البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب من نهي عنه من بيع الغرر وغيره]
ولا يجوز بيع المعدوم، بأن يقول: بعتك ثمرة نخلي التي ستخرج عامًا، أو أعوامًا؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع المعاومة» ، وأراد به: بيع ثمرة النخل أعوامًا، وروي: «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع السنين» ، وروي: (أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الغرر» .
وقال الشيخ أبو حامد: و (الغرر) : هو ما تردَّد بين السلامة والعطب، وليس أحدهما بأولى من الآخر، أو كان الغالب العطب. وفي بيع الثمرة التي لم تخلق غرر؛ لأنه لا يدري إن خرجت.. أتسلم، أم تعطب؟

(5/65)


[مسألة: بيع الفضولي]
إذا باع مال غيره بغير إذنه، ولا ولاية له عليه، أو اشترى لغيره بغير وكالة، ولا ولاية.. لم يصح، ولم يوقف ذلك على إجازة المالك، ولا على إجازة من اشتري له أو بيع عليه.
وقال أبو حنيفة: (إذا باع مال غيره بغير إذنه.. وقف على إجازة المالك، فإن أجازه.. نفذ، وإن ردّه.. بطل. وأما الشراء: فلا يوقف) .
وقال مالك رحمة الله عليه: (يوقف البيع والشراء على إجازة المالك، والمشترى له) .
وحكى صاحب " الإبانة " [ق\226] : أن ذلك قول الشافعي في القديم. وليس بمشهور.
دليلنا: ما روى حكيم بن حزام: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تبع ما ليس عندك» .
والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، فإن قيل: فدليل الخطاب من الخبر: أنه يجوز بيع ما عنده وإن كان ملكًا لغيره.. قلنا: دليل الخطاب إنما يكون حجة إذا لم يؤد إلى إسقاط النطق، وهذا يؤدي إليه؛ لأن الناس في هذه المسألة قائلان:
قائلٌ يقول: إن بيع الموقوف لا يجوز، سواءٌ كان المبيع في يد البائع، أو في يد غيره.

(5/66)


وقائل يقول: يجوز، سواء كان غائبا عنه أو في يده.
فمتى قلنا: يجوز بيع مال غيره إذا كان في يده، ويوقف على إجازة مالكه.. اقتضى أن يجوز بيعه وإن كان في يد مالكه؛ لأن أحدًا لم يفرق بينهما، ومتى قلنا بهذا.. سقط النطق، فأسقطنا دليل الخطاب.
وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا طلاق، ولا عتق، ولا بيع قبل الملك» .
ولأنه عقد لغيره عقدًا بغير توكيل ولا ولاية، فلم يصح، كالشراء عند أبي حنيفة، أو نقول: لأنه عقد على ما لا يقدر على تسليمه، فلم يصح، كما لو باعه طائرًا في الهواء.

[مسألة: البيع قبل القبض]
إذا ملك عينًا بعقد معاوضة، فإن كانت ثمنًا، أو مثمنًا في بيع، أو أجرة في إجارة، أو مهرًا في نكاح، أو عوضًا في خلع، فإن كان طعامًا.. لم يجز له بيعه قبل قبضه بلا خلاف؛ لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ابتاع طعامًا.. فلا يبعه حتى يستوفيه» .
وإن كان غير الطعام.. فاختلف الناس فيه على أربعة مذاهب:

(5/67)


فمذهبنا: أن غير الطعام كالطعام، فلا يجوز بيعه قبل قبضه، فإن باعه.. لم يصحّ، وبه قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ومحمد بن الحسن.
وقال مالك: (يجوز بيع ما عدا الطعام قبل القبض) .
وقال سعيد بن المسيب، والحسن، وأحمد: (ما كان مكيلا، أو موزونًا، أو معدودًا.. فلا يجوز بيعه قبل القبض، وما عدا ذلك.. يجوز بيعه قبل القبض) ، وهو قول عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه.
وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: (ما لا ينقل، ولا يحول، كالدور والعقار والأرضين والأشجار.. يجوز بيعها قبل القبض، وما ينقل ويحول، كالسلع والدراهم والدنانير.. لا يجوز بيعها قبل القبض) .
دليلنا: ما «روى حكيم بن حزام قال: قلت: يا رسول الله، إني أبيع بيوعا كثيرة، فما يحل لي منها، وما يحرم؟ فقال: إذا بعت بيعا.. فلا تبعه حتى تستوفيه» وهذا عامٌّ في جميع المبيعات.
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما بعث عتّاب بن أسيد إلى مكة أميرًا.. قال له: انههم عن بيع ما لم يقبضوا، أو ربح ما لم يضمنوا» .

(5/68)


وروي «عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: ابتعت زيتًا في السوق، فلما استوجبت.. رآني رجلٌ، فأعطاني ربحًا حسنًا، فأردت أن أضرب على يده، فأخذ رجل من خلفي بذراعي، فالتفتُّ، فإذا زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال: لا تبعه حتى تحوزه إلى رحلك، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن تباع السلع حيث تباع، حتى يحوزها التجار إلى رحالهم» وهذا عامٌّ في الطعام وغيره.
ولأنه مبيع لم يقبضه المبتاع فلم يجز بيعه، كالطعام.

[فرعٌ: جواز التصرف قبل القبض]
] : وأما إنكاح الأمة المبيعة قبل القبض.. فيصح؛ لأن النكاح لا يقتضي الضمان، وهل يصح إجازة البيع قبل قبضه؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ.
ولا يصح كتابة العبد المبيع قبل القبض؛ لأن الكتابة تفتقر إلى تخليته للتصرف، وهل يصح عتقه قبل القبض؟ فيه وجهان:
[الأول] : قال ابن خيران: لا يصح؛ لأنه إزالة ملك، فلم يصح في المبيع قبل القبض، كالبيع.

(5/69)


و [الثاني]ـ المذهب ـ: أنه يصح؛ لأن للعتق قوة وسراية، بدليل: أنه إذا أعتق شقصًا له في عبدٍ وهو موسر.. عتق الجميع، ولو باع شقصًا له في عبد.. لم ينفذ بيعه في ملك غيره، ولا فيما لم يبع من ملكه فيه.

[فرعٌ: قبض ثمن المبيع عند تسلمه]
] : إذا اشترى عينًا بثمن غير مؤجل.. لم يجز للمشتري قبض العين قبل تسليم الثمن؛ لأن العين محبوسة مع البائع إلى أن يستوفي الثمن، فإن خالف المشتري وقبضها بغير إذن البائع.. قال الشيخ أبو حامد: دخلت في ضمان المشتري، ولا يجوز له التصرف فيها؛ لأنه قبض فاسد، وإن اشتراها بثمن مؤجل، أو حال، فسلم الثمن.. فله أن يقبضها بغير إذن البائع، فإذا قبضها.. صح تصرفه بها؛ لأنه لا حق لبائعها فيها.

[فرعٌ: البيع مقايضة]
] : لأبي العباس: إذا باع عبدًا بعبد، وقبض أحدهما ما اشترى، ثم باعه قبل أن يقبض صاحبه ما باعه منه.. صح تصرفه في الذي اشتراه؛ لأنه قد قبضه، فإن تلف عبده الذي باعه من صاحبه قبل قبضه.. بطل البيع الأول؛ لتلف المبيع قبل القبض، ولا يبطل الثاني؛ لتعلق حق المشتري الثاني به، ولكن يلزم بائعه قيمته للذي اشتراه منه أولا؛ لأنه تعذر تسليمه إليه، فوجبت قيمته عليه.
فإن اشترى من رجل شقصا من دار بعبد، وقبض المشتري الشقص، فأخذه الشفيع بالشفعة، ثم تلف العبد في يد المشتري قبل أن يقبضه بائع الشقص.. انفسخ البيع في العبد، ولم تنفسخ الشفعة، ولا يؤخذ الشقص من يد الشفيع، فيجب على المشتري قيمة الشقص للبائع، ويجب على الشفيع للمشتري قيمة العبد.

(5/70)


[فرعٌ: التصرف بالعين في عقد لا عوض فيه]
] : إذا ملك عينًا بعقد لا عوض فيه.. نظرت:
فإن كان هبة.. فإنه لا يملكها قبل القبض، فلا يصح بيعه لها، ويأتي حكمها إن شاء الله.
وإن كانت بوصية.. ملك بيعها قبل القبض؛ لأنه لا يخشى انفساخها.
وهكذا: لو ورث شيئًا.. جاز بيعه قبل قبضه؛ لأنه لا يخشى انفساخ ملكه.
وإن باع عينًا، وقبضها المشتري، ثم تقايلا في البيع، وأراد البائع بيعها من آخر قبل قبضها.. فالبغداديون من أصحابنا قالوا: يصح البيع؛ لأنه ملكها بغير عوض.
وأما المسعودي: فقال: [في " الإبانة " [ق\229] هل يصح بيعها قبل القبض؟ فيه قولان:
إن قلنا: إن الإقالة فسخ عقد.. جاز بيعها. وإن قلنا: إن الإقالة بيع.. لم يصح بيعها قبل قبضها.

[فرعٌ: الدين في الذمة]
وأما الدين في الذمة: فعلى ثلاثة أضرب:
[الأول] : دين مستقر لا يخاف انتقاصه، كأرش الجناية، وبدل المتلف، وبدل القرض، فهذا يجوز بيعه ممن عليه، وهل يجوز بيعه من غيره؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه ربما جحده.
والثاني: يجوز، وهو الأصح، كما يجوز بيعه ممن عليه، ولأن ما جاز بيعه ممن عليه.. جاز بيعه من غيره؛ لأن الظاهر: أنه يقدر على تسليمه من غير جحود.

(5/71)


والضرب الثاني: دين غير مستقر، وهو المسلم فيه، فلا يجوز بيعه ممن عليه، ولا من غيره؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أسلم في شيء.. فلا يصرفه إلى غيره» ، ولأنه غير مستقر؛ لأن العقد قد ينفسخ بعدم المسلم فيه في أحد القولين، وبالفسخ في الآخر، فلم يجز بيعه قبل القبض، كالعين المبيعة قبل القبض.
والضرب الثالث: هو الثمن، أو الأجرة، أو الصداق، أو عوض الخلع في الذمة، فهل يصح بيعه قبل القبض؟ في قولان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه مملوك بعقد معاوضة، فلم يجز بيعه قبل قبضه، كالمثمن.
والثاني: يجوز، وهو الصحيح؛ لما روي «عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: كنت آتي البقيع، فأبيع الإبل بالدنانير، وآخذ عنها الدراهم، أو بالدراهم، فآخذ عنها الدنانير، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخبرته بذلك، فقال: "لا بأس، إذا تفرّقتما وليس بينكما شيء»

(5/72)


ولأن الثمن في الذمة مستقر؛ لأنه لا يخشى انتقاص البيع بهلاكه، فجاز التصرف فيه، كالمبيع بعد القبض.
إذا ثبت هذا: فاختلف أصحابنا في الثمن والمثمن:
فقال بعضهم: (الثمن) : هو الدراهم أو الدنانير، و (المثمن) : ما قابله، فإن لم يكن في البيع دراهم ولا دنانير.. فالثمن ما دخلت فيه الباء، والمثمن ما قابله.
ومنهم من قال: الثمن ما دخله الباء بكل حال، والمثمن ما قابله. والأول أصح.

[فرعٌ: بيع نجوم الكتابة]
] : وهل يجوز بيع نجوم المكاتب قبل قبضها؟
المنصوص عليه للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المختصر ": (أنه لا يصح) .
وقال أبو إسحاق: أومأ الشافعي في القديم إلى: (أنه يصح بيعها) .
قال أصحابنا: لم يذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم إلا جواز بيع رقبته، وليس إذا جاز بيع رقبته.. جاز بيع نجومه؛ لأن الرقبة ملك للسيد، وإنما سقط حق السيد بأداء المال، وهاهنا يملك العبد إسقاط حقه من المال.
ووجه ما قال أبو إسحاق على القديم: أن السيد يملك المال في ذمة المكاتب، فجاز بيعه، كسائر أمواله.

(5/73)


[فرعٌ: كيفية القبض]
] : قد ذكرنا: أنه لا يصح بيع المبيع قبل القبض.
وإذا ثبت هذا: فإن القبض ـ فيما ينقل ـ النقل، فإن كان المبيع عبدًا.. فقبضه: أن يستدعيه فيجيء، وإن كان بهيمة.. فقبضها: أن يسوقها، فإن أمر العبد بعمل لا ينتقل فيه من موضعه، أو ركب البهيمة ولم تنتقل عن موضعها.. فإن الذي يقتضيه المذهب: أنّه لا يحصل القبض بذلك؛ لأنّه لا يكون بذلك غاصبًا، فكذلك لا يكون بذلك قابضًا في البيع، وإن وطئ الجارية.. فهل يكون قبضًا؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ المشهور ـ: أنه ليس بقبض؛ لأنه لم ينقلها.
والثاني ـ حكاه في " الحاوي " ـ: أنه يحصل به القبض؛ لأن ذلك أبلغ من النقل.
وإن كان المبيع ثيابًا، أو خشبًا، أو طعامًا اشتراه جزافًا.. فقبضه: أن ينقله ويحوله من مكان إلى مكان آخر، وإن كان عقارًا أو شجرًا.. فقبضه: التخلية.
وقال مالك، أبو حنيفة: (قبض جميع الأشياء بالتخلية) .
دليلنا: ما «روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كنا نشتري الطعام من الركبان جزافًا، فنهانا رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نبيعه حتى ننقله من مكانه»
ولأن الشرع ورد بالقبض، وليس له حد في اللغة، ولا قدر في الشرع، فوجب الرجوع فيه إلى عرف الناس وعادتهم، كما قلنا في الحرز والإحياء. والعرف عند الناس ما ذكرناه. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وذكر المسعودي [في " الإبانة " [ق\230ـ231] في هذا ثلاث مسائل:

(5/74)


الأولى: إذا اشترى منه ما ينقل، فوضعه البائع بين يدي المشتري.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يقوم ذلك مقام القبض، كالوديعة إذا وضعها بين يديه.. فلا يكون قبضًا، حتى إن لم يحفظها إلى أن ضاعت.. لم يضمن.
والثاني ـ قال: وهو الأصح ـ: أنّه يقوم مقام القبض، بخلاف الوديعة؛ لأن قبولها لا يلزم، وليس كذلك في مسألتنا.
[المسألة] الثانية: إذا اشترى دارًا وأمتعة فيها.. فالتخلية في الدار تكون قبضا، وفي الأمتعة وجهان:
أحدهما: تكون التخلية قبضًا لها تبعًا للدار.
والثاني: يشترط نقلها.
[المسألة] الثالثة: إذا اشترى شيئًا في دار البائع، ونقله من زاوية إلى زاوية، فإن أذن له البائع في ذلك.. حصل له القبض في ذلك، وكأن البائع أعاره تلك الزاوية، وإن لم يأذن له في ذلك.. لم يحصل القبض.
قال الصيمري: وإن اشترى من رجل صبرة طعام، ثم اشترى العرصة التي تحت الصبرة.. حصل له القبض في الصبرة من غير نقل.

[فرعٌ: قبض الوديعة بدل الدين]
إذا كان لرجل في ذمة غيره دين مستقر، وعند من له الدين لمن عليه الدين وديعة أو رهن مما ينقل، فباع منه الوديعة أو الرهن بذلك الدين.. فله أن يقبض الوديعة أو الرهن بغير إذن بائعه؛ لأنه قد استحق قبض ذلك، والقبض فيه: هو أن يمضي عليه زمان يمكن فيه القبض، وهل يحتاج إلى نقله من مكانه، أو يكفي فيه مضي الزمان؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ.
أحدهما: يحتاج إلى النقل؛ لأنه مما ينقل، ويحول، فلم يحصل قبضه إلا بذلك.

(5/75)


والثاني: أنه لا يحتاج إلى ذلك؛ لأن النقل يراد لحصوله في يده، وهو حاصلٌ في يده.
وإن باعه الوديعة أو الرهن بثمن في ذمته، ولم يقبضه الثمن.. لم يكن للمودع نقل الوديعة إلا بإذن البائع، فإن قبضها بغير إذنه.. لم تصر مقبوضة قبضًا يملك به التصرف.

[فرعٌ: أخذ مثلاً بدلاً عن ثمن]
قال الصيمري: إذا باعه طعامًا بثمن إلى أجل، وحل الثمن.. جاز أن يأخذ بالثمن طعامًا أو تمرًا حاضرًا.
وإن أراد أن يأخذ عن الدين المؤجل عوضًا، إما عرضًا، أو غيره، قبل حلول الدين.. لم يصح، وأما تقديمه: فيجوز؛ لأنه لا يملك المطالبة به قبل محله، فكأنه أخذ البدل عمّا لا يستحقه، وهكذا ذكره الصيدلاني.

[فرعٌ: بيع الصكوك]
] : قال الصيمري: ولا يجوز بيع الصكوك قبل قبضها، وهي: أرزاق الجند، إذا صك السلطان على بيت المال.

[مسألة: بيع ما لا يقدر على تسليمه]
] : إذا باع طيرًا في الهواء، فإن كان لا يملكه.. لم يصح بيعه لعلتين:

(5/76)


إحداهما: أنه لا يملكه.
والثانية: أنه لا يقدر على تسليمه.
وإن كان يملكه.. لم يصح بيعه، سواء كان يألف الرجوع أو لا يألفه؛ لأنه لا يقدر على تسليمه في الحال.
وإن باعه طيرًا في برج، فإن كان الباب مفتوحًا.. لم يصح بيعه؛ لأن الطير إذا قدر على الطيران لم يقدر على تسليمه في الحال، وإن كان مغلقًا، فإن كان لا يحتاج في أخذه إلى كلفة ومشقة.. جاز بيعه، وإن كان يحتاج إلى ذلك.. لم يجز.
وإن باعه سمكةً في بركة عظيمة، يدخل فيها السمك ويخرج، فإن كان لا يملك البركة.. لم يصح بيعه؛ لأنه لا يملك السمكة، ولأنه لا يقدر على تسليمها، وإن كان في بركة صغيرة، يقدر على أخذها من غير كلفة، وكان الماء صافيًا يشاهد السمكة فيه، وكان قد ملكها.. صح بيعه، وإن كان لا يقدر على أخذها إلا بالاصطياد.. فنص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لا يصح بيعها) .
قال الشيخ أبو حامد: وخرج أبو العباس وجهًا آخر: أنه يصح. ولا وجه له.

[فرعٌ: استئجار برك السمك]
] : قال في " الإملاء ": (ولا يجوز تقييل برك الحيتان ـ يريد: استئجارها ـ لأخذ السمك منها) ؛ لأن العين لا تملك بالإجارة.
فإن استأجر بركة ليحبس بها السمك ويأخذها.. قال الشيخ أبو حامد: لا يجوز، لأن الصيد ينحبس فيها بغيرها.
وقال ابن الصبّاغ: يجوز؛ لأن البركة يمكن الاصطياد بها، فجاز استئجارها لذلك، كالشبكة. قال: وأمّا قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا يجوز تقييل برك الحيتان) أراد: إذا حصل فيها حيتان، فاستأجرها لأخذ ما قد حصل فيها.. فلا يصح؛ لأن الأعيان لا تملك بالإجارة. وأما إذا لم يكن فيها سمكٌ: فإن العقد على منفعة مقصودة، فجاز العقد عليها.

(5/77)


وإن استأجر أرضًا للزراعة، فدخل فيها السمك، ثم نضب الماء منها، وبقي السمك.. لم يملكه المستأجر، ولكن يكون أحق به؛ لأن غيره لا يملك التخطي في أرضه، فإن تخطى أجنبي، فأخذه.. ملكه بذلك.

[فرعٌ: بيع النادِّ والفارِّ]
ِّ] : ولا يجوز بيع الجمل الشارد، والفرس العائر؛ لأنه لا يقدر على تسليمه في الحال، ولا يجوز بيع العبد الآبق، وروي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (أنه باع عبدًا له أبق) ، وقال ابن سيرين: إن عرف موضعه.. جاز بيعه، وإن لم يعرف موضعه.. لم يجز بيعه.
دليلنا: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الغرر» . وفي بيع الآبق غرر.
ولأنه لا يقدر على تسليمه، فلم يصح بيعه، كالطير في الهواء.
فإن رجع الآبق.. لم ينقلب البيع صحيحًا.
وقال أبو حنيفة: (ينقلب صحيحًا) .
دليلنا: أنه وقع باطلاً، فلم ينقلب صحيحًا، كما لو باع طيرًا في الهواء، ثم وقع الطير في يده.

(5/78)


[فرعٌ: بيع الوديعة والعارية]
] : فإن باع عينًا له مودعة، أو معارة عند غيره.. صح بيعها، سواء باعها ممن هي في يده أو من غيره؛ لأنها عينٌ يملكها، مقدورٌ على تسليمها، فصحَّ بيعها، كما لو كانت بيده.
وإن كانت له عين مغصوبة عند غيره، فإن باعها من الغاصب.. صح البيع، وإن باعها من غير الغاصب، وقال البائع أو المشتري: أنا قادر على انتزاعها من الغاصب.. صح البيع، فإن قدر على انتزاعها من الغاصب.. نفذ البيع، وإن لم يقدر على انتزاعها.. ثبت للمشتري الخيار في فسخ البيع، وإن كان البائع أو المشتري غير قادرين على انتزاعها من الغاصب.. لم يصح البيع؛ لأنه باع ما لا يقدر على تسليمه، فهو كالطير في الهواء.
ويصح إنكاح الأمة المغصوبة ممن يقدر على انتزاعها، وممن لا يقدر على انتزاعها؛ لأن النكاح لا يقتضي الضمان. ويصح إعتاقها؛ لما ذكرناه، ولا يصح كتابتها؛ لأن الكتابة تقتضي التصرف، والمغصوبة ممنوعة من التصرف.
ويصح إعتاق العبد الآبق؛ لما ذكرناه.

[مسألةٌ: بيع غير المعيَّن]
إذا باع عبدًا من عبدين، أو ثلاثة، أو أكثر.. لم يصح.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا باعه عبدًا من عبدين، أو ثلاثة، بشرط خيار ثلاثة أيام.. صح، وإن باعه عبدًا من أربعة أعبد، أو أكثر.. لم يصح) .
وقال مالكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا باعه عبدًا من عبيد، أو ثوبًا من ثياب، وكانت كلها متقاربة بالصفة، وشرط الخيار للمشتري.. صحَّ البيع) .
دليلنا: أن ذلك مما يختلف فيه الغرض، فلم يصح بيعه من غير تعيين، كما لو باعه عبدًا من أربعة.

(5/79)


وإن قال: بعتك قفيزًا من هذه الصبرة.. صح البيع؛ لأن الصبرة تتساوى أجزاؤها، فصح بيع بعضها، وإن كان غير معين.

[مسألةٌ: بيع الغائب]
ولا يجوز بيع العين الغائبة إذا جهل جنسها أو نوعها، بأن يقول: بعتك ما في هذا الجراب، أو بعتك ما في كمي، أو ما في بيتي.
وقال أبو حنيفة: (يصح بيع العين الحاضرة المشار إليها وإن كانت غير مشاهدة، ولا يفتقر إلى ذكر الجنس، وإن كانت غائبة.. صح بيعها إذا ذكر الجنس) .
دليلنا: ما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الغرر» .
و (الغرر) : ما خفي على الإنسان أمره، وانطوت عليه عاقبته، ولهذا روى عن رؤبة بن العجاج: أنه اشترى ثوبًا من بزَّاز، فقال له: اطوه على غرِّه، أي: على طيِّه.
وقالت عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - في وصف أبيها: (فردٌ نشر الإسلام على غرِّه) ، أي: على طيِّه. وهذا المعنى موجودٌ في بيع ما جهل جنسه أو نوعه.
فأما إذا ذكر الجنس والنوع، بأن قال: بعتك الثوب المروي الذي في كمي، أو عبدي الزِّنجي، فإن كان لا يملك عبدًا زنجيًّا غيره.. كفاه، وإن كان يملك عبدًا زنجيًّا غيره، فقال: عبدي الزنجي الذي في داري.. نظرت:
فإن كان البائع قد نظر المبيع، ولم يره المشتري.. فلا خلاف بين أصحابنا أنها على قولين:
أحدهما: يصح البيع، وبه قال الحسن، والشعبي، والنخعي، والأوزاعي؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من اشترى شيئًا لم يره.. فله الخيار إذا رآه» . وروي: (أن عثمان بن عفّان، وطلحة بن عبيد الله رضي الله

(5/80)


عنهما تناقلا بدارين، إحداهما بالمدينة، والأخرى بالكوفة، فقيل لعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قد غبنت، فقال: لا أبالي، لي الخيار إذا رأيت، فتحاكما إلى جبير بن مطعم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقضى بصحة البيع، وجعل الخيار لعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) .
ولأنه عقد معاوضة، فلم يفسده عدم الرؤية، كالنكاح.
والثاني: لا يصح البيع، وهو قول الحكم، وحمّاد، وهو الصحيح؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الغرر» ، ولأنه مبيع مجهول الصفة عند العاقد حال العقد، فلم يصح، كما لو قال: بعتك ثوب خز.. فلا خلاف أنه لا يصح.
ومن قال بهذا: قال بحديث أبي هريرة: «من اشترى شيئا لم يره.. فهو بالخيار إذا رآه» . رواه عمر بن إبراهيم بن خالد، وكان كذّابًا. وقيل: رواه مجاهد، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلا.

(5/81)


وإن صح.. فمعنى قوله: "لم يره" أي: حال العقد وكان قد رآه قبل ذلك. وقيل: أراد: "إذا رآه" في أن يعقد عليه بعد الرؤية، وكذلك حديث عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، معناه: لا أبالي، لي الخيار إذا رأيتها متغيرة عما كنت رأيتها.
فأما إذا كان البائع والمشتري لم ينظرا جميعًا إلى المبيع: فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان، كالأولى. قال ابن الصباغ: وهو المشهور في المذهب؛ لأنّ حكم البائع حكم المشتري في ذلك.
ومنهم من قال: يبطل البيع هاهنا، قولاً واحدًا؛ لأن البائع إذا لم يشاهد المبيع.. فإنما يصفه عن صفة، لا عن مشاهدة، وبيع العين بصفة عن صفة لا يصح، ألا ترى أن الأعمى لا يصح بيعه لما لم يره؛ لأنه يصف المبيع عن صفة، لا عن مشاهدةٍ؟! ولأن البائع إذا كان قد شاهد المبيع، ولم يشاهده المشتري.. قل الغرر، وإذا لم يشاهده واحدٌ منهما.. كثر الغرر.
فأمّا إذا كان المشتري قد شاهد المبيع، ولم يشاهده البائع:
فمن قال في التي قبلها: إذا لم يشاهده البائع ولا المشتري، إنها على قولين.. فإنه لا يجعل لرؤية البائع تأثيرًا، فيصح البيع هاهنا، قولاً واحدًا.
ومن قال في التي قبلها: إن البيع يبطل، قولا واحدا.. جعل لرؤية البائع هاهنا تأثيرًا، فيجعل هذه على قولين.
فأمّا إذا قلنا: لا يصح بيع خيار الرؤية.. فلا تفريع عليه، وإذا قلنا: يصح.. فلا بد من ذكر الجنس والنوع، وهل يحتاج إلى ذكر غيرهما من الصفات؟ فيه ثلاثة أوجه:

(5/82)


أحدها ـ وهو قول أبي علي في " الإفصاح " ـ: أنه لا بد من أن يذكر جميع صفاته، كالمسلم فيه.
والثاني ـ وهو قول القاضي أبي حامد ـ: أنه لا بد من وصفه بمعظم الصفات، وإن لم يأت بالجميع؛ لأن الاعتماد على الرؤية.
والثالث ـ وهو المنصوص ـ: (أنه يكفي ذكر الجنس والنوع) ؛ لأن المعتمد في هذا البيع على الرؤية، لا على الصفة.
فإذا قلنا بهذا: فوصف المبيع بصفة المسلم فيه، أو ثبت عند وصفه بخبر التواتر.. ففيه طريقان، حكاهما في " الإبانة " [ق\232] :
[الأول] : من أصحابنا من قال: هو كالمرئي، فيصح بيعه، قولا واحدا.
و [الثاني] : منهم من قال: هي على قولين، كالأولى.
إذا ثبت هذا: فإن وصف له البائع المبيع بصفات، وقلنا: لا بد من ذكرها، أو قلنا: لا يفتقر إلى ذكرها، لكنه قد وصفه بذلك، فوجده المشتري أنقص من تلك الصفة.. ثبت له الخيار؛ لأنه أنقص مما وصف له، فثبت له الخيار، كالمسلم فيه إذا أتى به على خلاف الوصف، وإن وجده على ما وصف له، أو أعلى منها.. فهل يثبت له الخيار؟ فيه وجهان:
أحدُهما: لا خيار له، وهو قول أبي حنيفة؛ لأنه وجده على ما وصف له، فلم يثبت له الخيار، كالمسلم فيه.
والثاني: يثبت له الخيار، وهو المنصوص عليه؛ لأن هذا البيع يختص باسم بيع خيار الرؤية، بلا خلاف بين أهل العلم، فلم يخل من الخيار.
وإذا ثبت له الخيار.. فهل يكون على الفور؟ فيه وجهان:
أحدُهما: أنه على الفور، فإن فسخ، وإلا لزمه البيع؛ لأنه خيار يتعلق بمشاهدة المبيع، فكان على الفور، كخيار الردّ بالعيب، فإنه يتعلق بمشاهدة العيب.
والثاني: يتقدر بالمجلس بعد الرؤية؛ لأنه خيار ثبت بمقتضى العقد، فكان مقدرًا

(5/83)


بالمجلس، كخيار المجلس. فإن اختار إمضاء البيع قبل الرؤية.. لم يصح؛ لأن الخيار متعلق بالرؤية، ولأنه يؤدي إلى أن يلزمه المبيع، وهو مجهول الصفة، وإن فسخ البيع قبل الرؤية.. صح الفسخ؛ لأن الفسخ يصح في المجهول.
وإذا باع ما رآه البائع، ولم يره المشتري.. فهل يثبت الخيار للبائع؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ، والطبري:
أحدهما: يثبت له؛ لأنه خيارٌ ثبت بمطلق العقد، فاشترك فيه البائع والمشتري، كخيار المجلس.
والثاني: لا يثبت له، وهو المنصوص للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في (الصرف) ؛ لأنه أحد المتبايعين، فلا يثبت له خيار الرؤية مع تقدم الرؤية، كالمشتري.
وأمّا إذا كان البائع لم يشاهد المبيع، وباع، وقلنا: يصح بيعه.. فهل يثبت له الخيار إذا رأى المبيع؟ فيه وجهان:
أحدُهما ـ وهو قول القفّال، وأبي حنيفة ـ: أنه لا يثبت للبائع الخيار؛ لأنا لو أثبتنا له الخيار.. لكنَّا قد أثبتنا له الخيار لتوهم الزيادة، والزيادة في المبيع لا تثبت الخيار، ألا ترى أنه لو باع شيئًا على أنه معيب، فبان أنه غير معيب.. لم يثبت له الخيار، ولو اشترى شيئًا على أنه غير معيب، فبان معيبًا.. ثبت له الخيار؟ ! والثاني ـ وهو قول الشيخ أبي حامد ـ: أنه يثبت للبائع الخيار؛ لأنه جاهل بصفة المعقود عليه، فأشبه المشتري، ولأن الخيار لا يتعلق بالزيادة والنقصان، ألا ترى أن المشتري لو قال: هو فوق ما طلبته، ولكن قد اخترت الفسخ.. جاز الفسخ؟!
إذا ثبت هذا: فإن كان المشتري قد رآه، دون البائع، وقلنا: يثبت الخيارُ للبائع.. فهل يثبت الخيار للمشتري معه؟ يحتمل الوجهين في ثبوت الخيار للبائع مع تقدم رؤيته له، وقد مضى توجيههما.

(5/84)


[فرعٌ: يصح البيع إذا رأى المبيع ولو غاب]
وأما إذا رأيا المبيع، ثم غاب عنهما، وعقدا عليه البيع.. فالمنصوص: (أنه يصح البيع) .
وقال أبو القاسم الأنماطي: لا يصح، وهو قول الحكم، وحمّاد؛ لأن الرؤية شرطٌ في صحة العقد، فلم تتقدم على حال العقد، كالشهادة في النكاح.
ووجه المنصوص: أن الرؤية إنما تراد؛ ليصير المبيع معلومًا عندهما، وهذا المعنى موجودٌ وإن تقدمت الرؤية على حال العقد، وتخالف الشهادة في النكاح؛ لأنها تراد ليثبت الفراش بالعقد، فلم يجز أن يتقدم على العقد.
إذا ثبت هذا: فإن كان المبيع لا ينقص، ولا يتلف على طول الزمان، كالحديد والرصاص والنحاس وما أشبه ذلك، وكانا قد شاهداه، ثم عقدا عليه البيع، ثم شاهداه، فإن كان على صفته الأولى.. فلا خيار للمشتري، وإن كان قد تغير ونقص عما كان عليه.. ثبت للمشتري الخيارُ؛ لأنه ناقص عما كان رآه، وإن اختلفا: هل تغير، أم لا؟ قال الشافعي: (فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأن الثمن ينتزع منه، فلا يجوز إلا بقوله) .
وإن كان المبيع لا يبقى على طول الزمان، مثل: الهريس والطبيخ والبطيخ، وكان قد مضى من حين المشاهدة إلى حين العقد مدة يتلف فيها.. فالبيع باطل؛ لأنه غرر. وإن مضى عليه مدة قد يتلف فيها وقد لا يتلف، أو كان المبيع حيوانا.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا يصح البيع؛ لأنه يجوز أن يكون قد تلف، أو تغير، فصار مجهولاً، وبيع المجهول لا يصح.
والثاني ـ وهو المنصوص ـ: (أن البيع صحيح) ؛ لأن الظاهر منه السلامة.

[فرعٌ: بيع الغائب الموصوف مضمون]
] : قال الشافعي في (الصرف) : (ولا يجوز له أن يبتاع عينًا غائبة بصفة مضمونة، ولا إلى أجل، ويجوز بالنقد والدين) .

(5/85)


وأراد بقوله: (بيع عين غائبة بصفة) : هو أن قول: بعتك عبدي، وصفته كذا وكذا، فإن سلم.. لك ذلك، وإلا.. فلك بدله. فهذا لا يجوز؛ لأن العقد تعلق بعين المبيع. وإذا تلف المبيع قبل القبض.. بطل البيع، فإذا شرط له البدل.. فقد شرط ما ينافي مقتضى العقد، فأبطله.
وأما قوله: (ولا إلى أجل) فأراد: إذا قال: بعتك عبدي على أن أسلمه إليك إلى شهر، فلا يصح؛ لأنه شرط تأخير القبض في العين، فلم يصح.

[فرعٌ: شراء ما لم يكمل صنعه]
قال في (الصرف) : (إذا ابتاع ثوبًا على منسج حائك، على أن يتمه.. لم يصح البيع) .
وهذا كما قال، إذا اشترى ثوبًا من نسَّاج، قد نسج بعضه على أن يتممه.. لم يصح البيع؛ لأن بعضه بيع عين حاضرة، لا خيار له فيها، وبعضه في الذمة مجهولٌ، وإنما هو مقدر بما يحتاج إليه السدى، فلم يصح، فلو كان الغزل الباقي معينًا.. لكان قد شرط معه العمل، فلم يصحّ؛ لأنه سلم في عين، والسلم في عين معينة لا يصح.

[مسألة: بيع الأعمى]
] : إذا باع الأعمى عينًا، قد كان رآها قبل العمى، أو اشتراها، فإن كانت العين مما لا يتغير، كالحديد والرصاص.. صح العقد، ويوكل من يقبض له، على الصفة التي قد كان شاهدها عليها، فإن كانت على صفتها الأولى.. فلا خيار له، وإن تغيرت عن صفتها الأولى.. فله الخيار.
وإن كانت العين مما يتلف من الوقت الذي شاهدها إلى حين العمى، كالطعام الرطب.. بطل البيع.

(5/86)


وإن كان الأعمى لم يشاهد العين المبيعة، بأن كان أكمه: وهو الذي خلق أعمى، أو كان قد خلق بصيرًا، إلاَّ أنه يشاهد العين المبيعة قبل العمى، فإن قلنا: إن بيع خيار الرؤية لا يصح.. لم يصح البيع هاهنا. وإن قلنا: إن بيع خيار الرؤية يصح.. فهل يصح بيع الأعمى وشراؤه؟ في وجهان:
أحدهما: يصح، ويوكل من يقبض له المبيع إذا وجده على الصفة المشروطة، ويفوض إليه الفسخ والإجازة إذا رأى.
وهكذا: البصير إذا اشترى عينًا غائبةً.. فله أن يوكل من يشاهدها، ويستنيبه في الخيار والقبض.
والثاني: لا يصح؛ لأنه لم يشاهد المبيع، ولا يصح التوكيل في هذا الخيار؛ لأن هذا خيار عقد، فلم تصح الاستنابة فيه، كخيار المجلس.
وهذا القائل يقول: لا يصح توكيل البصير لغيره في مشاهدة العين المبيعة في بيع خيار الرؤية، والفسخ، والإجارة عند ذلك؛ لهذه العلة.
والقائل الأول قال: يجوز. وهذا مذهبنا. وقال مالكٌ، وأبو حنيفة، وأحمد: (يجوز بيع الأعمى وشراؤه، في العين التي لم يرها قبل العمى) . وأثبت له أبو حنيفة الخيار إلى معرفته بالمبيع، إما بأن يجسه أو يذوقه، أو يشمه، أو بأن يوصف له.
دليلنا عليهم: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الغرر» . وهذا غررٌ؛ لأنه لا يدري ما باع، ولا ما اشترى.

[مسألة: رؤية بعض المشترى]
] : إذا رأى بعض المبيع دون بعض، فإن كان لا تختلف أجزاؤه، كالصبرة من الطعام، والجرة من السمن والدبس، إذا رأى رأسها.. صح بيعه؛ لأن أجزاءه متساوية، والظاهر أن باطنه كظاهره. وإن كان مما تختلف أجزاؤه، فإن كان يشق رؤية باطنه، كأساس الدور، والجوز في القشر الأسفل.. صح بيعه؛ لأنه يشق رؤية

(5/87)


باطنه. وإن لم يشق رؤية باطنه، كالثوب المطوي.. ففيه طريقان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: هي على قولين، كبيع خيار الرؤية، وهو المنصوص للشافعي.
و [الثاني] : منهم من قال: يبطل البيع، قولا واحدًا؛ لأن ما رآه لا خيار له فيه، وما لم يره يثبت له فيه الخيار، وذلك لا يجوز في عين واحدة.
وهذا غلط، بل يثبت له الخيار في جميعه إذا رأى ما لم يره، ولا يمتنع ثبوت الخيار في جميع المبيع؛ لجهل شيء منه، ألا ترى أنه إذا ابتاع عينًا، وشاهدها إلا موضع العيب، ثم علم بالعيب.. يثبت له الخيار في الجميع؟!

[فرعٌ: بيع ما دل بعضه على جميعه]
قال الصيمري: وإذا رأى رأس التمر في القوصرة، فاشتراه ـ وهو في القوصرة ـ فالصحيح: أنه يجوز للضرورة، وقيل: هي على قولين.
وأما القطن في القفاع والأعدال: ففيه قولان:
أحدهما: لا يجوز إلا بعد الإحاطة بجميعه.
قال الصيمري: والأشبه عندي: أنه كالتمر في القوصرة.

(5/88)


[مسألة: بيع تراب المعدن الثمين]
] : لا يجوز بيع تراب الصاغة، وتراب المعادن.
وقال الحسن، والنخعي، وربيعة، والليث - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: (يجوز بيع تراب الفضة بالذهب، وبيع تراب الذهب بالفضة) .
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يجوز بيع تراب المعدن بما يخالفه بالوزن إن كان ذهبا يدًا بيد، أو بعوض إلى أجل، ولا يجوز بيع تراب الصاغة بحال) .
دليلنا: أن المقصود مستور بما لا مصلحة له فيه في العادة، فلم يصح بيعه، كبيع اللحم في الجلد بعد الذبح، وكتراب الصاغة على مالك.

[مسألة: بيع البقول في قشرها]
وفي جواز بيع الباقلاء في قشره وجهان:
[أحدُهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: يجوز؛ لأنه يباع في جميع البلدان من غير إنكار.
والثاني: لا يجوز، وهو المنصوص؛ لأن الحب قد يكون صغارًا، وقد يكون كبارًا، وقد يكون متغيرًا، وذلك غرر من غير حاجة، فلم يجز.

[فرعٌ: بيع المسك]
] : وأما المسك: فهو طاهر، ويجوز بيعه. وقال بعض الناس: هو نجس، ولا يجوز بيعه؛ لأنه ينفصل من حيوان. وقيل: إنه دم.

(5/89)


دليلنا على أنه طاهر: ما روي «عن عائشة أم المؤمنين: أنها قالت: رأيت وبيص المسك في مفرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ثلاث من إحرامه»
وروي: أنها قالت: «طيبت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأطيب الطيب، وهو المسك» وروي: (أن عليًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أمر أن يجعل في حنوطه مسك، وقال: هو بقية حنوط رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) .
وقولهم: إنه من حيوان، قيل: إن الغزلان تلقيه، كما تلقي الولد، ويلقي الطير البيض، والغزلان مأكولة، وإن كان من حيوان غير مأكول.. فيجوز أن يكون طاهرًا، ألا ترى أن العسل من حيوان غير مأكول، وهو طاهر؟!
وأما الدليل على جواز بيعه: فما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أهدى إلى النجاشي أواقي مسك، فلما تزوج بأم سلمة.. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إني أهديت إلى النجاشي حلة وأواقي مسك، وإنه يموت قبل أن يصل إليه، فإذا ردت علي.. أعطيتك منه". فمات قبل أن يصل إليه، فرُدَّت، فأعطاها منه، وأعطى غيرها من نسائه» .

(5/90)


فإذا جازت هديَّتُهُ.. جاز بيعه، كسائر المملوكات.
إذا ثبت هذا: فإن أخرج المسك من فأرته، وباعه.. صح بيعه، وإن فتحها ونظر إلى المسك، وباعه.. صح بيعه، كما قلنا في السمن في الظرف، وإن باع المسك في الفأرة قبل أن يفتحها.. فوجهان:
[أحدهما] : قال أبو العباس: يصح؛ لأن بقاءه فيها له مصلحة؛ لأنها تحفظ عليه رطوبته وذكاء رائحته، فهو بمنزلة بيع الجوز واللوز والرمان في قشره.
والثاني: لا يصح، وهو المنصوص؛ لأنه مجهول القدر، مجهول الصفة، فلم يصح، ولأنه يبقى بعد خروجه من وعائه، وتبقى رائحته، فلم يجز بيعه مستورًا بوعائه، كالدر في الصدف، ويخالف الجوز واللوز والرّمان؛ لأنه بعد إخراجه من ظرفه لا يبقى.

[فرعٌ: بيع الطلع]
] : وإن أفرد طلع النخل بالبيع على رؤوس النخل بشرط القطع، قبل أن يتشقق، أو بيع مقطوعًا على وجه الأرض.. فهل يصح بيعه؟ فيه وجهان:

(5/91)


أحدهما: قال أبو إسحاق: لا يصح؛ لأن المقصود منه مستورٌ بما لا مصلحة له فيه، فلم يصح، كالتمر في الجراب.
و [الثاني] : قال أبو علي بن أبي هريرة: يصح، وهو الصحيح؛ لأن طلع النخل يؤكل ظاهره وباطنه، فهو كالتفاح والكُمَّثرى.

[فرعٌ: بيع الزروع في السنابل]
] : وأما السنبل: فإن كان الحب ظاهرًا، قال ابن الصباغ: وذلك كالشعير والذرة.. فيجوز بيعه في سنبله؛ لأنه معلومٌ بالمشاهدة، فهو كبيع الصبرة التي لا يعرف كيلها.
وأما الحنطة في سنبلها: قال الشيخ أبو حامد: فإن باع الحنطة دون سنبلها.. لم يصح بيعها، قولاً واحدًا؛ لأن ذلك مجهولٌ.
قال الصيمري: وهكذا إذا باع الحنطة في التبن بعد الدياس.. لم يصح، قولا واحدًا؛ لأن ذلك مجهول.
وإن باع الحنطة مع سنبلها قبل الدياس.. فهل يصح؟ فيه قولان:
قال في القديم: (يجوز) . وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الحب حتى يشتد» ، ولأنه مستور بما هو من أصل الخلقة، فأشبه الرُّمان.

(5/92)


وقال في الجديد: (لا يصح) ؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الغرر» . وهذا غرر لا محالة. ولأنه مستورٌ بما لا مصلحة له فيه، فلم يصح بيعه فيه، كتراب الصاغة.
وأما بيع الأرز مع سنبله: فاختلف أصحابنا فيه:
فذكر ابن القاص، وأبو علي الطبري: أنه بمنزلة الشعير؛ لأنه يدخر في قشره، وبقاؤه فيه من مصلحته. واختار هذا القاضي أبو الطيب.
وقال الشيخ أبو حامد في " التعليق ": هو كالحنطة.
قال ابن الصباغ: وهذا موقوف على العادة في ذلك، والعادة ادّخاره في قشره.

[مسألة: بيع الصبرة]
إذا قال: بعتك هذه الصبرة.. صح البيع؛ لأنها معلومةٌ بالمشاهدة، ولأن الصبرة تتساوى أجزاؤها، بخلاف ما لو اشترى ثوبًا، رأى أحد جانبيه، أو رآه مطويًّا.. لم يصح بيعه على الأصح؛ لأن الغالب أنه يختلف؛ لأنه قد يكون أحد جانبيه مقصورًا، أو أغلظ، أو أحد طرفيه أعرض. وهل يكره بيع الصبرة جزافًا؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يكره؛ لأنها معلومةٌ بالمشاهدة.
والثاني: يكره؛ لأنه ربما قدرها المشتري بنفسه أكثر من كيلها، وفي ذلك ضرب من الغرر.
إذا ثبت هذا: ففيها عشر مسائل.
إحداهن: إذا باعها جزافا.. فقد قلنا: يصح البيع وإن لم يذكر كيلها، سواء علم البائع قدر كيلها أو لم يعلم.
وقال مالك: (إذا كان البائع يعلم قدر كيلها.. لم يصح بيعها حتى يبينه) .

(5/93)


دليلنا: أنه شاهد المبيع، فلم يفتقر إلى ذكر كيله، كما لو لم يعلمه البائع.
الثانية: إذا قال: بعتك هذه الصبرة، كل قفيز بدرهم.. صح البيع، وبه قال مالك، وأحمد، وأبو يوسف، ومحمد.
وقال أبو حنيفة: (يصح البيع في قفيز واحد دون الباقي) .
دليلنا: أن ثمن كل قفيز معلوم، وجملتها معلومة بالمشاهدة، فإذا كالها عرف قدر الثمن، فصح، كما لو قال في المرابحة: بعتكه برأس مالي فيه، وهو كذا وكذا، والربح درهمٌ في كل عشرة.. فإنه يصح.
الثالثة: إذا قال: بعتك عشرة أقفزة من هذه الصبرة، وهما يعلمان أنها أكثر من ذلك.. صح البيع. وقال داود: (لا يصح) .
دليلنا: أنه باع مقدارًا معلومًا من جملة يصح بيعها، فأشبه إذا باع نصفها. وإن اختلفا من أي موضع يعطيه منها فالخيار إلى البائع؛ لأنه أعطاه منها. فإن هلكت الصبرة إلا قدر المبيع.. قال الطبري في " العدة ": لم يجب على البائع تسليم الباقي منها.
وقال أبو حنيفة: (يجب عليه) .
دليلنا: أن المشتري صار شريكًا للبائع في قدر المبيع، فما تلف منها.. تلف على شركتهما، كما لو ورثا منها عشرة أقفزة، ثم هلكت إلا عشرة أقفزة.
الرابعة: إذا قال: بعتك نصف هذه الصبرة أو ثلثها أو ربعها، أو بعتكها إلا ثلثها، أو إلا ربعها.. صح البيع؛ لأن المبيع معلوم.
الخامسة: إذا قال: بعتك من هذه الصبرة، كل قفيز بدرهم.. لم يصح البيع؛

(5/94)


لأن مِنْ: للتبعيض، وكلا: للعدد، فيكون ذلك العدد مجهولاً منها، فلم يصح.
وكذا: لو قال: بعتك بعض هذه الصبرة.. لم يصح؛ لأن ذلك يقع على القليل والكثير، فلم يصح.
السادسة: إذا قال بعتك هذه الصبرة، كل إردب بدرهم، على أن أزيدك إردبًّا.. فالبيع باطل؛ لأنه إن أراد بذلك: زيادة من غير هذه الصبرة، فإن قصد بذلك الهبة.. فقد شرط عقدًا في عقد، وذلك لا يجوز، وإن قصد بذلك أنه مبيع.. فهو مجهولٌ، ولو كان معلومًا.. لم يجز أيضا؛ لأن ذلك يؤدي إلى جهالة بالثمن في التفصيل؛ لأنه إذا زاده إردبًّا بغير ثمن.. فقد صار إردبًّا وشيئًا بدرهم؛ لأن جملة الصبرة لا يعلمان كيلها. وإن أراد: أنه يزيده إردبًّا منها، فكأنه لا يحتسب عليه بثمنه.. فقد فسد؛ للجهالة التي ذكرناها.
السابعة: إذا قال: بعتك هذه الصبرة، كل إردب بدرهم، على أن أنقصك إردبًّا، وهما لا يعلمان قدرها.. لم يصح البيع؛ لأن معنى ذلك: على أن أحسب عليك ثم إردب، ولا أدفعه لك، فلم يصح؛ لأنه يكون بيع إردب بدرهم وشيء مجهول، والإردب: مكيالٌ بمصر يسع أربعة وعشرين صاعًا.
الثامنة: إذا قال: بعتك هذه الصبرة، كل إردب بدرهم، على أن أزيدك إردبًا، أو أنقصك إردبًا.. فلا يصح البيع؛ لأنه لا يدري، أيزيدُهُ، أم ينقصه؟
التاسعة: إذا قال: بعتك هذه الصبرة، وهي عشرة أرادب، كل إردب بدرهم، على أن أزيدك إردبًّا، فإن أراد بذلك الزيادة من غيرها، وأطلق.. لم يصح لجهالته.
وإن أراد به زيادة منها، كأنه لا يحتسب عليه ثمن واحد منها، أو أراد الزيادة من غيرها، وعيَّنه.. صح البيع؛ لأنهما إذا علما جملة الصبرة.. كان ما ينقص من الثمن معلومًا بزيادة الإردب.

(5/95)


العاشرة: إذا قال: بعتك هذه الصبرة، وهي عشرة أرادب، كل إردب بدرهم، على أن أنقصك إردبًا.. جاز؛ لأنه باعه تسعة أرادب بعشرة دراهم.

[فرعٌ: بيع ما تختلف أجزاؤه]
] : إذا باع ما لا يتساوى أجزاؤه، مثل: الأرض والدار والثوب.. ففيه مسائل:
منها: إذا قال: بعتك هذه الأرض، أو هذه الدار، أو هذا الثوب بكذا.. صح البيع وإن لم يعلما مبلغ ذرعان ذلك؛ لأنها معلومة بالمشاهدة.
وكذلك: إذا قال: بعتك نصف ذلك، أو ربعه.. صح.
وإن قال: بعتك جميع ذلك، كل ذراع بدرهم.. صح، وقال أبو حنيفة: (لا يصح في شيء منها، بخلاف الصبرة) . وقد مضى الدليل عليه في الصبرة.
وإن قال: بعتك من ذلك، كل ذراع بدرهم.. لم يصح؛ لأن من للتبعيض.
وإن قال: بعتك عشرة أذرع منها، وهما لا يعلمان مبلغ ذرعان الأرض والدار والثوب.. لم يصح؛ لأن الأجزاء مختلفة.
وإن قال: بعتك عشرة أذرع منها، وهي مائة ذراع.. صح البيع في عشرها.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح) .
دليلنا: أن عشرة من مائة عشرها، ولو قال: بعتك منها عشرها.. صح، وإن قال: بعتك من هاهنا إلى هاهنا، وبين الابتداء والانتهاء، في الأرض، والدار، والثوب الذي لا تنقص قيمته بالقطع.. صح البيع؛ لأنه معلوم.
وإن قال: بعتك عشرة من هاهنا، ولم يبين الانتهاء.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأن ابتداءه معلوم، والسمت والجهة التي باع منها معلومان.

(5/96)


والثاني: لا يصح؛ لأن الذرع قد ينتهي إلى موضع، يخالف موضع الابتداء.. فلم يصح.
وإن كان الثوب ينقص قيمته بالقطع، فقال: بعتك من هاهنا إلى هاهنا، أو بين الابتداء دون الانتهاء، وقلنا: يصح.. فهل يصح في هذا؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وإليه ذهب ابن القفال في " التقريب " ـ: أن البيع يصح، كما قلنا في الدار والأرض، ولأنه قد رضي بما يدخل على نفسه من الضرر.
والثاني ـ حكاه ابن القاصّ في " التلخيص " نصًّا، ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره ـ: أنه لا يصح؛ لأنه لا يمكن تسليمه إلا بضرر يلحقهما، بخلاف الأرض والدار.
قال ابن القاص: وهكذا إذا باع ذراعًا من أسطوانة من خشب.. فإنه لا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى الضرر، وإن كانت من آخر.. جاز.
قال ابن الصباغ: وهذا يفتقر إلى أن يشترطا انتهاء الذراع إلى انتهاء آخره، فلا يلحقه الضرر بذلك، فأما إذا كان انتهاؤه إلى بعضها: فإن في كسرها ضررًا.

[فرعٌ: الاستثناء في البيع]
إذا استثنى معلومًا من مجهول في البيع، مثل: أن يقول: بعتك ثمرة هذا البستان إلا قفيزا منها، أو هذه الصبرة إلا قفيزًا منها، وهما لا يعلمان قفزانها، أو هذه الدار،

(5/97)


أو هذا الثوب إلا ذراعًا منه، وهما لا يعلمان عدد الذرعان.. لم يصح البيع، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك رحمة الله عليه: (يصح البيع) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع المزابنة والمحاقلة والثنيا» ، يعني: الاستثناء.
وظاهر هذا: أن الاستثناء لا يجوز في البيع إلا ما قام عليه الدليل، ولأن المبيع غير معلوم بالمشاهدة، ولا بالأجزاء، فلم يصح، كما لو قال: بعتك بعضها.
وإن كانا يعلمان مبلغ قفزان الصبرة وذرعان الثوب والدار، فقال: بعتك هذه الصبرة إلا قفيزًا منها، أو هذه الدار، أو هذا الثوب إلا ذراعًا منه.. صح البيع في الدار والصبرة والثوب إلا قدر المستثنى، فإنه غير مبيع. فإن كان مبلغ قفزان الصبرة عشرة.. صح البيع في تسعة أعشار الصبرة. وهكذا في الدار والثوب إذا كانا عشرة أذرع.. صح البيع في تسعة أعشاره.
وإن قال: بعتك قفيزًا من هذه الصبرة إلا مكوكًا.. صح البيع؛ لأنّ المكوك دون القفيز، وكل واحد منهما معلوم.
وإن قال: بعتك هذه الصبرة بأربعة آلاف درهم إلا ما يخص ألفا، أو إلا بألف.. صح البيع في ثلاثة أرباع الصبرة بثلاثة آلاف درهم؛ لأن هذا معلوم.
وإن قال: بعتكها بأربعة آلاف درهم إلا ما يساوي ألفًا.. لم يصح البيع؛ لأن ما يساوي ألفا مجهول.

(5/98)


[فرعٌ: فيما يباع بأوعيته]
إذا باع سمنًا أو دهنًا في ظرف من زق، أو فخار، وكان مفتوح الرأس.. صح البيع؛ لأنه لا تختلف أجزاؤه، وكذلك إن باع رطلا منه، أو جزءًا معلومًا منه.. صح، كما قلنا في الصبرة.
فأما إذا قال: بعتك هذا السمن، كل رطل منه بدرهم، على أن يوزن الظرف معه، ويحتسب له بوزنه، ولا يكون مبيعًا.. فالبيع باطل؛ لأنه شرط في بيع السمن أن يزن معه غيره.. فلم يجز، كما لو قال: بعتك هذا الطعام، كل مكيال بدرهم، على أن أكيل معه شعيرًا.
قال ابن الصباغ: وينبغي أن يكون إذا علما وزن السمن والظرف.. أن يجوز، ويكون بمنزلة من يقول: على أن أنقصك إردبًّا، وأحتسب ثمنه عليك؛ لأنهما إذا علما ذلك.. فقد علما قدر الزيادة على ثمن الرّطل.
فأمّا إذا قال: بعتك كل رطل بدرهم، على أن يوزن معه الظرف، ثم يحط عنه الظرف.. قال الشيخ أبو حامد: صح لمعنيين:
أحدُهما: أنه إذا حطَّ الظرف.. صار كأنه باع كل رطل بدرهم بلا ظرف.
والثاني ـ قاله أبو إسحاق ـ: أن الناس يتبايعون هكذا في الغالب، فصح لذلك.
فإن قال: بعتك السمن مع ظرفه بعشرة دراهم.. صح البيع؛ لأن السمن متميزٌ عن الظرف، فصحّ، كما لو باع طعامًا مشعورًا.

(5/99)


فإن قيل: فهلاَّ قلتم: لا يجوز، كما قلتم إذا باع لبنًا مشوبًا بالماء؟
قيل: لا نقول ذلك، والفرق بينهما: أن المقصود هناك اللبن، وهو ممزوجٌ بغيره، وليس كذلك هاهنا؛ لأن المقصود منه السمن، وهو متميز عن غيره.
فأمّا إذا قال: بعتك هذا السمن مع الظرف، كلّ رطل بدرهم، فإن كانا يعلمان مبلغ وزن كل واحدٍ منهما.. جاز؛ لأنه لا غرر فيه؛ لأن الظرف هاهنا معلوم. وإن كانا لا يعلمان وزن كلِّ واحدٍ منهما.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو المشهور ـ: أنه لا يصح البيع؛ لأن المقصود منه السمن، وقدره مجهول.
والثاني ـ وهو قول الداركي، واختيار ابن الصباغ ـ: أنه يصح؛ لأنه في التفصيل معلوم، كما لو كان جنسًا واحدًا؛ ولأنه قد رضي بكل رطل من كل واحد منهما بدرهم، فصح، كما لو باع كل رطل من الظرف منفردًا بدرهم.

[فرعٌ: بيع النحل في الخلية]
وهل يجوز بيع النحل في الكُنْدُوجِ؟ في وجهان:
[أحدهما] : قال أبو العباس بن سريج: يصح؛ لأنه يشاهد عند الدخول والخروج.

(5/100)


و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: لا يصح؛ لأن من النحل ما لا يفارق الكندوج، وقد يكون فيه عسل لا يدرى كم قدره، فإن خرج فرخه، وشوهد جميعه على غصن، أو غيره.. صح بيعه؛ لأنه معلوم مقدور على تسليمه، فصح العقد عليه.

[مسألة: بيع ما في الأرحام]
] : ولا يجوز بيع الحمل في البطن؛ لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع المجر» .
قال أبو عبيد: هو بيع ما في الأرحام.
وقال ابن الأعرابي: (المجر) : الولد الذي في بطن الناقة، والمجر: الربا، والمجر: القمار، والمجر: المحاقلة والمزابنة.
وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الملاقيح والمضامين» .

(5/101)


قال أبو عبيد: (الملاقيح) : ما في البطون، وهي الأجنة، الواحدة منها ملقوحة، اشتقت من قولهم: لقحت الناقة، ولهذا تسمى الرياح، اللواقح. وأمّا (المضامين) : فهو ماء الفحول، وكانوا يبيعون ما في بطن الناقة، وما يضربه الفحل في عام أو أعوام، وأنشد:
إنَّ المضامين التي في الصلب ... ماء الفحول في ظهور الحدب
وإنَّما: سميت: مضامين؛ لأن الله تعالى ضمن ما فيه.

[فرعٌ: بيع الملاقيح]
] : فإن باع حيوانًا، وشرط أنه حاملٌ.. فهل يصح البيع؟ فيه قولان:
إن قلنا: إن الحمل له حكمٌ.. صح البيع. وإن قلنا: لا حكم له.. لم يصح البيع.
وإن باعها، وشرط أنها تضع بعد شهر، أو مدة عيَّنها.. قال ابن الصباغ: لم يصح البيع، قولاً واحدًا؛ لأنه شرط ما لا يقدر عليه، فأبطل العقد.

(5/102)


[مسألة: بيع اللَّبون]
وإن باع حيوانًا على أنّها لبون.. صح البيع.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح) .
دليلنا: أنّه يتحقق وجوده في الحيوان، ويأخذ قسطًا من الثمن، فجاز شرطه، بخلاف الحمل.
وإن شرط أنها تحلُبُ كل يوم كذا.. فهل يصح البيع؟ فيه وجهان، بناءً على القولين في شرط الحمل.
وإن باع اللبن مفردًا في الضرع.. لم يصح البيع.
وقال سعيد بن جبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يصح.
دليلنا: ما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع اللبن في الضرع، والصوف على الظهر» . وقد روي هذا الخبر موقوفًا على ابن عبّاس.
ولأن اللبن في الضرع مجهول؛ لأن الضرع قد يكون لحيما.

(5/103)


وعنده: أن ذلك لبنٌ، وربما مات الحيوان قبل أن يحلب اللبن، فينجس اللبن.
قال الشيخ أبو حامد: ولا أعرف في ذلك خلافًا، ولا في بيع الحمل في البطن.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\224] : فإن حلب شيئًا من اللبن.. فهل يجوز بيع الباقي في الضرع؟ فيه وجهان.

[فرعٌ: بيع الشيء وتابعه]
] : وإن قال: بعتك هذه الشاة وفيها لبن، أو بعتك هذه الجبة وفيها حشو.. فإن اللبن والحشو يدخلان في البيع بالإطلاق.
وإن قال: بعتك هذه الشاة ولبنها، أو هذه الجبة وحشوها.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال ابن الحدَّاد: لا يصح البيع؛ لأن ذلك مجهول، ولا يجوز إفراده بالبيع، فلم يجز شرطه في البيع، كما لو قال: بعتك هذه الجارية وحملها.
و [الثاني] : قال أكثر أصحابنا: يصح البيع؛ لأنه يدخل في البيع بالإطلاق، فجاز شرطه في البيع، كما لو قال: بعتك هذا الجوز ولبّه، وهذه الرمانة وحبّها.
وأما الحمل: فإذا قلنا: للحمل حكمٌ، ويجوز شرطُه في البيع.. جاز أن يقول: بعتك هذه الجارية وحملها.
وإن قلنا: لا حكم له، ولا يجوز شرطه في البيع.. فلا يجوز أن يقول: بعتكها وحملها؛ لأنه لا يعلم، ولا يتيقن، بخلاف الحشو، فإنه يتيقن، ولهذا لا بد أن يعلما في البيع ما الحشو.
قال القاضي أبو الطيب: وينبغي إذا قال: بعتك هذا الجوز ولبه، وهذه الرمانة وحبّها.. أن يكون على هذا الخلاف أيضًا.

[مسألة: بيع الصوف قبل الجزّ]
ّ] : ولا يجوز بيع الصوف على ظهر الحيوان، وبه قال أبو حنيفة.
وذهب ربيعة، ومالك، والليث: إلى جوازه.

(5/104)


دليلنا: ما ذكرناه من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولأنه لا يخلو: إما أن يشترط حلقه، أو جزّه.
فإن شرط حلقه.. لم يجز؛ لأنه يؤدي إلى تعذيب الحيوان.
وإن شرط جزّه.. فالجز يختلف ويتفاوت، وذلك لا يمكن ضبطه، ولأنه قد يوجد في وقت أقل مما يوجد في وقت، وليس له عادة مستقرة، بخلاف الجزة من الرّطبة؛ لأنه لا يخاف تعذيبها، ويمكن استيفاؤها، ولأنه قد يموت الحيوان قبل الجز، فينجس الصوف، على الصحيح من المذهب، بخلاف الجزة من الرطبة، فإنه لا يخاف ذلك.

[مسألة: البيع صورة بكتابة العقد]
وبيع التلجئة: هو أن يتفقا على أن يظهرا العقد خوفا، أو لغير ذلك، فإنه يلجئه وليس بيع، ثم بعد ذلك يتبايعان، فإذا تبايعا.. صح البيع، ولا يمنعه الاتفاق السابق.
وكذلك: إذا اتّفقا أن يتبايعا بألف، ويظهرا ألفين، فتبايعا بألفين فإنّ البيع يلزم بألفين، ولا يؤثر فيه الاتفاق السابق، وهكذا رواه أبو يوسف، عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وروى محمد، عن أبي حنيفة: (أنه لا يصح البيع إلا أن يتفقا على أن الثمن ألف درهم، فيتبايعا بمائة دينار، فيكون الثمن مائة دينار، استحسانًا) . وإليه ذهب أبو يوسف، ومحمّد؛ لأنه إذا تقدم الاتفاق.. صارا كالهازلين بالعقد.
دليلنا: أن الشرط السابق لحالة العقد لا يؤثر فيه، فهو كما لو اتفقا على شرط فاسد، ثم عقدا العقد، فإنه لا يبطل العقد.

(5/105)


[مسألة: لا بيع بلا ثمن]
ولا يصح البيع إلاَّ بثمن معلومٌ، إما بالمشاهدة، أو بالوصف؛ لأنه أحد عوضي البيع، فاشترط العلم به، كالمثمن، فإن قال: بعتك بهذا الدينار، وهما يُشاهدانه.. صح البيع. وإن قال: بعتك بالدينار الذي في بيتي، أو في همياني، فإن كانا قد شاهداه.. صح البيع، وإن لم يكونا شاهداه، أو لم يشاهده أحدهما.. فهو كما لو باعه عبدًا لم يشاهداه، أو لم يشاهده أحدهما، على الخلاف في بيع خيار الرؤية.
وإن قال: بعتك بدينار في ذمتك، فإن كانا في بلد لا نقد فيه، أو في بلد فيه نقودٌ متفاوتة.. لم يصح البيع؛ لأنه عوض مجهول، وإن كانا في بلد فيه نقد غالب.. صح البيع وحمل عليه؛ لأن الإطلاق ينصرف إليه، وإن كان في بلد في نقود متفقة على حد واحد.. فوجهان، حكاهما الصيمري، أظهرهما: أنه يصح البيع.
ولو تعاملا بنقد بلد فيه، ثم لقيه ببلد آخر، ولا يتعامل الناس فيه بذلك النقد، فأعطاه ما عقدا به، فامتنع من له الدين من أخذها.. ففيه ثلاثة أوجه، حكاها الصيمري.
أحدها ـ وهو الصحيح ـ: أنه يلزمه أخذها؛ لأنه لم يجب عليه له غير ذلك.
والثاني: لا يلزمه أخذها، كما لو أعطاه إياها في موضع مخوف.
والثالث: إن كان أهل البلد الذي يعطيه إيّاها بها لا يتعاملون بها أصلا.. لم يلزمه أخذها. وإن كانوا يتعاملون بها بوكس.. لزمه أخذها.
وإن تبايعا بنقد، ثم حرم السلطان المعاملة به قبل قبضه.. قال الصيمري، والطبري في " العدة ": وجب تسليم ذلك النقد.
وقال أحمد: (يلزم تسليم قيمته) .

(5/106)


دليلنا: أن المعقود عليه قائم مقدور على تسليمه، فلزمه تسليمه، كما قبل التحريم.

[فرعٌ: البيع بدراهم رديئة]
] : إذا قال بعتك بألف درهم مكسرة.. قال الصيمري: فقد قال أكثر أصحابنا: يصح. قال: وأظنهم أجازوا ذلك إذا تقاربت قيم المكسرة، فأما إذا اختلفت قيمتها ـ وهي هكذا في وقتنا مختلفة ـ فلا يصح.
قال: وإن قال: بعتك بألف مثلمة أو مثقبة.. لم يجز، إذ لا عادة لها معروفة، وإن قال بعتك بألف صحاح ومكسرة.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه باطل حتى يتبين قدر كل واحد منهما.
والثاني: يصح، فيجعل من كل واحد منهما النصف.

[فرعٌ: البيع بنقدين]
] : وإن قال: بعتك بدينار إلا درهمًا.. لم يصح البيع؛ لأن قدر الدرهم من الدينار مجهولٌ، بخلاف الإقرار؛ لأنه يصح بالمجهول. هذا هو المشهور.
وحكى الصيمري وجهًا آخر: إذا كانا يعلمان قيمة الدينار من الدرهم.. صحّ البيع.
وإن قال: بعتك بألف درهم من صرف عشرين درهما بدينار.. لم يصح؛ لأن المسمى هي الدراهم، وهي مجهولةٌ؛ لأن وصف قيمتها لا تصير به معلومة. وإن كان نقد البلد صرف عشرين درهمًا بدينار.. لم يصح أيضًا؛ لأن السعر يختلف، ولا يختص ذلك بنقد البلد.
قال ابن الصبّاغ: وكذلك يفعل الناس هكذا الآن، يسمون الدراهم، وإنما

(5/107)


يتبايعون بالدينار، ويكون كل قدر معلوم من الدراهم عندهم دينارًا، وهذا لا يصح؛ لأن الدراهم لا يعبر بها عن الدنانير حقيقة ولا مجازًا، ولا يصح البيع عندهم بالكناية.

[فرعٌ: الشراء بأجزاء الدينار]
] : إذا اشترى رجل من رجل ثوبًا بنصف دينار.. لزمه تسليم نصف دينار شق، ولا يلزمه تسليم نص دينار صحيح، فإن أعطاه دينارًا صحيحًا نصفه عمّا عليه، ونصفه وديعة عنده، وتراضيا على ذلك.. جاز، فإذا تراضيا، فأراد أحدهما قيمته، وأراد الآخر كسره، وامتنع الآخر.. لم يجبر على ذلك؛ لأنها قسمة إضرار، وإن امتنع من له نصف الدينار من قبض الدينار الصحيح.. لم يجبر على قبضه؛ لأن عليه ضررًا في الشركة.
فإن باعه ثوبًا آخر بنصف دينار.. لزمه شقا دينار، فإن أعطاه دينارًا صحيحًا عنهما.. فقد زاده خيرًا، فيلزمه قبوله.
وإن باعه الثاني بنصف دينار، على أن يسلم إليه عنه وعن الأول دينارًا صحيحًا، فإن كان البيع الثاني بعد إبرام البيع الأول.. بطل الثاني؛ لأنّه شرط ما لا يلزمه في الثاني، ولا يبطل الأول. وإن كان البيع الثاني في حال خيار الأول.. بطل البيعان، على الصحيح من المذهب.
قال الصيمري: وإن قال: بعتك هذا الثوب بنصفي دينار.. لزمه تسليم دينار مضروبٍ؛ لأن ذلك عبارة عن دينار.
وإن قال: بعتك هذا بنصف دينار وثلث دينار وسدس دينار.. لم يلزمه أن يعطيه دينارًا صحيحًا.

(5/108)


[فرعٌ: البيع بنقد مغشوش]
] : وإن باعه أرضًا، أو ثوبًا، أو عرضًا بنقد مغشوش.. نظرت:
فإن كان الغش مستهلكًا، وهي الدراهم الزرنيخيّة، التي غِشُّها الزرنيخ والنُّورة ـ ومعنى قولنا: (مستهلكًا) إذا صفيت وسبكت.. لم يكن لغشها قيمة ـ فإن البيع يصح فيها؛ لأن الفضة التي عليها لا تختلط بالغش، وإنما هي مطلية عليه، فصح البيع.
وإن كان الغش غير مستهلك ـ وهي الدراهم التي هي مغشوشة بالصفر والنحاس، ودنانير الذهب التي غشّت بالفضة ـ فهل يصح البيع؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأن المقصود منها غير متميز عما ليس بمقصود، فلم يصح البيع، كما لو شيب اللبن بالماء، وبيع، فإنه لا يصح، ولهذا لم يجوز الشافعي بيع تراب الصاغة وتراب المعادن لهذا المعنى، فكذلك هذا مثله.
والثاني: يصح، وهو الأصح؛ لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (من زافت عليه دراهمه.. فليأت بها السوق، وليقل: من يبيعني بها سحق ثوب، أو كذا، أو كذا، ولا يحالف الناس عليها: أنّها جياد) . والسحق من الثياب، الخلق منها؛ ولأن المنع من ذلك يؤدِّي إلى الإضرار؛ لأنه لا يمكنه الانتفاع بها جملةً.
قال الصيمري: ولا يثبت هذا النقد في الذمة.
وأما بيع بعضها ببعض: فلا يجوز، وجهًا واحدًا، ونحن نذكر ذلك في الربا إن شاء الله

(5/109)


فإن تبايعا بها، وقلنا: إنه صحيح، ثم بان أن فضتها يسيرة جدًّا.. فهذا عيب فيه، فله الرد.
قال الصيمري: وكان شيخنا أبو الفياض يخرج ذلك على وجهين:
أحدهما: لا رد له؛ لأن عيبها معلوم في الأصل.
والثاني: له الرد؛ لأنه بان أن غشها أكثر من المعتاد.

[مسألة: بيع المرقوم]
] : إذا قال رجلٌ لآخر: بعتك هذه السلعة برقمها، أو مما باع به فلان سلعته، وهما لا يعلمان قدر ذلك وقت العقد.. لم يصح البيع؛ لأنه مجهول. وهذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة " [ق\225] : إذا باعه السلعة برقمها، وهما لا يعلمان قدره، ثم أعلمه إياه في مجلس البيع قبل التفرق.. فهل يصح؟ فيه وجهان، الأصح: أنه لا يصح.
وإن اشترى أرضًا، أو ثوبًا بملء كفِّه دراهم أو دنانير، وهما لا يعلمان عددها.. صح البيع.
وقال مالكٌ: (لا يصح) . وجوز ذلك في النقرة والتبر والحلي.
دليلنا: أنه معلومٌ بالمشاهدة، فصح كالصبرة والنقرة.
وإن قال: بعتك هذه الغنم، كل شاة بدينار، وهما لا يعلمان عددها وقت البيع.. صح العقد.
وقال داود: (لا يصح) .
دليلنا: أن غرر الجهالة بالثمن ينتفي بعد عدها، فصح.

(5/110)


[فرعٌ: بيع العربان]
] : و: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع العربان» .
قال القتيبي: هو أن يشتري الرجل السلعة، فيدفع درهمًا أو دينارًا، على أنه إن أخذ السلعة بالبيع.. كان المدفوع من الثمن، وإن لم يتم البيع، وردّ السلعة.. كان المدفوع هبة للبائع، ولم يسترجعه منه.
قال: ويقال: عربان، وعُربون، وأربان، وأربون، والعامة تقول: عَربون، وهو غير جائز.
وقال أحمد: (يصح هذا البيع) .
دليلنا: أنه شرط أن يكون للبائع شيء بغير عوض، فلم يصح، كما لو شرطه لأجنبي.

[فرعٌ: البيع لاثنين دفعة]
إذا كان لرجلٍ عبدٌ، فقال لرجلين: بعتكما هذا العبد بألفٍ، فقالا: قبلنا.. صح البيع؛ لأن الثمن ينقسم على أجزائه، ويكون لكل واحد منهما نصفه بخمسمائة، فإن قال أحدهما: قبلت دون الآخر.. كان له نصف العبد بخمسمائة؛ لأن إيجابه لاثنين بمنزلة العقدين.
وإن كان له عبدان، فقال: بعتك يا زيد هذا، وبعتك يا عمرو هذا بألف، فقالا:

(5/111)


قبلنا.. فقد ذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيمن كاتب عبدين على مال واحد قولين:
أحدهما: لا يصح؛ لأن العقد الواحد مع الاثنين عقدان، فإذا لم يبين العوض لكل واحد منهما.. كان مجهولاً، فلم يصح.
والثاني: يصح، وينقسم العوض عليهما على قدر قيمتيهما.
فقال أبو سعيد الإصطخري: هذا في الكتابة، فأما في البيع: فلا يصح، قولا واحدًا؛ لأن الكتابة لا تفسد بفساد العوض، بخلاف البيع، فإنه يفسد بفساد العوض، فلم يصح.
وقال العباس: بل هما سواء، فتكون المسألة على قولين، وهو الصحيح؛ لأن الكتابة أيضا تفسد بفساد العوض.
فأمّا إذا قال: بعتكما هذين العبدين بألف، فقالا: قبلنا.. صح البيع، قولاً واحدًا، ويكون لكل واحدٍ منهما نصف العبدين بخمسمائة، كما لو باعهما من رجلٍ واحدٍ، فأمَّا إذا قال أحدُهما: قبلتُ نصفهما بخمسمائة.. صحّ؛ لأنه قبل فيما أوجب له.
وهكذا: لو قال أحدهما: قبلتُ، وأطلق، ولم يقبل الآخر.. صح البيع للقابل في نصفهما بخمسمائة؛ لأن إطلاق القبول يرجع إلى مطلق الإيجاب.
وإن قال أحدهما: قبلت أحد العبدين، أو قبلت هذا بخمسمائة.. لم يجز؛ لأنه أوجب لهما في العبدين نصفين بينهما، فلا يجوز أن يقبل في أكثر مما أوجب له.
وإن قال أحدهما: قبلت نصف أحد هذين العبدين، أو نصف هذا بحصته من الألف.. لم يصح؛ لأنه قبل في بعض ما أوجب له فيه، فقد بعض الصفقة، ولأن حصته من الثمن مجهولة.

[فرعٌ: البيع بنقدين غير معينين]
] : إذا قال: بعتك هذا العبد بألف مثقال ذهبًا وفضةً، فقال: قبلت.. لم يصح البيع.

(5/112)


وقال أبو حنيفة: (يصح البيع، ويكون الثمن نصفين منهما) .
دليلنا: أن قدر كل واحد منهما مجهول، فلم يصح العقد، كما لو قال: بعضها ذهب، وبعضها فضة.
ولا يجوز البيع بثمن مؤجل إلى أجل مجهول؛ لأنه عوض في البيع، فلم يجز إلى أجل مجهول، كالمسلم فيه.

[مسألة: بيع مجهول القدر]
إذا باع شاة مذبوحة قبل السلخ.. قال الطبري: فلا يختلف المذهب: أنّه لا يصح البيع، سواءٌ باع اللحم والجلد، أو اللحم دون الجلد؛ لأنه إذا باع اللحم دون الجلد فهو مستورٌ بما لا مصلحة له فيه، فلم يصح، كما لو باع ما في تراب المعدن، أو تراب الصاغة.
وإن باع اللحم مع الجلد.. فالمقصود منه اللحم دون الجلد، وهو مستورٌ بما لا مصلحة له فيه، بخلاف الجوز مع اللب، فإنه مستورٌ بما له في مصلحةٌ.
وإن سلخ اللحم، وجعله في الجلد، فباعه من غير رؤية.. فهو على الخلاف الذي مضى في بيع خيار الرؤية.
إذا ثبت هذا: فإن ابن القاص قال: إذا باع الشواء المسموط، أو السخلة الصغيرة، وهي مذبوحة، قبل سلخها.. فإن ذلك يصح؛ لأن الجلد فيها مأكولٌ، فهو كالدجاجة المذبوحة إذا بيعت في جلدها.
قال القفال: وهكذا لو باعها بعد السمط، وقبل الشواء.. فإن ذلك يصح بيعه؛ لأنه من جملة اللحم.

(5/113)


قال أبو علي السنجي: وكذلك الرؤوس والأكارع المشوية، وغير المشوية، يصح بيعها وعليها جلدها؛ لأنه مأكول.

[مسألة: تعليق البيع]
] : ولا يجوز تعليق البيع على شرط مستقبل، بأن يقول: إذا جاء رأس الشهر، أو إذا طلعت الشمس.. فقد بعتك عبدي؛ لـ «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الغرر» . وهذا غرر.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أخبرني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الملامسة وبيع المنابذة» .
قال أصحابنا: فأما (الملامسة) : فلها ثلاث تأويلات:
إحداهنّ: أن يبيعه شيئًا في ظلمةٍ لا يشاهدُهُ، وإنّما يلمسه بيده، ويكون لمسه له كالمشاهدة، ولا خيار له بعد ذلك.. فهذا لا يجوز؛ للخبر، ولأنه مبيعٌ مجهول الصفة.

(5/114)


والثاني: أن يبيعه ثوبًا على أنه إذا لمسه.. فقد وجب البيع ولا خيار له في المجلس فلا يجوز البيع؛ للخبر، ولأنه شرط ينافي مقتضى العقد.
والثالث ـ حكاه ابن الصباغ ـ: وهو أن يطرح الثوب على المبتاع، فيلمسه، فإذا لمسه.. فهو عقد الشراء، فلا يصح البيع؛ للخبر، ولأن اللمس لا يكون عقدًا.
وأمّا (المنابذة) : فلها تأويلان:
أحدهما: أن يقول: أي ثوب نبذت إلي.. فقد اشتريته بمائة، أو أي ثوب نبذت إليك.. فقد بعتكه بمائة، فلا يجوز؛ للخبر، ولأن المبيع مجهول.
والثاني: أن يقول: بعتك هذا الثوب، على أنّي متى نبذته إليك.. فقد لزم العقد ولا خيار لك.
ولا يجوز بيع الحصاة؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الحصاة» . وله ثلاث تأويلات، حكاها الشيخ أبو حامد:
إحداهن: أن يقول: أي ثوب رميت عليه حصاة.. فقد بعتكه بمائة، فلا يصح؛ للخبر، ولأن المبيع مجهول.
والثاني: أن يقول بعتك هذا الثوب بمائة، على أني متى رميتُ عليك حصاةً.. فقد انقطع خيار المجلس، فلا يصح؛ للخبر، ولأنه شرط ينافي مقتضى العقد.
والثالث: أن يقول: بعتك من هذه الأرض من هاهنا إلى الموضع الذي تنتهي إليه حصاة ترميها، أو أرميها فلا يجوز؛ للخبر، ولأنه بيع مجهول.
ولا يجوز بيع حبل الحبلة؛ لما روى الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع حبل الحبلة» .

(5/115)


قال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (هو بيع كان يتبايعه أهل الجاهلية، كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة، ثم ينتج الذي في بطنها) . وإلى هذا التفسير ذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال أبو عبيد: هو بيع نتاج النتاج.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا أظهر في اللغة، والأول أظهر في الخبر، وأيهما كان.. فلا يصح؛ لأن البيع في التفسير الأول إلى أجل مجهول، وفي الثاني بيع معدوم مجهول.
ولا يجوز بيعتان في بيعةٍ؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيعتين في بيعة واحدة» . وله تأويلان:

(5/116)


أحدهما: أن يقول: بعتك عبدي هذا بمائة، على أن تبيعني دارك بمائة، فلا يصح؛ للخبر، ولأنه سلم في عقد، وذلك لا يجوز.
والثاني: أن يقول: بعتك عبدي هذا بألف حالة، أو بألفين نسيئة، فلا يصح.
وقال ابن سيرين: يلزمه البيع بأكثرهما. وهذا لا يصح؛ لأنه لم يعقد على ثمن معلوم.

[مسألة: تحرم مبايعة من ماله حرام]
] : ولا يجوز مبايعة من يعلم أن جميع ماله حرامٌ؛ لما روى أبو مسعود البدري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن مهر البغي، وحلوان الكاهن» .
و (البغي) : الزانية، قال الله تعالى: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28] [مريم: 28] .
وأما (حلوان الكاهن) : فهو ما يعطى الكاهن ويجعل له رشوة على كهانته، يقال منه: حلوت الرجل أحلوه حلوانًا: إذا حبوته بشيء، قال الشاعر:
كأني حلوت الشعر يوم مدحتُهُ ... صفا صخرة صماء يبس بلالها
فجعل الشعر حلوانًا مثل العطاء.

(5/117)


وأما مبايعة من معه حلال وحرام من مكس أو ربا: قال الشيخ أبو حامد: وكذلك أخذ الجوائز من السلطان، فإن ذلك على ثلاثة أضرب:
الأول: أن يشتري منه، أو يأخذ منه ما يعلم أنه حرام، فهذا لا يجوز، ولا يملكه إذا أخذه، ويجب عليه ردُّه إلى مالكه.
والثاني: أن يشتري منه، أو يأخذ منه ما يعلم أنه حلالٌ، إما من إرث، أو اتّهاب، أو غير ذلك، فيصح ذلك، ويكون ما يأخذه حلالاً.
الثالث: إذا كان يشك في ذلك، أهو من الحلال، أم من الحرام؟ فالأولى أن لا يبايعه، ولا يأخذ منه؛ لما روى النعمان بن بشير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الحلال بين، والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات، لا يعلمها كثيرٌ من الناس، فمن اتقى الشبهات.. استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات.. وقع في الحرام، كالرَّاعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإنّ حمى الله محارمه» .
وروى الحسنُ بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الخير في الطمأنينة، والشر في الريبة» .

(5/118)


«وروى أبو أمامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قلت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما المؤمن؟ قال: "المؤمن من سرّته حسنته، وساءته سيئته". قال: قلت: وما الإثم؟ قال: ما حاك به صدرك، فدعه» .
وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (دعوا الربا والريبة) .
فإن بايعه وأخذ منه.. صح البيع، وحلّ له ما يأخذه منه.
وقال مالك رحمة الله عليه: (إذا علم أن أكثر ماله حرام.. لم يجز مبايعته، ولا الأخذ منه، وإن كان الأكثر منه حلالاً.. جاز) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رهن درعه عند أبي الشحم اليهودي على شعير

(5/119)


أخذه منه» . وأنه كان يعلم أن اليهود يتصرفون في الخمر والرّبا وغير ذلك.
وروي: أن رجلاً سأل ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال له: إن لي جارًا يُربي، فهل لي أن آخذ منه؟ فقال: (لك مهنؤه، وعليه مأثمه) .
وروي: (أن بعض السلاطين وهب من عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ثيابًا، قيمتها خمسون ألف درهم فردّها، فشفع إليه.. فقبلها) .
ولأن الظاهر مما في يده أنّه ملكه.

(5/120)


قال الشيخ أبو حامد: لأن المشكوك فيه على ثلاثة أضرب:
ضربٌ: أصله على الحظر.
وضربٌ: أصله على الإباحة.
وضربٌ: لا أصل له في الحظر ولا الإباحة.
فأمّا الذي أصله على الحظر: مثل: أن يجد شاةً مذبوحة في بلد عبدة الأوثان، أو المجوس، أو في موضع يساوي فيه أهل الشرك والإسلام، فإنه لا يجوز شراؤها، ولا يحل أكلها؛ لأن أصلها على الحظر، وإنما تستباح بالذكاة، ويحتمل أن يكون ذكاها مسلم، ويحتمل أني كون ذكاها مجوسي، أو وثني، وليس أحدهما بأولى من الآخر، والأصل الحظر، وإن وجدها في بلاد الإسلام، أو في موضع أكثر أهله المسلمون.. فيجوز أكلها؛ لأنه يغلب على الظن أنّها ذبيحة مسلم.
وأما الذي أصله الإباحة: فهو الماء إذا وجدَه متغيرًا، ولم يعلم بأي شيء تغيره.. فلا يحكم بنجاسته؛ لأن أصله على الإباحة.
وأمّا ما لا أصل له في الحظر والإباحة: فهو المال، فمن أكثر ماله حرامٌ، أو تساوى عنده الحلال والحرام.. فيحتمل الذي يؤخذ منه أنه حرامٌ، ويحتمل أنّه حلال، وليس له أصلٌ في الحظر والإباحة، فهذا يكره الأخذ منه، وابتياعه، فإن ابتاعه.. صحّ؛ لأنّ الظاهر أنه ملكه.

[فرعٌ: كراهة بيع الشيء لمن يعصي به]
] : ويكره بيع العنب ممن يعصره خمرًا، وبيع السلاح ممن يعصي الله تعالى به؛ لأن فيه إعانة على المعصية، فإن باع منه.. صح البيع؛ لأنه قد لا يعصره خمرًا، وقد لا يعصي الله في السلاح.
قال ابن الصبّاغ: وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ": إذا اعتقد البائع أنه يعصره خمرًا.. فبيعه منه حرامٌ، وإنما يكره إذا كان يشك.
قال الشيخ أبو حامد: فإن باعه ليتخذه خمرًا.. فإنه محرمٌ؛ لأنه أعان على

(5/121)


المعصية، وهو داخل تحت قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله الخمرة، وبائعها، وعاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها» .
والبيع جائز، أي: صحيح، فإن باعه على أن يتخذ منه الخمر.. فالبيع باطل.

[فرعٌ: حرمة بيع العبد المسلم والمصحف لكافر]
ولا يجوز أن يبيع العبد المسلم أو المصحف من الكافر؛ لأنه يعرض المسلم للصغار، والمصحف للابتذال، وكذلك لا يجوز أن تباع منهم كتب السنن والفقه.
وحكى الصيمري، عن الشيخ أبي حامد: أنه قال: يجوز أن تباع منهم كتب أبي حنيفة؛ لأنه لا آثار فيها، ولا يجوز أن تباع منهم كتب أصحابه؛ لأنها متضمنة للآثار، فإن باع منهم ما لا يجوز بيعه من ذلك.. فهل ينعقد البيع؟ فيه قولان:
أحدهما: لا ينعقد، وبه قال أحمد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] [النساء: 141] ، ولأنه عقد منع منه لحرمة الإسلام، فلم يصح، كتزويج المسلمة من الكافر، وفيه احترازٌ من النجش والبيع على بيع أخيه.
والثاني: يصح البيع، وبه قال أبو حنيفة، وهو الأظهر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] [البقرة: 275] ، ولأنه سبب يملك به العبد الكافر، فملك به العبد المسلم، كالإرث.
فإن قلنا بهذا: فهل يمكن الكافر من قبضه بنفسه، أو يؤمر بأن يؤكل مسلما، ليقبضه له؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\226] .
ولا يقر على ملكه، بل يؤمر بإزالة ملكه عنه؛ لأن في ذلك إذلالا للإسلام.

(5/122)


فإن باعه من غيره، أو رهنه، أو أعتقه.. قبل منه، وإن رهنه، أو أجره، أو زوجه.. لم يقبل منه ذلك؛ لأن ذلك لا يزيل ملكه عنه، وإن كاتبه.. ففيه قولان:
أحدهما: يقبل منه؛ لأن بالكتابة يصير كالخارج عن ملكه.
والثاني: لا يقبل منه؛ لأن الكتابة لا تزيل ملكه، فهي كالتزويج.
فإذا قلنا: لا ينعقد ابتياع الكافر للعبد المسلم، فوكل المسلم كافرًا ليشتري عبدًا مسلمًا.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال القاضي أبو الطيب: لا يصح، كما لا يصح أن يكون الكافر وكيلا للمسلم، ليتزوج له مسلمة.
و [الثاني] : قال ابن الصباغ: يصح، كما يصح للفاسق أن يكون وكيلا في البيع، وإن لم يصح أن يكون وليًّا للنكاح.
وإن اشترى الكافر أباه المسلم، أو ابنه المسلم، فإن قلنا: يصح ابتياعه للمسلم إذا كان أجنبيًّا، لا يعتق عليه.. فهاهنا أولى. وإن قلنا هناك: لا يصح.. فهاهنا وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنه يملك به المسلم، فلم يصح كالأجنبي.
والثاني: يصح؛ لأن ملكه لا يستقر عليه، وإنما يعتق عليه بالملك، فيحصل له من الكمال بالحرية، أكثر مما يحصل عليه من الصغار بالملك، فصح، كما إذا قال أعتق عبدك عني.. فإنه يصح العتق، كذلك هاهنا.

[مسألةٌ: إعتاق الكافر المسلم]
قال ابن الصباغ: إذا قال الكافر لآخر: أعتق عني عبدك المسلم عن كفارتي، فأعتقه عنه.. صح، ويدخل في ملكه، ويخرج منه بالعتق، وإنما جاز ذلك؛ لأن قوله أعتقته عنك ليس بتمليك له، وإنما هو إبطال الرق فيه، وإنّما حصل له الملك فيه حكمًا، كما يملكه بالإرث حكمًا.

(5/123)


[مسألةٌ: شراء ما لا يشاهد]
إذا باع قطنًا، واشترط الحب لنفسه، أو باع سمسمًا، واشترط الكسب لنفسه.. فإن البيع باطلٌ؛ لأن المبيع غير مشاهد؛ لأنه إذا باع القطن، واستثنى الحب لنفسه.. فالحب مختلط بالقطن، ولا يشاهد كل القطن.
وهكذا: إذا باع السمسم، واستثنى الكسب لنفسه.. فكأنه باع الشيرج، وهو غير مشاهد، فلم يصح البيع، ولأنه لا يخلو: إمّا يسلِّم القطن مع الحب، والسمسم كما هو، أو يمسكه ليحلج القطن، ويستخرج الشيرج، ولا يجوز أن يسلم القطن والسمسم؛ لأنه لا يلزمه تسليم حقه وحق غيره، ولا يجوز أن يمسكه حتى يميز المبيع عمّا ليس بمبيع؛ لأنه يكون في الحقيقة بيعا شرط في تأخير التسليم، وذلك لا يجوز.

[فرعٌ: بيع الشاة دون السواقط]
وإن قال: بعتك هذه الشاة، إلا سواقطها.. لم يصح، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالكٌ رحمةُ الله عليه: (إن كان في الحضر.. لم يصح، وإن كان في السفر.. صح) .
دليلنا: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الثنيا في البيع» .
ولأنه لو باع سواقطها.. لم يصح، فكذلك إذا استثناها.
وإن باع بهيمةً حاملاً أو جاريةً بمملوك.. فإن الحمل يدخل في البيع بمطلق العقد، كسائر أجزائها.

(5/124)


وإن استثنى البائع الحمل، أو استثنى البائع البيضة في الدجاجة المبيعة.. لم يصح البيع؛ لأن ذلك بمنزلة عضو من أعضائها، بدليل: أنه إذا أعتق الجارية الحامل.. عتق الحمل، ولأنا لو قلنا: يجوز.. لم يخل: إمّا أن يؤمر بتسليم الأم مع حملها، أو يؤمر بتسليمها بعد الوضع، فبطل أن يؤمر بتسليمها مع حملها؛ لأنه لا يؤدي إلى أن يلزمه تسليم المبيع وغيره، وبطل ألا يلزمه التسليم إلاَّ بعد الوضع؛ لأن ذلك يؤدي إلى تأخير تسليم المبيع، فإذا بطل القسمان.. ثبت أنّ البيع باطل.
وإن اشترى جارية حاملاً بحر.. لم يصح البيع في الجارية؛ لأن الحر لا يصح بيعه، فيصير كأنه استثناه في البيع، فلم يصح.
وإن باع جاريةً، أو بهيمة لبونًا، واستثنى البائع لبنها.. قال ابن الصباغ: فيحتمل عندي وجهين:
أحدهما: لا يصح البيع؛ لأنه مجهول، فأشبه الكسب، وحب القطن، والحمل، والبيض.
والثاني: يصح؛ لأنه يبقيه على ملكه، فالجهالة فيه لا تؤثر، بخلاف الكسب، وحب القطن، والحمل، والبيض، لأن كل واحد من ذلك لا يقدر على تسليمه عقيب العقد، بخلاف اللبن.

[فرعٌ: لا يفرق بين الأمة وطفلها]
] : ولا يجوز أن يفرق بين الجارية وبين ولدها المملوك في البيع والهبة، قبل أن يستكمل الولد سبع سنين؛ لما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا توله والدةٌ بولدها» . أي: لا يشغل قبلها به.

(5/125)


ولما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من فرّق بين والدة وولدها.. فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» .
فإن فرق بينهما بالبيع أو الهبة.. فهل يصح البيع أو الهبة؟ فيه وجهان:
المشهور من المذهب: أنه لا يصح؛ لما روى أبو داود في "سننه ": «أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فرق بين الأم وولدها، فنهاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، وردّ البيع» .
وحكى المسعودي [في " الإبانة " [ق\222] قولاً للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم: (أنه يصح البيع) . وبه قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.

(5/126)


والأول أصح؛ لأنه تفريق محرم في البيع، فأبطله، كالتفريق بين الجارية وحملها.
وهل يجوز التفريق بينهما بعد استكمال الولد سبع سنين، وقبل بلوغه؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز؛ لعموم الخبر، ولأنه غير بالغ، فأشبه ما لو لم يستكمل السبع.
والثاني: يجوز؛ لأنه مستغن عن الحضانة، فأشبه البالغ.
وإن فُرق بين الولد، وبين جدته أم أمه.. فهو كما لو فرق بينه وبين أمه، على ما مضى.
وهل يجوز التفريق بينه وبين أبيه؟ فيه وجهان حكاهما الصيمري.
وإن فرق بينه وبين أخيه.. جاز.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز) .
دليلنا: أن القرابة التي بينهما لا تمنع القصاص، فلا تمنع التفريق بينهما في البيع، كابن العم.
وقال الشيخ أبو إسحاق في " التعليق " بالخلاف. فإن اشترى جارية وولدها الصغير، ثم تفاسخا البيع في أحدهما.. صح البيع.
وأما التفريق بين البهيمة وولدها الصغير بعد استغنائه عن لبنها.. فجائز، وحكى الصيمري فيه وجهين:
أحدهما ـ هذا، وهو الأصح ـ: أنه يجوز، كما يجوز له ذبح أحدهما، وذبحهما معًا.

(5/127)


والثاني: لا يصح؛ لنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن تعذيب الحيوان وفي ذلك تعذيب له.
وبالله التوفيق.

(5/128)