البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب الهدي]
يستحب للحاج والمعتمر أن يهدي إلى مكة شيئا من بهيمة الأنعام - وهي: الإبل والبقر والغنم - لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهدى مائة بدنة» وروي: (أنه أهدى مرة غنما) . فإن نذر ذلك وجب عليه؛ لأنه قربة فلزمه بالنذر.
فإن كان ما يهديه من الإبل أو البقر فالسنة أن يقلدها ويشعرها.
و (التقليد) : هو أن يعلق في رقبتها نعلين.
و (الإشعار) : هو أن يشق صفحة سنامها الأيمن بحديدة حتى يدميها ويمسح بالدم على السنام.
وبه قال مالك وأحمد وأبو يوسف، إلا أن مالكا وأبا يوسف قالا: (يشعرها في شق صفحة سنامها الأيسر) .
وقال سعيد بن جبير: لا يشعر البقر، وبه قال مالك إذا لم يكن لها سنام.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز الإشعار) .

(4/411)


دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الظهر بذي الحليفة، ثم دعا ببدنه فأشعرها بصفحة سنامها الأيمن، وسلت عنها الدم بيده، ثم قلدها نعلين، ثم أتى براحلته، فلما قعد عليها واستوت به على البيداء أهل بالحج» .
وروى جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساق مائة بدنة، فقلدها وأشعرها» . ولأنها ربما ندت واختلطت بمال الغير فتتميز بذلك. ولأن اللص إذا رآها مشعرة تجنب أخذها. وربما عطبت ونحرت فتكون علامة لمن أراد أخذ لحمها.
وإن كان الهدي من الغنم فالسنة أن يقلدها في رقابها خرب القرب - وهي: عرى القرب الخلقة اليابسة - ولا يقلدها النعال؛ لأن ذلك يثقلها ولا يشعرها؛ لأنها تضعف عنه، وبه قال مالك وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا يقلدها) .
دليلنا: ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهدى غنما مقلدة» .
فإن ترك الإشعار والتقليد جاز؛ لأن ذلك يراد للتمييز.
وإذا أشعر هديه أو قلده فإنه لا يصير بذلك محرما حتى ينوي الإحرام.
وقال ابن عباس: (إذا قلد هديه صار بذلك محرما) .

(4/412)


دليلنا: ما روي عن عائشة: أنها قالت: «كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان يقلدها بيده، وكان لا يجتنب شيئا يجتنبه المحرم» . ولأن هذا متجرد عن نية الإحرام، فلم يصر به محرما، كالاغتسال والتجرد عن المخيط.

[مسألة جواز الذكر وأفضلية الأنثى والفحل في الهدي]
] : ويجزئ الذكر والأنثى؛ لأن القصد منه اللحم، والذكر أكثر لحما من الأنثى. ويفارق الزكاة حيث قلنا: لا يجوز الذكر؛ لأن القصد أن يحصل للمساكين الدر والنسل، وهذا لا يوجد في الذكر.
قال الشافعي: (والأنثى أحب إلي من الذكر؛ لأنها أطيب لحما وأرطب، والضأن أحب إلي من المعز؛ لأن الضأن أطيب لحما) .
قال: (والفحل أحب إلي من الخصي؛ لأن الخصي ناقص) .
ولم يرد بـ (الفحل) : المعد للضراب؛ لأن ذلك يهزله ويضره، فلا يكون لحمه طيبا، وإنما يريد: الذي لا ينزو على الإناث.

[مسألة التصرف بالهدي ومنعه]
] : فإن كان الهدي تطوعا فهو باق على ملكه، له أن يتصرف فيه بما شاء من وجوه التصرفات؛ لأنه لم يوجد منه إلا نية الصدقة، فهو كما لو نوى أن يتصدق بدرهم بيده، أو يعتق عبدا يملكه.

(4/413)


وإن كان الهدي نذرا زال ملكه عنه بالنذر، فلا يجوز له التصرف فيه بالبيع والهبة.
وقال أبو حنيفة: (لا يزول ملكه عنه، ويجوز له التصرف فيه بالبيع والهبة وغير ذلك، لكن إن باعه اشترى بثمنه هديا مثله) .
دليلنا: ما روى عبد الله بن عمر: «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يا رسول الله: إني أهديت نجيبا فأعطيت به ثلاثمائة دينار، أفأبيعه وأبتاع بثمنه بدنا؟ فقال: " لا، انحره» فمنعه من بيعه، وأمره بنحره. فلو جاز البيع لأمره به؛ لأن النجيب دقيق البدن قليل اللحم، والبدنة أكثر لحما منه، وأنفع للمساكين.

[فرع ركوب الهدي المنذور والانتفاع بلبنه وصوفه]
] : وإذا نذر هديا فساقه وكان مما يركب، فإن كان غير مضطر إلى ركوبه لم يجز له ركوبه؛ لأن الملك فيه لغيره، فلم يجز له الانتفاع به بغير إذن مالكه. وإن اضطر إلى ركوبه جاز له ركوبه، وله أن يركبه من إعياء وإن نقص منه شيء بالركوب ضمنه.
وقال أبو حنيفة: (ليس له أن يركبه) .
دليلنا: «ما روى أبو الزبير قال: سألت جابرا عن ركوب الهدي، فقال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا» هذا نقل البغداديين من أصحابنا.

(4/414)


وذكر المسعودي [في " الإبانة " ق \ 215] : هل له أن يركبه؟ فيه وجهان، إن كان الركوب لا يضر الهدي.
وإن كان الهدي المنذور أنثى فولدت تبعها الولد ونحر معها، سواء حملت به بعد النذر أو كانت حاملا به عند النذر؛ لما روي: أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رأى رجلا يسوق بدنة ومعها ولدها، فقال: (لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها، فإذا كان يوم النحر فاذبحها، واذبح ولدها معها) . ولأن الولد نماء الأم، وهي ملك للمساكين فملكوا ولدها. فإن أمكنه سوق الولد مع الأم ساقه، وإن لم يمكنه سوقه حمله على ظهر أمه؛ لما روي: (أن ابن عمر كان يحمل ولد البدنة عليها إلى أن يضحي) . ويسقي الولد لبن أمه، فإن كان اللبن وفق كفاية الولد لم يجز للمهدي شرب شيء منه. وإن فضل عن كفاية الولد شيء، أو مات الولد وبقي اللبن كان للمهدي شربه.
فإن قيل: الولد نماء الأم، واللبن نماؤها فكيف جاز للمهدي شرب اللبن دون أكل الولد؟ قلنا: الفرق بينهما من وجوه:
أحدها: أن بقاء اللبن في الأم يضر بها، وبقاء الولد لا ضرر فيه عليها.
والثاني: أن اللبن يستخلف، فما يتلفه يعود غيره، فدخلت فيه المسامحة.
والثالث: أن اللبن لو جمع لفسد وبطلت منفعته، بخلاف الولد. هذا نقل أصحابنا البغداديين.

(4/415)


وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 215] : من أصحابنا من قال: في اللبن وجهان، كالركوب، وليس بشيء.
وقال أبو حنيفة: (ليس له شرب لبنها، وإنما ينضح ضرعها بالماء حتى يجف لبنها) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الحج: 33] [الحج: 33] .
واللبن من المنافع لحديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. والمستحب: أن يتصدق باللبن؛ ليحصل له القربة بها، وبما يحدث منها.
وإن كان على الهدي صوف، فإن كان في تركه مصلحة له، بأن يكون في وقت البرد لم يجزه؛ لأنه ينتفع به الهدي والمساكين. وإن كان في جزه مصلحة، بأن يكون في وقت الحر جزه، والأولى أن يتصدق به، فإن انتفع به المهدي جاز كاللبن.

[فرع لا يضمن الهدي بنحره لإحصار ونحوه]
] : إذا قال: لله علي أن أهدي هذه البدنة أو هذه الشاة إلى مكة فساقها، ثم أحصر في الطريق ذبحها حيث أحصر من حل أو حرم لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحر هديه بالحديبية) . وهي حل. وإن تلف من غير تفريط لم يجب عليه ضمانه؛ لأنه أمانة

(4/416)


في يده، فلم يضمنه من غير تفريط، كالوديعة. وإن أصابه عيب ذبحه ولم يجب عليه بدله؛ لأنه لو هلك جميعه لم يجب عليه بدله فكذلك إذا هلك بعضه.
وقال أبو جعفر الأستراباذي من أصحابنا: يجب عليه إبداله سليما. وهو قول أبي حنيفة - وليس بشيء.

[مسألة عطب الهدي ونحره ولمن يحل أكله]
] : وإن عطب الهدي وخاف أن يهلك نظرت: فإن كان تطوعا فله ذبحه وأكله وإطعام من شاء منه من غني وفقير، وله ترك ذبحه إلى أن يموت ولا شيء عليه في ذلك لأنه ملكه. وإن كان نذرا معينا نحره وصبغ نعليه بدم جوفه، وضرب به على صفحة سنامه ليعلم أنه هدي، وخلى بينه وبين المساكين؛ لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث مع رجل من أسلم ثماني عشرة بدنة إلى مكة هديا، فقال له الأسلمي: يا رسول الله أرأيت إن زحف منها شيء - يعني: ضعف عن المشي - فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " انحرها، واصبغ نعليها بدم جوفها، واضرب بهما على صفحة سنامها، وخل بينها وبين المساكين، ولا تأكل أنت ولا أحد من أهل رفقتك منها شيئا» ولأنه هدي صار مصدودا عن الحرم، فوجب نحره في موضع الصد كهدي المحصر.

(4/417)


إذا ثبت هذا: فلا يجوز للمهدي أن يأكل منه؛ لأنه واجب عليه، ولا يجوز لأغنياء رفقته؛ لأن الهدي لا حق فيه للأغنياء.
قال ابن الصباغ: وكذلك سائقه وقائده، ولا يختلف المذهب: أنه لا يحل له الأكل منه. وأراد: وإن كان فقيرا؛ لأنه متهم في التقصير بعلفه وسقيه.
وهل يجوز لفقراء رفقته أن يأكلوا منه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لحديث ابن عباس، ولأن فقراء الرفقة متهمون في إعطابه طمعا في أكله، فحسم الباب لينحسم طمعهم فيه.
والثاني: يجوز؛ لأنهم فقراء، فشابهوا غيرهم. ومن قال بهذا حمل الخبر على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم أن تلك الرفقة لا فقير فيها.
إذا ثبت هذا: فإن الهدي لا يصير للفقراء مباحا إلا باللفظ، وهو أن يقول: أبحته

(4/418)


للفقراء والمساكين؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحر بدنا له، وقال: " ليقتطع من شاء منكم» وإنما لم يصر مباحا إلا بالقول؛ لأن له أن يخص به من شاء من الفقراء، كما قلنا في الزكاة. فإذا أذن المالك جاز لمن سمع الإذن أو علمه أن يأخذ منه، وأما من لم يسمع الإذن ولا أخبر به فهل يجوز له أن يأخذ منه إذا وجده مذبوحا مشعرا؟ فيه قولان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: لا يحل له حتى يعلم الإذن لجواز أن يكون تطوعا، أو كان واجبا وأراد أن يخص به بعض الفقراء.
والثاني: يحل له وإن لم يعلم الإذن؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما أمر بهذه العلامة من الدم لهذه العلة، ولأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما بعث الأسلمي لم يأمره أن يخص به قوما دون قوم.
وإن أخر ذبحه حتى مات وجب عليه الضمان؛ لأنه فرط بتركه، فلزمه الضمان، كالمودع إذا رأى من يسرق الوديعة فسكت عنه.
فإن قيل: أليس لو نذر عتق عبد، فأخر إعتاقه حتى مات لم يجب عليه ضمانه؟
قلنا: الفرق بينهما: أن المستحق للعتق هو العبد وقد تلف، وهاهنا المستحق للهدي هم الفقراء، وهم مجودون.

[فرع إتلاف الهدي بسبب منه]
] : وإن أتلف المهدي الهدي لزمه ضمانه؛ لأنه أتلف مال المساكين ويضمنه بأكثر الأمرين: من قيمته أو هدي مثله.

(4/419)


وقال مالك وأبو حنيفة: (يجب عليه قيمته يوم التلف) .
دليلنا: أنه لزمه الإراقة والتفرقة وقد فوت الجميع، فلزمه ضمانهما، كما لو أتلف شيئين.
فإن كانت القيمة مثل ثمن مثله اشترى بها هديا مثله.
وإن كان الثمن أقل من قيمة هدي مثله لزمه أن يشتري مثله.
وإن كانت أكثر، فإن أمكنه أن يشتري بها هديين مثله اشترى بها هديين، وإن لم يمكنه اشترى هديا مثله، وفي الفاضل ثلاثة أوجه:

(4/420)


أحدها: أن يشتري جزءا من حيوان؛ لأن الإراقة مستحقة وقد فوتها، فإذا أمكنه لم يتركها.
والثاني: يشتري به اللحم ويتصدق به؛ لأنه أقرب.
والثالث - وهو الصحيح -: أنه يتصدق بالقيمة؛ لأن الإراقة تشق، فسقطت فكان إيجاب القيمة أولى من دفع اللحم.
وإن أتلفه أجنبي وجبت عليه القيمة يوم التلف لا غير، والفرق بينه وبين المهدي: أن المهدي وجبت عليه الإراقة، وهذا لم تجب عليه الإراقة، فإن أمكنه أن يشتري بالقيمة هديا مثله اشترى بها، وإن رخص الهدي وقت الشراء فأمكنه أن يشتري بالقيمة هديين مثله اشترى بها هديين، وإن أمكنه أن يشتري بها هديا مثله وبقي هناك بقية لا يمكنه أن يشتري بها هديا آخر ففي البقية الأوجه الثلاثة.
وهكذا لو لم يمكنه أن يشتري بالقيمة هديا مثله؟ بأن غلا الهدي وقت الشراء فقد ذكرنا: أنه لا يلزمه إلا القيمة فقط، وفيما يصنع بها الأوجه الثلاثة.
وإن اشترى هديا ونذر إهداءه، ثم وجد به عيبا لم يكن له رده، كما لو اشترى عبدا وأعتقه، ثم وجد به عيبا.
فعلى هذا: يرجع بالأرش كما قلنا في العبد، وفيما يأخذه من الأرش وجهان:
[أحدهما] : قال عامة أصحابنا: يصرفه إلى المساكين؛ لأنه بدل عن الجزء الفائت الذي التزمه بالنذر، فإن لم يمكنه أن يشتري به هديا ففيه الأوجه الثلاثة.

(4/421)


و [الثاني] : قال ابن الصباغ: يكون المشتري أحق به؛ لأن الأرش إنما وجب له؛ لأن عقد البيع اقتضى سلامته وذلك حق للمشتري، وإنما أوجبه وهو في ملكه، فلا يستحق الفقراء ما أوجبه عقد الشراء. ولأن العيب قد لا يؤثر في اللحم، فلا يكون ذلك مؤثرا في المقصود.

[مسألة موضع نحر الهدي بأنواعه ووقته]
] : وإذا كان مع المعتمر هدي، فإن كان تطوعا مثل: أن اعتمر في غير أشهر الحج، أو في أشهر الحج لكنه لا يريد الحج من سنته، أو أراده ولكنه من أهل مكة، أو مقيم بها فكل هؤلاء لا دم عليهم. فإذا أراد أن يذبح كان تطوعا، وموضع نحره في الاختيار عند المروة؛ لأنه موضع تحلله، وذلك إذا أكمل السعي.
فإن قلنا: إن الحلاق ليس بنسك فقد تحلل من عمرته.
وإن قلنا: إن الحلاق نسك لم يتحلل إلا به؛ إلا أن المستحب أن ينحر قبل الحلق، كما أن السنة للحاج: أن ينحر بمنى بعد الرمي وقبل الحلق. وفي أي موضع من مكة والحرم نحر فيه أجزأه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «منى وفجاج مكة كلها منحر» .
وإن كان الهدي للتمتع أو للقران فوقت استحباب ذبحه يوم النحر، ووقت جوازه بعد الفراغ من العمرة، وبعد الإحرام بالحج، وهل يجوز ذبحه بعد الفراغ من العمرة، وقبل الإحرام بالحج؟ فيه قولان مضى ذكرهما.

(4/422)


وإن كان الهدي منذورا نحره يوم النحر وأيام التشريق، فإن أخره عن ذلك نحره بعد ذلك وكان قضاء. وإن أخر التطوع عن يوم النحر وأيام التشريق لم يكن هديا، وإنما يكون شاة لحم.

[مسألة استحباب الذبح لصاحب الهدي وأجرة الجازر]
وما يفعل باللحم] : والمستحب للإنسان: أن يتولى ذبح هديه بنفسه؛ لأنه قربة، فإن أمر غيره بذلك ممن تصح ذكاته جاز لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحر بعض هداياه، وأعطى عليا فنحر ما بقي منها» . فإن دفع الهدي إلى المساكين قبل النحر لم يجزه، لأن النحر مستحق عليه.
وإذا نحر الهدي فالمستحب: أن يقسم اللحم بين الفقراء والمساكين؛ ليكون أعظم للأجر، فإن سلمه إليهم مشاعا ليقتسموه بينهم جاز لما روي: أنه «قرب للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمس بدنات فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ، فلما وجبت جنوبها قال: " من شاء فليقتطع» . فإن قيل: أليس النثار عندكم مكروها؟
قلنا: الفرق بينهما: أن النثار لا يزيل ملك صاحبه، وإنما يزول ملك صاحبه عنه إذا أخذ، فربما أخذه من لا يحب صاحبه أن يأخذه، وهاهنا قد زال ملك المهدي عن الهدي، فإذا وقع الذبح، ثم سلمه إليهم فقد سلم إليهم ملكهم، فكان لهم أخذه.
ويجب عليه أن يسلم إليهم جميع لحم الهدي وجلده؛ لما «روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (أمرني رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أقوم على بدنه، وأقسم لحمها وجلودها وجلالها في

(4/423)


المساكين، ولا أعطي الجازر منها شيئا» فإن كان الجازر فقيرا جاز أن يعطي منه لحق الفقر، وقوله: (ولا أعطي الجازر منها شيئا) أي: لحق الأجرة؛ لأن أجرة الجازر على المهدي.
قال الشافعي في القديم: (ويعطي النعال التي قلدها المساكين) .
قال أصحابنا: هذا مستحب؛ لأنه ليس من أصل الهدي.
فإن لم يفرق اللحم حتى أنتن قال الشافعي: (كان عليه قيمته) . وذكر في (مختصر الحج) : (أن عليه الإعادة) .
قال الشيخ أبو حامد: فيها قولان:
أحدهما: عليه إعادة الذبح، أو يضمنه بمثله؛ لأنه فرط.
والثاني: عليه قيمة اللحم. قال: وهو الصحيح؛ لأن الذبح قد وجد، وإنما بقي إيصال اللحم إلى المساكين، فإن تركه حتى أنتن فقد أتلفه، واللحم لا مثل له، فضمنه بقيمته. وقوله: (عليه الإعادة) أراد: إعادة القيمة وإخراجها إلى المساكين.

[مسألة ذبح النذر بيد غيرالمهدي]
مسألة: [ذبح النذر بيد غير المهدي] : وإذا نذر هديا معينا فقد ذكرنا: أن المستحب للإنسان أن يذبح هديه بنفسه، فلو ذبحه غيره بغير أمره أجزأ المهدي؛ لأنه مستحق الذبح، فإذا ذبحه غيره وقع الموقع، كرد الوديعة والغصب وإزالة النجاسة. ووجب على الذابح ما بين قيمته حيا ومذبوحا، كما لو ذبح شاة لغيره، فإن أمكن أن يشتري بذلك هديا آخر مثله

(4/424)


اشترى به، وإن لم يمكن كان فيه ثلاثة أوجه مضى ذكرها، هذا نقل البغداديين من أصحابنا، وحكى الخراسانيون فيها قولين آخرين:
أحدهما: لا شيء عليه - وبه قال أبو حنيفة - لأن الذبح قد وقع الموقع.
والثاني: إن شاء جعلها عن الذابح وأخذ قيمتها وإن شاء أخذها وما نقص من قيمتها.
وقال مالك: (لا يجزئ عن المهدي) وقد مضى الدليل عليه.

[مسألة تعيين ذبح بدلا عما وجب عليه في ذمته]
] : وإن كان في ذمته هدي، بأن كان قد تمتع أو قرن أو تطيب، فوجبت عليه شاة، فقال: علي لله أن أنحر هذه الشاة عما في ذمتي تعين عليه أن يذبح هذه الشاة عما في ذمته؛ لأنه

(4/425)


لو نذر أن يهديها ابتداء لتعين عليه ذبحها، فإذا نذر أن يذبحها عما في ذمته فالأولى أن يلزمه ذبحها ويزول ملكه عنها، فلا يملك بيعها ولا إبدالها بغيرها، كما لو نذر ذبحها ابتداء. فإن هلكت قبل أن تصل إلى الحرم بتفريط أو غير تفريط، أو حدث بها عيب يمنع الإجزاء رجع الواجب إلى ما في ذمته، ويلزمه أن يذبح شاة صحيحة، كما نقول فيمن عليه دين في ذمته، فأعطى صاحب الدين بدينه عينا، ثم هلكت العين أو أصابها عيب قبل القبض وردها فإن صاحب الدين يرجع إلى دينه في ذمته، ويبطل التعيين في هذه العين. وإن أصاب هذه الشاة المعينة عيب أو هلكت بعدما وصلت إلى الحرم ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول ابن الحداد -: أنها تجزئه، فيذبح المعيبة ويفرقها، ولا يلزمه إبدالها؛ لأنها بلغت محلها.
والثاني: لا تجزئه هذه المعيبة، ويلزمه إخراج شاة صحيحة، وهو اختيار القاضي أبي الطيب وابن الصباغ؛ لأن العيب والهلاك أصابها قبل وصولها إلى المساكين، فهو كما لو أصابها ذلك قبل أن تبلغ الحرم.
إذا ثبث هذا: فإن قلنا: يجزئه إخراج المعيبة فلا كلام.
وإن قلنا: لا يجزئه فهل تعود المعيبة إلى ملكه، أو يلزمه إخراجها مع السليمة؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يلزمه - وهو قول أحمد - لأن الفقراء ملكوها بالتعيين.

(4/426)


والثاني: تعود إلى ملكه، وهو الصحيح.
فعلى هذا: له أن يأكلها ويبيعها ويطعمها من شاء؛ لأنهم إنما ملكوها في مقابلة ما في ذمته، فإذا أصابها العيب قبل التسليم رجعت إلى ملكه، كما لو قضى عينا بدين في ذمته، ثم أصابها عيب قبل القبض، فردها صاحب الدين فإنها ترجع إلى ملك من عليه الدين.
وإن عطب هذا الهدي المعين قبل أن يصل إلى الحرم فنحره عاد الواجب إلى ما في ذمته، وهل يملك المهدي هذا الهدي المنحور؟ على هذين الوجهين
وإن ضل هذا الهدي المعين وجب عليه إخراج ما في ذمته، فإن عاد الضال بعد تفرقة الأول لزمه إخراج الضال، وهل يجب ذلك أو يستحب؟ فيه وجهان حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يستحب؛ لأن ما في ذمته قد سقط بإخراج الأول.
والثاني: يجب: لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها أهدت هديين، فأضلتهما، فبعث إليها ابن الزبير بهديين، فنحرتهما، ثم عاد الضالان، فنحرتهما، وقالت: (هذه سنة الهدي) . ولأنه لم يزل عن صفته الأولى وقد كانوا ملكوه بالتعيين، فلم يزل ملكهم عنه بضلاله.

(4/427)


وإن رجع الضال قبل تفرقة لحم الأول قال ابن الصباغ: لم يلزمه قال ويحتمل أن يقال أيضا: إنه واجب، كما إذا لم يجد ما يتطهر به فصلى، ثم وجد الماء للطهارة.
هذا إذا كان الذي عينه مثل الذي في ذمته، فإن كان الذي عينه دون الذي في ذمته، بأن عين شاة معيبة، قال ابن الحداد: لزمه ذبح ما عينه ولم يجزه عما في ذمته، كما إذا كانت عليه كفارة فأعتق عنها عبدا معيبا فإنه يعتق ولا يجزئه عن الكفارة.
وإن عين أعلى مما في ذمته، بأن عين بدنة أو بقرة عن شاة في ذمته لزمه نحرها، فإن هلكت قبل وصولها رجع الواجب إلى ما في ذمته، وهل يلزمه إخراج ما كان في ذمته قبل التعيين أو مثل الذي عين؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه إلا مثل الذي كان في ذمته؛ لأن المعين قد بطل بالهلاك، فرجع إلى ما في ذمته.
والثاني: يلزمه مثل المعين؛ لأنه أوجب الفضل بتعيينه.
وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ": إن فرط فيه لزمه مثل الذي عين، وإن لم يفرط ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه مثل ما في ذمته.
والثاني: مثل الذي عين.
قال ابن الصباغ: والأول أصح.
وإن نتجت هذه الشاة المعينة فهل يتبعها ولدها؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يتبعها، ويكون ملكا للمهدي لأن ملك الفقراء لم يستقر فيها لأنه قد يصيبها عيب، فيعود الملك فيها إلى المهدي.

(4/428)


والثاني: يتبعها، وهو الصحيح؛ لأنها تعينت بالنذر، فصار كولد التي نذر ذبحها ابتداء، وعدم الاستقرار فيها لا يمنع من استتباع الولد، كالأمة المبيعة إذا ولدت في يد البائع، ثم هلكت.
فإذا قلنا بهذا: فهلكت الأم، أو أصابها عيب وقلنا: تعود إلى ملك المهدي فما حكم الولد؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما - وهو الأظهر -: أنه يكون ملكا للفقراء، كما نقول في الأمة المبيعة إذا ولدت في يد البائع ثم هلكت.
والثاني: أنه يعود إلى ملك المهدي تبعا لأمه.

[مسألة لا يشترط خروج الهدي إلى عرفة]
] : ليس من شرط الهدي إيقافه بعرفات، وروي: (أن ابن عمر كان لا يرى الهدي إلا ما عرف به، ووقف مع الناس، ولا يدفع به حتى يدفع الناس) .
وقال سعيد بن جبير: البدن والبقر لا يصلح ما لم يعرف.
وقال مالك: (أحب للقارن أن يسوق هديه من حيث يحرم، فإن ابتاعه دون ذلك مما يلي مكة فلا بأس بذلك بعد أن يقفه بعرفات) .
وقال في هدي المجامع: (إن لم يكن ساقه، فليشتره بمكة، ثم ليخرجه إلى الحل وليسقه منه إلى مكة، ولينحره بها) . دليلنا: ما روي عن عائشة: أنها قالت: (إن شئت فعرف، وإن شئت فلا تعرف) ولأنه لا يشترط أن يطاف به، فلم يشترط أن يقف به بعرفة.

(4/429)


[مسألة الأيام المعدودات والمعلومات]
] : لا يختلف أهل العلم أن الأيام المعدودات هي: أيام التشريق، وهي الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من ذي الحجة.
وأما الأيام المعلومات: فهي عندنا: العشر الأول من ذي الحجة، وآخرها يوم النحر.
وقال مالك: (المعلومات ثلاثة أيام: يوم النحر، ويومان بعده) . فالحادي عشر والثاني عشر عنده من المعلومات ومن المعدودات.
وقال أبو حنيفة: (المعلومات ثلاثة أيام: يوم عرفة، ويوم النحر، والحادي عشر) .
وقال علي وابن عباس: (المعلومات أربعة أيام: يوم عرفة، ويوم النحر، ويومان بعده) .
وفائدة الخلاف: أنه - عندنا - يجوز ذبح الهدايا والضحايا في أيام التشريق كلها.

(4/430)


وعند مالك: لا يجوز في اليوم الثالث.
دليلنا: أن الله تعالى ذكر الأيام المعلومات والمعدودات وخالف بينهما في التسمية، واختلاف التسمية يقتضي اختلاف المسميات. ولأن أيام التشريق كلها محل للذبح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنها أيام أكل وشرب وذبح» ، يعني: أيام التشريق.
ونقول - في اليومين الأولين من أيام التشريق -: لأنه شرع فيهما رمي الجمار الثلاث، فلم تكن من المعلومات كاليوم الثالث، ونقول في الثالث؛ لأنه شرع فيه الرمي، فكان محلا للذبح، كيوم النحر.
فأما قول الله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 28] [الحج: 28] .
فلأن المتمتع والقارن لهما الذبح في العشر كلها، ولأنه يجوز سوق الهدي في العشر كلها، وذكر اسم الله تعالى عليها. ولأنه يجوز أن يضاف الشيء إلى جملة، ثم يقع على بعض تلك الجملة، ألا ترى إلى قَوْله تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} [نوح: 15] {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [نوح: 16] [نوح: 15 - 16] .

(4/431)


فأضاف القمر إليهن وهو في واحدة منهن، كذلك يجوز أن يضيف الذبح إلى العشر، وهو في العاشر منها لا غيره.
والله أعلم، وبالله التوفيق.

(4/432)