البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب المصرَّاةِ والردِّ بالعيبِ]
ِ قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والتصرية: أن تربط أخلاف الناقة أو الشاة، ثم تترك من الحلاب اليومين والثلاث، حتى يجتمع فيها اللبن، فيراه مشتريها كثيرًا، فيزيد في ثمنها لذلك) . و (التصرية) : في اللغة: الجمع، يقال: صرى الماء في الحوض: إذا جمعه، ولهذا سميت: الصُّراة؛ لأنها مجتمع الماء. ويقال: صرى الرجل الماء في صلبه، إذا امتنع من الجماع، قال الشاعر:
رأت غلامًا قد صرى في فقرته ... ماء الشباب عنفوان شرته
ويسمى أيضا: الحفل، وهو مأخوذ من الجمع أيضًا. يقال: فلان احتفل مالا، أي: جمعه، ومنه يقال: المحفل؛ لأنه مجتمع الناس.
إذا ثبت هذا: فإن اشترى الرجل ناقةً أو شاةً أو بقرةً مصراةً، ولم يعلم أنها مصراة، ثم علم أنها مصراة.. ثبت له الخيار بين الإمساك والرد. هذا مذهبنا، وبه قال من الصحابة: ابن مسعود، وابن عمر، وأبو هريرة، وأنس، ومن الفقهاء: مالك، والليث، وابن أبي ليلى، وأبو يوسف، وزفر.
وقال أبو حنيفة، ومحمد: (ليس ذلك بعيب، ولا يثبت له الرد لأجله) .
وقال داود: (يثبت له الرد في الناقة والشاة، ولا يثبت له الرد في البقرة) .

(5/265)


دليلنا: ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك.. فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ثلاثًا، فإن رضيها.. أمسكها، وإن سخطها.. ردها وصاعًا من تمر» .
وروى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ابتاع محفلة.. فهو بالخيار ثلاثة أيام، فإن ردها.. ردَّ معها مثل أو مثلَيْ لبنها قمحًا» . وهذا لفظ يجمع الناقة والشاة والبقرة.
ولأن التصرية تدليس بما يختلف به الثمن، فثبت لأجلها الرد، كما لو اشترى جارية قد سود شعرها.. فبان أنه كان أشمط.
وإن اتفق أن الشاة لم تحلب يومين أو ثلاثا، فاجتمع في ضرعها لبنٌ من غير قصد

(5/266)


إلى التصرية.. فهل يكون ذلك عيبًا يثبت لأجله الرد للمشتري؟ فيه وجهان، حكاهما الشاشي.
وأما الكلام في زمان الخيار: فقد روي في الخبرين: «أنه بالخيار ثلاثة أيام» . واختلف أصحابنا في ذلك:
فقال أبو إسحاق: إنما قدر خيار التصرية بالثلاث؛ لأنه لا يمكن معرفة التصرية بما دون الثلاث؛ لأنه إذا حلبها في اليوم الأول.. يجد لبنها كثيرًا، فيظن أنه لبن عادة، ويجوز أن يكون لأجل التصرية، فإذا حلبها في اليوم الثاني، فكان أنقص.. يجوز أن يكون هذا لأجل التصرية، ويجوز أن يكون لاختلاف الأيدي والمكان والعلف، فإن اللبن يختلف لأجل ذلك، فإذا حلبها في اليوم الثالث.. زالت الريبة؛ لأنه إن كان لبنها مثل اللبن في اليوم الأول.. علم أن نقصانه في اليوم الثاني إنما كان لاختلاف اليد أو المكان أو العلف، وأنه لم يكن لعيب التصرية، وإن كان لبنها مثل لبن اليوم الثاني.. علم أن النقصان في الثاني والثالث لأجل التصرية، فإذا مضت الثلاث.. استبانت التصرية، وثبت له الخيار على الفور. فأبو إسحاق يحيل معرفة التصرية والاطلاع عليها من جهة التجربة قبل الثلاث.
وقال أبو علي بن أبي هريرة: الثلاث المذكورة في الخبر إنما يثبت له الخيار فيها بالشرط، فمتى شرط خيار الثلاث في البيع، فوجدها مصراة.. ثبت له الخيار في الثلاث، أي وقت شاء منها؛ للخبر. وأما إذا لم يشترط خيار الثلاث، وعلم أنها مصراة.. ثبت له الخيار على الفور؛ لأنه خيار ثبت لنقص، فكان على الفور، كسائر العيوب. فهذا القائل لا يحيل اطلاعه على عيب التصرية قبل الثلاث.
وقال القاضي أبو حامدٍ: إذا علم أنها مصراة قبل الثلاث.. فله الخيار إلى تمام الثلاث؛ لظاهر الخبر. وقد نص الشافعي على هذا في " اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى ".

(5/267)


وإن اشترى مصرَّاة مع العلم أنها مصراة، بأن أعلمه البائع.. فهل للمشتري الخيار؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا خيار له؛ لأن البائع أطلعه على العيب، فلم يثبت له الخيار، كما لو باعه سلعة معيبة وأعلمه بعيبها.
والثاني: يثبت له الخيار؛ لأن العيب لا يتحققه؛ لأنه يجوز أن يكون انتفاخ الضرع وازدياد اللبن لأجل التصرية، ويجوز أن يكون لا لأجل التصرية، وإنما الزيادة من قبل العلف، ولعله يدوم ولا يتبين له ذلك إلا فيما بعد، فيثبت له الخيار.
قال الشيخ أبو حامد: وهذان الوجهان مأخوذان من رجل تزوج امرأةً، فوجدته عِنِّينًا، ففسخت النكاح، ثم تزوج بها ثانيًا فوجدته عنِّينًا، فهل يجوز لها فسخ النكاح لأجل العنة؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (لا خيار لها؛ لأنها قد تزوجته مع العلم بعنته) .
و [الثاني] : قال في الجديد: (لها الخيار؛ لأنه قد يكون عنينا في نكاح دون نكاح) . فكان لها الخيار؛ لأنها لم تتحقق عنته في النكاح الثاني.
وإن وجدها مصراة، فدام ذلك اللبن، ولم ينقص.. فهل له الخيار؟ فيه وجهان:
أحدهما: يثبت له الخيار؛ لأن التدليس كان موجودًا حال العقد، فثبت له الخيار، ولم يسقط بعد ذلك بغير رضاه.
والثاني: لا خيار له؛ لأن الخيار إنما يثبت للنقصان، ولا نقص عليه مع دوام اللبن.
قال الشيخ أبو حامد: وهذان الوجهان مأخوذان من القولين في الأمة، إذا أعتقت وهي تحت عبد، فقبل أن يفسخ النكاح أعتق العبد:
أحدهما: يثبت لها الخيار اعتبارًا بالابتداء.
والثاني: لا خيار لها؛ لأنه لا نقص عليها في الانتهاء.

(5/268)


[مسألة: ما يلزم مع الردّ]
إذا اختار المشتري ردّ المصراة.. لزمه رد بدل اللبن؛ لأن العقد وقع عليه؛ لأنه كان موجودًا حال العقد، ولأنه لا يمكن رد اللبن؛ لأن بعضه كان موجودًا حال العقد وبعضه حدث، ولا يمكن تمييز أحدهما من الآخر، فقدر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدله؛ لقطع المنازعة والخصومة في ذلك.
وقد اختلفت الرواية في ذلك:
فروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك.. فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ثلاثًا، فإن رضيها.. أمسكها، وإن سخطها.. ردَّها وصاعًا من تمر لا سمراء ". وفي رواية عن أبي هريرة: " ردَّها وصاعًا من طعام لا سمراء ". وفي رواية عن أبي هريرة: " ردّها وصاعًا من طعام» .

(5/269)


وفي رواية ابن عمر: «ردَّها ورد معها مثل أو مثلي لبنها قمحًا» . واختلف أصحابنا في ترتيب هذه الأخبار.
فقال أبو إسحاق: الأصل هو التمر؛ لأنه غالب قوت الحجاز، فإن أعطى دونه من دخن أو ذرة.. لم يقبل منه. فحيث روى أبو هريرة: " صاعًا من تمر " هو الأصل. وقوله: " لا سمراء " أي: لا يكلف تسليم السمراء، وهي الحنطة. وحيث روي: " صاعًا من طعام سمراء " أي: إذا سمحت نفسه به. وحيث روى: " صاعًا من طعام " أراد به: التمر؛ لأنه غالب قوت الحجاز. وحيث روى ابن عمر: " مثل لبنها " إذا كان كيله صاعًا. وحيث روى: "مثلي" إذا كان لبنها نصف صاع. وقوله: "قمحًا" إذا كان قيمة ذلك من القمح أكثر من قيمة صاع تمر، فتطوع به.
وقال أبو العباس: إنما أراد صاعًا من غالب قوت البلد، فنص على التمر؛ لأنه غالب قوت الحجاز، ونص على البر؛ لأنه غالب قوت بلاد أخرى، فيجب أن يرد في كل بلد من غالب قوتها، كما قلنا في زكاة الفطر. هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\241] : هل يتقدر ذلك بالصاع، أو يختلف بقلة اللبن وكثرته؟ فيه وجهان:
أحدهما: يتقدر بالصاع؛ للخبر.
والثاني: يتوزع التمر على اللبن بالقيمة.
وقال ابن أبي ليلى: يجب رد قيمة اللبن.
دليلنا عليه: الأخبار التي تقدم ذكرها.

[فرع: في تساوي قيمة الصاع والشاة]
] : إذا قلنا: يجب رد التمر، وكان في بلد قيمة صاع تمر مثل قيمة الشاة أو أكثر.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: لا أوجب عليه صاعًا من تمر إلا إذا كانت قيمة

(5/270)


الصاع من التمر أقل من نصف قيمة الشاة، فأما إذا كانت قيمة صاع تمر مثل نصف قيمة الشاة أو أكثر.. فلا أُوجب عليه صاعًا من تمر، ولكن أوجب عليه قيمة صاع تمر بالحجاز؛ لأنه هو الأصل، كما لو كان لرجل على آخر صاع تمر بالحجاز، ثم طالبه به ببلد آخر يعز فيه التمر.. فإنه لا يلزمه دفع صاع تمر، ولكن يلزمه قيمته بالحجاز، ولأنا لو أوجبنا له صاع تمر.. أدى إلى أن تجتمع له الشاة وقيمتها، وذلك جمع بين البدل والمبدل.
والثاني: يجب عليه صاع تمر؛ لأن ذلك ليس ببدل عن الشاة، وإنما هو بدل عن اللبن، كما لو غصب عبدًا وخصاه.. فإنه يلزمه رد العبد ورد قيمته.
وإن كان ما حلب من اللبن باقيًا، وأراد المشتري رده دون بدله.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال أبو إسحاق في " الشرح ": ليس له ذلك؛ لأنه صار بالحلب ناقصًا؛ لأنه تسرع إليه الحموضة.
والثاني: له ردُّه؛ لأن هذا النقص كان لاستعلام العيب، فلا يمنع الرد.

[فرع: ظهور عيب مع التصرية]
إذا اشترى ناقة أو شاةً أبو بقرة مصراة، فرضيها بعيب التصرية، ثم وجد بها عيبًا غير التصرية.. فله ردُّها؛ لأجله، ويلزمه أن يرد معها صاعًا بدل لبن التصرية؛

(5/271)


لأنه كان موجودًا في الضرع يوم البيع. وإن اشتراها وهي غير مصراةٍ، ثم وجد بها عيبًا، فإن كانت حين الشراء محلوبة لا لبن فيها.. كان له ردُّها؛ لأن ما حدث من اللبن في ملكه، لم يدخل في البيع، فلا يمنعه إتلافه من ردها. وإن كان فيها لبن حين الشراء، وقد أتلفه.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو المنصوص للشافعي في القديم ـ: (أنه يردها؛ لأجل العيب، ولا يرد بدل اللبن) . وفرق الشافعي بين هذه وبين المصراة: أن لبن المصراة قد تحقق وجوده حال العقد، فيتناوله العقد، ويقسط عليه الثمن، وغير المصراة لا يتحقق وجوده حال العقد. ومن أصحابنا من فرق بينهما بفرق آخر: وهو أن لبن المصراة مقصود بالابتياع، وقابله قسط من الثمن، فوجب رد بدله، ولبن غير المصراة يسير غير مقصود، فلم يتقسط عليه الثمن، ولم يجب عليه رد بدله.
والوجه الثاني: أنه لا يرد بالعيب، وهو اختيار عامة أصحابنا؛ لأنه قد أتلف بعض المبيع، فلم يثبت له الرد، وتأولوا النص عليه إذا باعها وهي محلوبة لا لبن فيها وقت العقد.
فإذا قلنا بهذا: وكان ما حلب من اللبن باقيا.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يردها، ويرد اللبن؛ لأن المبيعين موجودان.
والثاني: لا يثبت له الرد، إلا أن يرضى البائع؛ لأن اللبن قد نقص بالحلب، ونقص المبيع في يد المشتري يمنع من الرد، ويثبت له الأرش.

(5/272)


[مسألة: شراء جارية مصراة]
وإن اشترى جارية، فوجدها مصراة.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن التصرية فيها ليس بعيب.. فلا ترد الجارية لأجله؛ لأن لبن الآدميات غير مقصود.
فإذا قلنا بهذا: فهل يرجع على البائع بالأرش؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يرجع؛ لأنا قد قلنا: إن التصرية في الآدميات ليس بعيب.
والثاني: يرجع بالأرش؛ لأنه لا يمكن رد الجارية من غير رد بدل لبنها؛ لأنه يؤدي إلى إسقاط حق البائع من لبنها، ولا يمكن ردها مع بدل لبنها؛ لأنه ليس للبنها عوض مقصود، ولا يمكن إجبار المشتري على إمساكها بجميع الثمن؛ لأنه لم يبذل الثمن إلا في مقابلهما، فثبت له الرجوع بالأرش.
والوجه الثاني: أن التصرية في الجواري عيب، وهو الصحيح؛ لأنه قد يرغب في لبنها لتكون داية، ولأن الجارية إذا كان في ضرعها لبن.. كان ثديها قائمًا، فيكون أحسن منه إذا كان لا لبن فيه؛ لأنه يكون مسترسلا، وذلك قبيح.
فإذا قلنا بهذا: فإنه يردها: وهل يرد بدل اللبن؟ فيه وجهان:
أحدهما: يرد معها صاعًا، كما قلنا في الشاة والبقرة.
والثاني: لا يرد معها شيئًا؛ لأن لبن الجواري غير مقصود في الأعواض.

[مسألة: شراء أتان مصراة]
وإن اشترى أتانًا، فوجدها مصرَّاة.. ثبت له الرد لأجله؛ لأن لبنها يقصد لتربية الجحش؛ لأنه إذا كان لبنها غزيرًا.. كان جحشها سمينًا، وإذا كان غير غزير.. كان

(5/273)


جحشها غير سمين، وهل يرد بدل اللبن؟ إن قلنا بقول أبي سعيد الإصطخري، وأن لبنها طاهر.. لزمه أن يرد معها صاعًا، كما قلنا في الشاة والبقرة. وإن قلنا بقول الشافعي، وعامّة أصحابنا.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو المشهور ـ: أنه لا يرد شيئًا، ولا يأخذ شيئًا؛ لأنه لا قيمة للبنها، فلم يلزمه رد بدله، كما لو عرقت الأتان في يده، ثم وجد بها عيبًا.. فإنه يردها، ولا يرد بدل العرق.
والثاني ـ حكاه في " المهذب " ـ: أنه لا يردها، ويرجع بالأرش؛ لأنه لا يمكن ردُّها مع بدل اللبن؛ لأنه لا قيمة له، ولا يمكن ردُّها من غير بدل اللبن؛ لأن فيه إسقاط حق البائع من اللبن، ولا يمكن أن يمسكها المشتري بجميع الثمن؛ لأنه لم يبذل الثمن إلا لتسلم له الأتان واللبن، فلم يبق إلا الرجوع بالأرش. وهذا ليس بشيء؛ لأنه لمَّا لم يجز أن يقوم هذا اللبن للبائع.. لم يجز أن يقوم عليه.

[مسألة: رؤية شعر الجارية لصحة البيع]
] : وإذا اشترى جارية.. فإن الشراء لا يصح حتى يرى شعرها؛ لأن الشعر مقصود، ويختلف الثمن باختلافه، فإذا اشتراها، ونظر إلى شعرها، فوجده شعرًا جَعْدًا أسود، ثم بان بعد ذلك أنها سبطة، أو بان أنّ شعرها أبيض أو أحمر، وأن شعرها قد كان جعدًا واسْودّ.. ثبت للمشتري الخيار.
وقال أبو حنيفة: (لا خيار له في ذلك) .
دليلنا: أن هذا تدليس من جهة البائع يختلف به الثمن، ألا ترى أن النساء يسودن شعورهن ويجعدنه ليكتسبن به الجمال والزينة؟ وكذلك إذا اشتراها ووجهها أحمر أو

(5/274)


أبيض، ثم بان سواد وجهها أو صفرته، وأن البياض أو الحمرة التي كانت فيه، إنما كان فيها بعلاج من البائع.. ثبت له الرد؛ لأن ذلك تدليس بما يختلف به الثمن، فهو كالتصرية. وإن اشترى جارية سبطة الشعر، ثم بان أنها كانت جعدة، وإنما سبط بعلاج، إن أمكن.. فهل للمشتري الخيار؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا خيار له؛ لأن الجعدة أكمل وأكثر ثمنًا.
والثاني: له الخيار؛ لأنه قد يكون له غرض في السبطة. وليس بشيء.

[فرع: ظن بهيمة منتفخة البطن حاملاً]
لو أرسل على بهيمة الزنابير، فلسعتها حتى انتفخ بطنها، فظن المشتري أنها حامل، ولا حمل بها.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\241] : ثبت له الخيار؛ لأن ذلك تدليس يختلف به الثمن، فهو كالتصرية. فإن علف بهيمته حتى انتفخ بطنها، فظن المشتري أنها حامل، ولا حمل بها.. ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\241] .
أحدهما: يثبت للمشتري الخيار؛ لأن ذلك تدليس يختلف به الثمن، فهو كما لو أرسل عليها الزنابير.
والثاني: لا خيار له؛ لأن امتلاء البطن إلى الله تعالى، ولأن علف البهيمة واجبٌ عليه.
وإن باعه غلامًا، وعلى الغلام ثوب في أثر حبر أو مدادٍ، فظنه المشتري كاتبًا، وكان غير كاتب.. ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\241] :
أحدهما: للمشتري الخيار؛ لأن ذلك تدليس بما يختلف به الثمن، فهو كالتصرية.

(5/275)


والثاني: لا خيار له. ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره؛ لأنه يحتمل أن يكون استعاره له، ولا يتعين عليه أن يلبسه ثوبًا لا أثر عليه.

[فرع: اختلاف باطن الصبرة عن ظاهرها]
وإن اشترى صبرة، فبان أنها على صخرة، أو بان أن باطنها دون ظاهرها في الجودة.. ثبت له الخيار؛ لأن ذلك تدليس بما يختلف به الثمن.

[مسألة: وجوب إعلام المشتري بالعيب]
ومن ملك عينا، وعلم بها عيبًا، وأراد بيعها.. وجب عليه أن يعلمه بعيبها، فإن لم يفعل.. أثم بذلك؛ لما روى عقبة بن عامر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المسلم أخو المسلم، ولا يحل لمسلم باع من أخيه بيعًا، يعلم به عيبًا، إلا بيَّنه له» .
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من غشّنا.. فليس منَّا» .

(5/276)


قال الصيمري: وله ثلاث تأويلات: قيل: ليس بتبع لنا. وقيل: ليس على عادتنا. وقيل: ليس على أخلاقنا.
وإن علم بالعيب غير البائع.. وجب عليه أن يبين ذلك للمشتري؛ لما «روى أبو سباع، قال: اشتريت ناقة من دار واثلة بن الأسقع، فأدركني، فقال: أبينوا لك ما بها؟ فقلت: إنها لسمينة ظاهرة الصحة. قال: أردت بها لحمًا، أم أردت بها سَفَرًا؟ فقلت: أردت عليها الحج، فقال: إن برجلها نقبًا، أو قال: بخفِّها ثقبًا، فقال صاحبها: أصلحك الله، لم أفسدت عليّ؟ فقال له واثلة: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا يحل لمسلم أن يبيع شيئًا إلا بين ما فيه، ولا يحل لمن يعلم ذلك إلا بينه» .
فإن باع ولم يبين العيب.. صح البيع. وقال داود: (لا يصح) .
دليلنا: ما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك.. فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ثلاثًا، فإن رضيها.. أمسكها،

(5/277)


وإن سخطها.. ردّها وصاعًا من تمر» . ففي هذا الخبر خمسة أدلة:
أحدها: أن التدليس محرم؛ لأنه نهى عن التصرية، وهي تدليس.
والثاني: أن التصرية عيب.
والثالث: أن بيع المعيب جائز.
والرابع: أن الرد بالعيب جائز.
والخامس: أنه يجب رد بدل لبن المصراة.

[مسألة: خيار العيب]
] : إذا اشترى معيبًا، ولم يعلم بعيبه، ثم علم.. فهو بالخيار: بين أن يرضى به معيبًا، ويقر البيع، وبين أن يرده لأجل العيب؛ لما ذكرناه في خبر المصراة.
وإن اشترى شيئًا ولا عيب فيه، ثم حدث به عيبٌ بعد الشراء.. نظرت:
فإن كان قبل أن يقبضه المشتري.. ثبت له الرد؛ لأجل ذلك العيب، ولأن المبيع مضمون في يد البائع عليه بالثمن، فكان العيب الحادث فيه في هذا الحال كالعيب الموجود حال العقد.
وإن حدث العيب في يد المشتري.. نظرت:
فإن لم يستند حدوثه إلى سبب قبل القبض.. لم يكن له الرد، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (عهدة الرقيق ثلاثة أيام إلا في الجذام والبرص والجنون، فإن ذلك إذا ظهر إلى سنة.. ثبت له الخيار) .
وقال قتادة: إذا قبض المشتري المبيع، ثم ظهر به عيب في يده في مدة الثلاث.. ثبت له الرد في جميع المبيعات.

(5/278)


دليلنا: أن هذا عيب ظهر في يد المشتري يجوز أن يكون حادثا بعد القبض، فلم يثبت لأجله الخيار، كما لو ظهر ذلك بعد الثلاث والسنة.
وإن استند حدوثه إلى سبب قبل القبض، بأن كان عبدًا، فسرق في يد البائع، أو قطع يدًا، فقطعت يده في يد المشتري.. ففيه وجهان:
قال أبو إسحاق: يثبت للمشتري الرد؛ لأنه قطع في يده بسبب كان في يد البائع، فصار كما لو قطع في يد البائع.
وقال ابن أبي هريرة: لا يثبت له الرد؛ لأن القطع وجد في يد المشتري، فهو كما لو لم يستند إلى سبب قبل القبض.

[مسألة: نوع العيب الذي يرد المبيع لأجله]
] : والعيوب التي يرد المبيع لأجلها: كل صفة نقصت بها العين وإن زادت بها القيمة، فإنها عيب، كالخصاء في العبد؛ لأن العقد يقتضي السلامة في الأعضاء. وكل صفة نقصت بها القيمة وإن لم تنقص العين، كالإباق والسرقة في العبد، فإنها عيب. وكذلك كل صفة نقَّصت العين والقيمة، كالعمى والعرج، فإنها عيب. فإن خفي شيء من ذلك.. رُجع إلى أهل الخبرة بذلك الشيء. فإن اشترى عبدًا، فوجده أعرج أو أصم أو أخرس أو مجذومًا أو أبرص أو مجنونًا أو مريضًا أو مقطوع اليد أو الرجل.. ثبت له الرد؛ لأن هذه عاهات يقتضي العقد السلامة منها.

[فرع: هل الزنى عيب في العبد]
وإن اشترى عبدًا أو أمة، فوجد أحدهما قد كان زنى في يد البائع.. ثبت له الرد.
وقال أبو حنيفة: (هو عيب في الجارية؛ لأنها تفسد عليه فراشه، وليس بعيب في العبد) .
دليلنا: أن الزنا في العبد ينقص قيمته؛ لأنه ربما زنى في يد المشتري، فأُقيم عليه الحد، وربما أدى ذلك إلى تعطيل منافعه، أو إلى تلفه، فكان عيبًا فيه، كالسرقة.

(5/279)


وإن اشترى عبدًا، فوجده مخنثًا.. ثبت له الرد؛ لأن ذلك ينقص قيمته؛ لأنه يقام عليه الحد، وربما كان تلفه بذلك.
قال الصيمري: فإن وجده عنينا.. ثبت له الرد؛ لأن ذلك ينقص قيمته.

[فرع: ثبوت الرد ببعض العيوب في العبد]
وإن اشترى عبدًا أو أمة، فوجد أحدهما أبخر.. ثبت له الرد.
وقال أبو حنيفة: (هو عيب في الجارية؛ لأنها تؤذيه في الفراش، وليس بعيب في العبد) .
دليلنا: أنه قد يحتاج إلى مسارة العبد أو إلى خدمته لصب الماء على يده، وذلك يؤذيه، كما تؤذيه الجارية في الفراش، فكان عيبًا فيه، إن اشترى عبدًا، فوجده غير مختون؛ فإن كان صغيرًا.. لم يثبت له الرد؛ لأنه لا يخاف عليه منه، وإن كان كبيرًا.. ثبت له الرد؛ لأن ذلك ينقص من قيمته؛ لأنه يخاف عليه منه. وإن اشترى جارية، فوجدها غير مختونة.. لم يثبت له الرد، صغيرة كانت أو كبيرة؛ لأن ختانها سليم، لا يخاف عليها منه. وإن اشترى عبدًا أو أمة، فوجده يبول في الفراش، فإن كان صغيرًا.. لم يثبت له الرد؛ لأن بول الصغير معتاد، وإن كان كبيرًا.. ثبت له الرد.
وقال أبو حنيفة: (ترد الجارية دون الغلام؛ لأنها تفسد عليه فراشه) .
دليلنا: أن الغلام يفسد ثيابه أيضًا، ولأن ذلك لعلة في المثانة.

(5/280)


وإن اشترى جارية، فوجد رائحة فرجها كريهة.. ثبت له الرد؛ لأن ذلك ينقص قيمتها.

[فرع: تباعد حيض الجارية يثبت الخيار]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " البويطي ": (وإن اشترى جارية، فتباعد حيضها.. ثبت له الخيار) .
قال ابن الصبّاغ: أراد: إذا كان ذلك لعلو السن، فيكون غالب الظن الإياس فيه. وقدره القاضي حسين، فقال: إن كانت دون عشرين سنة.. فعدم الحيض ليس بعيب. وإن كان بعد ذلك.. فهو عيب بها.

[فرع: ترك الصلاة عيب]
وإن اشترى عبدًا، أو أمةً، فبان أنه يترك الصلاة.. فذكر الصيمري، وصاحب " الحاوي ": أن ذلك عيبٌ؛ لأن ذلك ينقص القيمة؛ لأن ترك الصلاة يوجب القتل.
قال الشاشي: وكذلك شرب الخمر، وقذف المحصنات، والكذب، والنميمة.. عيبٌ؛ لأنه ينقص من القيمة.

[فرع: عيب الخنثى يرد به]
ذكر القاضي في (الخناثى) : إذا اشترى عبدًا، فبان أنه خنثى قد زال إشكاله، وأنه رجل، فإن كان يبول بالفرجين.. فهو عيب؛ لأن ذلك لاسترخاء في المثانة، وهو عيب. وإن كان يبول من فرج الرجال لا غير.. فلا خيار للمشتري؛ لأن هذه خلقة زائدة لا تنقص العين ولا المنفعة ولا القيمة.
ولو اشترى جارية، فبان أنها خنثى قد زال إشكالها، وأنها امرأة.. ثبت للمشتري

(5/281)


الخيار، سواء بالت من الفرجين أو من فرج النساء؛ لأن ذلك ينقص من قيمتها؛ لأن النفس تعاف من مباشرتها. وإن اشترى عبدًا، أو أمة، فبان أنه خنثى لم يزل إشكاله.. ثبت له الخيار؛ لأنه ربما بان بخلاف ما عقد عليه البيع.

[فرع: عيوب يأباها العقد]
قال الصميري: ولو اشترى عبدًا، فوجده أبله ـ لأنه من حيائه كالأبله أو الغافل، فشبه به مجازًا ـ أو به بهقٌ، أو قروح، أو ثآليل كثيرة، أو حمى كبد، أو نفور الطحال.. فكل ذلك عيوب؛ لأن ذلك عاهات يقتضي العقد السلامة منها.

[فرع: كون العبد ولد زنا]
] : وإن اشترى عبدًا، أو جارية، فوجده ولد زنا.. لم يثبت له الرد.
وقال أبو حنيفة: (إن كان جارية.. ثبت له الرد، وإن كان عبدًا.. فلا رد له) .
دليلنا: أن ما لم يكن عيبًا في العبد.. لم يكن عيبًا في الجارية، كالسن؛ ولأن الأنساب غير معتبرة في المماليك، فلم يكن عيبًا.
وإن اشترى جارية، فوجدها مغنية.. لم يكن ذلك عيبًا.

(5/282)


وقال مالك: (يكون ذلك عيبًا) .
دليلنا: أن ذلك لا ينقص من عينها، ولا من قيمتها، بل يزيد في قيمتها، فلم يكن ذلك عيبًا.
وإن اشترى جارية، فوجدها مسنة، أو ثيِّبًا.. فليس له الرد؛ لأن ذلك ليس بنقص، وإنما هو عدم فضيلة. وإن اشترى مملوكًا، فوجده وثنيًّا، أو مرتدًّا.. ثبت له الرّد؛ لأنه لا يقر على دينه، ويجب قتله لذلك.
وإن وجده يهوديًّا، أو نصرانيًّا، أو مجوسيًّا.. لم يثبت له الرد.
وقال أبو حنيفة: (يثبت له الرد) .
دليلنا: أنه مقر على دينه، والإسلام عدم فضيلة، فلم يوجب عدمه الرد، كما لو وجد الجارية ثيِّبًا، أو مسنة.

[فرع: زواج الأمة والعبد]
وإن اشترى أمة، فوجدها مزوَّجة، أو عبدًا، فوجد له زوجة.. ففيه وجهان: قال ابن الصباغ: يثبت له الرد، وهو قول مالك؛ لأن ذلك ينقص منفعتها، فإنه لا يملك وطء الأمة المزوجة، ولأن كسب العبد مستحق لنفقة زوجته وصداقها، والعقد يقتضي السلامة من ذلك.
وقال الشيخ أبو نصر في " المعتمد ": لا يثبت له الرد؛ لأن عدم الاستمتاع لا يثبت له الرد، كما لو وجد الجارية صائمة، أو محرمة.

[فرع: حرمة الجارية لرحم أو رضاع]
قال ابن الحدّاد: إذا اشترى جارية، فوجدها أخته من الرضاع أو النسب، أو عمته، أو خالته، أو بنت امرأة دخل بها، أو غير ذلك من المحرمات عليه.. لم يثبت له الرد؛ لأن هذا التحريم يخصه، ولا ينقص من عينها، ولا من قيمتها. وإن اشترى أمة، فوجدها معتدة من طلاق أو وفاة، أو محرمة بالحج أو العمرة.. ثبت له الرد؛

(5/283)


لأن ذلك ينقص من قيمتها؛ لأنها محرمة الوطء على كل أحد. وإن وجدها صائمة.. ففيه وجهان، حكاهما الشاشي.
ولو اشترى رجل من رجل جارية لها دون الحولين، فأرضعها المشتري من أم البائع، أو ابنته خمس رضعات متفرقات، ثم وجد بها عيبًا.. كان له ردُّها بالعيب، ولا يكون تحريمها على البائع مانعًا من ردِّها عليه، كما أن تحريمها على المشتري ليس بعيب؛ لأن ذلك يخصه.
وكذلك: لو باعها من أخته، أو أمه أو ابنته، فأرضعتها، ثم وجدت بها عيبًا، فردتها، أو باعها من ابنه أو أبيه، فوطئها، ثم وجد بها عيبًا.. كان لهم الرد عليه، ولا يكون تحريمها عليه مانعًا من الرد عليه؛ لما ذكرناه.
وكذلك: لو كان له أمةٌ صغيرة، فأرضعتها أمه أو ابنته خمس رضعات متفرقات.. حرم عليه وطؤها، ولا يجب على المرضعة قيمتها له؛ لأن ذلك لا ينقص من عينها، ولا من قيمتها في السوق، بخلاف ما لو أرضعت زوجته الصغيرة؛ لأن ذلك يبطل النكاح، وهاهنا لا يبطل ملكه عليها.

[فرع: خيار الغبن]
إذا تبايع رجلان، فغبن أحدهما صاحبه.. فليس للمغبون خيار، سواء غبن بقليل أو بكثير، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك، وأبو يوسف: (إن كان الغبن بثلث قيمة المبيع، أو دون ذلك.. فلا خيار له، وإن كان الغبن بأكثر من ذلك.. ثبت له الخيار) .
وقال أحمد: (إن كان المغبون مسترسلاً غير عارف بالمبيع، ولا هو ممن لو توقف لعرفه، فغبن.. ثبت له الخيار) .

(5/284)


وقال أبو ثور: (إذا غبنه بما لا يتغابن الناس بمثله.. فالبيع باطل) .
دليلنا: ما روي: أن «حبان بن منقذ أصابته آمَّةٌ في رأسه، فثقل لسانه، فكان لا يزال يُخْدَعُ في البيع، فأتى أهلُهُ إلى النبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالوا: إنه يبتاع ويُغبَن، فاحجُر عليه، فدعاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنهاه عن البيع، فقال: لا أصبر عنه. فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن كنت غير تاركه، فمن بايعته.. فقل: لا خلابة، ولك الخيار ثلاثًا» . فلو كان الغبن يُثبِتُ الخيارَ.. لأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالفسخ من غير خيار، بل أمره بشرط الثلاث.
ولأن نقصان قيمة السلعة مع سلامة عينها ومنفعتها، لا يمنع لزوم العقد، كما لو غُبِن بالثلث، وكما لو لم يكن مسترسلاً.

[فرع: الرقيق المأذون له بالتجارة]
] : وإن اشترى عبدًا، فوجده مأذونًا له في التجارة، وقد ركبته الديون.. لم يثبت له الخيار.
وقال مالك: (يثبت له الخيار) .
وقال أبو حنيفة: (يبطل البيع) .
دليلنا: أن ثبوت الدين في ذمة العبد لا ينقص على المشتري فيه، فلم يثبت له الخيار، ولم يبطل البيع لأجله.

[مسألة: رد المبيع المعيب]
إذا وجد المشتري بالمبيع عيبًا كان موجودًا به في يد البائع، فإن كان المبيعُ باقيًّا على جهته.. فله أن يرده. هذا مذهبنا، وبه قال عامة أهل العلم.
وقال أحمد: (له أن يمسكه ويطالب بالأرش) .
دليلنا: حديث المصراة، ولما روي عن عائشة: «أن رجلاً اشترى من رجل غلامًا، فاستغله، ثم وجد به عيبًا، فخاصمه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقضى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برده،

(5/285)


فقال: إنه قد استغل غلامي، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: "الخراج بالضمان» .
ولأن المبتاع دخل في العقد على أن يكون المبيع سليمًا، فإذا كان معيبًا.. لم يسلم له ما أراد، فكان له فسخ العقد.
فإن علم بالعيب، فصرح بالرضا به، أو تصرف فيه بالبيع، أو بالهبة، أو ما أشبه ذلك، أعرضه لذلك، أو ركب الدابة لغير الرد، أو استخدم العبد، أو ترك الرد مع إمكانه.. سقط حقه من الرد؛ لأن التصرف بالمبيع، أو تعريضه لذلك يدل على الرضا به؛ ولأن الرد على الفور، وقد أمكنه ذلك، فسقط حقه.
قال أبو العباس ابن سريج: فإن ركب الدابة ليردها، أو علفها، أو سقاها في الطريق.. لم يسقط حقه من الرد؛ لأن ذلك لا يدل على الرضا بالمبيع.

(5/286)


قال الشيخ أبو حامد: وكذلك إن كانت بهيمة وبها لبن، فحلبها في طريق الرد.. لم يسقط حقه من الرد؛ لأن ذلك حق له إلى أن يرده.
فإن كان على الدابة إكاف، ولم ينزع الإكاف عندما علم بالعيب.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\238] : بطل خياره؛ لأن ذلك استدامة للاستعمال.
فلو لم ينزع العذار والنعل عن الدابة.. لم يسقط حقه من الرد؛ لأن الدابة لا يمكنه سوقها إلا بالعذار، وقلع النعل عن الدابة يحدث بها عيبًا. فإن أنعل الدابة وعلم بالعيب، وقلع النعل.. قال الصيدلاني: يسقط حقه من الرد؛ لأنه يضر بها.

[فرع: يفسخ عقد البيع بالعيب]
وللمشتري أن يفسخ العقد بالعيب من غير حكم الحاكم، ولا رضا البائع، ولا حضوره، سواءٌ كان ذلك قبل القبض أو بعده.
وقال أبو حنيفة: (إن كان قبل القبض.. افتقر الفسخ إلى حضور البائع، ولا يفتقر إلى رضاه. وإن كان بعد القبض.. لم يصح الفسخ إلا بحكم الحاكم، أو برضا البائع) .
دليلنا: أنه رفع عقد لا يفتقر إلى رضا شخص، فلم يفتقر إلى حضوره، كالطلاق، وفيه احترازٌ من الإقالة. وعلى الفصل الثاني؛ لأنه فسخ بيع بعيب، فلم

(5/287)


يفتقر إلى الحاكم، ولا إلى رضا البائع، كما لو كان قبل القبض. فقولنا: (فسخ بيع) احترازٌ من فسخ النكاح بالعيب.
وقولنا: (بعيب) احترازٌ من الإقالة، فإنها تفتقر إلى رضاهما.
وإن اشترى ثوبًا بجارية، فوجد بالثوب عيبًا، فوطئ الجارية.. ففيه وجهان:
أحدُهما: ينفسخ البيع، كما لو وطئها في مدة الخيار.
والثاني: لا ينفسخ؛ لأن الملك قد استقر للمشتري، فلا يجوز فسخه إلا بالقبول، فإن زال العيب قبل أن يرد.. ففيه وجهان، بناء على القولين في الأمة إذا أعتقت تحت عبد، فأعتق العبد قبل أن يفسخ النكاح، وقد مضى ذكرهما في المصراة.

[فرع: طلب البائع أن يمسك المشتري المعيب بأرش]
فإن قال البائع للمشتري: أمسك المبيع، وأنا أعطيك أرش العيب.. لم يجبر المشتري على ذلك؛ لأنه لم يبذل الثمن إلا ليسلم له مبيع سليم. وإن طلب المشتري الأرش من البائع ليمسك المبيع.. لم يجبر البائع على دفعه؛ لأنه لم يرض بتسليم المبيع إلا بجميع الثمن. وإن تراضيا على ذلك.. فهل يصح؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول أبي العباس، وأبي حنيفة، ومالك ـ: (إن ذلك يصح) ؛ لأنه خيار سقط إلى المال، وهو إذا حدث عند المشتري عيبٌ آخر، أو كان عبدًا، فأعتقه.. فجاز إسقاطه إلى المال بالتراضي، كخيار القصاص.
فقولنا: (خيار سقط إلى المال) احتراز من خيار المجلس، وخيار الثلاث.
والثاني ـ وهو المنصوص ـ: (أنه لا يصح) ؛ لأنه خيار فسخ، فلم يسقط إلى المال، كخيار المجلس، وخيار الشرط.

(5/288)


فقولنا: (خيار فسخ) احتراز من خيار القصاص.
فإذا قلنا بقول أبي العباس.. سقط الرد، ولزم البائع تسليم الأرش.
وإن قلنا بالمنصوص.. فهل يسقط خيار المشتري من الرد؟ فيه وجهان:
أحدهما: يسقط؛ لأن رضاه بأخذ العوض.. رضًا منه بإمساك المبيع مع العيب.
والثاني: لا يسقط، وهو الصحيح؛ لأنه إنما رضي بإسقاط حقه بعوض، ولم يسلم له العوض، فلم يسقط حقه.

[مسألة: بيع أرض فيها أحجار]
] : قال الشافعي: (وإن كان في الأرض حجارة مستودعة.. فعلى البائع نقلها، وتسوية الأرض على حالها، ولا يتركها حفرًا) .
وجملة ذلك: أنه إذا باعه أرضًا، وفيها أحجارٌ:
فإن كانت الأحجار مخلوقة في الأرض.. دخلت في البيع؛ لأنها من أجزاء الأرض.
فإن كانت غير مضرة بالأرض بأن لا يصل إليها عروق الزرع والشجر.. لم يثبت للمشتري الخيار؛ لأن ذلك ليس بعيب. وإن كانت تضر بالأرض بأن تمنع عروق الزرع أو الشجر، فإن كان المشتري عالِمًا بالأحجار.. لم يكن له الخيار؛ لأنه دخل على بصيرة. وإن لم يعلم بها.. ثبت له الخيار؛ لأن ذلك عيب.
وإن كانت الأحجار مبنية في الأرض مثل طي الآبار، وأساس الحيطان.. فإنها

(5/289)


تدخل في بيع الأرض، كأصول الشجر، وحكمها حكم المخلوقة في الخيار إذا كانت مبنية.
وإن كانت الأحجار مستودعة في الأرض.. فإنها لا تدخل في بيع الأرض، كما لو باعه أرضًا وله فيها كنز ذهب أو فضة، أو باعه دارًا وفيها قماش.
إذا ثبت: أنها لا تدخل في البيع.. فإن الأحجار للبائع.
فإن كانت الأرض بيضاء لا غراس فيها ولا زرع، فإن كان المشتري عالمًا بالأحجار.. فللبائع أن يقلع أحجاره، سواءٌ كان قلعها يضر بالمشتري أو لا يضر به، فلا خيار للمشتري بكل حال؛ لأنه رضي بذلك، وللمشتري أن يطالبه بقلعها إن كانت تضر بأرضه؛ لأنه لا عرف في تبقيتها، ولا حد له، بخلاف الزرع، ولا أجرة للمشتري لأرضه مدة نقل البائع لأحجاره؛ لأنه علم بذلك، فهو كما لو اشترى دارًا فيها قماش للبائع، فنقل البائع قماشه في زمان طويل. وإن كان المشتري غير عالمٍ بالأحجار، أو عالمًا بها غير عالم بضررها.. لم تخل الأحجار من ثلاثة أحوال:
إما أن يكون بقاؤها يضر بالأرض، وقلعها لا يضر بها.
أو يكون بقاؤها يضر الأرض، وقلعها يضر بها.
أو يكون بقاؤها لا يضر بالأرض، وقلعها يضر بها.
[الحالة الأولى] : فإن كان بقاؤها يضر بالأرض، بأن تمنع الأحجار عروق الزرع والشجر، ولكن لا يضر قلعها بالأرض، بأن يمكن قلع الأحجار في مدة لا تتعطل فيها منفعة الأرض، كساعة وما أشبهها، وقال البائع: أنا أقلعها.. لم يثبت للمشتري الخيار؛ لأن العيب يزول عن المشتري من غير ضرر عليه، كما لو اكترى دارًا، فانسدت بالوعتها، فقال المؤجر: أنا أفتحها الآن، وكما لو اشترى من رجل عبدًا، فغصب قبل القبض، والبائع يقدر على انتزاعه في الحال.. فإنه لا خيار للمشتري.
و [الحالة الثانية] : إن كان بقاء الأحجار يضر بالأرض وقلعها يضر بها؛ بأن كان

(5/290)


لا يمكن قلعها إلا في مدة تتعطل فيها منفعة الأرض ـ وقدر الشيخ أبو حامد ذلك بيوم أو يومين، فأكثر ـ يثبت للمشتري الخيار في البيع، كما لو اشترى أرضًا، فوجدها مزروعة، ولم يعلم ذلك حال العقد، فإن اختار الفسخ.. فلا كلام. وإن اختار الإجازة.. فإنه يجبر بجميع الثمن، ويجبر البائع على نقل الحجارة؛ لأنها ملكه، فإذا نقلها.. لزمه تسوية الأرض؛ لأن ذلك حصل لتخليص ماله، وهل يستحق المشتري على البائع أجرة أرضه مدة نقله الأحجار ينظر فيه:
فإن نقلها البائع قبل أن يقبض المشتري الأرض.. فلا أجرة للمشتري على البائع؛ لأن منافعها تلفت قبل التسليم، ومنافع المبيع إذا تلفت في يد البائع قبل التسليم.. لم يكن عليه الضمان.
وإن قلعها البائع بعد أن قبضها المشتري.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال أبو إسحاق: يستحق عليه الأجرة؛ لأن المشتري قد استقر ملكه على المبيع بالقبض، فإذا أتلف منفعته عليه.. وجب عليه بدله، كما لو أتلف البائع جزءًا من المبيع بعد القبض.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: لا تلزمه الأجرة؛ لأن المشتري لما اختار إجازة البيع.. رضي بتلف المنفعة في زمان النقل، ولأن هذا التعطيل كان بمعنى قارن عقد البيع، فلم يكن عليه أجرة، كما لو باع عبدًا، فوجده المشتري مستأجرًا، فاختارا المشتري الإجازة.. فإنه لا أجرة له.
و [الحالة الثالثة] : إن كان بقاء الأحجار لا يضر بالأرض، بأن تكون بعيدة عن وجه الأرض بحيث لا يضر بعروق الشجر والزرع، ولكن قلعها يضر بالأرض، بأن كان لا يمكن قلعها إلا في مدة تتعطل فيها منفعة الأرض.. فإنه يقال للبائع: أترضى بترك الأحجار، أو بقلعها؟ فإن اختارا القلع.. ثبت للمشتري الخيار؛ لأنه تعطل عليه منفعة أرضه، فإن فسخ البيع.. فلا كلام. وإن اختار الإجازة.. فإنه يجبر بجميعِ

(5/291)


الثمن، فإن قلعها البائع قبل أن يقبض المشتري الأرض.. فلا أجرة له على البائع في الأرض مدة نقل الأحجار. وإن قلعها بعد القبض.. فهل يستحق الأجرة على البائع؟ على الوجهين في المسألة قبلها. وإن قال البائع: لا أقلع.. فهل يسقط حقه من الأحجار، ويملكها المشتري؟ فيه وجهان:
أحدهما: يسقط حق البائع منها، ويملكها المشتري؛ لأنه رضي بتركها ليلزم البيع، فهو كما لو رضي بترك الثمرة الحادثة إذا اختلطت بالأولى.
فعلى هذا: لا خيار للمشتري. وإن أراد البائع أن يطالب بأحجاره بعد ذلك.. لم يكن له.
والثاني: لا يسقط حق البائع منها، ولا يملكها المشتري؛ لأنها هبة في عين مجهولةٍ، فلم تصح.
فعلى هذا: ما دام البائع مقيما على العفو وترك المطالبة بالقلع.. فلا خيار للمشتري؛ لأنه لا ضرر عليه، ومتى طالب البائع بالقلع.. عاد حق المشتري من الخيار؛ لأن عليه ضررا بالقلع. ومثل هذين الوجهين: لو اشترى دابة، فنعلها ثم وجد بها عيبًا.. فله أن يردها قبل قلع النعل؛ لئلا يحدث بها بالقلع عيبًا، فإذا ردّها مع نعلها.. فهل يكون ذلك تمليكًا للبائع للنعل؟ فيه وجهان:
فـ[الأول] : إن قلنا: يكون تمليكًا له، فإن سقطت النعل عن الدابة بعد الردّ.. كانت للبائع.
و [الثاني] : إن قلنا: لا يكون تمليكًا له، فإذا سقطت.. كانت للمشتري.
وإن كانت في الأرض غراس، أو زرع.. نظرت: فإن اشتراها، وفيها الشجر أو الزرع، وشرط دخول الشجر والزرع في الشراء، وظهر في الأرض أحجارٌ مستودعة.. فإن الأحجار لا تدخل في البيع على ما ذكرنا. وإن كان المشتري عالمًا بالأحجار وبضررها.. فللبائع أن يقلع أحجاره، سواء أضر قلعها أو لم يضر، ولا خيار

(5/292)


للمشتري؛ لأنه دخل على بصيرة. وإن لم يعلم المشتري بالأحجار، ثم علم بعد ذلك.. فلا تخلو الأحجار من أربعة أحوال:
إما أن يكون بقاؤها يضر بالأرض أو بالشجر، وقلعها يضر بهما أو بأحدهما.
أو يكون لا يضر بقاؤها، ولا يضر قلعها.
أو لا يضر بقاؤها، ويضر قلعها.
أو لا يضر قلعها، ويضر بقاؤها.
[الحالة الأولى] : فإن كان يضر بقاؤها، بأن كانت الأحجار، تصل عروق الشجر والزرع إليها، ويضر قلعها أيضًا.. فللمشتري الخيار؛ للضرر الذي يدخل عليه، فإن فسخ البيع.. فلا كلام، وإن أجاز البيع.. فللبائع أن يأخذ أحجاره؛ لأنها عين ماله، وللمشتري أيضا أن يطالبه بقلعها؛ لأنها تضر به، فإذا قلع أحجاره، بأن قلعها في مدة لا أجرة لمثلها، مثل الساعة.. فلا أجرة للمشتري لأرضه. وإن قلعها في مدة تتعطل منفعة الأرض فيها ـ قال الشيخ أبو حامد: مثل اليوم واليومين ـ فهل للمشتري أن يطالب بأجرة أرضه؟ ينظر فيه:
فإن كان قلعها البائع قبل أن يقبضها المشتري.. فلا أجرة عليه.
وإن قلعها بعد أن قبضها المشتري.. فعلى الوجهين في المسألة قبلها. وهل للمشتري أن يطالب بأرش النقص الذي يدخل على الشجر بالقلع؟ فيه ثلاث طرق، حكاها الشيخ أبو حامد:
[الأول] : من أصحابنا من قال: لا أرش له، سواء كان قبل القبض أو بعد القبض. وهذا قول من قال: لا أجرة له.
و [الثاني] : قال أبو إسحاق: إن قلعها البائع قبل القبض.. فلا أرش عليه. وإن قلعها بعد القبض.. فعليه الأرش، كما قال في الأجرة والطريق.
الثالث: إن قلعها بعد القبض.. وجب الأرش، قولاً واحدًا. وإن قلعها قبل

(5/293)


القبض.. ففيه قولان، مخرجان من القولين في جناية البائع على المبيع قبل القبض.
فإن قلنا: إنها كجناية الأجنبي.. وجب عليه الأرش. وإن قلنا إنها: كآفة سماوية.. فلا أرش عليه.
فإذا قلنا: يجب الأرش ـ وهو المنصوص ـ قوّم الشجر، فيقال: لو لم يكن هناك حجارة تقلع، كم كان يساوي؟ فإن قيل: عشرة.. قيل: فكم قيمته الآن؟ فإن قيل: تسعة.. فإن المشتري يرجع بعشر ثمن الشجر.
و [الحالة الثانية] : إن كان بقاء الأحجار لا يضر بالأرض ولا بالشجر، بأن تكون بعيدة عن وجه الأرض، وقلعها لا يضر بالأرض ولا بالشجر، بأن يمكن قلعها في ساعة.. فلا خيار للمشتري؛ لأنه لا ضرر عليه. فإن قلع البائع أحجاره.. فلا كلام. وإن اختار تركها.. فهل يزول ملكه عنها؟ على الوجهين في المسألة قبلها.
و [الحالة الثالثة] : إن كان بقاؤها لا يضر بالأرض، بأن تكون بعيدة عن وجه الأرض، وقلعها يضر بالأرض، بأن تتعطل منفعتها مدة القلع، أو بالشجر، بأن كانت الأحجار تحت الشجر.. قيل للبائع: أتسمح بترك الأحجار، أو لا تسمح؟ فإن سمح بها.. فلا خيار للمشتري، وهل يملكها المشتري بذلك؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما. فإن قلنا: يملكها المشتري.. لم يكن للبائع أن يطالب بقلعها بعد ذلك، وسقط خيار المشتري. وإن قلنا: لا يملكها المشتري.. فللبائع أن يأخذ أحجاره، فيعود خيار المشتري في فسخ البيع.
وإن قال البائع: لا أسمح بتركها.. ثبت للمشتري الخيار، فإن فسخ البيع.. فلا كلام، وإن لم يفسخ، وقلع البائع أحجاره.. فالكلام في الأجرة والأرش على ما مضى.
و [الحالة الرابعة] : إن كان بقاؤها يضر بالأرض، وقلعها لا يضر بالشجر ولا بالأرض.. فللمشتري الخيار في فسخ البيع؛ لما يدخل عليه من الضرر ببقاء

(5/294)


الأحجار، فإن فسخ البيع.. فلا كلام، وإن اختار الإجازة.. فللبائع أن يقلع أحجاره؛ لأنها عين ماله، وللمشتري أن يطالبه بذلك؛ ليزول عنه الضرر ببقائها، فإذا قلع.. فلا أجرة عليها، ولا أرش لما نقص. وإن كان الغراس غرسه المشتري، ثم علم بالأحجار، فإن كان لا ضرر على الأرض بهذا الغرس ولا بقلعه.. فهو كما لو اشتراها ولم يغرس بها، على ما مضى من الكلام، فإن اختار الفسخ.. قلع غراسه، ولا كلام، وإن اختار الإجازة.. فالحكم على ما مضى. وإن كان الضرر يدخل على الأرض، إما بغرس المشتري، أو بقلعه لغراسه.. لم يكن له الخيار في فسخ البيع؛ لأنه قد أحدث في الأرض نقصًا. وهل له المطالبة بالأرش؟
إن كان بقاء الأحجار يضر بالأرض.. فله الأرش. وإن كان بقاؤها لا يضر بالأرض، ولكن يضر قلعها، فإن لم يقلع البائع.. فلا أرش له؛ لأنه لم يتحقق العيب. وإن قلع البائع.. فله الأرش؛ لأن العيب قد تحقق. والكلام في وجوب الأجرة، وفي أرش غرسه ما مضى.

[مسألة: رد بعض العين المعيبة]
إذا اشترى من رجل عينًا صفقة واحدة، ثم وجد بها عيبًا.. فله أن يردها بالعيب، كما تقدم، فإن أراد المشتري أن يرد بعضها دون بعض، فإن رضي البائع بذلك.. صح؛ لأن الحق لهما. وإن لم يرض البائع بذلك.. لم يجبر على ذلك؛ لأنه يدخل عليه ضرر في الشركة. وإن اشترى منه بعض السلعة في عقد، ثم اشترى باقيها في عقد آخر، ثم وجد بها عيبًا كان موجودًا قبل البيع الأول.. فللمشتري الخيار: بين أن يمسك جميع السلعة، وبين أن يرد جميعها بالعيب، وبين أن يرد إحدى الصفقتين، إما الأولى أو الثانية؛ لأنهما عقدان، فلا يتعلق أحدهما بالآخر. وإن أمكن حدوث العيب بعد البيع الأول، وقبل الثاني، وادّعى المشتري: أنه كان موجودًا قبل البيع الأول، وادّعى البائع: أنه حدث بعد الأول.. فالقول قول البائع مع يمينه؛ لأن

(5/295)


الأصل سلامة البيع الأول من العيب. وإن علم المشتري بالعيب عند البيع الأول، ثم عقد البيع الثاني، ثم ظهر على عيب آخر كان موجودًا قبل البيع الأول لم يعلم به.. فهو بالخيار: بين أن يمسك جميع السلعة، وبين أن يرد جميعها، وبين أن يرد إحدى الصفقتين دون الأخرى؛ لأجل العيب الذي لم يعلمه.
وإن اشترى رجل من رجل عبدين بعقد، فوجد بأحدهما عيبًا، فإن اختار المشتري أن يردهما جميعًا.. أجبر البائع على قبولهما. وإن أراد المشتري أن يرد المعيب لا غير، فإن رضي البائع بذلك.. جاز؛ لأن الحق لهما. وإن امتنع البائع من قبول المعيب.. ففيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة:
فإن قلنا: إن الصفقة تفرق.. رد المعيب، وأمسك السليم، وأجبر البائع على ذلك.
وإن قلنا: لا تفرق الصفقة.. لم يكن للمشتري ذلك، وليس له أن يطالب بالأرش؛ لأنه يمكنه رد الجميع. هكذا ذكر عامة أصحابنا، من غير تفصيل.
وذكر الشيخ أبو حامد: إن كان ذلك قبل القبض.. لم يجز أن يرد المعيب وحده بلا خلاف. وإن كان بعد القبض.. لم يجز أيضا عندنا.
وقال أبو حنيفة: (له رد المعيب، وإمساك السليم، ولو أراد ردّه.. لم يجز، إلا أن يكون المبيع مكيلا، أو موزونًا مما تتساوى أجزاؤه، كالطعام والتمر، فله أن يرد الكل، أو يمسك الكل، فأما أن يرد المعيب دون السليم: فليس له) .
دليلنا: أن في رد المعيب تفريقًا للصفقة على البائع، فلم يجبر على ذلك، كما لو كان قبل القبض.
قال الشيخ أبو حامد: وإنما مسألة القولين، إذا اشترى عبدين، فوجد بهما عيبًا، فمات أحدهما قبل الرد.. فهل له أن يرد الباقي؟ فإن قلنا: لا تفرق الصفقة.. لم يكن

(5/296)


له ذلك إلا برضا البائع. وإن قلنا: إن الصفقة تفرق.. رد الباقي وإن كان بغير رضا البائع.
وحكى القاضي أبو الطيب، عن بعض أهل خراسان من أصحابنا: أنه قال: على هذا القول يفسخ العقد فيهما، ثم يرد الباقي وقيمة التالف، ويسترجع الثمن.
قال القاضي: وهذا هو السنة؛ لأن في حديث المصراة أمر برد الشاة وقيمة اللبن التالف.
قال ابن الصباغ: وهذا مخالف لنص الشافعي، فإنه قال في " اختلاف العراقيين ": (يرجع بحصته من الثمن) . ولأن هذا تلف في يده بالثمن، فلا يرد بالعيب، ولا يضمن بالقيمة. وأما حديث المصراة: فإن ذلك كان لاستعلام العيب، فلم يمنع الرد، بخلاف مسألتنا.

[فرع: اشتريا عبدًا فوجداه معيبًا]
إذا اشترى رجلان من رجل عبدا صفقة واحدةً، فوجدا به عيبًا، فإن اتّفقا على رد الجميع، أو إمساك الجميع.. جاز ذلك بالإجماع. وإن أراد أحدهما أن يرد نصيبه، وأراد الآخر أن يمسك نصيبه.. جاز ذلك عندنا، وبه قال أبو يوسف، ومحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز) .
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] : أن ذلك قول لنا آخر، وليس مشهور.
دليلنا: أنه عقد في أحد طرفيه عاقدان، فكان حكمه حكم العقدين في الرد بالعيب، كما لو كان المشتري واحدًا والبائع اثنين، أو نقول: لأنه رد جميع

(5/297)


ما لزمه ثمنه، فلم يفتقر إلى رد غيره، كما لو قال كل واحد منهما للبائع: بعني نصفه بخمسمائة. فقال البائع: بعتكما. وإن وكل رجلان رجلا يشتري لهما عبدًا من رجل، فاشتراه لهما صفقة واحدة، ثم وجدا به عيبًا، وأراد أحدهما أن يرد دون الآخر. أو كان عبد بين اثنين، فوكل أحدهما الآخر أن يبيع له نصيبه منه مع نصيبه، فباع جميع العبد من رجل صفقة واحدة، ثم وجد به عيبًا، فأراد أن يرد نصيب أحدهما دون الآخر.. ففي المسألتين ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه لا يجوز، وهو قول ابن الحدّاد؛ لأن الصفقة لم يحصل في أحد طرفيها عاقدان.
قال القاضي: ويدل على صحة هذا: أن عبدًا لو كان بين اثنين، فغصب غاصب نصيب أحدهما، ثم إن الغاصب والشريك الذي لم يغصب نصيبه باعا العبد من رجل بعقد، فإن قال لهما: بيعاني هذا العبد بألفٍ. فقالا: بعناك.. فإن بيع المالك يصح في نصيبه، قولاً واحدًا؛ لأن ذلك صفقتان.
ولو وكل الغاصب المالك، فباع المالك جميع العبد صفقة واحدة، أو وكل الغاصب الشريك الذي لم يغصب نصيبه، فباع جميع العبد صفقة واحدة.. لبطل بيع نصيب المغصوب، وفي نصيب المالك قولان.
وهذا يدل على: أن حكم العاقد غير حكم العاقدين، فكذلك في مسألتنا مثله.
والوجه الثاني ـ وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفراييني ـ: إن قال وكيل المشتريين في العقد: بعني لفلان وفلان، أو لم يقل ذلك، وصدقه البائع.. فلكل واحد منهما أن يرد عليه نصيبه دون الآخر، وكذلك وكيل البائعين إذا ذكر في العقد: أنه يبيع العبد لهما، أو لم يقل ذلك، ولكن صدقه المشتري.. فله أن يرد نصيب أحدهما دون الآخر؛ لأن الملك لاثنين، فصار كما لو باع لكل واحد منهما، أو اشترى له بعقد

(5/298)


منفرد. فأمّا إذا لم يذكر الوكيل: أنه يشتري لاثنين، أو لم يصدقه البائع.. فليس لأحدهما الرد؛ لأن الظاهر أنه عقد الشراء لنفسه.
والوجه الثالث ـ حكاه الطبري في " العدة " ـ: إن كان الواحد وكيلا لاثنين في الشراء.. لم يجز لأحدهما أن يرد دون الآخر. وإن كان الواحد وكيلا لاثنين في البيع من واحد.. جاز للمشتري أن يرد نصيب أحدهما دون الآخر، والفرق: أن الوكيل في الشراء يلزمه الشراء عند المخالفة، فكان الاعتبار به، والوكيل في البيع لا يلزمه البيع عند المخالفة، فكان الاعتبار بالموكلين.

[فرع: موت المشتري قبل ردّ المعيب]
] : إذا اشترى عينًا، فوجد بها عيبًا، فقبل أن يتمكن من الرد مات المشتري.. فإن خيار الرد ينتقل إلى وارثه؛ لأنه حق لازم يختص بالمبيع، فانتقل بالموت إلى الوارث، كحبس المبيع إلى أن يحضر الثمن، فإن مات وخلف وارثين، فإن اتفقا على الرد، أو على الإجازة.. جاز. وإن أراد أحدهما أن يرد نصيبه، وأراد الآخر أن يمسك نصيبه، فإن رضي البائع بذلك.. جاز. وإن امتنع البائع من قبول نصيب الراد وحده.. ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\228] .
أحدهما: يجبر البائع؛ لأن كل واحد من الوارثين رد جميع ما ملكه، فأُجبر البائع على قبوله، كما لو اشتريا منه صفقة واحدة.
والثاني: لا يجبر البائع على قبوله، وهو قول ابن الحداد، وهو المشهور؛ لأن الوارث قائم مقام الموروث، والموروث لم يكن له أن يرد بعض المبيع دون بعض، فكذلك من يقوم مقامه.
قال القاضي أبو الطيب: فعلى هذا: يقال للبائع: إما أن تقبل نصفه من الراد،

(5/299)


وإمّا أن تدفع إليه أرش العيب؛ لأنا إنما لم نوجب على البائع قبول البعض؛ لأن الشركة نقص وضرر عليه، فجرى ذلك مجرى العيب الحادث عند المشتري. ولو حدث بالمبيع عيب عند المشتري.. لقيل للبائع: إما أن تقبله معيبًا، وإما أن تدفع الأرش، فكذلك هذا مثله.

[مسألة: رؤية العيب بعد زيادة المبيع]
] : إذا وجد المشتري العيب بالمبيع، وقد زاد المبيع في يده.. نظرت:
فإن كانت زيادة متصلة بالمبيع، كالسمن والكبر وتعلم القرآن والصنعة.. فإن الزيادة تتبع الأصل في الرد؛ لأنها زيادة لا تتميز عن العين.
وإن كانت الزيادة منفصلة عن العين.. نظرت:
فإن كانت كسبًا، مثل: أن كان عبدًا، فاستخدمه، أو أجره، أو وجد ركازًا، أو احتشّ، أو اصطاد، أو ما أشبه ذلك.. فإن المشتري إذا رد العبد.. فإن الكسب له، ولا حق للبائع فيه بلا خلاف؛ لما روى الشافعي، قال: (أخبرني من لا أتهم، عن ابن أبي ذئب، عن مخلد بن خفاف: أنه ابتاع غلامًا، فاستلغه، ثم أصاب به عيبًا، فقضى له عمر بن عبد العزيز برده وغلته) . وفي غير رواية الشافعي: (فقضى له

(5/300)


بردِّه، وقضى عليه برد غلته، فأخبره عروة بن الزبير، عن عائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في مثل هذا: أن الخراج بالضمان، فردّ عمر قضاءه، وقضى لمخلد بن خفاف) .
قال الشيخ أبو حامد: هكذا رُوي في الخبر، والمزني نقل: وقضى لمخلد بن خفاف برد الخراج.
فمن أصحابنا من غلط المزني في الكتابة، وقال: إنما الخبر: (وقضى له بالخراج) .
ومنهم من قال: إنما قضى له برد الخراج عليه؛ لأنه حكم به للبائع، فلمّا رُوي له الخبر.. قضى برده على المشتري.
و (الخراج) : اسم للغلة التي تحصل من جهة المبيع، يقال للعبد الذي ضُرِب عليه مقدار الكسب في كل يوم: مخارج. ومعنى قوله: «الخراج بالضمان» : أي يكون الخراج لمن لو تلف المبيع.. كان من ضمانه، وهو المشتري هاهنا.
فإن قيل: فهلا قلتم: إن خراج المغصوب للغاصب؛ لأن ضمانه عليه؟ فالجواب: أن الخبر لم يرد مطلقًا، وإنما ورد في المبيع مقيّدًا. والفرق بينهما: أن ملك المغصوب للمالك، فكان الخراج له، وهاهنا الملك للمشتري، والحكم تعلق بسببين: الملك والضمان، فلا يجوز أن يتعلق بأحدهما.
وإن كان المبيع بهيمة حائلا، فحملت في يد المشتري، فولدت، ثم وجد بها عيبًا، أو كانت لا لبن فيها، فحدث بها لبن، ثم أخذه المشتري، أو كان شجرة لا ثمرة عليها، فأثمرت، ثم وجد بها عيبًا.. فإن الثمرة والولد واللبن للمشتري، وله أن يرد البهيمة والشجرة بالعيب.
وقال مالك: (يلزم المشتري أن يرد الولد إن اختار الرد، ولا يلزمه أن يرد الثمرة، بل هي له) .

(5/301)


وقال أبو حنيفة: (حصول هذه الزيادات تبطل حق المشتري من الرد، فيرجع بأرش العيب على البائع) .
دليلنا على مالك: ما روي عن عائشة: «أن رجلا ابتاع عبدًا، وبه عيب، ولم يعلمه فلما علم به.. رده بالعيب، فخاصمه البائع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: إنه قد استغله منذ زمان. فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن الغلة بالضمان» . وهذا أعم من «الخراج بالضمان» ؛ لأنه يتناول المنفعة والعين.
ولأنه نماء متميز عن المبيع حدث في ملك المشتري، فيجب أن لا يلزمه رده مع المبيع، كثمره الشجرة.
ودليلنا على أبي حنيفة: أنه نماء حادث في ملك المشتري، فلم يمنع الرد، كالسمن والكبر والكسب.

[فرع: رأى العيب في الجارية بعد ولادتها]
وإن كان المبيع جارية حائلا، فحملت من زوج، أو زنا، في يد المشتري، فولدت، ثم وجد بها عيبًا، فإن نقصت الجارية بالولادة.. سقط حق المشتري من الرد، ورجع بالأرش على البائع. وإن لم تنقص بالولادة.. ففيه وجهان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: يسقط حق المشتري من رد الجارية، ويرجع إلى الأرش؛ لأنه لا يجوز التفريق بينهما.
و [الثاني] : قال أكثرهم: لا يسقط حقه من ردها، بل يمسك الولد، ويرد الجارية؛ لأنه نماء متميز حدث في ملك المشتري، فكان له رد الأصل وإمساك النماء، كولد البهيمة.

(5/302)


وأما التفريق: فإنه يجوز للحاجة، كما قال الشافعي في (الرهن) : (إذا ولدت الجارية حرًّا.. فإنها تباع دون ولدها) .
فأما إذا اشترى البهيمة، أو الجارية، وهي حامل، ثم وجد بها عيبًا، فإن وجد العيب قبل الوضع.. رد الجارية وحملها. وإن ولدت في يد المشتري، ثم وجد العيب، فإن نقصت بالولادة.. سقط حقه من الرد، ورجع بالأرش. وإن لم تنقص بالولادة، فإن قلنا: إن الحمل لا حكم له.. رد الجارية دون الولد، كما لو حدث في ملكه.
وإن قلنا: للحمل حكم.. ردها ورد ولدها؛ لأن العقد وقع عليهما.
وإن اشتراها، وهي حائل، فحملت في يده، ثم وجد بها عيبًا قبل الوضع.. فذكر الشيخ أبو حامد: أن الحمل عيب؛ لأنه ينقص جمال الجارية ونشاطها، ويمنع من الحمل على البهائم فيما يحمل عليها، وينقص لحم ما يؤكل.
فعلى هذا: له المطالبة بالأرش.
وذكر ابن الصباغ: إن نقصها الحمل.. ففيه وجهان:
أحدهما: هذا.
والثاني: أن للمشتري إمساكها حتى تضع، ويردها إن لم تنقصها الولادة.
وإن لم ينقصها الحمل، أو نقصها، ورضي البائع بقبول الجارية مع النقص.. فلمن يكون الولد؟ إن قلنا: للحمل حكم.. فهو للمشتري. وإن قلنا: لا حكم له.. فهو للبائع.

[فرع: العيب بالجارية الثيب]
وإن كان المبيع جارية ثيِّبًا، فوطئها المشتري، ثم علم بها عيبًا.. فإنه يردها، ولا يرد معها شيئًا، وبه قال مالك، وعثمان البتّيُّ، وهي إحدى الروايتين عن أحمد، وروي ذلك عن زيد بن ثابت.

(5/303)


وقال ابن أبي ليلى: يردها ويرد معها مهر مثلها. وروي ذلك عن عمر.
وقال الزهري، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه: (يبطل حقه من الرد، ويرجع بالأرش) . وروي ذلك عن علي بن أبي طالب.
دليلنا على ابن أبي ليلى: أنه وطئها وهي في ملكه، فلم يجب عليه بدل الوطء، كأجرة الاستخدام.
وعلى أبي حنيفة: أن الوطء معنى لا ينقص من عينها، ولا من قيمتها، ولا يتضمن الرضا بالعيب، فلم يمنع الرد، كما لو كانت زوجته، أو كما لو استخدمها.
وإن كان المبيع جارية بكرًا، فافتضها المشتري، ثم وجد بها عيبًا، فأراد ردّها، فإن رضيها البائع.. جاز. وإن لم يرضها.. لم يجبر عليها، ووجب عليه أرش العيب.
وقال مالك، وأحمد في إحدى الروايتين عنه: (يردها، ويرد معها أرش البكارة) .
دليلنا: أن في إذهاب البكارة إتلاف جزء منها، فلم يجبر البائع على قبولها، كما لو اشترى عبدًا، فخصاه، ثم وجد به عيبًا.. فإنه لا يرده، وإن زادت قيمته بذلك.

[فرع: حدوث عيب عند المشتري]
] وإن اشترى عينًا، فقبضها، ثم حدث بها عيب عنده، بأن كان عبدًا فعمي، أو كانت أمة فزوجها، أو عبدًا فزوجه، أو كان ثوبًا فقطعه، ثم وجد به عيبًا كان موجودًا

(5/304)


عند البائع.. لم يكن له أن يرد إلا أن يرضى به البائع، وإن لم يرض به البائع.. فللمشتري أن يطالبه بالأرش. هذا مذهبنا، وبه قال أبو حنيفة.
وقال حماد بن أبي سليمان، وأبو ثور: (يرده، ويرد معه أرش العيب الحادث عنده) .
وقال مالك، وأحمد: (المشتري بالخيار: إن شاء.. رد المبيع، ورد معه أرش العيب الحادث عنده، وإن شاء.. أمسكه، ورجع بالأرش) .
وحكى أبو ثور: (أن ذلك قول الشافعي في القديم) .
قال الشيخ أبو حامد: وهذا لا يجيء على أصل الشافعي، ولا نص له به في كتبه.
دليلنا: أنه نقص حدث في المبيع في يد المشتري لا لاستعلام العيب، فمنع الرد، كما لو قطع المشتري يده، فإنهم قد وافقونا على ذلك.
فقولنا: (لا لاستعلام العيب) احترازٌ من المصراة، ومن العيوب التي لا يتوصل إلى استعلام العيب في المبيع إلا بها، مثل: كسر البطيخ، وما أشبهه.
فإن قال المشتري: أرده، وأرد معه أرش العيب.. فإن البائع لا يجبر على قبول ذلك، كما إذا كان العيب عند البائع، فسأل البائع أن يدفع أرش العيب.. فإن المشتري لا يجبر على ذلك.
وإن قال البائع: رده إلي مع العيبين، وادفع إلي أرش العيب الحادث عندك.. فهل يجبر المشتري على ذلك؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " \ 239] .

[فرع: حصل بالمبيع عيب جديد عند المشتري ثم زال]
إذا اشترى سلعة، وبها عيب، لم يعلمه المشتري، فقبضها، ثم حدث عنده عيب آخر، ثم ارتفع العيب الذي حدث عنده.. قال الشافعي في " مختصر البويطيّ ": (له الرد) .

(5/305)


قال ابن الصباغ: قال أصحابنا: أراد الشافعي: إذا لم يحكم له بالأرش، فأمّا إذا حكم له بالأرش، وقبضه.. فإنه لا يرده.
وإن حكم له بالأرش، ولم يقبضه، ثم ارتفع العيب الحادث عنده.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يرد؛ لأن الحكم قد ثبت له بالأرش.
والثاني: يرد؛ لأنه لم يستقر الحكم.

[فرع: صبغ الثوب ثم وجد العيب]
ذكر ابن الصباغ: إذا اشترى ثوبًا، فصبغه، ثم وجد به عيبًا كان عند البائع.. لم يكن له رده مصبوغًا، ويرجع بالأرش، فإن قال البائع: أنا آخذه، وأعطي قيمة الصبغ.. كان له، ولم يكن للمشتري الرجوع بالأرش. وكذلك إذا صبغه، ثم باعه، أو قطعه، ثم باعه.. لم يكن له الرجوع بالأرش؛ لجواز أن يرضى به المشتري مصبوغًا أو مقطوعًا.

[فرع: قايض بثوب على عبد فوجده معيبًا]
إذا اشترى من رجل عبدًا بألف، ثم أعطاه بالألف ثوبًا، فوجد مشتري العبد به عيبًا فردّه.. فهل له أن يرجع بالألف أو بالثوب؟ فيه وجهان:
قال أبو علي الطبري، والشيخ أبو حامد: يرجع بالألف، ولا يرجع بالثوب؛ لأنه ملك الثوب بعقد ثان، فلا ينفسخ بانفساخ الأول.
وقال القاضي أبو الطيب: يرجع بالثوب؛ لأنه إنما ملك الثوب بالثمن، فإذا انفسخ البيع.. سقط الثمن عن ذمة المشتري، فانفسخ بيع الثوب به.

(5/306)


[مسألة: اشترى عبدًا به برص لم يعلمه وعمي عنده]
إذا اشترى عبدًا، فقبضه، فعمي، أو عرج، ثم بان أن به برصًا كان موجودًا في يد البائع. لم يعلم به المشتري، إلا بعد حدوث العيب عنده.. فقد قلنا: إنه يرجع بالأرش على البائع.
وكيفية ذلك: أن يقال: كم قيمة هذا العبد، وليس به برص ولا عمى؟ فإن قيل مثلا: مائة درهم.. قيل: فكم قيمته وبه البرص، ولا عمى به؟ فإن قيل: ثمانون.. فإن المشتري يرجع على البائع بخمس الثمن، فإن كان قد اشتراه منه بأقل من قيمته، مثل: أن يشتريه منه بخمسين.. قيل له: ارجع بعشرة. وإن كان قد اشتراه بأكثر من قيمته؛ بأن يكون قد اشتراه بمائتين.. قيل له: ارجع بأربعين، ولا يرجع عليه بما نقص من القيمة؛ لأن المبيع مضمون على البائع بالثمن؛ لأنه لو هلك جميعه قبل القبض.. لرجع عليه بجميع الثمن. فإذا تلف بعضه.. ضمنه بجزء من الثمن، كما أن الجزء مضمون بالدية، فكذلك أجزاؤه مضمونة بجزء من الدية.
قال الشافعي: (ولأني لو قلت: يرجع على البائع بما نقص من القيمة.. أدى إلى أن يحصل للمشتري الثمن والمثمن؛ لأنه قد يشتري عبدًا بمائة يساوي مائتين، فإذا وجد به عيبًا ينقص نصف قيمته، وقد حدث عنده عيب آخر.. جاز له أخذ الأرش، فيأخذ ما نقص وهو مائة، فيحصل له الثمن والمثمن، وهذا لا يجوز) . ومتى تعتبر قيمته؟
قال الشافعي في موضع: (تعتبر قيمته يوم العقد) . وقال في موضع آخر: (تعتبر قيمته يوم القبض) .
قال الشيخ أبو حامد: وليست على قولين، بل هي على اختلاف حالين:
فـ[الأول] : حيث قال: (تعتبر قيمته يوم العقد) أراد: إذا كانت قيمته يوم العقد أقل من قيمته يوم القبض؛ لأن هذه زيادة حدثت في ملك المشتري، فهو كنماء متصل، فلو أدخلنا هذه الزيادة في التقويم لدخل الضرر على البائع، وأوجبنا عليه ضمان ما لم يدخل في العقد.

(5/307)


و [الثاني] : حيث قال الشافعي: (تعتبر قيمته يوم القبض) أراد: إذا كانت قيمته يوم القبض أقل من يوم العقد؛ لأن هذا النقصان كان من ضمان البائع؛ لأن المبيع متى تلف قبل القبض.. كان من ضمان البائع، فلو قومناه يوم العقد.. دخل النقصان الذي حدث في التقويم، وأخذ بمقداره من البائع.

[فرع: اشترى إبريق فضة معيبًا]
] : إذا كان هناك إبريق من فضة وزنه ألف درهم، وقيمته ألفا درهم للصنعة، فاشتراه بألف درهم؛ فوجد به عيبًا، وقد حدث به عنده عيبٌ.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها ـ وهو قول أبي العباس ـ: أنه لا يرجع بالأرش؛ لأن ذلك يؤدي إلى الربا، ولكن يفسخ المشتري العقد، ويسترجع ثمنه، ويدفع قيمة الإبريق معيبًا من الذهب، ولا يرده؛ لأنه لا يمكن رده معيبًا، فجرى ذلك مجرى تلفه.
والثاني: وهو قول الشيخ أبو حامد، واختيار القاضي أبي الطيب، والشيخ أبي إسحاق ـ: أنه يفسخ العقد، ويسترجع ثمنه، ويرد الإبريق، وأرش العيب الحادث عنده؛ لأن ذلك لا يؤدي إلى الربا، بل يكون بمنزلة المأخوذ على وجه السوم إذا حدث فيه نقص.
والثالث ـ حكاه في " المهذب "، عن أبي القاسم الداركيِّ ـ: أنه لا يرد الإبريق، ولكنه يرجع بأرش العيب الموجود عند البائع؛ لأن ما ظهر من الفضل في الرجوع بالأرش لا اعتبار به، بدليل: أنه يجوز الرجوع بالأرش في غير هذا الموضع، ولا يقال: لا يجوز؛ لأنه يصير الثمن مجهولاً.

(5/308)


[مسألة: وجده معيبًا ثم نقص عنده]
] : وإن وجد المشتري بالمبيع عيبا، وقد نقص المبيع عنده بمعنى لاستعلام العيب، مثل: أن يشتري ما مأكوله في جوفه، مثل: البيض والجوز واللوز والرانج والبطيخ والرمان.. فإنه إذا كسر ذلك.. نظرت:
فإن لم يكن لمكسوره قيمة، كبيض الدجاج إذا خرج فاسدًا، أو الرمان إذا خرج أسود.. فإن البيع باطل؛ لأن المبيع لا يصح فيما لا منفعة فيه.
وإن كان لفاسده قيمة، كالرمان والبطيخ إذا خرج حامضًا أو مدودًا، أو كبيض النعامة إذا كسرها، فإن لقشرها قيمة.. فينظر فيه:
فإن كسر قدرًا لا يتوصل إلى معرفة المبيع إلا به، مثل: أن كسر الجوز واللوز والرانج، فإنه لا يمكن معرفة ما فيه إلا بكسره نصفين، ولا يعلم التدويد في البطيخ والرمان إلا بكسرهما، بل إنه يمكن معرفة الحامض منهما بإدخال مسلَّة فيهما.. فهل يمنعه ذلك من الرد؟ فيه قولان:
أحدهما: يمنعه من الرد، وهو اختيار المزني، وقول أبي حنيفة؛ لأنه نقص حدث في يد المبتاع، فمنع الرد، كقطع الثوب.
فعلى هذا: يرجع بالأرش على ما مضى.
والقول الثاني: أن ذلك لا يمنعه من الرد. قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح؛ لأنه نقص لاستعلام العيب، فلم يمنع الرد، كحلب المصراة.
فإذا قلنا بهذا: فهل يرد أرش الكسر؟ فيه قولان.
أحدهما: يرد أرش الكسر؛ لأن النقص إذا لم يمنع الرد.. وجب رد الأرش معه، كالمصراة.
والثاني: لا يلزمه أن يرد معه شيئًا. قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح؛ لأن

(5/309)


هذا النقص حصل لاستعلام العيب، وذلك مستحق للمشتري، فكأن البائع لمّا علم أنه لا يتوصل إلى العلم به إلا بذلك.. صار كما لو سلطه على ذلك. ولو أذن له في ذلك.. لم يكن عليه أرش، فيصير في المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: لا يرد، ويأخذ الأرش.
والثاني: يرده، ولا أرش عليه.
والثالث: يرده، ويدفع أرش الكسر.
فإذا قلنا بهذا: قوم المبيع صحيحًا فاسدًا، وقوم مسكورًا فاسدًا، فيرجع البائع على المشتري بما بين القيمتين؛ لأن المبيع لا يكون مضمونًا على المشتري بالثمن إلا مع صحة البيع، فأما إذا فسخ: صار مضمونًا عليه بالقيمة، فضمن الجزء منه بجزء من القيمة.
فأما إذا كسر منه قدرًا يزيد على ما يحتاج إليه لاستعلام العيب.. ففيه طريقان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: فيها قولان، كالأولى؛ لأنه يشق التمييز بين القدر الذي يحتاج إليه، وبين ما زاد عليه، فسوّى بين الجميع.
و [الثاني] : منهم من قال: إن ذلك يمنع الرد، قولاً واحدًا. قال الشيخ أبو حامد: وهو المذهب؛ لأن هذا نقص حدث لا لاستعلام العيب، فهو كقطع الثوب.

[فرع: اشترى ثوبًا مطويًا كان رآه]
إذا اشترى ثوبًا مطويًّا كان قد رآه، فنشره، ثم وجد به عيبًا.. نظرت:
فإن كان من الثياب التي لا ينقصها النشر.. رده.

(5/310)


وإن كان من الثياب التي تنقص بالنشر.. نظرت:
فإن نشر منه قدرًا لا يتمكن من معرفته إلا بذلك.. فهو كما كسر من الجوز ما لا يتمكن من معرفته إلا به على الأقوال الثلاثة.
وإن نشر منه قدرًا يتمكن من معرفته بأقل منه.. فهو كما لو كسر من الجوز قدرًا يتمكن من معرفته بأقل منه، فيكون على الطريقين.

[فرع: وجد الدينار معيبًا بعد قطع المشتري الثوب]
إذا اشترى من رجل ثوبًا بدينار معين، فقطع المشتري الثوب، ووجد البائع بالدينار عيبًا.. قال القاضي أبو الطيب في " شرح المولّدات ": كان بائع الثوب بالخيار: إن شاء.. رضي الدينار المعيب، ولا شيء له، وإن شاء.. فسخ البيع، وردّ الدينار، واسترجع ثوبه مقطوعًا، ولا شيء له، كما لو وجد مشتري الثوب به عيبًا قبل أن يقطعه.. فإنه بالخيار: بين أن يرضى بالثوب معيبًا، ولا شيء له، وبين أن يفسخ، ويرجع بجميع الثمن.

[مسألة: وجد عيبًا بالعبد بعد خروجه عن ملكه]
] : إذا اشترى عبدًا، فقبضه، ثم مات العبد أو وقفه أو أعتقه أو قتله، ثم علم به عيبًا كان في يد البائع.. فله أن يرجع على البائع بالأرش، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (إذا قتله خاصة.. لم يرجع عليه بالأرش) .
دليلنا: أنه عيب لم يرض به، وجده بعد الإياس من الرد، فكان له الرجوع بالأرش، كما لو أعتقه.
وإن اشترى عبدًا، فقبضه، فأبق من يديه، ثم علم به عيبًا كان في يد البائع.. نظرت

(5/311)


فإن كان العيب الذي كان في يد البائع هو الإباق.. فإنه عيب يستحق به الرد، إلا أنه قد تعذر رده لإباقه من يده، وليس له أن يرجع بالأرش؛ لأنه لم ييأس من الرد. فإن رجع إليه العبد.. رده. وإن هلك مع الإباق.. كان له الرجوع بالأرش.
وإن كان به عيب عند البائع مع الإباق.. فالحكم فيها كالأولى. وإن كان لم يأبق عند البائع، بل كان به عيب آخر عنده، ثم أبق في يد المشتري.. فإن الإباق في يد المشتري عيبٌ يمنعه من الرد، ويكون له المطالبة بأرش العيب؛ لأن البائع لا يجبر على قبوله مع عيب الإباق، فيلزمه دفع الأرش، إلا أن يقول البائع: أنا أرضى برده مع الإباق.. فلا يكون للمشتري المطالبة بالأرش.

[فرع: بعد بيع عبد لآخر عرفه معيبًا]
فإن اشترى عبدًا من رجل، وقبضه، ثم باعه من آخر، ثم علم المشتري الأول به عيبًا كان موجودًا في يد البائع الأول.. قال الشيخ أبو حامد: فعلى قول أبي العباس: للمشتري الأول أن يرجع على البائع الأول بالأرش؛ لأنه غير متمكن من الرد في الحال، فهو كما لو تلف. قال: ولكن نفى ما حكاه أصحابنا عنه.
وقال سائر أصحابنا: ليس له أن يرجع بالأرش. واختلفوا في تعليله:
فذهب أبو إسحاق، وأكثر أصحابنا إلى: أن العلة فيه: أنه استدرك الظلامة وغبن كما غبن.
ومنهم من قال: العلة: أنه لم ييأس من الرد؛ لأنه قد يرجع إليه، فيرده عليه. واختار هذا الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب، وابن الصباغ.
فإن ردّه المشتري الثاني على المشتري الأول.. رده الأول على بائعه؛ لأنه لم يستدرك الظلامة، وأمكنه الرد.
وإن حدث عند المشتري الثاني عيبٌ آخر، فرجع على المشتري الأول بأرش العيب.. فهل له أن يرجع على البائع الأول بالأرش؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال ابن الحدّاد: لا يرجع عليه؛ لأنه قد تبرع بدفع الأرش؛ لأنه قد

(5/312)


كان يمكنه أن يطالب برد المبيع عليه، ثم يعرض العبد على البائع الأول، فإن قبله منه.. فلا كلام. وإن لم يقبله منه.. رجع عليه حينئذ بالأرش.
و [الثاني] : قال سائر أصحابنا: له أن يرجع بالأرش؛ لأنه لا يمكنه ذلك إلا بعد أن يسترده من المشتري الثاني، فربما لا يرضى به البائع الأول، فلزمه، فيلحقه بذلك الضرر، ولعل نقصانه كثير، مثل: قطع اليد أو الرجل، والجذام، فلم يبطل حقه بترك القبول لذلك.
وإن تلف العبد في يد الثاني، أو وقفه، أو أعتقه، أو حدث به عيب عند الثاني، وأبرأ المشتري الثاني الأول من الأرش، أو رضي به.. فهل للمشتري الأول أن يطالب البائع الأول بالأرش؟
إن قلنا: إن العلة: أنه استدرك الظلامة.. لم يرجع هاهنا.
وإن قلنا: إن العلة: أنه لم ييأس من الرد.. رجع هاهنا؛ لأنه قد يئس من الرد. وإن رجع إلى المشتري الأول ببيع أو هبة أو إرث، وهو على حاله.. فهل له أن يرده على البائع الأول؟
إن قلنا: إن العلة: أنه استدرك الظلامة.. لم يكن له رده.
وإن قلنا: إن العلة: أنه لم ييأس من الرد.. كان له رده؛ لأنه قد أمكنه الرد.
وإن لم يعلم بالعيب حتى وهبه من غيره، وأقبضه.. نظرت:
فإن كانت هبة تقتضي الثواب.. فهي كالبيع، وقد بيناه.
وإن كانت هبة لا تقتضي الثواب.. فلا يختلف أصحابنا: أنه لا يرجع بالأرش؛ لأنه لم ييأس من الرد.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا يدل على ضعف قول من قال: العلة: أنه استدرك الظلامة، وأنه غبن كما غبن؛ لأنه هاهنا لم يستدرك الظلامة، ولم يغبن، ومع هذا فلا يرجع بالأرش.
فأما إذا اشترى عبدًا، فقبضه، ثم باع نصفه من آخر، وعلم أن به عيبًا كان موجودًا

(5/313)


في يد البائع.. فهل له أن يرد النصف الذي بقي في يده؟ فيه طريقان، حكاهما أبو علي السنجي:
[الأول] : أن من أصحابنا من قال: فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة.
والطريق الثاني ـ وهو المشهور ـ: أنه لا يملك رده، قولاً واحدًا؛ لأن الشركة نقص، فلا يجبر البائع عليها.
فإذا قلنا بهذا: فهل يملك المشتري المطالبة بالأرش؟ فيه وجهان، حكاهما القاضي أبو الطيب:
أحدهما: له المطالبة بالأرش؛ لأن الرد قد تعذر في الحال.
والثاني ـ وهو المنصوص ـ: (أنه لا مطالبة له بالأرش) ؛ لأنه لم ييأس من الرد.
وإن حدث بالعبد عيب آخر عند المشتري الثاني.. فله أن يرجع بالأرش على المشتري الأول، وللأول أن يرجع بالأرش على الذي باعه.
وإن اشترى عبدين، ثم باع أحدهما، ثم علم بأحدهما عيبًا بعد البيع.. نظرت:
فإن كان العيب بالمبيع.. لم يكن له أن يطالب بالأرش، كما لو اشتراه وحده، ثم باعه ثم اطلع على عيب فيه.
وإن باع السليم، وبقي عنده المعيب، فأراد ردّه. ففيه طريقان:
[الأول] : قال الشيخ أبو حامد: ليس له ردّه؛ لأنه قد يرجو رجوع المبيع، فيرد الجميع.
و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: فيه قولان، بناءً على القولين في تفريق الصفقة:
فإذا قلنا: يجوز التفريق.. رد المبيع المعيب.
وإذا قلنا: لا يجوز التفريق.. لم يرده. وهل له أن يطالب بالأرش على هذا؟ فيه وجهان، حكاهما القاضي أبو الطيب:

(5/314)


أحدهما ـ وهو المنصوص ـ: (ليس له أن يرجع بالأرش) ؛ لأنه لم ييأس من رجوع المبيع إليه.
والثاني: يرجع بالأرش؛ لأن الرد قد تعذر في الحال. فإن تلف السليم في يد المشتري الثاني، أو تلف في يد المشتري الأول، أو كان العبدان معيبين، فتلف أحدهما في يده أو وقفه أو أعتقه، ثم علم بالعيب بهما.. فهل له أن يرد الباقي؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب، بناء على القولين في تفريق الصفقة:
فإذا قلنا: يجوز التفريق.. رد الموجود، ورجع بأرش العيب في الميت، أو المعتق، أو الموقوف.
وإن قلنا: لا يجوز التفريق.. رجع بأرش العيب فيهما؛ لأنه أيس من الرد. وكل موضع قلنا: يرد الباقي.. فإن الثمن يقسم على قيمة التالف، وقيمة الباقي، فما قابل قيمة الباقي من الثمن.. رجع به المشتري على البائع، وما قابل قيمة التالف.. لم يرجع به.
فإن اختلفا في قيمة التالف.. فقال البائع: قيمته مائة، وقال المشتري: قيمته خمسون.. ففيه قولان:
أحدهما ـ وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق ـ: أن القول قول البائع؛ لأنه ملك جميع الثمن، فلا يزال ملكه، إلا على القدر الذي يقر به، كما إذا اختلف الشفيع والمشتري في ثمن الشقص.. فإن القول قول المشتري.
والثاني: أن القول قول المشتري؛ لأنه يغرم، ويؤخذ منه الثمن.
وهكذا: إذا قلنا: لا تفرق الصفقة.. فإنه يرجع بالأرش. فإذا اختلفا في قيمة

(5/315)


التالف لأجل الأرش، أو حدث عيب آخر، وأراد أن يأخذ الأرش، واختلفا في قيمة التالف.. فمن القول قوله؟ فيه قولان.

[فرع: باع عبدًا ثم اشتراه فوجده معيبًا]
إذا اشترى زيد من عمرٍو عبدًا، فقبضه، ثم اشتراه عمرو من زيد، ثم اطلع على عيب فيه كان في يد عمرو قبل أن يشتريه منه زيد.. نظرت:
فإن كان عمرو عالمًا بالعيب قبل أن يبيعه، أو حين اشتراه.. لم يكن له أن يرده على زيد؛ لأنه دخل في الشراء على بصيرة، ولا يجوز لزيد أن يطالبه بالأرش؛ لأنه قد استدرك الظلامة، أو لأنه لم ييأس من رده، فإن حدث بالعبد عيبٌ في يد عمرو.. لم يكن له أيضًا أن يرجع بالأرش على زيد؛ لأنه دخل في الشراء على بصيرة، ولم يكن لزيد أن يطالبه بالأرش؛ لأن قد استدرك الظلامة، أو لأنه لم ييأس من الرد.
وإن كان عمروٌ غير عالم بالعيب حين باعه، ولا حين اشتراه من زيد.. نظرت:
فإن كان زيدٌ عالمًا بالعيب قبل أن يشتريه من عمرو، أو علم به بعد أن اشتراه من عمرو، فرضي به، أو ترك ردّه مع الإمكان.. فلعمرٍو أن يرده على زيد.
وإن لم يعلما جميعًا به إلا بعد أن حصل في ملك عمرو.. فهل لعمرو أن يرده على زيد؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه إذا رده على زيد.. رده زيد عليه.
والثاني ـ وهو الصحيح، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره ـ: أن لعمرو أن يرده على زيد، ثم لزيد أن يرده على عمرو؛ لأن الثمنين قد يختلفان، فيكون له في ذلك غرض، وليس لزيد أن يطالب عمْرًا بشيء قبل أن يرده عليه؛ لأنه قد استدرك الظلامة، أو لأنه لم ييأس من الرد.
فإن حدث في العبد عيب آخر عند عمرو، فإن رجع عمرو على زيد بالأرش..

(5/316)


فلزيد أن يرجع عليه أيضًا بالأرش، ويرجع كل واحد منهما من الثمن الذي ملك به، وإن أبرأ عمرو زيدًا من الأرش.. فهل لزيد أن يرجع عليه بالأرش؟
قال الشيخ أبو حامد: إن قلنا: العلة في بيعه إلى الأجنبي: أنه لا يرجع عليه بالأرش؛ لأنه قد استدرك الظلامة.. لم يرجع هاهنا. وإن قلنا: العلة هناك: أنه لم ييأس من الرد.. رجع هاهنا؛ لأنه قد أيس من الرد.
فإن اشترى زيد من عمرو عبدًا، ثم باعه زيد من خالد، ثم اشتراه زيد من خالد، ثم اطلع زيد على عيب كان فيه وهو في يد عمرو، فإن قلنا بالأولى: لا يرده عمرو على زيد.. فإن زيدًا هاهنا يرده على عمرو. وإن قلنا بالصحيح في الأولى، وأنه يرده عليه.. فعلى من يرده زيد هاهنا؟ فيه وجهان:
أحدهما: يرده على خالد؛ لأنه منه ملكه.
والثاني: يرده على عمرو؛ لأن حدوث العيب كان بيده.

[فرع: اشترى عبدًا ثم طالب البائع إقالته]
قال القاضي أبو الطيب: إذا اشترى رجل من رجل عبدًا، ثم استقاله، فأقاله، ورجع العبد إلى البائع، فوجد به البائع عيبًا حدث في ملك المشتري.. كان للبائع ردّه على المشتري، ورفع الإقالة؛ لأنه يلحقه ضرر بإمساكه مع العيب؛ لأنه ربما كان الثمن الذي رده خيرًا له من العبد، فكان له إزالة الضرر برده واسترجاع الثمن، كالمشتري إذا وجد بالمبيع عيبًا.. فإن له رده واسترجاع الثمن من البائع.

[فرع: إسلاف حنطة بعبد ثم ظهر عيبه]
ذكر القاضي أبو الطيب في " شرح المولدات ": إذا أسلم رجل عبدًا في حنطة أو تمر، فقبض المسلم إليه العبد، فأعتقه، ثم وجد بالعبد عيبًا، فإن عفا المسلم إليه عن حقه.. وجب عليه تسليم جميع المسلم فيه، وإن لم يعف.. يرجع بالأرش.
وكيفية ذلك: أن يقوم العبد صحيحًا، ثم يقوم معيبًا، وينظر ما بين القيمتين،

(5/317)


فإن نقصه العيب العشر من قيمته.. سقط عن ذمة المسلم إليه عشر المسلم فيه، وكذلك إن نقصه العيب أقل أو أكثر.. سقط عن ذمته مثل تلك النسبة من المسلم فيه؛ لأن المسلم فيه هو ثمن العبد، وهل ينتقض العقد في الباقي من المسلم فيه؟ حكى في ذلك طريقين:
[الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، كما إذا باع ما يملك وما لا يملك.
و [الثاني] : منهم من قال: لا ينتقض، قولاً واحدًا.

[مسألة: فوات الوصف المرغب]
إذا باع عبدًا بشرط أنه كاتب، أو على أنه يحسن صنعة، فبان أنه ليس بكاتب، أو أنه لا يحسن تلك الصنعة.. ثبت للمشتري الخيار؛ لأنه أنقص مما شرط. وإن اشتراه بشرط أنه خصي، فبان فحلا.. ثبت له الخيار؛ لأن الخصي أكثر قيمة من الفحل. وإن اشتراه بشرط أنه فحل، فبان خصيًّا.. ثبت له الخيار؛ لأن الخصي أنقص خلقة وأقل بطشًا وقوة. وإن اشتراه بشرط أنه مسلم؛ فبان كافرًا.. ثبت له الخيار؛ لأن المسلم أفضل من الكافر. وإن اشتراه بشرط أنه كافرٌ، فبان مسلمًا.. ثبت له الخيار.
وقال أبو حنيفة، والمزني: (لا خيار له؛ لأن المسلم أفضل من الكافر) . وهذا ليس بصحيح؛ لأن المسلم وإن كان أفضل من الكافر في الدين، إلا أن الكافر أكثر ثمنًا؛ لأنه يرغب في شرائه المسلم والكافر، والمسلم لا يرغب في شرائه إلا المسلم.
وإن اشترى جارية على أنها بكر، فبانت ثيِّبًا.. ثبت له الخيار؛ لأن البكر أكثر ثمنًا. وإن اشتراها على أنها ثيب، فبانت بكرًا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يثبت له الخيار؛ لأنه قد تكون الثيب أحب إليه من البكر؛ لأنه قد يكون ضعيفا لا يقدر على وطء البكر.
والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنه لا خيار له، لأن البكر أكثر ثمنًا، ولا اعتبار بما عنده.

(5/318)


وإن قال: بعني هذا العبد، فباعه، فبان أنه جارية، أو قال: بعني هذا الحمار، فباعه، فبان بغلا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح البيع؛ لأن عقد البيع وقع على عين موجودة، ويثبت للمشتري الخيار؛ لأنه خلاف المشروط.
والثاني: لا يصح البيع، وهو المنصوص؛ لأن العقد وقع على جنس، فلا ينعقد في غيره.

[فرع: نقص قدر المبيع]
إذا قال: بعتك هذه الصبرة على أنها مائة قفيز، فبان أنها دون المائة.. فالمشتري بالخيار.. بين أن يفسخ البيع؛ لأنه أنقص من المشروط، وبين أن يأخذ الموجود من الصبرة بحصته من الثمن.
وإن بان أنها أكثر من المائة.. أخذ المشتري المائة بجميع الثمن، وترك الزيادة؛ لأنه يمكن رد الزائد من غير ضرر.
وإن قال: بعتك هذا الثوب، أو هذه الأرض، على أنها عشرة أذرع، فبانت تسعة أذرع.. فالمشتري بالخيار: بين أن يفسخ البيع؛ لأنه أنقص مما شرط، وبين أن يجيز البيع، وبكم يجيز؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ حكاه القاضي أبو الطيب في " المجرد " ـ: أنه يمسك التسعة بحصتها من ثمن العشر، كما قلنا في الصبرة من الحنطة.
والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنه يمسكها بجميع الثمن؛ لأن الحنطة تتساوى أجزاؤها، فكان ما فقد مثل ما وجد، وليس كذلك الثوب والأرض، فإن أجزاءهما لا تتساوى، فلم يكن ما فقد مثل ما وجد.
وإن بان الثوب أو الأرض أحد عشر ذراعًا.. فحكى الشيخ أبو حامد: أن فيها قولين، وحكاهما الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ وجهين:
أحدهما: أن البيع صحيح، ويكون البائع بالخيار: بين أن يسلم جميع الثوب

(5/319)


والأرض، ويجبر المشتري على قبوله، وبين أن يفسخ البيع؛ لأن الزيادة فيهما نقصان في حق البائع، فثبت له الخيار، كما أن الثوب إذا وجد دون العشرة.. فإنه نقصان في حق المشتري، ويثبت له الخيار، ولا يمكن أن يجعل ذراعًا منه للبائع، كما قلنا في الصبرة؛ لأن ذلك مختلف، ولأن قطعه يؤدِّي إلى نقصان قيمة الثوب، والشركة نقص عليهما.
والثاني: أن البيع باطل؛ لأنه لا يمكن إجبار البائع على تسليم ما زاد على العشرة، ولا يمكن إجبار المشتري على أخذ العشرة؛ لأنه يقول: اشتريت الثوب كله. والأول أصح.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\224] : وإن قال بعني هذا القطيع من الغنم، على أنه ثلاثون، فبان تسعًا وعشرين، أو إحدى وثلاثين.. ففيه قولان:
أحدهما: يصح في الثلاثين إذا كان زائدًا، وفي التسع والعشرين إذا كان ناقصًا، بحصته من الثمن.
والثاني: لا يصح البيع.

[مسألة: بيع العبد الجاني]
قال الشافعي: (ولو باع عبده، وقد جنى.. ففيه قولان:
أحدهما: أن البيع جائز، كما يكون العتق جائزًا، وعلى السيد الأقل من قيمته أو أرش جنايته.
والثاني: أن البيع مفسوخ) . وهذا كما قال: إذا باع عبده، وقد جنى.. فهل يصح البيع؟ فيه قولان:
أحدهما: يصح البيع، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، واختاره المزني؛ لأن الجناية إن كانت عمدًا.. فهذا عبدٌ يرجى سلامته، ويخاف تلفه، فلم يمنع ذلك من بيعه، كالمريض. وإن كانت خطأً.. فلم يتعلق المال برقبته برضا السيد، فلم يمنع صحة البيع، كما لو باع ما فضل عن قدر الزكاة من ماله.

(5/320)


والقول الثاني: لا يصح البيع، وهو اختيار الشافعي؛ لأنه حق لآدمي تعلق برقبة العبد، فمنع صحة البيع، كالرهن، بل حق الجناية آكد؛ لأنها تقدم على الرهن.
إذا ثبت هذا: فاختلف أصحابنا في موضع القولين على ثلاث طرق:
فـ[أوَّلها] : منهم من قال: القولان في الحالين سواءٌ كانت الجناية عمدًا أو خطأً؛ لأن القصاص حق آدمي، فهو كالمال، ولأنه يسقط إلى المال.
و [ثانيها] : منهم من قال: القولان إذا كانت الجناية عمدًا، فأمَّا إذا كانت خطأً.. فلا يصح البيع، قولاً واحدًا؛ لأنه تعلق برقبته مال، فهو كالمرهون. وهذا القائل يقول: أصل هذا: ما الموجب بقتل العمد؟ فيه قولان:
أحدهما: القود فقط.
فعلى هذا: يجوز بيعه، كالمرتد.
والثاني: أن موجبه أحد الأمرين: إما القصاص، وإما الدية، فلا يجوز بيعه، كالمرهون.
و [ثالثها] : منهم من قال: القولان إذا كانت الجناية خطأً، فأما إذا كانت عمدًا صحَّ البيع، قولاً واحدًا؛ لأنه يخاف هلاكه بالقصاص، فهو كالمرتد والمريض.
قال الشيخ أبو حامد: وهذه الطريقة أصح؛ لأن الشافعي قال: (فيه قولان، أحدهما: البيع جائز، وعلى السيد الأقل من قيمته أو أرش جنايته، وإنما يكون هذا على السيد في جناية خطأً) .
فأما في جناية العمد: فإن للمجني عليه القصاص.
إذا ثبت هذا: فإن قلنا: إن البيع باطلٌ.. فإنه يرد العبد ويسترجع الثمن. وإن قلنا: إن البيع صحيحٌ.. نظرت:
فإن كانت الجناية خطأً أو عمدًا، فعفا المجنيُّ عليه على المال.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو ظاهر النص ـ: أن البائع يلزمه الفداء؛ لأن الشافعي قال: (البيع

(5/321)


جائزٌ، وعلى السيد الأقل من قيمته، أو أرش جنايته) . وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه كان مخيرًا بين أن يفدي، وبين أن لا يفدي، فإذا باع.. فقد زال ملكه عنه، فكان اختيارًا منه للفداء، كما لو أتلفه السيد.
فعلى هذا: لا يلزم السيد إلا أقل الأمرين من قيمة العبد أو أرش الجناية؛ لأنه لا يمكن بيعه. وإن أعسر المولى بالفداء.. فسخ البيع؛ لأن حق المجني عليه سابق لحق المشتري، فإذا تعذر إمضاؤهما قدم السابق.
والوجه الثاني: أنه لا يتعين عليه الفداء، بل هو بالخيار: بين أن يفديه، وبين أن لا يفديه؛ لأن العبد لم يتلف بالبيع.
فعلى هذا: إن فداه.. استقرّ البيع، وإن لم يفده.. فسخ البيع. إذا اختار أن يفديه على هذا.. فبكم يفديه؟ فيه قولان:
أحدهما: بأقل الأمرين من قيمته، أو أرش الجناية.
والثاني: يلزمه أرش الجناية بالغًا ما بلغ؛ لأنه يمكن هاهنا بيعه.
وإن كانت الجناية عمدًا، واختار المجنيّ عليه القصاص.. نظرت:
فإن كانت الجناية قتلا، فقتله وليّ المجني عليه، فإن كان قبل أن يقبضه المشتري.. انفسخ البيع، كما لو مات. وإن قتله بعد أن قبضه المشتري.. نظرت:
فإن لم يعلم المشتري بجنايته حتى قتل في يده.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول أبي العباس ابن سريج، وأبي عليّ بن أبي هريرة ـ: أن تعلق القتل برقبة العبد بمنزلة العيب الموجود في يد البائع؛ لأنه لو كان بمنزلة الاستقحاق.. لم يصح بيعه، فإذا كان عيبًا، وتلف في يد المشتري.. رجع على البائع بالأرش،

(5/322)


فيقوم وهو جان، ويقوم وهو غير جان، وينظر ما بين القيمتين، ويرجع في مثل تلك النسبة من الثمن.
والوجه الثاني ـ وهو قول أبي إسحاق، وهو المنصوص ـ: (أن تعلق القتل برقبة العبد بمنزلة الاستحقاق) . وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه تلف بسبب كان في يد البائع، فصار كما لو غصب عبدًا، فباعه.
فعلى هذا: يرجع المشتري بجميع الثمن، ويجب تكفينه ودفنه على البائع، وهذا كما لو غصب عبدًا، فجنى العبد على غيره في يد الغاصب، ثم ردّه الغاصب على المالك، فاقتص من العبد في يد المالك، بالجناية التي جناها في يد الغاصب.. فإنه يجب على الغاصب قيمته.
وأما إذا كان المشتري عالمًا بالجناية حين الشراء، أو علم بها بعد الشراء، فلم يرده حتى قتل في يده، فإن قلنا بقول أبي العباس، وأبي علي بن أبي هريرة في المسألة قبلها.. لم يرجع بشيء، كما لو اشترى عبدًا مريضًا، فعلم بمرضه، فقبضه، ثم مات في يده. وإن قلنا بقول أبي إسحاق، وبالمنصوص.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول الشيخين: أبي حامد، وأبي إسحاق ـ: أن المشتري يرجع بجميع الثمن؛ لأنه إذا قتل.. بان أنه تعلق القتل برقبته، كالاستحقاق، ولو اشترى عبدًا مستحقُا.. فإن للمشتري أن يرجع بالثمن، سواءٌ علم بالاستحقاق عند الشراء، أو لم يعلم، فكذلك هاهنا.
والوجه الثاني ـ وهو قول القاضي أبي الطيب، وابن الصباغ ـ: أنه لا يرجع المشتري بشيء؛ لأن الشافعي قال: (لو اشتراه عالمًا به.. صح البيع، ولا خيار له، فصار كالعيب إذا علم به) .

(5/323)


وإن اشترى عبدًا مرتدًّا.. صح البيع، قولاً واحدًا؛ لأن الردة لا تزيل ملك مالكه عنه، وإنما يخشى هلاكه بالقتل، ويرجى سلامته بالإسلام، فيصح بيعه، كالمريض، فإن كان المشتري عالمًا بردته.. لم يثبت له الخيار، كما لو اشترى عبدًا مريضًا، وهو عالمٌ بمرضه. فإن لم يعلم بردته، ثم علم قبل أن يقتل.. ثبت له الخيار في فسخ البيع؛ لأنه عيب. فإن قتل في يد المشتري.. نظرت:
فإن لم يعلم بردته حتى قتل.. فعلى منصوص الشافعي، وقول أبي إسحاق: يرجع بجميع الثمن، وبه قال ابن الحداد. وعلى قول أبي العباس، وأبي علي بن أبي هريرة: يرجع بأرش العيب، وبه قال القاضي أبو الطيب.
وإن كان المشتري عالمًا بردته قبل أن يقتل، فإن قلنا بقول أبي العباس، وأبي علي بن أبي هريرة: لم يرجع هاهنا بشيء. وإن قلنا بالمنصوص.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال الشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق: يرجع بجميع الثمن.
و [ثانيهما] : قال القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ: لا يرجع بشيء.
وفرع القاضي أبو الطيب على أصله مسائل منها:
إذا اشترى عبدًا سارقًا.. صحّ الشراء، فإن علم بسرقته.. فلا خيار له، وإن قطع في يد المشتري.. لم يرجع بشيء. وإن لم يعلم بسرقته حتى قطع.. فعلى المنصوص، وقول أبي إسحاق، وابن الحداد: يثبت له الخيار: إن شاء.. فسخ البيع ورده مقطوعًا، وإن شاء.. أجازه، ولا شيء له. وعلى قول أبي العباس، وأبي عليّ: ليس له الرد، ولكن يرجع بأرش العيب.
قال: وإن اشترى عينًا بها عيب في يد البائع، ولم يعلم به المشتري، فقبض المشتري المبيع، فزاد العيب في يد المشتري.. فعلى قول أبي إسحاق، وابن الحداد: تصير الزيادة كأنها حصلت في يد البائع، فيكون للمشتري الخيار. وإن مات

(5/324)


من الزيادة.. انفسخ البيع، ورجع بالثمن. وعلى قول أبي العباس، وابن أبي هريرة: لا يفسخ البيع بزيادة العيب، ولكن يرجع بالأرش، وكذلك إن تلف المبيع في يده من الزيادة.. رجع بالأرش.
قال القاضي: وكذلك: إذا اشترى جارية حاملاً لم يعلم بحملها حتى ماتت من الولادة.. فعلى قول أبي إسحاق، وابن الحداد: ينفسخ البيع، ويرجع بالثمن. وعلى قول أبي العباس، وأبي علي: لا ينفسخ البيع، ولكن يرجع بالأرش.
وأما إذا قتل العبد غيره في المحاربة.. نظرت:
فإن تاب قبل القدرة عليه.. فهو بمنزلة القاتل في غير المحاربة، وقد بينّاه.
وإن لم يتب، وقدر عليه.. فهل يصح بيعه؟ فيه طريقان:
[الأول] : قال الشيخ أبو حامد: لا يصح بيعه، قولاً واحدًا؛ لأنه لا منفعة فيه إذ قتله محتم.
و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: هو كما لو قتل في غير المحاربة، فيكون في بيعه قولان؛ لأن فيه منفعة، وهو أن يعتقه المشتري:
فإذا قلنا: يجوز بيع العبد الجاني.. جاز عتقه.
وإن قلنا: لا يجوز بيعه.. فهل يجوز عتقه؟ فيه ثلاثة أقوال، كعتق العبد المرهون، ويأتي بيان ذلك في (الرهن) إن شاء الله تعالى.

[مسألة: البيع بشرط البراءة من العيب]
إذا باعه شيئا بشرط البراءة من العيوب.. فاختلف أصحابنا فيه [على وجهين] .
فـ[الوجه الأول] : ذهب أبو سعيد الإصطخري إلى: أن في المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يبرأ من كل عيب، باطنًا كان أو ظاهرًا، علم به البائع أو لم يعلم به،

(5/325)


وبه قال أبو حنيفة، وأبو ثور؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمنون عند شروطهم» . وهذا شرط قد شرطاه، فوجب الوفاء به.
وروت أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن رجلين من الأنصار اختصما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مواريث بينهما قد درست، فقال لهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "استهما، وتوخيا الحق، وليحل كل واحد منكما صاحبه» . فدل على: أن البراءة من المجهول صحيحة.

(5/326)


ولأنه عيب رضي به المشتري، فصار كما لو أعلمه به.
والقول الثاني: أنه لا يبرأ من شيء من العيوب، وهو قول شريح، وعطاء، وطاوس، والحسن، وأحمد، وإسحاق؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نهى عن بيع الغرر» . وفي البيع بهذا الشرط غرر؛ لأن المشتري لا يدري كم ينقص العيب من قيمة المبيع، ولأنه شرط يرتفق به أحد المتعاقدين، فلم يصح مجهولاً، كشرط الرهن المجهول، والأجل المجهول، وفيه احترازٌ من خيار المجلس والشرط، فإنه يرتفق به المتعاقدان.
والقول الثالث ـ وهو الصحيح ـ: أنه يبرأ من عيب واحد، وهو العيب الباطن في الحيوان الذي لم يعلم به البائع، ولا يبرأ مما سواه، وهو قول مالك؛ لما روي: (أن ابن عمر باع غلامًا له من زيد بن ثابت بثمانمائة درهم بشرط البراءة من كل عيب، فأصاب به زيدٌ عيبًا، فأراد رده، فأتى ابن عمر، فتحاكما إلى عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال عثمان بن عفان لابن عمر: أتحلف أنك لم تعلم بعيب فيه؟ فأبى ابن عمر أن يحلف، وقبل الغلام، فباعه بألف درهم، وقيل: بألف وخمسمائة درهم) .
ووجه الدليل من هذا: أن عثمان قال: (أتحلف أنك لم تعلم بعيب به؟) . فدل على: أنه إنما يبرأ من العيب إذا لم يعلم به، وأمّا إذا علم بالعيب: لم تصح البراءة منه، ولم ينكر ذلك منكر من الصحابة.

(5/327)


قال الشافعي: (ولأن الحيوان يغتذي بالصحة والسقم، وتحول طبائعه، وقل ما يبرأ من عيب يخفى أو يظهر) . ومعناه: أن الحيوان يعتلف في حال الصحة والسقم، ولا يمكن معرفة عيبه، فكانت به حاجة إلى البراءة من العيوب الباطنة التي لم يعلم بها، وجاز ذلك، كما جاز بيع المنافع قبل أن تخلق للحاجة، ولم يجز بيع الحيوان قبل أن يخلق؛ لأنه لا حاجة به إلى ذلك.
فعلى قول أبي سعيد في غير الحيوان من الثياب وغيرها قولان:
أحدهما: لا يبرأ من عيب فيها.
والثاني: يبرأ من كل عيب فيها، ويسقط القول الثالث.
و [الوجه الثاني] : من أصحابنا من قال: المسألة على قول واحد، وهو: أنه يبرأ من العيب الباطن في الحيوان الذي لا يعلم به البائع، ولا يبرأ من العيب الباطن فيه الذي يعلم به البائع، ولا من العيوب الظاهرة فيه علم بها البائع أو لم يعلم ولا يبرأ من شيء من العيوب في غير الحيوان، باطنة كانت أو ظاهرة، علم بها البائع أو لم يعلم، وكذلك ما مأكوله في جوفه، مثل: الجوز واللوز والرمان، حكمه حكم الثياب، والفرق بينه وبين الحيوان: ما أشار إليه الشافعي: أن الغالب في الحيوان وجود العيب في باطنه، بخلاف ما مأكوله في جوفه، فإن الأكثر في جوفه السلامة.
فإذا قلنا: إن البيع بهذا الشرط صحيح، فحدث به عيب عند البائع بعد البيع، وقبل القبض.. لم يبرأ منه. وقال أبو يوسف: يبرأ منه.
دليلنا: أنه إسقاط حق قبل ثبوته، فلم يصح، كما لو أبرأه مما يستحب عليه.
وإذا قلنا: إن شرط البراءة لا يصح.. فهل يصح البيع؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن البيع صحيح، ويثبت للمشتري الخيار إذا وجد العيب؛ لأن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حكم بصحة البيع.

(5/328)


والثاني ـ وهو اختيار الشيخ أبي حامد ـ: أن البيع باطلٌ؛ لأنه شرط فاسد قارن عقد البيع، فأبطله، كسائر الشروط الفاسدة، ولأن البائع أسقط جزءًا من الثمن لأجل هذا الشرط، فإذا سقط هذا الشرط.. وجب أن يرجع إلى ما أسقطه من الثمن لأجله، وذلك مجهول، والمجهول إذا أضيف إلى معلوم.. صار الجميع مجهولاً، والجهل بالثمن يبطل البيع.
وبالله التوفيق

(5/329)