البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب الربا]
الربا محرم، والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] [البقرة: 275] .
وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278] [البقرة: 278] .
وقَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275] [البقرة: 275] . و (المس) : الجنون.
قال ابن عباس: (وذلك حين يقوم من قبره) .

(5/160)


قال سعيد بن جبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يبعث يوم القيامة مجنونًا. وقيل: إنه ما أحل الربا في شريعة قط.
قال الله تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161] [النساء: 161] .
وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الكبائر سبعٌ، أوّلها: الشرك بالله، وقتل النفس بغير حق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم بدارا أن يكبروا، والفرار من الزحف، ورمي المحصنات، والانقلاب إلى الأعراب بعد هجرة» .
وروى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لعن الله آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه» .

(5/161)


وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الربا وإن كان كثيرًا، فإنه يصير إلى قل» .
إذا ثبت هذا: فالربا في اللغة: هو الزيادة.
قال الله تعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5] [الحج: 5] ، أي: زادت.
ومنه قولهم: أربى فلانٌ على فلان، أي: زاد عليه.
والربا في الشرع يقع على وجهين: على الزيادة، وعلى النسيء، على ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.

[مسألةٌ: الأصناف الربوية]
والأعيان التي ورد النص بتحريم الربا فيها، وأجمع المسلمون على تحريم الربا فيها ستة أشياء: الذهب، والفضة، والبُرّ، والشعير، والتمر، والملح.
والدليل عليه: ما روى عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البُر بالبُر، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينًا بعين، يدًا بيد، ولكن بيعوا الذهب بالورق، والبر بالشعير، والتمر بالملح، كيف شئتم إذا كان يدًا بيد» .

(5/162)


إذا ثبت هذا: فإن هذه الستة الأشياء، لم ينص عليها في تحريم الربا لأعيانها، وإنما نص عليها لمعنى فيها، فمتى وجد ذلك المعنى في غيرها.. حرم فيها الربا. هذا قول عامة العلماء، إلا داود ونفاة القياس، فإنهم قالوا: (إنما نص عليها لأعيانها، ولا يحرم الربا في غيرها) .
ودليلنا: أن القياس عندنا حجة، ورد الشرع بالتعبد به، فوجب العمل به، وموضع الكلام في ذلك أصول الفقه.
وأيضًا: فإن الله تعالى قال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] [البقرة: 275] .
و (الربا) : هو الزيادة، فيقتضي عموم الآية تحريم كل بيع فيه زيادة، إلا ما دلّ الدليل على تخصيصه وجوازه.
فإذا ثبت هذا: فإن هذه الأعيان معللة، فالعلة عندنا في الذهب والفضة: أنهما جنس الأثمان غالبًا، وهذه العلة واقفة لا تتعدى إلى غيرهما، وقد أومأ في " الفروع " إلى وجه آخر: أنه يحرم الربا في الفلوس التي هي ثمن الأشياء وقيم المتلفات في بعض البلاد. وليس بشيء؛ لأن ذلك نادر.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (العلة فيهما الوزن في جنس واحد) . وقاس عليهما كل شيء موزون، مثل: الرصاص والحديد.
دليلنا: أنه يجوز إسلام الذهب والفضة في الحديد والرصاص والنحاس، ولو جمعتهما علة واحدة في الربا.. لم يجز إسلام أحدهما في الآخر، كما لا يجوز إسلام

(5/163)


الذهب بالفضة، ولأنه لا ربا في معمول الحديد والصفر والنحاس، فلم يكن في تبره الربا، كالطين، وعكسه الذهب والفضة. وأما الأعيان الأربعة وهي: البُر والشعير والتمر والملح.. فلجميعها علة واحدة بالإجماع، كالذهب والفضة لهما علّة واحدة.
واختلف في علة هذه الأعيان الأربعة:
فذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم إلى: (أن العلة فيها كونها مطعومة مكيل جنس، أو مطعومة موزون جنس) .
فعلى هذا: العلة ذات ثلاثة أوصاف، وهو قول سعيد بن المسيب، ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل» . والمماثلة لا تكون إلا بالكيل أو الوزن.
فعلى هذا: يجوز بيع ما لا يكال ولا يوزن من المطعومات، مثل: التفاح والسفرجل والرمان، بعضه ببعض متفاضلا.
وقال في الجديد: (العلة فيها أنها مطعومة جنس) . وهو الصحيح. فعلى هذا: العلة ذات وصفين، فيحرم الربا في كل ما يطعم، قوتًا أو تفكُّها.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (العلة فيها أنها مكيلة جنس، أو موزونة جنس) .
فعلى هذا: يجوز عنده بيع تمرة بتمرتين، وبيع كف حنطة بكفين؛ لأن ذلك غير مكيل ولا موزون، ولا يجوز عنده بيع الجص، والنورة، والحديد، والرّصاص بعضه ببعض متفاضلاً؛ لأنه مكيل أو موزون.

(5/164)


وقال مالك رحمة الله عليه: (العلة فيها أنها مكيلة مقتاتة جنس) .
فعلى هذا: يحرم الربا عنده فيما كان قوتًا أو يصلح للقوت.
وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: العلة فيها: أنها جنس تجب فيه الزكاة.
فعلى هذا: لا يجوز عنده بيع ما يجب فيه الزكاة بعضه ببعض متفاضلاً من الحيوان.
وقال سعيد بن جبير: العلة فيها: تقارب المنفعة، فكل شيئين تقارب الانتفاع بهما، لا يجوز عنده بيع أحدهما بالآخر متفاضلا، كالتمر بالزبيب، والحنطة بالشعير، والذرة بالجاورس.
وقال ابن سيرين: العلة فيها الجنس فقط، فإذا اختلف فيها الجنس.. لم يكن فيها ربا.
فأعمّ العلل علّة سعيد بن جبير؛ لأنها تتناول الجنس والجنسين، ثم بعدها: علة ابن سيرين، ثم علتنا في الجديد، ثم: علة أبي حنيفة، ثم: علة مالك، ثم علتنا في القديم، وأبعدها: علة ربيعة.
والدليل على بطلان قول ابن سيرين، وابن جبير: ما رُوي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشترى عبدًا بعبدين» .
والدليل على بطلان قولهما، وقول ربيعة: ما روى عبد الله بن عمرٍو: «أن

(5/165)


النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره أن يجهز جيشًا، فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ في قلاص الصدقة، يعني: في إبل الصدقة، فكان يأخذ بعيرًا ببعيرين إلى إبل الصدقة» . والإبل تتقارب منفعتها، وهي جنسٌ واحدٌ، وتجب فيها الصدقة.
وأمّا الدليل على بطلان قول مالك: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرم الربا في الملح» . وليس بقوت، فإن قال: لأنها تصلح القوت.. فليس بصحيح؛ لأن جميع الإدام والنار تصلح القوت، ومعلومٌ أنه لا ربا فيها.
وأمّا الدليل على بطلان قول أبي حنيفة ـ وهو وجه قوله الجديد ـ: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل» . وهذا يعم القليل منه والكثير، والطعام اسمٌ لكل مطعوم شرعًا ولغة:
أما الشرع: فقوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [آل عمران: 93] [آل عمران: 93] . وأراد به: سائر المطعومات.
وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249] [البقرة: 249] . وأراد به: الماء.
وقَوْله تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5] [المائدة: 5] . وأراد به: ذبائحهم، وهو اللحم.
وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «مكثنا مع رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زمانًا ما لنا طعامٌ إلا الأسودان: الماء والتمر» .

(5/166)


وأما اللغة: فإن الرجل يقول: ما طعمت اليوم شيئًا، إذا لم يأكل شيئًا من المطعومات جملةً. وقال لبيد:
لمعفر قهد تنازع شلوه ... غبس كواسب لا يمن طعامها
و (المعفر) : ولد الظبية، إذا أرادت أمه فطامه عن الرضاع.. فإنها تقطعه عن الرضاع أيامًا، ثم تعود إلى إرضاعه أيّامًا، ثم تقطعه أيّامًا، ثم تعود إلى إرضاعه أيامًا، ثم تقطعه، تفعل ذلك حتى لا يضر به القطع جملة، فإذا فعلت الظبية هذا، قيل: عفرت ولدها، والولد معفَّر، و (القهد) : من صفات لونه، و (الشلو) : العضو، و (الغبس) : السباع، وقوله: (كواسب) ؛ لأنها تكسب ما تأكله، وما يأكل أولادها، وقوله: (ما يمن طعامها) ، أي: أنها تأخذه بأنفسها، ليس أحدٌ يمن عليها به، و (تنازعها) : تجاذبها لأعضاء ولد الظبية، فسمَّى ذلك: طعامًا لها؛ لأنه مطعومٌ لها.
وإذا قلنا بهذا: فإن الربا يحرم في كل ما يطعم قوتًا، وقل ما يكون إلا مكيلاً أو موزونًا، ويحرمُ فيما يطعم تفكُّهًا، وغالبُه: أنه غير مكيل ولا موزون، وفيما يطعم تداويًا، وقد يدخله الكيل والوزن، وقد لا يدخله، وفي الماء وجهان:

(5/167)


أحدهما: يحرم فيه الربّا؛ لأنه مطعوم.
والثاني: لا ربا فيه؛ لأنه غير متمول في العادة.
قال الطبري: ويحرم الربا في الزعفران؛ لأنه مطعوم.
وقال الصيمري: ويحرم الربا في اللبان؛ لأنه مطعوم. وفي الزنجبيل وحبّ الكتان وجهان، ولا ربا في العود والمصطكى؛ لأنهما غير مطعومين.
قال ابن الصبّاغ: ولا يحرم الربا في النوى؛ لأنه من طعام البهائم، فأشبه القرظ والقضب والحشيش.
ويحرم الربا في الطين الأرمنيّ؛ لأنه يخلط في الأدوية لأجل السفوف، ولا يحرم الربا في الطين الخراسانيّ؛ لأنه يؤكل سفهًا، ولهذا روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: " يا حميراءُ لا تأكلي الطين، فإنّه يصفر اللون» .
وفي ماء الورد وجهان، حكاهما الصيمري.

[فرعٌ: الربا في الأدهان]
] : وأما الأدهان: فعلى أربعة أضرب:
ضربٌ: يعد للأكل، كالزيت، ودهن الجوز واللوز، ودهن الحبّة والخضراء،

(5/168)


ودهن الفجل، ودهن الخردل، ودهن الصنوبر والشيرج، فهذا يحرم فيه الربا؛ لأنه مطعوم.
وقال أبو إسحاق: لا يجوز بيع الشيرج بعضه ببعض؛ لأنه فيه الماء والملح. وهذا ليس بشيء؛ لأنه لا ينزل معه.
والضرب الثاني: يراد للتداوي، كدهن اللوز المر، ودهن الخروع، فيجري فيها أيضا الربا؛ لأنها تؤكل للتداوي، فأشبه الهليلج والبليلج.
والضرب الثالث: ما يراد للطيب، مثل: دهن البنفسج، ودهن الورد والياسمين والبان والزنبق، ففيه وجهان:
أحدهما: لا ربا فيه؛ لأنه غير مأكول.
والثاني: فيه الربا، وهو الصحيح؛ لأنه مأكول، وإنما لم يؤكل؛ لأنه ينتفع به بما هو أكثر منه، فجرى مجرى الزعفران، ولأن أصله من السمسم؛ لأن الورد والبنفسج والبان يفرش تحت السمسم ليكسبه رائحته، فإذا جف ذلك.. فرش تحته شيء آخر منه إلا أن يكسبه الرائحة، ثم يعصر السمسم، فهو من السمسم، إلا أن رائحته رائحة هذه الأشجار.
فعلى هذا: لا يجوز بيع شيء من هذه الأدهان بالشيرج، ولا بيع نوع منها بنوع آخر متفاضلاً.
وقال أصحاب أبي حنيفة: يجوز بيع الدهن المطيب بعضه ببعض متفاضلاً إذا

(5/169)


اختلف طيبه، وإن كان أصله واحدا. وهذا ليس بصحيح؛ لأنها فروع لأصل واحد فيه الربا، فأشبه الأدقة.
والضرب الرابع: من الأدهان ما يراد للاستصباح، وهو البزر، ودهن السمك، ففيه وجهان:
أحدهما: يحرم فيه الربا؛ لأنه مأكول، وأصل البزر حب الكتان، وهو مأكول يطرح مع اللحم.
والثاني ـ ولم يذكر في " التعليق " غيره ـ: لا يحرم فيه الربا؛ لأنه ليس بمأكول قوتًا، ولا يتداوى به، وإنما يؤكل سفهًا، ويراد للاستصباح، فلم يحرم فيه الربا.

[مسألةٌ: ما لا يوجد فيه علة الربا]
] : وما سوى الذهب والفضة والمأكول والمشروب، لا يحرم فيه الربا، فيجوز بيع بعضه ببعض متفاضلا ونسيئة. ويجوز أن يشتري حيوانًا بحيوانين، سواء أريد بهما الذبح أو لم يرد.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز بيع الجنس الواحد بعضه ببعض إلى أجل، ولا إسلام أحدهما بالآخر، كالثوب بالثوب، والعبد بالعبد) .
وقال مالك (لا يجوز بيع حيوانٍ بحيوانين من جنسه، بصفقة يقصد بهما أمر واحد، إما الذبح، وإما غيره) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن يجهز جيشًا، فنفدت الإبل، فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة» .
وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه باع جملاً إلى أجل بعشرين بعيرًا) . و:

(5/170)


(باع ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بعيرًا، بأربعة أبعرة) .
ولأنه حيوان يجوز بيعه بغير جنسه، فجاز بيعه بجنسه نسيئة وإن تفاضلا، كما لو أريد أحدهما للذبح والآخر للقنية عند ملك.

[فرعٌ: ربا النسيئة]
ولا يجوز بيع نسيئة بنسيئة، بأن يقول: بعني ثوبًا في ذمتك من صفته كذا وكذا، إلى غرة شهر كذا بدينار في ذمتي مؤجل إلى يوم كذا؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الكالئ بالكالئ» . قال أبو عبيد: هو بيع النسيئة بالنسيئة،

(5/171)


يقال منه: كلأته كلاءة، أي: استنسأت نسيئة، و (النسيئة) : التأخير، قال الله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37] [التوبة: 37] . وهو تأخيرهم تحريم المحرم إلى صفر، ومنه قول الشاعر:
وعينه كالكالئ الضِّمار
يعني (بعينه) : حاضرة، يقول: فالحاضر من عطيته كالنسيئة. و (الضمار) : الغائب الذي لا يرجى.

[مسألةٌ: بيع متحد العلة]
وما يحرم فيه الربا لعلة واحدة، إذا أراد بيع بعضه ببعض.. فينظر فيه:
فإن كان ذهبًا أو فضة.. نظرت:
فإن أراد بيع الجنس بعضه ببعض، كالذهب بالذهب، والفضة بالفضة.. فلا يجوز بيعهما إلاَّ مثلاً بمثل، ولا يجوز التفرق قبل القبض، ولا يجوز إسلام أحدهما بالآخر، ولا بيع أحدهما بالآخر إلى أجل، وإليه ذهب ثلاثة عشر نفسًا من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وبه قال مالك، وأبو حنيفة.
وروي عن ابن عباس، وابن الزبير، وزيد بن أرقم، وأسامة بن زيد رضي الله

(5/172)


عنهم: أنهم قالوا: (يجوز بيع الجنس بجنسه متفاضلا، ولا يحرم الربا فيه إلا من جهة النَّساء لا غير) .
دليلنا: ما روي في حديث عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إلا مثلا بمثل» .
إذا ثبت هذا: فسواءٌ كانا مصوغين، أو غير مصوغين، أو كان أحدهما مصوغًا أو مضروبًا، والآخر تبرًا.. فإنه لا يجوز بيع الجنس بجنسه متفاضلاً.
وإن أراد بيع أحد الجنسين بالآخر، كبيع الذهب بالفضة.. جاز فيهما التفاضل، واشترط التقابض فيهما قبل التفرق. هذا مذهبنا، وبه قال أبو حنيفة.
وحكي عن مالك: أنه قال: (يجوز بيع المصوغ والمضروب بالتبر بقيمته من جنسه متفاضلا) . وأصحابه ينكرون ذلك عنه.
دليلنا: ما روى الشافعي، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار: (أن معاوية باع سقاية من ذهب أو ورق، بأكثر من وزنها، فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى عن مثل ذلك إلاَّ مثلاً بمثل، فقال معاوية: ما أرى بهذا بأسًا، فقال أبو الدرداء: من يعذرني من هذا؟ أخبره عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، ويخبرني عن رأيه! والله لا ساكنتك بأرض أنت فيها. ثم قدم أبو الدرداء على عمر أمير المؤمنين، فذكر ذلك له، فكتب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى معاوية: أن لا يبيع ذلك إلا وزنًا بوزن، مثلاً بمثل) .
وروى مجاهد قال: كنت مع ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فجاء صائغ، فقال: يا أبا عبد الرحمن إنِّي أصوغ الذهب، وأبيع الشيء من ذلك بأكثر من وزنه، فأستفضل من ذلك قدر عمل يدي، فنهاه ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن ذلك، فجعل الصائغ يردد

(5/173)


عليه المسألة، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ينهاه عن ذلك، حتى انتهى إلى المسجد، أو إلى دابته يريد أن يركبها، فقال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما، هذا عهد نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلينا، وعهدنا إليكم) .

[فرعٌ: الربا في الطعوم]
] : وأما ما يحرم فيه الربا من المطعومات: فإن باع الشيء بجنسه، كالحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير.. حرم فيه الربا من جهتين: من جهة التفاضل، ومن جهة النَّساء، إذ لا يجوز التفرق قبل القبض.
وإن باعه بغير جنسه من المطعومات، كالحنطة بالشعير.. جاز فيه التفاضل، ولكن لا يجوز أن يتفرّقا قبل القبض.
وقال أبو حنيفة: (يجوز أن يتفرّقا قبل القبض، ويجوز شرط خيار الثلاث فيه، سواء باع الحنطة بالحنطة، أو باع الحنطة بالشعير) .
دليلنا: ما روى عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينًا بعين، يدًا بيد، ولكن بيعوا الذهب بالورق، والبر بالشعير، والتمر بالملح، يدًا بيد، كيف شئتم» . فأجاز بيع الطعام بالطعام، بالشرط الذي أجاز به بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، فلمّا

(5/174)


كان من شرط بيع الذهب بالذهب، والذهب بالورق القبض في المجلس، فكذلك في بيع الطعام بالطعام.
وروى عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء» .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إلا هاء وهاء» يحتمل معنيين:
أحدهما: أن يأخذ بيد، ويعطي بالأخرى.
والثاني: أن لا يفترق المتبايعان من مكانيهما حتى يتقابضا) .
وروي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لطلحة بن عبيد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقد صارف مالك بن أوس، وأراد طلحة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يؤخر القبض عن المجلس، فقال له عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (لا تفارقه حتى تعطيه ورقه، أو ترد إليه ذهبه) .
وإذا كان هذا تفسيرًا منه للخبر، وهو الراوي له.. دلّ على أن المراد به هذا.
إذا ثبت ما ذكرناه: فإن تخايرا قبل التقابض.. بطل الصرف؛ لأن التخاير يقوم مقام التفرق في بطلان خيار المجلس، فقام مقامه في بطلان الصرف قبل القبض، ولو

(5/175)


وكل من يقبض له، فقبض له الوكيل قبل تفرّق المتبايعين.. صح. ولو قام الموكل قبل أن يقبض الوكيل.. بطل.

[فرعٌ: في الصرف]
قال الشافعي في (الصرف) : وإذا تصارفا.. فلا بأس أن يطول مقامهما في مجلسهما، ولا بأس أن يصطحبا من مجلسهما إلى غيره ليوفِّيه؛ لأنهما لم يتفرّقا) .
قال ابن الصباغ: فإن تعذر عليهما التقابض في المجلس، وأرادا أن يتفرقا.. فإنه يلزمهما أن يتفاسخا العقد بينهما، فإن تفرقا قبل ذلك.. كان ربا، وجرى مجرى بيع أموال الربا بعضها ببعض نسيئة، ولا يغني تفرقهما؛ لأن فساد العقد إنما يكون له شرعًا، كما أن العقد مع التفاضل فاسدٌ، ويأثمان به.
وإن قبض كل واحد منهما بعض ما صارف به، ثم تفرقا.. بطل الصرف في قدر ما لم يتقابضا فيه، وهل يبطل الصرف في قدر ما اتفق قبضهما فيه؟ فيه طريقان، بناء على من اشترى عبدين، فتلف أحدهما قبل القبض.

[فرعٌ: بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة]
وإذا باع ذهبًا بذهب، أو ورقًا بورق.. نظرت:
فإن كانا خالصين، لا غش في واحد منهما.. جاز البيع مثلا بمثل، سواء كانا جيِّدين أو رديئين، أو كان أحدهما جيدا من جهة الجنس أو من جهة السكة، والآخر رديئًا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما» . ولم يفرق.

(5/176)


ويجوز أن يبيع منهما ذهبًا بورق على ما مضى.
وإن كان فيهما غش أو في أحدهما.. نظرت: فإن كان الغش فيهما غير مستهلك، وهي الدراهم التي غشها له قيمة، كالتي تغش بالصفر والنحاس.. فإنه لا يجوز بيع بعضها ببعض بلا خلاف على المذهب. واختلف أصحابنا في علته:
فقال أكثرهم: لا يجوز؛ لأنه بيع فضة وعرض، بفضة وعرض.
ومنهم من قال: لا يجوز لهذا المعنى، ولأن المقصود منها الفضة، وهي غير متميزة عمّا ليس بمقصود منها، فلم يصح، كما لا يصح بيع اللبن المشوب بالماء، فإن أراد أن يشتري بهذه الدراهم ثوبًا أو عرضًا، فعلى قول من قال: العلة فيه: أنه فضة وعرض، بفضة وعرض.. يجوز. وعلى قول من قال: العلة فيه: أن المقصود غير متميز.. لا يجوز.
وأما إذا أراد أن يشتري بهذه الفضة ذهبًا، فمن قال من أًصحابنا: لا يصح أن يشتري بها عرضا.. فالذهب أولى أن لا يصح شراؤه بها. ومن قال: يجوز شراء العروض بها.. فهل يصح شراء الذهب بها؟ فيه قولان؛ لأنه بيع وصرف.
وأما الدنانير التي غشها الفضة: فلا يصح شراء الذهب بها، ولا شراء الفضة بها، وجهًا واحدًا. وهل يصح شراء العرض بها؟ فيه وجهان، الصحيح: أنه يجوز؛ لما ذكرناه.
وأما إذا كان الغش مستهلكًا، وهي الدراهم التي غشها الزرنيخ والنُّورة؛ لأنها إذا صفيت لم يكن لغشها قيمة.. فلا يصح بيع بعضها ببعض؛ لأن الغش إن كان فيهما.. فلأنه لا يعلم التساوي بين الغشين، ولا بين الفضتين. وإن كان الغش في أحدهما؛ فلأنه لا يعلم التساوي بين الفضتين.
ويجوز شراء السلع والذهب بها، وجهًا واحدًا؛ لأن هذا الغش لا يختلط بالفضة، وإنما الفضة مطليّة عليه.

(5/177)


[مسألة: البيع بدينار معين]
إذا قال: بعني هذا الدينار بهذا الدينار، أو هذه السلعة بهذا الدينار.. صح البيع، وتعين تسليم ذلك الدينار المعين، فلو أراد إبداله بغيره.. لم يكن له ذلك، وإن تلف ذلك الدينار المعين قبل القبض.. بطل البيع.
وقال أبو حنيفة: (لا تتعين الدنانير والدراهم بالعقد، وإنما يتعينان بالقبض، فإذا اشترى منه بدنانير أو دراهم بأعيانها.. فللمشتري أن يدفع إليه غيرها من مثلها، وإن تلفت قبل القبض.. لم يبطل البيع، بل على المشتري تسليم مثلها) .
دليلنا: ما روى عبادةُ بن الصامت: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينا بعين» . فذكر التعيين، فلولا أنهما يتعينان بالعقد.. لم يكن لذكره فائدة؛ ولأنه ذكر الذهب والورق والبر والشعير والتمر والملح، ثم شرط التعيين فيها على حد واحد، فلما كان البر والشعير والتمر والملح يتعين بالعقد، فكذلك الذهب والورق، ولأنه عوض مشار إليه، فتعين بالعقد كسائر الأعواض.
إذا ثبت هذا: فإن تصارفا دنانير بدنانير، أو دراهم بدراهم، أو دنانير بدراهم، بأعيانها، ثم وجد أحدهما بما صار إليه عيبا، إما قبل التفرق أو بعده:
فإن كان العيب من غير جنسها، مثل: أن يخرج رصاصًا أو نحاسًا.. ففيه وجهان، كمن اشترى بغلا، فخرج حمارًا:
[الأول]ـ الصحيح ـ: أنه باطل.
والثاني: أنه صحيحٌ، ويثبت له الخيار.
وإن كان العيب من جنسه، مثل: أن خرجت السكة مضطربة، أو خشنة الأصل، فإن وجد العيب في الجميع.. فهو بالخيار: بين أن يرد المعيب، ويسترجع ما دفع، وبين أن يرضى بالمعيب، وليس له مطالبته ببدله سليمًا؛ لأن العقد وقع على عينه،

(5/178)


فلم يكن له المطالبة ببدله، كما لو اشترى عبدًا، فوجده معيبًا. وإن وجد العيب في البعض.. نظرت:
فإن كان البيع وقع في دراهم بدنانير.. فهو بالخيار: بين أن يرضى بالمعيب، وبين أن يرد الكل، ويسترجع ما دفع في مقابله. وإن أراد أن يرد المعيب لا غير.. ففيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة:
فإن قلنا: لا تفرق الصفقة.. لم يكن له ذلك.
وإن قلنا: تفرق.. فله أن يمسك السليم، ويرد المعيب، ويسترجع ما يخصه من الثمن.
فإن أراد أن يرد المعيب، ويمسك السليم بكل الثمن.. قال الشيخ أبو حامد: لم يجز؛ لأنه سفه؛ لأنه كان يمكنه أن يمسك المعيب والسليم بكل الثمن، أو يردهما، فلا يجوز أن يمسك السليم وحده بكل الثمن.
وإن وقع البيع على دراهم بدراهم بأعيانها، أو دنانير بدنانير بأعيانها، فوجد أحدهما ببعض ما صار إليه عيبًا.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول الشيخ أبي حامد، وغيره من أصحابنا ـ: أنها كالمسألة قبلها في الجنسين.
والثاني ـ وهو قول ابن الصبّاغ ـ: أن البيع باطل؛ لأن ذلك يؤدي إلى التفاضل؛ لأنه بالمعيب يأخذ من الثمن أقل مما يأخذ بالسليم، فيكون الباقي متفاضلاً، كمد عجوة ودرهم، بمدَّي عجوة.

[فرعٌ: التصارف بالذمة]
] : فأما إذا تصارفا بدراهم أو دنانير في الذمة، مثل: أن كانا في بلد فيه نقد غالب، فقال: بعني دينارًا بدينار.. فإن الإطلاق ينصرف إلى نقد البلد الغالب. وإن كانا في بلد فيه نقود ليس بعضها أغلب من بعض.. فلا يصح ثبوته في الذمة إلا بأن يصفه بما يتميز به عن غيره، ولا يلزم الصرف بينهما حتى يتقابضا قبل التفرق، فإذا تقابضا، ثم

(5/179)


وجد أحدهما بما صار إليه عيبًا، فإن وجده قبل التفرق.. فله أن يطالبه بالبدل، سواء كان العيب من جنسه، أو من غير جنسه؛ لأن العقد وقع على مطلق لا عيب فيه. وإن وجد العيب بعد التفرق، فإن كان العيب من غير جنسه، بأن وجدها رصاصًا أو نحاسًا.. نظرت:
فإن وجد ذلك في الكل.. بطل العقد؛ لأن التفرق وجد قبل القبض.
وإن وجد ذلك في البعض.. بطل في العقد، وهل يبطل في السليم؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة.
فإذا قلنا: يبطل في السليم.. فلا كلام.
وإذا قلنا: لا يبطل.. فهو بالخيار: بين أن يفسخ العقد ويسترجع ما دفع، وبين أن يمسكه بحصته مما دفع.
وإن وجد العيب من جنسه، بأن خرج النقد مضطرب السكة، أو رديء النوع، فإن وجد العيب بالكل.. فهل له أن يرده، ويطالب بالبدل؟ فيه قولان:
أحدهما: ليس له المطالبة بالبدل، ولكنه بالخيار: بين أن يمسك المعيب، وبين أن يرده ويأخذ ما دفع، وهو اختيار المزني؛ لأنا لو جوّزنا له المطالبة بالبدل.. لأدّى إلى جواز القبض في الصرف بعد التفرق.
والثاني: له المطالبة بالبدل، وبه قال أبو يوسف، ومحمد؛ لأن ما جاز له إبداله قبل التفرق.. جاز بعده، كالمسلم فيه.
وإن وجد العيب بالبعض، فإن قلنا: له أن يستبدل إذا وجد العيب بالجميع.. فله أن يستبدل هاهنا بالمعيب، وليس له رد السليم. وإن قلنا: إذا وجد العيب بالجميع ليس له أن يستبدل.. فهاهنا يكون بالخيار: بين رد السليم والمعيب واسترجاع ما دفع، وبين أن يقر العقد ويرضى بالمعيب.

(5/180)


فإن أراد إمساك السليم ورد المعيب.. ففيه قولان بناء على القولين في تفريق الصفقة.
فإن بان له العيب بعد القبض والتفرق، وقد تلف المعيب في يده، فإن كان الصرف في الجنس بمثله.. لم يكن له الرجوع بالأرش؛ لأن ذلك يؤدي إلى التفاضل في البيع، ولكن يفسخ البيع، ويرد مثل الذي قبض إن كان له مثل، أو قيمته إن لم يكن له مثل، ويسترجع ما دفع. وإن كان الصرف في جنس بجنس آخر.. كان له الرجوع بالأرش؛ لأن ذلك لا يؤدي إلى التفاضل.

[فرعٌ: تماثل الوزن في النقدين]
ولا يجوز أن يشتري شيئًا من الذهب والفضة بجنسهما إلا بمثله وزنًا؛ لأنهما موزونان.
قال الشافعي في (الصرف) : (إذا اشترى دينارًا بدينارٍ، وتقابضا، ومضى كل واحدٍ منهما يستعير الدينار الذي قبضه بالوزن.. جاز، وهذا يقتضي أن يكون كل واحد منهما قد عرف وزن الدينار، وصدقه الآخر، وتقابضا على ذلك، وأما إذا جهل وزن الدينار.. لم يجز البيع. فإن وزن أحدهما الدينار الذي أخذه، فنقص.. بطل الصرف؛ لأنه وقع العقد على عوضين متفاضلين) .

[فرعٌ: صارف من له عند وديعة]
قال في (الصرف) : (فإن كان له عند رجلٍ ديناران وديعةً، فصارفه فيهما، ولم يقر الذي عنده الديناران أنه استهلكهما حتى يكون ضامنًا لهما، ولا أنّهما في يده حين صارفه.. فلا خير في الصرف؛ لأنه غير مضمون ولا حاضر، ويجوز أن يكون قد هلك في ذلك الوقت، فبطل الصرف) .
قال أصحابنا: هذا إذا كان لا يعلم بقاؤهما، فأما إذا علم بقاؤهما.. جاز البيع.
قال الصيدلاني: وهل يحتاج في قبض الوديعة إلى مضي مدة لتكون مقبوضة؟ فيه وجهان.

(5/181)


[فرعٌ: شراء دراهم مكسرة بصحاح]
إذا كان مع رجل دراهم صحاح، يريد أن يشتري بها مكسرة من جنسها، أكثر وزنًا منها.. لم يجز. فإن باع الصحاح بذهب، ثم قبضه، ثم اشترى بالذهب مكسرة أكثر وزنًا من الصحاح.. جاز ذلك، سواءٌ كان ذلك عادة له أو لم يكن له عادة، وبه قال أبو حنيفة.
وحكي عن مالك: أنه قال: (إن فعل ذلك مرة.. جاز، وإن تكرر ذلك منه.. لم يجز) .
دليلنا: ما روى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعمل رجلاً على خيبر، فجاءه بتمر جنيب، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أكل تمر خيبر هكذا؟ " قال: لا والله يا رسول الله، إلا أنا نأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، وابتع بالدراهم جنيبًا» . والجمع من التمر: كل لون لا يعرف اسمه. إذا ثبت هذا: فإن باع الصحاح بالذهب وتقابضا، ثم تفرقا، ثم عاد فاشترى بالذهب مكسرة.. جاز. وكذلك إن تخايرا في البيع الأول، ثم تبايعها. فأما إذا تبايعا قبل التفرق والتخاير: ففيه وجهان:

(5/182)


[أحدهما]ـ قال ابن سريج ـ: يصح؛ لأن دخولهما في العقد الثاني رضًا بإمضاء الأول، فلزم الأول، وصح الثاني.
والوجه الثاني ـ ذكره ابن القفال في " التقريب " ـ: أنه لا يصح البيع الثاني إلا على القول الذي يقول: الخيار لا يمنع انتقال الملك، فأما إذا قلنا: يمنع.. لم يصح. والأول أصح. فإن اختار أن يقرضه الصحاح، ويقترض منه المكسرة بقيمتها، ثم يبرئ كل واحد منهما صاحبه.. جاز، وكذلك لو وهب كل واحد منهما صاحبه.. صح.
وإن باعه الصحاح بوزنها من المكسرة، ثم وهب له الزائد من المكسرة من غير شرط، ولا جمع بينهما في العقد.. جاز.
قال ابن الصباغ: إلا أن ذلك يكره عندي؛ لأن كل ما لا يجوز شرطه في العقد، أو التصريح به، إذا دخل عليه.. كان مكروهًا.

[فرعٌ: حيلة في الصرافة للتخلص من الربا]
] : ذكر ابن الصباغ: إذا كان مع رجل دينارٌ يساوي عشرين درهمًا، ومع آخر عشرة دراهم، وأراد أن يشتري الدينار بعشرين درهمًا.. فإنه يشتري نصفه بعشرة دراهم، ويتقابضان، فيقبض الدينار، ويكون نصفه له، ونصفه أمانة بيده، ويسلم إليه الدراهم، ثم يستقرضها، فيكون في ذمته مثلها، ثم يبتاع بها النصف الآخر الذي في يده، فيحصل له الدينار وعليه عشرة دراهم قرضًا، فإن لم يفعل هكذا، ولكنه اشترى الدينار بعشرين درهمًا، وقبضه وسلّم العشرة التي معه، ثم استقرضها وسلّمها عن العشرة الأخرى.. فهل يجوز؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن القرض يملك بالتصرف، وهذه الدراهم لم يتصرف فيها، وإنما ردّها إليه بحالها، فكان ذلك فسخًا للقرض.

(5/183)


والثاني: يجوز، وهو الأصح؛ لأن هذه الدراهم دفعها قضاء عمّا عليه من الدين، وذلك تصرف، كما إذا اشترى بها النصف الآخر من الدينار.. فإنه يجوز، ويكون صرفا، فكذلك هاهنا.
وإن كان معه تسعة عشر درهما، فأراد أن يشتري دينارًا بعشرين درهمًا.. فعلى ما ذكرناه من الاقتراض، فإن اشترى الدينار بعشرين درهما، وسلّم تسعة عشر درهمًا، وأقبضه الدينار، فإنه فارقه قبل تسليم الدرهم الآخر.. قال ابن الصبّاغ: بطل العقد في نصف الدينار.
والذي يتبين لي: أنه يبطل البيع في جزء من عشرين جزءًا من الدينار بحصة ما لم يقبض من الدراهم. وهل يبطل في الباقي؟ فيه قولان.
فإن أراد الخلاص من ذلك.. تفاسخا العقد قبل التفرق، ثم تبايعا تسعة عشر جزءًا من عشرين جزءًا من الدينار، بتسعة عشر درهمًا، وسلّم الدينار إليه؛ ليكون الجزء له من الدينار.

[فرعٌ: ردُّه دنانير أوزن]
إذا كان لرجل على رجل آخر عشرة دنانير، فأعطاه عشرة دنانير عددًا، فوزنها، فكانت أحد عشرة دينارًا.. قال ابن الصبّاغ: كان الدينار الباقي عن دينه المقبوض مشاعًا، ويكون مضمونًا على القابض؛ لأنه قبضه على أن يكون بدلاً عن دينه، وما قبضه على سبيل المعاوضة يكون مضمونًا عليه، فإن شاء مالكه.. طالبه بالدينار، وإن شاء.. أخذ عوضه دراهم، وقبضها قبل التفرق، وإن شاء.. أخذ عنه عينًا، وإن شاء.. أسلمه إليه في موصوف.

(5/184)


وإن كان له عند صيرفي دينار واحد، فأخذ منه دراهم ولم يتبايعا.. كان الدينار له والدراهم عليه، فإن تبارآ.. جاز.
وإن اشترى رجل من آخر عشرين درهمًا نقرة بدينار، فقال له رجل: ولِّني نصفها بنصف الثمن.. قال ابن الصباغ: صح، والتولية بيع.
وإن قال رجل لرجل اشتر عشرين درهمًا نقرة بدينار لنفسك، وولِّني نصفها بنصف دينار.. لم يصح؛ لأن التولية بيع، ولا يصح البيع من الغائب.
وإن قال لصائغ: صغ لي خاتما من فضة، فيه درهم، لأعطيك درهمًا وأجرتك، فصاغه.. فإن هذا ليس بشراء، والخاتم للصائغ؛ لأنه اشترى فضة مجهولة بفضة مجهولة، وتفرقا قبل التقابض، وشرط العمل أيضًا، وذلك كله مفسد للعقد، وله بعد هذا أن يبتاعه بغير جنسه، أو بمثل وزنه من جنسه.

[فرعٌ: حرمة الربا بين مسلم وحربي]
] : ويحرم الرّبا في دار الحرب بين المسلم والحربي، كما يحرم بين المسلمين في دار الإسلام، وبه قال مالك، وأحمد، وأبو يوسف.
وقال أبو حنيفة: (يجوز أن يبيع المسلم من الحربي درهمًا بدرهمين، ودرهمين بدرهم، وكذلك إذا أسلم رجلان في دار الحرب.. لم يحرم عليهما الربا في دار الحرب) .
دليلنا: عموم الأخبار عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تحريم الربا؛ ولأن ما كان ربا في دار الإسلام.. كان ربا في دار الحرب، كالربا بين المسلمين في دار الإسلام.

[مسألةٌ: ما يعتبر جنسًا واحدًا]
] : قد ذكرنا: أن الجنس الواحد من أموال الربا يحرم فيه التفاضل والنّساء.
إذا ثبت هذا: فإن كل شيئين اتّفقا في الاسم الخاص من أصل الخلقة، فهما جنس واحد، كالتمر البرني والتمر المعقلي، والذرة الشريحي والذرة البيضاء. وكل

(5/185)


شيئين اختلفا في الاسم الخاصّ من أصل الخلقة، كالتمر والزبيب، والذرة والحنطة والشعير، فهما جنسان يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلاً، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك، وحمّاد، واللّيث: (الحنطة والشعير جنس واحد، لا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلاً) .
دليلنا: ما روي من حديث عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ولكن بيعوا البر بالشعير، يدًا بيد، كيف شئتم» .
ولأنهما عينان لا يشتركان في الاسم الخاص، فكانا جنسين، كالحنطة والذرة والدخن. فقولنا: (في الاسم الخاص) احترازٌ من الاسم العامّ؛ لأنهما مطعومان، ويجعهما اسم الحب أيضًا.

[فرعٌ: اعتبار الأصل الربوي]
وأمّا ما اتخذ من أموال الربا، كالدقيق والخبز والعصير والخلول والأدهان.. ففيها طريقان:
[الأول] : ـ المشهور من المذهب ـ أنها معتبرة بأصولها، فإن كانت أصولها أجناسًا.. فهي أجناس.
فعلى هذا: دقيق الحنطة ودقيق الشعير جنسان، وخبز البر وخبز الشعير جنسان، وكذلك العصير والخل والدهن.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: هذا، وهو الصحيح.

(5/186)


والثاني: أنّ الأدقة كلّها جنس واحد، وكذلك الأخبار كلها جنس واحد، والأعصار كلها جنس واحد، وكذلك الخلول والأدهان. وليس بشيء؛ لأنها فروع لأصول هي أجناس حرم فيها الربا، فكان أجناسًا، كأصولها.
فإذا قلنا بهذا: ففي زيت الزيتون وزيت الفجل قولان:
أحدهما: أنها جنس واحد؛ لأن اسم الزيت يجمعهما.
والثاني: أنهما جنسان، وهو الصحيح؛ لأنهما فرعان لأصلين مختلفين؛ لأن الزيت إنما سمِّي: زيتًا؛ لأنه متخذ من الزيتون، وزيت الفجل يخالفه في اللون والطعم والرائحة، وإنما سمي: زيتًا؛ لأنه يصلح لبعض ما يصلح له الزيت، وبهذا القدر لا يكونان جنسًا واحدًا.

[فرعٌ: بيع أنواع العسل متفاضلاً]
قال الشافعي: (ويجوز بيع عسل الطبرزد وعسل القصب، بعسل النحل متفاضلاً) ؛ لأنهما جنسان مختلفان؛ ولأن إطلاق العسل إنما ينصرف إلى عسل النحل. وإنما سمي عسل الطبرزد وعسل القصب: عسلا؛ لحلاوته، فيقال: رجل معسول: إذا كان طيب الكلام، وامرأة معسولة الوجه: إذا كان حسنًا، ومنه قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمرأة: «حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» ، وأراد به: الجماع الذي يقع به الالتذاذ، مأخوذٌ من العسل.

(5/187)


ولا يجوز بيع عسل الطبرزد، بعسل القصب متفاضلاً؛ لأن أصلهما من القصب، وهل يجوز بيع أحدهما بالآخر متماثلاً، أو بيع بعضه ببعض؟ فيه وجهان، كالسكر، ويأتي ذكرهما إن شاء الله تعالى.
وأما الخضراوات، مثل: الرمان والسفرجل والبقول: إذا قلنا: يحرم فيها الربا.. فهي أجناسٌ، فالسفرجل جنس، والرمان جنس، والهندباء جنس، والنعناع جنس، والجرير جنس، يجوز بيع جنس منها، بجنس آخر متفاضلاً.

[فرعٌ: بيع اللحمان متفاضلاً]
وأما اللُّحمان: ففيها قولان:
أحدهما: أن الجميع جنس واحد؛ لأنه يشملها اسم خاص حين حدث فيه الربا، فكان جنسًا، كأنواع التمر، وأنواع العنب.
فقولنا: (اسم خاص) احترازٌ من الثمرة، فإنه اسمٌ لجميع الثمار كلها من العنب والرطب، وكذلك أنواع الحبوب.
وقولنا: (حين حدث فيها الربا) احترازٌ من الأخباز والأدمة؛ لأنها أجناس،

(5/188)


ولكن لم يجمعها اسم خاص حين حدث فيها الربا؛ لأن الربا كان ثابتًا في أصولها.
فعلى هذا: يكون لحم جميع الأنعام على اختلاف أجناسها، ولحم جميع الصيود البرية جنسًا واحدًا، وهل يدخل فيها لحم السمك؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو اختيار أبي إسحاق المروزي، والقاضي أبي الطيب، وابن الصبّاغ ـ: أنه يدخل فيها؛ لأنه يقع عليه اسم اللحم. ولهذا قال الله تعالى: {تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} [فاطر: 12] [فاطر: 12] .
والثاني ـ وهو اختيار أبي علي الطبري، والشيخ أبي حامد ـ: أنه لا يدخل في جملتها، بل هو جنس وحده؛ لأنه لا يدخل في إطلاق اسم اللحم، وإنما يسمى سمكًا حيًا وميتًا، ولو قال قائل: أكلت لحم السمك.. كان تعسُّفًا في الكلام، وإنما سماه الله تعالى: لحمًا؛ بالإضافة إلى البحر.
والقول الثاني: أن اللحمان أجناس، وهو اختيار المزني، وبه قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو الصحيح؛ لأنها فروع لأصول هي أجناس، فكانت أجناسًا، كالأدقة والأدهان.
فعلى هذا: لحوم الإبل كلها جنس واحد، على اختلاف أنواعها، وكذلك لحم البقر الأهلي، جواميسها وعرابها جنس واحد، ولحم بقر الوحش جنس غيرها، ولحم الضأن والمعز جنس واحد، ولحم الظباء جنس غيرها، وكذلك الطيور والصيود، كل صنف منها جنس، فالعصافير جنس، والوعول جنس، والأرانب جنس، والحمير جنس، والحمام جنس، والفواخت جنس، والقماري جنس.

(5/189)


وقال الربيع: كل ما عب وهدر جنس واحد. وليس بشيء؛ لأن ما انفرد باسم وصفة.. كان جنسًا.
وأما صيد البحر على هذا القول: فقال المسعودي [في " الإبانة " [ق\219] : فإن قلنا: إن الجميع من صيد البحر يسمى: حوتًا، حتّى يحل أكل كلبه وخنزيره.. فالجميع جنس واحد. إن قلنا: لا يسمى: حوتًا، فهو كصيود البر، أجناسٌ وهذا هو الصحيح.

[فرعٌ: أنواع اللحم]
اللحم الأحمر واللحم الأبيض جنس، والألية جنس، والشحم جنس، والكبد جنس، والطحال جنس، والكلية جنس، وكل واحد من هذه الأجناس يجوز بيعه بالجنس الآخر منها متفاضلاً؛ لأنها مختلفة الأسماء والخلق.

[فرعٌ: أنواع الألبان والبيض]
وأما الألبان: فاختلف أصحابنا فيها:
فمنهم من قال: هي على قولين، كاللحمان.
ومنهم من قال: هي أجناس، قولاً واحدًا؛ لأنها تتولد من الحيوان، والحيوان أجناسٌ. والأول أصح. وأمّا البيض: فإن قلنا: إن اللحمان أجناس.. فالبيض أجناس. وإن قلنا: اللحمان جنس واحد.. ففي البيض وجهان، حكاهما الصيمري، أصحهما: أنها أجناس.

(5/190)


[مسألة: بيع الجنس متفاضلا]
وما حرم فيه التفاضل.. لا يجوز بيع بعضه ببعض حتى يتساويا في الوزن فيما يوزن، والكيل فيما يكال.
وقال بعض الناس: يجوز بيع ما يكال بعضه ببعض حتى يتساويا بالوزن فيما يوزن وزنًا.
وقال مالك: (يجوز بيع ما يكال في البادية دون الحضر بالحزر والتخمين) . ووافقنا في الموزونات: أنه لا يجوز.
دليلنا: ما روى جابرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الصبرة بالصبرة لا يدرى مكيلها» .
وروى عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الذهب بالذهب، تبره وعينه، وزنًا بوزن، والفضة بالفضة، تبرها وعينها، وزنًا بوزن، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، كيلا بكيل، فمن زاد أو استزاد.. فقد أربى» . ولم يفرق بين البادية والحضر.
و (التبر من الذهب والفضة) : كل ما لم يطبع، والعين منهما ما طبع.
ولأنه مطعوم فقد فيه الكيل في الطرفين، فلم يصح، كما لو كان في الحضر، وفيه احترازٌ من العرايا، فإن الكيل فقد فيها في أحد الطرفين.

(5/191)


[فرعٌ: بيع الصبرة بالصبرة جزافًا]
وإن تبايعا صبرة طعام بصبرة طعام، وهما لا يعلمان كليهما.. لم يصح البيع؛ لما روى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الصبرة من الطعام بالصبرة من الطعام» . ولأنهما مجهولتان عندهما حال العقد.
قال المسعودي [في " الإبانة " [ق\225] : وإن باع صاع حنطة في ذمته، بصاع حنطة في ذمته، فإن كان في البلد أجناس من الحنطة.. لم يصح البيع؛ لأن المعقود عليه مجهول. وإن كان في البلد جنس واحد من الحنطة.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ قال: وهو الأقيس ـ: إن الإطلاق ينصرف إلى ذلك الجنس، ويشترط فيه التقابض قبل التفرق، كما قلنا في النقد.
ومثل هذا حكى الشيخ أبو حامد، عن أبي إسحاق: إذا كان في بلد يصنع أهلها جنسًا من الثياب لا يخلطها غيرها، والبيع والشراء بها، فاشترى منه ثوبًا في ذمته مطلقًا.. فإن الإطلاق ينصرف إلى ذلك الجنس.
والوجه الثاني: لا يصح؛ لأن الحنطة تختلف أنواعها، بخلاف النقد.
وإن قال: بعتك هذه الصبرة بهذه الصبرة مثلا بمثل، أو كيلا بكيل، أو قفيزًا بقفيز، وهما جنس واحد، فإن كيلتا قبل التفرق، فخرجتا متساويتين.. صحَّ البيع؛ لأن التساوي كان موجودًا حال العقد. وإن خرجتا متفاضلتين.. ففيه قولان:
أحدهما: أن البيع باطل، وهو اختيار الشافعي؛ لأنه بيع جنس مطعوم بجنسه متفاضلاً.
والثاني: يصح البيع في القدر الذي تساويا فيه: لأنهما قد شرطا التساوي.
فعلى هذا: يكون الذي نقصت صبرته التي باع بالخيار: بين أن يفسخ البيع؛ لأنه دخل في البيع ليأخذ هذه الصبرة بهذه، وبين أن يقر البيع، ويأخذ بإزاء صبرته الناقصة من صبرة الآخر.
وإن تقابضا الصبرتين جزافًا، ثم تفرقا.. ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\231] :

(5/192)


أحدهما: أن البيع يبطل لوجود التفرق قبل القبض الصحيح.
والثاني: يصح؛ لوجود القبض مشاهدة.
وإن باعه صبرة حنطة بصبرة شعير، ولم يشرطا الكيل.. صح البيع، ويشترط فيهما القبض قبل التفرق، وسواء خرجتا متساويتين أو متفاضلتين، فإنه يجوز؛ لأن المفاضلة بينهما تجوز.
وإن شرطا المساواة فيهما، فإن كيلتا فخرجتا متساويتين.. صح البيع، وإن خرجتا متفاضلتين، فإن رضي من خرجت صبرته التي باع زائدة، بتسليم جميعها.. أقر العقد، ووجب على الآخر قبوله؛ لأنه ملكه بالعقد، وإن لم يرض بذلك، ولكن رضي من خرجت صبرته ناقصة، بأن يأخذ بإزاء صبرته من الزائدة.. أقر العقد. وإن تشاحّا.. فسخ العقد بينهما؛ لأن كل واحد منهما باع صبرته بجميع صبرة الآخر على التساوي، وقد تعذر ذلك، ففسخ العقد بينهما.

[مسألة: اعتبار الكيل والميزان]
قد ذكرنا: أنه لا يجوز بيع الجنس الواحد بعضه ببعض إلا متماثلاً بالوزن فيما يوزن، وبالكيل فيما يكال، والاعتبار في ذلك فيما كان مكيلا أو موزونًا بمكة والمدينة ومخاليفهما في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المكيال مكيال أهل المدينة، والميزان ميزان أهل مكة» .

(5/193)


قال أبو عبيد: وقد روي: «المكيال مكيال أهل مكة، والميزان ميزان أهل المدينة» . والأول أشهر، ولم يرد: أنه لا مكيال إلا مكيال أهل مكة، ولا ميزان إلا ميزان أهل المدينة، وإنما أراد: أن الاعتبار بما يكال ويوزن بهما.
إذا ثبت هذا: فإن الذهب والورق موزونان، والأربعة الأعيان الأخرى: وهي الحنطة والشعير والملح والتمر مكيلة؛ لما روي في حديث عبادة بن الصامت: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الذهب بالذهب، وزنا بوزن، والفضة بالفضة، وزنا بوزن، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، كيلا بكيل» . وهذا نص.
قال الشاشي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فإن كان الملح قطعا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يباع بعضه ببعض وزنًا، لأنه لا يمكن كيله.
والثاني: يسحق، ويباع بعضه ببعض كيلا، لأن أصله الكيل.
وأما غير هذه الأعيان المنصوص عليها في الربا: فنعتبر بعرف الحجاز فيها في عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لما ذكرناه من الخبر، ولأنها مقر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ودار هجرته.
قال الشيخ أبو حامد: فأما ما حدث من المطعومات بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو ما كان منها على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يكن بأرض الحجاز.. ففيه وجهان:
أحدهما: يعتبر بأشبه الأشياء به في الحجاز في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن كان ما يشبهه مكيلا.. لم يجز بيع بعضه ببعض إلا كيلاً، وإن كان ما يشبهه موزونًا.. لم يجز بيع بعضه ببعض إلا وزنًا، كما قلنا في جزاء الصيد: يعتبر ما لم يحكم فيه الصحابة بأشبه الأشياء به مما حكمت به الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وكذلك ما استطابته العرب..

(5/194)


حل، وما استخبثته حرم.. وما أشكل.. رجع فيه إلى أشبه الأشياء به مما استطابته العرب أو مما استخبثته.
والثاني: يعتبر فيه عادة سائر البلاد، فإن كان مكيلا.. لم يبع إلا كيلا، وإن كان موزونًا.. لم يبع إلا وزنًا؛ لأن الشيء إذا لم يكن بد فيه من حد، وما لم يكن محدودًا في الشرع.. رجع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم، كما قلنا في القبض وإحياء الموات والحرز. فإن اختلف البلاد في كيل ذلك الشيء ووزنه.. اعتبر حكم الغالب فيه. وإن كان مكيلا في بلاد، وموزونًا في بلاد، وليس بعضها بأكثر من بعض.. قال ابن الصباغ: فينبغي أن يعتبر ذلك الشيء بأشبه الأشياء به. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ هذا الوجه: أنه يعتبر عرف البلاد فيه.
وأما الشيخ أبو إسحاق: فذكر في " المهذب ": أنه يعتبر البلد الذي فيه البيع ولم يعتبر غيره.
وإن كان من المطعومات مما لا يكال ولا يوزن.
فإن قلنا بقوله القديم: (وأنه لا يحرم فيه الربا) .. فلا كلام.
وإن قلنا بقوله الجديد: (وأنه يحرم فيه الربا) ، فإن أراد بيع الجنس منه بجنس آخر.. جاز بيعه رطبًا ويابسًا، ولا يعتبر فيه كيلٌ ولا وزنٌ؛ لأن الفضل يجوز في بيعه. وإن أراد بيع الجنس منه بجنسه، فإن كان مما ييبس وتبقى منفعته يابسًا، كالخوخ والمشمش والتفاح الجاف وحب الرمان.. جاز بيع بعضه ببعض بعد الجفاف متماثلاً. وإن أراد بيع بعضه ببعض رطبًا.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن كل ما فيه الربا لا يجوز بيع بعضه ببعض رطبًا كالرُّطب.

(5/195)


والثاني: يجوز؛ لأن معظم منفعة هذه الأشياء في حال رطوبتها، فجاز بيع بعضها ببعض رطبا، كاللبن.
فإذا قلنا بهذا: فإن كان المبيع لا يمكن كيله، كالقثاء، والبطيخ، والخيار، وما أشبه ذلك.. بيع وزنًا؛ لأنه أخضر. وإن كان يمكنه كيله، مثل: التفاح، والخوخ الصغار، والتين، وحب الرمان.. ففيه وجهان:
أحدهما: يباع بعضه ببعض وزنًا؛ لأنه أخضر.
والثاني: يباع كيلا؛ لأن الأشياء الأربعة مكيلة، فكان ردّه إليها أولى.
قال الشيخ أبو حامد: والأول أصح.

[مسألة: مد عجوة ودرهم]
كل جنس حرم فيه الربا، لا يجوز بيع بعضه ببعض، ومع أحدهما، أو معهما، جنس آخر من أموال الربا، أو من غير أموال الربا، كمد عجوة ـ وهو نوع من التمر ـ ودرهم بمدي عجوة، أو بدرهمين، أو كدرهم ومد عجوة بدرهم ومد عجوة، أو كثوب ودرهم بدرهمين، أو كدرهم وثوب بدرهم وثوب.
قال الطبري: إلا أن ينص في البيع، فيقول: المد بالمد، والدرهم بالدرهم.. فيصح.
وكذلك لا يصح بيع نوعين من أموال الربا مختلفي القيمة، بنوع من ذلك الجنس،

(5/196)


كدرهم صحيح، ودرهم مكسور، بدرهمين صحيحين أو مكسورين، وكمد تمر برني ومد معقلي، وبمدين برنيين أو معقليين، وكذهب ذرة بيضاء وذهب ذرة حمراء، بذهبي ذرة بيضاء أو حمراء.
وقال أبو حنيفة: (يجوز البيع في الجميع ـ حتى قال ـ: لو باع قرطاسًا فيه درهم بمائة درهم.. صح) ؛ لأن درهمًا من المائة يقابل الدرهم الذي في القرطاس، والقرطاس يقابل تسعة وتسعين درهمًا، وإن باع قرطاسًا فيه مائة درهم بمائة درهم.. لم يصح؟ لأن القرطاس لا يعرى عن ثمن، وإذا أخذ قسطًا من المائة.. كانت الدراهم التي في القرطاس مبيعة بأقل منها من المائة الأخرى، فلم يجز، وكذا عنده يجوز بيع نوعين من جنس مختلفي القيمة، بنوع منه متفقي القيمة، وبه قال بعض أصحابنا الخراسانيين في النوعين لا غير.
دليلنا: ما روي عن فضالة بن عبيد: انه قال: «أتى رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر بقلادة فيها ذهبٌ وخرزٌ، ابتاعها بسبعة دنانير أو بتسعة دنانير، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا يجوز ذلك حتى تميز بينه وبينه "، وفي رواية أخرى: أنه قال له: " لا يباع مثل ذلك حتى تفصل "، فقال الرجل: يا رسول الله، إنما أردت الحجارة، وفي رواية: إنما ابتعتها للحجارة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا، حتى يميز بينهما» . فمنع من البيع حتى يميز، وأراد التمييز بالعقد، ولم يسأل: هل الذهب الذي في القلادة

(5/197)


يساوي الدنانير، أو أكثر؟ فدلّ على أن الحكم يختلف.
ولأن العقد إذا جمع عوضين.. فإن الثمن ينقسم عليهما على قدر قيمتها، بدليل: أن من اشترى سيفًا وشقصًا.. فإن الثمن ينقسم عليهما على قدر قيمتهما.
وإن باع درهمًا صحيحًا ودرهمًا مكسورًا، بدرهمين صحيحين أو مكسورين.. فإن الصحيح يأخذ من الصحيحين، أو من المكسورين أكثر من النصف؛ لأن قيمته أكثر من قيمة المكسورين، فيؤدي إلى الربا.
وإن باع سيفًا محلّى بفضة، بفضة، أو سيفا محلّى بذهب وفضة، بذهب أو بفضة، أو بذهب وفضة.. لم يجز؛ لما ذكرناه في المسألة قبلها.
وإن باع سيفا محلى بفضة بذهب، أو سيفا محلى بذهب بفضة.. فقد جمع بيعًا وصرفًا، وفيه قولان مضى توجيههما.
واختلف لم سمي الصرف صرفا، فقيل: لصرفه عن حكم أكثر أحكام البيع. وقيل: لصرف المسامحة عنه في الزيادة في الجنس والتأخير. وقيل: لأن الشرع أوجب على كل واحد منهما مصارفة صاحبه، أي: مقايضته، فلا يزيد في الجنس الواحد، ولا يؤخره.

[مسألة: بيع حنطة خالصة بغير خالصة]
] : ولا يجوز بيع حنطة خالصة، بحنطة فيها شعير أو زؤان: وهو حب أصفر حاد الطرفين، هكذا ذكره الشيخ أبو حامد في " التعليق ". وقال ابن الصباغ: هو حب دقيق الطرفين غليظ الوسط أسود. وكذلك لا يجوز إذا كان في الحنطة شيلم: وهو حبٌّ أحد طرفيه حادٌّ والآخر غليظ، أو كان فيه عقد التبن، لأن ذلك يأخذ حظًّا من

(5/198)


الكيل، فتكون الحنطة مبيعة بأقل منها كيلا، فلم يجز.
وهكذا: إذا كان في كل حنطة شعير أو زؤان أو شيلم أو عقد التبن.. فلا يصح بيع إحداهما بالأخرى؛ لأنه لا يعلم التماثل بين الحنطتين. فإن كان في إحدى الحنطتين ترابٌ دقيقٌ يسيرٌ، أو دقاق التبن اليسير.. صح بيع إحداهما بالأخرى.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\220] : وهكذا: لو باع الحنطة بالشعير، وفي الشعير حنيطاتٌ.. صحّ؛ لأن ذلك لا يأخذ حظًّا من الكيل. فأما إذا باع شيئًا موزونًا من أموال الربا بجنسه، وفيهما، أو في أحدهما شيء من التراب اليسير.. لم يصح؛ لأنه يأخذ حظًّا من الوزن.

[فرعٌ: بيع العسل ببعضه وفيه شمع]
وأما إذا باع عسل النحل بعضه ببعض، وفيهما، أو في أحدهما شمع.. لم يصح البيع؛ لأن ذلك يؤدي إلى التفاضل بين العسلين.. فلم يصح.
فإن قيل: فكيف جوّزتم بيع التمر بالتمر وفيهما النوى؟
قلنا: الفرق بينهما أن بقاء النوى في التمر من مصلحته، فلم يكلّف إزالته، لذلك فصح بيعه فيه، بخلاف الشمع، فإنه لا مصلحة للعسل في بقائه فيه، بل ربما كان سببًا لنقصه؛ ولأن الشمع مقصود مع العسل، ولا يجوز بيع ما فيه الربا بجنسه، ومعهما أو مع أحدهما شيء مقصود، بخلاف النوى، فإنه غير مقصود.

[مسألة: بيع الرطب بالمجفف]
وما يحرم فيه الربا من الثمار والحبوب.. لا يجوز بيع رطبه بيابسه على الأرض، كبيع الرطب بالتمر، وبيع الزبيب بالعنب، وبه قال سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وسعيد بن المسيب، ومالك، والليث، وأحمد، ومحمد، وإسحاق، وأبو يوسف رحمة الله عليهم.

(5/199)


وقال أبو حنيفة: (يجوز بيع الرطب بالتمر على وجه الأرض كيلا، ويجوز بيع العنب بالزبيب، وبيع الحنطة الجافة بالمبلولة، وبيع كل فاكهة يابسة بالرطب منها) . ووافقه أبو يوسف، ومحمد في الحنطة المبلولة بالجافة.
دليلنا: ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الثمر بالتمر كيلا، وعن بيع الكرم بالزبيب كيلا، وعن بيع الطعام بالزرع كيلا» . والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.
وروى سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قال «سُئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الرطب بالتمر، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أينقص الرطب إذا يبس؟ " فقالوا: نعم، فقال: " فلا إذن "، وفي رواية: فنهى عن ذلك» .
قال الشيخ أبو حامد: ولم يسأل عن نقصانه؛ لأنه لم يعلم ذلك؛ لأن ذلك يعلم بالحس، ويشترك كل واحد بعلمه، وإنما سأل عن ذلك؛ ليبين أنه إنما منع من ذلك؛ لأجل أنه ينقص فيما بعد؛ لئلا يظن ظان أنه نهى عن ذلك لغير هذه العلة، ولأنه جنس فيه الربا بيع منه ما هو على هيئة الادخار، بما هو منه على غير هيئة

(5/200)


الادِّخار على وجه يتفاضلان في حال الادخار، فوجب أن لا يجوز أصله بيع الحِنطة بدقيقها، أو بالحنطة المقليَّة.
وقولنا: (على وجهٍ يتفاضلان في حال الادخار) احترازٌ من العرية؛ لأنهما على صفةٍ لا يتفاضلان في حال الادخار، وذلك: أن الرُّطب على النخل يخرص، فينظر: كم هو؟ ثم ينقص منه ما ينقص في حال الجفاف، ثم يباع بمثل ذلك تمرًا.

[فرعٌ: بيع رطب برطب]
وأمَّا بيع رطبة برطبة، فإن كان مما يدخر يابسه، كالرطب والعنب.. فلا يجوز بيع رطبه برطبه.
وقال مالكٌ، وأبو حنيفة، ومحمد بن الحسن، وأبو يوسف، والمزني: (يجوز، كما يجوز بيع اللبن باللبن) .
دليلنا: ما ذكرناه من حديث سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال: " أينقص الرطب إذا يبس؟ "، فقالوا: نعم، قال: " فلا إذن» .
فجعل العلة: أن الرطب ينقص فيما بعد، وهذا المعنى موجودٌ في بيع الرطب بالرطب، ولأنهما على غير هيئة الادخار، ولا يُعلم تساويهما في حال الادخار، فلم يجز بيع أحدهما بالآخر، كالحنطة بدقيقها، ويخالف اللبن، فإن معظم منفعته في حال رطوبته، بخلاف الرطب؛ لأن كل شيء يصلح له الرطب فالتمر يصلح له.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولأن الرطب يجف بنفسه، فلهذا منع من بيعه إلا بعد الجفاف، وليس كذلك اللبن، فإنه لا يجف حتى يجفف، ويخلط به غيره) .
فإن قيل: علة الخبر تنتقض بالتمر الحديث، بالتمر العتيق، فإن بيع أحدهما بالآخر يجوز وإن كان الحديث ينقص عن العتيق فيما بعد.
فالجواب: أن العلة المستنبطة لا يجوز تخصيصها عندنا بحالٍ. وإن من شرط صحتها عندنا أن تكون جارية، فلا توجد إلا ويوجد الحكم معها.
وأمّا العلة المنصوص عليها: فهل يجوز تخصيصها؟ فيه وجهان. وهذه علةٌ

(5/201)


منصوص عليها، فمن قال: يجوز تخصيصها.. قال: التمر الحديث مخصوص من هذه العلة، فلا يكون نقصًا لها؛ ولأن الدليل على صحة العلة المستنبطة: جريانها في الأصول، والدلالة على صحة العلة المنصوص عليها: الاسم، وكونها منصوصًا عليها.
ومن قال من أصحابنا: العلة المنصوصة لا يجوز تخصيصها أيضًا.. قال: لا يكون نقص التمر الحديث عن العتيق نقضًا لعلتنا؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتبر النقصان في الرطب إلى حال التناهي، ولم يعتبر النقصان بعد ذلك، والحديث والعتيق متساويان في حال تناهيهما تمرًا، فلا يعتبر النقص بعد ذلك.
وإن كان مما لا يدخر يابسها، كالرمان، والسفرجل، والبقول، والكُرَّاث، والبصل، إذا قلنا بقوله الجديد: (وأنه يحرم فيها الربا) .. فهل يجوز بيع بعضها ببعض؟ فيه قولان، قد مضى ذكرهما:
أحدهما: يجوز؛ لأن معظم منفعتها في حال رطوبتها، فهي كاللبن.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه جنس فيه ربا.. فلم يجز بيع رطبه برطبه، كالرطب بالرطب، والعنب بالعنب.
وفي بيع الرطب الذي لا يجيء منه تمر بعضه ببعض في حال رطوبته، وبيع العنب الذي لا يجيء منه زبيب بعضه ببعض في حال رطوبته، طريقان:
قال أكثر أصحابنا: لا يجوز بيع ذلك، قولاً واحدًا، كغالبه.
وقال أبو العباس: إنها على قولين، كالرمان والسفرجل، لأن معظم منفعتهما في حال رطوبتهما، فكانا كسائر الفواكه التي معظم منفعتها في حال رطوبتها.

(5/202)


[فرعٌ: بيع اللحم بجنسه]
وإذا أراد بيع اللحم بجنسه، وقلنا: اللحمان جنسٌ واحدٌ، فإن باعه بعد أن جف ويبس.. جاز؛ لأنه حالة ادخاره. فإن أراد بيع بعضه ببعض في حال رطوبته.. ففيه طريقان:
[أحدهما] : قال أبو العباس: فيه قولان، كالفواكه الرطبة التي معظم منفعتها في حال رطوبتها.
و [ثانيهما] : قال أكثر أصحابنا: لا يجوز، قولاً واحدًا، وهو المنصوص؛ لأن معظم منفعة اللحم ليس في حال رطوبته؛ لأن كل شيء يصلح له اللحم الرطب الطري، صلح له اليابس، إلا أن لذته في حال رطوبته، كالرطب، فإن لذته في حال كونه رطبا.
إذا ثبت هذا: فإن باع اللحم بعضه ببعض، وفيهما، أو في أحدهما رطوبة يسيرة.. لم يجز، والفرق بينه وبين التمر ـ حيث جاز بيع بعضه ببعض وإن كان فيهما، أو أحدهما رطوبة ـ: أن اللحم لا يباع بعضه ببعض إلا وزنا، وقليل الرطوبة يؤثر في الوزن، بخلاف التمر، فإنه لا يباع بعضه ببعض إلا كيلا، والرطوبة اليسيرة فيه لا تؤثر في الكيل، ولأن الرطوبة اليسيرة في التمر لا تفسده، والرطوبة اليسيرة في اللحم تفسده في حال الادخار، فإن يبس اللحم، ثم أصابته نداوة.. لم يجز بيع بعضه ببعض حتى يجف ثانيًا؛ لما ذكرنا: أنه يتناقص في الوزن بعد ذلك، وهل يجوز بيع اللحم بعضه ببعض قبل نزع العظم؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز، كما يجوز بيع التمر بالتمر، وفيهما النوى.
والثاني: لا يجوز، كما لا يجوز بيع العسل بالعسل، وفيهما الشمع.

(5/203)


[مسألة: بيع العرايا]
روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص في بيع العرايا» . فهذا الخبر تلقته الأمة بالقبول، واختلفوا في تأويله:
فعندنا: أن العرية: هو أن يشتري القفيزَ الرُّطَبَ على رؤوس النخل بالتمر على الأرض، وكيفية ذلك: أن يحزِر الخارصُ ما على النخلة من الرطب، وكم يجيء من ذلك الرطب من التمر إذا جف، فيباع بمثله من التمر، ولا يتفرقا إلا بعد القبض. فالقبض في التمر: الكيل والتحويل، وفي الرطب على النخل: التخلية بين النخلة وبين مشتري الرطب. هذا مذهبنا.
وقال مالك: (العرية: هو أن يهب الرجل لآخر نخلة، فتلزمه الهبة عنده بالعقد من غير قبض، فإذا ملك الموهوب له هذه النخلة وأثمرت، أو كان وهبه ثمرة النخلة لا غير، ثم شق على الواهب دخول الموهوب له إلى حائط الواهب، لأجل نخلته

(5/204)


لا سيما بالحجاز، فإن عادتهم ينتقلون بأهاليهم إلى البساتين.. فيجوز للواهب أن يشتري من الموهوب له ما على تلك النخلة من الرطب بما يجيء منه من التمر، ولا يجوز ذلك لغيرهما) .
وقال أبو حنيفة: (العرية: هو أن يهب صاحب البستان ثمرة نخلة بعينها من رجل، ولم يقبضها الموهوب له، فإن الهبة لا تلزم عنده وعندنا إلا بالقبض، فيكره هذا الواهب أن يرجع في هبته، ويخاف ضرر المشاركة إن أقبضه فيقول الواهب للموهوب له: أعطيك بدل هذه الثمرة تمرًا، فسمي هذا: بيعًا على وجه المجاز) .
دليلنا: ما روى سهل بن أبي حثمة: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع التمر بالتمر، إلا أنه أرخص في العرايا أن تباع الثمر بخرصها تمرًا، يأكلها أهلها رطبًا» .
وروى الشافعي، عن مالك رحمهما الله، عن داود بن الحصين، عن أبي سفيان مولى لأبي أحمد، عن أبي هريرة: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص في بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق، أو في خمسة أوسق» الشك من داود.
والاستدلال على مالك: أنه لم يفرق بين الواهب وغيره.
وعلى أبي حنيفة: قوله: «نهى عن بيع التمر بالتمر، إلا أنه أرخص في العرايا» . والاستثناء يكون من جنس المستثنى منه، فلما كان المستثنى منه بيعًا، وهو بيع التمر بالتمر.. وجب أن يكون المستثنى بيعًا. وعنده: (أنه ليس ببيع) .

(5/205)


وكذلك: قوله: «أرخص في بيع العرايا أن تباع بخرصها تمرًا» ، وعنده: (لا يجوز بيع الرطب خرصًا بالتمر بحال) .
فإن قيل: العرية في اللغة: هي اسم للعطية، يقال: أعراه كذا: إذا أعطاه، ولهذا قال الشاعر:
وليست بسنهاء ولا رجبية ... ولكن عرايا في السنين الجوائح
يقول: إنا نعريها الناس.. قلنا عن ذلك جوابان:
أحدهما: ما قال الأزهري: إن العرية: اسمٌ لنخلةٍ مفردةٍ، سواء كانت للبيع أو للأكل، أو للهبة، وعلى هذا يحمل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في العرية» . وهي النخلة التي يفردها الخارص لرب الحائط ليأكل منها.

(5/206)


والثاني: ما قال بعض أهل اللغة: إن العرية: هي النخلة التي عليها ثمرةٌ أرطبت، سميت: عرية؛ لأن الناس يعرونها لتلتقط الثمرة منها، يقال: عريت الرجل: إذا قصدته لتستميحه. ومنه قول النابغة:
أتيتك عاريا خلقا ثيابي ... على عجل تظن بي الظنون
إذا ثبت هذا: فإن العرايا تصح للفقراء، بلا خلاف على المذهب، وهل تصح للأغنياء؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز، وهو اختيار المزني، وبه قال أحمد؛ لما روي «عن محمود بن لبيد: (أنه قال: قلت لزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: ما عراياكم هذه؟ فسمَّى رجالا محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن الرطب يأتي، ولا نقد عندهم يبتاعون به رطبا يأكلونه مع الناس، وعندهم فضول من قوتهم من التمر، فرخص لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر الذي في أيديهم، يأكلونها رطبا مع الناس» .
والثاني: يجوز، وهو الصحيح؛ لما روى سهل بن أبي حثمة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع التمر بالتمر، إلا أنه أرخص في العرايا أن تباع بخرصها تمرًا، يأكلها أهلها رطبًا» . ولم يفرق بين الأغنياء والفقراء، ولأن كل بيع جاز للفقراء.. جاز للأغنياء، كسائر المبيعات.

(5/207)


وأما حديث محمود بن لبيد: فلا حجة فيه أنه لا يجوز للأغنياء؛ لأن المحتاجين كانوا هم السبب، وأما الرخصة: فعامة، كما أن سبب الرمل في الاضطباع كان لإظهار الجلد للمشركين، ثم زال السبب والحكم باق.

[فرعٌ: بيع الرطب على رؤوس النخل بالرطب على الأرض]
] : وإن باع رطبا على رؤوس النخل، برطب على الأرض، أو برطب على رؤوس النخل.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يجوز، وهو قول ابن خيران؛ لما روى زيد بن ثابت: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص في بيع العرية بالتمر والرطب) . ولم يفرق، وروي: (بالتمر أو الرطب» .
والثاني ـ حكاه الشيخ أبو حامد، عن أبي إسحاق ـ: إن كان على رؤوس النخل.. جاز، وإن كان أحدهما على الأرض.. لم يجز؛ لأنهما إذا كانا على رؤوس النخل، فربما يريد أحدهما نوعًا من الرطب غير النوع الذي عنده، فيأكله أيًّامًا من نخله. وإذا كان أحدهما على الأرض.. لا يمكنه أن يأكله أيامًا؛ لأن أكثر ما يبقى رطبا يومًا أو يومين.
وأما صاحب " المهذب "، وابن الصباغ: فحكيا قول أبي إسحاق: إن كانا نوعًا واحدًا.. لم يجز. وإن كانا نوعين.. جاز من غير تفصيل. ولعلهما أرادا إذا كان النوعان على رؤوس النخل.
والوجه الثالث ـ وهو قول أبي سعيد الإصطخري ـ: أنه لا يجوز بحال؛ لما روي في حديث سهل بن أبي حثمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع تمر النخل بتمر النخل، إلا أنه أرخص في العرايا أن تباع بخرصها تمرًا» .

(5/208)


فيجوز بيعها بالتمر خاصة، ولأنه إذا باع الرطب بالتمر.. دخل الخرص في أحد العوضين، فيقل الغرر، وأما إذا باع الرطب بالرطب: دخل الخرص في العوضين، فيكثر الغرر.

[فرعٌ: بيع المحاقلة والمزابنة]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المحاقلة والمزابنة» . واختلف في تأويله:
فذهب الشافعي إلى: (أن المحاقلة: أن يبيع الرجل الحنطة في سنبلها بحنطة موضوعة على الأرض. والمزابنة: هو أن يبيع الرجل التمر على رؤوس النخل بما زاد على خمسة أوسق من التمر على الأرض) .
وذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى: (أن المحاقلة: استكراء الأرض ببعض ما يخرج منها. والمزابنة: هو أن يقول الرجل لصاحبه: كم في صبرتك هذه؟ فيقول: أقل من خمسين قفيزًا، فيقول الآخر: بل فيها أكثر من خمسين قفيزًا فيقال لمالكها: اكتل الآن، فإن نقصت عن خمسين قفيزًا.. فعلي تمامها، وإن زادت على الخمسين.. فلي الفضل) .
دليلنا: ما روى الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، عن سفيان بن عيينة، عن ابن جريج، عن عطاء، عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن المحاقلة والمزابنة» .

(5/209)


فـ (المحاقلة) : أن يبيع الرجل الزرع بمائة فرق من حنطة. و (المزابنة) : أن يبيع التمر على رؤوس النخل بمائة فرق تمرًا. وهذا أشبه باللغة.
قال الأزهري: الحقل القراح: المزروع، والحواقل: المزارع. وأما منفعة الأرض: فليست بحقل. والمزابنة: مأخوذة من المدافعة. فكأن المتبايعين إذا وقعا فيها.. تبايعا على غبن، وأراد المغبون أن يفسخ البيع، وأراد الغابن إمضاءه، فتزابنا، أي: تدافعا، واختصما، وإنما تعلق ذلك بالثمرة؛ لأنها مجهولة يجري فيها التغابن.
وما ذكره مالك في الصبرة.. فليس بعقد بيع يتناوله النهي، وإنما هو قمار ومخاطرة.
إذا ثبت ما ذكرناه: فلا يجوز بيع العرايا فيما زاد على خمسة أوسق بعقد واحد. وهل يصح بيع العرايا في خمسة أوسق؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز، وهو اختيار المزني؛ لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص في بيع العرايا: الوسق، والوسقين، والثلاثة، والأربعة» .

(5/210)


وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص من بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق» . وشك داود بن الحصين في الخمسة، فبقي على الحظر.
ولأن الخمسة الأوسق في حكم ما زاد، بدليل: أن الزكاة تجب فيها، كما تجب فيما زاد عليها.
والقول الثاني: يجوز؛ لما روى سهل بن أبي حثمة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص في العرايا» . وهذا يتناول الخمسة الأوسق وما زاد، إلا أن الدليل قد دل على أنه لا يصح فيما زاد على خمسة أوسق، فبقي في الخمسة على عموم الخبر.
فإذا قلنا بهذا: قال صاحب " التلخيص ": لو اشترى رجلٌ عشرة أوسق من رجلين بعقد.. لم يجز. ولو باع رجلٌ من رجلين عشرة أوسق بعقد.. جاز.
فمن أصحابنا من سلم له هذا التفصيل، وفرق بينهما، وهو أنه: إذا اشترى من رجلين عشرة أوسق بعقد.. فقد دخل في ملكه جملة واحدة بعقد واحد عشرة أوسق، فلم يجز. وإذا باع.. لم يخرج من ملكه إلى كل واحد منهما إلا خمسة أوسق، فصار كالمفرد.
ومنهم من لم يسلم له هذا، وقال: يصح في الجميع، وهو الأصح؛ لأن عقد الواحد مع الاثنين، بحكم العقدين من أي جانب كان. وقد ذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ ما يوافق هذا الوجه، فقالا: إذا باع رجل تسعة أوسق على رؤوس النخل من رجلين بتسعة أوسق تمرًا في عقد واحد.. جاز.
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (لا يجوز) .
دليلنا: أن بيعه من اثنين يجري مجرى العقدين المنفردين. وكذلك إن باع رجلان تسعة أوسق، من رجل بتسعة أوسق بعقد.. صح؛ لما ذكرناه. وإن باع رجل عشرة أوسق من رجلين.. فعلى القولين، فيمن باع خمسة أوسق بعقد من رجل. وإن باع

(5/211)


رجل تسعة عشر وسقا من أربعة رجال بمثلها في عقد.. صح؛ لأنها في حكم أربعة عقود. وهكذا: لو باع اثنان من اثنين تسعة عشر وسقا بمثلها بعقد.. صحّ؛ لأنها في حكم أربعة عقود. وإن باع رجل عشرين وسقا بمثلها من أربعة رجال بعقد واحد.. ففيه قولان، كما لو باع رجل رجلاً كلّ خمسة أوسق.
وإن باع رجلان عشرة أوسق من رجل بعقد.. فعلى القولين.
وإن باع ثلاثة رجال عشرين وسقا بمثلها من رجلين بعقد، أو باع خمسة رجال عشرين وسقا بمثلها من رجلين بعقد.. فعلى قياس ما ذكره الشيخ أبو حامد: أنه يصح، قولاً واحدًا؛ لأن بيع الثلاثة من اثنين بعقد بحكم ستة عقود، فيصير كما لو باع كل واحد ثلاثة أوسق وثلثا بعقد، وبيع الخمسة من اثنين بحكم عشرة عقود، فيصير كما لو باع كل واحد وسقين بعقد.

[فرعٌ: بيع الحائط كله عرية]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويبيع صاحب الحائط لكل من رخص له، وإن أتى على جميع حائطه) .
وجملة ذلك: أنه يجوز لصاحب الحائط أن يبيع حائطه كله على وجه العرية، فيبيع من رجل ما دون خمسة أوسق بعقد، أو خمسة أوسق إذا قلنا: يجوز، ثم يبيع صفقة أخرى كذلك منه، أو من غيره حتى يأتي على جميع الحائط.
قال القفال: وهذا إذا لم يجب فيه الزكاة، فأما إذا وجبت فيه الزكاة: فقد مضى الكلام فيه في الزكاة.
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (لا يجوز للرجل أن يبيع أكثر من عرية واحدة) .
دليلنا: عموم حديث سهل بن أبي حثمة، ولم يفرق؛ ولأن كل بيع جاز بين المتبايعين مرة.. جاز أن يتكرر، كسائر البيوع.

(5/212)


فإن قيل: هذا يؤدي إلى المزابنة، وقد نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنها.
فالجواب: أن المزابنة هو العقد الواحد على ما زاد على خمسة أوسق، فإذا لم يوجد ذلك.. لم يكن محرمًا، وإن كان بتفريقه يحصل به ذلك، كما أنه لا يجوز بيع درهم بدرهمين، ومعلوم أنه لو باع درهمًا بذهب، ثم اشترى بالذهب درهمين.. جاز ذلك.

[فرعٌ: العرية في غير الرطب]
وما جاز من العرايا في الرطب على النخل، بالتمر على الأرض.. جاز في العنب على الشجر، بالزبيب على الأرض.
وقال الليث: (لا تجوز العرايا إلا في النخل خاصة) .
دليلنا: ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخَّصَ في العرايا» . وهو بيع الرطب بالتمر، والعنب بالزبيب.
ولأن العنب ثمرة تجب فيها الزكاة، ويُخرَصُ كما يُخرَصُ التمرُ، فجاز فيه العرايا، كالتمر. وأمّا ما عداهما من الثمار، كالفرسك والمشمش والإنجاص.. فهل

(5/213)


يجوز بيع رطبها على الشجر باليابس منه فيما دون خمسة أوسق؟ فيه طريقان:
أحدهما ـ وهو المشهور ـ: أنها على قولين:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن هذه الثمار لا يجب فيها الزكاة، ولا يمكن فيها الخرص؛ لاستتارها بالأوراق.
والثاني: يجوز؛ لأن الحاجة تدعو إلى الرطب منها، كالرطب والعنب.
والطريق الثاني ـ حكاه صاحب " المعتمد " ـ: أنه لا يجوز، قولاً واحدًا؛ لما ذكرناه للقول الأول.

[فرعٌ: بيع التمر بالتمر قبل نزع نواه]
] : يجوز بيع التمر بالتمر قبل نزع النوى مثلا بمثل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التمر بالتمر» . ولم يفرق؛ ولأن في بقاء النوى في التمر مصلحة للتمر.
وإن باع منه ما نزع نواه، بما لم ينزع نواه.. لم يصح البيع؛ لأنه باع ما هو على هيئة الادخار ـ وهو: ما لم ينزع نواه ـ بما ليس على هيئة الادخار ـ وهو: ما نُزع نواه ـ على وجهٍ يتفاضلان في حال الادخار، فلم يصح، كبيع الرطب بالتمر.
فقولنا: (على وجهٍ يتفاضلان في حال الادخار) احترازٌ من بيع الرطب بالتمر في العرايا؛ لأنهما لا يتفاضلان في حال الادخار.
وإن باع منه ما نزع نواه، بعضه ببعض.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لما روى عبادة بن الصامت: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «البر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح كيلا بكيل» . ولم يفرق بين أن ينزع نواه، أو لم ينزع.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه إذا نزع عنه النوى.. فقد زال عن هيئة الادخار، فلم يصح بيع بعضه ببعض، كالدقيق بالدقيق؛ ولأنه إذا نزع نواه.. تجافى في المكيال، فلا يتحقق التساوي فيه، فلم يصح.

(5/214)


[مسألة: بيع المطبوخ بالنِّيء]
قال الشافعي: (ولا يجوز بيع شيء من الجنس الواحد مطبوخًا منه بنِيء بحال إذا كان يدَّخر مطبوخًا) . وهذا كما قال:
قد ذكرنا: أن عصير العنب والسفرجل والتفاح والرمان والكُمَّثْرى أجناسٌ، على المشهور من المذهب، فإذا بيع بعض الجنس منها ببعض.. نظرت:
فإن كان باع النِّيء منها بالنِّيء منها.. جاز فيهما متماثلا، ولا يجوز متفاضلاً. وإن كان مطبوخًا.. فلا يصح بيعه بالنِّيء منها. ولا يصح بيع المطبوخ منها بالمطبوخ؛ لأن النار دخلت فيه، فيؤدي إلى الجهل بالتماثل.
فإن قيل: أليس التمر تجففه الشمس، ويختلف تجفيفها فيه؟ فكيف جاز بيع بعضه ببعض؟
قلنا: لأن تلك حالة ادّخار التمر. والعصير حالة ادخاره قبل طبخه.
وإن أراد أن يبيع جنسًا من الأعصار بجنس آخر.. جاز، سواءٌ كانا مطبوخين أو نيئين، أو أحدهما نِيئًا، والآخر مطبوخًا؛ لأنها أجناس، على المشهور من المذهب، فلا يعتبر فيها التساوي.

[فرعٌ: بيع اللحم باللحم]
ولا يجوز بيع اللحم النِّيء بالمطبوخ، ولا بيع المطبوخ بالمطبوخ.
وقال أبو حنيفة: (يجوز بيع النِّيء بالمطبوخ متماثلاً، ولا يجوز بيعه متفاضلاً) .
وقال مالكٌ: (يجوز متماثلاً، ومتفاضلاً) .

(5/215)


دليلُنا: أنه جنس فيه ربا، فلم يجز بيع نيئه بمطبوخه، ولا بيع مطبوخه بمطبوخه، كالتمر بالدبس، والحنطة بسويق الدقيق.

[فرعٌ: بيع العسل بالعسل]
وأما عسل النحل المصفّى بالشمس: فيجوز بيع بعضه ببعض؛ لأن الشمس لا تعقد أجزاءه، وإنما تذيبه، وتميّزه من الشمع. وإن صُفي بالنار.. فهل يجوز بيع بعضه ببعض؟ حكى صاحب " المهذب " و " الشامل " فيه وجهين:
أحدُهما: لا يجوز؛ لأنَّ النار دخلت فيه، وربما عقدت أجزاء بعضه أكثر من بعض.
والثاني: يجوز، وهو الصحيح؛ لأن نار التصفية ليِّنةٌ، لا تعقدُ الأجزاء، وإنما تميزُهُ من الشمع، فهو كما لو صُفي بالشمس.
وقال الشيخ أبو حامد في " التعليق ": إن أغلاه بالنار غليانًا يسيرًا.. جاز بيع بعضه ببعض، وإن كان غليانًا كثيرًا.. لم يجز بيع بعضه ببعض.
وهل يجوز بيع السكر بعضه ببعض؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن النار تدخل فيه لعقد الأجزاء ولنقصانه.. فلم يجز بيع بعضه ببعض؛ كالدبس.
والثاني: يجوز، وهو الأصح؛ لأن النار تدخله لتصفيته من القصب، لا لعقد الأجزاء، فإذا باع العسل بالعسل، والسكر بالسكر.. فكيف يباعان؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق ـ: أنهما يباعان كيلاً؛ لأن أصلهما الكيل.
والثاني ـ وهو المنصوص ـ: (أنهما يباعان وزنًا) ؛ لأنه أحصر، ولأن السكر يتجافى في المكيال، وإن دق ليكال.. زال عن هيئة الادخار. وهكذا الوجهان في السمن.

(5/216)


[مسألة: بيع الدقيق بالحنطة]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يجوز بيع الدقيق بالحنطة) . وهذا كما قال. واختلف أهل العلم في بيع الحنطة بدقيقها:
فذهب الشافعي إلى: (أنه لا يجوز بيع الحنطة بدقيقها، لا متماثلاً، ولا متفاضلاً، لا كيلاً، ولا وزنًا) . وبه قال حمَّاد بن أبي سليمان، والثوري، وأبو حنيفة.
وذهب مالك، وابن شبرمة إلى: (أنه يجوز بيع الحنطة بدقيقها متماثلاً، كيلا بكيل) .
وذهب الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق إلى: (أن ذلك يجوز وزنًا بوزن) .
وحكي عن أبي ثور: أنه قال: (يجوز بيع الحنطة بدقيقها متفاضلاً) .
وحكي عن الكرابيسيّ: أنه قال: قال أبو عبد الله: (يجوز بيع الحنطة بدقيقها كيلا بكيل) . فجعل أبو الطيب بن سلمة هذا قولا آخر للشافعي. وقال سائر أصحابنا: ليس ذلك بقول للشافعي. ولعل الكرابيسي أراد بذلك مالكًا أو أحمد.
ودليلنا: أنه جنس فيه الربا، فلم يجز أن يباع منه ما زال عن هيئة الادخار، بصنعة آدمي بأصله الذي هو على هيئة الادخار، كبيع التمر بنخله.
فقولنا: (بصنعة آدمي) احترازٌ من بيع التمر المسوِّس، بغير المُسوِّس، فإن ذلك يجوز، ولأن الدقيق هو الحنطة، وإنما تفرّقت أجزاؤها بالطحن، فإذا بيع بالحنطة كيلا.. أدى إلى التفاضل في حال الادخار؛ لأن الدقيق يتجافى في المكيال،

(5/217)


والحنطة ينضم بعضها إلى بعض؛ لأنها شديدة، فإذا طحنت تفرقت، فلو جمع بعضه إلى بعض.. لم يجتمع كخلقة الأصل، فإذا بيع كيلاً.. أدى إلى التفاضل في حال الادخار.

[فرعٌ: بيع مطحون الجنس الواحد]
] : وأما بيع دقيق الجنس بعضه ببعض: فالمنصوص: (أنه لا يجوز) .
وروى المزني عنه في (المنثور) : (أنه يجوز) . وهو رواية البويطي أيضًا، وبه قال أحمد، ومالك.
وقال أبو حنيفة: (يجوز بيع الناعم بالناعم، والخشن، بالخشن، ولا يجوز بيع الخشن بالناعم) .
دليلُنا: أن الدقيق هو نفس الطعام، وإنما تفرّقت أجزاؤه بالطحن، وقد لا يتفقان في النعومة والخشونة، فيأخذ الخشن من المكيال أكثر مما يأخذه الناعم، فيؤدّي إلى التفاضل حال الادخار، فلم يجز.

[فرعٌ: بيع الحنطة بالسويق]
ولا يجوز بيع الحنطة بسويقها؛ لما ذكرناه في الدقيق؛ لأن السويق أسوأ حالاً من الدقيق؛ لأن السويق قد دخله الماء والنار والطحن.
ولا يجوز بيع السويق بالسويق. وقال أبو حنيفة فيه: (يجوز) . كما يجوز عنده بيع الدقيق بالدقيق، وقد مضى الدليل عليه في بيع الدقيق بالدقيق.
والسويق أسوأُ حالاً من الدقيق على ما ذكرناه.

(5/218)


ولا يجوز بيع الدقيق بالسويق من جنسه، وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة. وروى عنه أبو يوسف روايةً شاذّة: (أنه يجوز) .
وقال أبو يوسف، ومالك: (يجوز متماثلاً ومتفاضلاً؛ لأنهما جنسان) .
دليلُنا: ما ذكرناه في الدقيق بالدقيق، والسويق أسوأ حالاً من الدقيق على ما بيّناه.
ولا يجوز بيع خبز الحنطة بالحنطة، ولا بدقيقها، وبه قال أحمد.
وقال أصحاب أبي حنيفة: يجوز متفاضلاً. وهو قياس قول أبي ثور في الحنطة بالدقيق.
دليلُنا: أنه فرعٌ لأصل يحرم فيه الربا، فلم يجز بيعه به، كالدقيق بالحنطة.
وأما بيع الخبز بمثله من جنسه: فإن كانا رطبين أو أحدهما.. لم يجز.
وقال محمد بن الحسن: يجوز بيعهما متماثلين.
دليلُنا: أنه جنس في الربا، يباع بعضه ببعض، على وجه يتفاضلان في حال الكمال والادخار.. فلم يجز، كبيع الخبز بالحنطة. وأما إذا كانا يابسين مدْقوقين يمكن كيلُهما.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه قد خالطهما الماء والملح والنار، وقد يكثر في أحدهما دون الآخر.
والثاني: أنه يجوز؛ لأن ذلك حالة كماله وادخاره، فجاز بيع بعضه ببعض، كالحنطة.

[مسألة: بيع الشيء بما يستخلص منه]
ولا يجوز بيع السمسم بالشيرج، ولا بيع العنب بعصيره، ولا بخل الخمر، ولا بخل الزبيب؛ لأن فيهما مثل ما يباعان به، وذلك يؤدّي إلى التفاضل. ويجوز بيع خل الخمر بخل الخمر. ويجوز بيع خل الخمر بعصير العنب متساويًّا؛ لأن ذلك حالةُ

(5/219)


ادّخاره، فهو كبيع الزبيب بالزبيب. ولا يجوز بيع خل الخمر بخل الزبيب؛ لأن أصلهما واحد، وفي خل الزبيب ماء، وذلك يمنع تماثلهما. ولا يجوز بيع خل الزبيب بخل الزبيب، ولا بيع خل التمر بخل التمر؛ لأنّا إن قلنا: إن في الماء ربا.. لم يجز؛ لمعنيين، وهما: الجهل بتماثل الماءين، والجهل بتماثل الخلين. وإن قلنا: لا ربا في الماء.. لم يجز؛ للجهل بتماثل الخلين. وهل يجوز بيع خل التمر بخل الزبيب؟
إن قلنا: إن في الماء ربا.. لم يجز؛ للجهل بتماثل الماءين.
وإن قلنا: لا ربا في الماء.. جاز بيع أحدهما بالآخر متماثلاً ومتفاضلاً؛ لأنهما جنسان، على المشهور من المذهب، وكذلك يجوز بيع خل الخمر وعصير العنب، بخل التمر متفاضلا ومتماثلاً؛ لأنهما جنسان، على المشهور من المذهب.

[فرعٌ: بيع المدقوق بالمدقوق]
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\220] : ولا يجوز بيع السمسم المدقوق بالسمسم المدقوق، كما لا يجوز بيع الدقيق بالدقيق. وأما بيع الشيرج بكسبه - وهو: عصارة السمسم - ففيه وجهان:
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\220] : يجوز؛ لأنهما جنسان.
وقال أكثر أصحابنا: لا يجوز؛ لأنه لا يخلو من أن يبقى فيه شيء من الشيرج.

[مسألة: بيع اللبن بلبن في الضرع]
ولا يجوز بيع شاةٍ في ضرعها لبن بلبن الغنم؛ لأنه بيع لبن وغنم، بلبن؛

(5/220)


لأن اللَّبن في الضرع يقابله قسط من الثمن، ولهذا إذا اشترى شاةً مصراةً ولم يعلم بها، ثم علم بها، فردّها.. وجب عليه بدل اللبن.
وإن باع شاةً في ضرعها لبنٌ، بلبن بقر أو إبل، فإن قلنا: إن الألبان جنس واحد.. لم يَجُزْ، لما ذكرناه.
وإن قلنا: إن الألبان أجناس.. جاز البيع، ويشترط التقابض فيهما قبل التفرق؛ لأنهما مطعومان.
وإن باع شاةً مذبوحةً في ضرعها لبنٌ، بلبن البقر، فإن كانت غير مسلوخة.. لم يصح البيع؛ لأن بيعها قبل سلخها لا يجوز. وإن كانت قد سلخت، فإن قلنا: إن الألبان جنس.. لم يجز. وإن قلنا: إن الألبان أجناس.. صح البيع، ويشترط قبضهما قبل التفرق.
وإن كان لا لبن في ضرع الشاة المذبوحة، فباعها بلبن قبل السلخ.. لم يجز؛ للجهل باللحم، وإن كان بعد السلخ.. صح البيع؛ لأنهما جنسان، ويشترط القبض فيهما قبل التفرق؛ لأنهما مطعومان. وإن كان في ضرع الشاة لبن، فحلبها، ثم باعها بلبن شاةٍ.. قال الشافعي: (صح البيع ولا اعتبار باللبن اليسير الذي لا يحلب في العادة) .

[مسألة: بيع اللبن في الضرع بلبن في الضرع]
وإن باع شاة في ضرعها لبن، بشاة في ضرعها لبن.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال أبو الطيب بن سلمة: يصح البيع، كما يصح بيع السمسم بالسمسم

(5/221)


وإن كان في كل واحد منهما شيرج، وكما يصح بيع دار بدار وإن كان في كل واحدة منهما بئر ماء.
و [الثاني] : قال أكثر أصحابنا: لا يصح البيع، وهو المنصوص؛ لأن اللبن في الضرع، كاللبن في الإناء، فلم يصح، كما لو باع حيوانًا ولبنًا، بحيوان ولبن.
وأمَّا السمسم بالسمسم: فالفرق بينهما: أن الشيرج في السمسم كالمعدوم؛ لأنه لا يؤخذ منه إلا بطحن ومعالجة. واللبن في الضرع يمكن أخذه من غير مشقة شديدة، فهو كاللبن في الإناء.
وأمَّا الماء في البئر: فإن قلنا: إن الماء غير مملوك.. لم يكن فيه ربا؛ لأنه لم يتناوله البيع. وإن قلنا: إنه مملوك، فإن قلنا: إن في الماء ربًا.. لم يجز بيع دار بدار، وفي كل واحدة منهما بئر ماء. وإن قلنا: لا ربا في الماء.. جاز.

[فرعٌ: بيع حليب الجنس]
ويجوز بيع حليب الجنس بعضه ببعض متماثلاً، كما يجوز بيع التمر بالتمر. ويجوز بيع الرائب بالرائب، وهو: اللبن الذي فيه بعض حموضةٍ، كما يجوز بيع تمر غير طيب بتمر غير طيب. ويجوز بيع الحليب بالرائب، كما يجوز بيع تمر طيب بتمر غير طيب.
قال الشيخ أبو حامد: ولا يجوز بيع الحليب المغلي بغير المغلي، ولا بيع المغلي بالمغلي؛ لأن النار تعقد أجزاءه. ولا يجوز بيع الحليب المشوب بالماء الخالص، ولا بيع المشوب بالمشوب؛ لأن ذلك يؤدي إلى تفاضل اللبنين. ولا يجوز بيع اللبن بالزبد.
قال الشافعي: (لأن الزبد مستخرج من اللبن، فيكون كبيع السمسم بالشيرج) .
وقال الشيخ أبو إسحاق: العلة فيه: أن الزبد لا يخلو من لبن، فيكون بيع لبن مع غيره بلبن، والصحيح: التعليل الأول.

(5/222)


ولا يجوز بيع اللبن بالسمن؛ لعلة الشافعي: أن في اللبن سمنًا، ولا يجوز بيعه باللبن المخيض، وهو: لبن منزوع الزبد؛ لأن في اللبن غير المخيض زبده، وقد نزع من المخيض زبده، فهو أنقص من اللبن.
ولا يجوز بيع اللبن باللِّبأ، ولا بالمصل، ولا بالأقط، ولا بالشيراز؛ لأن أجزاءها منعقدة بالشمس والنار، فلا يمكن كيلها، ولا يجوز بيعها وزنًا؛ لأن أصل اللبن الكيل.
فأما بيع ما يتخذ من اللبن بعضه ببعض: فإن باع السمن بالسمن.. جاز؛ لأنه بلغ حالة ادخاره، والنار دخلته للتمييز، لا لعقد الأجزاء، والمنصوص: (أن أصله الوزن) ؛ لأنه أحصر.
وقال أبو إسحاق: يباع كيلاً؛ لأنه أصله.
وأما بيع الزبد بالزبد: ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز، كما يجوز بيع السمن بالسمن.
والثاني ـ ولم يذكر الشيخ أبو إسحاق، والشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره ـ: أنه لا يجوز؛ لأن فيه لبنًا، فيكون بيع لبن وزبد، بلبن وزبد.
وأما بيع المخيض بالمخيض: فإذا كان لم يطرح في أحدهما الماء للضرب..

(5/223)


جاز، كالرائب بالرائب. وإن طرح الماء فيهما، أو في أحدهما.. لم يجز؛ لتفاضل الماءين والمخيضين.
وأما بيع المصل بالمصل، والأقط بالأقط، والجبن بالجبن، واللِّبأ باللِّبأ.. فلا يجوز؛ لأن أجزاءها منعقدة، وقد دخلت الإنفحة والملح في الجبن، فيكون بيع لبن وغيره بلبن وغيره.
ولا يجوز بيع السمن بالزبد؛ لأن السمن مستخرج من الزبد، فلم يجز بيعه به، كما لا يجوز بيع الشيرج بالسمسم.
وأما بيع الزبد بالمخيض: فالمنصوص: (أنه يجوز) ؛ لأن اللبن الذي في الزبد كالمستهلك.
وقال أبو إسحاق المروزي، والشيخ أبو حامد: لا يجوز؛ لأن في الزبد شيئًا من اللبن.
ولا يجوز بيع المصل بالأقط، ولا بيع الأقط بالجبن ولا باللبأ؛ لأن أجزاءها منعقدة، ويختلف انعقادها.
ويجوز بيع السمن بالمخيض؛ لأنه ليس في السمن شيء من المخيض.
قال أصحابنا: ويجوز بيع السمن بالمخيض متفاضلا؛ لأنهما جنسان، وهكذا إذا قلنا: يجوز بيع الزبد بالمخيض.. فإنه يجوز متفاضلا؛ لأنهما جنسان.

[مسألة: بيع اللحم بالحيوان]
إذا باع لحم إبل بإبل، أو لحم غنم بغنم، أو لحم بقر ببقر.. لم يصح البيع، وبه

(5/224)


قال أبو بكر الصديق، والفقهاء السبعة، ومالك، وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (يجوز بيع اللحم بالحيوان حتى لو باع رطل لحم بحيوان.. جاز) . وبه قال أبو يوسف.
وقال محمد: يجوز إذا كان اللحم أكثر من لحم الحيوان حتى تكون الزيادة بإزاء الجلد.
دليلنا: ما روى سهل بن سعد الساعدي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع اللحم بالحيوان» .
وروى سعيد بن المسيب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الحي بالميت» .

(5/225)


ولأنه جنس فيه الربا تبع أصله الذي فيه مثله، فلم يصح، كما لو باع الشيرج بالسمسم، وكان الشيرج أقل من الشيرج الذي في السمسم، أو مثله.. فإن أبا حنيفة قد وافقنا عليه: (أنه لا يجوز) .
وأما إذا كان الشيرج أكثر من الشيرج الذي في السمسم: فإنه قال: (يجوز؛ لكون الزيادة بإزاء الكسب) .
ودليلنا: أنه باعه بأصله الذي فيه مثله، فلم يجز قياسًا على الذي وافقنا.
وأما إذا باع اللحم بحيوان لا يؤكل، كالبغل والحمار.. فهل يصح؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز؛ لعموم نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع اللحم بالحيوان.
والثاني: يجوز، وبه قال مالك، وأحمد؛ لأن هذا الحيوان لا ربا فيه، فجاز بيعه فيه، كما لو باع اللحم بالثوب.
وإن باع لحم جنس من الحيوان بجنس غيره من الحيوان المأكول، كبيع لحم الإبل بالغنم، أو بالبقر، فإن قلنا: إن اللُّحمان جنس واحد.. لم يصح البيع؛ لما ذكرناه.
وإن قلنا: إن اللُّحمان أجناس.. ففيه قولان، كما لو باعه بحيوان لا يؤكل:
أحدهما: لا يجوز، وبه قال مالك، وأحمد؛ لعموم نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع اللحم بالحيوان. وروى ابن عباس: (أن جزورًا نُحِر على عهد أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فجاء رجل بعناق، فقال: أعطوني بهذه العناق لحمًا، فقال أبو بكر: لا يصلح

(5/226)


هذا) . والجزور لا تنحر بحضرة الخليفة إلا وهناك أماثل الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولم يخالفه أحد.
والثاني: يجوز؛ لأنه باعه بما ليس فيه أصله، فجاز، كما لو باع اللحم بالثوب.
فإن باع لحمًا بسمكةٍ حيَّةٍ، أو باع لحم السمك بحيوان.. قال ابن الصباغ: فإن قلنا: إنه من جملة اللُّحمان.. فهو كما لو باع لحم غنم ببقر. وإن قلنا: إنه ليس من جُملة اللُّحمان.. كان فيه قولان، كما لو باع اللحم بحيوان لا يؤكل.

[فرعٌ: بيع الدجاجة فيها البيض ببيض]
وإن باع دجاجة فيها بيضٌ ببيضِ دجاجةٍ.. لم يجز، قولاً واحدًا؛ لأن ذلك بمنزلة بيع شاةٍ في ضرعها لبنٌ بلبنِ شاةٍ.
وبالله التوفيق

(5/227)