البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب الأطعمة]
الأصل في وجوب إباحة الأطعمة قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] [المائدة: 4] .
إذا ثبت هذا: فالحيوان على ضربين: بري، وبحري.
فأما البري: فلا يحل النجس منه، مثل: الكلب والخنزير، وكذلك: ما توالد منهما، أو من أحدهما؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] [المائدة: 3] .
وقَوْله تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 157] [الأعراف: 157] والكلب من الخبائث.
والدليل على ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الكلب خبيث، خبيث ثمنه» .
فإن ارتضع جدي من كلبة أو خنزيرة حتى نبت لحمه ففي إباحة لحمه وجهان، حكاهما الشاشي.

(4/500)


ويحل أكل الأنعام - وهي الإبل، والبقر، والغنم - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} [المائدة: 1] [المائدة: 1] .
وقَوْله تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 157] [الأعراف: 157] .
والأنعام من الطيبات وأجمع المسلمون على إباحة أكلها.
ويجوز أكل لحم الخيل، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد.
وقال أبو حنيفة: (يكره كراهة يتعلق بها الإثم) ، ولا يقول: إنها محرمة.
دليلنا: ما روى جابر قال: «ذبحنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر الخيل والبغال والحمير، فنهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن البغال والحمير، ولم ينهنا عن الخيل» .
ويحرم أكل لحوم الحمر الأهلية، وبه قال جماعة من العلماء.
وروي عن ابن عباس: أنه قال: (تحل) .
دليلنا: حديث جابر.
ويحرم أكل لحوم البغال.

(4/501)


وقال الحسن البصري: يحل.
دليلنا: حديث جابر.
ويحرم أكل السنور الأهلي؛ لما روى جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن أكل الهر» وفي السنور البري وجهان:
أحدهما: لا يحل: للخبر.
والثاني: يحل؛ لأن كل حيوان كان منه إنسي ووحشي اختص التحريم بالأهلي، كالحمار.

[مسألة: أكل الضبع والثعلب وغيرهما]
] : ويحل أكل الظبي والوعل وبقر الوحش وحمر الوحش لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 157] [الأعراف: 157] وهذه كلها من الطيبات.
ويحل أكل الضبع والثعلب.

(4/502)


وقال أبو حنيفة: (لا يحل أكلهما) .
وقال مالك: (يكره أكلهما) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 157] وهما من الطيبات، وروى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الضبع صيد يؤكل» .

[مسألة: في أكل الأرنب والقنفذ وغيرهما]
] : ويحل أكل الأرنب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 157] [الأعراف: 157] والأرنب من الطيبات. ولما روى جابر: «أن غلاما من قومه صاد أرنبا أو اثنين، فذبحهما بمروة، فتعلقهما حتى لقي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أكلهما، فأمره بأكلهما» .
ويحل أكل اليربوع، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا يحل) .
دليلنا: أنه من الطيبات، وأوجب عمر فيه الجزاء فدل على أنه صيد يؤكل.
ويحل أكل القنفذ. وقال أبو حنيفة وأحمد: (لا يحل) .

(4/503)


دليلنا: ما روي: أن ابن عمر سئل عن أكل القنفذ، فتلا قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] [الأنعام: 145] . وهذا فتوى منه بإباحته.
ويحل أكل ابن عرس والوبر. و (ابن عرس) : دويبة أصغر من الوبر.
وقال أبو حنيفة: (لا يحل واحد منهما) .
دليلنا: أنهما مستطابان عند العرب، فحل أكلهما.
ويحل أكل الضب، وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: (لا يحل) .
دليلنا: ما روي «عن خالد بن الوليد قال: دخلت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيت ميمونة، فقربت لنا ضبا محنوذا، فأهوى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليه بيده، فقال بعض النسوان اللاتي في بيت ميمونة: أخبروا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما يريد أن يأكل منه، فقيل له: هو ضب، فرفع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يده، فقلت: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: " لا، ولكن لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه " قال خالد: فاجتررته فأكلته، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينظر، فلم ينهني» .

[فرع: فيما يتقوى بنابه وحكم ابن آوى]
] : ولا يحل أكل ما يتقوى بنابه ويعدو على الناس وعلى البهائم، كالأسد والفهد والنمر والدب والذئب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] [الأعراف: 157] وهذه

(4/504)


كلها من الخبائث. ولما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير» وفي ابن آوى وجهان:
أحدهما: يحل؛ لأنه ضعيف الناب، فأشبه الضبع.
والثاني: لا يحل؛ لأنه من جنس الكلاب، والعرب لا تستطيبه، ولأنه كريه الرائحة.
ولا تحل الحيات والعقارب والفأر والخنافس والوزغ وما أشبهها من حشرات الأرض؛ لأنها من الخبائث.

[مسألة: أكل النعامة وغيرها من الطيور]
مسألة: [جواز أكل النعامة وغيرها من الطيور وحرمة ما له مخلب] : ويحل أكل النعامة؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قضوا فيها ببدنة إذا قتلها المحرم، فدل على أنها صيد.
ويحل الديك والدجاج والحمام والقطا والبط والكركي والعصفور؛ لأن كل هذه مستطابة.
ويحل أكل الجراد؛ لما «روى عبد الله بن أبي أوفى قال: (غزوت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سبع غزوات ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأكل الجراد ونأكلها معه» . وروي: أن الجراد ذكرت عند عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال: (ليت لنا منها قفعة أو قفعتين) .
وقال أبو العباس بن القاص، وأبو علي في " الإفصاح ": لا يحل أكل الهدهد،

(4/505)


والخطاف؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتلهما) ، وذلك يدل على تحريمهما.
ولا يحل أكل ما له مخلب يصطاد به، كالعقاب والصقر والشاهين والباشق؛ لحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
ويحرم النسر والرخمة؛ لأنهما مستخبثان.
وتحرم الحدأة، والغراب الأبقع، والغراب الأسود الكبير؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس يقتلن في الحل والحرم: الحية، والفأرة، والغراب الأبقع، والحدأة، والكلب العقور» وما أمر بقتله لا يحل أكله.
وأما الغراب الذي يسمى الغداف: وهو صغير الجسم، لونه كلون الرماد، وغراب الزرع ففيهما وجهان:
أحدهما: لا يحلان؛ لعموم الخبر.

(4/506)


والثاني: يحلان؛ لأنهما مستطابان يلتقطان الحب، فهما كالحمام.
ويحرم الذباب، والنحل، والزنبور، وما أشبهها؛ لأنها مستخبثة.

[مسألة: أكل ما تولد من حيوان يؤكل وغيره]
مسألة: [لا يؤكل ما تولد من حيوان يؤكل وغيره] : ولا يحل ما تولد بين حيوان يؤكل وحيوان لا يؤكل، كالسمع المتولد بين الضبع والذئب، سواء كان الذكر مما يحل أو الأنثى تغليبا للتحريم.
وإن نزا فرس على أتان وحشية، أو نزا حمار وحشي على رمكة قال الشافعي: (كان المتولد بينهما حلالا؛ لأنهما مما يحل أكلهما) .
ولو اشتبه ولد حيوان: هل هو متولد من ذكر يحل أم لا يحل؟ قال ابن الصباغ: فالاختيار: أن لا يؤكل، فإن أراد أكله نظر إلى خلقته، فإن كان الذي يحل أكله أولى بخلقته حل. وإن كان الذي لا يحل أكله أولى بخلقته لم يحل.

[مسألة: الذي لم يرد فيه تحليل ولا تحريم]
] : وما لم يرد فيه تحليل ولا تحريم ينظر فيه: فإن كان مما تستطيبه العرب فهو حلال. وإن كان مما تستخبثه العرب فهو حرام. وإن استطابه قوم واستخبثه آخرون رجع إلى ما عليه الأكثر.
قال الطبري: وإنما يرجع فيه إلى العرب الذين كانوا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من

(4/507)


أهل الريف والسعة دون الأجلاف وأهل الضرورة. وإن اتفق في بلاد العجم ما لا يعرفه العرب رجع فيه إلى شبيهه مما يحل ومما لا يحل، فيحكم فيه ما يحكم بشبهه. قال: وإن لم يشبهه شيء ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق، وأبو علي الطبري: يكون حلالا؛ لما روي عن ابن عباس: أنه قال: (بعث الله نبيه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وأنزل عليه كتابه، وأحل حلاله وحرم حرامه، فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو) .
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: لا يحل؛ لأن أصل الحيوان التحريم، إلا ما ورد الشرع بتحليله. هذا نقل الشيخ أبي حامد.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : ما لم يرد نص بتحريمه فهو حلال؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] الآية [الأنعام: 145] .

[مسألة: أكل الجلالة]
مسألة: [كراهة أكل الجلالة] : وأما الجلالة - وهي: البهيمة التي أكثر علفها العذرة، من ناقة وبقرة وشاة ودجاجة - فنقل الشيخ أبو حامد: أنه يكره أكل لحمها ولبنها وبيضها ولا يحرم.
وقال القفال: إن لم يتغير لحمها بذلك لم يحرم، وإن تغير لحمها بذلك حتى ظهرت رائحة العذرة فيه لم يحل أكل لحمها ولبنها وبيضها، ولو غسل وطبخ لم يطهر بذلك. واحتج بما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن أكل الجلالة، وعن شرب ألبانها حتى تحبس» وبه قال أحمد.

(4/508)


ووجه قول الشيخ أبي حامد: أن ما تأكله البهيمة من الطاهرات ينجس إذا حصل في كرشها فلا يكون غذاؤها إلا بالنجاسة، ولا يؤثر ذلك في إباحة لحمها ولبنها وبيضها، ولأن النجاسة التي تأكلها تنزل في مجاري الطعام ولا تخالط اللحم، وإنما يتغير اللحم بها، وذلك يقتضي الكراهية لا التحريم، كما لو كان معه لحم طري فتركه حتى أنتن فإنه لا يحرم بذلك، هذا هو المشهور.
وحكى الشاشي وجها آخر: أن اللحم إذا أنتن لم يحل أكله، وليس بشيء.
إذا ثبت هذا: فإن علفت الجلالة علفا طاهرا حتى زالت رائحة بدنها زالت الكراهة عند الشيخ أبي حامد، والتحريم عند القفال. وليس للوقت الذي تعلف فيه العلف الطاهر حد، وإنما الاعتبار بما يعلم في العادة أن رائحة العذرة قد زالت عن لحمها. قال ابن الصباغ: وقد حده بعض أهل العلم: بأن يعلف البعير والبقرة أربعين يوما علفا طاهرا، والشاة سبعة أيام، والدجاجة ثلاثة أيام، وقيل: سبعة أيام. وليس ذلك بتقدير، وإنما الاعتبار بما ذكرناه.

[مسألة: حيوان البحر وما يحل منه والضفدع وغيره]
] : وأما حيوان البحر: فيحل منه السمك؛ لما روي عن ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أحلت لنا ميتتان: السمك والجراد» .

(4/509)


ولا يحل أكل الضفدع لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتله) ولو حل أكله لم ينه عن قتله؛ لأنه لا يتوصل إلى أكله إلا بقتله. وقيل: إنه سم.
قال الشيخ أبو حامد: والسرطان مثله لا يحل أكله.
قال القاضي أبو الطيب: وكذلك النسناس لا يحل؛ لأنه على خلقة الآدمي.
وفيما سوى ذلك ثلاثة أوجه:
أحدها: لا يحل - وهو قول أبي حنيفة - وتعلق هذا القائل بقول الشافعي: (وما رأيت من الميت شيئا يحل إلا الحوت والجراد) . ولما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أحلت لنا ميتتان: السمك والجراد» فخص السمك بذلك.
والثاني: يحل ما أشبه ما كان حلالا في حيوان البر، فأما ما يشبه ما كان حراما في البر، ككلب الماء وخنزيره: فإنه لا يحل، كما نقول فيما أشكل من حيوان البر: إنه يرد إلى ما أشبهه.
والثالث - وهو المنصوص -: (أنه يحل الجميع) ؛ لأن الشافعي سئل عن كلب الماء وخنزيره فقال: (يحل أكله) .
قال القاضي أبو الطيب: وأما قوله: (لا يحل من الميت إلا الحوت والجراد) : فجميع حيوان البحر يسمى حوتا وسمكا، والدليل على تحليل الجميع: قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] [المائدة: 96] . ولم يفرق.

(4/510)


[مسألة: اعتبار الضرر في تحريم غير الحيوان]
وأما غير الحيوان: فلا يحل منه النجس؛ لأنه من الخبائث، ولا يجوز أكل ما يضر من الطاهر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] [النساء: 29] .
ويحل منه ما لا يضر، كالحبوب والفواكه والثمار؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 157] [الأعراف: 157] وهذه كلها من الطيبات، ولأن ذلك إجماع ولا خلاف فيه.

[مسألة: جواز أكل الميتة للمضطر]
وحكم الدواء النجس] : يجوز للمضطر أكل الميتة والدم والكلب والخنزير وغير ذلك من المحرمات التي لا يتلف بأكلها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] إلى قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3] [المائدة: 3] .
و (الضرورة التي يباح فيها له أكل ذلك) : هي خوف التلف على نفسه، أو يخاف إن لم يأكلها مرضا مخوفا، أو أن يكون ماشيا فيعجز عن المشي إن لم يأكلها أو يعجز عن الركوب إن كان راكبا وينقطع بذلك عن رفقته، أو يكون به داء لا يذهبه إلا أكل النجس، فأما إذا كان به داء يطول ولكنه غير مخوف كحمى الربع فلا يحل له أن يتناول النجس لأجلها، وإن كان به داء لو لم يتناول الدواء النجس امتد وصار مخوفا فهل له أن يتناول الدواء النجس؟ فيه قولان، حكاهما في " العدة ":
أحدهما: يحل له، كما لو كان مخوفا.

(4/511)


والثاني: لا يحل؛ لأنه في الحال غير مخوف.
إذا ثبت هذا: وأنه يجوز للمضطر أكل الميتة فله أن يأكل منها ما يسد به الرمق، وليس له أن يزيد على الشبع. وهل يجوز له أن يشبع منها؟ فيه قولان:
أحدهما: له ذلك؛ لأن كل ما جاز له أن يأكل منه ما يسد به الرمق جاز له أن يشبع منه، كالحلال.
والثاني: ليس له ذلك - وبه قال أبو حنيفة، وهي إحدى الروايتين عن مالك وأحمد - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] [الأنعام: 119] وبعد سد الرمق هو غير مضطر.
وحكى الطبري: أن من أصحابنا من قال: إن كان في بلد لم يجز له أن يشبع؛ لأنه يرجو وجود طعام طاهر، وإن كان في سفر لا يرجو وجود ميتة أخرى ولا طعام طاهر فله أن يشبع.

[فرع: وجوب سد الرمق للمضطر]
وهل يجب عليه أن يأكل من الميتة ما يسد به الرمق؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه، ويأثم إذا لم يأكل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] [البقرة: 195] وفي ترك الأكل تهلكة.

(4/512)


والثاني: لا يجب عليه؛ لأن له غرضا في تركه، وهو أن يجتنب ما حرم عليه، كما يجوز له أن يغمس نفسه في العدو وإن كان يعتقد أنه يقتل.
قال القاضي أبو الطيب: والأول أصح.

[فرع: بذل ما يفضل عن الحاجة للمضطر]
] : إذا كان مع رجل طعام يفضل عن حاجته، وهناك آخر مضطر إليه على الصفة التي ذكرناها.. وجب على صاحب الطعام بذله للمضطر؛ لما روي: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «أيما رجل مات جوعا في محلة قوم سألهم الله بدمه يوم القيامة» . ولأنه لو رأى من يغرق في ماء أو نار وهو يقدر على تخليصه، وجب عليه تخليصه، فكذلك هاهنا.
إذا ثبت هذا: فإن كان مع المضطر عوض عن الطعام.. لم يجب على صاحب الطعام بذل طعامه له إلا بدفع العوض من المضطر؛ لأنا إنما أوجبنا على صاحب الطعام بذل طعامه لدفع الضرر عن المضطر، فلا يجوز أن يدفع عنه الضرر، ويلحق

(4/513)


الضرر بصاحب الطعام. ويجب على المضطر بذل العوض لصاحب الطعام وجها واحدا، بخلاف النجاسة؛ لأن في النجاسة لا يجب عليه ـ في أحد الوجهين ـ ليتجنب المحرم، فهذا لا يوجد هاهنا. فإن بلغ المضطر إلى حالة لا يمكنه دفع العوض ... وجب على صاحب الطعام بذل طعامه قبل الدفع؛ لأن التأخر عن ذلك يفضي إلى قتل المضطر.
وإن لم يكن مع المضطر مال.. لزمه أن يلتزم العوض بذمته.
وحكي عن بعض الناس: أنه قال: يلزم صاحب الطعام بذل الطعام له بغير عوض، كما لو رأى من يغرق أو يحترق.. فإنه يلزمه أن يخلصه من غير اشتراط عوض.
دليلنا: أن الذمة تجري مجرى المال؛ لأن التصرف ينفذ فيها، كما ينفذ في المال، ثم ثبت: أنه لو كان معه مال.. لم يلزمه البذل بغير عوض، كذلك الذمة.
وأما تخليص الغريق والمحترق: فإن أمكنه موافقته على أجرته.. لم يلزمه تخليصه إلا بعد أن يبذل شرط العوض، وإن تعذر ذلك.. وجب عليه تخليصه قبل ذلك، وكذلك في الطعام مثله.
فإن امتنع صاحب الطعام من بذله بعوض مثله.. فللمضطر أن يكابره على أخذه ويقاتله على ذلك.. فإن قتله صاحب الطعام.. وجب عليه ضمانه بالقصاص إن كان مكافئا له، أو بالدية إن كان غير مكافئ له. وإن قتله المضطر.. لم يجب عليه ضمانه بقصاص ولا دية ولا كفارة؛ لأنه قتله ليدفع عن نفسه.
وكم القدر الذي يجب على صاحب الطعام بذله، ويجوز للمضطر مكابرته عليه؟ فيه قولان:

(4/514)


أحدهما: قدر ما يسد به رمقه.
والثاني: ما يشبع به، كالقولين في الميتة.
فإن طلب صاحب الطعام بطعامه أكثر من عوض المثل ولم يتمكن المضطر من مكابرته على أخذه، أو كان قادرا على ذلك لكنه ترك مكابرته تجنبا لإراقة الدم، فإن أمكنه أن يخادعه ويشتريه منه بشرط باطل.. كان له ذلك، ولا يلزمه إلا قدر قيمته، وإن لم يمكنه ذلك فاشتراه بأكثر من عوض المثل.. ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه ما عقد به؛ لأن العقد خلا مما يفسده.
والثاني: لا يلزمه إلا قدر قيمته؛ لأنه كالمكره على ذلك.
وإن بذل له الطعام فأكله، ثم اختلفا.. فقال صاحب الطعام: بذلته بعوض، وقال المضطر: بل بذلته بغير عوض.. ففيه قولان، حكاهما في " العدة ":
أحدهما: القول قول المضطر مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته منه.
والثاني: القول قول صاحب الطعام مع يمينه؛ لأن الظاهر أنه ما يرضى بخروج ملكه من يده إلا بعوض.
وإن كان صاحب الطعام مضطرا إلى طعامه.. لم يجب عليه بذله لمضطر آخر إلا أن يكون المضطر الآخر نبيا.. فيجب على صاحب الطعام إيثاره على نفسه؛ لأنه يجب على الإنسان أن يقي نفس النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بنفسه.

[فرع: امتناع المضطر من الطعام إن خاف السم أو المرض]
فرع: [امتناع المضطر من الطعام إن خاف السم أو زيادة المرض] :
قال الشافعي في ذبائح بني إسرائيل: (وإذا اضطر ووجد من يطعمه ويسقيه.. فليس له الامتناع إلا في حالة واحدة، وهو أن يخاف إن أطعمه أو سقاه أن يسمه.. فله

(4/515)


تركه وأكل الميتة، وإن كان مريضا ووجد مع غيره طعاما يضره ويزيد في مرضه.. كان له تركه وأكل الميتة) .

[فرع: وجود طعام الغير والميتة]
وإن وجد المضطر الميتة وطعام الغير، فإن كان رب الطعام حاضرا فبذله له أو باعه بثمن المثل إما حالا أو مؤجلا.. لم يجز له أكل الميتة؛ لأنه غير مضطر إليها. وإن لم يبذله له، أو بذله بأكثر من ثمن المثل.. نظرت: فإن كان يخاف التلف من مكابرة صاحب الطعام، بأن كان قويا لا يأمن أن يقتله.. عدل إلى الميتة. وإن كان لا يخاف التلف لكون صاحب الطعام ضعيف البنية، أو كان صاحب الطعام غائبا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يعدل إلى الميتة، ولا يجوز أكل مال الغير ـ وبه قال أحمد ـ لأن إباحة الميتة منصوص عليها في القرآن، وأكل مال الغير بغير اختياره مجتهد فيه، فكان تقديم الميتة أولى.
والثاني: يأكل طعام الغير؛ لأنه طاهر، فكان تقديمه أولى.
وهل له أن يشبع من مال الغير؟ فيه طريقان، حكاهما في " العدة ":
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: فيه قولان كالميتة.
و [الثاني] : منهم من قال: ليس له أن يشبع من مال الغير قولا واحدا؛ لأن المنع من أكل مال الغير لحق الآدمي، وحقوق الآدمي مبنية على الشح والتضييق.

[فرع: وجود الميتة ومال الغير والصيد للمحرم]
وإذا وجد المضطر ميتة وصيدا وهو محرم.. ففيه طريقان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: إن قلنا: إنه إذا ذبح الصيد صار ميتة.. أكل

(4/516)


الميتة وترك الصيد. لأنه يلزمه الجزاء. وإن قلنا: لا يصير ميتة.. أكل الصيد؛ لأنه طاهر.
و [الثاني] : منهم من قال: إذا قلنا: إنه يصير ميتة ... أكل الميتة. وإن قلنا: لا يكون ميتة.. ففيه قولان.
وإن وجد المحرم ميتة ولحم صيد، فإن كان ذبحه محل ... فهو ملك له، فيكون على الوجهين فيمن وجد الميتة وطعام الغير وإن كان ذبحه هو قبل إحرامه، فهو طعامه يأكله ويدع الميتة. وإن كان ذبحه هو بعد إحرامه أو ذبحه محرم غيره، فإن قلنا: إنه لا يصير ميتة
فالصيد أولى؛ لأنه طاهر. وإن قلنا: إنه يصير ميتة فوجهان:
[أحدهما] : قال القاضي أبو الطيب: هو بالخيار: بين أن يأكل الميتة، وبين أن يأكل من لحم الصيد؛ لأن كل واحد منهما ميتة.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: أكل الميتة أولى؛ لأنه قد قيل: إن في أكل هذا اللحم الجزاء.
وإن وجد ملك الغير وصيدا وهو محرم.. فذكر الطبري في " العدة ": إن قلنا: إن الصيد يصير بالذبح ميتة.. تناول ملك الغير، وإن قلنا: لا يصير ميتة.... ففيه ثلاثة أقوال:
أحدها: يتناول مال الغير؛ لأن في قتل الصيد هتك حرمة.
والثاني: أن تناول الصيد أولى؛ لأن المنع منه لحق الله تعالى، وحقوق الله تعالى تقبل المسامحة.
والثالث: أنهما سواء.
وإن وجد الميتة والصيد وطعام الغير، فإن قلنا: يصير الصيد ميتة.. فمال الغير مع الميتة أولى من الصيد، وأيهما أولى؟ فيه وجهان مضى تعليلهما. وإن قلنا: لا يصير الصيد ميتة.. ففيه قولان:
أحدهما: الميتة أولى من الصيد ومال الغير.

(4/517)


والثاني: هما أولى من الميتة، وأيهما أولى؟ فيه ثلاثة أقوال، وقد مضى ذكرها.

[فرع: أكل الآدمي أو عضو منه للمضطر]
وإن لم يجد المضطر إلا آدميا محقون الدم: من مسلم أو ذمي أو حربي له أمان.. لم يجز له أن يقتله ليأكله؛ لأنه مثله. فإن كان حربيا لا أمان له، أو مرتدا، أو من وجب قتله بالزنا.. جاز له قتله ليأكله. وإن وجد آدميا ميتا.. جاز له أكله.
قال ابن داود: أباح الشافعي أكل لحم الآدمي! فنعارضه: بأنك لم تجعل للنبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ إذا اضطر أن يأكل لحم ميت، بل تتركه حتى يموت؟
وقال أحمد: (لا يأكله) .
دليلنا: أن حرمة الحي آكد من حرمة من وجب قتله، أو من الميت، ولأنه لا خلاف: أن قوما لو كانوا في سفينة وخافوا الغرق ومعهم ميت.. جاز لهم طرحه في البحر؛ لتخف السفينة، فكذلك هاهنا.
فإن لم يجد المضطر شيئا يسد به رمقه.. فهل يجوز له أن يقطع عضوا من بدنه ليأكله؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: يجوز له ذلك؛ لأنه يجوز له حفظ نفسه بقطع بعضه، كما إذا وقعت به أكلة، فكذلك هاهنا مثله.
والثاني: ليس له ذلك؛ لأن الخوف عليه من ذلك أكثر.

(4/518)


[فرع: شرب المحرم للضرورة]
وإن وجد خمرا وبولا وهو خائف على نفسه من العطش.. فإنه يشرب البول دون الخمر؛ لـ: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أمر العرنيين أن يشربوا أبوال الإبل» .
وإن لم يجد غير الخمر واحتاج إليها للعطش أو للتداوي.. ففيه أربعة أوجه:
أحدها: لا يجوز شربها بحال؛ لأنها مما يجب الحد بشربها، بخلاف الميتة.
والثاني: يجوز شربها؛ لأنه مضطر إلى شربها. فهو كالمكره.
والثالث: يجوز شربها للعطش؛ لأنها تروي في الحال، ولا يجوز شربها للتداوي؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» .
والرابع: لا يجوز شربها للعطش؛ لأنه يزداد إلهابا، ويجوز التداوي بشرب اليسير منه.

[مسألة: الأكل من ثمر الغير للاضطرار]
وإن مر ببستان لغيره وهو غير مضطر إليه.. لم يجز له أن يأخذ منه شيئا بغير إذنه.
وقال أحمد: (إذا مر ببستان غير محوط وفيه ثمرة رطبة.. جاز له أن يأكل منها

(4/519)


في إحدى الروايتين ـ لما روى أبو سعيد: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «إذا أتيت على حائط بستان.. فناد صاحبه ثلاثا، فإن أجابك وإلا.. فكل من غير أن تفسد» .
ودليلنا: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» فإن صح ما رواه أحمد.. حملناه على المضطر، بدليل ما رويناه.

[فرع: ضيافة المسلم]
] : وإن استضاف مسلم مسلما، فإن لم يكن به ضرورة.. لم يجب عليه ضيافته، وإنما يستحب.
وقال أحمد: (ضيافة المسلمين واجبة لبعضهم على بعض) ؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «ليلة الضيافة واجبة على كل مسلم» .

(4/520)


دليلنا: أنه غير مضطر إلى طعامه، فلم يجب عليه بذله، كما لو لم يأت إليه، والخبر محمول على الاستحباب، كقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «غسل الجمعة واجب» .

[مسألة: كسب الحجام]
مسألة: [حل كسب الحجام] :
ولا يحرم كسب الحجام على الحر ولا على العبد.
وحكي عن بعض أصحاب الحديث: أنه قال: هو حلال للعبد، وحرام على الحر.
دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ احتجم وأعطى الحجام أجره» .
قال ابن عباس: (ولو كان حراما.. ما أعطاه) .
إذا ثبت هذا: فإنه يكره للحر أن يكتسب بالحجامة.
قال الشاشي: واختلف أصحابنا في علة كراهته، فمنهم من قال: لأجل مباشرة النجاسة.
فعلى هذا: يكره كسب الكناس والزبال والقصاب. وفي الفصاد وجهان:
أحدهما: أنه من جملتهم.
والثاني ـ وهو قول أبي علي بن أبي هريرة ـ: أنه لا يكره لاقترانه بالطب.
وأما كسب الختان: فمكروه، كالحجام.
والثاني: أن كراهة الحجامة لدناءتها، وهو ظاهر مذهب الشافعي. فعلى هذا: يكره كسب الدباغ والقمام، وفي كسب الحمامي وجهان، وفي كراهة ذلك للعبد وجهان، الصحيح: لا يكره؛ لأنه دنيء. قال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «يسعى

(4/521)


بذمتهم أدناهم» وأراد به العبد.
واختلفوا في أطيب المكاسب:
فمنهم من قال: الزراعة.
ومنهم من قال: الصناعة.
ومنهم من قال: التجارة، وقال الشاشي: وهو أظهرها، على مذهب الشافعي.
وبالله التوفيق.

(4/522)