البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب الفوات والإحصار]
ومن أحرم بالحج فلم يقف بعرفة حتى طلع الفجر من يوم النحر.. فقد فاته الحج، وعليه أن يتحلل بعمل عمرة، وهو: الطواف والسعي والحلق، ولا ينقلب ذلك إلى عمرة، ويسقط عنه توابع الحج، وهو: المبيت والرمي، ويجب عليه القضاء وهدي.
وبه قال أبو حنيفة إلا في الفدية، فإنه قال: (لا فدية عليه) .
وقال أبو يوسف وأحمد: (ينقلب إحرامه عمرة، فيطوف ويسعى ويحلق، ويجزئه عن عمرة الإسلام، ويقضي الحج من قابل) .
وعن مالك ثلاث روايات:
إحداهن: كقولنا، والثانية: (لا قضاء عليه كالمحصر) ، والثالثة: (يبقى على إحرامه إلى العام القابل) .
وقال المزني: يجب عليه أن يأتي بما بقي من أفعال الحج: من المبيت، والرمي.
دليلنا: ما روي عن عمر، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وابن عباس: أنهم قالوا: (من فاته الحج.. تحلل بالطواف والسعي، وعليه القضاء والهدي من قابل)

(4/380)


ولا مخالف لهم، ولأن الفوات سبب يوجب قضاء الحج، فأوجب الهدي، كالإفساد.
وعلى أبي يوسف: أن إحرامه قد انعقد بنسك، فلم ينقلب إلى نسك آخر بتفريط كان منه، كما لو أفسد الحج.
وأما الدليل ـ على المزني ـ: فإن المبيت والرمي من توابع الوقوف، وقد سقط الوقوف، فسقطت توابعه.
وإن أحرم بالعمرة فقط.. فإنه لا يتصور فواتها؛ لأن الزمان كله وقت لها.
وإن كان قارنا بين الحج والعمرة ففاته الوقوف.. فإن العمرة تفوت بفوات الحج؛ لأن ترتيب العمرة يسقط، ويكون حكمها تابعا لحكم الحج. هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق \ 213] قولين:
أحدهما: هذا، وهو المشهور؛ لأنه إحرام واحد فلا يتبعض.
والثاني: لا تفوت العمرة؛ لأنه لا وقت لها.
فإذا قلنا بالمشهور.. تحلل بعمل عمرة، وعليه دم للقران ودم للفوات، وعليه أن يقضي قارنا، ثم يخرج شاة ثالثة للقران.

(4/381)


قال الشافعي: (فإن قضاه مفردا.. لم يكن له) .
قال الشيخ أبو حامد: أراد: أنه ليس له إسقاط الدم؛ لأن بالفوات قد وجب عليه أن يقضي بالقران، والقران يقتضي وجوب الدم، فإذا أفرد الحج والعمرة.. أجزأه ذلك؛ لأنه أكمل من القران، ولكن لا يسقط عنه دم القران.

[فرع وجوب الدم على المكي وغيره في الفوات]
] : المكي وغير المكي سواء في الفوات، وفي وجوب الدم لأجله، بخلاف دم التمتع؛ لأن الفوات يحصل من المكي كما يحصل من غيره، ودم التمتع يجب بترك الميقات، والمكي لا يترك الميقات؛ لأن ميقاته بلده.

[فرع الإحرام بالعمرة بأشهر الحج وفواته عليه]
] : فإذا أحرم بالعمرة في أشهر الحج، فتحلل منها، ثم أحرم بالحج ففاته.. فإن عليه قضاء الحج دون العمرة؛ لأن الحج فات دون العمرة، وعليه دم للتمتع، ودم للفوات.

[فرع قضاء الحج الفائت وإخراج الهدي]
] : وهل يجب عليه القضاء على الفور، أو يجوز تأخيره؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يجب على الفور، ويجوز له تأخيره؛ لأن أصل وجوب الحج يجوز له تأخيره، فكذلك قضاؤه.
والثاني: يجب قضاؤه على الفور؛ لما روي عن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنهم قالوا: (عليه القضاء من قابل) . ولأن القضاء بدل عما لزمه أداؤه على الفور بالدخول، بخلاف أصل الحج الواجب.
وأما الهدي: فهل يخرجه في سنة الفوات، أو في سنة القضاء؟ فيه وجهان:
أحدهما: يخرجه في سنة القضاء؛ لما روي عن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنهم

(4/382)


قالوا: (عليه القضاء من قابل والهدي) . ولأن القضاء والمقضي في معنى النسك الواحد؛ لأن الفرض يسقط عنه بالقضاء، فجرى مجرى التمتع، والمتمتع إنما يجب عليه الدم إذا أحرم بالنسك الثاني، وهو الحج.
والثاني: أنه يخرجه في سنة الفوات؛ لأنه سبب وجوبه.
فإذا قلنا: إنه يخرجه في سنة الفوات.. فهو وقت وجوبه.
وإن قلنا: إنه يخرجه في سنة القضاء.. فهل وقت وجوبه عند القضاء، أو عند الفوات وإنما يؤخر إخراجه إلى وقت القضاء؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: أنه يجب عند القضاء؛ لأنه لو وجب قبل ذلك.. لجاز إخراجه.
والثاني: أن وقت وجوبه عند الفوات؛ لأنه وقت سببه.

[فرع الوقوف في عاشر ذي الحجة أو الثامن خطأ]
] : إذا أخطأ الناس فوقفوا يوم العاشر من ذي الحجة، أو يوم الثامن منه.. أجزأهم ذلك، ولم يجب عليهم القضاء؛ لقول النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «حجكم يوم تحجون» .

(4/383)


ولأنه لا يؤمن مثل ذلك في القضاء. ولأن في إيجاب القضاء مشقة عظيمة وإبطالا للسفر الطويل والمال العظيم، هكذا قال عامة أصحابنا.
وذكر ابن الصباغ في موضع من " شامله ": أنهم إذا وقفوا يوم التروية.. لم يجزهم؛ لأن هذا لا يقع فيه الخطأ؛ لأن نسيان العدد لا يتصور من العدد الكثير، فأما العدد القليل: فلا يعذرون في ذلك؛ لأنهم مفرطون، ويأمنون مثل ذلك في القضاء.
قلت: ولعل ابن الصباغ أراد: إذا بان لهم أنهم وقفوا يوم الثامن قبل فوات يوم التاسع وليلة النحر. فأما إذا لم يبن لهم ذلك إلا بعد فوات وقت الوقوف.. فيجزئهم الوقوف في اليوم الثامن، لما ذكرناه في الوقوف يوم العاشر.

(4/384)


[فرع شهادة الرؤية المتأخرة]
] : وإن شهد شاهدان عشية عرفة برؤية الهلال، ولم يبق من النهار والليل ما يمكن الجماعة إتيان عرفة قال ابن الصباغ: وقفوا من الغد، كما قال الشافعي: (إذا شهد شاهدان برؤية الهلال ليلة الحادي عشر، أو بعد الزوال يوم العاشر في زمان لا يمكن فيه اجتماع الناس فإنهم يخرجون من الغد، ويصلون العيد، ويكون ذلك أداء للصلاة لا قضاء) .

[فرع المشاهد يعمل بعلمه]
] : وإن شهد برؤية الهلال واحد أو اثنان، فرد الحاكم شهادتهم فإن الشهود يقفون يوم التاسع على حكم رؤيتهم، ويقف الناس يوم العاشر عندهما، فإن وقف الشاهدان مع الناس يوم العاشر ولم يقفا يوم التاسع عندهما لم يجزهما ذلك.
وقال محمد بن الحسن: لا يجزئهما إلا إن وقفا مع الناس يوم العاشر، وإن وقفا يوم التاسع وحدهما لم يجزهما.
دليلنا: أنهما يتيقنان أن هذا يوم عرفة، فلزمهما الوقوف فيه، كما لو قبل الحاكم شهادتهما.

[مسألة الإحصار]
] : ومن أحرم بالحج وأحصره عدو من المشركين، ومنعوه عن النفوذ في طريقه، ولم يكن له طريق سواه جاز له أن يتحلل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] الآية [البقرة: 196] .
وهذه الآية نزلت في شأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه لـ: (أنهم خرجوا من المدينة سنة ست، وأحرموا بعمرة، ونزلوا الحديبية؛ ليدخلوا مكة فصدتهم قريش عن

(4/385)


ذلك، ومنعتهم الدخول، ثم خرج إليهم سهيل بن عمرو فصالحهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على: أن يرجع ويعود من قابل، فأنزل الله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] .
فتحلل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، ورجعوا، ثم أتوا من قابل، وقضوا عمرتهم) ، وإن كان المانع له عدوا من المسلمين جاز له أن يتحلل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] الآية.
فعم ولم يخص، فالآية وإن كانت واردة على سبب إلا أنها مستقلة بالعموم.
وروي: «أن ابن عمر أراد أن يخرج إلى الحج في سنة ابن الزبير، فقيل له: إن صددت فقال: (إن صددت عن البيت صنعت كما صنعنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحديبية» .
وإن كان لهم طريق غير هذا الذي منعوا منه، فإن كان مثل طريقهم الذي صدوا عنه لم يكن لهم التحلل؛ لأنهم قادرون على الوصول. وإن كان أطول من طريقهم، فإن لم تكن معهم نفقة تكفيهم لذلك الطريق كان لهم التحلل؛ لأنهم مصدودون عن البيت بغير حق؛ إذ قطع الطريق بغير نفقة لا يمكن، فهو كما لو لم يجدوا طريقا غير التي صدوا عنها. وإن كان معهم نفقة تكفيهم لطريقهم الآخر لم يجز لهم التحلل، ولزمهم سلوك الطريق الآخر، سواء علموا أنهم إذا سلكوا الطريق

(4/386)


الآخر فاتهم الحج أو لم يفتهم؛ لأن علة جواز التحلل الحصر، لا خوف الفوات، ألا ترى أن من أحرم بالحج في يوم عرفة بالجند يعلم أنه لا يمكنه الوقوف بعرفة؟ ومع هذا فلا يجوز له التحلل لأجله. فإن سلك الطريق البعيد فأدرك الحج فلا كلام، وإن فاته الحج تحلل بعمل عمرة، وهل يلزمه القضاء؟ فيه قولان:
أحدهما: عليه القضاء؛ لأنه فاته الحج فلزمه القضاء، كما لو فاته بالنسيان، أو أخطأ الطريق، أو أخطأ العدد.
والثاني: لا يلزمه القضاء؛ لأنه غير مفرط في الفوات، فهو كما لو تحلل بالحصر قبل الفوات.

[مسألة الصد عن الحج وأحكام الصادين]
] : فإن كان العدو الذي صدهم مسلمين فالأولى أن لا يقاتلوهم، وسواء كان الحاج أقوى أو الصاد لهم؛ لأن التحلل أهون من قتال المسلمين وجرحهم، فإن بذلوا لهم تخلية الطريق بجعل لم يجب عليهم بذل الجعل، وجاز لهم التحلل، سواء كان ما سألوه قليلا أو كثيرا؛ لأنا لو أوجبنا دفع القليل لأوجبنا دفع الكثير إذا كان سببهما واحدا. فإن بذلوا لهم الجعل جاز ولم يكره؛ لأنه لا صغار على المسلمين.
وإن كان العدو الذي صدهم مشركين فذكر المسعودي [في " الإبانة " ق \ 211] : إن كان بإزاء كل مسلم مشركان أو أقل لم يجز لهم التحلل، وإن كانوا أكثر جاز لهم التحلل.
وقال البغداديون من أصحابنا: لا يجب عليهم قتالهم بحال؛ لأن قتال المشركين

(4/387)


لا يجب على المسلمين إلا إذا بدؤوا بالقتال، أو استنفرهم أهل الثغور إلى قتالهم، وهؤلاء لم يبدؤوا بقتال، وإنما منعوا الطريق فقط. فإن قاتلوهم جاز، وهل الأولى أن يقاتلوهم، أو يتحللوا؟ ينظر فيه: فإن كان في المسلمين قوة، وفي المشركين الصادين لهم ضعف فالأولى أن يقاتلوهم؛ ليجمعوا بين نصرة الإسلام والتوصل إلى قضاء نسكهم، وإن كان في المشركين قوة وفي المسلمين ضعف فالأولى أن لا يقاتلوهم؛ لئلا يلحق الإسلام والمسلمين وهن بغلبة الكفار. وإن بذلوا لهم تخلية الطريق بجعل كره لهم دفعه إليهم؛ لأن في ذلك إجراء صغار على الإسلام. وإن بذلوا لهم الجعل جاز.
وإن بذلوا لهم تخلية الطريق بعد المنع، فإن كانوا واثقين بعقدهم غير خائفين من غدرهم لم يجز لهم التحلل؛ لأنهم غير مصدودين. وإن كانوا خائفين من غدرهم جاز لهم التحلل.
إذا ثبت أن لهم التحلل، فإن كان الوقت واسعا قال الشافعي: (أحببت لهم أن لا يتحللوا، وينتظروا اليومين والثلاث؛ لأنه ربما زال الحصر وانصرف العدو) .
فإن انتظروا ولم ينصرف العدو، أو كان الوقت ضيقا يخشى فيه فوات الحج قال الشافعي: (أحببت له أن يتحلل لئلا يفوته الحج) .
فإن تحلل من إحرامه لم يخل: إما أن ينصرف العدو، أو لا ينصرف. فإن لم ينصرف العدو رجع المصدود. وإن انصرف العدو، فإن كان الوقت واسعا بحيث يمكنه أن يجدد الإحرام ويمضي ويدرك الحج فقد استقر وجوب الحج عليه؛ لأنه قد تمكن منه، لكنه بالخيار: إن شاء حج في هذه السنة، وإن شاء أخر وحج في سنة أخرى؛ لأن الحج - عندنا - على التراخي. وإن كان الوقت ضيقا بحيث لا يمكنه أن يلحق الحج سقط عنه الوجوب في هذه السنة.
وإن لم يتحلل حتى فاته الحج وجب عليه القضاء بالفوات، فإن كان قد زال

(4/388)


العذر لزمه الوصول إلى مكة، ويتحلل بعمل عمرة، وكان عليه هدي للفوات. وإن لم يزل العدو عن طريقه كان له أن يتحلل، ووجب عليه القضاء وهدي للتحلل وهدي للفوات.

[مسألة إحصار المحرم بعمرة]
] : وإن أحرم بالعمرة وأحصر جاز له التحلل.
وحكي عن مالك: أنه قال: (لا يجوز له التحلل؛ لأنه لا يخاف فوتها) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
ولم يفرق بين الحج والعمرة، ولـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه كانوا محرمين بالعمرة، فلما أحصروا نزلت هذه الآية بشأنهم، فتحللوا) . ولأنا لو ألزمناه البقاء على الإحرام ربما طال الحصر زمانا، فيكون عليه مشقة في البقاء على الإحرام، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إني لم أبعث باليهودية، وبالنصرانية، ولكني بعثت بالحنيفية السمحة» .

(4/389)


وقوله: (لأنه لا يخشى فوتها) لا يفيده، ألا ترى أن من أحرم بالحج في أول أشهر الحج، ثم أحصر يجوز له التحلل وإن كان لا يخاف الفوات حال تحلله.

[فرع إحاطة العدو بالمحرم]
] : فإن أحرم وأحاط به العدو من كل جهة، حتى لا يمكنه الخروج عن مكانه فهل يجوز له التحلل؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز له؛ لأنه لا يستفيد بالتحلل شيئا.
والثاني: يجوز له التحلل؛ لأنه يستفيد بذلك بأن ينهزم إلى ناحية بلده، فيكون متخلصا من الإحرام.

[مسألة قضاء الحج بسبب الإحصارالعام أو الخاص]
مسألة: [قضاء الحج بسبب الإحصار العام أو الخاص] : وإذا أحرم فصد عن الحرم فتحلل، فإن كان الحصر عاما فهل يجب عليه القضاء؟ ينظر فيه:
فإن كان في حج قد تقدم وجوبه عليهم فهو باق في ذمتهم إلى أن يأتوا به، وإن كان لم يتقدم وجوبه لم يجب عليهم القضاء؛ لأجل التحلل من الحصر. وبه قال من الصحابة: ابن عباس وابن عمر، ومن الفقهاء: مالك وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (يجب عليهم القضاء، سواء كان الحج تطوعا أو واجبا) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] الآية [البقرة: 196] .
فاقتضت الآية: أن هذا جميع موجب الإحصار، ولو كان لهذا موجب آخر وهو القضاء لبينه، ولـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أحصر وأصحابه وتحللوا كان معه ألف وأربعمائة رجل، فلما كان في العام القابل عاد بنفر يسير، ولم يأمر من تخلف عنه

(4/390)


بالقضاء) . ولو كان القضاء واجبا لأمرهم به. فإن قالوا: فقد أعاد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الاعتمار في العام القابل، وسميت عمرة القضاء.
قلنا: فعله لها في السنة الثانية لا يدل أنها قضاء عما تحلل عنها في الأولى، بل يجوز؛ لأن الوجوب كان قد استقر عليه، فأدى ما وجب عليه، بدليل: أنه لم يأمر جميع من كان تحلل معه في العام الأول بالقضاء. وأما تسميتها عمرة القضاء: فإن هذه التسمية من أهل النقل، ولا احتجاج بقولهم، ويجوز أن تكون سميت عمرة القضاء؛ لأنه كان قضاء سهيل بن عمرو على العود من قابل، فسميت عمرة القضاء والقضية، لا لأنها قضاء عما تحللوا عنه.
وإن كان الحصر خاصا، بأن حبسه القاضي بدين عليه، فإن كان يقدر على قضائه لم يجز له التحلل، فإن تحلل لم يصح. وإن أقام على إحرامه حتى فاته الحج لزمه القضاء قولا واحدا؛ لأنه مفرط بذلك. وإن حبسه السلطان ظلما، أو حبسه القاضي بدين لا يقدر عليه جاز له التحلل، فإذا تحلل فهل يجب عليه القضاء؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يلزمه القضاء، كما لا يلزمه في الحصر العام.
والثاني: يلزمه؛ لأنه تحلل من الحج قبل وقته بسبب يختص به، فهو كما لو ضل الطريق ففاته الحج.

(4/391)


[مسألة الإحصار بعد الوقوف وصد أهل مكة عن الوقوف]
] : وإن وقف بعرفة، ثم أحصر عن المزدلفة ومنى وعن الطواف بمكة جاز له أن يتحلل، كما يجوز التحلل قبل الوقوف، فإن تحلل من إحرامه لم يجزه ما قد أتى به عن حجة الإسلام.
وحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال في " التعليق ": إذا قلنا: إن الأجير إذا مات بعد الإحرام يجوز البناء على فعله، على القول القديم جاز لغيره أن يبني على عمله هاهنا. فإن أمكنه أن يستأجر من يكمل ما بقي عليه من حجه أجزأه.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 211] : فإن تحلل، ثم انكشف العدو فهل له البناء على باقي حجه بعد تحلله؟ فيه قولان، بناء على القولين في جواز البناء على حج الأجير.
وإن بقي على إحرامه ولم يتحلل فإن الطواف والسعي لا يفوتان؛ لأنه ليس لهما وقت مقدر يفوتان بفواته، ولكن المبيت بالمزدلفة والرمي يفوتان. فإن فاتا قبل تحلله فهل يجب عليه الدم لترك المبيت بالمزدلفة ومنى؟ على قولين، قد مضى ذكرهما. فإن قلنا: يجب وجب عليه دم للمبيت بالمزدلفة، ودم للمبيت بمنى ليالي الرمي. وهل يجب عليه دم لأجل الرمي أو دمان؟ على الكلام الذي مضى فيه إذا تركه عامدا. وأما حصول التحلل الأول: قال الشيخ أبو حامد: فإن أصحابنا قالوا: فوات وقت الرمي يجري مجرى فعل الرمي في حصول التحلل به.
فإن قلنا: إن الحلاق نسك حلق وتحلل به، وبفوات وقت الرمي.
وإن قلنا: إن الحلاق ليس بنسك فقد حصل له التحلل بفوات وقت الرمي، ومتى أمكنه الطواف والسعي أتى بهما.
فأما إذا أحرم أهل مكة أو المقيمون بها بالحج وصدوا عن عرفة جاز لهم التحلل عندنا.
وقال مالك: (لا يجوز لهم التحلل) .

(4/392)


دليلنا: أنه ممنوع من إكمال نسكه بغير حق فجاز له التحلل، كما لو كان مصدودا عن البيت. ولأنا لو منعناه من التحلل لفاته الحج ولزمه القضاء، وفي ذلك مشقة. فإن تحلل فهل يجب عليه القضاء؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: لا يجب عليه القضاء؛ لأنه تحلل من نسكه بالحصر العام، فلم يجب عليه القضاء، كما لو كان مصدودا عن البيت.
والثاني: أن عليه القضاء؛ لأن المحصر الذي لا قضاء عليه هو المصدود عن البيت، وهذا ليس بمصدود عن البيت، وإنما لم يقدر على الوقوف، فشابه من فاته الوقوف.
فإن لم يتحلل حتى فاته الوقوف تحلل بالطواف والسعي والحلق، وعليه هدي للفوات، ووجب عليه القضاء قولا واحدا؛ لأنه فرط في ترك التحلل.

[مسألة ما يجب على المحصر بتحلله والتعريف بأنواع الدماء]
] : وإذا أراد المحصر أن يتحلل فعليه أن يهدي شاة، وبه قال أحمد وأبو حنيفة.
وقال مالك: (يتحلل، ولا شيء عليه) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
ومعنى الآية: فإن أحصرتم، فأردتم التحلل فما استيسر من الهدي.
وروى جابر قال: «أحصرنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحديبية، فنحرنا البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة» .

(4/393)


ولأنه تحلل من نسكه قبل تمامه، فلزمه الهدي، كما لو تحلل بعد الفوات.
فإن كان واجدا للهدي فعليه أن يخرجه، فإن كان في الحرم نحر هديه فيه وتحلل. وإن كان في الحل، فإن كان لا يمكنه إيصال الهدي إلى الحرم جاز أن يذبح هديه حيث أحصر، وإن كان يمكنه إيصاله إلى الحرم ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز له ذبحه إلا في الحرم؛ لأنه يقدر على إيصاله إلى الحرم، فلزمه نحره فيه، كما لو أحصر فيه.
والثاني: أنه بالخيار: بين أن يبعث به إلى الحرم، وبين أن يذبحه حيث أحصر؛ لأنه موضع تحلله، فهو كما لو لم يكن قادرا على إيصاله. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز للمحصر أن ينحر في الحل بحال، بل يلزمه إنفاذ الهدي إلى الحرم، فإذا وصل ونحر حينئذ يتحلل في الحل، فإن تحلل قبل نحر الهدي في الحرم لم يعتد به، وكان عليه الفدية) .
دليلنا: ما روى ابن عمر قال: «خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه وهم محرمون بالعمرة، فلما بلغ الحديبية صده المشركون ومنعوه، فلما قاضى سهيل بن عمرو أمر أصحابه فنحروا وتحللوا» والحديبية حل، بدليل ما روي عن مجاهد: أنه قال: «نحر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هداياه تحت الشجرة» وهو: الموضع الذي بني مكانها المسجد، وهي الشجرة التي كانت تحتها بيعة الرضوان، وفيها نزل قَوْله تَعَالَى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] [الفتح: 18] .

(4/394)


إذا ثبت هذا: فإنه ينحر الهدي، ثم يحلق: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
فأراد بـ: (المحل) : نحر الهدي. ولأن هدي المحصر قد أقيم مقام إكمال الأفعال لغير المحصر، ثم ثبت أن غير المحصر لا يتحلل قبل إكمال الأفعال، فكذلك المحصر لا يتحلل قبل نحر الهدي.
ولا بد من نية الخروج من الإحرام أو التحلل منه؛ لأنه يخرج من العبادة قبل إكمالها بعذر، فاحتاج إلى نية الخروج، كالصائم إذا مرض واحتاج إلى الإفطار في أثناء النهار فإنه ينوي الخروج من الصوم ويفطر، كذلك هاهنا.
فإن قيل: هدي المحصر عندكم يقوم مقام إكمال الأفعال لغير المحصر، وقد ثبت أن غير المحصر إذا أكمل أفعال النسك تحلل منها بغير نية، فهلا قلتم: لا يحتاج هاهنا إلى نية؟
قلنا: نحن وإن قلنا: إن الهدي يقوم مقام إكمال الأفعال فليس بإكمال؛ لأن من أكمل أفعال النسك فقد أتى بالنسك وسقط به الفرض، فلم يحتج إلى نية الخروج، كالصائم إذا أكمل الصوم إلى الليل فإنه يخرج منه بغير نية، وهاهنا خروج من العبادة قبل إكمالها بعذر، فافتقر إلى النية، كالصائم إذا مرض واحتاج إلى الإفطار بالنهار.
ثم يحلق رأسه؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حلق رأسه بالحديبية) .
فإن قلنا: إن الحلق نسك حصل له التحلل بالهدي والنية والحلق.
وإن قلنا: ليس بنسك حصل له التحلل بالهدي والنية لا غير.
وإن كان عادما للهدي، بأن لم يكن معه هدي ولا ما يشتري به الهدي، أو كان معه الثمن ولم يجد هديا يشتريه فهل له بدل؟ فيه قولان:

(4/395)


أحدهما: لا بدل له - وبه قال أبو حنيفة - فيكون الهدي في ذمته إلى أن يجده؛ لأن الله تعالى قال: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
ولم يذكر بدله، ولو كان له بدل عند عدمه لذكره، كما ذكر في هدي المتمتع.
والثاني: له بدل - وبه قال أحمد - وهو الصحيح: لأنه هدي يتعلق بالإحرام، فكان له بدل عند عدمه، كهدي التمتع والطيب واللباس وجزاء الصيد، وعدم ذكر بدله لا يمنع قياسه على غيره.
فإذا قلنا: لا بدل له فهل له أن يتحلل قبل وجود الهدي؟ فيه قولان:
أحدهما: (لا يجوز له أن يتحلل) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] . [البقرة: 196] . ولم يفرق بين الواجد والعادم.
والثاني: (له أن يتحلل) ؛ لأن المحصر إنما جعل له التحلل ليتخلص من مشقة الإحرام. فلو قلنا: لا يتحلل حتى يجد الهدي لأدى ذلك إلى المشقة العظيمة؛ لأنه ربما تعذر عليه الهدي زمانا طويلا.
وإذا قلنا: إن لهدي المحصر بدلا، فما البدل فيه؟ فلذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: بدله الصيام - وبه قال أحمد - لأنه هدي للتحلل من الإحرام، فكان بدله الصوم، كهدي المتمتع.
والثاني: بدله الإطعام؛ لأن الإطعام قيمة للهدي، فإذا عدم الهدي ولم ينص على بدله كان الانتقال إلى قيمته أولى من الانتقال إلى الصوم.
والثالث: قال الشيخ أبو حامد - وهو من تخريج أصحابنا -: أنه مخير بين الصيام والإطعام؛ لأنه يتحلل ليترفه بقطع الشعر ولبس الثياب والطيب، فكانت كفارته على التخيير عند عدم الهدي، كفدية الأذى.
فإذا قلنا: إن بدله الصيام ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: صوم التمتع، وهو عشرة أيام، وبه قال أحمد، وقد مضى دليله.
والثاني: صوم التعديل؛ لأنه اعتبار للهدي بأصله، وهو الإطعام، ثم يصوم عن

(4/396)


كل مد يوما، فكان هذا أولى من اعتباره بغير أصله.
والثالث: صوم فدية الأذى، وهو صوم ثلاثة أيام؛ لأنه أشبه به.
وإن قلنا: بدله الإطعام ففيه وجهان:
أحدهما: إطعام التعديل؛ لأن اعتبار الهدي بأصله.
والثاني: إطعام فدية الأذى، وهو ثلاثة آصع لستة مساكين؛ لأنه أشبه به.
وإذا قلنا: إنه مخير بين الصيام والإطعام خير بين صوم فدية الأذى وبين إطعامه؛ لأنه أقرب إليه.
فإن أوجبنا عليه الإطعام وكان واجدا له أطعم وتحلل، وإن كان عادما له فهل له أن يتحلل قبل وجوده؟ فيه قولان، كالقولين في الهدي إذا قلنا: لا بدل له وإن قلنا: إن بدله الصيام فهل له أن يتحلل قبل الصيام، فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز له أن يتحلل حتى يصوم، كما إذا كان واجدا للهدي.
والثاني: له أن يتحلل قبل الصوم؛ لأن الصوم لا يمكنه جميعه في الحال، وإنما يأتي به يوما بعد يوم، ويشق عليه البقاء على الإحرام إلى الفراغ منه، بخلاف الهدي والإطعام.
إذا ثبت ما ذكرناه: فالدماء المنصوص عليها في القرآن في الحج أربعة:
أحدها: دم التمتع، وهو على الترتيب: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
ودم التمتع إنما وجب لترك النسك، وهو ترك الإحرام بالحج من ميقات بلده. فيقاس على هذا الدم والترتيب فيه كل دم وجب لترك النسك، وهي ثمانية دماء: أربعة دماء لم يختلف قول الشافعي في وجوبها، وهي: دم القران، ودم الفوات، ودم من ترك الرمي، ودم من أحرم من دون الميقات. وأربعة دماء اختلف قول الشافعي في وجوبها:

(4/397)


أحدها: إذا دفع من عرفة قبل الغروب، ولم يعد إليها.
الثاني: إذا ترك المبيت بالمزدلفة.
الثالث: إذا ترك المبيت بمنى ليالي الرمي.
الرابع: إذا ترك طواف الوداع.
فإذا أوجبنا هذه الدماء كانت كدم التمتع في الترتيب.
والثاني - من الدماء المنصوص عليها في القرآن -: دم فدية الأذى، وهو على التخيير؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
والدم المنصوص عليه في هذه الآية هو دم الحلق، عند عامة أصحابنا.
وتقدير الآية: فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه، فحلق ففدية.
وكل دم وجب لأجل الترفه، كقص الأظفار، والطيب، واللباس، واللمس، والقبلة بشهوة، والوطء فيما دون الفرج فهو مقيس على حلق الرأس على التخيير: بين إخراج الشاة، أو إطعام ستة مساكين ثلاثة آصع، أو صوم ثلاثة أيام.
وقال أبو إسحاق: دم الطيب واللباس منصوص عليه في الآية، وليس بمقيس على حلق الرأس. وتقدير الآية عنده: فمن كان منكم مريضا، فلبس، أو تطيب، أو به أذى من رأسه، فحلق ففدية: من صيام، أو صدقة، أو نسك.
وحكى الشيخ أبو حامد: أن من أصحابنا من قال: دم الطيب، واللباس، واللمس، والقبلة بشهوة، والوطء فيما دون الفرج، على الترتيب: فيجب الدم، فإن لم يجد فالإطعام، فإن لم يجد فصوم التعديل. وقال: وليس هذا بشيء.
وأما أبو علي الطبري والمسعودي [في " الإبانة " ق \ 213] : فذكرا له في دم الطيب واللباس قولين:

(4/398)


أحدهما: أنه على التخيير كالدم الواجب بحلق الرأس.
والثاني: أنه على الترتيب. واختاره المسعودي [في " الإبانة " ق \ 213]- فيجب الدم، فإن لم يجده قومه دراهم والدراهم طعاما وتصدق على كل مسكين بمد، فإن لم يجد صام عن كل مد يوما. ولم يذكر له دليلا، والأول هو المشهور.
والدم الثالث - من الدماء المنصوص عليها في القرآن -: دم جزاء الصيد، وهو على التخيير.
وقال أبو ثور: (هو على الترتيب) ، وليس بشيء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] [المائدة: 95] . فخيره بين المثل والإطعام والصيام.
قال أصحابنا: وهذا الدم أصل لا فرع له يرد إليه؛ لأن ضمان الصيد يجري مجرى ضمان الأموال، ألا ترى أن جزاء الصيد يختلف باختلاف الصيد في كبره وصغره؟ وليس في الحج دم آخر ضمانه كضمان الأموال حتى يرده إليه.
قلت: ولو رد الجزاء في إتلاف شجر الحرم إلى جزاء الصيد كان محتملا؛ لأن ضمانه ضمان الأموال، بدليل: أنه يختلف بصغره وكبره، ولكني لم أجده لأحد من أصحابنا.
والدم الرابع - من الدماء المنصوص عليه في القرآن في الحج -: وهو دم الإحصار؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
وهذا الدم أصل لا فرع له فيرد إليه، فإن كان واجدا للهدي أخرجه، وإن كان عادما فهل له بدل؟ فيه قولان، مضى ذكرهما.

(4/399)


وأما دم إفساد الحج بالوطء: فمأخوذ من السنة، والمنصوص: (أنه على الترتيب) .
وحكى أبو إسحاق قولا آخر: أنه على التخيير، وقد مضى ذكره.

[مسألة إحصار المريض والنصوص التي يجوزالقياس عليها]
مسألة: [إحصار المريض والنصوص التي يجوز القياس عليها] : وإذا أحرم بالحج فمرض لم يكن له أن يتحلل، سواء كان مرضه قليلا أو كثيرا، فإن أمكنه أن يمضي في طريقه فعل، وإلا أقام حتى يفوته الحج، ثم يتحلل بطواف وسعي، ويقضي. وبه قال ابن عباس وابن عمر، ومن الفقهاء مالك وأحمد.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: (للمريض أن يتحلل من إحرامه) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
فظاهر الآية: أن من دخل بهما فعليه إتمامهما بكل حال حتى تقوم دلالة التخصيص، فخص المحصر بالعدو بجواز التحلل بقوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وبقي فيما سوى ذلك على الوجوب.
وروى ابن عباس وابن الزبير: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل على ضباعة بنت الزبير، فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج، وإني شاكية، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أحرمي واشترطي: أن محلي حيث حبستني» . فلو كان المريض يجوز له أن يتحلل

(4/400)


بالمرض لبين لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك، ولما أمرها بالشرط في ذلك بالإحرام. ولأنه لا يتخلص بالتحلل من إيذاء المرض، فلم يجز له التحلل، كما لو أحرم فضل الطريق. ويخالف التحلل لأجل العدو؛ لأنه يتخلص بالتحلل من أذى العدو ومقاساته، وينصرف إلى أهله ووطنه. وهذا المعنى لا يوجد في المرض فلم يقس عليه؛ لأن ما خصه الله أو رسوله بالذكر ونص فيه على حكم على ثلاثة أضرب:
ضرب: لا يعقل معناه، ولا يجوز القياس عليه، وذلك مثل: أعداد الركعات وأوقاتها، ولذلك لم يقس عليها وجوب صلاة سادسة.
وضرب: يعقل معناه، ولم يوجد ذلك المعنى في غيره، مثل: المسح على الخفين؛ لأن معناه: أن الحاجة تدعو إلى لبسهما، وتلحق المشقة في نزعهما، وهذا لا يوجد في العمامة والقفازين؛ لأن الحاجة لا تدعو إلى لبسهما، وإن دعت الحاجة إلى لبسهما فيمكن المسح على الرأس من تحت العمامة. وكذلك التحلل من الإحرام لأجل الإحصار بالعدو عقل معناه، وهو: التخلص من العدو بالتحلل، وهذا المعنى لا يوجد في المرض. وكذلك تحريم الربا في الذهب والفضة عقل معناه، وهو: أنهما قيم الأشياء، ولم يوجد هذا المعنى في غيرهما، فلم يقس عليهما غيرهما من الحديد والرصاص وغير ذلك في تحريم الربا فيه.

(4/401)


وضرب: عقل معناه، ووجد ذلك المعنى في غيره، فيجوز القياس عليه، وذلك مثل: ما نص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على تحريم الربا في الحنطة والشعير والتمر والملح.
والمعنى المعقول - عندنا -: هو كونه مطعوم جنس، فقسنا عليه: الذرة والأرز وغيرهما من المطعومات.

[مسألة إحرام العبد وتحليله]
] : لا يجوز للعبد أن يحرم بالحج أو بالعمرة أو بهما بغير إذن سيده؛ لأن منافعه مستحقة لسيده فلا يجوز تفويتها عليه بغير إذنه. فإن أحرم بغير إذنه فقد ذكرنا: أنه يصح، خلافا لأهل الظاهر.
ودليلنا: أنه مكلف فصح إحرامه كما لو أحرم بالصوم بغير إذن سيده.
إذا ثبت هذا: فالمستحب للسيد أن يدعه لإتمامه؛ لأنه قربة وطاعة، فإن أراد السيد تحليله منه وإخراجه كان له ذلك؛ لأن منافعه ملك له، فلا يلزمه إتلافها بغير رضاه. فإذا منعه من إتمامه صار كالمحصر، فإن ملكه السيد مالا وقلنا: إنه يملك تحلل بالهدي وإن لم يملكه، أو ملكه وقلنا: إنه لا يملك فهو كالحر المعسر بالهدي إذا أحصر بالعدو، وهل للهدي بدل؟ فيه قولان.
فإذا قلنا: له بدل ففي بدله ثلاثة أقوال، على ما مضى.
وإذا قلنا: لا بدل له فإن الهدي ثبت في ذمته إلى أن يعتق.

(4/402)


وهل له أن يتحلل قبل إخراج الهدي؟ أو إذا قلنا: إن بدله الصوم هل له أن يتحلل قبل الفراغ من الصوم؟
نص الشافعي: أنه على قولين، كالحر المعسر.
وقال أبو إسحاق: يتحلل العبد قبل أن يجد الهدي، وقبل أن يصوم قولا واحدا، والفرق بينه وبين الحر المعسر: أن الحر إذا بقي على إحرامه دخل الضرر على نفسه دون غيره، فلذلك جاز أن يبقى على إحرامه، والعبد إذا تركناه على إحرامه دخل الضرر على السيد؛ لأنه لا يمكنه استعماله في ذبح الصيد وعمل الطيب وما أشبهه، ولأن وجود الهدي يقرب من الحر؛ لأنه ممن يملك، ويمكنه أن لا يتحلل حتى يجد الهدي بابتياع أو اتهاب، والعبد يحتاج إلى أن يصبر إلى أن يعتق، ثم يوسر، وفي هذا مشقة. وهذا الحكم في المدبر وأم الولد والمعلق عتقه بصفة.

[فرع رجوع السيد بإذنه لعبده في الإحرام]
] : وإن أحرم العبد بإذن المولى وجب عليه أن يمكنه من إتمامه، فإن رجع السيد في الإذن بعد الإحرام لم يكن له تحليله.
وقال أبو حنيفة: (له أن يحلله) .
دليلنا: أنه عقد لازم بإذن المولى فلم يملك إخراجه منه، كالنكاح.
وفيه احتراز: من المضاربة، والشركة، والعارية.
وإن رجع السيد في الإذن قبل أن يحرم العبد، فإن علم العبد برجوعه ثم أحرم كان كما لو أحرم بغير إذنه، على ما مضى؛ لأن إذنه الأول قد أبطله قبل الدخول فيه، وإن لم يعلم العبد بالرجوع فأحرم فهل له أن يحلله؟ فيه وجهان، بناء على القولين في بيع الوكيل بعد العزل وقبل علم الوكيل بالعزل.

(4/403)


[فرع بيع السيد عبده المحرم]
وإن أذن السيد لعبده بالإحرام فأحرم، ثم باعه قبل التحلل صح البيع؛ لأن الإحرام لا يمنع التسليم. فإن علم المشتري بذلك فلا خيار له، وإن لم يعلم فله الخيار في فسخ البيع؛ لأن بقاءه على الإحرام يضر بالمشتري.
وقال أبو حنيفة: (لا خيار له؛ لأنه عبده، له أن يحلله، كما لو كان لبائعه) . وقد مضى الدليل عليه.
فأما إذا أحرم بغير إذن سيده ثم باعه لم يكن للمشتري الخيار في فسخ البيع، سواء علم بإحرامه أو لم يعلم؛ لأن له أن يحلله كما كان للبائع أن يحلله فقام المشتري مقامه في ذلك.

[فرع سفر المكاتب للحج والعمرة]
] : وأما المكاتب: فإذا أراد أن يسافر للحج والعمرة فهل للسيد منعه من ذلك؟
فيه طريقان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان كالسفر للتجارة.
و [الثاني] : منهم من قال: له أن يمنعه من سفر الحج والعمرة قولا واحدا؛ لأن السفر للتجارة يقصد به زيادة المال، وفي سفر الحج إتلاف المال من غير زيادة.

[مسألة الحج للزوجة]
إذا أرادت الزوجة أن تسافر لحج التطوع أو تحرم به فللزوج منعها منه؛ لأن حقه واجب عليها، فلا يجوز لها تفويته عليه بما ليس بواجب عليها. وإن أرادت أن تسافر

(4/404)


لحجة الإسلام أو تحرم بها فهل للزوج منعها من ذلك؟ فيه قولان حكاهما ابن الصباغ، والمسعودي [في " الإبانة " ق \ 211 و 212] :
أحدهما: ليس له منعها من ذلك - وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» . وهذا عام في المسجد الحرام وغيره. ولأنه لا يجوز للزوج منعها من الصلاة المفروضة في أول الوقت وإن كان يجوز تأخيرها إلى آخر الوقت، فكذلك الحج الواجب.
والثاني: له أن يمنعها من ذلك - ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره - لما روى الدارقطني بإسناده، عن ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في امرأة لها زوج ولها مال ولم يأذن لها في الحج، قال: " ليس لها أن تنطلق إلا بإذن زوجها» . ولأن الحج - عندنا - على التراخي، وحق الزوج على الفور، فكان مقدما، كالعدة تقدم على الحج. ويخالف الصلاة في أول الوقت؛ لأن مدتها يسيرة، فلا يستضر الزوج بذلك، بخلاف الحج. فإن أذن لها الزوج فأحرمت لزمه تمكينها من إتمامه فرضا كان أو تطوعا؛ لأنه يلزم بالدخول. وإن أحرمت بغير إذنه صح إحرامها فرضا كان أو تطوعا، وهل يجوز للزوج أن يمنعها من إتمامه ويطالبها بالتحلل؟ ينظر فيه:
فإن كان في حجة الإسلام، فإن قلنا: لا يجوز له منعها من الدخول فيه لم يكن له تحليلها منه. وإن قلنا: له منعها من الدخول فيه فهل له منعها من إتمامه؟ فيه قولان:
أحدهما: له أن يحللها منه؛ لأن له منعها من الدخول فيه، فكان له تحليلها كالأمة.

(4/405)


والثاني: ليس له تحليلها؛ لأنه كان له منعها منه ما لم يكن مضيقا عليها، بل هو على التراخي، فأما إذا أحرمت فيه فقد تضيق عليها وتعين عليها.
وإن كان الحج تطوعا فقد قال الشافعي: (ومن قال: ليس له أن يحللها من حجة الإسلام إذا أحرمت به يلزمه أن يقول: إذا أحرمت بتطوع لم يكن له أن يحللها منه) . فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان، كحجة الإسلام؛ لأن حجة التطوع تلزمه بالدخول، كحجة الإسلام.
ومنهم من قال: له أن يحللها من حج التطوع قولا واحدا - وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق في " المهذب " - كما يجوز له أن يحللها من صوم التطوع، وما ذكره الشافعي في حجة التطوع، فإنما ذكره تشنيعا على قول من قال: ليس له منعها من إتمام حجة الإسلام، وتضعيفا له، لا أنه مذهب له في حج التطوع.

[فرع الحج والعمرة وإذن الوالدين]
] : فأما إذا أراد أن يسافر للحج أو العمرة وله والدان أو أحدهما، فإن كان لحج واجب: إما حجة الإسلام أو النذر أو قضاء عليه لم يكن لهما ولا لأحدهما منعه منه؛ لأن هذا واجب عليه، وطاعة الوالدين مستحبة مندوب إليها، فلا يجوز له أن يترك الواجب بالمستحب. وإن كان لحج تطوع كان لهما ولكل واحد منهما منعه؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلا يجاهد معه، فقال: " ألك والدان؟ " فقال: نعم، فقال: " استأذنتهما؟ "، فقال: لا، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ففيهما فجاهد ".

(4/406)


وفي رواية: تركتهما وهما يبكيان، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ارجع إليهما فأضحكهما، كما أبكيتهما» فإذا كان ذلك في الجهاد الذي هو فرض ففي حج التطوع أولى. فإن أحرم بغير إذنهما، أو بغير إذن أحدهما، فإن كان في حج واجب لم يكن لهما تحليله؛ لأنهما لا يجوز لهما منعه من الدخول فيه، فلم يكن لهما منعه من إتمامه. وإن كان لحج تطوع فهل لهما تحليله منه؟ فيه قولان:
أحدهما: لهما منعه من إتمامه ومطالبته بالتحلل منه؛ لأن لهما منعه من الدخول فيه، فكذلك من إتمامه، كالسيد مع عبده.
والثاني: ليس لهما منعه من إتمامه؛ لأنه صار بالدخول فيه واجبا عليه، فلم يكن لهما منعه من إتمامه كحجة الإسلام، ويفارق السيد مع عبده؛ لأنه يملك رقبته ومنفعته.

[مسألة الإحرام مع الشرط]
] : إذا أحرم واشترط في إحرامه التحلل لغرض صحيح، مثل: أن يقول: متى مرضت، أو ضاعت نفقتي، أو ضللت عن الطريق، أو خفت الفوات، أو أخطأت العدد تحللت فهل يجوز هذا الشرط ويتعلق به الحكم؟
قال الشافعي في القديم: (يجوز ذلك) ، وقال في الجديد: (إن صح حديث ضباعة قلت به) واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: لا يصح هذا الشرط، ولا يتعلق به حكم - وبه قال مالك وأبو حنيفة - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .

(4/407)


ولم يفرق بين أن يشترط أو لا يشترط إلا فيما خصه الدليل. ولأن كل عبادة جاز الخروج منها بالشرط جاز الخروج منها بغير الشرط، كالصوم لما جاز له أن يخرج منه إذا شرط الخروج بالمرض في البلد جاز أن يخرج منه إذا مرض وإن لم يشرط. والصلاة لما لم يجز أن يخرج منها بغير شرط لم يجز أن يخرج منها بالشرط. وكذلك الإحرام قد ثبت أنه: لا يجوز الخروج منه بعذر بغير شرط، فكذلك لا يجوز الخروج منه بشرط.
والقول الثاني: أنه يجوز هذا الشرط ويتعلق به الحكم - وهو الصحيح - لما روي: «أن ضباعة بنت الزبير قالت: يا رسول الله إني أريد الحج وإني شاكية، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أحرمي واشترطي أن محلي حيث حبستني» . ولأن الإحرام يجب به النسك كما يجب بالنذر، ثم إذا شرط في النذر أن يصوم إن كان صحيحا حاضرا صح شرطه، فكذلك إذا شرطه في الإحرام.
ومنهم من قال: يصح هذا الشرط ويتعلق به الحكم قولا واحدا؛ لأن الشافعي إنما علق القول في الجديد على صحة حديث ضباعة وقد صح.
إذا ثبت هذا: قال ابن الصباغ: فإن شرط أن يتحلل بالهدي تحلل به، وإن شرط أنه يتحلل من غير هدي تحلل بغير هدي، وإن شرط أنه إذا مرض صار حلالا، فمرض فالمنصوص: (أنه يصير حلالا) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كسر أو عرج فقد حل، وعليه حجة أخرى» ولا يمكن حمل الخبر إلا على هذا. ولأن

(4/408)


هذا التحلل مستفاد بالشرط، فوجب أن يكون على حسب الشرط ومقتضاه.
ومن أصحابنا من قال: إنه لا بد من التحلل؛ لأن أصل هذا: هو حصر العدو، والمحصر بالعدو لا يخرج من إحرامه إلا بالتحلل، كذلك هذا مثله.
قال الشيخ أبو حامد: وإذا وجد الشرط فهل يجب عليه الهدي؟ فيه وجهان:
أحدهما: عليه الهدي؛ لأن الأصل في الإحصار هو حصر العدو، والمحصر بالعدو إنما يتحلل بالهدي، فكذلك هذا مثله.
والثاني - وهو المنصوص -: أنه لا هدي عليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لضباعة: «أحرمي واشترطي أن محلي حيث حبستني» ولم يأمرها بالهدي، وهذا وقت حاجتها إلى البيان، فلما لم يبين علم أنه ليس بواجب. ولأنه إذا شرط التحلل بالعذر فإحرامه لم يتضمن من الأفعال إلا إلى وقت العذر، فإذا وجد ذلك العذر فقد انتهت أفعال نسكه، فخروجه عن الإحرام هو بعد انتهاء أفعال النسك، فجرى مجرى غير المحصر، إذا أكمل أفعال النسك وخرج منها لا هدي عليه، كذلك هذا مثله.
ويفارق هذا المحصر بالعدو؛ لأن إحرامه يتضمن أفعال النسك، فإذا تحلل بالحصر لزمه الدم لأجل ما ترك من أفعال النسك. وظاهر كلام صاحب " المهذب ": هو الوجه الأول.
فأما إذا شرط في إحرامه: أنه إذا شاء تحلل لم يصح هذا الشرط قولا واحدا؛ لأنه خروج من غير عذر فلم يصح.

[مسألة الردة بعد الحج]
] : إذا حج المسلم حجة الإسلام، ثم ارتد عن إسلامه لم يحبط عمله بنفس الردة، بل يكون مراعى، فإن قتل أو مات على الردة حكمنا بانحباط عمله، وإن أسلم لزمه قضاء ما فاته في حال الردة من الصلاة والصيام، وحجه قبل الردة صحيح لا يجب عليه قضاؤه.

(4/409)


وذهب مالك وأبو حنيفة إلى: أن بنفس الردة يحبط عمله، فإذا أسلم لم يجب عليه قضاء الصلوات والصيام وكان عليه قضاء الحج.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [البقرة: 217] [البقرة: 217] .
فأخبر: أن عمله إنما يحبط بالردة والموت عليها. فمن قال: يحبط بنفس الردة فقد خالف نص الآية. ويدل على ذلك «قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأقرع بن حابس، حين قال له: الحج في الدهر مرة واحدة أو أكثر يا رسول الله؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بل مرة، وما زاد هو تطوع» .
وإن أحرم، ثم ارتد، ثم أسلم ففيه وجهان:
أحدهما: يبطل إحرامه؛ لأنه إذا بطل الإسلام الذي هو أصل فلأن يبطل الإحرام الذي هو فرع أولى.
والثاني: لا يبطل، كما لا يبطل بالجنون والموت، فيبني عليه.
وبالله التوفيق

(4/410)