال مالك، وأبو حنيفة - رحمة الله عليهما - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] الآية [التوبة: 103] ، ولأنه مال للإمام ولاية المطالبة فيه، فوجب دفعه إليه، كالجزية والخراج.
و [الثاني] : قال في الجديد: (يجوز لرب المال أن يفرقها بنفسه) . وهو

(3/389)


الصحيح؛ لأنها زكاة، فجاز لرب المال أن يفرقها بنفسه، كالأموال الباطنة.
فإذا قلنا بهذا: فهل الأفضل أن يفرق زكاتها وزكاة الأموال الباطنة بنفسه، أو يدفعها إلى الإمام؟ اختلف في ذلك أصحابنا:
فمنهم من قال: تفرقته بنفسه أفضل؛ لأنه على يقين من تفرقة نفسه، وعلى شك من تفرقة غيره.
ومنهم من قال: دفعها إلى الإمام أفضل، عادلًا كان أو جائرًا؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «سيكون بعدي أمور تنكرونها "، فقالوا: ما نصنع؟ فقال: " أدوا حقوقهم، واسألوا الله حقكم» .
وروى سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، قال: أتيت سعد بن أبي وقاص، فقلت: عندي مال أريد أن أخرج زكاته، وهؤلاء القوم على ما ترى، فقال: (ادفعها إليهم) فأتيت ابن عمر، وأبا هريرة، وأبا سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فكلهم قال مثل ذلك.
ولأن دفعه إلى الإمام يجزئه بلا خلاف، وتفرقته بنفسه مختلف فيه في إجزائه عنه، ولأن الإمام أعرف بحاجة المساكين.

(3/390)


ومن أصحابنا من قال: إن كان الإمام عادلًا.. فالدفع إليه أفضل؛ لأنه على يقين من أدائه إليه، وإن كان جائرًا.. فتفرقته بنفسه أفضل؛ لأنه ليس على يقين من أدائه.

[مسألة: بعث السعاة]
مسألة: [في بعث السعاة] : وعلى الإمام أن يبعث السعاة لقبض صدقة الثمار والزروع في الوقت الذي يوافي جداد الثمرة، وحصاد الزرع، ويبعث معهم من يخرص الثمار؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء الراشدين بعده كانوا يبعثون السعاة لقبض الصدقات.
ولا يبعث إلا حرًا، عدلًا، فقيهًا؛ لأن العبد والفاسق ليسا من أهل الولاية، والفقيه أعلم بما يأخذ.
وهل يجوز أن يكون هاشميًا أو مطلبيًا؟ فيه وجهان، بناء على الوجهين فيما يأخذه العامل، هل هو أجرة أو زكاة؟
فإن قلنا: إنه زكاة.. لم يجز؛ لأن الزكاة لا تحل لهم.
وإن قلنا: إنه أجرة.. جاز، كما يجوز استئجارهم على سائر الأعمال.
قال ابن الصباغ: فأما إذا تبرع الهاشمي أو المطلبي لقبض الصدقة من غير عوض يأخذه، أو دفع إليه الإمام الأجرة من بيت المال.. فيجوز أن يكون هاشميا أو مطلبيا وجهًا واحدا.
وأما مواليهم: فإن قلنا: يجوز للهاشمي والمطلبي أن يأخذ من الصدقة لكونه عاملا.. فمواليهم أولى بالجواز. وإن قلنا: لا يجوز للهاشمي والمطلبي.. ففي مواليهم وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «موالي القوم من أنفسهم» .
والثاني: يجوز؛ لأنهم لا يلحقون بشرف مواليهم.

(3/391)


[فرع: عطاء جابي الزكاة]
] : وإذا أراد الإمام بعث العامل.. فهو بالخيار بين أن يستأجره بأجرة معلومة، ويعطيه ذلك من الزكاة، وبين أن يجعل له جعلا، فإذا فرغ من العمل.. أعطاه جعله من سهم العامل في الزكاة.
ويبعث الإمام العامل لقبض زكاة غير الثمار والزروع في المحرم؛ لما روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال في المحرم: (هذا شهر زكاتكم) ، ولأنه أول السنة العربية، فكان البعث فيه أولى.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويستحب أن يخرج قبل المحرم بأيام؛ ليكون مع أول المحرم قد وصل إلى أرباب الأموال، وعرف عدد أهل السهمان، وقدر حاجتهم.. فلا يحتاج أن يشتغل بذلك في المحرم) .
وإذا أراد الساعي أن يعد الماشية، فإن كانت تأكل الكلأ، وترد الماء.. فإن الساعي يعدها على الماء؛ لأنه لا يكلف الساعي أن يتبعها المرعى، ولا يكلف رب المال ردها إلى فناء داره، فكان عدها على الماء أولى؛ لأن المشقة تزول عنهما بذلك.
وإن كانت الماشية تجتزئ بالحشيش الرطب عن الماء.. فإن الساعي يعدها في المساكن والموضع الذي تروح إليه ليلًا؛ لما روى عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تؤخذ صدقات المسلمين عند مياههم وأفنيتهم» .

(3/392)


وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا جلب، ولا جنب» .
فقيل: معنى قوله: " لا جلب " أي: لا يجب على أرباب المواشي جلبها إلى الساعي، حيث كان ليعدها.
ومعنى: " لا جنب " أي: لا يبعدونها عنهم.
وقيل إنما أراد بذلك في السبق، أي: لا يجلب على خيل السباق، بضرب الشيء اليابس، والصياح يستحث بذلك الفرس، و" لا جنب " أي: لا يكون له جنب في السباق.
وأما كيفية العد: فهو أن يضطر الماشية إلى جدار وجبل، حتى لا يكون لها إلا طريق ضيق ما تمر به شاة أو شاتان، ويزجرها من خلفها آخر، وبيد العاد عصا يعدها، حتى يأتي على آخرها.
فإن عدها وادعى أنه أخطأ.. أعاد. وإن كان رب المال ثقة، فأخبره بعددها.. جاز قبول قوله. وإن أبدل له رب المال الزكاة.. أخذها منه.
والمستحب: أن يدعو له؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103] [التوبة: 103] ، أي: ادع لهم.
والمستحب: أن يقول: اللهم صل على آل فلان؛ لما روي: «أن أبا أوفى

(3/393)


حمل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقة ماله، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اللهم صل على آل أبي أوفى» .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وأحب أن يقول: آجرك الله فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت، وجعله لك طهورا) . وبأي شيء دعا له.. جاز، وإن ترك الدعاء جاز.
وقال داود وأهل الظاهر: (يجب الدعاء) .
دليلنا: ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال لمعاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم» . ولم يأمره بالدعاء.
قال الشيخ أبو حامد: فإن دفع رب المال الصدقة إلى المسكين.. لم يستحب أن يدعو له؛ لأن ذلك إنما يستحب للساعي دون غيره.

[مسألة: غلول الصدقة]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن غل صدقته.. عزر إن كان الإمام عدلا، إلا أن يدعي الجهالة، فلا يعزر) . وهذا كما قال: المنع في الزكاة هو أن يمنع من دفعها.
و (الغل) في الزكاة: هو أن يخفي رب المال شيئا من ماشيته، حتى لا يراها الساعي، فإن أظهر عليه الساعي، فإن كان رب المال جاهلا بتحريم ذلك، مثل: أن كان حديث عهد بالإسلام.. فإنه يأخذ منه الزكاة، وينهاه ألا يعود إلى ذلك، فإن عاد إليه ثانيا.. عزره.

(3/394)


وإن لم يدع الجهالة، أو ادعى ولكن هو ممن لا يخفى عليه ذلك، مثل: أن يكون مجالسا للعلماء، أو نشأ في دار الإسلام، فإن كان الإمام جائرا يأخذ أكثر من حقه، أو يضعها في غير موضعها.. لم يعزره؛ لأن غله بتأويل.
فإذا أخذ هذا الإمام الزكاة منه.. فاختلف أصحابنا فيه:
فذهب أكثرهم: إلى أنه تسقط عنه الزكاة، وقد نص الشافعي: (أن الخوارج إذا غلبوا وأخذوا الصدقات.. أجزت) .
وحكى الجويني عن بعض أصحابنا أنها لا تجزئه وذكر في " الفروع ": هل يسقط الفرض عنه فيما بينه وبين الله عز وجل؟ فيه وجهان:
أحدهما: يسقط؛ لأنه لم يزل المتغلبون ومن لا يستحق الإمامة يقبضون الصدقات، فيعتد بها.
و [الثاني] : قال: والمذهب: أنها لا تسقط عنه فيما بينه وبين الله في الباطن.
وإن كان الإمام عدلا يأخذ قدر الزكاة، ويضعها في مواضعها.. فإنه يأخذ الزكاة من المانع والغال ويعذره على ذلك، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك، وأحمد: (تؤخذ من الزكاة وشطر ماله) . وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم. والصحيح هو الأول؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس في المال حق سوى الزكاة» . ولم يفرق بين أن يغلَّ أو لا يغلَّ.

[فرع: جواز توكيل الساعي من يقبض الزكاة]
] : فإذا بلغ الساعي إلى الموضع الذي قصده، فإن كان حول رب المال قد تم: قبض منه الزكاة ودعا له على ما مضى وإن كان لم يتم حوله: سأله هل يختار تعجيلها؟ فإن فعل قبض منه، وإن لم يفعل.. وكل الساعي ثقة يقبض منه الزكاة عند حولها ويفرقها في أهلها، وإن رأى أن يكتبها عليه دينا؛ ليأخذها مع زكاة العام القابل.. جاز؛ لما روي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخر الزكاة عن الناس عام الرمادة) .

(3/395)


وإن أراد أن يرجع في وقت حلولها ليقبضها.. فعل.
وإن اختلف رب المال والساعي.. نظرت:
فإن كان قول رب المال لا يخالف الظاهر، بأن قال الساعي: قد حال الحول على مالك، وقال رب المال: لم يحل عليه الحول، أو قال الساعي: كانت ماشيتك نصابا، ثم توالدت بعد النصاب، وقال رب المال: بل تمت نصابًا بتوالدها، أو قال الساعي: هذه السخال توالدت من غنمك، فهي في حولها، وقال رب المال: بل استفدتها من غيرها، وهي منفردة بالحول، أو قال الساعي: هذه السخال ولدت قبل الحول، وقال رب المال: بل ولدت بعد الحول.. فالقول قول رب المال في هذه المسائل مع يمينه، واليمين هاهنا مستحبة، فإن حلف.. سقطت عنه الزكاة، فإن نكل.. لم تجب عليه الزكاة؛ لأن قوله لا يخالف الظاهر، والزكاة مبنية على الرفق والمواساة، فلو أوجبنا فيها اليمين.. خرجت عن حد المواساة.
وإن كان قول رب المال يخالف الظاهر، مثل: أن يقول له الساعي: قد مضى على مالك حول، فقال رب المال: كنت قد بعته في أثناء الحول، ثم اشتريته، أو قال: قد أخرجت عنه الزكاة، وقلنا: يجوز له أن يفرق بنفسه.. فالقول قول رب المال مع يمينه، وهل تجب اليمين هاهنا، أو تستحب؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها مستحبة؛ لأنها لو كانت واجبة عليه إذا كان قوله يخالف الظاهر.. لوجبت عليه وإن كان قوله لا يخالف الظاهر، كالمودع.
فعلى هذا: لا تجب عليه الزكاة، حلف أو لم يحلف.
والثانيٍ: أن اليمين واجبة عليه؛ لأن قوله يخالف الظاهر.
فعلى هذا: إن حلف.. سقطت عنه الزكاة، وإن لم يحلف.. أُخذت منه الزكاة لا بنكوله، ولكن بالوجوب المتقدم.

(3/396)


وإن قال رب المال: هذا المال الذي في يدي وديعة، وقال الساعي: بل هو مالك ... ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: أن دعوى رب المال هاهنا تخالف الظاهر، فيحلف، وهل تستحب يمينه أو تجب؟ فيه وجهان.
والثاني: أن قوله لا يخالف الظاهر، فيستحب أن يحلف؛ لأن ما في يده قد يكون له، وقد يكون لغيره. والأول أصح؛ لأن الظاهر مما في يده أنه ملكه.

[فرع: متى يسم الساعي الصدقة]
] : إذا قبض الساعي الماشية في الزكاة، ولم يؤذن له في تفريقها في الحال ... فالمستحب له أن يسمها.
وقال أبو حنيفة: (يكره وسمها) .
دليلنا: ما روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسم إبل الصدقة» ولأنها تتميز بذلك.
إذا ثبت هذا: فموضع وسم الإبل والبقر في أفخاذها، وموضع وسم الغنم في آذانها؛ لأنه موضع يقل فيه الشعر، ويخف فيه الألم، فيكتب في ماشية الزكاة: زكاة، أو صدقة، وفي ماشية الجزية: جزية، أو صغار؛ لأن ذلك أسهل ما يمكن.

(3/397)


وإن أذن الإمام للساعي في تفرقتها ... فرَّقها على أهلها، ولا يجوز له بيعها؛ لأن أهل الزكاة أهل رشد، إذ لا ولاية عليهم، فلم يجز بيع مالهم بغير إذنهم.
فإن قبض نصف شاة، ولم يمكن نقلها ... باع ذلك.
وهكذا: إن وقف عليه شيء من الماشية، أو خاف أن تؤخذ منه قبل أن يوصلها إلى أهلها، أو إلى الإمام ... جاز له بيعها، ويوصل الثمن؛ لأن ذلك موضع ضرورة.
وإن تلف في يده شيء منها ... نظرت:
فإن كان بغير تفريط منه ... لم يجب عليه ضمانه، كالوكيل إذا تلف في يده مال موكله بغير تفريط.
وإن كان بتفريط بأن قصر في حفظها، أو عرف أهلها، أو أمكنه التفرقة عليهم، فأخر ذلك من غير عذر ... ضمن؛ لأنه فرط في ذلك.
وإن لم يبعث الإمام لقبض زكاة الأموال الظاهرة من غير عذر، فإن قلنا: بقوله الجديد: (أن لرب المال أن يفرق زكاتها) ... وجب عليه إيصال ذلك إلى أهله، وإن أخر حتى تلف المال
ضمن الزكاة. وإن قلنا: بقوله القديم: (وأنه يجب دفعها إلى الإمام) ... ففيه وجهان:
أحدهما - وهو المنصوص -: (أنه يلزمه تفرقتها) ؛ لأن ذلك حق وجب صرفه إلى المساكين، والإمام نائب عنهم، فإذا ترك النائب ... لم يترك من عليه الحق، كالدين.
والثاني: لا يجوز له تفرقتها؛ لأن ذلك مال للإمام فيه حق القبض ... فلم يجز لغيره تفرقته، كالجزية والخراج.

(3/398)


[مسألة: نية الزكاة عند دفعها]
] : ولا يصح أداء الزكاة إلا بالنية، وبه قال عامة الفقهاء.
وقال الأوزاعي: (لا يفتقر أداؤها إلى النية، كالدين) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] [البينة: 5] . فأخبر أن العبادة لا تصح إلا بالإخلاص، و (الإخلاص) : إنما هو النية، والزكاة من العبادات.
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى» .
ولأنها عبادة تتنوع فرضًا ونفلًا، فكان من شرطها النية، كالصلاة، والصوم، والحج.
إذا ثبت هذا: فالعبادات التي تفتقر إلى النية على ثلاثة أضرب:
ضرب: لا يجوز تقديم النية عليها، ولا تأخيرها عن ابتدائها، وهي: الطهارة، والصلاة، والحج.
وضرب: يجوز تقديم النية على ابتدائها، وهو الصوم، وهل يجب تقديمها على طلوع الفجر، أو يجوز بنيته مع طلوع الفجر؟ فيه وجهان، يأتي ذكرهما في (الصوم) .
وضرب: اختلف أصحابنا في جواز تقديم النية على ابتدائها، وهي الزكاة، والكفارات - قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في (الكفارة) : (وينوي مع التكفير أو قبله) والزكاة مثل الكفارة:
فمن أصحابنا من قال: يجب أن ينوي حال الدفع، وبه قال أصحاب أبي حنيفة؛ لأنها عبادة يدخل فيها بفعله، فلا يجوز تقديم النية على ابتداء الفعل فيها، كالصلاة، وفيه احتراز من الصوم.
وتأول هذا القائل قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أو قبله) : أنه أراد: أن ينوي قبله، ويستديم تلك النية إلى وقت الفعل.
ومنهم من قال: يجوز أن تتقدم النية على الدفع؛ لأن التوكيل يجوز في أداء

(3/399)


ذلك، وبنية غير مقارنة لأداء الوكيل، فلو قلنا: لا يجوز تقديم النية.. لأدى إلى إبطال التوكيل فيها.
ومحل النية: القلب، فإن نوى بقلبه، وتلفظ بلسانه.. فهو آكد، وإن نوى بقلبه، ولم يتلفظ بلسانه.. أجزأه، وإن تلفظ بلسانه، ولم ينو بقلبه.. ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\126] :
أحدهما: لا يجزئه، كسائر العبادات المفتقرة إلى النية.
والثاني: يجزئه؛ لأنها عبادة يجوز فيها النيابة، بخلاف الصوم والصلاة.
وأما كيفية النية: فإن نوى أن هذا زكاة مالي، أو صدقة مالي، أو فرض تعلق بمالي، أو هذا واجب علي، أو زكاتي.. أجزأه. وإن نوى أن هذا زكاة.. فذكر المسعودي [في " الإبانة " ق\126] : أنه لا يجزئه. وإن نوى أن هذه صدقة.. لم يجزئه؛ لأن الصدقة قد تكون نفلا، وقد تكون فرضا، فلم تصح بنية مطلقة.
وإن تصدق بجميع ماله، ولم ينو بشيء منه الزكاة.. لم يجزئه عن الزكاة.
وقال أصحاب أبي حنيفة: يجزئه استحبابا.
دليلنا: أنه لم ينو الفرض، فلم يجزه، كما لو صلى مائة ركعة بنية التطوع، فإنها لا تجزئه عن الفرض.
وإن تصدق ببعضه.. لم يجزه أيضا، وبه قال أبو يوسف.
وقال محمد بن الحسن.. يجزئه عن زكاة ذلك البعض.
دليلنا: ما ذكرناه فيما إذا تصدق بالكل.
وإن أخرج خمسة دراهم، ونوي بها الزكاة والتطوع.. قال ابن الصباغ: لم يجزه عن الزكاة، وكانت تطوعا، وبه قال محمد بن الحسن.
وقال أبو يوسف: يجزئه عن الزكاة.
دليلنا: أنه أشرك في النية بين الفرض والنفل، فلم يجزه عن الفرض، كالصلاة.

(3/400)


[فرع: دفع زكاة مالين حاضر وغائب]
] : وإن كان له من الدراهم نصاب حاضر، ونصاب غائب، فأخرج خمسة دراهم، ونوى أنها عن الحاضر أو الغائب، أو عن الغائب، إن كان سالما، وإن كان تالفا، فعن الحاضر.. أجزأه؛ لأنه لا يجب عليه تعيين المال المخرج عنه.
وإن نوى أنها عن الغائب، إن كان سالما، ولم ينو غير هذا، فإن كان سالما أجزأه. وإن كان تالفا.. قال في " الأم ": (لم يكن له أن يصرفه إلى زكاة غيره) ؛ لأنه عينها لذلك المال، فهو كما لو كان عليه كفارة، فأعتق عبدا عن كفارة أخرى عينها ليست عليه.. فإنها لا تجزئه عن التي عليه.
قال في " الأم ": (ولو دفع عشرة دراهم إلى الوالي متطوعا بدفعها، فقال: هذه عن مالي الغائب، فبان تالفا قبل الوجوب، فإن كان قد فرقها الوالي.. لم يرجع عليه بها، وإن كانت في يده رجع عليه بها) .
قال ابن الصباغ: وفي هذا نظر؛ لأنه إذا استحق الرجوع بها من الوالي.. استحقه من الفقراء، قال: وهذا محمول إذا شرط ذلك في الدفع.
وإن قال: هذه زكاة مالي الغائب، وإن كان سالما، أو تطوع.. لم يجزه عن الفرض وإن كان ماله سالما؛ لأنه لم يخلص النية للفرض.
وإن قال: إن كان مالي الغائب سالما.. فهذا عن زكاته، وإن لم يكن سالما.. فهو تطوع، فإن كان المال سالما.. أجزأه؛ لأنه لم يشرك بين النفل والفرض.

[فرع: الجزم في النية ضروري]
] : إذا كان له من يرثه، فأخرج خمسة دراهم، وقال: هذه زكاة ما ورثت عنه، إن كان قد مات، أو نافلة، فبان أنه قد مات.. لم يجزه؛ لأنه قد أشرك في النية بين الفرض والنفل، ولأنه بناه على غير أصل؛ لأن الأصل فيه الحياة.
وإن قال: هذه زكاة ما ورثت عنه، وكان قد مات.. لم يجزه أيضا؛ لأن الأصل فيه الحياة.

(3/401)


ولو باع مال مورثه قبل أن يعلم بموته، فبان أنه كان قد مات.. فهل يصح بيعه؟ فيه قولان:
أحدهم - وهو الصحيح -: أنه لا يصح؛ لأنه باع وهو متلاعب.
والثاني: يصح؛ لأنه بان أنه باع ما يملكه، والفرق بين الزكاة والبيع على هذا: أن الزكاة تفتقر إلى النية، فلذلك لم يصح، قولا واحدا، والبيع لا يفتقر إلى النية فلذلك صح في أحد القولين.

[فرع: وجوب نية المزكي ووكيله]
] : وإن وكل من يؤدي الزكاة عنه.. نظرت:
فإن نوى رب المال عند الدفع إلى الوكيل، ونوى الوكيل عند الدفع إلى المساكين.. أجزأه، وإن لم ينو واحد منهما، أو نوى الوكيل دون الموكل.. لم يجزه؛ لأن من عليه الفرض لم ينو، وإن نوى الموكل ولم ينو الوكيل.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: يجزئه، قولا واحدا؛ لأن التوكيل لما أجيز هاهنا.. أجزأت النية عند الاستنابة.
ومن أصحابنا من قال: فيه وجهان، بناء على الوجهين في جواز تقديم النية. والصحيح: أنه يجوز تقديمها.
قال ابن الصباغ: وإن أذن له أن يؤدي الزكاة عنه من مال الوكيل.. لم يجزه إلا بنية من الوكيل عند الدفع.

[فرع: كفاية نية المؤدي]
] : وإن دفع رب المال الزكاة إلى الإمام.. نظرت:
فإن نويا جميعا أو نوى رب المال دون الإمام.. أجزأه؛ لأنه قد نوى من وجبت الزكاة عليه.
وإن نوى الإمام دون رب المال، أو لم ينو واحد منهما.. ففيه وجهان:

(3/402)


أحدهما - وهو المنصوص -: (أنها تجزئ عن رب المال) ؛ لأن الإمام لا يأخذ إلا الواجب، فاكتفي بهذا عن النية.
والثاني - حكاه القاضي أبو الطيب، واختاره -: أنه لا يجزئه؛ لأن الإمام نائب عن الفقراء، فكما لا يصح الدفع إليهم إلا بالنية من رب المال، فكذلك إذا دفع إلى النائب عنهم.
وإن امتنع رب المال من دفع الزكاة، فأخذها الإمام منه قهرًا.. نظرت:
فإن نوى الإمام عند الأخذ.. سقطت الزكاة عن رب المال في الظاهر، وهل تسقط عنه فيما بينه وبين الله تعالى؟ فيه وجهان.
وإن أخذها الإمام من غير نية منه.. لم يسقط الفرض عن رب المال فيما بينه وبين الله تعالى، وهل يسقط عنه في الظاهر؟ فيه وجهان. حكى ذلك المسعودي [في " الإبانة " ق \ 126] .
وإن أخرج ولي اليتيم الزكاة عن اليتيم من ماله بغير نية.. لم يجزه، ووجب على الولي ضمانها؛ لأنه فرط في ذلك.

[مسألة: الصدقة والعشر والزكاة بمعنى]
] : قال الصيمري: كان الشافعي في القديم يذهب إلى: أن ما يؤخذ من المواشي يسمى صدقة لا غير، وما يؤخذ من الثمار والزرع يسمى: عشرا، وما يؤخذ من الذهب والورق يسمى: زكاة قال: فراعى ما عليه الناس في التسمية في الغالب، ثم رجع عنه، وقال: (الصدقة زكاة، والزكاة صدقة، والعشر زكاة وصدقة) .
إذا ثبت هذا: فإن كان رب المال هو الذي يفرق زكاة ماله بنفسه.. لم يعط العامل شيئا؛ لأنه لا عمل له.

(3/403)


ويجب أن يصرف جميع ما يوقف عليه إلى باقي الأصناف المذكورين في الآية، الموجودين في البلد، وهم: الفقراء، والمساكين، والمؤلفة قلوبهم، والمكاتبون، والغارمون، وفي سبيل الله، وابن السبيل، فإن أخل بصنف منهم.. ضمن نصيبه، وبه قال عمر بن عبد العزيز، والزهري، وعكرمة.
وذهبت طائفة: إلى أن ذكر الأصناف في الآية ليس للاستحقاق، وإنما هو على وجه التخيير، فإلى أي صنف منهم دفع.. جاز. ذهب إليه الحسن البصري، وعطاء، والضحاك، وسعيد بن جبير، ومالك، وأبو حنيفة، وروي ذلك

(3/404)


عن حذيفة، وابن عباس، إلا أن مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: (يدفع إلى أمسهم حاجة) .
وقال النخعي: إن كانت قليلة.. جاز دفعها إلى صنف واحد، وإن كانت كثيرة.. وجب صرفها إلى جميع الأصناف.
وقال أبو سعيد الإصطخري: يجوز صرف زكاة الفطر إلى ثلاثة من الفقراء أو المساكين أو غيرهم من الاصناف؛ لأنه يشق تفرقتها على جميع الأصناف.
وقال المزني، وأبو حفص بن الوكيل: يجوز صرف ما يؤخذ من الركاز إلى أهل الفيء. وهو قول أبي حنيفة.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60] [التوبة: 60] . فأضافها إليهم بلام التمليك، وعطف بعضهم على بعض بواو التشريك، فصار كما لو قال: هذه الدار لزيد وعمرو.
وإن كان الذي يفرق الزكاة هو الإمام.. لم يجز له أن يحرم واحدا من أصناف البلد من زكاة أهل البلد، ولكن له أن يدفع زكاة الرجل الواحد إلى الفقير الواحد، فالإمام في قسم جميع الصدقات كالرجل في قسم زكاة نفسه.
فإن أخذ الإمام من رجل زكاته، وكان الدافع مستحقا لأخذ الزكاة، فدفع الإمام

(3/405)


إليه زكاته بعينها.. أجزأه؛ لأن ذمته قد برئت بتسليمها إلى الإمام، وإنما رجعت إليه بسبب آخر.
فإن دفع رب المال زكاته إلى الساعي.. عزل الساعي ما يستحقه من الزكاة، ويفرق الباقي على باقي الأصناف إن كان الإمام قد أذن له في ذلك، وإن لم يأذن له الإمام في تفرقتها.. حملها إلى الإمام، فيقسمها على ثمانية أسهم: سهم للعامل، وهو أول ما يبدأ به؛ لأنه يأخذه عوض عمله، وغيره يأخذه مواساة. فإن كان ذلك وفق أجرته.. دفعه إليه، وإن كان أكثر من أجرته.. رد الفضل على باقي الأصناف، وقسمه بينهم. وإن كان أقل من قدر أجرته.. قال الشافعي: (يتمم له من سهم المصالح) .
قال: (ولو تمم له من حق سائر الأصناف.. لم يكن به بأس) .
واختلف أصحابنا في ذلك:
فذهب المزني وغيره من أصحابنا: إلى أنها على قولين:
أحدهما: يتمم من حقوق سائر الأصناف؛ لأنه يعمل لهم كالأجير الذي ينقل المال.
والثاني: يتمم من سهم المصالح؛ لئلا ينقص كل صنف مما قسم الله له.
ومن أصحابنا من قال: ليست على قولين، وإنما الإمام بالخيار: بين أن يتممه من سهم المصالح؛ لأن العامل يشبه الحاكم، وبين أن يتممه من حق سائر الأصناف؛ لأنه يشبه الأجير لهم.
ومنهم من قال: هي على اختلاف حالين:
فحيث قال: (يتمم من سهم المصالح) أراد: إذا كان قد فرق على سائر الأصناف، ثم وجد سهم العامل ينقص عن أجرته؛ لأنه يشق استرجاع ذلك منهم.
وحيث قال: (يتمم من حق سائر الأصناف) إذا بدأ بدفع سهم العامل قبل الأصناف.
ومنهم من قال: بل هي على حالين آخرين:

(3/406)


فالذي قال: (يتمم من سهم المصالح) إذا كانت أسهم الأصناف لا تفضل عن حاجتهم.
والذي قال: (يتمم من سهم الأصناف) إذا كانت تفضل عن حاجتهم.
والصحيح: أنها على قولين.
ويعطى العريف والحاشر من سهم العامل؛ لأنهم من جملة العمال، و (العريف) : من يعرف العامل إذا دخل البلد أهل الصدقات إن كان غريبا، و (الحاشر) : الذي يحشرهم إليه، أي: يستدعيهم.
وكذلك: إن احتاج العامل أن ينصب من يجبي الصدقات، ويحصي أهل السهمان، وقدر حاجاتهم.. فله أن ينصب من يقوم بذلك؛ لأنه لا يمكنه فعل ذلك كله بنفسه، ويعطيهم من سهمه.

[فرع: جلب الصدقات على أصحاب الأموال]
] : ومؤنة إحضار الماشية ليعدها على رب المال؛ لأنها للتمكن من الاسيفاء، وأجرة الحافظ للصدقة وناقلها، وأجرة البيت الذي تكون الصدقة فيه على أهل السهام، ويجوز أن يكون الحافظ والناقل هاشميا أو مطلبيا، وجها واحدا؛ لأنه أجير في الحقيقة.

(3/407)


وإن وجب على رب المال دراهم، أو طعام، فاحتيج إلى من يزن ذلك، أو يكيله.. فعلى من تجب أجرته؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو علي بن أبي هريرة: تجب على رب المال؛ لأن ذلك للإيفاء، والإيفاء واجب عليه.
و [الثاني] قال أبو إسحاق: تجب على أهل السهمان؛ لئلا يزاد على الفرض الذي أوجبه الله تعالى عليه.
فأما أجره من يكيل أو يزن للقسمة بين أهل السهمان: فإنها تجب عليهم، وجها واحدا.
فإن قبض العامل الصدقة، فتلفت في يده من غير تفريط.. قال صاحب الفروع: استحق أجرة عمله في بيت المال.

[مسألة: سهم الفقراء]
] : وسهم للفقراء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] الآية [التوبة: 60] .
و (الفقير) : إذا أطلق اسمه.. تناول الفقير والمسكين، وكذلك: إذا أطلق اسم المسكين.. تناول المسكين والفقير، وإذا جمع بينهما.. كان معنى أحدهما غير معنى الآخر.
فأما صفة الفقير: فنقل المزني، عن الشافعي في القديم: (الفقير: الزمن الضعيف الذي لا يسأل الناس) .

(3/408)


وقال في الجديد: (الفقير: هو الذي لا شيء له، زمنا كان أو غير زمن، سواء سأل أو لم يسأل) .
فقال البغداديون من أصحابنا: (الفقير) : هو الذي لا شيء له، أو له شيء لا يقع موقعا من كفايته، مثل: أن يحتاج كل يوم إلى عشرة دراهم، وهو يكتسب كل يوم ثلاثة أو أربعة سواء كان صحيحا أو زمنا، وسواء سأل أو لم يسأل، وإنما اختصر الشافعي العبارة عنه في القديم، وبسطها في الجديد؛ لأنه قد يسأل ولا يعطى، وقد يعطى من غير سؤال، وقد يكتسب الزمن، ولا يكتسب الصحيح.
وحكى المسعودي [في الإبانة \ ق\ 456] : أن من أصحابنا من قال: هل من شرط الفقير أن يكون متعففا عن السؤال؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يشترط؛ لما ذكرناه.
والثاني: يشترط؛ لأن حال المتعفف أشد.
إذا ثبت هذا: فكم يعطى الفقير من الزكاة؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول ابن القاص في " المفتاح " -: أنه يعطى قوت سنة له ولعياله؛ لأن الزكاة تجب في كل سنة، فاعتبر كفايته بها.
والثاني - وهو قول سائر أصحابنا وهو المنصوص للشافعي -: (أنه يعطى ما يخرجه من حد الفقر إلى الغنى، وهو ما تحصل به الكفاية على الدوام) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحل المسألة إلا لثلاثة: رجل تحمل حمالة، فحلت له المسألة حتى يصيبها، ثم يمسك، ورجل أصابت ماله جائحة، فاجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب سدادا من عيش، أو قواما من عيش، ورجل أصابته فاقة أو حاجة، حتى يشهد، أو يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: إن به فاقة وحاجة، فحلت له المسألة حتى يصيب سدادا من عيش، أو قواما من عيش، ثم يمسك» . فأجاز له المسألة إلى أن يصيب ما يسده.

(3/409)


وأما قوله: " ثلاثة من قومه " فعلى سبيل الاستظهار لا على سبيل الشرط.
فعلى هذا: إذا كان من عادته التعيش بالخمسة، أو بالعشرة.. أعطي ذلك لا غير، وإن كان من البزازين الذين لا يحسنون التجارة إلا بألف أو ألفين.. أعطي ذلك، وإن كان من أهل الضياع.. أعطي ما يشتري به ضيعة تكفيه غلتها على الدوام.
فإن عرف لرجل مال، فادعى أنه افتفر.. لم يقبل حتى يقيم البينة؛ لأنه قد عرف

(3/410)


غناه، وإن لم يعرف له مال، وادعى أنه فقير.. قبل قوله، ولا يكلف إقامة البينة؛ لأن الأصل في الناس الفقر، ثم يرزق الله تعالى.

[فرع: فيمن له كسب يكفيه]
] : إذا كانت له حرفة يكتسب بها ما يمونه ويمون عياله على الدوام.. فإنها تجري مجرى الغنى في المال في أنه لا تحل له الزكاة، وفي إيجاب نفقة قريبه الفقير المعسر عليه، وفي أنه لا تجب على قريبه الموسر نفقته؛ ولكنها لا تجري مجرى الغنى بالمال لإيجاب الحج عليه، ولا لقضاء الدين عليه.
وقال مالك: (يجوز أن يدفع إليه الزكاة، إذا كان فقيرا من المال وإن كان مكتسبا) .
وقال أبو حنيفة: (إذا لم يملك نصابا من المال.. جاز أخذ الزكاة) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا تحل الصدقة لغني، ولا لقوي مكتسب» ، ولأنه قادر على كفايته على الدوام، فأشبه الغنى بالمال.

(3/411)


إذا ثبت هذا: وجاء رجل يطلب الزكاة، وادعى أنه لا كسب له، فإن كان شيخا ضعيفا، أو شابا ضعيف البنية.. قبل قوله؛ لأن الظاهر من حاله يشهد له، وإن كان شابا قويا.. فهل يقبل قوله من غير يمين؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يقبل؛ لأن الظاهر أنه يقدر على الكسب.
والثاني: يقبل؛ لما روي: «أن رجلين سألا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزكاة، فصعد بصره إليهما، ثم صوبه، وقال: " أعطيكما بعد أن أعلمكما: أنه لا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب» . ولم يحلفهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والظاهر: أنهما كانا جلدين.

[مسألة: سهم المساكين]
] : وسهم للمساكين؛ للآية.
والمسكين - عندنا -: أحسن حالا من الفقير، وهو الذي له شيء يقع موقعا من كفايته، ولكن لا يكفيه، مثل: أن يحتاج كل يوم إلى عشرة، وليس عنده إلا ثمانية؟ أو تسعة، وبه قال جماعة من أهل اللغة.

(3/412)


وقال مالك، وأبو حنيفة وأصحابه، ومحمد بن مسلمة، وكثير من الفقهاء، وأهل اللغة: المسكين أمس حاجة من الفقير، وهو بصفة الفقير الذي ذكرناه، واختاره أبو إسحاق المروزي من أصحابنا.
دليلنا: أن الله تعالى قال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] [التوبة: 60] . فبدأ بالفقراء، والعرب تبدأ بالأهم فالأهم. لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتعوذ من الفقر» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كاد الفقر أن يكون كفرا» . وكان يقول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين» .

(3/413)


ولأن الفقير من لا ظهر له؛ لأن الفقار هو الظهر، ولهذا سمي سيف علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ذا الفقار؛ لأنه كان له ظهر.
إذا ثبت هذا فكم يعطى المسكين؟
على قول أبي العباس بن القاص: يعطى ما يتم به قوت السنة.
وعلى المنصوص: (يعطى ما تزول به حاجته، وتحصل به الكفاية على الدوام) .
وقال أبو حنيفة (إذا كان مالكا لنصاب من الأثمان.. لم يجز له أخذ الزكاة، وكذلك: إذا كان مالكا لقيمة نصاب، ويفضل عن مسكنه وخادمه.. لم يجز له أخذ الزكاة) .
وقال عمر، وعلي، وسعد بن أبي وقاص: (إذا ملك خمسين درهما.. لم تحل له الزكاة) . وهو قول الثوري، وأحمد، وابن المبارك. وقال الحسن: (لا يعطى من الصدقة من له أربعون درهما) .

(3/414)


دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحل المسألة إلا لثلاثة ". فذكر: " أو رجل أصابته فاقة، فحلت له المسألة، حتى يصيب سدادا من عيش، أو قواما من عيش» . ولم يفرق.
ولأنه غير قادر على كفاية على الدوام، فأشبه من لا يملك شيئًا.

[فرع: دعوى الفقير العيال]
] : وإن ادعى الفقير أو المسكين: أن له عيالا.. فهل يقبل قوله من غير بينة؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: يقبل، كما يقبل قوله: إنه غير مكتسب.
والثاني: ولم يذكر في " المهذب " غيره: أنه لا يقبل؛ لأنه يمكنه أن يقيم البينة على العيال، بخلاف الاكتساب.

[مسألة: سهم المؤلفة]
] : وسهم للمؤلفة، والمؤلفة: صنف من أهل الصدقات؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 60] [التوبة: 60] .
وإنما سموا مؤلفة؛ لأنهم يتألفون بالعطاء، وتستمال قلوبهم بذلك.
وهم ضربان: مسلمون وكفار.
فأما الكفار: فضربان:
أحدهما: قوم لهم شرف وسؤدد وطاعة في الناس، وحسن نية في الإسلام، فيعطون استمالة لقلوبهم، وترغيبا لهم على الإسلام، كصفوان بن أمية، وعامر بن الطفيل.
والضرب الثاني: قوم من الكفار لهم قوة وشوكة، وإذا أعطاهم الإمام مالا.. كفوا

(3/415)


شرهم عن المسلمين وإذا لم يعطهم.. قاتلوا المسلمين، وأضروا بهم، وقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعطي هذين الضربين من خمس الخمس، ولا خلاف أنهم لا يعطون من الزكاة؛ لأنهم كفار، وهل يعطون اليوم من خمس الخمس؟ فيه قولان:
أحدهما: يعطون لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أعطاهم، ولأنه قد يوجد المعنى الذي كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعطيهم لأجله.
والثاني: لا يعطون؛ لأن عمر وعثمان وعليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لم يعطوهم، وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (إنا لا نعطي على الإسلام شيئا، فمن شاء فليؤمن ومن شاء.. فليكفر) . وأما إعطاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهم: فلأن خمس الخمس كان ملكا له، يفعل فيه ما شاء.
وأما مؤلفة المسلمين: فعلى أربعة أضرب:
أحدها: قوم لهم شرف وسؤدد، ولهم نظراء من قومهم كفار، إذا أعطوا هؤلاء.. رغب نظراؤهم في الإسلام، مثل: الزبرقان بن بدر، وعدي بن حاتم.
والثاني: قوم لهم شرف وطاعة، أسلموا ونياتهم في الإسلام ضعيفة، فيعطون

(3/416)


لتقوى نياتهم، و: «قد أعطى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، والأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، كل واحد منهم مائة من الإبل، وأعطى العباس بن مرداس أقل من مائة، فاستعتب، فتمم له المائة» . فيحتمل ذلك تأويلين:
أحدهما: أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظن أن نيته أقوى من نيات أصحابه في الإسلام، فنقصه، فلما استعتب.. بان أنه بخلاف ذلك، فتمم له المائة.
والثاني: يحتمل أن يكون العباس خشي أن يلحقه النقص في أعين الناس إذا نقص عن عطية نظرائه، فاستعتب لذلك.
وهل يعطى هذان الفريقان بعد موت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يعطون؛ لأن الله تعالى قد أعز الإسلام، فأغنى عن التألف بالمال.
والثاني: يعطون؛ لأنه قد يوجد المعنى الذي أعطاهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأجله.
فإذا قلنا: بهذا: فمن أين يعطون؟ فيه قولان:
أحدهما: من سهم المؤلفة من الزكاة؛ للآية.
والثاني: من سهم المصالح؛ لأن في ذلك مصلحة.

(3/417)


والضرب الثالث: قوم من المسلمين في طرف بلاد الإسلام، ويليهم قوم من الكفار، فإن أعطاهم الإمام مالا.. قاتلوهم ودفعوهم عن المسلمين، وإن لم يعطهم.. لم يقاتلوهم، واحتاج الإمام إلى مؤنة ثقيلة في تجهيز الجيوش إليهم.
الضرب الرابع: قوم من المسلمين، ويليهم قوم من المسلمين عليهم صدقات، ولكن لا يؤدونها إلا خوفا ممن يليهم من المسلمين، فإن أعطاهم الإمام شيئا.. جبوا صدقات من يليهم، وأدوها إلى الإمام، وإن لم يعطهم الإمام شيئا.. احتاج الإمام إلى مؤنة ثقيلة ليجهز من يجبيها منهم.
فهذان الضربان يعطون بلا خلاف على المذهب، ومن أين يعطون؟
فيه أربعة أقوال:
أحدها: من سهم المصالح؛ لأن ذلك مصلحة.
والثاني: من سهم المؤلفة في الزكاة؛ للآية.
والثالث: من سهم سبيل الله تعالى؛ لأنهم في معنى المجاهدين.
والرابع: أنهم يعطون من سهم سبيل الله تعالى ومن سهم المؤلفة؛ لأنهم جمعوا معنى الصنفين.
واختلف أصحابنا في هذا القول على ثلاثة أوجه:
ف [الأول] : منهم من قال: إنما ذلك إذا قلنا: إن الشخص الواحد إذا جمع سببين من أسباب الصدقات.. أعطي بهما، فأما إذا قلنا: لا يعطى إلا بأحدهما.. لم يعط هؤلاء إلا من سهم أحد الصنفين.
و [الثاني] : منهم من قال: يعطون من السهمين على القولين؛ لأن القولين فيمن يأخذ الزكاة لحاجته إلينا. فأما هؤلاء: فإنهم يأخذون لحاجتنا إليهم، فأعطوا منها، قولا واحدا.
و [الثالث] : منهم من قال: لم يرد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يجمع لهم من السهمين، وإنما أراد: أن من يقاتل الكفار.. يعطون من سهم سبيل الله، ومن يجبي الصدقات من المسلمين.. يعطون من سهم المؤلفة. هذا مذهبنا.

(3/418)


وقال مالك، وأبو حنيفة: (قد سقط سهم المؤلفة، فلا سهم لهم) .
دليلنا: الآية، فإن ادعى رجل: أنه من المؤلفة.. فأمرهم ظاهر، ولا يعطى حتى يثبت أنه منهم.

[مسألة: سهم الرقاب]
] : وسهم للرقاب؛ للآية.
و (الرقاب) : هم المكاتبون، فيعطون من الزكاة ما يؤدونه في الكتابة، وبه قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، وسعيد بن جبير، والليث، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه.
وذهبت طائفة: إلى أن الرقاب هاهنا العبيد، فيشترى بسهمهم من الصدقات عبيد، ويعتقون. ذهب إليه من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم: ابن عباس، ومن التابعين: الحسن، ومن الفقهاء: مالك، وأحمد وأبو عبيد، وأبو ثور رحمة الله عليهم.
وقال الزهري: يقسم ذلك نصفين: نصفا يدفع إلى المكاتبين، ونصفا يشترى به عبيد ممن صلى وصام، وقدم إسلامهم، فيعتقون.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] [التوبة: 60] .

(3/419)


فأمر بوضع الصدقة في الرقاب، وهذا إنما يصح على قولنا؛ لأن الصدقة تدفع إليهم، وتوضع فيهم، فأما على قولهم: فإنما تدفع إلى سادتهم لا إليهم.
إذا ثبت هذا: فإن كان مع المكاتب ما يفي بمال الكتابة.. لم يعط شيئا من الزكاة؛ لأنه لا حاجة به إليه.
وإن لم يكن معه شيء، وقد حل عليه نجم.. أعطي ما يؤدي فيما عليه.
وإن لم يكن معه شيء، ولم يحل عليه نجم.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يعطى؛ لأن الدين غير لازم له، فلا حاجة به إلى ما يعطاه.
والثاني: يعطى؛ لأن النجم يحل عليه، والأصل: عدم المال معه.
فإن دفع من عليه الزكاة إلى السيد بإذن المكاتب.. جاز، وإن دفع إليه بغير إذن المكاتب.. لم يجز، وإن دفع إلى المكاتب بإذن السيد، أو بغير إذنه.. جاز.
وإن دفع إلى المكاتب شيء من الزكاة، وأراد أن يصرفه في غير مال الكتابة.. قال ابن الصباغ: منع منه؛ لأن القصد إعتاقه، فلا يحوز له تفويته، فإن أراد المكاتب أن يتجر به؛ ليحصل بذلك الوفاء بما عليه.. لم يمنع منه؛ لأنه يتوصل به إلى أداء ما عليه، فإن دفع إليه شيئا فأعتقه السيد، أو تبرع عليه أجنبي، فأدى عنه، أو عجز نفسه، فإن كان المال باقيا في يد المكاتب.. قال أصحابنا البغداديون: إن لرب المال أن يسترجع منه ما أعطاه؛ لأن المقصود العتق، ولم يحصل، وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\ 457] في ذلك قولين:
أحدهما: له أن يسترجع منه؛ لما ذكرناه.
والثاني: ليس له أن يسترجع منه؛ لأنه قد كان مستحقا له حين الأخذ.
وإن قبض السيد منه ذلك، ثم أعتقه.. فالذي يقتضيه المذهب: أنه لا يسترد من السيد؛ لاحتمال أنه قد كان أعتقه للذي قد قبضه منه، وإن عجزه المولى.. ففيه وجهان:

(3/420)


أحدهما: لا يسترد من السيد؛ لأنه كان مستحقا له وقت الأخذ.
والثاني: يسترجع منه؛ لأن العتق لم يحصل له.
وإن ادعى المكاتب أنه مكاتب، وأنكر السيد: فإن أقام بينة.. حكم له بصحة الكتابة، وأعطي من الزكاة؛ لأنه قد ثبت أنه مكاتب، وإن لم يقم بينة.. حلف السيد، ولم يعط من الزكاة؛ لأنه لم تثبت كتابته، وإن صدقه السيد على الكتابة.. ففيه وجهان:
أحدهما يعطى؛ لأن السيد أقر على نفسه، فقبل.
والثاني: لا يعطى؛ لاحتمال أن يكون قد واطأ السيد، ليعطى من الزكاة.

[مسألة: سهم الغارمين]
] : وسهم للغارمين؛ للآية.
والغارمون ضربان: ضرب ادانوا لمصلحة ذات البين، وضرب ادانوا لمصلحة أنفسهم.
فأما الذين ادانوا لمصلحة ذات البين: فضربان:
[الأول] : ضرب تحملوا مالا في دم مقتول بأن يوجد قتيل بين قريتين، فادعى أولياؤه على أهل قرية: أنهم قتلوه، فأنكروا، فخيف إراقة الدماء والشر بينهم بسببه، فجاء رجل، فتحمل ديته لوليه في ذمته، واستدان من غيره، ودفع إليه، فهذا يجوز

(3/421)


له أخذ الزكاة من سهم الغارمين مع الغنى أو الفقر.
فأما إذا دفع من ماله: فليس بغارم؛ لأنه لا يسمى بعد القضاء: غارمًا.
والأصل فيه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو العامل عليها، أو غارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل له جار مسكين، فتصدق على المسكين، فأهدى المسكين إليه» .
فأما إذا تحمل في غير القتل، بل بذهاب المال، قال الشيخ أبو حامد: بأن توجد بهيمة متلفة، فخيف وقوع الفتنة بسببها، فتحمل رجل قيمتها لمالكها، واستدان، ودفع.. فله أن يأخذ من سهم الغارمين مع الفقر، وهل له أن يأخذ منها مع الغنى؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يأخذ؛ لأنه إنما أخذ في الدم؛ لحرمة الدم، وهذا لا يوجد في غيره.
والثاني: له أن يأخذ؛ للآية والخبر، ولأنه غرم لإصلاح ذات البين، فأشبه إذا تحمل دية مقتول.

(3/422)


وإن جرى بين اثنين خصومة في مال بدين، فبادر رجل، وضمن ذلك الدين عمن هو عليه بإذنه، فإن كان الضامن والمضمون عنه فقيرين.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 457] : فله أخذ الصدقة. وإن كان المضمون عنه موسرًا.. فليس للضامن أخذ الصدقة، بل يرجع على المضمون عنه. وإن كان المضمون عنه فقيرًا، والضامن موسرًا.. فهل له أخذ الصدقة؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق\ 457] . الأصح: له ذلك.
و [الضرب الثاني] : أما من غرم لمصلحة نفسه: فإن استدان لطاعة الله، أو مباح.. فله أن يأخذ مع الفقر، وهل له أن يأخذ مع الغنى؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يأخذ، وهو الصحيح؛ لأنه يأخذ ذلك لحاجته إلينا، فلم يأخذ مع الغنى، كالفقراء والمساكين.
والثاني: يأخذ مع الغنى؛ لأنه غارم في غير معصية، فأشبه الغارم لذات البين. وإن استدان لمعصية، فإن كان مقيما على المعصية.. لم يعط، غنيًا كان أو فقيرًا؛ لأن في ذلك إعانة على المعصية، وإن كان قد تاب من المعصية.. لم يعط مع الغنى، وهل يعطى مع الفقر؟ فيه وجهان:
أحدهما: يعطى؛ لأنه قد تاب منها.

(3/423)


والثاني: لا يعطى؛ لأنه لا يؤمن أن يعاودها.
إذا ثبت هذا: فكل من ذكرناه من الغارمين: أنه يعطى مع الغنى، فإن كان يملك عروضًا بلا نضوض.. فله أخذ الزكاة مع غناه بالعروض، وإن كان يملك نضوضًا.. فهل له أخذ الزكاة مع غناه بالنضوض؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\ 458] :
أحدهما: له ذلك، كما له أخذها إذا كان غنيًا بالعروض.
والثاني: ليس له ذلك. والفرق بينهما: أنه يحتاج إلى العروض، وهي الأثاث والضياع للتجمل، إذ هي أملاك ظاهرة، فأما النضوض: فلا يحتاج إليها؛ لأن مروءته لا تذهب بذهابها، وهو غني بها، فلزمه قضاء الدين بها. والأول أصح.

[فرع: ضامن الدية من الغارمين]
] : قال الصيمري: إذا ضمن الرجل دية مقتول عن قاتل غير معروف.. أُعطي مع الفقر والغنى، وإن ضمن الدية عن قاتل معروف.. أُعطي مع الفقر، ولا يعطى مع الغنى، ولا يعطى الغارم إذا كان الدين مؤجلا قبل حلول الأجل.

[فرع: دين الميت من الغارمين]
] : إذا مات رجل، وعليه دين، ولا تركة له.. فهل يجوز قضاؤه من سهم الغارمين؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول الصيمري -: أنه لا يجوز؛ وهو قول النخعي، وأبي حنيفة، وأحمد رحمة الله عليهم؛ لأن المزكي يحتاج أن يملك المعطى، ولا يمكن هاهنا.

(3/424)


والثاني - وهو قول الشيخ أبي نصر في " المعتمد " -: أنه يجوز؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى الغارمين [التوبة: 60] . ولم يفرق بين الحي والميت.
ولأنه يجوز التبرع بقضاء دينه فجاز له قضاء دينه من الزكاة، كالحي.

[فرع: دين المعسر زكاة]
] : وإن كان لرجل على معسر دين، فأراد من له الدين أن يحتسب بدينه عليه من زكاته.. ففيه وجهان:
أحدهما - وبه قال القاضي أبو القاسم الصيمري -: أنه لا يجوز، وهو قول أبي حنيفة، وأحمد رحمة الله عليهما؛ لأن ذمته قد اشتغلت بالزكاة، فلا تبرأ ذمته إلا بأن يقبض ذلك منه.
والثاني - وهو قول الشيخ أبي نصر في " المعتمد " - أنه يجوز، وهو قول الحسن البصري، وعطاء؛ لأنه لو دفعه إليه، ثم رده إليه.. جاز، فكذلك إذا لم يقبضه منه، كما لو كانت له عنده وديعة، ودفعها عن الزكاة إليه.. فإنه لا فرق: بين أن يقبضها منه، وبين أن يحتسبها من زكاته من غير إقباض. والأول أظهر.
إذا ثبت هذا: فإن دفع الزكاة إلى الفقير بشرط أن يقبضه إياها.. لم يصح الدفع، وإن نويا ذلك بأنفسهما.. لم يضره.

[فرع: ادعاء الغرم]
] : وإن جاء رجل، وادعى: أنه غارم، فإن كان لذات البين.. فأمره ظاهر، فلا يقبل حتى يقيم البينة، وإن كان لمصلحة نفسه، فإن أقام البينة على ذلك.. أُعطي، وإن لم يقم البينة، ولكن صدقة من له الدين.. فهل يعطى؟ فيه وجهان، كالوجهين في المكاتب إذا صدقه سيده.

(3/425)


[مسألة: سهم سبيل الله]
] : وسهم في سبيل الله؛ للآية.
وسبيل الله - عندنا -: هم المجاهدون الذين يغزون إذا نشطوا، دون المرتزقة المرتبين في ديوان السلطان، وبه قال مالك، وأبو حنيفة رحمة الله عليهما.
وقال أحمد: (سبيل الله هو الحج) .
دليلنا: أن كل موضع ذكر سبيل الله عز وجل، فإنه يعقل منه المجاهدون، دون الحج، فوجب حمل الآية على ذلك.
فإن أراد رجل من المرتزقة المرتبين أن يصير من أهل الصدقات الذين يغزون إذا نشطوا.. جعل منهم. وإن أراد رجل من أهل الصدقات أن يصير من المرتزقة.. لم يعط من الصدقة، وأُعطي من الفيء، ولا حق للمرتزقة في سهم الصدقات؛ لأن أرزاقهم يأخذونها من الفيء.
فإن كان رجل منهم عاملًا على الصدقة.. فهل يعطى منها؟ فيه وجهان:
[الأول] : إن قلنا: إن ما يأخذه العامل زكاة.. لم يعط.
و [الثاني] : إن قلنا: أجرة.. أعطي.
وإن احتاج المسلمون إلى من يعينهم في أمر الكفار، ولا مال في بيت المال، وفيه الصدقة.. ففيه قولان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق\ 458] :
أحدهما: لا يجوز صرف الصدقة إلى المرتزقة؛ لأن أهلها والمرتزقة متغايران.

(3/426)


والثاني: يصرف إليهم من سهم سبيل الله تعالى؛ لأن الله تعالى جعله للغزاة، والمرتزقة غزاة.
إذا ثبت هذا: فإن الغازي يُعطى مع الفقر والغنى، وحكى في " المعتمد ": أن أبا حنيفة قال: (لا يأخذ مع الغنى) . وكذلك قال في الغارم لإصلاح ذات البين.
دليلنا: ما روى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة» . فذكر: لغارم أو لغاز.
ويُعطى الغازي ما يحتاج إليه للسلاح، والفرس، والخادم إن كان فارسًا، وحمولة له تحمله إن كان سفره تقصر فيه الصلاة، وهل يشترى له السلاح والفرس والحمولة، ويدفع إليه، أو يدفع له ثمنه؟ فيه وجهان:
أحدهما: - وهو قول المسعودي في " الإبانة " ق\ 459]-: أن الإمام بالخيار: بين أن يشتري له ذلك، ويملكه إياه، وبين ألا يملكه ذلك، بل يسلبه في سبيل الله، وإن شاء استعار له، أو استأجر له.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق المروزي -: أنه لا يشتريه الإمام، ولكن يُعطي الغازي ما يخصه، ويشتري هو بنفسه.
قال القاضي أبو الطيب: وعلى هذا: إن استأذن الإمام الغازي ليشتري له ذلك من الصدقة.. جاز، ويدفع إليه نفقة ذهابه وإقامته في الغزو ورجوعه، وكم يُعطى من النفقة؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\458] :
أحدهما: ما زاد على نفقة الحاضر، لأجل السفر؛ لأن نفقة الحاضر تجب في ماله.
والثاني: جميع النفقة.
قلت: وهذان الوجهان كالوجهين في قدر نفقة عامل القراض، إذا قلنا: تجب له

(3/427)


النفقة في مال القراض، فإن دفع إلى الغازي مال ولم يغز.. استرجع منه؛ لأنه ليس بغاز. وإن غزا وقتر على نفسه، فرجع ومعه بقية مما دفع إليه.. لم يسترجع منه، كما لو دفع إلى فقير قدر كفايته، فقتر على نفسه حتى حصل فيه فضل.. فإنه لا يسترجع منه.

[مسألة: سهم ابن السبيل]
] : وسهم لابن السبيل؛ للآية.
و (ابن السبيل) : هو المنشئ للسفر من بلده، أو المجتاز بغير بلده. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 459] : هل يُعطى المجتاز بغير بلده؟
إن قلنا: يجوز نقل الصدقة.. أُعطي، وإلا فلا.
وقال مالك، وأبو حنيفة رحمة الله عليهما: (ابن السبيل: هو المجتاز) .
فأما من ينشئ السفر من بلده: فليس بابن السبيل.
دليلنا: أنه مريد لسفر لا معصية فيه، فهو كالمجتاز.
إذا ثبت هذا: فإن كان سفره لواجب أو طاعة.. أٌعطى، وإن كان لمعصية.. لم يعط؛ لأن في ذلك إعانة على المعصية، وإن كان لمباح.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يُعطى؛ لأنه غير محتاج إلى هذا السفر.
والثاني يُعطى؛ لأنه سفر جائز، فهو كسفر الطاعة.
فإن كان منشئًا للسفر من بلده.. نظرت:
فإن كان غنيًا.. لم يُعط شيئًا.
وإن كان فقيرًا.. أُعطى ما يحتاج إليه لذهابه ورجوعه.

(3/428)


وهل يُعطى نفقة إقامته في البلد الذي يقصده.. نظرت:
فإن كانت إقامته أقل من أربعة أيام.. أُعطي؛ لأنه في حكم المسافرين.
وإن كانت أربعة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج.. لم يُعط نفقة إقامته من سهم ابن السبيل؛ لأنه قد خرج عن أن يكون مسافرًا. وهل يُعطى للحمولة؟ ينظر فيه:
إن كان سفره مما يُقصر فيه الصلاة.. أُعطي للحمولة؛ لأنه يحتاج إليها، وإن كان سفره لا تقصر فيه الصلاة.. لم يعط لها إلا إذا كان عاجزًا عن المشي.. فيعطى لها.
وإن كان ابن السبيل مجتازًا.. نظرت:
فإن كان معه مال يكفيه.. لم يُعط؛ لأنه غني به، وإن كان لا مال معه، أو معه مال لا يكفيه، ولكن له مال في بلده.. دفع إليه ما يبلغه بلده؛ لأنه محتاج إلى ما يأخذه.
وإن احتاج ابن السبيل إلى كسوة في سفره.. أُعطي لها؛ لأنه يحتاج إليها، كالنفقة.
فإن دفع إلى ابن السبيل ما يحتاج إليه، فلم يسافر.. استرجع منه.
وإن سافر وقتر على نفسه في النفقة، فرجع من سفره، وقد بقي معه بقية مما دفع إليه.. استرجع منه.
والفرق بينه وبين الغازي حيث قلنا: إنه لا يسترجع منه: أن الغازي يأخذ ما يأخذه على وجه العوض، وابن السبيل يأخذه لحاجته إليه، وقد زالت حاجته.
فإن جاء رجل، وادعى: أنه يريد الغزو أو السفر.. قبل منه، وأعطي؛ لأن ذلك لا يعلم إلا من جهته.

[مسألة: تسوية العطاء بين الأصناف]
] : ويجب أن يسوي بين الأصناف، ولا يفضل صنفًا على صنف؛ لأن الله تعالى ساوى بينهم، فما خص الصنف الواحد.. فالمستحب: أنه يعم به جميع الصنف على

(3/429)


قدر حاجاتهم إن أمكن، والمستحب: أن يخص قرابته المحتاجين؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصدقة على المسلم صدقة، وعلى ذي القرابة صدقة وصلة» .
وأقل ما يجزئ: أن يقتصر من كل صنف على ثلاثة منهم.
وقال أبو حنيفة: (يجوز أن يدفع ذلك كله إلى واحد) .
دليلنا: أن الله تعالى ذكر ذلك بلفظ الجمع، وأقل الجمع ثلاثة، فلا يجوز الاقتصار على ما دونهم.
ويستحب أن يساوي بين الثلاثة من الصنف، فإن فاضل بين الثلاثة.. جاز، فإن دفع نصيب الصنف إلى واحد أو اثنين.. ضمن نصيب من لم يُعطه من الثلاثة، وفي قدر ما يضمنه للواحد قولان:
أحدهما: القدر المستحب، وهو الثلث؛ لأنه يستحب دفعه إليه.
والثاني: أقل جزء من السهم؛ لأنه لو اقتصر على دفعه في الابتداء.. أجزأه.

[فرع: من اجتمع فيه أسباب يعطى بسبب]
] : وإن اجتمع في شخص واحد سببان، وطلب أن يأخذ بهما.. فنص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لا يعطى بهما، ويخير في أيهما يأخذ) .
وقال فيمن يجبي الصدقات ممن يليه، ويدفع العدو: (يُعطى من سهم سبيل الله، ومن سهم المؤلفة) .

(3/430)


واختلف أصحابنا فيه على ثلاث طرق:
ف [الأول] : منهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: يُعطى بهما؛ لأنه جمع معناهما.
والثاني: يُعطى بأحدهما؛ لأنه شخص واحد.
و [الطريق الثاني] : منهم من قال: يعطى بأحدهما، قولا واحدا، والذي قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيمن يجبي الصدقات، ويقاتل العدو، فإنما أراد: أن يُعطى من يجبي الصدقة من سهم المؤلفة، ومن يدفع العدو من سهم سبيل الله.
و [الطريق الثالث] : منهم من قال: إن كان يستحق بسببين متجانسين، لحاجتنا إليه، أو لحاجته إلينا.. لم يعط بهما، وإنما يعطى بأحدهما، وإن كان يستحق بأحدهما لحاجتنا إليه، وبالآخر لحاجته إلينا أُعطى بهما.
والذين يأخذون لحاجتنا إليهم: المؤلفة، والغارمون لإصلاح ذات البين، والعاملون، والغزاة، والباقون يأخذون لحاجتهم إلينا، وهذا كما نقول فيمن اجتمع فيه جهتا فرض في الميراث: فإنه لا يُعطى بهما، كالأخت للأب والأم، فإنها لو كانت أختًا لأب.. لأخذت النصف، ولو كانت أختا لأم.. لأخذت السدس، ولم تعط بهما.
ولو اجتمع في شخص جهة فرض، وجهة تعصيب، كالزوج إذا كان ابن عم.. فإنه يُعطى بهما، فكذلك هذا مثله.

[مسألة: نقل الزكاة]
] : قال الشافعي: (ولا تخرج الصدقات من بلد، وفيه أهله) .
وجملة ذلك: أن من وجبت عليه الزكاة.. فإنه يفرقها في أصناف بلد المال، فإن نقلها عنهم إلى أصناف بلد آخر.. ففيه قولان:
أحدهما: يجوز، وهو قول أبي حنيفة، وأبي العالية؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] الآية [التوبة: 60] . ولم يفرق.

(3/431)


والثاني: لا يجوز، وهو الأصح، وهو قول عمر بن عبد العزيز، ومالك، والثوري رحمة الله عليهم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ: «أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، وترد في فقرائهم» .
وهكذا: لو أوصى بثلث ماله للمساكين، وأطلق.. فهل يجوز نقلها عن مساكين البلد؟ على هذين القولين:
فمنهم من قال: القولان في جواز النقل، فأما الإجزاء: فإنه يجزئه، قولا ً واحدًا.
ومنهم من قال: القولان في الإجزاء، وهو الأصح.
واختلفوا في الموضع الذي ينقل إليه:
فمنهم من قال: القولان إذا نقل عن البلد إلى مسافة تقصر فيها الصلاة، فأما إذا نقل إلى دون ذلك.. فيجوز، قولًا واحدًا؛ لأن ما دون مسافة القصر في حكم الحضر.
ومنهم من قال: القولان في الجميع، وهو الأصح.
إذا ثبت هذا: وقلنا: لا يجوز النقل.. فلا يخلو المزكي: إما أن يكون حضريًا، أو بدويًا.
فإن كان حضريًا، كأهل الأمصار والقرى الذين يستوطنونها على الدوام.. فموضع الصدقة أهل المصر وأهل القرية.

(3/432)


قال الشيخ أبو حامد: وكذلك إذا كان في سواد البلد من هو من أهله على مسافة لا تقصر فيها الصلاة.. فهو كالحاضر في البلد؛ لأن من كان من الحرم على مسافة لا تقصر فيها الصلاة.. فهو من حاضريه.
فإن كان البلد واسعًا، كالبصرة ومصر.. قال الصيمري: فليس كلهم جيرانه، بل جيرانه من قرب إليه، واتصل به.
وقد اختلف في حد الجوار: فقيل: هم القبيلة. وقيل: هم أهل الدرب. وقيل: هم من يجمعهم المسجد. وقيل: من بينك وبينه أربعون دارًا. قال: ومن أصحابنا من حده بذلك. والصحيح: أنه ليس بتحديد، بل هو على سبيل التقريب، لاختلاف الدور والأماكن.
فإن نقل صدقته من جيرانه إلى أقصى طائفة من بلده، إلا أنه لم يفارق البلد.. جاز، قولًا واحدًا.
قال الصيمري: ويجوز أن يخرج على قولين، ويجوز أن يقال:
إذا قلنا: إذا نقلها إلى بلد آخر أجزأه.. فهاهنا أولى.
وإن قلنا ثم: لا يجوز.. فهاهنا وجهان، والصحيح: أنه يجوز، قولا واحدًا.

[فرع: مكان قسم الزكاة]
] : قال الشيخ أبو حامد: فإن دخل إلى ذلك البلد قبل تفرقة الزكاة في أهله قوم غرباء، وخالطوهم، ونزلوا البلد نزول استيطان.. شاركوا أهل البلد في تلك الزكاة؛ لأنها لم تقسم في الجوار، وقد صار هؤلاء في الجوار.
وإن كان عشر زرع أو ثمرة.. صرف ذلك إلى فقراء البلد الذي فيه الأرض. وإن كان مال تجارة.. صرفت صدقته في فقراء البلد الذي يحول حول التجارة وهو فيه.
وإن كان في بادية حينئذ.. صرفت في فقراء أقرب البلاد إلى ذلك الموضع.
وإن كان له أربعون من الغنم، في كل بلد عشرون، فأخرج شاة في إحدى البلدين.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (كرهت، وأجزأه) .

(3/433)


فمن أصحابنا من قال: يجوز، قولا واحدا؛ لأنه يشق إخراج الشاة في بلدين.
ومنهم من قال: إنما ذلك على القول الذي يجوز نقل الصدقة. فأما على القول الذي يقول: لا يجوز.. فلا يجزئه، قولًا واحدا، وهو الأصح؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (كرهت، وأجزأه) . فلولا أنه أراد على أحد القولين.. لما قال: (كرهت) .
وإن كان من وجبت عليه الزكاة بدويًا.. نظرت:
فإن كانوا أهل حلل راتبة لا يظعنون عنها صيفًا ولا شتاء.. فحكمهم حكم أهل البلد؛ لأنهم لم يخالفوهم إلا في الأبنية.
وإن كانوا أهل نجعة، وهو الذين إذا أخصب موضع رحلوا إليه، فإذا أجدبت رحلوا عنه.. نظرت:
فإن كانت حللهم متفرقة.. اعتبر الجوار بالمال، لا برب المال، وحد الجوار: من كان منهم على مسافة لا تقصر فيها الصلاة من موضع المال، فهو من أهل صدقة هذا المال المذكور، فيجوز الدفع إليه، قولًا واحدًا.
وإن نقلت الصدقة عنهم إلى أبعد منهم.. كانت على الخلاف المذكور في نقل الصدقة عن أهل الحضر.

(3/434)


فإن كان معهم مساكين يتنقلون معهم أينما انتقلوا، وهناك قوم من جيرانهم لا يظعنون بظعنهم، وكانوا يقيمون بإقامتهم.. كان من ينتقل بانتقالهم أولى بالصدقة. فإن أعطى الآخرين.. جاز.
وإن كانت حللهم مجتمعة، وكل حلة متميزة عن الأخرى.. ففيه وجهان:
أحدهما: حكمهم حكم ما لو كانت حللهم متفرقة، على ما ذكرناه؛ لأنهم يجرون مجرى البيوت المتفرقة.
والثاني: أن كل حلة منفردة بمنزلة البلد والقرية، فتفرق الصدقة عليهم؛ لأن أهل كل حلة يتميزون عن الحلة الأًخرى، كما يتميز أهل البلد.
فإن نقلت الصدقة عنهم.. كان على الخلاف المذكور في نقل الصدقة.

[فرع: وجود بعض الأصناف المستحقة في البلدة]
] : وإن وجد في بلد المال بعض الأصناف.. فهل يُغلب حكم البلد، أو حكم الأصناف؟ فيه وجهان:
أحدهما: يًُغلب حكم البلد، فيدفع إلى من في البلد من الأصناف جميع الزكاة؛ لأن عدم الشيء في موضعه وإن كان موجودًا في غيره، بمنزلة عدمه أصلًا، كما نقول فيمن عدم الماء في موضعه: فإنه يحوز له التيمم وإن كان موجودًا في غيره.
والثاني: يغلب حكم الأصناف، فيدفع إلى أصناف البلد حصتهم، وينقل حصة الباقين إليهم بأقرب البلاد إليه، وهو الأصح؛ لأن استحقاق الأصناف ثابت بنص القرآن، واعتبار البلد ثابت بخبر الواحد والقياس، فكان اعتبار ما ثبت بنص القرآن أولى.
فإذا قلنا: يغلب البلد، فنقلها إلى غيرهم.. فهل يضمن؟ فيه قولان، كما في نقل الصدقة.
وإذا قلنا: يغلب الصنف، ففرقها في البلد.. ضمن، قولًا واحدًا.

(3/435)


[فرع: نقل الزكاة إلى القريب في البلد]
فرع: [جواز نقل الزكاة إلى القريب في البلد] : وإذا كان الأجنبي أقرب إلى جواره، وله قريب أبعد منه، ولم يخرج عن البلد.. فالقريب أولى؛ لأنه قد حصل له حق الجوار، وإن كان قريبه في بلد آخر، فنقل الصدقة إليه.. فهل يجزئه؟ فيه قولان، كما لو نقلها إلى أجنبي.

[مسألة: قسم الزكاة على الأصناف وفاضل]
] : وإن قسم الزكاة على جميع الأصناف في البلد، فكانت حصة كل صنف وفق حاجته، أو دون حاجته، أو كان نصيب بعض الأصناف وفق حاجته، ونصيب بعضهم دون حاجته.. دفع إلى كل صنف ما يخصه من غير زيادة ولا نقصان؛ لأن كل صنف ملك حصته، فلا ينقص.
وإن كان نصيب بعضهم وفق حاجته، ونصيب بعضهم يفضل عن حاجته.. نقل ما فضل عن نصيب الآخرين إلى ذلك الصنف بأقرب البلاد إليه.
وإن كان نصيب بعضهم يفضل عن حاجته، ونصيب البعض ينقص عن حاجته: فإن قلنا: المغلب حكم البلد.. نقل الفضل إلى من نقص نصيبه عن حاجته.
وإن قلنا: المغلب حكم الأصناف.. نقل الفضل إلى ذلك الصنف في أقرب البلاد إليه.

[مسألة: تنقل زكاة الفطر]
] : وإن وجبت عليه زكاة الفطر في بلد، وماله فيه فُرقت في ذلك البلد، فإن نقلها عنه.. كان على الخلاف المذكور في نقل الصدقة، وإن كان ماله في بلد، وهو في بلد آخر.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن موضع تفرقتها بلد المال، كزكاة المال.
الثاني: أن موضع تفرقتها الموضع الذي هو فيه؛ لأن الزكاة تتعلق بعينه.

(3/436)


وإن وجبت عليه نفقة قريب وفطرته، وهما في بلدين.. فالذي يقتضي المذهب: أن يُبنى على الوجهين في أنها وجبت على القريب، ثم تحملها عنه المؤدي، أو وجبت على المؤدي.
فإن قلنا: وجبت على المؤدى عنه.. كان موضع تفرقتها بلد المؤدى عنه.
وإن قلنا: وجبت على المؤدي.. كان موضع تفرقتها بلد المؤدي.

[مسألة: استحقاق أهل السهام]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إنما يستحق أهل السهمان سواء العاملين يوم يكون القسم) ، وقال في موضع آخر: (إذا مات واحد منهم بعد وجوب الزكاة.. كان حقه لورثته، سواء كانوا أغنياء أو فقراء) .
قال أصحابنا: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فالذي قال: (يعتبر وقت الوجوب، وإذا مات أحدهم نقل حقه إلى وارثه) أراد: إذا كانت الزكاة وجبت في بلد لقوم معينين، مثل: أن يكون في بلد ثلاثة من صنف لا غير.. فإن نصيب ذلك الصنف يتعين لهم، فلا يتغير بحدوث شيء، فلو كان واحد منهم فقيرًا عند الوجوب، وكان غنيًا وقت التفرقة.. لم يسقط حقه بغناه، وكذلك: إن دخل غريب فقير، واستوطن ذلك البلد بعد الوجوب، وقبل القسمة.. لم يشاركهم، وإن مات واحد من الثلاثة.. كان ما يخصه من السهم لوارثه، غنيًا كان أو فقيرًا.
والموضع الذي قال: (يعتبر حال المدفوع إليه وقت القسمة) أراد: إذ وجبت الزكاة لقوم غير معينين، مثل: أن يكون في البلد أكثر من ثلاثة من كل صنف.. فإنها لا تتعين لواحد منهم؛ لأن لرب المال أن يعطي ثلاثة ممن شاء منهم. وإن كان غنيًا وقت الوجوب، وكان فقيرًا وقت القسمة.. أُعطي. وإن كان فقيرًا وقت الوجوب، ثم صار غنيًا وقت القسمة.. لم يعط. وإن دخل غريب قبل تفرقة الزكاة.. كان

(3/437)


كالواحد من فقراء البلد. وإن مات واحد من الفقراء قبل القسمة.. لم ينتقل نصيبه إلى وارثه. هذا نقل الشيخ أبي حامد والبغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 461] : لو كان مساكين القرية محصورين، ووجبت زكاة مال، فمات واحد من المساكين قبل وصول الصدقة إليه:
فإن قلنا: لا يجوز نقل الصدقة.. دفع نصيبه إلى وارثه، سواء كان وارثه تحل له الصدقة أو لا تحل؛ لأن هذا الميت قد تعين لوجوب صرف بعض الصدقة إليه.
وإن قلنا: يجوز نقل الصدقة.. لم يدفع إلى وارثه نصيبه.

[مسألة: لا تصح الصدقة للنبي]
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وآله] : كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا تحل له الصدقة المفروضة؛ لما روى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى تمرة ملقاة، فقال: " لولا أني أخشى أن تكون من تمر الصدقة.. لأكلتها» .
وأما صدقة التطوع: فقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمتنع منها، وهل كان يمتنع منها تنزيهًا، أو تحريما ً؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه كان يمتنع منها لأنها محرمة عليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة» . ولم يفرق.
والثاني: أنها كانت لا تحرم عليه؛ لأن الهدية كانت تحل له، فحلت له صدقة التطوع.

(3/438)


وأما آل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهم بنو هاشم، وبنو المطلب: فكانت الصدقة المفروضة لا تحل لهم، ولا يجزئ دفعها إليهم؛ لما روي: «أن الحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما - أخذ تمرة من الصدقة، ووضعها في فمه، وهو طفل، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كخٍ كخ، إنا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة» وإن منعوا حقهم من الخمس.. ففيه وجهان:
أحدهما: تحل لهم الصدقة؛ لأنهم إنما حرموا الصدقة المفروضة؛ لما يأخذون من الخمس.
والثاني: لا تحل لهم، وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة» . ولم يفرق.
وفي مواليهم وجهان:
أحدهما: لا تحل لهم الصدقة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «موالي القوم من أنفسهم» .
والثاني: تحل لهم؛ لأنهم لا يلحقون بمواليهم في الشرف. هذا مذهبنا.

(3/439)


وقال أبو حنيفة: (هذا الحكم يختص ببني هاشم، فأما بنو المطلب: فتحل لهم) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن بني هاشم وبني المطلب شيء واحد» ، ولأنه حكم يتعلق بذوي القربى، فاستوى فيه الهاشمي والمطلبي في استحقاق خمس الخمس.

[فرع: لا حق للإمام في الزكاة]
] : وأما الإمام: فلا حق له في الزكاة، وإن تولى قسمتها بنفسه.. لم يستحق سهم العامل؛ لأنه يستحق رزقه من بيت المال.
والدليل عليه: ما روي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شرب لبنًا، فقيل له: هو من نعم الصدقة، فاستقاءه) .
فإن قيل: فقد استهلكه، فأي فائدة في ذلك؟
قلنا: لأنه كره بقاء ما ليس له في جوفه، خوفًا من أن يتعود الناس ذلك.
قال الشيخ أبو حامد: وكذلك: ينبغي لمن أكل طعامًا حرامًا أو شرب خمرًا أن يتقيأه.
وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جيء بمسك، فوضع يده على أنفه، فقيل له في

(3/440)


ذلك، فقال: وهل يراد من المسك إلا ريحه؟!) . وهذا نهاية الورع منه - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وأرضاه.

[مسألة: لا تدفع الزكاة لكافر]
] : ولا يجوز دفع الزكاة إلى كافر، وروي ذلك عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما.
قال الزهري، وابن سيرين: يجوز دفعها إلى المشركين.
وقال أبو حنيفة: (يجوز صرف زكاة الفطر خاصة إلى أهل الذمة) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أعلمهم أن عليهم صدقة، توخذ من أغنيائهم، وترد في فقرائهم» . وهذا خطاب للمسلمين.

(3/441)


[مسألة: دفع الزكاة للوالد ونحوه]
مسألة: [لا يجوز دفعها للوالد ونحوه] : إذا كان له والد أو ولد يجب عليه نفقته.. فلا يجوز له أن يعطيه من زكاته من سهم الفقراء والمساكين؛ لأن نفقته واجبة عليه، ويجوز أن يعطيه من سهم الغارمين؛ لأنه لا يجب عليه قضاء دينه، ويجوز أن يدفع إليه من سهم الغزاة مع الغنى والفقر، ولا يجوز له أن يدفع إليه من سهم المؤلفة مع الفقر؛ لأن نفعه يعود إليه.
قال أصحابنا المتقدمون: ويجوز أن يعطي ولده ووالده الفقيرين من سهم العامل إذا كانا عاملين.
قال القاضي أبو الفتوح: وهذا غير صحيح؛ لأنه لا يتصور أن يعطي الإنسان العامل شيئًا من زكاة ماله.
وقال ابن الصباغ: أراد أصحابنا: إذا كان الدافع الإمام فيجوز له أن يعطي ولد رب المال ووالده من سهم العاملين إذا كان عاملًا من زكاة والده أو ولده.
وإن كانا من أبناء السبيل فاختلف أصحابنا فيه:
فقال المحاملي، وغيره من أصحابنا: لا يجوز أن يعطيه نفقته من زكاته؛ لأن نفقته عليه حاضراَ كان أو مسافرًا، ولكن يعطيه للحمولة؛ لأنه لا يجب عليه حمله.
وقال ابن الصباغ، والقاضي أبو الفتوح: لا يعطيه قدر نفقة الحاضر، ويجوز أن يعطيه ما زاد على نفقة الحضر للسفر.
قلت: ويحتمل أن يكون في ما زاد على نفقة الحضر وجهان مأخوذان من الوجهين في قدر نفقة العامل في القراض من مال القراض إذا قلنا: تجب فيه.
وإن كان هذا القريب مكاتبًا.. فلا تجب عليه نفقته، ويجوز أن يعطيه من سهم الرقاب.

(3/442)


وإن أراد أجنبي أن يعطي هذا القريب الفقير الذي له من تجب عليه نفقته.. ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\456] :
أحدهما: يجوز؛ لأنه لا مال له، ولا كسب، وهذا بصفة من تحل له الصدقة.
والثاني: لا يُعطى؛ لأن غناه بقريبه الذي تجب عليه نفقته، بمنزلة غناه بمال نفسه.
وإن كان لرجل زوجة فقيرة، وهو غني.. فهل يجوز لغير الزوج أن يعطيها من الزكاة؟ على هذين الوجهين.
وإن أراد الزوج أن يعطيها من زكاته لم تخل: إما أن تكون مقيمة، أومسافرة: فإن كانت مقيمة.. لم يجز له أن يعطيها من سهم الفقراء والمساكين؛ لأنها إن كانت تحت طاعته.. فهي مستغنية بوجوب النفقة عليه، وإن كانت ناشزة.. فيمكنها الرجوع إلى طاعته.
وإن كانت مسافرة.. نظرت:
فإن كانت سافرت مع الزوج بإذنه.. فنفقتها وحمولتها عليه، وإن سافرت معه بغير إذنه.. فنفقتها عليه؛ لأنها في قبضته، ولا تجب عليه حمولتها، ولا يجوز له أن يعطيها للحمولة من زكاته؛ لأنها عاصية بسفرها. هكذا ذكرها في " المجموع ".
وذكر الشيح أبو حامد في " التعليق ": يجوز له أن يعطيها من زكاته للحمولة، وإن سافرت وحدها بغير إذنه.. لم يجز له أن يعطيها شيئًا من سهم ابن السبيل؛ لأنها عاصية.
قال الشيخ أبو حامد: ويجوز أن يُعطيها من سهم الفقراء والمساكين؛ لموضع حاجتها.
وقال ابن الصباغ: يعطيها إذا أرادت الرجوع؛ لأنه طاعة، وإن أرادت السفر.. لم يعطها شيئًا، ويفارق الناشزة إذا كانت حاضرة؛ لأنه يمكنها المعاودة إلى طاعته، وهاهنا: لا يمكنها المعاودة في حال سفرها.

(3/443)


وإن خرجت وحدها بإذنه.. فهل تسقط نفقتها؟ فيه قولان:
ف [الأول] : إن قلنا: تسقط.. جاز أن يعطيها للنفقة والحمولة من الزكاة.
و [الثاني] : إن قلنا: لا تسقط.. لم يُعطها للنفقة، ولكن يعطيها للحمولة؛ لأنها لا تجب عليه. هذا ترتيب الشيخ أبي حامد، وأصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 456] هل للزوج صرف زكاته إلى زوجته الفقيرة؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنها غنية به.
والثاني: يجوز؛ لأن نفقتها عليه بمنزلة الأجرة في الإجارة، ولو استأجر أجيرًا فقيرًا.. جاز له صرف زكاته إليه.
وإن أراد الزوج أن يُعطي زوجته من سهم الفقراء والمساكين - ولا يتصور أن تكون عاملة؛ لأن المرأة لا تلي العمالة، ولكن يتصور أن تكون مكاتبة وغارمة - فيعطيها من هذين السهمين.

[فرع: دفع المرأة زكاتها لزوجها]
فرع: [تدفع المرأة زكاتها لزوجها] : وإن كانت الزوجة غنية، والزوج فقيرًا.. فيجوز لها أن تدفع إليه من سهم الفقراء والمساكين، وكذلك: إذا كان من باقي الأصناف.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز) .
دليلنا: أن النكاح عقد معاوضة، فلم يمنع من دفع الصدقة، كالبيع والإجارة، ولأن بينهما نسبًا لا تجب به نفقته عليها، فجاز لها أن تدفع إليه من زكاتها، كنسب ابن العم.

(3/444)


[مسألة: لا تصرف الزكاة إلى الرقيق]
] : ولا يجوز صرف الزكاة إلى عبد؛ لأن نفقته على مولاه، ولا يحوز دفعها إلى صبي؛ لأنه لا يصح قبضه، بل يدفعها إلى وليه إن كان الصبي محتاجًا.

[مسألة: استرجاع الزكاة]
] : إذا دفع الإمام الزكاة إلى من ظاهره الفقر، فبان غنيا.. استرجع منه إن كان باقيًا، وإن كان تالفًا.. أخذ منه البدل، وصرف إلى فقير.
وإن لم يكن له مال.. لم يجب على رب المال أن يخرج الزكاة ثانيًا؛ لأن الزكاة قد سقطت عنه بدفعها إلى الإمام، ولا يجب على الإمام ضمان؛ لأنه أمين غير مفرط؛ لأن حال الغنى يخفى من حال الفقر.
وإن كان الذي دفع إليه رب المال.. لم يجزه، فإن بين عند الدفع أنها زكاة.. فله أن يرجع. وإن لم يبين.. لم يرجع؛ لأنه قد يدفع الواجب والتطوع، فلم يرجع إلا بالشرط، بخلاف الإمام، فإن له أن يرجع بكل حال. فإن بين أنها زكاة، ولم يجد للمدفوع إليه مالا، أو لم يبين.. فهل يجب على رب المال أن يخرج الزكاة ثانيًا؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يلزمه؛ لأنه دفع الزكاة باجتهاده، فهو كالإمام.
والثاني: يلزمه؛ لأن الإمام لا يتمكن من أكثر مما يعلمه، فلم يكن منه تفريط، ورب المال قد كان يمكنه أن يدفع إلى الإمام. فإذا لم يفعل.. لزمه الضمان. ولهذه المسألة نظائر قد ذكرناها في (استقبال القبلة) .

(3/445)


وإن دفع الزكاة إلى من ظنه مسلمًا، فبان كافرا، أو إلى رجل ظنه حرا، فبان مملوكًا، أو إلى من ظنه عاميًا، فبان هاشميًا أو مطلبيًا.. ففيه طريقان:
أحدهما - وهو ظاهر النص -: إن كان الدافع هو الإمام.. فلا شيء عليه، قولًا واحدًا، وإن كان رب المال.. ففيه قولان، كالأولى.
والطريق الثاني: إن كان الدافع هو رب المال.. لزمه الضمان، قولا واحدًا، وإن كان هو الإمام.. فعلى قولين؛ لأن أمر هؤلاء لا يخفى بحال، بخلاف الفقير.
وإن دفع سهم الغازي، أو سهم المؤلفة، أو سهم العامل، إلى من ظنه رجلًا، فبان أنه امرأة أو خنثى.. قال القاضي أبو الفتوح: فيه طريقان، كالتي قبلها.

[مسألة: لا تسقط الزكاة بالموت]
] : إذا وجبت عليه الزكاة، ثم مات قبل أن يؤديها.. لم تسقط عنه.
وقال أبو حنيفة: (تسقط) .
دليلنا: أنه حق مال لزمه في حال الحياة، فلم يسقط بالموت، كدين الآدمي، وفيه احتراز من الصلاة، وممن مات قبل الحول.
إذا ثبت هذا: فإن اجتمعت مع دين عليه، فإن اتسعت التركة للجميع.. قضي الجميع. فإن ضاقت التركة.. ففيه ثلاثة أقوال، مضى ذكرها.
وبالله التوفيق

(3/446)