البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب الصيد والذبائح]
. الحيوان على ضربين: ضرب: لا تعتبر في إباحته الذكاة. وضرب: تعتبر في إباحته الذكاة.
فأما ما لا يعتبر فيه الذكاة: كالسمك والجراد. فأما السمك: فكل ما قلنا يحل من دواب البحر.. فيحل أكل كل ما مات منه، سواء مات بسبب أو بغير سبب، مثل: أن ضربه إنسان أو حبس عنه الماء حتى مات، أو مات بحر الماء أو ببرده، أو مات حتف أنفه. هذا قولنا، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (إن مات بسبب: إما بضرب أو بحبس الماء عنه.. حل أكله ـ وإن مات ببرد الماء أو بحره.. فهل يحل؛ له فيه روايتان ـ وإن مات حتف أنفه.. لم يحل) . وهذه المسألة هي المشهورة بالسمك الطافي.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ} [المائدة: 96] [المائدة:96] .
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (صيده: ما صدناه بأيدينا، وطعامه: ما مات فيه) وهكذا قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وروى أبو هريرة: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال في البحر: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» . وروى ابن عمر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «أحلت لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان: فالسمك والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال» .
ولأن كل حيوان حل أكله إذا مات بسبب.. حل أكله إذا مات حتف أنفه، كالجراد.

(4/523)


[مسألة: لا يضر صيد المجوسي وغيره للسمك]
قال الشافعي: (وسواء أخذ السمك مجوسي أو وثني) ؛ لأنه لا ذكاة له، فيحل الجميع؛ لما روي عن الحسن البصري: أنه قال: (رأيت سبعين رجلا من الصحابة، كلهم يأكلون صيد المجوسي من الحيتان لا يتلجلج في صدورهم شيء من ذلك) .
ولأنه لا تعتبر فيه الذكاة، فلا تعتبر فيه صفة من يأخذه.

[فرع: أكل ما قطع من السمكة وهي حية]
فرع: [ما قطع من السمكة وهي حية] :
فإن أخذ بيده سمكة فانقطع في يده منها قطعة، وانفلت الباقي منها حيا ... فهل تحل له تلك القطعة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يحل؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «ما أبين من حي.. فهو ميت» .
والثاني: تحل، وهو المنصوص؛ لأن أكثر ما فيه: أن تلك القطعة ميتة، ولو مات جميع السمكة.. كانت حلالا. فإن قيل: لو رمى صيدا فأبان بعضه وامتنع الباقي.. لم تحل تلك القطعة؟ فالجواب: أن الصيد غير الحوت، إذ لو مات حتف أنفه.. لم يحل أكله، فلذلك لا يحل ما أبين منه، بخلاف السمكة.

[فرع: وجود سمكة ببطن أخرى وحكم القلي والروث والدم]
] : وإن أخذ سمكة فوجد في جوفها سمكة أخرى ميتة.. قال في " الأم " 2/198] : (حل أكلهما معا؛ لأن أكثر ما فيها: أن يكون قتلها غير الآدمي، وهي لو ماتت حتف أنفها.. حل أكلها، فبأن تحل إذا كان موتها بسبب أولى) .

(4/524)


وإن ابتلع رجل السمك الصغار حيا قبل أن يموت.. فوجهان:
[أحدهما] : قال ابن القاص: يحل؛ لأن قتله بغير الذكاة جائز، وفي ابتلاعه قتله.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: لا يحل؛ لأنه يعذبه بذلك، وقد: «نهى النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ عن تعذيب الحيوان» ، قال: وهكذا لا يحل أن يقلي السمك قبل موته، أن يأخذه وهو يضطرب فيطرحه في الزيت المغلي؛ لأنه تعذيب.
قال الشيخ أبو حامد: وأما السمك الهازي: وهو السمك الصغار، الذي يقلى ببغداد ولا يخرج ما في جوفه من الرجيع.. فلا يحل أكله ورجيعه فيه؛ لأن رجيعه نجس، فلا يحل أكله.
فعند الشيخ أبي حامد: روث السمك نجس وجها واحدا، وفي دمه وجهان.
وأما صاحب " الإبانة ": فقال: في روث السمك وجهان، كدمه، أصحهما: أنه ليس بنجس.
فعلى هذا: يحل أكله قبل أن يخرج.

[مسألة: حل ميت الجراد]
وأما الجراد: فيحل من غير ذكاة سواء مات بسبب منه أو بغير سبب منه، وبه قال أبو حنيفة.

(4/525)


وقال مالك والأوزاعي: (لا يحل إلا إذا مات بسبب منه) وهي إحدى الروايتين عن أحمد، واعتبر مالك في ذكاتها: قطف رأسها.
دليلنا: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «أحلت لنا ميتتان: السمك والجراد» ولم يفرق. ولأن كل حيوان حل أكله إذا مات بسبب منه، حل أكله وإن كان بغير سبب منه، كالسمك.

[مسألة: ذكاة غير السمك والجراد]
ومن هم أهل الذكاة] . وأما غير السمك والجراد من الحيوان، كالأنعام والخيل والصيد.. فلا يحل إلا بذكاة، فإن مات شيء منه حتف أنفه.. لم يحل، وكذلك الطيور التي تعيش تارة في البر، وتارة في البحر، وهي: البط والإوز فلا تحل إلا بذكاة، سواء ماتت في البحر أو في البر: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] [المائدة: 3] وهذه ميتة.
إذا ثبت هذا: فقال الشافعي في " الأم " [2/206] : (وأحب أن يكون من يلي الذبح رجلا مسلما بالغا فقيها؛ لأنه أعرف بمحل الذكاة، وبما يذكي به، وبكيفية الذكاة) فإن ذبح مرتد أو وثني أو مجوسي.. لم يحل أكل ما ذبح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] [المائدة: 5] وأراد به الذبائح، وهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب.
وإن ذبح يهودي أو نصراني من العجم.. حل أكل ذبيحته؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] وأراد به الذبائح. ولأن لهم حرمة بفضل كتابهم وشرفه، فحلت ذبائحهم.
ولا تحل ذبيحة نصارى العرب، وهم: تنوخ، وبهراء، وبنو وائل. وهو قول عمر وعلي.
وقال أبو حنيفة: (يحل لنا أكل ذبائحهم) .
دليلنا: أنهم دخلوا في النصرانية بعد التبديل، ولم يعلم: هل دخلوا في دين من بدل، أو في دين من لم يبدل؟ فلما أشكل أمرهم.. حرمت ذبائحهم، كالمجوس.

(4/526)


[فرع: ذبيحة المرأة والصبي والأعمى وغيرهم]
فرع: [حل ذبيحة المرأة والصبي والأعمى وغيرهم] :
قال الشافعي [" الأم " 2/205] : (وذبح [كل] من أطاق الذبح من امرأة حائض أو صبي من المسلمين أحب إلي من ذبح اليهودي والنصراني) .
وهذا كما قال: الأولى أن يكون الذابح رجلا بالغا: لأنه أقوى على الذبح، فإن ذبحت امرأة.. جاز؛ لما روى علقمة، عن عبد الله: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أكل ذبيحة امرأة» .
وروى نافع، عن ابن عمر: «أن جارية من آل كعب كانت ترعى غنما لهم، فرأت شاة موتى، فأخذت حجرا فكسرته، وذبحتها به، فذكر ذلك لرسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ، فقال تؤكل» . ومن هذا الخبر خمس فوائد:

(4/527)


إحداهن: أن ذكاة النساء جائزة.
الثانية: لا فرق بين أن تكون حائضا أو طاهرا، حاملا أو حائلا؛ لأن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لم يستفصل. .
الثالثة: جواز الذبح بالمروة.
الرابعة: أن من ذبح شاة غيره بغير إذنه.. وقعت الذكاة موقعها.
الخامسة: أن الشاة إذا خيف موتها وفيها حياة مستقرة، فذكيت.. حلت.
ويحل أكل ما ذكاه الصبي سواء كان مراهقا أو غير مراهق؛ لما روي عن جابر وابن عباس: أنهما قالا: (تؤكل ذبيحة الصبي) ، ولا مخالف لهما.
وأما المجنون والسكران: فتكره ذكاتهما؛ لأنهما ربما أخطآ موضع الذكاة، فإن ذكيا.. حل أكل ذبيحتيهما؛ لأن القصد غير معتبر في الذكاة، كما لو قطع شيئا يظنه خشبة فكان حلق شاة، هذا هو المشهور.
وقال القاضي أبو حامد: في ذبيحة الصبي والمجنون قولان، أظهرهما: أنها تحل. قال: وكذلك السكران إذا أسقطنا حكم طلاقه.
إذا تقرر هذا: فإن المرأة أولى بالذكاة بعد الرجال البالغين من الصبي؛ لأنها مكلفة، ثم الصبي أولى من اليهودي والنصراني لأنه مسلم، ثم اليهودي والنصراني

(4/528)


أولى من السكران والمجنون؛ لأنه يخاف منهما قتل الحيوان.
وتكره ذكاة الأعمى؛ لأنه لا يؤمن أن يخطئ المذبح، فإن ذبح.. جاز؛ لأنه لم يفقد غير النظر، وذلك لا يوجب التحريم.
وتحل ذكاة الأخرس؛ لأنه لم يفقد أكثر من نطقه، وذلك لا يوجب التحريم.

[مسألة: ما يستحب في المدية وحكم غيرها]
] . المستحب: أن يذبح بسكين حاد لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «إذا ذبحتم.. فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» .
إذا ثبت هذا: فيجوز الذبح بكل محدد يتأتى الذبح به: من حديد أو صفر أو خشب أو ليطة. وهي: قشر القصب ـ أو مروة، وهي: الحجارة الحادة.
ولا يجوز الذبح بالسن والظفر سواء كانا متصلين أو منفصلين.
وقال أبو حنيفة: (لا تجوز الذكاة بهما، لكنه إن خالف وذكى بهما، فإن كانا متصلين.. لم تحصل بهما الذكاة، وإن كانا منفصلين.. حل أكله) .
دليلنا: ما روى رافع بن خديج: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه.. فكلوه، إلا ما كان من سن أو ظفر، وسأخبركم عن ذلك: أما السن فعظم، وأما الظفر: فمدى الحبشة» . ولأنه ذبح بعظم فوجب أن لا يبيح كما لو كان متصلا.

(4/529)


[مسألة: ما ينحر ويذبح وموضع الذبح وما يقطع منه]
] : السنة عندنا: أن تنحر الإبل، وأن تذبح البقر والغنم، هذا نقل البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : يتخير في البقر: بين النحر والذبح والأول أشهر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] [الكوثر: 2] .
وقال تعالى في قصة موسى وبني إسرائيل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] [البقرة: 67] .
قال مجاهد: أمرنا بالنحر، وأمر بنو إسرائيل بالذبح؛ لأن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بعث في قوم مواشيهم الإبل، فسن لهم النحر.. وكانت مواشي بني إسرائيل البقر، فسن لهم الذبح.
إذا ثبت هذا: فأراد أن ينحر الإبل.. فالسنة أن ينحرها معقولة وهي قائمة؛ لما روي: «أن ابن عمر رأى رجلا أضجع بدنة، فقال: قياما سنة أبي القاسم ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ» ثم

(4/530)


يأخذ حربة أو سكينا فيغرزها في ثغرة النحر، وهي: الوهدة التي تكون في أعلى الصدر، وأصل العنق.
وإذا أراد أن يذبح البقر والغنم.. فالسنة أن يضجعها لـ: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أضجع الكبشين اللذين ضحى بهما، ووضع رجله على صفاحهما» .
وإذا ثبت هذا ـ في الغنم ـ: فالبقرة مثلها: لأنها لما كانت السنة فيها الذبح كالغنم.. كان السنة فيها الإضجاع كالغنم، فإن خالف ونحر البقر والغنم.. أجزأه بلا خلاف؛ لما روى جابر: أنه قال: «أحصرنا مع رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بالحديبية، فنحرنا البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة» .
وإن ذبح الإبل.. جاز، وحل أكلها.
وقال مالك: (لا يحل أكلها) .
دليلنا: أن كل ما كان ذكاة للبقر والغنم.. كان ذكاة للإبل، كالنحر.
وأما موضع الذبح: فهو أسفل مجامع اللحيين وهو آخر العنق، والكمال فيه: أن يقطع أربعة أشياء: الحلقوم، والمريء، والودجين.
فـ (الحلقوم) : مجرى النفس والتنفس من الرئة، و (المريء) : تحت الحلقوم وهو مجرى الطعام والشراب، و (الودجان) ـ قال الشيخ أبو حامد ـ: هما عرقان محيطان بالحلقوم، قال: وكنا نذكر قبل هذا: أنهما محيطان بالمريء، ورأيت أكثر الناس يقولون: هما محيطان بالحلقوم، وأيهما كان.. فقطعهما شرط في الكمال.
وأما الإجزاء: فاختلف الناس فيه على أربعة مذاهب.
فمذهبنا: أن الإجزاء يحصل بقطع الحلقوم والمريء لا غير.
وقال مالك: (قطع الأربعة شرط في الإجزاء) .
وقال أبو حنيفة: (قطع أكثر الأربعة شرط في الإجزاء) ، فمن أصحابه من قال: مذهبه: أن قطع الأكثر من كل واحد من الأربعة شرط في الإجزاء وهو الظاهر، وقال أبو يوسف: قطع أكثر الأربعة عددا شرط في الإجزاء.

(4/531)


دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] [المائدة: 3] .
و (الذكاة) ـ في اللغة ـ: هي الشق والفتح، فإذا قطع الحلقوم والمريء.. فقد شق وفتح. ولأن الودجين قد يسيلان من الحيوان وتبقى الحياة فيه، فلم يكن قطعهما شرطا في الإجزاء كاليد والرجل، بخلاف الحلقوم والمريء. ولأن القصد من الذكاة إخراج الروح من غير تعذيب، وهذا يحصل بقطع الحلقوم والمريء فأجزأه، كقطع الأربعة.
ويكره أن يبادر إلى تقطيع الذبيحة أو سلخها قبل خروج روحها وسكونها، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (لا تعجلوا الأنفس حتى تزهق، فإن الجاهلية كانت تضرب الذبيحة عقيب الذبح بالعصا حتى تخرج روحها) ، و: (نهى عمر عن النخع) . فمعنى قوله: (الأنفس) يعني: الروح، ومعنى: (حتى تزهق) : أي قبل أن يتسارع خروج روحها، يقال: زهقت نفسه إذا خرجت، وزهق فلان بين يدي القوم: إذا أسرع مبادرا. ولأن في ذلك تعذيب الحيوان، فإن خالف وفعل.. حل أكلها؛ لأن الذكاة قد حصلت. وأما نهيه عن النخع: فقال الشافعي: (هو كسر العنق بعد الذبح) . وقال أبو عبيدة: (النخع والفرس) : واحد، وهو أن يبالغ في الذبح إلى أن يبلغ بالذبح بعد قطع الحلقوم والمريء والودجين إلى النخاع، وهو العرق الأبيض في جوف فقر الظهر، وهو: من عجب الذنب إلى الدماغ.
قال أبو عبيد: أما (النخع) : فكما قال أبو عبيدة، وأما (الفرس) : فهو الكسر

(4/532)


يقال: فرست الشيء إذا كسرته، ومنه فريسة الأسد لما دقه وكسره.
فإن كسر عنقه بعد الذبح.. كره؛ لنهي عمر، ولم يؤثر في إباحة اللحم؛ لأن ذلك يحصل بعد الذكاة.

[فرع: ما يسن حال الذبح]
ويستحب أن يستقبل القبلة بالذبيحة، ويسمي الله تعالى، ويصلي على النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ، وقد مضى الكلام على ذلك في الأضحية.

[فرع: ذبح الحيوان من القفا]
وإن ذبح الحيوان من قفاه.. نظرت: فإن كانت فيه حياة مستقرة بعد قطع الرقبة وقبل قطع الحلقوم والمريء.. حل أكله. وإن لم تكن فيه حياة مستقرة.. لم يحل أكله.
قال الشيخ أبو حامد: وإنما يعرف هذا بالحركة، فان كانت الحركة قوية قبل قطع الحلقوم والمريء والودجين.. حل أكلها. وإن لم تكن هناك حركة.. لم يحل أكلها.
واختلف أصحابنا في علته:
فمنهم من قال: لأنه قد وجد فعلان: أحدهما: تتعلق به الإباحة، والآخر: يتعلق به الحظر، فإذا لم نعلم بقاء الحياة المستقرة بالحركة.. حكمنا بالحظر.
وعلل أبو إسحاق بأن الظاهر أن الحيوان إذا قطعت رقبته من قفاه: أنه لا تبقى فيه حياة مستقرة قبل قطع الحلقوم والمريء، فإذا كان هذا هو العادة.. علم أنه ما كان بقي فيها حياة مستقرة إذا لم تكن هناك حركة، وأما إذا كانت هناك حركة.. حل أكلها.
وقال مالك وأحمد: (لا يحل أكلها) .
دليلنا: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه.. فكلوه» . ولأنها ذكاة حصلت وفيه حياة مستقرة فأباحت، كما لو قطع رجلها ثم ذبحها.

(4/533)


[فرع: جرح الحيوان ثم ذبحه]
] : وإن جرح السبع أو الآدمي الشاة فذبحت.. ففيها ثلاث مسائل:
إحداهن: إذا جرحها جراحا قد تموت منه وقد لا تموت منه، فأدركها وفيها حياة مستقرة فذبحها.. حل أكلها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] [المائدة: 3] .
ولأن فيها حياة مستقرة فحل أكلها، كما لو لم يكن فيها جراحة.
الثانية: إذا جرحها جرحا تموت منه لا محالة، ولكن فيها حياة مستقرة.
قال الشيخ أبو حامد وابن الصباغ: والحياة المستقرة في هذه المسألة عما يجوز أن تبقى اليوم أو اليومين، ويجوز أن لا تبقى، مثل: أن يشق جوفها وظهرت الأمعاء ولم تنفصل، فإذا أدركها وذكاها.. حل أكلها؛ لحديث الجارية التي كسرت حجرا وذبحت بها شاة، فأمر النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بأكلها.
الثالثة: إذا جرحها جرحا لا تبقى معه حياة مستقرة، مثل: أن يشق جوفها، وأبان حشوتها فذبحها.. لم يحل. وهكذا البهيمة إذا كانت مريضة قد أشرفت على الموت لا تحل بالذكاة.
وحكى صاحب " الفروع " عن أبي علي بن أبي هريرة: أنه قال: ما دامت البهيمة تضرب بذنبها وتفتح عينيها.. فإنها تحل بالذكاة. وليس بشيء؛ لأن الحياة فيها غير مستقرة، وإنما حركتها حركة مذبوح.
وقد نقل المزني المسألة الثانية، وأفتى فيها بجواب الثالثة، ثم قال: وله قول آخر: (أنها تؤكل) فأومأ إلى قولين. وليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين على ما بيناه.

(4/534)


[مسألة: الاصطياد بالسباع]
يجوز الاصطياد بسباع البهائم التي يمكن أن تعلم الاصطياد: كالكلب والفهد والنمر، وسباع الطير: كالصقر والبازي والباشق والعقاب. وبه قال ربيعة ومالك وأبو حنيفة.
وقال ابن عمر ومجاهد: (لا يجوز الاصطياد إلا بالكلب) .
وقال الحسن والنخعي وأحمد وإسحاق: (يجوز الاصطياد بجميع ذلك إلا بالكلب الأسود، فإنه لا يجوز) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] [المائدة: 4] .
فمعنى قوله: الْجَوَارِحِ أي: الكواسب. قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [الجاثية: 21] [الجاثية: 21] أي: اكتسبوا السيئات.
وقال تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60] [الأنعام: 60] أي: ما كسبتم. ويقال هو جارحة أهله، أي: كاسب أهله، وإذا كانت الجوارح الكواسب.. فلم يفصل بين كاسب دون كاسب.
وأما قوله: {مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] فالكلاب تقع على سباع البهائم كلها؛ لما روي «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ دعا على عتبة بن أبي لهب، فقال: " اللهم سلط عليه كلبا من كلابك يفترسه» فافترسه الأسد. ويجوز أن يكون قوله: {مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] مأخوذا من التكليب:

(4/535)


وهو تعليم الجارحة للصيد، يقال: فلان يكلب على فلان، أي: يغري عليه.
ومن السنة ما روي «عن عدي بن حاتم: أنه قال: سألت النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ عن صيد البازي، فقال: " كل مما أمسك عليك» . وروى عدي بن حاتم: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ

(4/536)


قال: «ما علمت من كلب أو باز، ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه.. فكل مما أمسك عليك "، قلت: وإن قتل، قال: " إذا قتله ولم يأكل منه شيئا.. فإنما أمسكه عليك» .

[مسألة: أحكام تتعلق بإرسال الجارحة]
وإن أرسل جارحة غير معلمة على صيد فجرحه، فإن أدركه وفيه حياة مستقرة فذكاه.. حل أكله، وإن أدركه وليس فيه حياة مستقرة.. لم يحل أكله؛ لما روى أبو ثعلبة الخشني: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «إذا أرسلت كلبك الذي ليس بمعلم، فإن أدركت ذكاته.. فذكه وكل» .
وإن استرسل المعلم بنفسه وجرح صيدا، فإن أدركه وفيه حياة مستقرة فذكاه.. حل أكله، وإن لم يدرك فيه حياة مستقرة.. لم يحل: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] [المائدة: 4] وهذا ما أمسك علينا، وإنما أمسك على نفسه.
وإن أرسل من يحل الحيوان بذكاته جارحة معلمة، فقتل الصيد بظفره أو نابه أو منقاره ولم يأكل منه.. حل أكله، لما روى عدي بن حاتم: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «ما علمت من كلب أو باز، ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه.. فكل مما أمسك عليك وإن قتل ولم يأكل منه.. فإنما أمسكه عليك» .

(4/537)


[فرع: شروط الجارحة المعلمة]
] . ولا تكون الجارحة معلمة حتى يكون فيها ثلاثة شرائط:
قال الشافعي: (إذا أشلاه.. استشلى) أي: إذا أرسله.. استرسل في طلب الصيد، وإذا زجره.. انزجر، وإذا أمسك الصيد.. لم يأكل منه وخلى بينه وبينه، فإذا كرر منه ذلك.. صار معلما، وحل ما قتله.
قال أصحابنا: وليس لتكرر ذلك عدد محصور، وإنما الاعتبار بعرف الناس وعادتهم.
وقال أبو حنيفة وأحمد: (إذا تكرر منه ذلك مرتين.. صار معلما) .
وقال أبو يوسف ومحمد: (إذا تكرر ذلك منه ثلاثا.. صار معلما) .
دليلنا: أن الشرع ورد بذلك مطلقا، فوجب أن يرجع فيه إلى العرف والعادة، كالقبض والتفرق في البيع، وليس في العرف: أن بالمرتين والثلاث يصير معلما؛ لأنه قد يترك الأكل؛ لأنه غير محتاج إليه، وقد يأكل لفرط الجوع، فلا يعلم ذلك حتى يكثر منه.
إذا تقرر هذا: فاعترض ابن داود على قول الشافعي: (إذا أشلاه.. استشلى) فقال: يقال: أشلاه إذا دعاه، وأغراه: إذا أرسله. ولهذا قال الشاعر:
أشليت عنزي ومسحت قعبي
فالجواب: أن من أصحابنا من قال: " إن الشافعي من أهل اللغة؛ لأنه ولد فيها

(4/538)


ونشأ. قال الأصمعي: قرأت ديوان الهذليين " على فتى من قريش يقال له محمد بن إدريس الشافعي. فإذا كان الأصمعي على جلالته يأخذ عنه اللغة.. ثبت أنه أصل في اللغة فيكون أشلى من الأضداد، يعبر به عن الإغراء وعن الاستدعاء.
ومنهم من قال: الإشلاء عبارة عن الاستدعاء، فكأنه يستدعيه، ثم يرسله، فعبر بالإشلاء عن الإرسال؛ لأنه إليه يؤول؛ لأن العرب تعبر عن الشيء بما يؤول إليه.
قال الله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] [يوسف: 36] فعبر بالخمر عن العنب؛ لأنه يؤول إليه.

[فرع: التسمية عند إرسال الجارحة]
إذا أرسل جارحة على صيد.. فالمستحب له: أن يسمي الله تعالى؛ لما ذكرناه في الخبر، فإن ترك التسمية.. جاز. وقد مضى ذكر الخلاف في التسمية على الذبح في الأضحية، وهكذا الخلاف في ترك التسمية عند إرسال الجارحة.

[فرع: إرسال الجارحة ممن لا تحل ذكاته]
وصور أخرى] : وإن أرسل من لا تحل ذكاته: من وثني أو مرتد أو مجوسي جارحة معلمة، فقتل الصيد.. لم يحل أكله، سواء كانت الجارحة علمها مسلم أو مجوسي. هذا هو المشهور من المذهب. وحكى الطبري وجها آخر: أنه يحل أكل ما قتلته الجارحة التي أرسلها المجوسي وليس بشيء؛ لأن الجارحة آلة، و (المرسل) : هو المذكي، فلم يحل ما قتله كما لو ذبحه بيده.
وإن أرسل المسلم جارحة علمها المجوسي فقتل صيدا.. حل أكله. وبه قال عامة أهل العلم إلا الحسن البصري فإنه قال: لا يحل.

(4/539)


دليلنا: أن المذكي هو المرسل وهو مسلم، فحل، كما لو أخذ سكينا من مجوسي وذبح بها شاة.
وإن أرسل المسلم كلبه المعلم، وأرسل المجوسي كلبه واتفقا على صيد فقتلاه.. لم يحل أكله؛ لأنه اجتمع فيه ما يقتضي الحظر والإباحة، فغلب الحظر، كالمتولد بين الضبع والذئب. وإن أرسل كل واحد كلبه فرد كلب المجوسي الصيد على كلب المسلم وقتله كلب المسلم.. حل أكله. وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا يحل) .
دليلنا: أن كلب المسلم انفرد بقتله، فلا يؤثر معاونة كلب المجوسي، كما لو رمى المجوسي صيدا فرد به الصيد وأصابه سهم المسلم فقتله.

[فرع: استرسال الكلب المعلم بنفسه]
وصور أخرى] : إذا استرسل الكلب المعلم بنفسه فزجره صاحبه فانزجر، ثم أشلاه على الصيد - أي: أغراه به ـ فاستشلى وأخذ الصيد وقتله.. حل أكله؛ لأنه قطع استرساله بوقوفه ثم استأنف استرسالا بالإشلاء. فإن لم ينزجر، بل ذهب وصاد وقتل.. لم يحل لأنه صاد باختياره. وإن لم يزجره، ولكن لما استرسل بنفسه أشلاه على الصيد.. نظرت: فإن لم يزدد نشاطا بالإشلاء.. لم يحل ما قتله، وإن ازداد نشاطا وعدوا بالإشلاء، ثم ذهب فقتل صيدا.. ففيه وجهان، حكاهما الطبري في " العدة ":
أحدهما - وهو قول أبي حنيفة -: أنه يحل؛ لأنه لما ازداد نشاطا.. علم أنه قد قطع الأول، واستأنف قصدا آخر بالإشلاء فحل ما قتله، كما لو وقف وقفة ثم أشلاه. ولأن فعل البهيمة وفعل الآدمي إذا اجتمعا.. سقط فعل البهيمة وكان الفعل للآدمي، بدليل: أنه لو رأى كلبا يقصد إنسانا، فأغراه به فازداد نشاطا، ثم جنى على الإنسان.. كان الضمان على من أغراه وأضراه.
والوجه الثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد وابن الصباغ غيره ـ: أنه لا يحل؛ لأن

(4/540)


الاسترسال كان باختيار الكلب، وشدة العدو يجوز أن يكون لنشاط حدث له، ويجوز أن يكون اتباعا لاختيار صاحبه، فكان بناؤه على الأول أولى به؛ لأنه لم يفارق اختيار نفسه، ولأنه قد اجتمع أمران: أحدهما: ما يوجب الحظر. والثاني: ما يوجب الإباحة، فغلب ما يوجب الحظر، كما لو أرسله مسلم ومجوسي وقتل الصيد. ويفارق إذا وقف، ثم أشلاه فاسترسل؛ لأن هناك قد قطع اختيار نفسه وهاهنا لم يقطع.
وأما قول الأول: إذا طلب الكلب إنسانا، ثم أضراه آخر وجنى عليه.. وجب الضمان على الذي أغراه.. فغير مسلم.
وإن أرسل المسلم كلبا على صيد فزجره مجوسي فانزجر، ثم أشلاه فاستشلى وقتل الصيد.. لم يحل ما قتله؛ لأنه قد قطع الاسترسال الأول بوقوفه. وإن لم يزجره المجوسي، بل أشلاه على الصيد، فإن لم يزدد نشاطا في عدوه.. لم يؤثر إشلاء المجوسي، وإن ازداد نشاطا بإشلاء المجوسي، ثم ذهب فقتل الصيد.. فوجهان:
أحدهما ـ وهو قول الشيخ أبي حامد -: أنه يحل اعتبارا بفعله الأول، ولم يوجد ما يقطعه.
والثاني ـ حكاه القاضي أبو الطيب، وهو قول أبي حنيفة ـ: أنه لا يحل؟ لأنه قد شاركه المجوسي في الإرسال، فلم يحل ما قتله، كما لو أرسلاه معا.
وهكذا لو أرسل المجوسي كلبا، فإن زجره المسلم فانزجر ثم أشلاه فاستشلى وقتل الصيد ... حل ما قتله، وإن لم يزجره ولكن أشلاه فازداد في عدوه وقتل الصيد.. فهل يحل ما قتله؟ على الوجهين.

[فرع: إرسال المجنون والصبي والأعمى للكلب]
وإن أرسل المجنون أو الصبي كلبا على صيد فاسترسل وقتل الصيد، أو رماه فقتله.. فالمشهور: أنه يحل أكله، كما لو ذبح شاة.
وحكى الطبري في " العدة " وجها آخر: أنه لا يحل؛ لأنه لا قصد له. وليس

(4/541)


بشيء؛ لأن القصد غير معتبر بالذكاة، بدليل: أنه لو قطع شيئا ظنه خشبة، فبان حلق شاة.. حل أكلها.
وإن أرسل الأعمى كلبا على صيد فاسترسل وقتل الصيد.. فوجهان، حكاهما في " العدة ":
أحدهما: لا يحل. ولم يذكر ابن الصباغ غيره - لأنه لا يرى الصيد فأشبه إذا استرسل الكلب بنفسه وقتل الصيد.
والثاني: يحل؛ لأنه من أهل الذكاة، فحل قتل ما أرسله، كما لو ذبح شاة بيده.

[فرع: حل ما قتله الجارح بنابه وغيره]
] : قد ذكرنا: أن الجارحة إذا قتل الصيد بنابه، أو ظفره، أو مخلبه.. فإنه يحل أكله، فأما إذا قتله بشدة صدمته أو بثقله.. فهل يحل أكله؟ فيه قولان:
أحدهما: يحل ـ وهو رواية الحسن بن زياد، عن أبي حنيفة - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] [المائدة: 4] ولم يفرق بين ما قتله بجرحه أو بثقله.
والثاني: لا يحل ـ وهي رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة ـ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه.. فكل» وهذا لم ينهر الدم، فوجب أن لا يحل، وأما إذا كد الجارحة الصيد حتى أتعبه فمات من التعب.. لم يحل أكله قولا واحدا؛ لأنه مات من غير عقر ولا فعل أوقعه فيه.

[فرع: أكل الجارحة من الصيد أو احتساء دمه]
قد ذكرنا: أن الجارحة إذا قتل الصيد ولم يأكل منه شيئا.. فإنه يحل.
فأما إذا كل منه شيئا، فإن كانت الجارحة من سباع البهائم، كالكلب والفهد والنمر.. نظرت: فإن قتل الصيد، ثم مضى عن الصيد، ثم رجع إليه وأكل منه.. لم يحرم أكله قولا واحدا. وإن أكل منه عقيب قتله.. ففيه قولان:
أحدهما: يحل أكله ـ وبه قال ابن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وسلمان

(4/542)


الفارسي، وهو قول مالك - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] ولم يفصل: بين أن يأكل منه، أو لا يأكل منه. وروى أبو ثعلبة الخشني: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه.. فكل وإن كان أكل منه» . ولأن كل عقر كان ذكاة إذا لم يتعقبه أكل.. كان ذكاة وإن تعقبه أكل، كما لو قتله وتركه، ثم عاد وأكل منه.
والقول الثاني: لا يحل أكله - وبه قال أبو هريرة وابن عباس، ومن التابعين: الحسن البصري والشعبي والنخعي، ومن الفقهاء: أحمد ـ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] [المائدة: 4] وإذا أكل منه.. فلم يمسكه علينا، وإنما أمسكه على نفسه. ولما روى عدي بن حاتم: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «ما علمت من كلب أو باز، ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه.. فكل مما أمسك عليك "، قلت: فإن قتل؟ قال: " إذا قتله ولم يأكل منه شيئا.. فإنما أمسكه عليك» ، فدل على: أنه إذا أكل منه فقد أمسكه على نفسه. وفي رواية الشعبي، «عن عدي بن حاتم قال: سألت النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ فقلت: أرسل كلبي؟ فقال: " إذا سميت.. فكل، وإلا.. فلا تأكل وإن أكل منه.. فلا تأكل منه: فإنما أمسكه على نفسه.» ولأن كل ما كان شرطا في استباحة أكل الصيد في الابتداء.. كان شرطا في الاستدامة، كالإرسال.
إذا ثبت هذا: فإن ما قتله قبل الصيد الذي أكل منه لا يحرم قولا واحدا.
وقال أبو حنيفة: (يحرم أكل هذا الذي أكل منه، وأكل ما قتله من قبله من الصيد) .
دليلنا: أنه لم يوجد في الصيد الأول ما يقتضي الحظر، وإنما وجد في غيره، فلم

(4/543)


يحرم، كما لو أرسل جارحة على صيد فقتله، ثم استرسل بنفسه على صيد فقتله.. فإن الأول لا يحرم.
وإن كانت الجارحة من سباع الطير: كالصقر والبازي والعقاب والباشق، فأكل من الصيد عقيب قتله.. فالمنصوص للشافعي: أنه كالكلب والفهد على قولين.
وقال المزني: أكل الطير لا يحرم قولا واحدا ـ وهو قول أبي حنيفة ـ لأنه لا يمكن أن يضرب على الأكل.
وقال أبو علي الطبري: إذا قلنا: لا يحرم ما أكل منه الكلب.. فما أكلت منه سباع الطير أولى، وإن قلنا: يحرم ما أكل منه الكلب.. فهل يحرم ما أكل منه الطائر؟ فيه وجهان.
والأول أصح؛ لأنه جارحة أكل مما قتله عقيب قتله، فأشبه ما أكل منه الكلب والفهد.
وإن شرب الجارحة من دم الصيد.. لم يحرم ذلك قولا واحدا.
وحكى ابن المنذر عن النخعي والثوري: أنهما كرها أكل ما احتسى الجارحة دمه.
دليلنا: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «فإن أكل منه.. فلا تأكل» وهذا لم يأكل منه، ولأن الدم لا يقصده الصائد ولا منفعة له فيه، فلم يمنع الجارحة منه.

[مسألة: إدخال الكلب نابه في الصيد]
إذا أدخل الكلب نابه أو ظفره في الصيد وجرحه. فهل يحكم بنجاسة ذلك الموضع؟ فيه قولان، حكاهما صاحب " الإبانة ":
أحدهما: لا يحكم بنجاسته؛ لأن الله تعالى قال: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] [المائدة: 4] ولم يأمره بغسله، ولو كان نجسا.. لأمر بغسله.
والثاني ـ وهو الأظهر، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره ـ: أنه يحكم بنجاسته؛ لأنه جزء من الكلب، فينجس ما أصابه مع الرطوبة، كالإناء.
فإذا قلنا بهذا: فما الحكم في ذلك؟ فيه ثلاثة أوجه:

(4/544)


" أحدها: يعفى عن غسله! لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] فأباح الأكل ولم يأمر بالغسل، فدل على: أنه لا يجب. ولأنه لو وجب غسل موضع العضة لوجب غسل جميع اللحم؛ لأن الناب يلاقي الدم، والدم مائع متفرق في جميع العروق.
والثاني: يجب غسله؛ لأنه موضع نجس بملاقاة الكلب " فأشبه الإناء وأما الآية: فلا حجة فيها؛ لأنه إنما بين الأكل، وأما النجاسة والغسل: فمعلومان من غيرها. وقول الأول: لو وجب غسل موضع العضة، لوجب غسل الجميع.. فغير صحيح؛ لأنه إن عضه بعد الموت.. فلا دم فيه، وإن عضه وهو حي.. فإن الدم يفور ويجري، فلا يرجع إلى عروقه، وعلى أنه لو رجع.. فإنما وجب غسل العضة؛ لأنه لا مشقة في ذلك فوجب، وعليه مشقة في غسل الباقي فسقط.
والوجه الثالث ـ حكاه في " الإبانة " -: أنه يجب قطع موضع العض. وليس بشيء.
فإذا قلنا: يجب الغسل.. فكم يغسل؟ فيه وجهان:
أحدهما: وهو ظاهر نص الشافعي: أنه يجب غسله سبع مرات إحداهن بالتراب، كما لو أصاب إناء.
والثاني ـ حكاه في " الفروع " -: يكفي في غسله مرة؛ لأن ما زاد على ذلك يشق.
وإن شئت.. قلت: في المسألة أربعة أوجه:
أحدها: لا يجب الغسل.
والثاني: يجب غسل موضع العض سبع مرات، إحداهن بالتراب.
والثالث: يكفي غسله مرة.
والرابع: لا يجزئه الغسل، بل يجب قطع ذلك الموضع.

(4/545)


[مسألة: الاصطياد بالجارحة المغصوبة]
] : وإن غصب جارحة واصطاد بها صيدا.. كان الصيد ملكا للغاصب؛ لأن الصيد مضاف إلى الصائد دون مالك الجارحة. فإن كان الجارحة غير الكلب.. وجب لمالكه أجرة مثله على الغاصب.
وإن كان كلبا.. قال الشيخ أبو حامد: لم تجب أجرته قولا واحدا؛ لأن منفعته مباحة له غير مملوكة، فلذلك لم يضمن، بخلاف غيره من البهائم؛ لأن منفعته مملوكة.
وقال الشيخ أبو إسحاق: إن قلنا: يجوز إجارته.. وجبت على الغاصب الأجرة، وإن قلنا: لا يجوز إجارته.. لم تجب.

[مسألة: القصد لا يعتبر في ملك الصيد بشبكة وغيرها]
) : القصد غير معتبر في ملك الصيد، فلو أخذ صيدا لينظر إليه.. ملكه بذلك. وإن نصب شبكة فوقع فيها صيد.. ملكه بذلك. وإن كان له حوض على شط نهر فدخله حوت، فإن كان الحوض صغيرا بحيث لا يمكنه العود إلى النهر.. ملكه بذلك، وإن كان كبيرا لا يقدر على أخذه إلا بتعب.. لم يملكه بذلك؛ لأنه غير مقدور عليه.

[مسألة: صيد الحمام الأهلي والمباح]
] : إذا كان له حمام في برج فتحول منه إلى برج غيره.. لم يملكه الثاني، وكان ملك الأول باقيا عليه؛ لأنه بتحوله عن برج الأول لا يزول ملكه عنه بذلك. وإن كان الحمام مباحا فدخل إلى برج الأول.. لم يملكه بنفس الدخول، ولو أخذه غيره منه أو تحول إلى برج غيره.. لم يكن للأول أن يطالب برده؛ لأنه لا يملكه. فإن أغلق عليه صاحب البرج برجه، أو دخل من كوة إلى بيته فسدها عليه.. نظرت: فإن كان يمكنه أخذه بغير تعب ولا علاج.. ملكه بذلك، فلو انفلت وأخذه غيره.. كان له أخذه منه،

(4/546)


وإن كان لا يمكنه أخذه إلا بتعب وعلاج.. لم يملكه بذلك، فإن انفلت وأخذه غيره.. لم يكن للأول مطالبته برده. وإن دخل قفصا له، فغلق عليه بابه.. ملكه بذلك.
فإن توحل في أرضه ظبي أو عشش فيها طائر.. لم يملكه بذلك.
وحكى الطبري في (العدة) وجها آخر: أنه يملكه بذلك.

[فرع: الصيد المعلم بعلامة]
) : وإن أصاب ضبا مقرطا أو موسما أو به أثر ملك لآدمي.. لم يجز له اصطياده فإن أخذه.. لم يملكه بذلك؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بظبي حاقف فهم أصحابه به فقال: (دعوه حتى يجيء صاحبه» . ولأنه إذا وجد عليه أثر الملك.. فالظاهر أنه لمالكه، فلا يزول ملكه عنه بالانفلات. فإن قيل: يجوز أن يكون قد اصطاده محرم فلم يملكه بذلك.. قلنا: هذا محتمل إلا أن الظاهر خلافه.
وهكذا لو وجد طائرا فيه علامة المالك كقص الجناح، أو وجد ما ليس له أصل في الوحش، كالدجاج أو فراخه إذا وجده متوحشا.. لم يجز له أن يملكه؛ لأن الظاهر أنه لمالك.

[مسألة: الصيد بالرمي وأنواعه]
) : ويجوز الصيد بالرمي لما «روى أبو ثعلبة الخشني قال: قلت: يا رسول الله إنا نكون في أرض صيد، فيصيب أحدنا بقوسه، ويبعث كلبه المعلم: فمنه ما ندرك ذكاته، ومنه ما لا ندرك ذكاته؟ فقال النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (ما ردت عليك

(4/547)


قوسك فكل، وما أمسك عليك كلبك المعلم فكل» .
فإن رمى الصيد فقتله، فإن كان بما له حد فقتله بحده، كالسهم الذي له نصل أو السكين أو السيف أو السنان أو المروة أو الخشبة الحادة: حل أكله لحديث أبي ثعلبة. وإن أصابه بما لا حد له فقتله كالبندقية أو الدبوس أو الحجر الذي لا حد له.. فإنه لا يحل أكله سواء جرحه بذلك أو لم يجرحه، حتى لو رمى طائرا ببندقية فقطعت حلقومه ومريئه: لم يحل بذلك، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة: 3] [المائدة: 3] وهي المضروبة بالحجارة أو بالعصا حتى تموت. ولما «روى عدي بن حاتم قال: سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيد المعراض، فقال: " إن قتل بحده: فكل، وإن قتل بعرضه - وروي: بثقله - فلا تأكل فإنه وقيذ» .
قال الهروي: (والمعراض) : سهم بلا ريش ولا نصل ويصيب بعرض عوده دون حده.
فعلى هذا: إذا رماه بما لا حد له، فإن أدركه وفيه حياة مستقرة فذكاه حل أكله، وإن أدركه وقد مات أو فيه حياة غير مستقرة لم يحل أكله لما ذكرناه.

[فرع: إرسال السهم في الريح وحالات أخرى]
: إذا أرسل سهمه في ريح عاصفة نحو الصيد، فأطارت الريح السهم فوقع في الصيد فقتله، ولولا الريح ما وصل إليه السهم: حل أكله؛ لأن الإرسال له حكم ولا يتغير حكمه بالريح؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه.
وإن وقع السهم على الأرض ثم وثب السهم من الأرض فوقع في الصيد

(4/548)


فقتله: فهل يحل؟ فيها وجهان، بناء على القولين فيمن ازدلف سهمه في الأرض ثم أصاب في المناضلة وإن نزع السهم ليرمي فانفلت قبل أن يرسله فقتل صيدا ففيه وجهان حكاهما في (العدة) .

[فرع: رمي الطائر وجرحه]
) : وإن رمى طائرا فجرحه ثم وقع على الأرض فوجده ميتا: حل أكله سواء مات في الهواء أو بعدما وقع على الأرض أو لم يعلم كيف مات، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (إذا مات بعدما وقع على الأرض.. لم يحل أكله) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما ردت عليك قوسك فكل» ولم يفرق؛ ولأنه صيد سقط عن الإصابة على موضع لا يمكن الاحتراز من سقوطه عليه، فحل، كما لو رمى حمار وحش فوقع على جنبه ومات.
وإن وقع هذا الطائر على ماء أو جبل أو شجر فتردى، ثم مات.. نظرت: فإن لم تكن الجراحة موجبة لم يحل أكله، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ} [المائدة: 3] [المائدة: 3] ، وما وقع في الماء فالماء يخنقه وما وقع على جبل أو شجرة فهو من المتردية وروى عدي بن حاتم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا رميت بسهمك فذكرت اسم الله فقتل: فكل، وإن وقع في ماء فلا تأكل فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك» .
وإن كانت الجراحة قاتلة موجبة، مثل: أن وقع السلاح في حلقه فذبحه أو في لبته فنحره أو في كبده فأبان حشوته فإنه يحل أكله؛ لأنه قد صار كالمذكى فلا يؤثر فيه وقوعه في الماء أو ترديه من الجبل أو الشجرة كما لو ذبح شاة ثم وقعت في ماء أو تردت من جبل أو شجرة.

(4/549)


[فرع: قطع الصيد قسمين أو إبانة بعضه قبل قتله]
) : فإن ضرب صيدا فقطعه باثنين فمات: حل أكله جميعا سواء كان قطعه نصفين، أو كان الذي معه الرأس أقل أو أكثر.
وقال أبو حنيفة: (إذا كان الذي معه الرأس أكثر.. حل ما معه الرأس دون الثاني) .
دليلنا: أن كل عقر كان ذكاة لبعضه.. كان ذكاة لجميعه، كما لو كان مع الرأس أكثر أو أقل.
وإن رماه فأبان بعضه وبقي الباقي على الامتناع، ثم رماه فقتله، أو أدركه فذكاه.. حل أكله جميعا إلا ما أبان منه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أبين من حي.. فهو ميت» .

[مسألة: إدراك الصيد وفيه حياة مستقرة]
] : إذا أرسل سهمه أو جارحته على صيد فعقره، ثم أدركه وفيه حياة مستقرة.. ففيه ثلاث مسائل:
إحداهن: إذا كان العقر قد صيره في حكم المذبوح، مثل: أن أبان حشوته أو قطع الحلقوم والمريء أو في مقتل كالقلب، وكانت الحياة فيه غير مستقرة فإن أمر السكين على حلقه ليذبحه.. فهو المستحب وإن تركه حتى مات.. حل أكله؛ لأن ذلك العقر ذكاة له فحل أكله، كما لو ذبح دجاجة، فجعلت تنزو.
الثانية: إذا كان العقر لم يصيره في حكم المذبوح، بل وجد وفيه حياة مستقرة مما

(4/550)


يعيش اليوم ونصف اليوم والزمان متسع لذكاته، فإن ذكاه.. حل أكله وإن ترك ذكاته عامدا أو لم تكن معه آلة يذبح بها حتى مات لم يحل أكله لأنه ترك ذكاته مع إمكانها، فلم يحل كما لو تردت شاة من جبل فترك ذكاتها حتى ماتت.
الثالثة: إذا أدركه وفيه حياة مستقرة، لكنه مات قبل أن يتسع الزمان لذكاته، أو أدركه ممتنعا فجعل يعدو خلفه فلحقه وقد بقي من حياته زمان لا يتسع لذبحه حل أكله وإن لم يذبحه.
وقال أبو حنيفة: (لا يحل) .
دليلنا: أنه لم يقدر على ذكاته بوجه لا ينسب فيه إلى التفريط فكان عقره ذكاة له كما لو لم يدركه حيا.

[فرع: غياب الصيد بعد إرسال الكلب أو السهم]
إذا أرسل كلبا على صيد فغاب عنه الصيد والكلب معا قبل أن يعقره الكلب ثم وجد الصيد قتيلا، قال الشيخ أبو حامد: لم يحل أكله سواء وجد الكلب عليه، أو لم يجده عليه؛ لأنه لا يعلم كيف هلك والأصل التحريم.
وإن عقره الكلب أو السهم عقرا صيره في حكم المذبوح قبل أن يغيب عنه ثم غاب عنه فوجده ميتا حل أكله لأنه غاب بعد أن صار مذكى وإن عقره قبل أن يغيب عنه عقرا يجوز أن يموت منه، ويجوز أن لا يموت منه ثم غاب عنه فوجده ميتا.. فنص الشافعي في موضع (أنه يجوز) وقال في (الأم) [2/192] .
(القياس: أنه لا يحل أكله إلا أن يكون ورد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خبر، فيسقط كل ما خالفه) ، واختلف أصحابنا فيه على طريقين:
فـ[أحدهما] : منهم من قال: يحل قولا واحدا؛ لأن الخبر قد ورد وصح في إباحته، وقد رجع الشافعي عن القياس إلى الخبر.

(4/551)


و (الثاني) : منهم من قال: فيه قولان.
وقال أبو حنيفة: (إن أتبعه عقيب الرمي فوجده ميتا.. حل أكله، وإن أخر اتباعه.. لم يحل أكله) .
وقال مالك: (إن وجده في يومه.. حل أكله، وإن وجده بعد يومه.. لم يحل أكله) .
فإذا قلنا: يحل.. فوجهه: ما روى أبو ثعلبة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا رميت الصيد، فأدركته ميتا بعد ذلك وفيه سهمك.. فكله ما لم ينتن» . «وروى عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله إنا نرمي الصيد، فنقتفي أثره اليوم واليومين والثلاث، ثم نجده ميتا فيه سهمه، أنأكله؟ قال: " نعم ما لم ينتن» . ولأنه إذا غاب بعد أن عقره، ثم مضت مدة لا يندمل في مثلها، فوجده ميتا.. فالظاهر: أنه مات من الجرح، فحل أكله.
وإذا قلنا: لا يحل أكله - قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح عندي ـ فوجهه: ما روى سعيد بن جبير «عن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله إنا أهل صيد، وإن أحدنا يرمي الصيد، فنقتفي أثره اليومين والثلاث، فنجده ميتا وفيه سهمه، أيؤكل؟ فقال: " إذا وجدت فيه أثر سهمك ولم يكن فيه أثر من سبع، وعلمت أن أثر سهمك قتله.. فكل» فأباحه له بشرط أن يعلم أن سهمه قتله، وهذا لا يعلمه إذا

(4/552)


غاب عنه. وروي: أن رجلا سأل ابن عباس: إني أرمي الصيد: فمنه ما أصمي، ومنه ما أنمي؟ فقال: (كل ما أصميت - يعني: ما قتلته وأنت تراه - ودع ما أنميت) يعني: ما قتلته وأنت لا تراه.

[مسألة: صيد الفخ ونحوه]
) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يؤكل ما قتلته الأحبولة كان فيها سلاح أو لم يكن) .
وجملة ذلك: أن الأحبولة ما تنصب للصيد، فيتعلق به من حبل أو شبكة أو شرك. يقال: أحبولة وحبالة، وجمع حبالة: حبائل، ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «النساء حبائل الشيطان» يعني: مصائده، فإذا وقع في الأحبولة صيد فمات.. لم يحل أكله، لأنه لم يذكه أحد، وإنما قتل الصيد نفسه، ولم يوجد من الصائد غير سبب، فهو كمن لو نصب سكينا، فربضت عليها شاة فقطعت حلقها.

(4/553)


[مسألة: إصابة السهم أو الكلب صيدا لا يقصد]
) : وإن أرسل كلبا على صيد بعينه فأصاب غيره فقتله،.. حل أكله لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وما ردت عليك قوسك.. فكل» .
وإن أرسل كلبا على صيد بعينه فأصاب غيره فقتله، فإن كان في سمته وسننه حل أكله، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (لا يحل) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] [المائدة: 4] . ولأنه لا يمكن تعليمه أخذ صيد بعينه، فسقط اعتباره، كما سقط اعتبار إصابة موضع الذكاة وكما لو أرسله على صيود كبار، فتفرقت عن صيود صغار، فأخذ منها واحدا وقتلها.. فإنه قد سلم أنه يحل.
وإن قتل صيدا في غير السمت الذي أرسله فيه.. فهل يحل؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يحل، لأن للكلب اختيارا، فإذا عدل عن سمت الجهة التي أرسله إليها.. فكأنه قد قطع الإرسال وقصد العدول لنفسه، فلم يحل أكل ما قتله.
والثاني: يحل أكله، لأن قصد الكلب أن يصطاد ما هو أهون عليه، فحل كما لو أصابه في الجهة التي أرسله إليها.

[مسألة: إرساله الكلب أو رميه السهم وهو لا يرى صيدا]
] : وإن أرسل كلبه وهو لا يرى صيدا فأصاب صيدا وقتله.. لم يحل أكله، وجها واحدا، لأنه لم يرسله على صيد، فهو كما لو استرسل بنفسه وقتل صيدا.
وإن رمى إلى الغرض أو إلى السماء وهو لا يرى صيدا، فصادف سهمه في طريقه صيدا فقتله فوجهان:

(4/554)


[أحدهما] : قال أبو إسحاق: يحل، لأن الاعتبار في آلة السلاح أن يقصد به الفعل دون المفعول به، ألا ترى أنه لو قصد قطع خشبة فكانت حلق شاة.. حلت.
والثاني: لا يحل، وهو الصحيح، لأنه لم يقصد برميه شيئا، فأشبه إذا نصب أحبولة وفيها حديدة، فوقع فيها صيد، فقتلته تلك الحديدة.

[مسألة: الرمي أو الإرسال لشاخص وظهوره صيدا أو غنما]
] : وإن قصد شاخصا يظنه حجرا أو آدميا وكان صيدا فقتله، فمات بالرمي.. حل وجها واحدا. وإن كان بالكلب: فوجهان.
قال الطبري: فإن قصد صيدا، فكان غنما فقتله، فإن كان بالكلب لم يحل وجها واحدا وإن كان بالرمي.. فوجهان.
وأراد: إذا أصاب الشاة في محل الذكاة فأما في غيره.. فلا يحل وجها واحدا.

[مسألة: ذكاة البعير الناد ونحوه]
وإن توحش أهلي، كالبعير إذا ند أو تردى في بئر ولم يقدر على ذكاته في الحلق واللبة.. فذكاته حيث أصاب منه، كالوحشي، وبه قال علي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس، وهو قول عطاء وطاووس والشعبي، وأبي حنيفة وأصحابه.
وقال سعيد بن المسيب وربيعة ومالك: (لا تجوز ذكاته إلا في الحلق واللبة) .
دليلنا: ما روى رافع بن خديج: أن بعيرا ند، فرماه رجل بسهم فحبسه الله فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن هذه البهائم لها أوابد كأوابد الوحش فما ند منها.. فاصنعوا به هكذا» . يعني بقوله: " أوابد " يعني: توحشا ونفورا من الإنس.

(4/555)


وروي: «أن بعيرا تردى في بئر، فقيل: يا رسول الله أما تصلح الذكاة إلا في الحلق واللبة؟ فقال: " إنك لو طعنت في فخذها ... لأجزأك» . ولأنه غير مقدور على ذكاته، فكان عقره ذكاته، كالوحشي الممتنع. وإن تأنس الوحشي.. فذكاته في الحلق واللبة، اعتبارا بحاله عند الذكاة.

[فرع: ذكاة الجنين]
وإن ذكى ما يؤكل لحمه، فوجد في جوفه جنينا ميتا.. حل أكله.
وقال أبو حنيفة: (لا يحل له) .
دليلنا: ما «روى أبو سعيد قال: قلنا: يا رسول الله ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة وفي بطنها الجنين، أنلقيه أم نأكله؟ فقال: " كلوه إن شئتم؛ فإن ذكاته ذكاة أمه» ولأن الجنين لا يمكن ذكاته فجعلت ذكاة أمه ذكاة له.

(4/556)


وإن خرج الجنين حيا وتمكن من ذبحه.. لم يحل أكله من غير ذبح. وإن مات من قبل أن يتمكن من ذبحه.. حل أكله.

[مسألة: ملك الصيد بزوال الامتناع]
وإن رمى رجل صيدا فأصابه ولم يزله من الامتناع.. لم يملكه بذلك، وكان لمن اصطاده. وإن أزال امتناعه.. ملكه بذلك، كما لو أخذه بيده.
وإن رماه اثنان فأصاباه معا فأثبتاه أو قتلاه.. كان بينهما نصفين. قال الشافعي: (سواء كان الجرحان سواء، أو أحدهما أكبر من الآخر) ؛ لأن امتناعه أو موته كان بفعلهما، فاشتركا في ملكه.
وإن رماه واحد بعد واحد وزال امتناعه ... فهو لمن أثبته منهما.
وإن رمياه فوجداه ميتا فاختلفا، فقال كل واحد منهما: أنا أثبته أولا، وأنت رميته بعدي فقتلته، فعليك ضمان قيمته.. فإنه لا يحل أكله، لأنهما قد اتفقا على أنه قتل بعد إثباته، وكل واحد منهما يدعي على صاحبه القيمة.. فالقول قول كل واحد منهما مع يمينه: أنه ما يعلم أن صاحبه أثبته أولا. فإن حلفا جميعا.. برئا، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر.. رددنا اليمين على الحالف، ثم يحلف: لقد قتله الناكل بعد رميه، فيجب له عليه قيمته مجروحا.
وإن اتفقا أن أحدهما أصابه أولا، فقال الأول: أنا أثبته، ثم قتلته أنت. وقال الثاني: لم تثبته برميك، وإنما بقي ممتنعا، ثم أثبته أنا وقتلته.. فالقول قول الثاني مع يمينه، لأن الأصل بقاؤه على الامتناع.
قال ابن الصباغ: وينبغي إذا اتفقا على عين جراحة الأول أن يفصل، فيقال: إن كان يعلم أنه لا يبقى معها امتناع، كأنها كسرت رجل ما يمتنع بالعدو أو جناح ما يمتنع بالطيران.. فالقول قول الأول بلا يمين. وإن كانت مما يجوز أن يمتنع معها.. فالقول قول الثاني.

(4/557)


[فرع: امتناع الصيد بالرجل والجناح معا]
] : وإن كان الصيد مما يمتنع بالرجل والجناح، كالقبج والدراج فأصابه الأول فكسر رجله، وأصابه الثاني فكسر جناحه.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه بينهما، لأن امتناعه كان بفعلهما.
والثاني ـ وهو الأصح ـ: أنه للثاني، لأنه كان ممتنعا بعد إصابة الأول، وإنما زال امتناعه بإصابة الثاني، فكان له.

[مسألة: رمي الصيد من اثنين فوجداه ميتا ولم يعلم امتناعه بالأول]
] . وإن رماه الأول ورماه الثاني ووجد ميتا ولم يعلم أن الأول بلغ به أن يكون ممتنعا أو غير ممتنع.. فقال الشافعي في " المختصر ": (جعلناه بينهما نصفين) . وقال في " الأم ": (حل أكله وكان بينهما) . فاعترض معترض على قول الشافعي فيها، وقال: قول الشافعي بحل أكله: لا يجوز؛ لأنه يجوز أن يكون الأول قد أثبته، وأن الثاني قتله، فلا يحل أكله، ويجوز أن لا يكون الأول أثبته، ثم قتله الثاني، فيحل. ومتى اجتمع ما يوجب التحريم والإباحة.. غلب التحريم. وأما قوله: (يكون بينهما) : فلا يجوز أيضا؛ لأنه إن كان الأول أثبته.. فهو له، وإن كان الثاني أثبته.. فهو له، فكيف يكون بينهما؟ واختلف أصحابنا في الجواب عن ذلك على ثلاثة أوجه:
فـ[أحدها] منهم من ترك ظاهر كلام الشافعي وأجاب: إلى أن الأمر كما قال هذا السائل، وتأول كلام الشافعي وقال: أما قوله: (إنه يحل أكله) فأراد: إذا عقره

(4/558)


أحدهما فأثبته، ثم أصابه الثاني في محل الذكاة، فقطع الحلقوم والمريء، أو أثبتاه ولم يصيراه في حكم الممتنع، ثم أدركه أحدهما فذكاه.. فيحل أكله. وأما قول الشافعي: (يكون بينهما) فأراد: إذا كانت يدهما عليه، فلا يعلم من يستحقه منهما، فيقسم بينهما. فأما إذا وجداه ميتا من الجراحتين.. فلا يحل أكله، فإن اتفقا على أن الثاني الذي قتله.. كان عليه القيمة. وإن اختلفا فيه.. حلف كل واحد منهما لصاحبه، كالمسألة التي تقدمت.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: المسألة مفروضة في صيد يمتنع برجله وجناحه كالقبج، فأصاب أحدهما رجله وكسرها، وأصاب الآخر جناحه وكسره ومات.. فقد ذكرنا فيها وجهين. فإن قلنا: إنه بينهما.. فالمسألة مفروضة فيه، وإن قلنا: إنه للثاني.. فلا يعلم الثاني منهما ويدهما عليه، فكان بينهما. وهذا القائل ترك ظاهر كلام الشافعي.
و (الثالث) : قال أبو إسحاق: المسألة على ظاهرها، فيحل أكله؛ لأن الأصل بقاؤه على الامتناع إلى أن رماه الثاني، ويكون بينهما؛ لأن يدهما عليه، فإن قيل فقد قلتم: الأصل بقاؤه على الامتناع إلى أن رماه الثاني، فكيف لم تزل بذلك يد الأول؟ قلنا: هذا لا يزال به حكم اليد، ولهذا لو كان عنده شيء يدعيه.. حكم له بذلك وإن كان الأصل عدم الملك، فدل على: أن اليد أقوى من حكم الأصل.

[مسألة: وجوب الأرش إذا رمى اثنان صيدا]
إذا رمى رجل صيدا فوجأه، بأن قطع الحلقوم والمريء أو ثغرة النحر، أو أصابه في مقتل كالقلب والخاصرة.. فقد ملكه بذلك، ولا يفتقر إلى ذكاة. فإن رماه آخر بعد ذلك.. فإنه لا تأثير للثاني في تحريمه، بل يجب عليه أرش ما نقص إن أحدث به نقصا، بأن خرق جلده أو ما أشبه ذلك.
وإن لم يصيره الأول في حكم المذبوح، بل أزال امتناعه فقط.. فقد ملكه بذلك،

(4/559)


فإن رماه آخر.. نظرت: فإن أصابه الثاني في محل الذكاة، بأن قطع حلقومه ومريئه أو ثغرة نحره.. حل أكله، ووجب على الثاني ما بين قيمته مذبوحا ومجروحا، كما لو ذبح لغيره شاة مجروحة. وإن أصابه في غير محل الذكاة.. نظرت: فإن وجأه مثل: أن وقع في قلبه أو خاصرته.. حرم أكله؛ لأنه قتله بعد أن صارت ذكاته في الحلق واللبة، ويجب عليه للأول قيمته مجروحا. وإن لم يوجئه الثاني، بل جرحه جرحا قد يسري إلى نفسه، فإن لم يقدر الأول على ذكاته مثل: أن جاء إليه وقد مات، أو جاء إليه وقد بقي من حياته ما لا يتسع الزمان لذكاته.. حرم أكله، ويجب على الثاني قيمته مجروحا، وإن أدرك الأول ذكاته ولم يذكه حتى مات.. لم يحل أكله: لأنه ترك ذكاته مع إمكانها، وأما الذي يجب على الثاني.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: يجب عليه قيمته مجروحا؛ لأن الأول لم يوجد منه أكثر من الرمي الذي ملكه به وترك الذكاة، وهنا لا يسقط ما وجب له على الثاني، كما لو جرح له شاة وترك مالكها ذكاتها حتى ماتت.
و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: لا يجب على الثاني كمال قيمته مجروحا، وهو المذهب؛ لأن جراحة الأول وإن كانت مباحة إلا أنه لما أدرك ذكاته ولم يفعل.. تبينا أنها وقعت محظورة، وجراحة الثاني محظورة الابتداء، وإذا مات بجراحتين محظورتين.. لم يجب على أحدهما كمال قيمته، كما لو جرح رجل شاة لنفسه، ثم جرحها آخر فماتت من الجراحتين.. فإنه لا يجب على الثاني كمال قيمتها.
فإذا قلنا بهذا: قسمت القيمة على قدر الجنايتين: فما خص جراحة الأول.. سقط، وما خص جراحة الثاني.. وجب عليه. فتفرض المسألة في صيد مملوك لرجل، قيمته عشرة دراهم، جرحه رجل جراحة نقص بها من قيمته درهم، ثم جرحه الثاني جراحة نقص بها درهم، ثم مات منهما، ففيه ستة أوجه:
أحدها - وهو قول المزني ـ: أنه يجب على كل واحد منهما أرش جنايته، وهو درهم، ثم يجب على كل واحد منهما نصف قيمته بعد الجنايتين، فيجب على كل واحد منهما خمسة؛ لأن كل واحد منهما انفرد بجناية أرشها درهم، فوجب عليه أرش ذلك، ثم مات منها، فوجب قيمته بعد ذلك بينهما. فإن نقص بجناية الأول ثلاثة

(4/560)


دراهم، وبجناية الثاني درهم.. وجب على الأول أرش جنايته ثلاثة دراهم، وعلى الثاني درهم، ثم يقسم ما بقي من قيمته بعد ذلك، وهو ستة بينهما نصفين فيجب على الأول ستة وعلى الثاني أربعة. فإن قيل: فهلا سويتم بينهما في الضمان هاهنا، كما قلتم في الحر إذا قطع رجل يديه، ثم قطع آخر رجله فمات: أن الدية تجب عليهما نصفين؟ قلنا: الفرق بينهما: أن الحر لا تنقص ديته بالجناية عليه، ألا ترى أن رجلا لو قطع يد رجل ورجليه، ثم قتله آخر.. لكان على القاتل ديته كاملة، بخلاف الصيد.
والوجه الثاني ـ وهو قول أبي إسحاق ـ: أنه يدخل نصف أرش جناية كل واحد منهما فيما ضمنه من نفسه؛ لأن الجناية إذا صارت نفسا.. سقط حكم الجناية. وقد أتلف كل واحد منهما نصف نفسه فدخل نصف أرش جنايته في قيمة ذلك النصف ولم يدخل النصف الآخر في أرش جنايته؛ لأن المتلف للنصف الآخر غيره، فيجب هاهنا على الأول نصف قيمته يوم جنى وهو خمسة ونصف أرش جنايته لأجل النصف الذي جنى عليه الثاني، فيكون عليه خمسة دراهم ونصف، ويجب على الثاني نصف قيمته يوم جنى عليه وهو أربعة دراهم ونصف، ونصف أرش جنايته وهو نصف درهم لأجل النصف الذي ضمنه الأول.
وإذا ثبت: أن هذا النصف الذي وجب على الثاني لأجل جنايته على النصف الذي ضمنه الأول.. فللأول أن يرجع به على الثاني؛ لأن من جنى على ما دخل في ضمان غيره.. فإن للمضمون عليه مطالبة الجاني بأرش الجناية.
فعلى هذا: إن أخذ مالك الصيد من الأول خمسة دراهم ونصف درهم.. لم يأخذ من الثاني غير أربعة دراهم ونصف درهم، وللأول أن يرجع على الثاني بنصف درهم وهو ما وجب عليه بجنايته على النصف الذي ضمنه الأول. وإن أخذ مالك الصيد من الثاني خمسة دراهم.. لم يكن له أن يأخذ من الأول غير خمسة دراهم، ولم يرجع الأول على الثاني بشيء، وهذا كما نقول في رجل غصب من رجل ثوبا قيمته عشرة دراهم، فجنى عليه آخر في يد الغاصب جناية تنقص من قيمته درهما، ثم تلف الثوب في يد الغاصب.. فإن المالك إذا رجع على الغاصب بالعشرة.. رجع الغاصب على

(4/561)


الجاني عليه بدرهم، وإن رجع المالك على الجاني بدرهم.. لم يكن له أن يطالب الغاصب إلا بتسعة، ولم يرجع الغاصب على الجاني بشيء، كذلك هاهنا مثله. فقول أبي إسحاق يوافق قول المزني في قدر منتهى ما يؤخذ من كل واحد منهما وإن خالفه في ترتيب الوجوب ومعناه. فإن نقصت قيمة الصيد بجناية الأول ثلاثة دراهم وبجناية الثاني درهما.. فإن الأول يجب عليه نصف قيمته يوم جنايته عليه وهو خمسة دراهم ونصف أرش جنايته وهو درهم ونصف، فذلك ستة ونصف، ويجب على الثاني نصف قيمته يوم جنايته ثلاثة ونصف، ونصف أرش جنايته نصف درهم، إلا أن هذا النصف الدرهم على الثاني لأجل جنايته على النصف الذي دخل في ضمان الأول. فإن رجع المالك على الأول بستة دراهم ونصف.. فقد استوفى حقه منه بقيمة ما دخل في ضمانه، فيرجع الأول على الثاني بنصف الدرهم الذي وجب على الثاني لأجل ما جنى على ما ضمنه الأول، ولا يرجع المالك على الثاني إلا بثلاثة دراهم ونصف درهم.
وإن رجع المالك على الثاني بأربعة دراهم.. رجع على الأول بستة دراهم لا غير، ولا يرجع الأول على الثاني بشيء.
والوجه الثالث ـ وهو قول أبي الطيب بن سلمة ـ: أنه يجب على كل واحد منهما نصف قيمته يوم جنايته، ونصف أرش جنايته، كما قال أبو إسحاق، إلا أنه قال: لا يرجع الأول على الثاني بشيء؛ لأن ذلك يؤدي إلى التسوية في قدر ما يجب على كل واحد منهما مع اختلاف قيمة الصيد عند جنايتيهما، ولكن يضم نصف قيمة الصيد يوم جناية الأول وهو خمسة، ونصف أرش جنايته وهو نصف درهم، إلى نصف قيمة الصيد يوم جناية الثاني وهو أربعة ونصف، ونصف أرش جنايته وهو نصف درهم، فذلك كله عشرة ونصف، وتقسم العشرة وهي قيمة الصيد على عشرة ونصف، فما خص خمسة ونصفا.. وجب على الأول، وما خص خمسة.. وجب على الثاني. وكيفية ذلك: أنك تبسط العشرة التي معها النصف أنصافا؛ ليكون النصف معها فتكون عشرين وتضيف إليها النصف الزائد عليها، فتكون إحدى وعشرين، فتجعل ذلك أجزاء الدراهم، ثم تضرب العشرة المقسومة في إحدى وعشرين، فذلك مائتان وعشرة، فاقسمها على إحدى وعشرين، وهي الأنصاف المبسوطة، فيخص كل نصف

(4/562)


عشرة، فتعلم أن الذي يخص صاحب الخمسة والنصف مائة وعشرة؛ لأن عليه أحد عشر نصفا، فاقسمها على إحدى وعشرين، وهي أجزاء الدراهم، فيصبح لك من ذلك خمسة دراهم وخمسة أجزاء من إحدى وعشرين جزءا من درهم، وهو الواجب على الأول. ويخص صاحب الخمسة مائة جزء، من أجزاء الدراهم وهي إحدى وعشرون، فإذا قسمت ذلك على أجزاء الدراهم.. صح لك من ذلك أربعة دراهم وستة عشر جزءا من أجزاء الدراهم وهي إحدى وعشرون، فيجب ذلك على الثاني، فإذا ضممت ما يجب على كل واحد منهما.. كان جميعه عشرة دراهم.
والوجه الرابع: أنه يجب على الأول جميع أرش جنايته، وعلى كل واحد منهما نصف قيمته بعد جناية الأول: فيجب على الأول خمسة ونصف إذا نقص بجنايته درهم، وعلى الثاني أربعة ونصف؛ لأن الأول انفرد بالجناية، فوجب عليه أرشها ومات الصيد من سراية جنايته وجناية الثاني.
والوجه الخامس: أنه يدخل أرش جناية كل واحد منهما في بدل النصف فيكون على كل واحد منهما نصف قيمته يوم جنايته: فيجب على الأول خمسة دراهم وعلى الثاني أربعة ونصف، ويسقط نصف درهم من قيمته. قال: لأني لم أجد من أوجبه عليه منهما.
والوجه السادس: -وهو قول ابن خيران -: أن أرش جناية كل واحد منهما تدخل فيما ضمنه من النفس، فتضم قيمة الصيد عند جناية الأول، وهو عشرة إلى قيمته عند جناية الثاني، وهو تسعة، فذلك تسعة عشر، وتقسم العشرة عليهما، فما خص العشرة.. وجب على الأول، وما خص التسعة.. وجب على الثاني.
وكيفية ذلك: أنك تجعل التسعة عشر أجزاء الدراهم، ثم تضرب العشرة في تسعة عشر، فيصبح لك مائة وتسعون، فإذا قسمت المائة والتسعين على تسعة عشر.. خص

(4/563)


كل واحد عشرة، فتعلم: أن الذي يخص العشرة مائة جزء من تسعة عشر جزءا من الدراهم، فإذا قسمت المائة على أجزاء الدراهم.. صح لك خمسة دراهم وخمسة أجزاء من تسعة عشر جزءا من درهم، وهو الذي يجب على الأول. ويخص صاحب التسعة تسعون جزءا، فإذا قسمتها على أجزاء الدراهم.. صح لك من ذلك أربعة دراهم وأربعة عشر جزءا من تسعة عشر جزءا من درهم، وهو الذي يجب على الثاني. فإذا ضممت ما وجب على كل واحد منهما إلى ما وجب على الآخر.. كان الجميع عشرة دراهم، وهذا هو الصحيح.

[فرع: جناية ثلاثة على صيد]
إذا كان لرجل صيد مملوك قيمته عشرة دراهم، فجنى عليه ثلاثة رجال، فنقص بجناية كل واحد منهم درهمان، ثم مات.. فعلى قول المزني: يجب على كل واحد منهم أرش جنايته درهمان، ثم تقسم الأربعة الباقية من قيمته بعد أرش جنايتهم عليهم أثلاثا، فيجب على كل واحد منهم ثلاثة دراهم وثلث درهم.
وعلى قول أبي إسحاق: يجب على الأول ثلث قيمته يوم جنايته وهو ثلاثة دراهم وثلث درهم وثلثا أرش جنايته، وهو درهم وثلث لأجل الثلثين اللذين تلفا من جناية الثاني والثالث، فذلك أربعة وثلثان، ويجب على الثاني ثلث قيمته يوم جنايته وهو درهمان وثلثان، وثلثا أرش جنايته وهو درهم وثلث. فذلك أربعة دراهم، ويجب على الثالث ثلث قيمته يوم جنايته وهو درهمان وثلثا أرش جنايته وهو درهم وثلث.
فإن أخذ المالك من الأول أربعة دراهم وثلثي درهم.. رجع الأول على الثاني بثلثي درهم، وعلى الثالث بثلثي درهم، فيعلم: أن الذي حصل عليه ثلاثة دراهم وثلث. ويأخذ المالك من الثاني ثلث قيمة الصيد يوم جنايته وثلث أرش جنايته لأجل ما ضمنه الثالث، وذلك ثلاثة دراهم وثلث، ويرجع الثاني على الثالث بثلثي درهم وهو أرش جناية الثالث على الثلث الذي ضمنه الثاني. ويأخذ المالك من الثالث ثلث قيمته يوم جنايته، وهو درهمان. فيكون منتهى ما خرج من كل واحد منهم ثلاثة دراهم وثلثا لأن الثالث قد دفع إلى الأول ثلثي درهم، وإلى الثاني ثلثي درهم، مع ما دفعه إلى

(4/564)


المالك، فذلك ثلاثة وثلث. فهذا يوافق قول المزني في قدر منتهى ما يخرج من كل واحد منهم وإن خالفه في الترتيب.
وعلى قول أبي الطيب بن سلمة: يضم ما وجب على الأول وهو أربعة وثلثان إلى ما وجب على الثاني وهو أربعة، وإلى ما وجب على الثالث وهو ثلاثة وثلث فذلك اثنا عشر، ويقسم العشرة عليها، فما قابل ما وجب على كل واحد منهم من العشرة.. كان عليه.
وعلى الوجه الرابع: يجب على الأول أرش جنايته درهمان، ثم تقسم قيمته بعد جناية الأول بينهم أثلاثا، فتكون على الأول أربعة دراهم وثلثان، وعلى كل واحد من الآخرين درهمان وثلثان.
وعلى الوجه الخامس: يجب على كل واحد منهم ثلث قيمته يوم جنايته، فيكون على الأول ثلاثة دراهم وثلث، وعلى الثاني درهمان وثلثان، وعلى الثالث درهمان وينقص من القيمة درهمان.
وعلى قول ابن خيران: تضم قيمة الصيد عند جناية كل واحد منهم إلى قيمته عند جناية صاحبيه، وذلك أربعة وعشرون، فتقسم العشرة عليها، فتكون على الأول عشرة أجزاء من أربعة وعشرين جزءا من عشرة دراهم وهي ربع العشرة وسدسها وعلى الثاني ثمانية أجزاء وهي ثلث العشرة، وعلى الثالث ستة أجزاء وهي ربع العشرة.

[مسألة: انفلات الصيد من الكلب]
) : إذا أخذ الكلب صيدا ثم انفلت منه.. قال القاضي أبو الطيب في (المجرد) فإن كان قبل أن يدركه صاحبه.. لم يملكه صاحب الكلب بذلك، وإن كان بعدما أدركه صاحبه.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يملكه، لأنه لم يحصل في يده ولا أزال عن الامتناع.

(4/565)


والثاني: يملكه؛ لأن الكلب قد أمسكه له وأمكنه أخذه.
وإن كان في يده صيد فانفلت الصيد منه.. لم يزل ملكه عنه، سواء كان الصيد طائرا أو غيره، وسواء لحق بالبراري أو لم يلحق، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (إن كان يطير في البلد وحوله.. فهو على ملك من كان بيده، وإن لحق بالبراري وعاد إلى أصل التوحش.. زال ملكه عنه وكان لمن اصطاده) .
دليلنا: أنه مال لمسلم فلم يزل ملكه بزوال يده عنه، كالعبد إذا أبق. وفيه احتراز من الحربي إذا قهر على ما بيده، فأما إذا أفلته من هو بيده باختياره.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة -: أنه يزول ملكه عنه؛ لأنه أزال يده عنه فأشبه ما لو كان معه عبد فأعتقه.
والثاني ـ وهو قول أبي إسحاق، واختيار القاضي أبي الطيب ـ: أنه لا يزول ملكه عنه، كما لو كان معه بهيمة فسيبها.
والثالث ـ وهو قول أبي علي في " الإفصاح "ـ: إن قصد بذلك التقرب إلى الله في إفلاته وتخليصه.. زال ملكه عنه، وإلا.. لم يزل.
وقال المسعودي في [" الإبانة "] : إن قال: أعتقته.. لم يزل ملكه عنه بذلك، وإن قال: أبحته لغيري.. حل لغيره ولا يزول ملكه عنه بذلك.
وإن كان معه ماء فصبه، أو غير ذلك من المحقرات فطرحه.. فهل يزول ملكه عنه؟ فيه وجهان، كالوجهين الأولين، حكاهما في " الفروع ".
قال الشاشي: والسواقط من الثمار تحت الأشجار إذا لم تكن محرزة وجرت عادة أهلها بإباحتها.. فهل تجري العادة في ذلك مجرى الإذن؟ فيه وجهان، حكاهما عن " كتاب الحاوي ". وبالله التوفيق

(4/566)