البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب بيع الأصول والثمار]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -[في " الأم " (3/39) ] : (وكل أرض بيعت، فللمشتري جميع ما فيها من بناء وأصل. و (الأصل) : ما له ثمرة بعد ثمرة من شجر وزرع) . وهذا كما قال إذا بيعت الأرض وفيها بناءٌ أو شجرٌ، فإن قال: بعتك هذه الأرض بحقوقها.. دخل البناء والشجر في البيع؛ لأنه من حقوقها. وإن لم يقل: بحقوقها، ولكن قال: بعتك هذا البستان.. دخلت الأرض والشجر الذي فيها في البيع؛ لأن البستان اسم يجمعهما.
وهكذا: إن قال: بعتك هذه الدار.. دخل في البيع الأرض والحيطان والسقوف والأبواب؛ لأن الدار اسم يجمع ذلك كله.
وإن لم يقل ذلك، ولكن قال: بعتك هذه الأرض.. فهل يدخل البناء والشجر في البيع.. نص الشافعي في (البيع) : (أنّ ذلك يدخل) . وقال في (الرهن) : (إذا قال: رهنتك هذه الأرض.. لم يدخل البناء والشجر) .
واختلف أصحابنا فيهما على ثلاث طرق:
فـ[الأول] : قال أبو العباس: لا يدخل فيهما؛ لأن الأرض اسمٌ للعرصة دون ما فيها. وقوله في (البيع) أراد: إذا قال بحقوقها.

(5/228)


و [الثاني] : منهم من نقل جوابه في كل واحدةٍ من المسألتين إلى الأخرى، وخرَّجهما على قولين:
أحدهما: يدخل فيهما؛ لأن البناء والشجر من حقوق الأرض، فدخل في بيعها بمطلق العقد، كطرقها.
والثاني: لا يدخل؛ لأن الأرض اسمٌ للعرصة وحدها.
[والثالث] : منهم من حمل المسألتين على ظاهرهما، فقال في (البيع) : (يدخل) بالإطلاق. وفي (الرهن) : (لا يدخل) من غير شرط، وفرَّق بينهما بفرقين:
أحدهما: أن البيع عقد قوي يزيل الملك، فتبع فيه البناء والشجر، والرهن عقد ضعيف لا يزيل الملك، فلم يتبع فيه البناء والشجر.
والثاني: أنه لما كان النماء الحادث من المبيع بعد العقد للمشتري.. جاز أيضًا أن يتبعها البناء والشجر. ولمَّا كان النماء الحادث من الرهن بعد العقد للراهن.. جاز أن لا يتبعها البناء والشجر.
وإن قال: بعتك هذه القرية.. لم تدخل المزارع فيها؛ لأن اسم القرية حقيقة إنما يقع على البيوت والدروب الدائرة عليها، دون المزارع، ولهذا لو حلف لا يدخل قرية، فدخل مزارعها.. لم يحنث.

[مسألة: دخول المرافق في بيع الدار]
] : إذا قال: بعتك هذه الدار.. فقد قلنا: إن ذلك يشتمل على الأرض والبناء، ويدخل فيها الأبواب المنصوبة، والسلالم، والرفوف المسمرة، والأوتاد المغروزة،

(5/229)


والجوابي، والأجاجين المدفونة فيها؛ لأن ذلك من مرافقها المتصلة بها، فهي كطرقها. وإن كان فيها سلم أو رف غير مسمر.. لم يدخل في البيع، وكذلك الدلو والحبل والبكرة لا تدخل في البيع؛ لأن ذلك غير متصل بها، ولا هو من مرافق الدار، فلم يدخل فيها، كالمتاع الموضوع في الدار، ويدخل فيه الغلق المستمر، والحجر السفلاني من الرحى إذا كانت مبنية؛ لأن ذلك متصل بالدار. وهل يدخل المفتاح، والحجر الفوقاني من الرحى؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يدخلان؛ لأنهما منفصلان عن الدار، فهما كالدلو والبكرة.
والثاني: يدخلان؛ لأنهما وإن كانا منفصلين، إلا أنهما يتعلقان بمنفعة المتصل، فهما كالمتصل.
وإن كان حجر الرحى السفلاني غير مبني.. لم يدخل واحد منهما في البيع، وجهًا واحدًا؛ لأنهما منفصلان عنها، فهما كالدلو والبكرة.
وإن كان في الدار شجرةٌ، فإن قال: بعتك هذه الدار بحقوقها.. دخلت الشجرة في البيع. وإن لم يقل: بحقوقها.. فهل تدخل الشجرة في البيع؟ على الطرق الثلاث.

(5/230)


وإن كان في الدار بئر ماء.. فإن البئر وما فيها من البناء يدخل في بيع الدار بمطلق العقد.
وأما الماء الذي في البئر: فهل هو مملوكٌ؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق، واختيار الشيخ أبي حامد ـ: أنه غير مملوك؛ لأن من اشترى دارًا وفيها بئر ماء، فاستقى منه المشتري أيَّامًا الماء، ثم وجد في الدار عيبًا.. كان له ردُّها؛ فلو كان الماء من جملة المبيع.. لم يكن له ردُّها، ولأن من اكترى دارًا وفيها بئر ماء.. كان له أن يشرب منها ويتوضأ؛ ولو كان الماء مملوكًا.. لم يكن للمستأجر الانتفاع به؛ لأن الأعيان لا يصح أن تستباح بالإجارة، بدليل: أن من استأجر أرضًا، وفيها نخلٌ.. لم يجز له أن يأكل من ثمرتها.
فعلى هذا: لا يدخل الماء في بيع الدار، غير أن المشتري أحق بالماء لثبوت يده على الدار، وليس لأحد أن يتخطى في ملكه إلى الماء؛ لأنه لا يجوز لأحد دخول ملك غيره بغير إذنه، فإن خالف الغير، وتخطى ملكه، وأخذ من ماء البئر.. ملكه كما قلنا في الطائر إذا عشش في ملكه، أو إذا توحَّل الصيد في أرضه.. فليس لأحد أن يتخطى ملكه لأخذه، فلو خالف، وتخطى، فأخذ الطائر والصيد.. ملكه.
والوجه الثاني ـ وهو قول أبي علي بن أبي هريرة، وهو المنصوص في القديم و " حرملة " ـ: (أن الماء مملوكٌ) ؛ لأنه نماء ملكه، فكان مملوكًا له، كالحشيش والثمرة.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا ليس بصحيح؛ لأن الماء ليس بنماءٍ للأرض، وإنما هو يجري تحت الأرض، بخلاف الحشيش والثمرة.
فإذا قلنا: إنه مملوك.. لم يدخل الماء الموجود حال العقد في البيع بالإطلاق حتى يقول: بعتك الدار والماء الظاهر الذي في البئر؛ لأنه نماء ظاهر، فهو كالطلع المؤَبَّر. فإن لم يشترط دخول الماء الظاهر في البيع.. لم يصح بيع الدار؛ لأن الماء

(5/231)


الظاهر للبائع، وما ينبع بعده يكون ملكًا للمشتري. فإذا لم يشترط دخول الظاهر في البيع.. اختلط الماءان، فينفسخ البيع.
وإن أفرد الماء الذي في البئر بالبيع.. لم يصح على الوجهين؛ لأن على قول أبي إسحاق: أن الماء غير مملوك، وما ليس بمملوك.. لا يصح بيعه. وعلى قول أبي علي بن أبي هريرة: هو مملوك، إلاَّ أنه يكون مجهولاً، ولأنه لا يمكن تسليمه؛ لأنه إذا لم يسلمه.. اختلط بالماء الذي ينبع، وهو ملك للبائع.
وأمَّا العيون المستنبطة: فإنها مملوكة، وهل يملك الماء الذي فيها؟ على الوجهين. ولا يصح بيع الماء الذي فيها؛ لما ذكرناه في ماء البئر.
ولا يصح أن يبيعه كذا وكذا سهمًا من ماء كذا؛ لما ذكرناه.
وكذلك: لا يصح أن يقول: بعتك ليلة أو يومًا مِنْ كذا، وكذا يومًا في ماء كذا؛ لأنَّ الزمان لا يصح بيعه، والماء في العيون والآبار لا يصح بيعه؛ لما ذكرناه، ولكن الحيلة فيمن أراد أن يشتري ماء العين أو سهمًا منها: أن يشتري العين نفسها أو سهمًا منها. هكذا ذكر أصحابنا، وعلى قياس ما ذكروا في بيع الدار التي فيها بئر ماء، إذا اشترى العين أو سهمًا منها فيها.. إذا قلنا: إن الماء مملوك.. فيشترط أن يشتري مع العين الماء الظاهر وقت البيع؛ لئلا يختلط ماء المشتري بماء البائع، فينفسخ البيع. ويشترط رؤية الماء وقت عقد البيع؛ لأن البيع فيما لم يره واحدٌ منهما لا يصح، ولا يكفي رؤيتهما المتقدمة قبل البيع؛ لأن ذلك رؤية للماء الحادث وقت الرؤية لا لما يحدث بعده.

(5/232)


فأما الماء الجاري من الأنهار التي ليست بمملوكة، كدجلة والفرات والنيل والسيل الذي يجيء من الموات.. فإنه غير مملوكٍ، فلا يجوز بيعه. فإن أخذ منه إنسان شيئًا بسقاءٍ أو غيره ملكه، وجاز له أن يبيعه. وإن دخل منه شيء إلى أرض رجل.. لم يملكه بذلك، بل يكون أحق به من غيره، كما قلنا في الصيد إذا توحَّل في أرضه. فإن دخل رجلٌ إلى أرض جاره، وأخذ من هذا الماء.. فقد تعدى بدخوله إلى أرض غيره بغير إذنه، ولكنه يملك هذا الماء الذي أخذه. ويأتي على قياس هذا: ما يقع في أرضه من ماء المطر، فإنه لا يملكه ولا يصح بيعه له، وجهًا واحدًا؛ لأنه إنما يملك ماء البئر على قول أبي عليٍّ؛ لأنه نماء أرضه، وهذا ليس بنماء أرضه، وإنما هو أحق به، كما لو توحل في أرضه صيد.
إذا ثبت هذا: فروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنه نهى عن بيع فضل الماء» .
قال الصيمري: فحمل قومٌ ذلك على ظاهره، وأنه لا يصح بيعه على الإطلاق،

(5/233)


وأجروه مجرى النار والشمس والقمر. وهذا غلط؛ لأنه ملكه، والعمل على بيعه في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإلى وقتنا هذا يباع ويبتاع.
وأجمع أصحابنا: أنه لو احتاز رجل ماءً من نهر عظيم، ثم أعاده إليه.. أنه لا يختص بشركةٍ في هذا النهر.
وإن أتلف رجلٌ على غيره ماءً.. فهل تلزمه قيمته أو مثله؟ فيه وجهان.

[تذنيب: في بيع المعدن والركاز مع الأرض]
] : وأمَّا المعادن في الأرض.. فعلى ضربين: جامدة ومائعة.
فأما الجامدة: فهي كمعادن الذهب والفضة والفيروزج، وما أشبه ذلك من النحاس والرصاص، فهذه مملوكةٌ بملك الأرض، وتتبعها في البيع، كأجزائها، إلا أنه إذا كان في الأرض معدن ذهب.. لم يصح بيعها بذهب، وهل يصح بيعها بفضة؟ فيه قولان؛ لأنه بيع وصرف. ويجوز بيعها بغير الذهب والفضة، قولاً واحدًا.
وأما المعادن المائعة: فهي كمعادن النفط والقار والمومياء والملح، فعلى قول أبي إسحاق: هو غير مملوكٍ لا يدخل في البيع، ولكن المشتري أحق به، ولا يصح بيع شيء منه إلا بعد حيازته. وعلى قول أبي علي بن أبي هريرة: هو مملوكٌ؛

(5/234)


فلا يدخل الظاهر منه في البيع إلا بالشرط، ويجوز أن يبيع منه قدرًا معلومًا.
وأما الركاز: فلا يدخل في البيع؛ لأنه مستودع في الأرض، فلم يدخل فيها، ولا يكون للمشتري فيه حقٌّ، سواء كان من ضرب الجاهلية أو الإسلام، فيعرض على البائع، فإن ادَّعى أنه كان دفنه فيها.. فهو له. وإن قال: ليس له.. عرض على من انتقلت الأرض منه إلى البائع إلى أن يدَّعيه مدع، ولا يكون ركازًا؛ لأن الركاز ما وجد في موات.

[مسألة: دخول الثمر في بيع النخل]
] : إذا باع نخلاً وعليها ثمرةٌ.. نظرت:
فإن شرط أن الثمرة غير مبيعة.. فهي للبائع.
وإن شرط أنها للمشتري.. دخلت في البيع. وإن أطلقها البيع نظرت:
فإن كانت الثمرة قد أُبرت ـ وهو: أن يتشقق الطلع، أو يُشَقَّقَ ويُجعل فيه شيء من ثمرة الفحول ـ فالثمرة للبائع.
وإن لم تؤبر.. فهي للمشتري. هذا مذهبنا، وبه قال مالك، وأحمد.
وقال ابن أبي ليلى: الثمرة للمشتري بكل حال.
وقال أبو حنيفة: (بل هي للبائع، أبرت أو لم تؤبر) .
دليلنا: ما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من باع نخلاً بعد أن تؤبر..

(5/235)


فثمرتها للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع» . فنطق الخبر دليل على ابن أبي ليلى، ودليل خطابه دليل على أبي حنيفة.
وروي: «أن رجلاً ابتاع من رجل نخلا، فاختلفا، فقال المشتري: اشتريت، ثم أبرت، وقال البائع: أبرت، ثم بعت، فاحتكما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثمرة للذي أبر» .
ولأنه نماء مستتر في المبيع من أصل الخلقة، فجاز أن يتبع الأصل في البيع، كالحمل.
فقولنا: (مستتر في المبيع) احتراز من الثمرة بعد التأبير.
وقولنا: (من أصل الخلقة) احتراز من الركاز والأحجار المدفونة في الأرض.
أو نقول: لأنه نماء كامنٌ، لظهوره غاية، فكان تابعًا لأصله قبل ظهوره، كالحمل.
فقولنا: (نماء كامن) احترازٌ من المؤبر.
وقولنا: (لظهوره غاية) احترازٌ من الرمان والموز في قشره.
إذا ثبت هذا: فإنه يقال: أبر ـ بالتشديد ـ يؤبر تأبيرًا، وأبر ـ بالتخفيف ـ يأبر أبرًا. وأما الإبار: فبالتخفيف لا غير، ويسمى التأبير: التلقيح، وفيه مصلحة للنخل بإذن الله تعالى.
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم المدينة وهم يلقحون النخل، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما هذا؟ "، فقالوا: ليحمل، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " دعوه، فإن كانت حاملةً.. فإنها

(5/236)


ستحمل "، فتركوه تلك السنة، فلم يحمل نخلهم من تلك السنة إلا الشيص ـ وهو ما لا ينتفع به ـ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ارجعوا إلى ما كنتم عليه، فإنكم أعرف بأمور دنياكم، وأنا أعرف بأمور دينكم» .

[فرعٌ: بيع النخل قبل التأبير]
وإن باع نخلاً وعليها طلع قد تشقق بنفسه، ولم يلقح.. فإن ثمرتها للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع؛ لأن الثمرة إذا كانت للبائع، إذا شققها الآدمي ولقحها.. فبأن تكون له إذا تشققت بنفسها أولى؛ لأن ذلك من فعل الله تعالى، ولأنها قد خرجت عن أن تكون كامنة.

[فرعٌ: بيع فحال النخل]
وإن باع فحال النخل وعليه طلع، فإن كان قد تشقق طلعه.. كان ذلك للبائع كطلع الإناث إذا تشقق بنفسه. وإن كان الطلع لم يتشقق.. ففيه وجهان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: إن الطلع للبائع؛ لأن جميع طلع الفحال مقصود؛ لأنه مأكولٌ، فهو بمنزلة طلع الإناث إذا أبر.
والثاني ـ وهو المنصوص للشافعي ـ: (أنه للمشتري) ؛ لأنه طلع لم يتشقق،

(5/237)


فدخل في بيع الأصل بالإطلاق، كطلع الإناث. وما قال الأول.. غير صحيح؛ لأن المقصود من طلع الفحال ما في جوفه؛ لأنه يلقح به الإناث، ويؤكل أيضًا، وهو باطنٌ لم يظهر، فلم يتبع الأصل، كطلع الإناث.

[فرعٌ: جريان ما مضى بعقود المعاوضات]
وكل عقد معاوضة عقد على النخل، مثل: أن يجعل النخل عوضا في الصلح، أو أُجرة في إجارة، أو مهرًا في نكاح، أو عوضا في الخلع، فحكمه حكم البيع، إن كان عليها طلعٌ غير مؤبر.. تبع الأصل. وإن كان مؤبَّرًا.. لم يتبع الأصل.
وإن وهب لغيره نخلا وعليها طلعٌ غير مؤبر، أو وهب الأب لابنه نخلا لا طلع عليها، فأطلعت في ملك الابن، ثم رجع الأب في الهبة قبل التأبير.. فهل تتبع الثمرة النخلة فيهما؟ فيه وجهان:
أحدهما: تتبعها؛ لأنه أزال ملكه عن الأصل، فتبعته الثمرة، كما لو باع النخلة.
والثاني: لا تتبعها؛ لأنه عقد لا عوض فيه، فلم تتبع الأصل، كما لو أصدق امرأته نخلاً لا طلع عليها، فأطلعت في ملكها، ثم طلقها قبل الدخول.. فإنه لا يرجع فيها.

[مسألة: تأبير نخلة من حائط]
وإذا أطلع الحائط، فأبرت نخلة منه، أو طلعة من نخلة، ثم باع جميع النخل.. نظرت:
فإن كان النخل نوعًا واحدًا.. فإن جميع طلع النخل يكون للبائع إذا لم يشترك المشتري دخولها في البيع؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من باع نخلا بعد أن تؤبر.. فثمرتها للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع» .

(5/238)


قال الشيخ أبو حامد: وإذا أبر نخلة واحدة من جماعة نخل، أو طلعة من نخلة.. فإنه يقال: قد أبر الثمرة. ولأنا لو قلنا: إن ما أبر للبائع وما لم يؤبر للمشتري.. أدى إلى سوء المشاركة واختلاف الأيدي، فتبع الباطن من الثمرة الظاهر منها، كما يتبع أساس الدار ظاهرها.
وإن كان النخل في الحائط أنواعًا، كالمعقلي، والبرني، والسكر، وغير ذلك، فأبر بعض نوع منها، ثم باع جميع نخل الحائط.. فإن طلع ما لم يؤبر من ذلك النوع يتبع ما أبر منه، ويكون للبائع. وهل يتبعه ما لم يؤبر، وما لم يتشقق من الأنواع الأخرى؟ فيه وجهان:
[الأول] : قال أبو علي بن خيران: لا يتبعه؛ لأن النوع الواحد لا يتفاوت إدراكه وتأبيره، بل يتقارب، فيتبع بعضه بعضًا. وأمَّا النوعان: فإن إدراكهما يتفاوت، فلم يتبع أحدهما الآخر.
والثاني ـ وهو قول أبي علي بن أبي هريرة ـ: أنه يتبعه، وهو الصحيح؛ لأنا إنما قلنا: إن الذي لم يؤبر يتبع المؤبر؛ لئلا يؤدي إلى الضرر بسوء المشاركة، واختلاف الأيدي، وهذا المعنى موجودٌ في النوعين، كالنوع الواحد.

[فرعٌ: باع حائطان وأحدهما مؤبر]
وإن كان له حائطان فيهما نخيلٌ أو قطعتان من الأرض وفيهما نخيلٌ، قد أبر أحدهما دون الآخر، ثم باعهما.. فإن المؤبر يكون ثمرته للبائع، والذي لم يؤبر للمشتري.
قال الشيخ أبو حامد: وسواءٌ كانا متلاصقين أو غير متلاصقين إذا تميَّز أحدهما عن

(5/239)


الآخر؛ لأن انفراد كل واحدٍ منهما بثمرة حائط لا يؤدِّي إلى الضرر بسوء المشاركة، واختلاف الأيدي.
فإن كان له حائط، فأطلع بعضه، فأبر المطلع، أو بعضه، ثم باع جميع نخل الحائط، وأطلع الباقي بعد البيع.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن المطلع بعد البيع للبائع أيضًا؛ لأن ثمرة هذا العام له بالتأبير.
والثاني: أنه للمشتري، ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره؛ لأنه حادث في ملكه.
وإن أبر بعض الحائط، ثم أفرد الذي لم يؤبر بالبيع.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو الضعيف ـ: أن الثمرة للبائع؛ لأنه قد ثبت لجميع الحائط حكم التأبير بتأبير بعضه.
والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أن الثمرة للمشتري؛ لأنا إنما جعلنا ذلك للبائع على سبيل التبع للمؤبر إذا بيع معه، فإذا أفرد بالبيع.. لم يتبع غيره.

[فرعٌ: باع حائطًا مؤبرًا وفيه فحول]
] : قال الشافعي: (وإن كان فيها فحول نخل بعد أن تؤبر الإناث.. فثمرتها للبائع) .
فاعترض معترض على قول الشافعي: (فحول) ، وقال: لا يقال في اللغة: فحل، ولا فحول، وإنما يقال للواحد: فحال، وللجمع فحاحيل.
فالجواب: أن الشافعي من أهل اللغة، فقوله حجة، وقد ورد ذلك في لغة العرب، قال الشاعر:
تأبَّري يا خيرة الفسيل ... تأبَّري من حنذٍ فشولي
إذ ضن أهل النخل بالفحول

(5/240)


إذا ثبت هذا: فباع حائطًا فيه إناث وفحول، قد أطلع جميعه، فإن لم يتشقق شيء من الطلع.. فإن ثمرة الإناث للمشتري. وأما طلع الفحول: ففيه وجهان:
[الأول]ـ المنصوص ـ: (أنها للمشتري) .
والثاني: أنها للبائع. وقد مضى ذكرهما.
وإن تشقق شيء من طلع الإناث، أو أُبر.. كان الجميع للبائع؛ لأن على قول الشافعي: الفحول كالإناث، وعلى قول ذلك القائل الآخر: إذا أفرده بالبيع.. كان للبائع، فكذلك هاهنا.
وإن تشقق شيء من طلع الفحول دون الإناث.. فعلى قول الشافعي: تكون ثمرة الفحول والإناث للبائع، لأن الفحول عنده كالإناث، وعلى قول ذلك القائل الآخر: تكون ثمرة الفحول للبائع، وثمرة الإناث للمشتري؛ لأن ثمرة الفحول للبائع بالظهور، فلا تأثير للتشقق، فلا يتبع أحدهما الآخر.

[مسألة: بيع القطن قبل انشقاق الجوز]
] : قال الشافعي: (والكرسف إذا بيع أصله، كالنخل إذا خرج جوزه، ولم يتشقق.. فهو للمشتري، وإذا تشقق.. فهو للبائع) . وهذا كما قال. و (الكرسف) : هو القطن، وهو نوعان:
أحدهما: ما يبقى السنتين، والثلاث، وذلك قطن الحجاز والبصرة، وهو مراد الشافعي، وكذلك قطن أبين وتهامة والعراق. وحكم هذا النوع، حكم النخل،

(5/241)


فإذا بيعت الأرض وفيها قطن.. كان تابعًا للأرض. وإن بيع القطن دون الأرض.. صحَّ. فإذا بيع القطن مفردًا أو مع الأرض.. نظرت:
فإن كان قبل ظهور جوزه، أو بعد ظهوره وقبل تشققه.. فهو للمشتري، كثمرة النخل قبل التشقق والتأبير.
وإن كان البيع بعد ظهور جوزه وتشققه أو تشقق بعضه.. فهو للبائع، كثمرة النخل إذا أبرت أو تشققت.
والنوع الثاني: وهو ما لا يبقى إلا سنة، وهو قطن خراسان، فهو كالزرع، فإن بيعت الأرض وفيها القطن.. لم يدخل في البيع من غير شرط. وإن بيع القطن دون الأرض.. نظرت:
فإن كان حشيشًا لم ينعقد جوزه، أو انعقد وهو حشيش لم يحصل فيه قطن.. جاز بيعه بشرط القطع. وإن بيع مع الأرض.. صحَّ بيعه من غير شرط القطع.
وإن كان قد عقد جوزه واستحكم قطنه.. قال الشيخ أبو حامد: فلا يصح بيعه أصلا، لا مفردًا، ولا مع الأرض؛ لأن المقصود منه القطن، وهو مغيب مجهول. قال: وكذلك لا يجوز بيعه وإن تشقق جوزه، كالطعام في سنبله. قال: ولا يجوز بيع جوزه في الأرض أيضًا؛ لأن مقصوده لا يُرى، ولأنه مستورٌ بما لا مصلحة له فيه، فلم يصح بيعه فيه، كالتمر في الجراب.

[مسألة: شجيرات الورد]
وأما غير النخل والكرسف من الأشجار: فعلى ثلاثة أضرب:

(5/242)


أحدها: ما يقصد منها الورد، وهو على قسمين:
أحدهما: ما يخرج ورده في كمام، ثم يتفتح بعد ذلك ويظهر، كالورد، فإذا بيعت الأرض وفيها شجر الورد.. دخل الشجر في بيع الأرض. وإن بيع شجر الورد منفردًا.. صحَّ البيع، وينظر فيه:
فإن كان الورد في كمامه لم يتشقق منه شيء.. فهو للمشتري، كطلع النخل إذا لم يتشقق.
وإن تشقق، وتقلع، وظهر الورد.. فهل للبائع، إلاَّ أن يشترطه المبتاع، كطلع النخل إذا تشقق.
والقسم الثاني: من الورد ما يخرج بارزًا بلا كمام، كالياسمين، فإذا بيع شجره، فإن كان قد ظهر ورده.. فهو للبائع، إلا أن يشترطه المشتري. وإن لم يظهر.. فهو للمشتري.
والضرب الثاني: من الأشجار ما يقصد منه الورق، وهو شجر التوت، فإذا بيع أصول التوت.. ففيه وجهان:

(5/243)


أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق، واختيار الشيخ أبي حامد ـ: إن كان قد ظهر من الورق شيء.. فهو للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع، وإن لم يظهر منه شيء.. فهو للمشتري؛ لأن المقصود من هذا الشجر الورق، فهو كالثمرة من سائر الأشجار.
ومن أصحابنا من قال: إنه للمشتري بكل حال؛ لأنه بمنزلة أغصان الشجر؛ لأن للتوت ثمرة تؤكل غير الورق.
وإن باع شجر الحناء والجوز والهدس.. فلا نص فيها، فيحتمل أن تكون كالتوت على الوجهين، ويحتمل أن يكون البائع أحق بالورق إذا ظهر، وجهًا واحدًا؛ لأنه لا ثمرة لهذه الأشجار غير الورق.
والضرب الثالث: من الأشجار ما يقصد منه الثمرة، وهو ينقسم أربعة أقسام:
[الأول] : قسم تخرج ثمرته ظاهرةً من غير كمام، كالتين والعنب، فإذا بيع الشجر، فإن كانت الثمرة قد ظهرت.. فهي للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع، وإن لم تظهر.. فهي للمشتري؛ لأن الظاهر منها كطلع النخل إذا تشقق، وما لم يظهر منها كقطع النخل قبل التشقق.
والقسم الثاني: من الثمار ما يخرج عليه قشرة لا تزال عنه إلا عند الأكل، وهو الرمان والموز، فإذا باع الشجر وقد ظهرت ثمرته.. فإن الثمرة للبائع. وإن لم تظهر.. فهي للمشتري؛ لأن هذه القشرة من مصلحته، وبقاؤه فيها.
قال الشافعي: (وإذا تشقق الرمان.. كان ذلك نقصًا فيه) .
والقسم الثالث: من الثمار ما يخرج وعليه قشرتان، وهو الجوز واللوز والرانج. فإن باع الشجر وعليه ثمرته، فإن كان قد تشقق عنها القشر الأعلى..

(5/244)


فالثمرة للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع. وإن باع الشجر قبل أن يتشقق عنها القشرة العليا.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو اختيار ابن الصباغ ـ: أنها تكون للبائع؛ لأن الشافعي قال في " الأم " [3/38] : (ومن باع أرضا فيها شجر رمان، أو جوز، أو لوز، أو رانج، أو ما يواريه حائل لا يفارقه بحال إلا عند أكله.. فهو كما وصفت من الثمر البادي بلا كمام؛ ولأن قشره لا يتشقق عنه، فهو كقشر الرمان) .
والثاني ـ وهو اختيار الشيخ أبي حامد ـ: أنه للمشتري كطلع النخل إذا لم يتشقق. قال: وأما قول الشافعي: فيحتمل: أنه لم يعلم أن للجوز واللوز قشرتين، أو أراد بالحجاز؛ لأنه لا يكون له بالحجاز إلا قشرة واحدة.
والقسم الرابع: من الثمار ما يخرج وعليه نور، ثم يتناثر عنه النور، كالتفاح والمشمش والخوخ، فإن باع الأصل، وقد تناثر النور عن الثمرة.. فإن الثمرة تكون للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع. وإن كان قبل تناثر النور عنها.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو المنصوص في " البويطي "، واختيار القاضيين: أبي حامد، وأبي الطيب ـ: (أن الثمرة للمشتري) ؛ لأن استتار الثمرة بالنور كاستتار ثمرة النخل بالطلع، وتناثر النور عنها كتشقق طلع النخل.
والثاني ـ وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفراييني ـ: أن الثمرة للبائع؛ لأن الثمرة قد ظهرت، وإنما استترت بالنور، كاستتار ثمرة النخل بعد التأبير بالقشر الأبيض.
وقال الشيخ أبو حامد: وقد أومأ الشافعي إلى: (أن العنب لا ورد له) . قال: وعندي: أن له وردًا، ثم ينعقد.

(5/245)


[فرعٌ: بيع أصول الثمار]
وإذا باعه أصلاً وقد ظهرت بعض ثمرته.. فإنَّ الظاهر منها يكون للبائع، فإن ظهر باقي ثمرة العام بعد البيع.. فلمن يكون الظاهر بعد العقد؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما في التأبير.

[مسألة: بيع أرض مختلفة الزرع]
وإن باع أرضًا وفيها نبات غير الشجر، فإن كان له أصل يبقى السنتين والثلاث، ويجز مرة بعد أخرى، كالرطبة، وهو القضب، والقضب الفارسي، والنعناع، والهندباء، والبطيخ، والبنفسج، والنرجس.. فإن الأصل يدخل في البيع. فإن كان قد نبت منه شيء حال عقد البيع.. فإن النابت منه يكون للبائع، كالطلع المؤبر. وإن لم يكن نابتًا حال العقد.. فلا حق للبائع فيه، بل ذلك للمشتري، كالطلع الذي لم يؤبر.
قال الشيخ أبو حامد: ومن أصحابنا من قال: النرجس يكون للمشتري بكل حال. قال: وهذا كلام من لم يعرف النرجس، وذلك: أن النرجس له أصل يبقى عشرين سنة، وإنما يحول من موضع إلى موضع في كل سبع سنين لمصلحته.
وإن باع أرضًا وفيها زرعٌ ظاهرٌ.. نظرت:

(5/246)


فإن كان يجز مرة بعد أخرى.. دخل الأصل في بيع الأرض. وما ظهر حال العقد.. فهو للبائع، وما يظهر بعد العقد.. فهو للمشتري. وكذلك الكراث إذا بيعت الأرض التي هو بها.. فإن أصل الكراث يدخل في البيع، وما كان ظاهرًا حال العقد لا يدخل في البيع إلا بالشرط، ويؤمر البائع بأخذه في الحال؛ لأن الزيادة بعد العقد تكون للمشتري.
وإن كان الزرع يؤخذ مرة واحدة، كالحنطة والشعير.. فإنه لا يدخل في بيع الأرض من غير شرط؛ لأن هذا الزرع مودع في الأرض، فهو كالكنز والماس؛ لأنه نماءٌ ظاهرٌ لا يراد للبقاء، فلم يدخل في بيع الأرض من غير شرط، كالطلع المؤبر. وإن قال: بعتك هذه الأرض بحقوقها.. قال الشيخ أبو حامد: فإن الزرع لا يدخل في بيعها؛ لأنه ليس من حقوقها، بخلاف الغراس.
إذا ثبت هذا: فإن للبائع أن يبقي هذا الزرع في الأرض إلى أن يستحصد.
وقال أبو حنيفة: (يجبر على أخذه في الحال) .
دليلنا: هو أن من ابتاع شيئًا مشغولاً بحق البائع.. فإن على البائع أن يأخذ ذلك على الوجه الذي جرت العادة بأخذه، كما لو باعه دارًا فيها طعامٌ للبائع.. فإنه لا يجب عليه نقله إلا على حسب العادة في نقله، ولا يلزم البائع أجرة الأرض إلى وقت الحصاد؛ لأن الأجرة تجب في مقابل منفعة استوفاها بالغصب، أو بالعقد، ولا غصب هاهنا، ولا عقد. فإذا بلغ أوان الحصاد.. فعلى البائع أن يحصد زرعه، فإذا حصده.. نظر فيه:
فإن لم يبقى للزرع عروق في الأرض تضر بها، كالحنطة والشعير.. فقد ارتفعت يده، ولا شيء عليه غير ذلك.
وإن بقي للزرع عروق تضر بالأرض، كالذرة.. فعلى البائع أن يقلع تلك العروق.

(5/247)


فإن حصد البائع زرعه قبل أوان الحصاد.. لم يكن له أن يبدل مكان زرعه زرعًا آخر؛ لأن المستحق على المشتري تبقيه هذا الزرع لا غير.
إذا تقرر ما ذكرناه: فإن أبا إسحاق المروزي قال: إذا باع أرضًا فيها زرع للبائع.. فهل يصح البيع في الأرض؟ على قولين، كبيع الأرض المستأجرة من غير المستأجر؛ لأن الأرض في يد البائع إلى أن يحصد زرعه، كما أن الأرض في يد المستأجر إلى أن يستوفي منفعته.
وقال أكثر أصحابنا: يصح البيع في الأرض، قولاً واحدًا؛ لأن يد المستأجر تحول بين المشتري وبين ما اشترى، ويد البائع لا تحول بينه وبين الأرض؛ لأن للمشتري أن يدخل إلى الأرض، ويتصرف بها بما ليس بمزروع فيها بما شاء من وجوه التصرفات التي لا تضر بالزرع، ولأن هذا لو أشبه الأرض المستأجرة.. لوجب أن يبطل البيع، قولاً واحدًا؛ لأن مدة الإجارة معلومة، ومدة بقاء الزرع مجهولة، وهذا لم يقله أحد.
وإن باع الزرع والأرض، فإن كان الزرع لا حبَّ فيه.. صح البيع مطلقًا من غير شرط القطع تبعًا للأرض. وإن كان في الزرع حبٌّ، فإن كان حبًّا ظاهرًا، كالشعير والذرة.. صحّ البيع فيهما، وإن كان غير ظاهر، كالحنطة والدخن، فإن قلنا بقوله القديم: (إن بيع الحنطة في سنبلها مع سنبلها يصح) صح البيع فيهما وإن قلنا بقوله الجديد: (لا يصح بيع الحنطة في سنبلها) .. لم يصح البيع في الأرض والحنطة؛ لأنه يكون بيع مجهول ومعلوم.

[فرعٌ: اشترى أرضًا كان رآها]
إذا اشترى أرضًا غائبة عنه، وكان قد رآها قبل ذلك غير مزروعة، فوجدها مزروعة، أو اشترى نخلا قد رآها قبل الشراء لا طلع عليها، فوجد عليها طلعا

(5/248)


مؤبَّرًا.. قال الشافعي: (فللمشتري الخيار فيهما) ؛ لأنه يفوته زرع تلك السنة في الأرض، وتفوته الثمرة في النخل تلك السنة، فيثبت له الخيار، ولأن ملكه يبقى مشغولا بحق غيره، وذلك نقص عليه، فثبت له الرد.

[فرعٌ: اشترى أرضًا مبذورة]
وإن اشترى أرضًا مبذورة، فإن كان البذر مما يبقى أصله في الأرض سنتين وثلاثًا، كبذر الكراث وما أشبهها من البقول.. دخل البذر في بيع الأرض. وهكذا: إذا باعه أرضًا وقد بذرَ فيها نوى أو جوزًا.. دخل البذر في بيع الأرض؛ لأنه بذر فيها للبقاء، لا للنقل والتحويل. وإن كان بذر زرع يؤخذ إذا استحصد، ولا يبقى أصله، كبذر الحنطة والشعير والذرة، فإن أطلق البيع، ولم يشترط دخول البذرة في البيع.. صح البيع في الأرض، ولم يدخل البذر في البيع؛ لأنه مودعٌ في الأرض يراد للنقل والتحويل، فهو كالزرع، وعلى المشتري تبقية هذا البذر في أرضه إلى أن يستحصد، كالزرع. فإن علم المشتري بأن الأرض مبذورة.. فلا خيار له. وإن لم يعلم أنها مبذورة.. ثبت له الخيار؛ لأن في بقائه في أرضه ضررًا عليه، فثبت له الخيار لأجل ذلك. وإن قال البائع: أنا آخذ هذا البذر، وأمكنه ذلك في زمان لا يضر بمنافع الأرض.. لم يكن للمشتري الخيار.
قال في " الأم " [3/39] : (وكذلك: إن رضي البائع بتركه للمشتري.. فلا خيار له) ؛ لأنه زاده خيرًا بالترك، فلزمه قبوله؛ لأن فيه تصحيح العقد.
وإن باعه الأرض مع البذر.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو المذهب ـ: أن البيع في البذر باطل؛ لأنه مجهول.
فعلى هذا: إن قلنا: إن الصفة لا تفرق.. بطل، أو قلنا: تفرق، ويأخذ الأرض بحصتها من الثمن.. بطل البيع في الأرض أيضًا. وإن قلنا: يأخذ الأرض بجميع الثمن.. صحَّ البيع فيها، وثبت له الخيار فيها؛ لتفرق الصفقة.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: يصح البيع في البذر تبعًا لبيع الأرض. وليس بشيء.

(5/249)


[مسألة: باع أصلاً وعليه ثمرته]
] : إذا باع أصلا وعليه ثمرة لبائع.. لم يكلف البائع قطع ثمرته قبل أوان قطعها.
وقال أبو حنيفة: (يجبر على قطعها في الحال) .
دليلنا: أن من ابتاع شيئًا مشغولاً بملك البائع.. فإنه لا يجب على البائع أن يأخذ ملكه إلا على الوجه الذي جرت العادة بأخذه فيه، كما لو باع منه دارًا له فيها قماشٌ بالليل.. فإنه لا يلزم البائع نقل قماشه إلا بالنهار، وإن كان في المطر.. لم يكلف البائع نقل متاعه حتى يسكن المطر، ولا يلزمه أن ينقله دفعة واحدة، بل على حسب العادة في نقله، ولم تجر العادة بأن الناس يأخذون ثمارهم قبل أوان جذاذها.
إذا ثبت هذا: فإن كان عنبًا.. فإن له أن يبقي ذلك إلى أن ينضج، ويحلو، وتشتد حلاوته. وإن كان تينًا أو تُفاحًا وغيرهما مما يشبههما من الثمار.. فإلى أن ينضج. وإن كان نخلاً.. فإلى أن يُرطبَ، إلا أن يكون نخلاً لا يصير رطبًا، وهو القرش الذي لا يقطع إلا بُسرًا، فإذا اشتدت حلاوته بسرًا.. فعليه أن يأخذه، فإذا بلغ إلى أول حالٍ يؤخذ فيها.. فعليه أن يأخذها. فإن قال البائع: أنا لا آخذها بل أُبقيها؛ لأنه أنفع لها، وأتم لصلاحها.. فليس له ذلك، كما لو باع دارًا وفيها متاعٌ له.. فعليه أن ينقل متاعه عنها، ولو قال: لا أنقله عنها. لأنها أحرز من غيرها.. لم يكن له ذلك، كذلك هاهنا مثله.

[مسألة: انقطاع الماء عن الثمر المؤبر]
] : وإن باع نخلاً، وعليها ثمرةٌ مؤبرة، ولم يشترطها المشتري.. فقد ذكرنا: أن الثمرة للبائع، فإن انقطع الماء، فإن كان تبقية الثمرة على النخل لا تضر بالنخل، أو

(5/250)


تضرُّ بها ضررًا يسيرًا.. فللبائع أن يبقي ثمرته على النخل؛ لأنه وجب بإطلاق العقد، ولا ضرر بذلك على النخل. وإن كان تبقية الثمرة تضر بالنخل.. ففيه قولان:
أحدهما: للبائع أن يبقي ثمرته وإن ضر بالنخل؛ لأن ذلك وجب له بإطلاق العقد.
والثاني: يلزمه قطع ثمرته؛ لأنه إنما يملك التبقية إذا لم يضر بنخل المشتري، فإذا كان يضر به.. لم يكن له ذلك. وإن احتاجت الثمرة والنخل إلى السقي.. فلكل واحد منهما أن يسقي، وإن منعه الآخر.. أُجبر الممتنع منهما؛ لأنه لا ضرر على أحدهما بالسقي. وإن كان السقي يضر بالثمرة والنخل.. فليس لأحدهما أن يسقي بغير إذن صاحبه لأنه يضر ولا ينفعه ويضر غيره وإن كان السقي ينفع أحدهما دون الآخر، فإن اتفقا على السقي أو على ترك السقي.. جاز؛ لأن الحق لهما. وإن دعا إلى السقي من له فيه منفعة، وامتنع من عليه ضرر في السقي ففيه وجهان:
[الأول] : قال أبو إسحاق يفسخ العقد بينهما؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر، ففسخ العقد بينهما.
و [الثاني] : قال أبو علي بن أبي هريرة: يجبر الممتنع منها؛ لأنهما دخلا في العقد على ذلك، وكل من أراد السقي.. فأجرة السقي عليه؛ لأن منفعته تعود إليه.
فإن اختلفا في قدر السقي، فقال البائع: تسقى في كل عشرة أيام سقية، وقال المشتري: بل في كل عشرين يومًا سقية.. رجع فيها إلى أهل الخبرة بذلك، فما احتيج إليه.. أجبر عليه الآخر إذا قلنا: يجبر.

[فرعٌ: شراء شجرة في أرض]
ذكر الطبري في " العدة ": إذا اشترى شجرة في أرض.. ملك الشجرة، وله تبقيتها في أرضها إلى أن تستقلع، وهل يكون قرارها داخلاً في البيع؟ فيه وجهان:

(5/251)


أحدهما: أنه داخل في البيع؛ لأن قوامها به، فجرى مجرى أصل الشجرة.
فعلى هذا: إذا انقلعت هذه الشجرة.. كان له أن يقيم مقامها في قرارها.
والثاني: أنه لا يدخل في البيع؛ لأن اسم الشجرة لا يقع على قرارها.
فعلى هذا: إذا انقلعت الشجرة.. كان قرارها ملكًا للبائع.

[مسألة: بيع الثمر قبل صلاحه]
إذا باع الثمرة على رؤوس الشجر مفردة قبل بدو الصلاح، أو باع زرعًا في أرض قبل بدو الصلاح، فإن شرط في البيع قطع ذلك.. قال الشيخ أبو حامد: صحّ البيع بلا خلاف؛ لأنهما يأمنان بهذا الشرط من الغرر. وإن شرطا تبقية ذلك.. لم يصح البيع بلا خلاف؛ لأن ذلك يؤدي إلى الغرر؛ لأنه لا يدري، هل يسلم ذلك، أم لا؟
وإن أطلقا العقد.. لم يصح البيع عندنا، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق.
وقال أبو حنيفة: (يصح البيع، ويأخذ المشتري بقطع ذلك في الحال) .
دليلنا: ما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها» .

(5/252)


وروى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الثمار حتى تُزهي، قيل: يا رسول الله وما تزهي؟ قال: " حتى تحمر "، ثم قال: " أرأيت لو منع الله الثمرة.. بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟» .
وروى أنس أيضًا: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع العنب حتى يسود، وعن بيع الحب حتى يشتد، ونهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها» .
وعموم هذا يدل على أنه لا يجوز بشرط القطع ولا بغيره، فقامت الدلالة على جواز البيع بشرط القطع، وهو الإجماع، وبقي الباقي على عموم الخبر، ولأن نقل المبيع إنما يكون على حسب العادة بنقله، بدليل: أنه إذا اشترى متاعا بالليل.. فإنه لا يكلف نقله حتى يصبح، وإذا اشترى طعامًا.. لم يكلف نقله دفعةً واحدةً، بل ينقله شيئًا بعد شيء، وقد جرت العادة أن الثمار لا تنقل إلا بعد بدو الصلاح فيها، وإذا باعه ثمرة أو زرعًا قبل بدو الصلاح فيها من غير شرط القطع.. لم يأمن أن يتلف بعاهة قبل ذلك، وفي ذلك غرر من غير حاجة، فلم يصح.

[مسألة: بيع الثمار قبل الصلاح من غير شرط القطع]
] : قال الشافعي في " الرسالة ": (وإن باع الثمار مع الأصول قبل بدو الصلاح من غير شرط القطع.. صح البيع) ؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من باع نخلاً بعد أن

(5/253)


تؤبر.. فثمرتها للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع» . ولأن الشيء قد لا يجوز بيعه مفردًا، ويجوز بيعه مع غيره على وجه التبع، كما قلنا في الحمل في البطن، واللبن في الضرع، وأساس الحيطان.

[فرعٌ: يتعين القطع قبل بدو الصلاح]
وإن باع الثمرة قبل بدو صلاحها من صاحب النخل من غير شرط القطع، أو باع الزرع قبل بدو صلاحه من صاحب الأرض من غير شرط القطع ـ ويتصور هذا: بأن يبيع الرجل نخلاً وعليها ثمرة مؤبرة ـ أو باع أرضًا وفيها زرعٌ، ولم يشترط المشتري دخول الثمرة والزرع في البيع.. فقد ذكرنا: أن الثمرة والزرع غير مبيعين، ثم باع البائع ذلك من صاحب النخل والأرض، أو أوصى لرجل بثمرة نخله أو بزرع أرضه، ثم مات، وباع صاحب الثمرة ثمرته من مالك النخل، أو باع مالك الزرع زرعه من مالك الأرض قبل بدو الصلاح من غير شرط القطع.. فهل يصح البيع؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح البيع؛ لأنه باع الثمرة والزرع قبل بدو الصلاح من غير شرط القطع، فلم يصح البيع، كما لو باع ذلك من غير مالك النخل والأرض.
والثاني: يصح البيع؛ لأنهما يحصلان لواحد، فهو كما لو اشتراهما دفعةً واحدةً.

[فرعٌ: استثناء البائع الثمرة لنفسه]
] : وإن باع الرجل نخلاً وعليها طلعٌ غير مؤبر.. فقد ذكرنا: أن الثمرة تكون للمشتري، فإن استثنى البائع الثمرة لنفسه.. فهل يجوز من غير شرط القطع؟ فيه وجهان:

(5/254)


أحدهما: لا يصح، وهو ظاهر النص، كما لو ابتدأ شراءها.
فعلى هذا: إذا اشترط التبقية.. بطل البيع.
والثاني: يصح البيع؛ لأن ذلك ليس بابتياع، وإنما هو استبقاء لها على ملكه، فلم يفتقر إلى شرط القطع.
فعلى هذا: إذا شرط التبقية فيها إلى وقت جذاذها.. صحّ البيع؛ لأن هذا من مقتضى العقد.

[فرعٌ: بيع نصف الثمر قبل صلاحه]
لو باع نصف ثمرته قبل بدو الصلاح فيها، أو نصف زرعه قبل بدو الصلاح فيه.. قال ابن الحداد: لم يصح البيع؛ لأنه لا يصح قسمة ذلك. فغلطه بعض أصحابنا في العلة، وقال: ليس العلة: أنه لا تصح قسمة ذلك، ألا ترى أنه لا يصح البيع. وإن قلنا: إن القسمة تمييز الحقين؛ لأن نصيبه لا يتميز من نصيب شريكه، ولا يجبر شريك على قلع زرعه، وهذا تعليله في كتاب (الصلح) ، بل العلة: أنه لا يصح قطع نصف الثمرة والزرع مشاعًا.
وقال القاضي أبو الطيب: بل الصحيح ما علل به ابن الحداد، وقد نص الشافعي على هذه العلة، فقال: (لو كان بين رجلين زرعٌ، فصالحه أحدهما على نصف الزرع.. لم يجز من قبل أنه لا يجوز أن يقسم الزرع أخضر، لا يجبر شريكه على أن يقطع منه شيئًا) .
قال القاضي: وإذا باعه نصف ثمرة أو نصف زرع قبل بدو الصلاح بشرط القطع، فإن قلنا: إن القسمة بيع.. لم يصح هذا البيع؛ لأنه لا تصح قسمته، وإذا لم تصح قسمته.. لم يتأت قطع نصفه. وإن قلنا: إن القسمة تمييز الحقين.. صح البيع؛ لأنه يمكن قطعه كأن يقاسمه في الثمرة أو الزرع، فإذا تميز حقه.. قطعه، فإن قلنا:

(5/255)


لا تصح قسمة الثمرة، فباعه نصف الثمرة أو نصف الزرع بشرط أن يقطع الجميع.. لم يصح البيع؛ لأن البائع لا يجبر على قطع ما لم يبع، فكان هذا الشرط ينافي مقتضى العقد، فأبطله.

[فرعٌ: في النخلة المشتركة]
وإن كانت نخلة مثمرة بين رجلين، فاشترى أحدهما حق شريكه من جذع النخلة بحقه من الثمرة قبل بدو صلاحها، بشرط أن يقطع جميع الثمرة.. صح البيع؛ لأن المشتري للثمرة يلزمه أن يقطع النصف الذي اشتراه بالشرط، ويلزمه أن يقطع النصف الذي لم يبع بتفريغ الجذع الذي باع، فيجب عليه قطع الجميع بخلاف المسألة قبلها.

[فرعٌ: بيع الثمر بعد صلاحه]
وإذا باع الثمرة أو الزرع بعد بدو الصلاح فيه، فإن باعه بشرط القطع.. صح البيع بالإجماع؛ لحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما؛ ولأنه إذا صح بيعه بشرط القطع قبل بدو الصلاح.. فبعد بدو الصلاح أولى. وإن باعه مطلقًا.. صح بيعه بالإجماع. وعندنا يلزم البائع تبقيته إلى أوان الجذاذ والحصاد.
وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يلزم المشتري نقله في الحال، كما قال فيمن باع نخلاً وعليه ثمرة مؤبرة.
وإن باعه بشرط التبقية إلى وقت الجذاذ.. صح البيع عندنا، وبه قال محمد.
وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: (لا يصح) .
دليلنا: أن نقل المبيع لا يجب إلا على ما جرت العادة بنقله، ولم تجر العادة بنقل الثمرة والزرع إلا بعد وقت الجذاذ فيه، فاقتضى الإطلاق ذلك، وكان شرط التبقية بيانًا لما يقتضيه العقد، فلم يمنع صحة البيع له.

(5/256)


إذا ثبت: أن المشتري لا يلزمه نقل ثمرته، ولا زرعه إلا وقت الجذاذ فيه، إما بالإطلاق، أو بشرط التبقية.. فحكمه حكم من باع نخلاً وعليها ثمرةٌ مؤبرة، فيلزمه أن يأخذ ذلك في الحال التي يلزم البائع أخذ ثمرته. فإن احتاجت هذه الثمرة أو الزرع إلى سقي.. وجب على البائع أجرة السقي؛ لأنه يجب عليه التسليم في حال الجذاذ والحصاد، وذلك لا يحصل إلا بالسقي، فلزمه ذلك.

[فرعٌ: أخر الجذاذ لما بعد بدو الصلاح]
إذا اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع، فلم يقطعها حتى بدا صلاحها.. لم يبطل البيع.
وقال أحمد في أصح الروايتين عنه: (يبطل البيع، وتعود الثمرة بزيادتها إلى البائع) .
دليلنا: أن المبيع بحاله، وإنما طرأت عليه زيادة، والزيادة لا تبطل العقد، كما لو اشترى عبدًا صغيرًا، فكبر، أو هزيلا، فسمن.
وإن باع ثمرة بعد بدو صلاحها وما يحدث بعد ذلك من الثمرة.. لم يصح البيع في الموجودة ولا في المعدومة.
وقال مالك: (يصح في الجميع) .
دليلنا: أن هذا غرر، فلم يصح، كما لو باعه المعدومة منفردة.

[مسألة: بيان بدو الصلاح]
وبدو الصلاح: هو تغير الثمرة باحمرار أو اصفرار إن كانت مما يتغير. وحُكي عن بعض الفقهاء: أنه قال: بدو الصلاح: هو طلوع الثريا؛ لما «روى ابن عمر: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الثمار حتى تنجو من العاهة) . وقيل لابن عمر: متى تنجو من العاهة؟ فقال: طلوع الثريا»

(5/257)


دليلنا: ما «روى أنسٌ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الثمار حتى تُزهي) . قيل: وما تُزهي؟ قال: تحمر»
وأما قول ابن عمر: فإنما بين بذلك وقت بدو الصلاح.
إذا ثبت هذا: فإن كانت الثمرة رُطَبًا.. فبدو الصلاح فيها أن تصفر أو تحمر؛ وإن كان عنبا أسود.. فبدو صلاحه أن يسود، وإن كان أبيض.. فبأن يتموّه، وهو أن تبدو فيه الحلاوة، ويصفر لونه، وإن كان مما لا يتلون، مثل: التفاح.. فبأن يحلو، ويطيب أكله.
قال الشافعي: (وللخربز ـ وهو البطيخ ـ نضج كنضج الرطب، فإذا رأى ذلك.. حل بيع خربزه) . قال: (والقثاء يؤكل صغارًا طيِّبا، فبدو صلاحه أن يتناهى عظمه أو عظم بعضه) . فاعترض ابن داود على الشافعي، وقال: علَّمنا الشافعي: (أن القثاء يؤكل صغارًا) ، وذلك يدرك بالمشاهدات، وقوله: (إنه طيب) يدل على: أنه كان يحب القثاء.
قال أصحابنا: فالجواب: أن الشافعي لم يرد هذا، وإنما أراد أن يبين بهذا أن كل ثمرة في الدنيا إذا طاب أكلها.. فقد بدا صلاحها، إلا القثاء، فإنه يؤكل صغارًا طيِّبًا، وليس ذلك بدو صلاحه، وإنما يشترط كبره بحيث يوجد في العادة ويؤكل، ويبلغ إلى الحد الذي لو زاد عليه.. لفسد.
والدليل على ما ذكرناه: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع العنب حتى يسود، وعن بيع الحب حتى يشتد» .

(5/258)


وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنه نهى عن بيع الثمرة حتى تُزهيَ) . قيل: وما تُزهي؟ قال: "تصفر» . فنص على العنب والرطب والحب، وقسنا على ذلك غيرها من الثمار، فإذا وجد بدو الصلاح في بعض نوع من جنس ولو كان بسرة واحدة أو عنبة واحدة.. جاز بيع جميع ما في ذلك الحائط من ذلك النوع تبعا لما بدا فيه الصلاح منه.
ولأنا لو قلنا: لا يجوز إلا بيع ما بدا فيه الصلاح من ذلك النوع.. لأدى إلى الضرر بسوء المشاركة، واختلاف الأيدي، وهل يجوز بيع ما لم يبدُ فيه الصلاح من نوع آخر من ذلك الجنس في ذلك الحائط معه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأن الأنواع من جنس يضم بعضها إلى بعض في إكمال النصاب في الزكاة، فكذلك في البيع.
والثاني: لا يجوز؛ لأن النوعين يتباعد إدراكهما، بخلاف النوع الواحد، وقد نص الشافعي في " البويطي ": (إذا كان أحدهما صيفيًّا والآخر شتويًّا.. لا يتبع أحدهما الآخر) . فكذلك هذا مثله. وإن أفرد ما لم يبد فيه الصلاح من ذلك الجنس في ذلك الحائط بالبيع من غير شرط القطع.. فهل يصح؟ فيه وجهان، ذكرناهما في التأبير.
ولا يجوز أن يبيع ما لم يبد فيه الصلاح من ذلك الجنس في حائط آخر، ولا ما لم يبد فيه الصلاح من جنس آخر في ذلك الحائط. هذا مذهبنا، وبه قال أحمد.
وقال الليث: (إذا بدا الصلاح في بعض الثمار.. كان بدوًّا للصلاح في جميع الثمار) .
وقال مالك: (إذا بدا الصلاح في جنس.. كان ذلك بدوًّا للصلاح في ذلك الجنس كله في ذلك البلد، فيجوز بيعه) .
دليلنا على الليث: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع العنب حتى يسود، وعن بيع الحب حتى يشتد» . فاعتبر كل واحد بنفسه.

(5/259)


وعلى مالك: أنه نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، وإذا باع ثمرة البستان الذي لم يبد فيه الصلاح.. فقد باع الثمرة قبل بدو صلاحها. ولأنا إنما جعلنا بدو الصلاح في بعض الجنس في حائط صلاحًا لجميع ذلك الجنس في ذلك الحائط؛ لئلا يؤدي إلى الضرر بسوء المشاركة، واختلاف الأيدي، وهذا المعنى لا يوجد في بستانين، فلم يصح.

[مسألة: بيع ما مأكوله نابت في بطن الأرض]
قال الشافعي: (وكل ما ينبت تحت الأرض، ويكون مأكوله تحت الأرض، مثل: الجزر والبصل والسلق والكراث، فلا يجوز بيعه إلا بعد قلعه، وهذا كما قال: كل ما كان مأكوله نابتًا في الأرض، مثل: الجزر والبصل والكرَّاث والثوم والفجل.. يجوز أن يبيع ورقه بشرط القطع، فإن بيع بشرط القطع بعد عشرة أيام.. لم يصح البيع؛ لأنه يحدث هناك زيادة لا تتميز، ولا يجوز بيع ما منه تحت الأرض؛ لأنه لا يجوز بيعه بيع خيار الرؤية؛ لأن بيع خيار الرؤية ما إذا نظر إليه المشتري ولم يرضه.. ردَّه على البائع من غير ضرر، وهاهنا لا يمكنه أن ينظر إليه إلا بعد قلعه، ولا يمكنه ردُّه على البائع كما أخذه، ولا يمكنه أيضًا أن يبيعه بيعًا لا خيار له فيه؛ لأن فيه غررًا، فلم يجز. والفرق بين هذا وبين الجوز واللوز وكل ما كان مأكوله في جوفه: أن كون الجوز واللوز في قشره من مصلحته وحافظًا لمنفعته، فلذلك جاز بيعه فيه، وليس كذلك هذه الأشياء النابتة في الأرض؛ لأن بعد بلوغها الحد الذي توجد فيه لا مصلحة لها في بقائها تحت الأرض؛ ولأن الجوز واللوز إذا رآه المشتري استدل على مأكوله؛ لأنه إذا كان الجوز كبيرًا أبيض.. علم أن مأكوله كثير جيد، وإذا كان

(5/260)


صغيرًا.. علم أن مأكوله قليل، وليس رؤية الورق في الجزر وما أشبهه يدل على أصله.

[مسألة: حدوث ثمرة ثانية بعد شراء الأولى]
إذا اشترى ثمرة على الشجرة، ولم يأخذها حتى حدثت ثمرة أخرى ـ قال الشيخ أبو حامد: وهذا يتصور في التين ـ فإن تميزت ثمرة إحداهما عن الأخرى بصغر أو كبر أو لون.. فإن الثمرة الأولى للمشتري، والثانية للبائع. وإن اختلطتا ولم تتميزا، أو لم يتميز بعضها من بعض.. ففيه قولان:
أحدهما: أن البيع ينفسخ؛ لأنه قد تعذر القبض المستحق بالعقد، فانفسخ البيع، كما لو اشترى عبدًا، فمات قبل القبض.
والثاني: لا ينفسخ البيع، بل يقال للبائع: أتسمح بترك ثمرتك للمشتري؟ فإن سمح.. أُجبر المشتري على قبوله، وإن لم يسمح.. فسخ العقد بينهما؛ لأن المبيع باق، وإنما انضاف إليه ما لا يتميز منه، فلم ينفسخ العقد، كما لو اشترى عبدًا صغيرًا، فكبر، أو هزيلاً، فسمن. وإن اشترى من رجل طعامًا، فاختلط بطعام للبائع، ولم يتميز، فإن كان بعد قبض الطعام.. لم يبطل البيع، قولاً واحدًا؛ لأن العقد قد انبرم بالقبض، بل يكون القول قول من الطعام بيده مع يمينه في قدر حق صاحبه منه. وإن كان ذلك قبل أن يقبض المشتري طعامه.. ففيه قولان، كالمسألة قبلها.
وأمّا الثمرة: فلا فرق فيها بين أن يقبضها المشتري، أو لا يقبضها.
وقال المزني: بل تكون الثمرة كالطعام، ففرق فيه بين أن يختلط قبل القبض أو بعده، كما قلنا في الطعام. وهذا غلط، لأن المشتري إذا قبض الطعام.. لم يبق بينه وبين البائع علقة، فإذا اختلط المبيع بغيره.. لم يؤثر في البيع، وليس كذلك الثمرة

(5/261)


على الشجر، فإن المشتري وإن قبضها، إلا أن العُلْقَةَ لا تنقطع بينهما؛ لأن على البائع سقيها، ويثبت للمشتري الخيار إذا أصابها العطش، وإذا تلفت.. كانت من ضمان البائع في أحد القولين.
وإن اشترى رجل من آخر شجرة عليها ثمرة للبائع، فلم يأخذ البائع ثمرته حتى حدث فيها حمل ثمرة أخرى، واختلطا، ولم يتميزا.. ففيه طريقان:
[الطريق الأول] : قال عامة أصحابنا: هي على قولين:
أحدهما: ينفسخ البيع.
والثاني: لا ينفسخ، بل يقال للبائع: أتسمح بترك ثمرتك للمشتري؟ فإن سمح.. أُجبر المشتري على قبولها، وإن لم يسمح.. قيل للمشتري: أتسمح بترك ثمرتك الحادثة للبائع؟ فإن سمح.. أجبر البائع على قبوله، وإن لم يسمح.. فُسخ العقد بينهما.
و [الطريق الثاني] : قال أبو علي بن خيران، وأبو علي الطبري: لا ينفسخ البيع، قولاً واحدًا، بل يقال لهما: إن سمح أحدكما بترك حقه.. أقر البيع، وإن لم يسمح واحدٌ منكما.. فسخ البيع؛ لأن المبيع هو الشجر، ولم يختلط بغيره، وإنما اختلطت الثمرة، فلم ينفسخ البيع في الشجرة، كما لو اشترى دارًا وفيها طعامٌ للبائع وطعام للمشتري، فاختلط أحد الطعامين بالآخر.. فإن البيع لا ينفسخ في الدار، فكذلك هذا مثله. والمنصوص للشافعي هي الطريقة الأولى؛ لأن المقصود بالشجرة هو الثمرة، بخلاف الدار.
وإن اشترى جِزَّةً من القصب بشرط القطع، فلم يأخذها المشتري حتى طالت.. فإن الزيادة تكون للبائع، وما الحكم في البيع؟ فيه طريقان:
[أولهما] : من أصحابنا من قال: لا ينفسخ البيع، قولاً واحدًا، بل يقال للبائع:

(5/262)


إن سمحت بترك حقك للمشتري.. أُجبر المشتري على قبوله، وأُقر العقد، وإن لم تسمح.. فسخ البيع؛ لأن المبيع لم يختلط بغيره، وإنما زاد، فهو كما لو باعه عبدًا صغيرًا، فكبر.
و [الثاني] : منهم من قال: بلى هي على قولين:
أحدهما: ينفسخ البيع.
والثاني: لا ينفسخ، بل يقال للبائع: إن سمحت بترك حقك.. أقر عقد البيع، وإن لم تسمح.. فسخ. وهذه الطريقة أصح؛ لأن زيادة العبد يجبر البائع على تسليمها، وهاهنا لا يجبر.

[مسألة: الشجر يحمل حملين]
وإن كان له شجرة تحمل حملين ـ قال الشيخ أبو حامد: ولا أعلم ذلك إلا التين. وقيل: الموز ـ فباعه أحد الحملين بعد بدو الصلاح فيه، وهو يعلم أن الحمل الثاني يحدث ويختلط بالحمل الأول، ولا يتميز.. فالبيع باطل.
وقال الربيع: فيه قول آخر: أن البيع لا يبطل. ولعله أخذ ذلك ممن باع جزَّةً من الرطبة، فلم يأخذها حتى طالت.. فإنها على قولين:
أحدهما: ينفسخ البيع.
والثاني: لا ينفسخ، بل يقال للبائع: إن سمحت بترك حقك.. أقر البيع. فأخذه من هذا القول؛ لأنه يعلم أن الرطبة تطول قبل الجز.
والصحيح: أن البيع باطل، قولاً واحدًا؛ لأنه باع ما لا يقدر على تسليمه؛ لأن العادة في الثمار أنها لا تؤخذ إلا بعد تكامل الصلاح فيها، بخلاف الجزة من الرُّطْبة، فإنها تجز في الحال، ولا تختلط بغيرها.

(5/263)


[فرعٌ: بيع الجوز في قشرتيه]
ذكر الشيخ أبو حامد: أنه لا يجوز بيع الجوز واللوز، وعليه قشرته العليا على شجرةٍ ولا على الأرض؛ لأنه لا مصلحة له في بقائه فيها، ويجوز بيعه وهو في قشرته السفلى على شجرة وعلى الأرض؛ لأن بقاءه فيها من مصلحته. وذكر ابن الصباغ: هل يجوز بيعها في قشرتهما العليا إذا كانا أخضرين على الشجر؟ فيه وجهان.
وإن كان يابسين.. لم يجز، وجهًا واحدًا.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (يجوز بيعهما في قشرتهما العليا بكل حال) .
دليلنا: أنّ المقصود مستور بما لا يدخر فيه.. فلم يصح بيعه فيه، كما لو باع شاةً مذبوحةً قبل السلخ.
وبالله التوفيق.

(5/264)