البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب صدقة التطوع]
لا يجوز أن يتصدق بصدقة التطوع إلا بعد الفضل عما يجب عليه، كنفقة نفسه ونفقة عياله ودينه؛ لما روى ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وليبدأ أحدكم بمن يعول» . قال أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: معناه: (عن فضل عياله) .
وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «لا يقبل الله صدقة رجل، وذو رحمه محتاج» وقال أبو علي الطبري: فيحتمل أن يكون معناه: لا يقبل الله التطوع أصلًا، وعليه فريضة، فيكون فيه دليل على وجوب نفقة ذوي الأرحام، ودليل على أن وجوب الفرض يمنع من قبول النفل، ويحتمل أن يكون معناه: لا يقبلها كقبولها إذا تصدق بها على ذوي الرحم المحتاج، على معنى: «لا إيمان لمن لا أمانة له» ، أي: لا إيمان له كامل.

(3/447)


قال الصيمري: وقد قيل: ما أفلح رجل احتاج أهله إلى غيره.
وروي: «أن رجلًا قال: يا رسول الله، عندي دينار، قال: " أنفقه على نفسك ". قال: عندي آخر، قال: " أنفقه على زوجتك ". قال: عندي آخر، قال: " أنفقه على ولدك "، قال: عندي آخر، قال: " أنفقه على خادمك "، فقال: عندي آخر، قال: " أنت أعلم به "، وروي " أنفقه في سبيل الله» .
ولأنه إذا كان عليه نفقة واجبة، أو دين، وتصدق بماله.. ربما تعذر عليه القضاء، وكان مرتهنًا به.
قال ابن الصباغ: فأما إذا فضل عن كفايته وكفاية من تلزمه نفقته على الدوام، ولا دين عليه.. فإنه يستحب له أن يتصدق بالفضل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وليتصدق الرجل من ديناره، وليتصدق من درهمه، وليتصدق من صاع بره، وليتصدق من صاع تمره» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام» .

(3/448)


وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتقوا النار ولو بشق تمرة» .
وإذا أراد الرجل أن يتصدق بجميع ماله، إذا كان لا عيال له، ولا دين عليه، فإن كان قوي الإيمان، حسن المعرفة بالله والظن، بحيث إذا فعل ذلك، وأصابته شدة حاجة، صبر عليها.. استحب له ذلك، لما روي «عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: حث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الصدقة، فقلت في نفسي: لأسبقن أبا بكر غدا إن سبقته يوما، فلما جاء الغد.. جئت بنصف مالي، فوجدت أبا بكر قد سبقني، وقد حمل جميع ماله، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما الذي خلفت لعيالك؟ "، فقال الله ورسوله، فقال لي " ما الذي خلفت لعيالك؟ "، فقلت: شطر مالي، فقلت في نفسي: لا أسبقك في شيء أبدًا، وروي: والله، لا سابقت أبا بكر أبدًا» .
وإنما قبل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أبي بكر جميع ماله؛ لقوة إيمانه وحسن ظنه بالله تعالى.
وإن كان الرجل ممن لا يصبر على الحاجة.. كره له ذلك؛ لما روي: «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمثل البيضة من الذهب، وقال: خذها يا رسول الله صدقة، فوالله ما أصبحت أملك مالًا غيرها، فأخذها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ورمى بها إليه، حتى لو أصابته لأوجعته أو لعقرته، وقال: " يأتي أحدكم، فيتصدق بجميع ماله، ثم يجلس يستكف الناس! خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى» .

(3/449)


وروى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: «دخل رجل المسجد، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الناس أن يطرحوا ثيابًا، فطرحوا، فأمر له منها بثوبين، ثم حث على الصدقة، فجاء الرجل، فطرح أحد الثوبين، فصاح به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: " خذ ثوبيك» . فيحمل هذا على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم أنهما لا يصبران كصبر أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
يدل على ذلك: ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «إن لله عبادا لا يصلحهم إلا الغنى، ولو أفقرهم لأطغاهم، وإن لله عبادًا لا يصلحهم إلا الفقر، ولو أغناهم لأطغاهم» .
إذا ثبت هذا: فيستحب أن يخص بصدقته قرابته؛ «لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لامرأة عبد الله بن مسعود: " زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم» .

(3/450)


قال أبو علي الطبري: ويقصد بصدقته من قرابته أشدهم عداوة له؛ لما فيه من تأليف قلبه، ورده إلى المحبة، ولما فيه من سقوط الرياء، فإن لم يكن له قرابة محتاجون، فالجار القريب إلى داره أولى من البعيد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى خشيت أنه سيورثه» .

(3/451)


قال الصيمري: ولا بأس بصدقة التطوع على المسلم والكافر والذمي والحربي، وإن كان يستحب أن يخص بها خيار الناس، وقد روي: «لا يأكل طعامك إلا مسلم» . ويستحب الإسرار بها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صدقة السر تطفئ غضب الرب» .
قال الصيدلاني: فإن أبداها لا يريد رياء ولا سمعة، ولكن ليقتدى به، فحسن، ولا يستحب التعرض لأخذها؛ لما روي: «أن رجلًا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأعطاه فأسًا،

(3/452)


وقال: " احتطب» . ولا يحل للغني أخذها مظهرًا الفاقة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سأل الناس وهو غني جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح» .
وتحل صدقة التطوع لبني هاشم وبني المطلب؛ لما روي عن جعفر بن محمد: أنه كان يشرب من سقايات بين مكة والمدينة، فقيل له في ذلك. فقال: (إنما حرمت علينا الصدقة المفروضة) .
وبالله التوفيق

(3/453)