البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب ما يفسد البيع من الشروط وما لا يفسده]
الشروط في البيع على أربعة أضرب: أحدها: ما هو من مقتضى العقد، مثل: أن يشرط عليه التسليم، أو خيار المجلس، أو ردّه بالعيب إن كان معيبًا، أو الرجوع بالعهدة إن استحق، وما أشبه ذلك.. فهذا لا يفسد البيع؛ لأن إطلاق العقد يقتضي ثبوت ذلك، فكان شرطه لذلك تأكيدًا لما يقتضيه العقد.
الشرط الثاني: ما لا يقتضيه العقد، ولكن فيه مصلحة، كالأجل في الثمن، وخيار الثلاث، والرهن، والضمان، والشهادة. وما أشبه ذلك.. فهذا شرطٌ لا يفسد البيع، ويثبت المشروط؛ لأن في ذلك مصلحة للعقد.
الشرط الثالث: أن يبيعه عبدًا بشرط أن يعتقه المشتري، فالمنصوص للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في عامة كتبه: (أن الشرط صحيح) . وبه قال مالك رحمة الله عليه، وحكى القاضي أبو حامد في " جامعه ": أن أبا ثور روى عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أن الشرط باطلٌ، والبيع صحيح) .
ومن أصحابنا من قال: القول المخرج للشافعي فيها: (أن الشرط والبيع باطلان) . وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، إلا أن أبا حنيفة يقول: (إذا قبضه المشتري.. ملكه ملكًا ضعيفًا، فإذا أعتقه.. نفذ عتقه، ويلزمه الثمن) . وقال أبو يوسف، ومحمد: يلزمه القيمة.
واحتج من ذهب إلى هذا بما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع وشرط» .

(5/129)


ولأنه شرط يمنع كمال التصرف، فمنع صحة البيع، كما لو باعه بشرط ألا يعتقه، أو بشرط أن يبيعه.
ووجه المنصوص: ما روي: «أن بريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كاتبت على نفسها بسبع أواقي ذهب، في كل سنة أوقية، فجاءت إلى عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تستعينها، فقالت: لا، ولكن إن شئتِ.. عددت لهم مالهم عدَّةً واحدة، على أن يكون ولاؤك لي، فرجعت إليهم، فأخبرتهم، فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم، فذكرت ذلك لعائشة أم المؤمنين، فذكرت عائشة ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اشتريها، واشترطي لهم الولاء، وأعتقيها "، فاشترتها، وأعتقتها، ثم صعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المنبر خطيبًا، فقال: " ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله، فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرطه أوثق، والولاء لمن أعتق ".
قالت عائشة أم المؤمنين: (فخيرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان زوجها عبدًا فاختارت نفسها، ولو كان حرًّا.. لم يخيِّرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -) .

(5/130)


ووجه الدلالة من هذا الخبر: أن هذا البيع إنما كان بشرط العتق، وقد روي في بعض الأخبار: (أن عائشة اشترت بريرة لتعتقها) . وأيضا فإنها إذا اشترطت الولاء لأهلها.. فإنما يكون ذلك في موضع شرط فيه العتق، ولأن للعتق مزية وغلبة في الأحكام، بدليل: أنه إذا أعتق نصف عبده.. عتق الجميع، ولو أعتق شقصًا له من عبدٍ بينه وبين غيره، وكان موسرًا بقيمة باقية.. عتق باقيه، فلم يفسد البيع بشرطه، بخلاف غيره من العقود.
فإن قيل: فبريرة كانت مكاتبة، فكيف جاز بيعها؟ قلنا: على القول القديم

(5/131)


(يجوز بيعها) ، ويكون هذا حجة على صحة البيع للقول القديم، وعلى القول الجديد (لا يصح بيعها) ، فيحمل الخبر على أنها عجزت نفسها عن أداء ما عليها، فعجّزها أهلها، وفسخوا العقد، والفسخ يصح بصريح الفسخ بأن يقول المولى: فسخت الكتابة، ويصح بإزالة الملك بأن يبيعه، أو يهبه، فكأنهم جعلوا بيعهم لها فسخًا لكتابتها.
فإن باعه عبدًا بشرط أن يعتقه المشتري، ويكون الولاء للبائع.. فشرط الولاء باطلٌ بلا خلاف على المذهب، وفي البيع قولان:
أحدهما: وهو رواية أبي ثور عن الشافعي: (أن البيع صحيح) ؛ لما ذكرناه من حديث عائشة في شراء بريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.
والثاني ـ وهو المشهور ـ: أن البيع باطلٌ؛ لأنه شرط ليس من مقتضى العقد، ولا من مصلحته، ولم يبن على التغليب، فأبطله، كسائر الشروط الفاسدة.
وأمّا تأويل حديث عائشة: فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد إبطال ذلك عليهم، وقطع عادتهم في ذلك، فأمر عائشة: (أن تشترط لهم الولاء) ، ثم أبطله؛ ليكون أبلغ في قطع عادتهم في ذلك، كما أنه أمرهم بالإحرام بالعمرة في أشهر الحج، فلم يحرموا؛ لأنهم كانوا لا يرون جواز ذلك، فأحرموا بالحج، ثم فسخ عليهم إحرامهم بالحجّ، وأمرهم بالإحرام بالعمرة؛ ليبالغ في الزجر والردع عن ذلك عما كانوا يعتقدونه، كذلك هذا مثله، فيكون هذا الشرط خاصًّا لعائشة - رضي الله عنها -؛ لهذا المعنى.
قال المزني: ويحتمل أن يكون معنى قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اشترطي لهم الولاء» ؛ أي: اشترطي عليهم الولاء؛ لأن حروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض، ألا ترى إلى قَوْله تَعَالَى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] [الإسراء: 7] ، أي: فعليها.
وهذا التأويل ليس بصحيح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبطل شرط الولاء، ولو كانت اشترطت عليهم الولاء لها.. لكان هذا صحيحًا.

(5/132)


[فرعٌ: البيع بشرط العتق]
إذا باعه عبدًا بشرط العتق.. نظرت: فإن أعتقه المشتري.. استقرَّ العقد، وإن امتنع من إعتاقه.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجبر عليه؛ لأنه عتق لزمه، فإذا امتنع منه أجبر عليه، كما لو نذر عتق عبد، ثم امتنع من إعتاقه.
والثاني: لا يجبر؛ لأنه قد ملكه، وثبت للبائع الخيار: بين أن يجيز البيع، وبين أن يفسخه، كما لو شرط أن يرهنه بالثمن رهنا، فامتنع من الرهن.
وهذان الوجهان بناءً على أن شرط العتق حقٌ للعبد، أو للبائع، وفيه وجهان:
فإن قلنا: إنه حق للعبد.. أُجبر عليه.
وإن قلنا: إنه حق للبائع.. ثبت له الخيار.
فإن رضي البائع بإسقاط العتق.. فعلى الوجهين:
إن قلنا: إنه حقٌ للبائع.. يسقط بإسقاطه، وإن قلنا: إنه حق للعبد.. لم يسقط.
وإن مات العبد قبل أن يعتقه المشتري.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يستقر البيع، ولا شيء على المشتري غير الثمن؛ لأن العبد تلف على ملكه، ولا يمكن إجباره على عتقه بعد موت العبد.
والثاني: أن البائع يأخذ الثمن، وما نقص منه لأجل العتق؛ لأنه إنما باعه بهذا الثمن لأجل العتق، فإذا لم يتم العتق.. رجع إلى ما نقص.
فعلى هذا: إن كان قد باعه بخمسين درهما بشرط العتق، ثم مات العبد قبل أن يعتق.. فإنه يقال: كم كانت قيمته لو بيع من غير شرط العتق؟ فإن قيل: في المثل ستون درهمًا.. قيل: فكم قيمته إذا بيع بشرط العتق؟ فإن قيل: أربعة وخمسون درهمًا.. قيل للبائع: فخذ من المشتري مثل تسع الثمن الذي سمي في العقد، وتسع

(5/133)


الخمسين: خمسة دراهم وخمسة أتساع درهم، وهو عشر مبلغ الثمن بعد إضافة هذا إلى الخمسين.
والوجه الثالث: أن البائع بالخيار: إن شاء.. أجاز البيع، ولا شيء له، وإن شاء.. فسخه، ورجع بقيمة عبده، كما لو كان العبد باقيًا.
وإن باعه عبدًا بشرط أن يعتقه بعد شهر.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يصح؛ لأن ثبوت ذلك بالشرط، فكان على ما شرط.
والثاني: لا يصح؛ لأنه عتق يتعلق بالعين، فلم يصح التأجيل فيه، كما لو باعه عبدًا بشرط أن لا يسلمه إليه إلا بعد شهر.
وإن باعه عبدًا بشرط أن يعتقه المشتري، فباعه المشتري من آخر بشرط أن يعتقه المشتري الثاني.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح البيع الثاني؛ لثبوت حق العتق فيه، فلم يصح، كما لو نذر عتق عبد بعينه، فباعه.
والثاني: يصح؛ لأن المقصود عتق العبد، وذلك يحصل من الثاني، كما يحصل من الأول، فصح، كما لو وكل الأول في إعتاقه. والأول أصح. وإن باعه أمة بشرط أن يعتقها، فأحبلها المشتري.. فهل يجبر على إعتاقها؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجبر؛ لأن عتقها قد استحق بالإحبال.
والثاني: يجبر، وهو الصحيح؛ لأن استحقاقها للعتق قد استحق قبل الإحبال، فلا يجوز تأخيره إلى وقت موته.
وإن باعه دارًا أو أرضًا أو عبدًا، بشرط أن يقفه.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يصح البيع والشرط، قياسًا على العتق.
والثاني: يبطلان؛ لأن الوقف لا يبنى على التغليب، فلم يصح البيع بشرطه، كما لو باعه ثوبًا بشرط أن يتصدق به.

(5/134)


الشرط الرابع: أن يبيعه عبدًا على أن لا يعتقه، أو على أن لا يبيعه، أو على أن لا خسارة عليه فيه، ومعنى هذا: أنه متى خسر في ثمنه.. فضمانه على البائع. أو باعه جارية بشرط أن لا يطأها، وما أشبه ذلك.. فالشرط باطلٌ، والبيع باطلٌ، هذا هو المنصوص للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في عامة كتبه، وبه قال أبو حنيفة.
وروى أبو ثور عن الشافعي: (أن الشرط باطلٌ، والبيع صحيح) . وهو قول ابن أبي ليلى، والحسن البصري، والنخعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
واحتجوا بحديث عائشة في شرائها لبريرة بشرط أن تعتقها، ويكون الولاء لأهلها.
وقال ابن سيرين: الشرط صحيح، والبيع صحيح.
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع وشرط» .
وروي: أن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اشترى من امرأته جارية، واشترطت عليه: إنك إن بعتها.. فإنها لي بالثمن، فاستفتى عمر في ذلك، فقال عمر: (لا تقربها وفيها شرط لأحد) .
ولأنه شرط لم يبن على التغليب، ولا هو من مصلحة العقد، ولا من مقتضاه، فأبطله، كما لو شرط أن لا يسلم المبيع.
فقولنا: (لم يبن على التغليب) احترازٌ ممن شرط إعتاق العبد المبيع؛ لأن العتق بني على التغليب، على ما مضى ذكره.
وقولنا: (ولا هو من مصلحة العقد) احترازٌ من شرط الأجل، والرهن والضمان.

(5/135)


وقولنا: (ولا من مقتضاه) احترازٌ منه إذا شرط ردّه بالعيب عند وجوده ورجوعه بالعهدة عندما يستحق عليه، وأما حديث عائشة: فقد ذكرنا تأويله.

[فرعٌ: شرط الانتفاع بالمبيع مدّة]
] : وإن اشترى دارًا، واشترط سكناها شهرًا، أو عبدًا، واستثنى خدمته مدة معلومة، أو جملا، واشترط أن يركبه إلى موضع معين.. فالبغداديون من أصحابنا قالوا: لا يصح البيع، وجهًا واحدًا.
وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\220] : أنها على وجهين:
أحدهما: يصح الشرط والبيع، وبه قال أحمد، وإسحاق، والأوزاعي؛ لما «روى جابرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (بعت من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعيرًا، واشترطت عليه ظهره إلى المدينة» . وروي: (أن عثمان باع دارًا واشترط سُكناها شهرًا) .
والثاني: لا يصح البيع، وهو الصحيح؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع وشرط» . ولأنه شرط لم يبن على التغليب، ولا هو من مصلحة العقد، ولا من مقتضاه، فلم يصح، كما لو شرط أن لا يسلمه المبيع.
وأما حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فلأن الشرط وقع بعد العقد وانقضاء الخيار، أو نقول: لم يكن ابتياعًا صحيحًا، وإنما أراد لتناله بركته؛ لما روي «عن جابر رضي الله

(5/136)


عنه: أنه قال: خرجت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض الغزوات، فلحقني رسول الله، فقال: " ما بال جملك؟ "، فقلت: قد أعيا، فتخلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فزجره، فسبق القافلة، ثم قال: " بكم ابتعته؟ "، فقلت: بثلاثة عشر دينارًا، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أتبيعه مني بما ابتعته؟ "، فاستحييت منه، فبعته، فقدمنا المدينة، فرآني خالي، فقال: ما بال جملك؟ فقلت: بعته من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلامني عليه، فجئت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلمّا رآني.. قال: " أتراني ماكستك لآخذ جملك؟ خذ جملك وثمنه، فهما لك» .
فلمّا قال: " خذ جملك ".. دلّ على أن الجمل كان ملكًا له، لم يزل عنه.
وأمَّا حديث عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: فالقياس مقدم عليه.
إذا ثبت ما ذكرناه: فإن الشرط الباطل إنما يفسد البيع إذا كان في حال العقد، أو بعد العقد، وقبل انقضاء الخيار على الصحيح من المذهب. وقال أبو علي الطبري: إذا قلنا: إن المبيع ينتقل بنفس العقد.. لم تلحق الشروط بالعقد بعد العقد في حال الخيار. وليس بشيء.
وأمّا إذا كان الشرط قبل العقد: فإنه لا يلحق بالعقد إن كان صحيحًا، ولا يبطل به العقد إن كان الشرط فاسدًا.

[مسألةٌ: البيع بشرط فاسد]
باطل] : وإن اشترى جارية بشرط فاسد.. فقد قلنا: إن البيع باطلٌ، ولا يجب على البائع أن يسلِّمها، ولا يجب على المشتري أن يتسلمها، وإن قبضها المشتري.. لم يملكها، وإن تصرف فيها ببيع، أو عتق.. لم ينفذ تصرفه.

(5/137)


وقال أبو حنيفة: (إذا قبضها المشتري بإذن البائع، وكان قد سمى لها عوضًا له قيمة.. ملكها بالقبض ملكًا ضعيفًا، ولبائعها أن يرجع فيها، فيأخذها مع الزيادة المتصلة والمنفصلة. فإن تصرّف فيها المشتري تصرُّفًا يمنع البائع الرجوع فيها، كالبيع والهبة والعتق والكتابة.. نفذ تصرّفه، وكان للبائع عليه ثمنها. وقيل: قيمتها. وإن اشتراها بما لا قيمة له، كالدم والميتة.. لم يملكها بالقبض) .
واحتجُّوا بحديث عائشة في شراء بريرة، وعندهم: أن الشراء كان باطلاً، وإنّما ملكتها بالقبض، ونفذ تصرُّفها فيها بالعتق لذلك.
دليلنا: أنه مقبوض عن عقدٍ فاسدٍ.. فلم يملكه به، فوجب أن لا ينفذ به تصرفه، كما لو اشتراها بدم أو ميتة.
ولأن الوطء في النكاح الصحيح بمنزلة القبض في البيع الصحيح، بدليل: أنّه يستقر به المسمى في النكاح، والثمن في البيع.
ثم ثبت أنه لا يستفيد بالوطء في النكاح الفاسد شيئًا مما يستفيده بالعقد الصحيح من استباحة البضع، والإيلاء، والظهار، والطلاق، فكذلك يجب أن لا يملك بالقبض في البيع الفاسد شيئًا مما يملك بالعقد الصحيح.
وأمّا حديث عائشة: فيحتمل أنّها شرطت لهم الولاء قبل العقد، فلذلك لم يبطل البيع، ويحتمل أن القصة كانت خاصّة بعائشة، وأراد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك قطع عادتهم في ذلك.
فإن قبضها المشتري، فإن كانت باقية بحالها لم تزد ولم تنقص.. لزمه ردُّها، وإن أقامت في يده مدة لها أجرة، فإن كانت صانعة.. لزمه أجرة مثلها صانعة، سواءً استخدمها أو لم يستخدمها؛ لأنه ممسك لها بغير حق، وإن كانت غير صانعة.. لزمه أجرة مثلها غير صانعة.
ومن أصحابنا من قال: لا تلزمه أجرتها، كما إذا كان المبيع نخلة.. فإنه لا يلزمه رد أجرتها.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا غلط؛ لأنه ما من جارية إلا ولها أجرة ومنفعة، بأن

(5/138)


يقول: اسقيني الماء، أو قدِّمي لي الخبز، بخلاف النخلة؛ لأنه ليس لمثلها أجرة، ألا ترى أنه لا يجوز إجارتها، ويجوز إجارة الجارية؟
وإن زادت في يده، فإن كانت الزيادة موجودة لم تتلف.. لزمه رد الجارية، ورد زيادتها، سواء كانت متصلة أو منفصلة؛ لأنها ملك للبائع، وإن تلفت الزيادة، وبقيت الجارية، بأن سمنت في يد المشتري، ثم هزلت، أو تعلمت القرآن أو صنعةً في يده، ثم نسيت ذلك.. لزمه رد الجارية. وهل يلزمه أرش الزيادة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه؛ لأن البائع دخل في البيع ليأخذ بدل العين دون بدل الزيادة.
والثاني ـ وهو المنصوص ـ: (أنه يلزمه أرش الزيادة التي تلفت في يده) ؛ لأنها حدثت في ملك البائع، فكان له بدلُها، وقول الأول: إن البائع لم يدخل في البيع ليأخذ بدل الزيادة يبطل بالأجرة، فإنه لم يدخل في البيع ليأخذها، ومع هذا: فإنه يستحق الأجرة.
وإن قبضها المشتري وهي سمينةٌ، فهزلت في يده، أو قبضها وهي تحفظ القرآن، أو تحسن صنعة، فنسيت ذلك في يده.. لزمه رد الجارية، وأرش النقص؛ لأنه ضمن ذلك بالقبض، فلزمه قيمته إذا تلف، كالغاصب، وإن تلفت الجارية في يده.. لزمه قيمتها. وفي قدرها وجهان:
أحدهما: يلزم قيمتها يوم تلفها؛ لأنه مأذون له في إمساكها، فلزمه قيمتها يوم التلف، كالعارية.
والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنه يلزمه قيمتها أكثر ما كانت من حين قبضها إلى أن تلفت؛ لأنه قبض مضمون في عين يجب ردّها، فإذا هلكت.. ضمنها بقيمتها أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التلف، كالمغصوب.
فقولنا: (قبضٌ مضمونٌ) احترازٌ من قبض الوديعة وغيرها من الأمانات.
وقولنا: (في عين يجبُ ردُّها) احترازٌ من قبض المشتري المبيع، فإنه قبض مضمون بالثمن، إلا أنه لا يجب ردّه، ويخالف العارية، فإن المستعير لو ردّها ناقصة بالاستعمال.. لم يجب عليه شيء، بخلاف هذا.

(5/139)


وإن وطئها المشتري.. لم يجب عليه الحد؛ لأنه يعتقد أنها ملكه، ولأن في الملك اختلافًا، فإن أبا حنيفة يقول: (يملكها بالقبض) وذلك شبهة، فسقط بها الحد، فإن كانت ثيِّبًا.. وجب عليه مهر ثيب؛ لأنها موطوءة لا يملك وطأها، فسقط الحد عن الواطئ للشبهة، فوجب عليه المهر، كما لو وجد امرأةً على فراشه، فظنّها زوجته، فوطئها، فإن كانت بكرًا.. وجب عليه مهر بكر، ووجب عليه أرش الافتضاض مع المهر، فإن قيل: فكيف أوجبتم عليه المهر وقد أذن البائع بوطئها؟ ألا ترى أن الرجل إذا أذن بوطء جاريته.. لم يجب له المهر؟
فالجواب: أنه إنما أذن بوطئها على أنها ملك للمشتري، وهاهنا بان أن الجارية ملك للبائع، والوطء بالشبهة إذا صادف ملك غيره.. أوجب المهر.
فإن قيل: هلاَّ قلتم: إنه لا يجب على المشتري أرش البكارة، كما إذا تزوّج امرأةً بكرًا بنكاح فاسدٍ، فافتضّها.. فإنه لا يجب عليه أرش البكارة؟
فالجواب: أن النكاح يتضمن الإذن في الوطء؛ لأنه معقود عليه، والوطء يتضمن إتلاف البكارة، وليس كذلك البيع، فإنه ليس بمعقود على الوطء، ولهذا يجوز له شراء من لا يحل له وطؤها، ولأن الزوجة سلمت نفسها لا على وجه الضمان لبدنها، ولهذا إذا تلفت في يد الزوج.. لم يجب بالإتلاف ديتها بخلاف الأمة المبيعة؛ لأن البيع يقتضي ضمان بدنها.
فإن قيل: كيف أوجبتم أرش البكارة مع المهر، ولم يدخل الأرش في المهر؟
فالجواب: أنه إنما وجب الجمع بينهما؛ لأن أرش البكارة وجب بإتلاف ذلك الجزء، والمهر وجب بالاستمتاع، فوجب بدلُهما، ولأن أرش البكارة سبق وجوبه وجوب المهر؛ لأن الافتضاض قد يوجد قبل التقاء الختانين، والمهر لا يجب إلا بالتقائهما، فجرى مجرى من افتضّها بأصبعه، ثم وطئها، إلا أن من افتضّها بأصبعه، ثم وطئها.. يجب عليه أرش البكارة، ومهر ثيّب؛ لأنه لم يستوف اللذة المقصودة بالبكارة، وهاهنا قد وجد منه استيفاء اللذة الكاملة بإزالة البكارة، فوجب عليه مهر بكرٍ، ووجد منه إزالة ذلك الجزء، فوجب عليه بدله.

(5/140)


وإن أحبلها المشتري.. نظرت:
فإن وضعت الولد حيًّا.. فإنّ الولد يكون حرًّا؛ لحصول الشبهة، ويلزمه قيمة الولد؛ لأنه أتلف عليه رقّه، ويقوم عليه يوم الوضع؛ لأنه حال الحيلولة بينه وبين البائع لو كان مملوكًا.
وإن نقصت الأم بالحمل، أو بالوضع.. لزم المشتري أرش النقص.
وإن وضعت الولد ميِّتًا.. لم يجب على المشتري قيمته؛ لأنه لم توجد منه الحيلولة بين البائع وبين هذا الولد. وإن ضرب ضاربٌ بطنها، فألقت من ضربه جنينًا ميتًا.. وجب على الضارب غرّة عبد، أو أمة مقدّرة بنصف عشر دية أبي الجنين، ويجب لمالك الأمة أقل الأمرين من قيمة الولد يوم الولادة، أو الغرة؛ لأن ضمان الضارب له قام مقام خروجه حيًّا، وله أن يطالب بذلك من شاء من الضارب أو المشتري، فإن كانت الغرة أقل.. لم يجب للبائع أكثر منها، وإن كانت القيمة أقل.. كان له قدر القيمة، والباقي لورثة الجنين.
فإن سلم المشتري الجارية إلى البائع حاملاً، فولدت في يد البائع.. لزمه ضمان ما نقصت بالولادة؛ لأنها نقصت بسبب فعله.
وإن ماتت من الولادة.. لزم المشتري قيمتها؛ لأنها ماتت بسبب كان في يده. وهل تحمل العاقلة عنه قيمتها؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد، بناء على القولين في أن العاقلة هل تحمل قيمة العبد في الجناية؟ ويأتي توجيههما في (العاقلة) إن شاء الله تعالى.
ولا تصير هذه الجارية أم ولد للمشتري في الحال.
وهل تصير أم ولدٍ له إذا ملكها بعد ذلك؟ فيه قولان:

(5/141)


أحدهما: لا تصير أم ولد؛ لأنها علقت منه في غير ملكه.
والثاني: تصير أم ولد له؛ لأنها علقت منه بحر.

[فرعٌ: ما يلزم عن العلم بفساد الشراء]
] : قال الصيمري: وإذا اشترى عبدًا شراءً فاسدًا، وقبضه، وأنفق عليه مدّة، فإن كان المشتري عالمًا بفساد الشراء.. لم يرجع بما أنفق عليه، وإن لم يعلم.. فهل يرجع على البائع بما أنفق عليه؟ فيه وجهان، بناءً على القولين في رجوع الزوج في المهر على الولي إذا غرّه بحرّية الزوجة.

[فرعٌ: تلف ثمن البيع الفاسد بعد القبض]
] : قال أبو العباس: إذا باعه عبدًا بيعًا فاسدًا بثمن، وتقابضا، ثم أتلف البائع الثمن.. وجب على المشتري ردّ العبد، ولم يكن له إمساكه إلى أن يأخذ الثمن.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (له إمساكه، وهو أحق به من سائر الغرماء) .
دليلنا: أنه لم يقبض العبد وثيقة، وإنما قبضه على أنه ملكه، فإذا بان خلافه.. وجب ردّه.
وبالله التوفيق.

(5/142)