البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب اختلاف المتبايعين وهلاك المبيع]
إذا اختلف المتبايعان في قدر ثمن السلعة، بأن قال المشتري: اشتريتها منك بألفٍ، وقال البائع: بل بعتكها بألفين، ولا بينة لواحد منهما.. فإنهما يتحالفان، وسواءٌ كانت السلعة باقية أو تالفةً في يد المشتري، وبه قال محمد، وأحمد رحمة الله عليهما في إحدى الروايتين.
وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: (إن كانت السلعة باقية.. تحالفا، وإن كانت تالفةً في يد المبتاع.. فالقول قوله مع يمينه) . وهي الرواية الأخرى عن أحمد، وعن مالك ثلاث روايات:
إحداهن: مثل قولنا.
والثانية: مثل قول أبي حنيفة.
والثالثة: إن كان ذلك قبل القبض.. تحالفا، وإن كان بعض القبض.. فالقول قول المشتري.
وقال زفر، وأبو ثور: (القول قول المبتاع بكل حالٍ) .
دليلنا: ما روى ابن عبّاس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «البيِّنة على المدعي، واليمين على المدعى عليه» .

(5/358)


والبائع هاهنا يدّعي أنه عقد البيع بألفين، وينكر أنه عقده بألف، والمشتري يدّعي أنه عقده بألف، وينكر أنه عقده بألفين، وإذا كان كل واحد منهما مدّعيًا ومدّعى عليه.. وجب أن يكون على كل واحد منهما اليمين، كما لو ادّعى أحدهما على صاحبه عبدًا، وادّعى المدعى عليه على المدّعي جارية، ولأنهما اختلفا في العقد القائم بينهما، وليس معهما بيِّنة، فتحالفا، كما لو كانت السلعة قائمة مع أبي حنيفة، وكما لو كان قبل القبض مع مالك.

[مسألةٌ: اختلاف المتعاقدين]
] : وإن اختلفا في قدر المبيع، بأن قال: المشتري بعتني هذين العبدين بألف، وقال البائع: بل بعتك أحدهما، وهو هذا بألف، أو اختلفا في شرط الخيار، أو في قدره، أو في الأجل، أو في قدره، أو في الرهن، أو في قدره، أو قال البائع: بعتك بثمن بشرط أن تضمن لي فلانًا، فأنكر المشتري ذلك، أو ادّعى المشتري أن البائع شرط له أن يضمن له فلانًا بالعهدة، وأنكر البائع ذلك.. فمذهبنا: أنهما يتحالفان في ذلك كله.

(5/359)


وقال أبو حنيفة، وأحمد: (لا يتحالفان، بل القول قول من ينفيه مع يمينه) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اليمين على المدعى عليه» ، ولأنهما اختلفا في صفة العقد القائم بينهما، ولا بينة، فتحالفا، كما لو اختلفا في الثمن.

[مسألةٌ: تحالف المختلفين]
] : وإذا أرادا التحالف.. فإن الشافعي قال هاهنا: (يبدأ بيمين البائع) . وهكذا قال في (السَّلَم) : (يبدأ بيمين المسلَم إليه) . وهو بائعٌ في الحقيقة. وقال في (المكاتب) : (إذا أراد اختلفا يبدأ بيمين السيد) . وهو بائعٌ في الحقيقة، وقال في (الصداق) : (إذا اختلف الزوجان في الصداق يُبدأُ بيمين الزوج) . والزوج كالمشتري، وهذا مخالف لما قبله. وقال في (الدعوى والبينات) : (إن بدأ بيمين البائع.. خير المشتري، وإن بدأ بيمين المشتري.. خير البائع) . وهذا يدل على: أنه بالخيار في البداية.
واختلف أصحابنا في ذلك على طريقين:
فـ[الطريق الأول] : منهم من قال: في المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يبدأ بيمين البائع، وبه قال أحمد؛ لما روى ابن مسعود: أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا اختلف البيِّعان.. فالقول قول البائع، والمبتاع بالخيار» .

(5/360)


فبدأ بالبائع أولاً، ولأن جنبته أقوى بعد التحالف؛ لأنهما إذا تحالفا.. رجع المبيع إلى ملكه، فكانت البداية به أولى.
والثاني: يبدأ بيمين المشتري، وهو قول أبي حنيفة؛ لأن جنبته أقوى قبل التحالف؛ لأن المبيع على ملكه، فكانت البداية به أولى، كما لو ادّعى رجل دارًا في يد آخر.
والثالث: أنهما سواءٌ، فيبدأ بأيهما شاء؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر؛ لأن السلعة يعود ملكها بعد التحالف إلى البائع، وكذا الثمن يعود ملكه إلى المشتري، فلم يكن لأحدهما على الآخر مزية، كما لو كان في يدهما دارٌ، فادّعى كل واحد منهما ملك جميعها.. فإنهما يتحالفان، ويبدأ الحاكم بيمين من شاء منهما.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا القول أقيس، والأول هو ظاهر المذهب.
و [الطريق الثاني] : من أصحابنا من قال: المسألة على قول واحد، وإنه يبدأ بيمين البائع، وكذلك في السلم والكتابة، وفي الصداق يبدأ بيمين الزوج؛ لأنهما إذا تحالفا في الصداق.. فإنّ ملك البضع يكون للزوج بعد التحالف، كما أن ملك المبيع يعود إلى البائع بعد التحالف، فأمّا ما ذكره في (الدعوى والبينات) : قال الشيخ أبو حامدٍ: فله تأويلان.
أحدُهما: أنّ الشافعي لم يذكر أن هذا مذهبًا له، وإنّما بيّن أن هذا مما يسوّغ فيه الاجتهاد، وإن حاكمًا لو حكم بأنه يبدأ بيمين البائع أو بيمين المبتاع.. نفذ حكمه، ولم ينقض، فأما مذهبه: فيبدأ بيمين البائع.
والتأويل الثاني: أنّ الشافعي إنما قصد بهذا أن يبين أن قولنا: إنه يبدأ بيمين البائع، ليس على وجه الشرط، ولكن على سبيل الاستحباب، ولو بدأ بيمين المبتاع.. صحّ، ووقعت موقعها.

(5/361)


[فرعٌ: التحالف على كل بالنفي والإثبات]
وإذا أرادا التحالف.. فإنّ كلّ واحدٍ منهما يحلف على النفي والإثبات؛ لأن كل واحدٍ منهما مدّع ومنكرٌ لما ادّعي عليه، وهل يحلف كل واحد منهما يمينين، أو يمينًا واحدةً؟ ظاهر ما قال الشافعي هاهنا: أنه يحلف يمينًا واحدةً يجمع فيها بين النفي والإثبات، وقال في (التداعي) : (إذا كانت دارًا في أيديهما، فادّعى كل واحد منهما جميع الدار لنفسه.. فإن كل واحد منهما يحلف على النفي، فيحلف أحدهما: أنك لا تستحق شيئًا من نصيبي، ثم يحلف الآخر كذلك، فإذا حلفا جميعًا على النفي.. حلف كل واحدٍ منهما على الإثبات) .
فمن أصحابنا من نقل هذا الجواب إلى البيع، فجعل في البيع قولين:
أحدهما: يحتاج أن يحلف كل واحد منهما يمينين؛ لأن كل واحد منهما يدّعي عقدًا وينكرُ عقدًا، فافتقر إلى يمينين، ولأنهما إذا حلف كل واحدٍ منهما يمينًا.. حلف البائع على الإثبات، قبل نكول المشتري، فلم يجز.
والثاني: يكفي أن يحلف كل واحد منهما يمينًا؛ لأنه أقرب إلى فصل الحكم قال الشيخ أبو حامد: ولم يختلفوا أن مسألة التداعي في الدار على قول واحد، فإن كل واحدٍ منهما يحلف يمينين.
وقال ابن الصباغ: على هذا الطريق فيها قولان.
ومن أصحابنا من أجراهما على ظاهرهما، وقال: يحلف كل واحد منهما في التداعي بملك الدار يمينين؛ لأن يد كل واحد منهما ثابتة على نصف الدار، فلو قلنا: إن أحدهما يحلف يمينًا واحدةً: أنّ صاحبه لا يستحق شيئًا من نصيبه.. فإنه يستحق نصيب صاحبه، لكُنَّا قد حلّفناه على إثبات ما بيد غيره قبل نكول صاحب اليد، وهذا لا يجوز. وفي البيع يكفي كل واحد منهما أن يحلف يمينًا واحدةً؛ لأن كل واحد منهما لا يحلف على إثبات ما بيد غيره، وإنما يحلف على صفة عقد تضمّن نفيًا وإثباتًا، وجاز أن يحلف على الإثبات قبل نكول الآخر؛ لأن النفي تابع للإثبات،

(5/362)


ولأن الحادثة واحدة وهي البيع، فإثبات قول أحد الخصمين نفيٌ لقول الآخر، فجاز الجمع بينهما، وهل يقدم الإثبات على النفي في اليمين أو اليمينين؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: يبدأ بالإثبات قبل النفي، كما يبدأ في اللعان بالإثبات قبل النفي.
و [الثاني] : قال عامّة أصحابنا: يبدأ بيمين النفي قبل الإثبات، وهو الصحيح؛ لأن الأصل في الأيمان إنما هو البداية بالنفي، وهو يمين المدّعى عليه، ولا تكون اليمين على الإثبات إلا عند نكول المدَّعى عليه، أو على سبيل التبع للنفي، بخلاف اللِّعان، فإنه لا نفي فيه، وإنما هو إثبات.
إذا ثبت هذا: فإن قلنا: يحلف كل واحد منهما يمينًا واحدة.. فإن البائع يحلف يمينًا: ما بعتكها بألف، ولقد بعتكها بألفين، فإذا حلف البائع.. قيل للمشتري: أنت بالخيار: بين أن تأخذ السلعة بألفين، أو تحلف، فإن اختار أن يأخذها بألفين.. أُقرّ العقد، وإن اختار أن يحلف.. حلف: أنه ما اشتراها بألفين، ولقد اشتراها بألف، فإذا حلف فقد تحالفا، وهذا معنى قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا اختلف البيِّعان.. فالقول قول البائع، والمبتاع بالخيار» .
وإن قلنا: يحلف كل واحدٍ منهما يمينًا.. فإن البائع يحلف يمينًا: أنه ما باعها بألفٍ، فإذا حلف.. قيل للمشتري: أتختار أن تأخذ السلعة بألفين، أو تحلف؟ فإن لم يحلف، واختار أخذها بألفين.. لزمه البيع بألفين، وإن اختار أن يحلف.. حلف: أنه ما اشتراها بألفين، ثم يحلف البائع: لقد باعها منه بألفين، ثم يحلف المشتري: لقد اشتراها منه بألفٍ، ويصيران متحالفين، فإن نكل المشتري عن يمين النفي.. حلف البائع: على الإثبات، ولزم المشتري ما حلف عليه البائع، وإن نكل المشتري عن يمين الإثبات.. لزمه ما حلف عليه البائع.

(5/363)


[مسألةٌ: أيفسخ العقد بالتحالف]
وإذا تحالفا لم يبق إلاَّ الفسخ للعقد؛ لأنه لا يمكن إمضاؤه بعد التحالف، وهل ينفسخ بنفس التحالف، أو يفتقر على الفسخ؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: ينفسخ بنفس التحالف، كما ينفسخ النكاح باللعان؛ ولأن بالتحالف صار الثمن مجهولاً، والبيع لا يثبت مع جهالة الثمن.
والثاني ـ وهو المنصوص ـ: (أنه لا ينفسخ إلاَّ بالفسخ) ؛ لأن العقد وقع صحيحًا في الباطن، فتداعيهما وتعارضهما باليمين لا يوجب فسخه، كما لو أقام كل واحد منهما بيِّنةً.. فإن البيع لا ينفسخ، وإن كانت التهمة منتفية عن البينة.. فلأن لا ينفسخ بأيمانهما والتهمة غير منتفية عنهما أولى.
فإذا قلنا: إن البيع ينفسخ بالتحالف.. فإن المبيع يرد إلى البائع، فلو أراد المشتري أن يمسكه بما حلف عليه البائع أو رضي البائع بتسليمه بما حلف عليه المشتري.. لم يصح ذلك إلا بعقد جديد.
وإن قلنا بالمنصوص، وأنه لا ينفسخ بالتحالف.. فإنه يقال للمشتري: أترضى أن تمسك المبيع بما حلف عليه البائع، فإن رضي بذلك.. أجبر البائع على تسليمه بذلك؛ لأنه أقر أنه باعه بذلك، وإن لم يرض المشتري بإمساكه بما حلف عليه البائع.. قيل للبائع: أترضى أن تسلِّمَهُ بما حلف عليه المشتري، فإن رضي بذلك.. أُجبر المشتري على ذلك؛ لأنه أقر أنه ابتاعه بذلك، وإن لم يرض واحدٌ منهما.. فُسخَ العقد، وفيمن يفسخه وجهان:
أحدهما: لا يفسخه إلا الحاكم؛ لأنه فسخ مجتهد فيه، فافتقر إلى فسخ الحاكم، كفسخ النكاح بالعنة والإعسار بالنفقة، وفيه احترازٌ من الرد بالعيب.
والثاني: يفسخه من شاء منهما؛ لأن النقص قد دخل على كل واحد منهما؛ لأن البائع يقول: بعته بألفين، ولم يسلم إليّ إلاَّ ألفٌ، والمشتري يقول: أنا أستحق المبيع بألفٍ، والبائع يطلب منِّي ألفين، فكان لكلِّ واحدٍ منهما أن ينفرد بالفسخ، كما

(5/364)


لو اشترى عبدًا بثوب، ووجد كل واحد منهما بما اشتراه عيبًا، فإذا فسخ البيع بينهما بعد التحالف أو انفسخ.. فهل ينفسخ طاهرًا وباطنًا، أو ينفسخ في الظاهر دون الباطن؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه ينفسخ ظاهرًا وباطنًا، كما ينفسخ النكاح باللِّعان ظاهرًا وباطنًا، وكما ينفسخ البيع بالرد بالعيب.
والثاني: ينفسخ في الظاهر دون الباطن؛ لأن سبب الفسخ الجهالة بالثمن، والثمن إنما هو مجهول في الظاهر دون الباطن، فكذلك الفسخ.
والثالث: إن كان البائع ظالمًا.. فإن الفسخ يقع في الظاهر دون الباطن؛ لأنه يمكنه تسليم المبيع واستيفاء ما وقع به العقد، فإذا امتنع من ذلك.. كان عاصيًا، فلم يقع الفسخ لذلك، وإن كان البائع مظلومًا.. انفسخ البيع ظاهرًا وباطنًا؛ لأنه لا يمكنه الوصول إلى حقّه، فانفسخ البيع ظاهرًا وباطنًا، كما لو باع من رجل عينًا، وأفلس المشتري بالثمن، وحجر عليه قبل أن يقبض البائع ثمنه، واختار الرجوع إلى عين ماله.
فإذا قلنا بالوجه الأول، وأن البيع ينفسخ ظاهرًا وباطنًا، أو كان البائع مظلومًا على الوجه الثالث.. فإن المبيع يعود إلى ملك البائع، كما لو ملكه بعقد وتصرف فيه بجميع وجوه التصرفات، وإن كان المبيع جارية.. ملك وطأها.
وإن قلنا بالوجه الثاني، وأن البيع ينفسخ في الظاهر دون الباطن، أو كان البائع ظالمًا على الوجه الثالث.. فإن البائع إذا أخذ المبيع.. لم يملكه في الباطن، وإن كانت جارية لم يملك وطأها؛ لأنها ملك غيره.
والوجه الثالث: يتصرف بين الأولين في التفريع، فكلُّ موضع قلنا: ينفسخ البيع في الظاهر دون الباطن.. نظر فيه:
فإن كان البائع ظالمًا.. لزمه ردُّ المبيع على المشتري.
وإن كان مظلومًا.. حل له أخذه، ويكون كمن له على غيره دين، وامتنع من أدائه، ووجد له شيئًا من ماله من غير جنس حقِّه.. فله أخذه، ولا يملكه بالأخذ،

(5/365)


ولكن يباع منه بقدر حقِّه، وهل يملك بيعه بنفسه، أو لا يصح بيعه إلا بالحاكم؟ فيه وجهان: يأتي بيانهما، الصحيح: أنه يملك بيعه بنفسه، فإن باعه بنفسه، أو باعه الحاكم، فإن كان ثمنه فوق حقِّه.. أخذه، وإن كان أنقص من حقِّه.. فله أن يستوفي حقّه من مال المشتري، وإن كان أكثر من حقِّه.. ردّ الفضل على المشتري.

[فرعٌ: إذا تلفت السلعة في يد البائع فهي من ضمانه]
] : وإن تلفت العين في يدي البائع.. تلفت من ضمانه.. وإن تحالفا بعد هلاك السلعة في يد المشتري، وفسخ العقد، أو انفسخ.. وجب على المشتري ردُّ قيمة السلعة، ومتى تعتبر القيمة؟ فيه وجهان:
أحدهما: أكثر ما كانت من يوم قبضها المشتري إلى أن تلفت.
والثاني: تعتبر قيمتها يوم التلف، كالوجهين في قيمة المبيع المقبوض في البيع الفاسد، فإن زادت القيمة على قدر ما يدَّعيه البائع من الثمن.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال أبو علي بن خيران: لا يجب تسليم الزيادة إليه؛ لأنه لا يدّعيها.
و [الثاني] : قال عامّة أصحابنا: يجب تسليم ذلك، وهو المذهب؛ لأن بالفسخ سقط اعتبار الثمن.
وإن اختلفا في قيمة السلعة.. فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأنه غارم.
وإن اختلفا في قدر ما قبضه البائع من الثمن.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم القبض إلا فيما أقرّ به.

[فرعٌ: اختلف المتبايعان بعد وطء الثيب]
إذا اشترى جاريةً ثيبًا، فوطئها، ثمّ اختلف المتبايعان في ثمنها.. تحالفا وترادًّا على ما تقدم بيانه، ولا يجب على المشتري مهرُها؛ لأنه وطئها وهي في ملكه، كما

(5/366)


إذا وطئها ووجد بها عيبًا فردَّها، وإن كنت بكرًا، فافتضَّها، ثم اختلفا في الثمن، وتحالفا.. ردَّ الجارية وأرش النقص بالافتضاض دون المهر؛ لأن الافتضاض إتلاف جزء ينقص قيمتها، ولو كانت تالفةً.. لردّ قيمتها، فكذلك إذا تلف جزء منها.
قال ابن الحداد: وكذلك: إذا زوّج المشتري الجارية، ثم اختلف المتبايعان في الثمن وتحالفا.. فإن عقد البيع ينفسخ، ولكن لا ينفسخ عقد النكاح؛ لأنه عقدٌ لازمٌ، ولكن يرد الأمة المزوجة إلى البائع، وعلى المشتري ما بين قيمتها خاليةً من الزوج وبين قيمتها مزوجة.
وهكذا: إذا أعتقها المشتري، أو وقفها، أو باعها، أو وهبها من غيره.. فإنهما إذا تحالفا.. ردّ المشتري قيمتها، كما لو تلفت. وإن تحالفا بعد ما أجّرها.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\250] : فإنه يردُّها وأرش ما نقصت بالإجارة، وإن كسب العبد المبيع، أو كانت بهيمة، فولدت ولدًا في يد المشتري، أو شجرة، فأثمرت، ثم اختلفا، وتحالفا.. فإنه يرد المبيع، ويمسك الزيادة المنفصلة، كما قلنا في المردود بالعيب.

[فرعٌ: الحلف من غير استحلاف]
وإن باعه عبدًا، فقال البائع: بعتكه بألفين، وقال المشتري: بل اشتريته بألف.. فحلف كل واحد منهما بحريته: إنه لصادق فيما قال.. فإنهما يتحالفان على ما مضى، فإذا تحالفا، وانفسخ البيع، أو فسخه الحاكم، أو أحدهما.. قال ابن الحدَّاد: فإن العبد يعتق على البائع؛ لأنه مقر: بأن المشتري حانث في يمينه، وأن العبد قد صار حرًّا؛ لأنه حنث والعبد في ملكه. وإن حلف البائع: أنه ما باعه بألف ولقد باعه بألفين، ورضي المشتري بأن يمسك العبد بالألفين.. لم يعتق عليه العبد؛ لأنه وإن أقر بحنث البائع في يمينه، إلا أنه حنث بها والعبد في ملك المشتري، وإن وجد المشتري بعد ذلك به عيبًا، فردّه على البائع.. عتق على البائع بإقراره السابق؛ لأنه متى رجع إليه زال حقّ الغير عنه، فلزمه حكم إقراره السابق، وكذلك لو رجع إليه بهبةٍ أو بيعٍ أو إرثٍ أو إقالةٍ.. لزمه حكم إقراره السابق.

(5/367)


[مسألة: موت المتبايعين]
] : وإن مات المتبايعان، فاختلف ورثتهما.. تحالفوا.
وقال أبو حنيفة: (إن كان المبيع باقيًا في يد ورثة البائع.. تحالفوا، وإن كان المبيع في يد ورثة المبتاع.. لم يتحالفوا، وكان القول قول ورثة المبتاع) .
دليلنا: أنها يمين في المال توجّهت على الموروث، فقام الوارث فيها مقامة، كما لو كان المبيع في يد ورثة البائع.
وإن كان المبيع بين وكيلين، واختلفا في قدر الثمن.. ففيه وجهان، حكاهما في " المهذب " [1/293] :
أحدهما: يتحالفان؛ لأنهما عاقدان، فتحالفا، كالمالكين.
والثاني: لا يتحالفان؛ لأن اليمين تعرض ليخاف الظالم منهما، فيرجع [والوكيل إذا أقر، ثم رجع.. لم يقبل رجوعه، فلا تثبت اليمين في حقِّه] ؛ لأن التحالف بالإقرار، ولا يقبل إقرار الوكيل على موكِّله.

[مسألة: اختلفا بالبيع أو الهبة]
إذا انتقل عبدٌ من يد رجل إلى آخر، ثم اختلفا، فقال من انتقل من يده العبد: بعتكه بمائة، وقال من بيده العبد: بل وهبتنيه.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال المسعودي [في " الإبانة " ق\250] : يتحالفان.
قال الطبري في " العدة ": لم يرد: أنهم يتحالفان كتحالف المتبايعين على النفي والإثبات، بل يحلف كل واحدٍ منهما على نفي دعوى صاحبه دون إثبات دعواه.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: يحلف البائع: أنه باعه وما وهبه؛ لأنهما قد اتفقا على زوال الملك عن مالكه، فكان القول قوله في صفة الانتقال عنه؛ لأنه أعلم بذلك.

(5/368)


وإن اختلفا في عين المبيع، بأن قال البائع: بعتك هذا العبد بألف، وقال المشتري: بل اشتريت هذه الجارية بألف.. ففيه وجهان:
أحدهما: وهو قول الشيخ أبي حامد: أنهما لا يتحالفان على النفي والإثبات، بل يحلف البائع: أنه ما باعه الجارية، ويحلف المشتري: أنه ما اشترى العبد؛ لأن التحالف على النفي والإثبات إنما يكون إذا اختلفا في عقد، وهذان عقدان، ولأن التحالف يكون مع اتفاقهما على انتقال الملك إلى المشتري، وهاهنا لم يتفقا على أنه يملك أحدهما.
و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: ذكر ابن الحداد: إذا اختلفا في الصداق، فقالت: مهرتني أمّي، وقال الزوج: بل مهرتك أباك.. أنهما يتحالفان.. قال القاضي: ولا يختلف أصحابنا في مسألة الصداق، فكذلك في البيع؛ لأن كل واحد منهما مدّع ومدّعى عليه، فتحالفا، كما لو اختلفا في قدر المبيع. وأمّا انتقال الملك: فإنهما قد اعترفا بثبوت ملك الثمن للبائع أيضًا.
فإن قلنا بقول القاضي.. نظرت:
فإن حلفا على النفي والإثبات، وانفسخ العقد، أو فسخ.. أخذ البائع العبد أو الجارية، ورجع المشتري إلى الثمن إن كان قد دفعه.
وإن حلف البائع وحده ونكل المشتري، أو حلف المشتري ونكل البائع.. فهو كما لو أقام الحالف منهما البينة، على ما يأتي ذكره.
وإن قلنا بقول الشيخ أبي حامد.. فإن البائع إذا حلف: أنه ما باع الجارية، فإن كانت في يد المشتري.. أخذها البائع، وإن حلف المشتري: أنه ما اشترى العبد قال ابن الصباغ: فإن كان العبد.. في يد المشتري.. لم يأخذه البائع؛ لأنه يقرّ أنه له، وإن كان في يد البائع.. لم يلزم المشتري قبضه. قال ابن الصبّاغ: وله أخذه عندي ليستوفي منه الثمن الذي قبضه البائع منه.

(5/369)


وإن أقام كل واحد منهما بيِّنة بما ادّعاه.. فإن بينة المشتري يحكم بها، ويأخذ المشتري الجارية.
وأمّا البائع إذا أقام بينة بأنه باعه العبد.. نظرت:
فإن كان العبد في يد المشتري.. لم ينتزع من يده، كمن بيده دارٌ أقر بها لإنسان، ولم يصادقه المقر له.. فإن الدار لا تنزع من يد المقر.
وإن كان العبد في يد البائع.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجبر المشتري على قبضه؛ لأن البينة قد شهدت له بملكه، بخلاف من أقر بدار لمن لا يدّعيها؛ لأن البينة هاهنا قد شهدت بحق له وحق عليه.
والثاني: لا يجبر على قبضه؛ لأنه لا يدّعي ملكه.
فعلى هذا: ينزع من يد البائع، ويسلم إلى الحاكم ليحفظه إلى أن يدّعيه المشتري أو ورثته. وإن رأى أن يؤاجره وينفق عليه من أجرته.. فعل. وإن رأى أن يبيعه ويمسك ثمنه إلى أن يدعيه المشتري.. فعل.

[مسألة: الخلاف في شرط يفسد البيع]
] : إذا اختلفا في شرط يفسد البيع، بأن قال البائع: بعتكه بشرط خيار ثلاثة أيام، وقال المشتري: بل اشتريته بخيار أربعة أيام، أو قال: بعتكَه بدراهم، فقال: بل اشتريته بخمرٍ أو خنزيرٍ.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو اختيار الشيخ أبي حامد، وابن الصبّاغ ـ أن القول قول من يدّعي صحة العقد؛ لأن الأصل عدم ما يفسده، وقد نص الشافعي في " البويطي ": (فيمن أسلم إلى أجل في طعام، واختلفا، فقال المسلم إليه: إنه بشرط الخيار، وأنكر المسلم ذلك: أن القول قول المسلم مع يمينه) . وهذا نص أن القول قول من ينفي الشرط المفسد.
والثاني: أن القول قول من يدعي فساد العقد، وهو اختيار صاحب " التقريب "؛ لأن الأصل عدم العقد.

(5/370)


وقال القاضي أبو الطيب: أصل هذين الوجهين مأخوذ من القولين فيمن أقر أنه تكفل ببدن رجل على أنه بالخيار، فأنكر المكفول له شرط الخيار.
وقال القفّال: أصلهما مأخوذ من القولين فيمن أقرّ لغيره بحق، ثم وصله بما يسقطه.
قلت: وهما أصلٌ واحدٌ.
قال الشيخ أبو حامد: فإن قال: بعتك هذه العين بشرط البراءة من العيوب، وأنكر المشتري هذا الشرط.. فإن قلنا: إن البيع صحيح والشرط صحيح.. فإنهما يتحالفان على النفي والإثبات على ما مضى. وإن قلنا: إن الشرط والبيع باطلان.. فالقول قول من ينكر الشرط؛ لأن الظاهر من العقد الصحة. وإن قلنا: لا يصح الشرط ويصح العقد.. ولم يفد هذا الاختلاف شيئًا، ولا يمين على أحدهما.

[فرعٌ: الاختلاف في الصرف بعد التفرق]
وإن اختلفا في الصرف بعد التفرق، فقال أحدهما: تفرقنا قبل القبض، وقال الآخر: تفرّقنا بعد القبض.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن القول قول من يدّعي التفرق قبل القبض مع يمينه؛ لأن الأصل عدم القبض وعدم صحة العقد.
والثاني: أن القول قول من يدّعي التفرق بعد القبض مع يمينه؛ لأن الظاهر صحة العقد، والأصل عدم ما يفسده.
وإن افترقا، فقال أحدهما: تفرّقنا عن تراض، وقال الآخر: تفرّقنا بعد الفسخ.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن القول قول من يدّعي التفرق عن التراضي؛ لأن الأصل صحة العقد.
والثاني: أن القول قول من يدّعي الفسخ؛ لأن الأصل عدم العقد.

(5/371)


[مسألة: ادعاء عيب كان موجودًا]
] : إذا اشترى عبدًا، ووجد فيه عيبًا، فادّعى المشتري أنه كان موجودًا بالعبد في يد البائع، وقال البائع: بل حدث عندك.. ففيه ثلاث مسائل:
إحداهن: إذا كان لا يمكن حدوثه في يد المشتري، مثل: أن يوجد للعبد أصبع زائدة تضر بالعبد، أو شجة مندملة وللشراء وقتٌ لا يندمل مثل تلك الجراحة فيه.. فالقول قول المشتري هاهنا بغير يمين.
الثانية: إذا كان العيب مما لا يمكن حدوثه في يد البائع، مثل: أن يقيم العبد في يد المشتري سنة أو شهرًا، فيأتي وبه شجّة طريّة.. فالقول قول البائع هاهنا بغير يمين.
الثالثة: إذا كان العيب مما يمكن حدوثه في يد كلِّ واحد منهما، مثل: أن يشتري منه ثوبًا، فقبضه، فأقام، فوجد فيه خرقًا أو مرفوءًا.. فإن البائع إذا أنكر ذلك.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل سلامة المبيع حال العقد، وعدم العيب فيه.
إذا ثبت هذا: فكيف يحلف؟ ينظر في البائع:
فإن أجاب: بأنك لا تستحق عليّ ردّه بالعيب.. فإنه يحلف كذا، ولا يكلَّف أن يحلف: لقد باعه بريئًا من العيب؛ لأن المشتري قد يشتري المعيب مع علمه به أو يرضى به.. فيسقط حقه من الرد، وقد لا يكون للبائع على ذلك بينةٌ، فلم يكلف اليمين إلا على ما أجاب به.

(5/372)


وإن قال البائع: بعته بريئًا من العيب.. فهل يكلف أن يحلف على ذلك، أو يجوز أن يحلف: أنه لا يستحق عليه ردّه بالعيب؟ فيه وجهان:
أحدهما: يكفيه أن يحلف: أنه ما يستحق عليه ردّه بالعيب؛ لأن ذلك أعمّ.
والثاني: يلزمه أن يحلف على ما أجاب؛ ليكون موافقًا لجوابه.
إذا ثبت هذا: فإن الشافعي قال: (يحلف البائع: لقد باعه إيّاه بريئًا من العيب) .
وقال المزني: ينبغي أن يحلف: أنه أقبضه إياه بريئًا من العيب، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لأن المشتري يستحق الرد بما يحدث من العيب في يد البائع قبل القبض.
قال أصحابنا: أراد الشافعي: إذا ادّعى المشتري أنه باعه إيّاه وبه هذا العيب، فإنّه يحلف على حسب دعوى المشتري، فأمّا إذا قال المشتري: أقبضتنيه وبه هذا العيب، وكان حدوثه قبل القبض، أو قال: سلمته إليَّ معيبًا، ولا أدري متى حدث.. فإنه يجب على البائع أن يحلف: أنه أقبضه إياه بريئًا من العيب، ويحلف على البت والقطع؛ لأنه يحلف على فعل نفسه.

[فرعٌ: الاختلاف في ردّ المبيع بالعيب]
وإن اختلفا في المردود بالعيب أنه المبيع أو غيره.. نظرت:
فإن تعلق العقد بعينه مثل: أن يشتري منه عبدًا بعينه بدراهم بأعيانها، فجاء مشتري العبد بعبد، وقال: هذا العبد هو الذي اشتريته منك وهو معيب، وقال البائع: العبد الذي بعتك غير هذا.. فالقول قول البائع مع يمينه.
وهكذا: إذا ردّ البائع الدراهم التي وقع البيع على عينها، وقال: هي معيبة، فقال المشتري: الدراهم التي اشتريت بها منك غير هذه.. فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأن الأصل صحة العقد وسلامة المبيع من العيب.
وإن كان المبيع في الذمة مثل: أن يسلم رجل إلى رجل على عبدٍ، فقبض المُسلِمُ

(5/373)


من المسلم إليه عبدًا، ثم جاءه بعبد، فقال: هذا العبد الذي سلّمت إليّ وهو معيبٌ، بخلاف ما وقع عليه عقد السلم، وقال المسلم إليه: العبد الذي سلّمت إليك غير هذا العبد، ولا عيب به.. فالقول قول المسلم مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء العبد في ذمة المسلم إليه حتى يثبت تسليم عبدٍ على الصفات المذكورة في السلم.
وهكذا: إذا باعه عينًا بدراهم في ذمته، فقبضها البائع، ثم ردّ البائع دراهم، وقال: هي التي سلّمت إليّ وهي معيبة، وقال المشتري: بل التي سلّمت إليك غير هذه الدراهم وهي سليمة.. فالقول قول البائع مع يمينه؛ لأن المشتري يدّعي أنه قد أقبض البائع ما وجب عليه، والبائع منكرٌ، والأصل بقاؤها في ذمّته، وهكذا ذكر القاضي أبو الطيب في " شرح المولَّدات "، وذكر الشيخ أبو إسحاق في " التنبيه " في العبد المسلم فيه: أن القول قول المسلم إليه مع يمينه.

[فرعٌ: الاختلاف في عدد المشترى]
وإن اشترى منه عشرة أقفزة من صُبرة، فاكتالها المشتري من البائع، ثم قال المشتري: إنها تسعة، وقال البائع: بل هي عشرة.. ففيه قولان:
أحدهما: القول قول المشتري مع يمينه؛ لأن البائع يدّعي القبض، والمشتري ينكره، والأصل عدم القبض وعدم الإيفاء.
والثاني: أن القول قول البائع مع يمينه.
قال القاضي أبو الطيب: وهو الصحيح؛ لأنهما قد اتَّفقا على القبض والمشتري يدَّعي الخطأ فيه، فكان عليه البيِّنة، كما لو قبض المشتري المبيع، وادّعى به عيبًا كان موجودًا في يد البائع.. فإن القول قول البائع مع يمينه.
قال الشيخ أبو حامد: وهكذا: إذا أسلم إليه في طعام كيلاً، ثم جاء المسلم إليه وكاله على المسلم وقبضه كيلا، ثم ادّعى المسلم [إليه] نقصانًا.. ففيه قولان، وتعليلهما ما ذكرناه.

(5/374)


[مسألة: اختلفا في بداية التسليم لأن الثمن في الذمة]
إذا اشترى سلعة بثمن في ذمته، فقال البائع: لا أسلم السلعة حتى أقبض الثمن، وقال المشتري: لا أسلِّم الثمن حتى أقبض السلعة.. فاختلف أصحابنا فيها على طريقين:
فـ[الطريق الأول] : منهم من قال: فيها ثلاثة أقوال مشهورة:
أحدها: أن الحاكم يجبر البائع على إحضار السلعة وتسليمها إلى عدلٍ، ويجبر المشتري على إحضار الثمن وتسليمه إلى عدل، أو يأخذهما الحاكم، ثم يسلِّم السلعة إلى المشتري والثمن إلى البائع، ويجوز البداية بأيِّهما شاء؛ لأنه قد وجب الإقباض على كل واحد منهما، فإذا تمانعا.. أُجبرا، كما لو كان لأحدهما على صاحبه دنانير وعليه له دراهم.
والثاني: لا يجبر واحد منهما، ولا يتعرض لهما، بل أيُّهما تطوع، فسلَّم ما عليه.. أجبر الآخر على تسليم ما عليه، ويمنعهما من التخاصم؛ لأن كل واحدٍ منهما قادرٌ على استيفاء حقِّه، بأن يتطوع بتسليم ما عليه، فإذا لم يفعل.. فالتفريط جاء من جهته، فلم يتعرض له، كما لو ادّعى على غيره دينًا، فنكلَ المدَّعى عليه عن اليمين، فردت على المدعي، فنكلَ عنها.
والقول الثالث ـ وهو اختيار الشافعي، وهو الصحيح ـ: (أن البائع يجبر على تسليم السلعة، ثم يجبر المشتري على تسليم الثمن) ؛ لأن تسليم السلعة يتعلق به استقرار العقد، فكان تقديمه أولى، ولأن حق المشتري متعلق بالعين، وحق البائع

(5/375)


متعلق بالذمة، والمتعلق بالعين أقوى من المتعلق بالذمة، كما لو كان له عبدٌ، فجنى على غيره وفي ذمة السيد دين.. فإن حق الجناية يقدّم؛ لتعلقه بعين العبد.
والقول الرابع ـ حكاه المسعودي [في " الإبانة " ق\249] ، وهو قول مالك، وأبي حنيفة ـ: (أن المشتري يجبر على إحضار الثمن، ثم يجبر البائع على إحضار السلعة عكس ما اختاره الشافعي؛ لأن حق المشتري قد تعين بعين، وحقّ البائع لم يتعين بشيء، ومن شأن المتبايعين أن يتساويا، فأجبر المشتري على الإقباض ليتساويا.
و [الطريق الثاني] : من أصحابنا من قال: المسألة على قولٍ واحدٍ، وهو: أن البائع يجبر على تسليم السلعة، ثم يجبر المشتري عل تسليم الثمن.
وقال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح عندي، وما سواه من الأقوال، فإنّما حكاه الشافعي عن غيره، ولم يختر لنفسه مذهبًا إلا هذا.
فإن قلنا بالصحيح، فسلّم البائع السلعة:
فإن كان المشتري موسرًا.. نظرت:
فإن كان الثمن حاضرًا معه في المجلس أُجبر على تسليمه.
وإن كان الثمن غائبًا عنه في دكّانه أو في داره.. حجر عليه في المبيع وفي سائر أمواله حتى يسلِّم الثمن؛ لأنه لا يؤمن أن يتصرف في ماله فيما يضر بالبائع، وإن كان مالُه غائبًا عن البلد.. نظرت:
فإن كان بينه وبين ماله مسافة تقصر فيها الصلاة.. لم يلزم البائع أن يصبر إلى أن

(5/376)


يحضر المال؛ لأن عليه مشقة في ذلك، بل يثبت له الخيار في فسخ البيع، فإن فسخ البيع.. استرجع السلعة. وإن اختار أن يصبر إلى أن يحضر.. حجر الحاكم على المشتري في المبيع وفي سائر أمواله إلى أن يحضر الثمن؛ لئلا يتصرف في ماله بما يضر بالبائع.
وإن كان بينه وبين ماله مسافةٌ لا تقصر في مثلها الصلاة.. ففيه وجهان:
أحدهما: حكمها حكم ما لو كان في مسافة تقصر في مثلها الصلاة.. فيثبت للبائع الخيار في فسخ البيع؛ لأنه يخاف الهلاك على مال المشتري فيما قرب، كما يخاف عليه فيما بعد.
والثاني: حكمها حكم ما لو كان ماله في داره أو دكّانه.. فلا يثبت للبائع الخيار في فسخ البيع؛ لأنه في حكم الحاضر، ولكن يحجر على المشتري في المبيع وفي سائر أمواله إلى أن يحضر الثمن.
وإن كان المشتري معسرًا بالثمن.. ففيه وجهان:
[أحدهما]ـ المنصوص للشافعي ـ: (أن البائع بالخيار: بين أن يفسخ البيع، ويرجع إلى السلعة، فيأخذها، وبين أن يصبر بالثمن، ويقر البيع) ؛ لأنه تعذّر عليه الثمن بالإعسار، فثبت له الخيار في فسخ البيع، كالمفلس.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: لا يثبت له فسخ البيع، بل تباع السلعة، فإن كان ثمنها وفق حقّه.. سُلِّم إليه، وإن كان أكثر.. كانت الزيادة للمشتري؛ لأنه يمكن إيفاء حقِّه بذلك، وإن اشترى سعلة بثمن معين.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يجبر واحدٌ منهما، بل يقال: أيُّكما تطوّع بتسليم ما عليه.. أجبر الآخر.
والثاني: يجبرهما الحاكم جميعًا، ويجوز البداية بمن شاء منهما، ووجههما ما تقدم، ويسقط القول الثالث: أنه يجبر البائع أوّلاً؛ لأن حق كل واحد منهما هاهنا متعلق بالعين.

(5/377)


[مسألة: لا يجبر البائع على التسليم ما لم يقبض كامل الثمن]
] : وإن اشترى رجل من رجل عينًا، فسلّم المشتري نصف الثمن.. فهل يجب تسليم ما في مقابلته من العين إليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجبر البائع على تسليم شيء من العين، كما لو رهنه عينًا بدين، فسلّم الراهن بعض الدين.. فإنه لا ينفكُّ شيءٌ من الرهن.
والثاني: يجبر البائع على تسليم نصف العين؛ لأن الثمن عوَضٌ عن العين، فإذا سلَّم المشتري بعض الثمن.. وجب تسليم ما في مقابلته، بخلاف الرهن، فإنه ليس بعوض عن الدين، وإنما هو وثيقة به.

[فرعٌ: دفع ذمة أحد الشريكين لا يلزم لهما تسليم العين]
] : وإن اشترى رجلان من رجل عينًا بثمن في ذمّتهما، فسلّم أحدهما نصف الثمن إلى البائع.. فعلى البائع أن يسلم إليه نصف العين، وإن سلّم أحدهما إليه جميع الثمن.. بريء شريكه ممَّا عليه من الثمن، ولم يسلِّم نصيب الشريك الذي لم يدفع الثمن إلى الناقد، بل إلى المالك.
وقال أبو حنيفة: (إذا سلَّم أحدهما نصف الثمن.. لم يجبر البائع على تسليم شيء من المبيع إليه، وإن سلّم جميع الثمن إليه.. وجب عليه تسليم جميع المبيع إلى الدافع) .
دليلنا على الفصل الأول: أنّه سلّم ما عليه من الثمن.. فوجب عليه أن يسلِّم إليه ما استحقّ من المبيع، كما لو كان منفردًا بالشراء.
وعلى الفصل الثاني: أنّه تبرّع بدفع الثمن.. فلم يدفع إليه جميع المبيع، كما لو تبرّع بدفع الثمن أجنبيٌّ غير الشريك.

(5/378)


[مسألة: تلف المبيع قبل القبض]
يفسخه] :
إذا تلف المبيع في يد البائع قبل أن يقبضه المشتري بآفة سماوية.. انفسخ البيع ورجع المشتري إلى الثمن إن كان قد دفعه، سواءٌ كان البائع عرضه على المشتري فلم يقبل أو كان المشتري قد سأل ذلك ومنعه البائع، فإنّه يتلف من ضمان البائع، وبه قال الشعبيُّ، وربيعة، وأبو حنيفة، وأصحابه.
وقال مالك: (إن كان المبيع عبدًا، فتلف في يد البائع قبل القبض، أو قفيزًا من صبرة، فتلفت الصبرة.. كان ذلك من ضمان البائع) . كقولنا.
وإن كان غيرهما من المبيعات، وتلف في يد البائع.. فإنها تتلف من ضمان المشتري، ولا ينفسخ البيع ثم ينظر:
فإن لم يطلب المشتري ذلك، أو كان البائع قد عرضها على المشتري، فلم يقبضها حتّى تلفت.. فلا شيء على البائع، كالوديعة إذا تلفت في يده. وإن كان المشتري، قد دفع الثمن وطالب بالسلعة المبيعة، فلم يفعل البائع.. وجب على البائع قيمتها، كالغاصب.
وإن كان المشتري لم يدفع الثمن وطالب بالسلعة، فقال البائع: لا أسلِّمُها حتى أقبض الثمن، ثم تلفت السلعة في يده.. كان كالرهن إذا تلف في يد المرتهن، وحكم الرهن عنده إذا هلك في يد المرتهن.. ينظر فيه:
فإن كان هلاكه بأمر ظاهر.. فهو من ضمان الراهن.
وإن كان بأمر خفيٍّ.. فهو من ضمان المرتهن.
وممَّن قال: بأن المبيع يتلف من ضمان المشتري قبل القبض: أحمد، وأبو ثور. ولكن التفصيل في قدر الضمان لمالك.

(5/379)


وقال النخعي، وابن سيرين: إن سأل المشتري القبض، فامتنع البائع من إقباضه حتى هلك المبيع.. كان من ضمان البائع، وإن لم يسأل المشتري ذلك.. فهو من ضمان المشتري.
دليلنا: أنه قبض مستحق بعقد البيع، فإذا تعذّر.. انفسخ البيع، كما لو تصارفا وتفرّقا قبل القبض.
فقولنا: (بعقد البيع) احترازٌ من الصداق، إذا تلف قبل القبض.. فإنّ النكاح لا يبطل؛ لأنه مبيع تلف قبل القبض، فوجب أن يكون من ضمان البائع، كما لو كان عبدًا أو قفيزًا من صُبرةٍ، فتلف في يد البائع عند مالك.

[فرعٌ: تلف الثمن قبل قبض السلعة]
وإن اشترى سلعة بثمن معين، فتلف الثمن في يد المشتري قبل القبض.. بطل البيع.
وقال أبو حنيفة: (لا يبطل) . وهذا بناء على أصله: أنّ الثمن لا يتعيّن، وقد مضى الكلام معه، ولأنه مبيع تلف قبل القبض.. فانفسخ، كالحيوان.

[فرعٌ: ما حصل ونما في ملك البائع]
فإن كان المبيع نخلةً لا ثمرة عليها، فأثمرت في يد البائع، فجُدّت، ثم تلفت النخلة في يد البائع، أو بهيمة حائلاً، فحملت في يد البائع، فولدت، ثم تلفت البهيمة، أو كان المبيع عبدًا، فاكتسب في يد البائع، ثم تلف العبد قبل القبض.. فإن

(5/380)


الثمرة، والولد، والكسب يكون ملكًا للمشتري؛ لأنه نماءُ ملكه، وينفسخ البيع، فيرجع المشتري بجميع الثمن إن كان قد دفعه؛ لما ذكرناه.
فإن قيل: فقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخراج بالضمان» . وإذا كان الخراج هاهنا للمشتري.. فيجب أن يكون تلف المبيع من ضمانه؟
فالجواب: أن الخبر دليل على: أن كل موضع يكون الضمان على المشتري، فإن الخراج يكون له؛ لأنه علّق استحقاق الخراج على الضمان، فلا يكون الخبر دليلاً على: أن كل موضع كان الخراج له، وجب أن يكون الضمان عليه؛ لأنه لم يقل: الضمان بالخراج، كما أنه إذا قال: كل نبي صالح.. لم يكن كل صالح نبيًّا؛ لأن الصلاح علق على النبوّة، ولم يعلِّق النبوة على الصلاح.
وإن تلفت هذه الثمرة في يد البائع، فإن كان المشتري قد طالب بها، وامتنع البائع من تسليمها.. كان عليه ضمانها، وإن لم يطالب بها المشتري.. لم يجب على البائع ضمانها؛ لأنها أمانة في يده.
وحكى القاضي أبو الطيب وجهًا آخر: أن الثمرة والولد والكسب للبائع؛ لأن المبيع لمّا انتقص قبل استقراره.. صار بمنزلة ما لو لم يوجد. وهذا ليس بشيء.
وهكذا: لو اشترى جارية، فوطئها المشتري في يد البائع، ثم تلفت قبل القبض.. فإنّ البيع يبطل، وهل يلزم المبتاع المهر؟ على هذين الوجهين.

[فرعٌ: إقالة البائع المشتري وتلف المبيع قبل قبضه]
] : إذا اشترى عبدًا، فقبضه، ثمّ أقال البائع المشتري، وتلف العبد في يد المشتري قبل أن يقبضه البائع.. بنى ذلك على الإقالة، وفيها قولان:

(5/381)


أحدُهما ـ وهو قوله الجديد، وهو الصحيح ـ: (أن الإقالة فسخ للعقد) ؛ لأنها مأخوذة من إقالة العثرة، وترك المطالبة بحكمها والإضراب عنها، وهذا يقتضي أن تكون الإقالة: ترك المبيع لاستئناف عقد.
فعلى هذا: يلزم المشتري قيمة العبد، فإن زادت قيمته بعد القبض.. لزمه قيمته يوم قبضه، ولا يلزمه ضمان الزيادة؛ لأنها زيادة حصلت للمشتري، ولا حقّ للبائع فيها.
والقول الثاني ـ قاله في القديم ـ: (أن الإقالة بيع) ، وهو قول مالك؛ لأنها لو كانت فسخًا؛ لصحت الإقالة في المبيع وإن كان تالفًا.
فعلى هذا: إذا تلف العبد في يد المشتري قبل أن يقبضه البائع.. بطلت الإقالة، وعاد البيع الأول صحيحًا، ويكون المبيع تالفًا من ضمان المشتري.
قال القاضي أبو الطيب: والصحيح هو الأول.
وأمّا الإقالة في المبيع بعد تلفه: فقد نص الشافعي على صحتها، كما تصح مع وجوده.
فإذا قلنا: إنّ الإقالة فسخٌ.. فهل ينفسخ العقد من أصله، أو من وقت الفسخ؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\252] .
وفائدة ذلك: إذا اكتسب العبد كسبًا بعد البيع، ثم فسخ العقد، فإن قلنا: إن الفسخ يرفع العقد من أصله.. كان الكسب للبائع. وإن قلنا: إن الفسخ رفعٌ للعقد من يوم الفسخ.. كان الكسب للمشتري، وهذا أصح.

[فرعٌ: وطء البائع الجارية قبل تسليمها]
وإن اشترى رجلٌ جارية، فوطئها البائع قبل أن يقبضها المشتري، ثم تلفت قبل

(5/382)


القبض.. وجب على البائع مهر المثل للمشتري؛ لأنه وطء في ملك غيره، ويبطل البيع فيها؛ لما تقدم من ذكره.
وإن وطئها المشتري في يد البائع، ثم ماتت في يد البائع بعد هذا الوطء.. قال القاضي أبو الطيب: فإن هذا الوطء لا يكون قبضًا لها، فيبطل البيع فيها؛ لأنها تلفت قبل القبض، وينظر فيها:
فإن كانت ثيِّبًا.. فلا شيء على المشتري؛ لأنها كانت ملكه وقت الوطء.
وإن كانت بكرًا، فافتضّها.. فلا مهر عليه، ولكن يجب عليه بقدر أرش الافتضاض من الثمن؛ لأنه أتلف جزءًا منها، ولو أتلفها.. لضمنها بالثمن، فإذا أتلف جزءًا منها.. ضمنه بجزء من الثمن.

[فرعٌ: نقص المبيع في يد البائع]
وإن اشترى رجلٌ من رجلٍ عبدًا، فذهبت يدُهُ أو عينه في يد البائع بآكلةٍ.. ثبت للمشتري الخيار للعيب الحادث قبل القبض، فإن فسخ البيع.. فلا كلام، وإن لم يفسخه مع العلم به.. لزمه جميع الثمن؛ لأن الثمن لا ينقسم على الأعضاء، ولهذا لو قال: بعتك رأس هذا العبد أو يدَهُ.. لم يصحّ البيع.

[فرعٌ: تلف المبيع بيد آخر قبل تسليمه]
وإن تلف المبيع في يد البائع قبل القبض بفعل أجنبيّ، بأن كان عبدًا، فقتله.. فالمشهور من المذهب: أن المسألة على قولين:
أحدهما: ينفسخ البيع؛ لأنه تعذر التسليم المستحق بالعقد، فانفسخ العقد، كما لو تلف بآفة سماوية.

(5/383)


فعلى هذا: يرجع المشتري على البائع بالثمن، ويرجع البائع على الأجنبي بقيمة العبد.
والثاني: لا ينفسخ، بل يثبت للمشتري الخيار: بين أن يفسخ العقد ـ لأن ذلك أكثر من حدوث العيب فيه ـ ويرجع على البائع بالثمن، ويرجع البائع على الأجنبي بالقيمة، وبين أن يجيز البيع، ويرجع على الأجنبي بالقيمة؛ لأن القيمة قائمة مقام العبد، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، وحكى الطبري في " العدة ": أن أبا العباس قال: لا ينفسخ البيع، قولاً واحدًا، وإنّما يثبت للمشتري الخيار.
وإن قطع الأجنبيّ يده في يد البائع، ولم يمت منه.. لم ينفسخ البيع، قولاً واحدًا؛ لأن عين العبد باقية، ولكن يثبت للمشتري الخيار بين الفسخ والإجازة؛ لأن ذلك عيب، فإن فسخ البيع.. رجع البائع على الأجنبي بنصف قيمة عبده، وإن أجاز المشتري البيع.. رجع المشتري على الأجنبي بنصف قيمة العبد.
وإن قطع رجل يد عبدٍ لغيره، ثم باعه سيِّدُهُ، فقبضه المشتري، ثم مات من ذلك القطع.. قال الطبري في " العدة ": ضمن القطع للمشتري، ولم يبيِّن الطبري القدر الذي يجب للمشتري.
والذي تبين لي فيها: أن العبد يقوَّم الشراء، ويضم ذلك إلى نصف قيمته يوم القطع، وتقسم القيمة عليهما، فما قابل نصف القيمة يوم القطع.. وجب للبائع؛ لأن ذلك وجب في ملكه، وما قابل القيمة يوم الشراء.. وجب للمشتري؛ لأن القاطع لا يجب عليه أكثر من القيمة.
وقال أبو حنيفة: (لا يجب للمشتري شيء) .
دليلنا: أنه تلف في ملكه من قطع الأجنبي، فأشبه إذا اشترى عبدًا، فقطع الأجنبي يده، فمات.

[فرعٌ: تلف المبيع بفعل البائع]
] : وإن تلف المبيع قبل القبض بفعل البائع، بأن كان عبدًا، فقتله.. ففيه طريقان:

(5/384)


[أحدهما] : قال عامة أصحابنا: ينفسخ البيع، قولاً واحدًا، لأنه فات التسليم المستحق بالعقد، فانفسخ العقد، كما لو تلف بآفةٍ سماويةٍ.
و [الثاني] : قال أبو العباس: فيه قولان:
أحدهما: هذا.
والثاني: لا ينفسخ البيع، بل يثبت للمشتري الخيار: بين أن يفسخ البيع، وبين أن يجيزه، ويرجع على البائع بالقيمة.
فإن قطع البائع يده، واندملت.. فعلى قول عامة أصحابنا: المشتري بالخيار: بين أن يفسخ البيع، وبين أن يجيزه بجميع الثمن، كما لو ذهبت يده بآكلة. وعلى قول أبي العبّاس: المشتري بالخيار: بين أن يفسخ البيع، وبين أن يجيزه، ويرجع على البائع بنصف القيمة، كما لو قطعه أجنبي.

[فرعٌ: قبض المشتري الجارية بغير رضا البائع وقبل دفع ثمنها]
] : فإن قبض المشتري الجارية المبيعة من البائع بغير اختياره قبل دفع الثمن، فوطئها المشتري، ثم طالب البائع بردِّها إليه إلى أن يقبض الثمن.. وجب ردُّها إليه، فإذا ردت إليه، ثم تلفت في يده.. انفسخ البيع؛ لأن القبض قد زال بردِّها إلى البائع، ولا مهر على المشتري؛ لأنه وطئها في ملكه.
وعلى الوجه الذي حكاه القاضي أبو الطيب: يجب عليه المهر؛ لأنه لمَّا انفسخ البيع.. صار كما لو لم يوجد. وليس بشيء.
ولو ماتت الجارية في يد المشتري قبل ردِّها إلى البائع.. استقر عليه الثمن، وكان تلفُها من ضمان المشتري، وإن قطع البائع يدها وهي في يد المشتري، وماتت من القطع.. لم ينفسخ البيع، بل يجب على البائع قيمتها، ويجب على المشتري جميع الثمن.

(5/385)


وقال أبو حنيفة: (ينفسخ البيع) .
دليلنا: أن قبض المشتري لا يرتفع بجناية البائع على المبيع في يده، فصار كما لو قبضها بعد دفع الثمن، أو كما لو قبضها بإذن البائع.

[فرعٌ: تلف المبيع بفعل المشتري قبل قبضه]
] : وإن تلف المبيع في يد البائع بفعل المشتري؛ بأن كان عبدًا، فقتله.. فالمشهور من المذهب: أن البيع لا ينفسخ، ويستقر عليه الثمن؛ لأن إتلافه له قبض، فهو كما لو كان عبدًا، فأعتقه.
وحكى الطبريُّ في " العدّة " وجهًا آخر: أنّ البيع ينفسخ فيرجع البائع عليه بالقيمة، ويرجع هو عليه بالثمن. وهذا ليس بشيء.
فإن قطع المشتري يده وهو في يد البائع.. لم يثبت له الخيار في فسخ البيع؛ لأنه نقص بفعله، فإن اندملت جراحة اليد التي قطعها المشتري، ثم مات العبد في يد البائع قبل القبض.. انفسخ البيع؛ لأنه فات التسليم المستحق بالعقد، فانفسخ البيع، كما لو تلف بآفة سماوية، ويجب على المشتري ضمان اليد التي قطعها، ولا يجب عليه ضمانها بنصف القيمة؛ لأن العبد مضمون على المشتري بالثمن، فكذلك أجزاؤه، ولكن يضمنها بجزء من الثمن، وفي قدر ذلك وجهان:
[الأول] : قال الشيخ أبو إسحاق في " المهذب " [1/295] : يقوَّم العبد مع اليد، ثم يقوَّم بلا يد فيرجع البائع على المشتري بما نقص من الثمن.
ومعنى ذلك: إن كانت قميته مع اليد عشرين، وقيمته بغير يد عشرة.. رجع بنصف الثمن، وإن كنت قيمته مع اليد ثلاثين، وقيمته بلا يد عشرين.. رجع عليه بثلث الثمن.

(5/386)


و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب في " شرح المولَّدات ": يرجع عليه لقطع اليد بنصف الثمن؛ لأنه لو قتله.. لرجع عليه بجميع الثمن، فإذا قطع يده.. رجع عليه بنصف الثمن؛ لأن اليد من الحر مضمونة بنصف بدل النفس، فكذلك اليد من العبد مضمونة بنصف بدل لنفسه، ولا يقال: إن الثمن ينقسم على الأعضاء، ولكن يقال: جميع بدل العبد، إلاَّ أنّ اليد مضمونةٌ بنصف بدل النفس، كما أنّ دية الحر لا يقال: إنها مقابلة لأطرافه، وإنما هي مقابلةٌ لجميع بدنه، ثم لو قطع يده.. لوجب فيها نصف ديته، كذلك هاهنا.
قال القاضي أبو الطيب: فعلى هذا: إذا قطع المشتري يدي العبد، واندملتا، ثم مات في يد البائع قبل التسليم.. لم ينفسخ البيع، ويجب على المشتري جميع الثمن؛ لما ذكرناه.

[مسألةٌ: تلف الثمرة على الأرض كغيرها]
] : وإن اشترى منه ثمرةً على الأرض، فتلفت قبل القبض.. فهي كغير الثمرة على ما مضى، وكذلك: إذا اشترى منه ثمرة على الشجر، فتلفت قبل التخلية.. فهي كغير الثمرة على ما مضى.
وإن اشترى منه ثمرة على الشجر بعد بدوِّ الصلاح فيها، وخلاَّ البائع بينه وبين الثمرة، فتلفت بآفةٍ سماويّة قبل أوان جدادها.. ففيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (تتلف من ضمان البائع، فإن تلف جميعها.. انفسخ البيع، ووجب ردُّ الثمن) .
و [ثانيهما] : قال في الجديد: (تتلف من ضمان المشتري) . وبه قال أبو حنيفة، وهو الصحيح.
وقال مالك: (إذا أذهبت الجائحة دون الثلث.. كان ذلك من ضمان

(5/387)


المشتري، وإن أذهبت الثلث فما زاد.. كان من ضمان البائع) .
وقال أحمد: (إذا ذهبت بآفة سماويّة.. كان من ضمان البائع، وإن ذهبت بسرقة أو نهب.. كان من ضمان المشتري) .
فإذا قلنا بقوله القديم: فوجهه: ما رواه الشافعي، عن سفيان بن عيينة، [عن حميد بن قيس] ، عن سليمان بن عتيق، عن جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع السنين، وأمر بوضع الجوائح» . وروى أبو الزبير، عن جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو باع أحدكم من أخيه ثمرًا، فأصابته جائحة.. فلا يأخذ من ثمنها شيئًا، بمَ يأخذ مال أخيه بغير حقٍّ؟!» ، ولأنه لو انقطع الماء ولم يكن البائع سقى الثمرة.. كان

(5/388)


المشتري بالخيار بين الفسخ والإجازة؛ لأن على البائع سقيها، فلو كانت التخلية قبضًا.. لوجب أن لا يثبت له الخيار بانقطاع الماء بعد القبض؛ لأن العيب إذا حدث بعد القبض.. لم يوجب الخيار.
وأمّا الدليل على صحة قوله الجديد: فما روى أنسٌ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الثمار حتى تُزهيَ، قيل: ما تُزِهيَ؟ قال: " حتى تَحْمَرّ» ، ثم قال: «أرأيت إن منع الله الثمرة.. فبِمَ يأخذ أحدكم مال أخيه؟» . فمنع من بيع الثمرة حتى تشتد، وأخبر: أن الثمرة لو تلفت.. فبأي شيء كان يأخذ أحدكم العوض الذي بإزائها؟! فلولا أنّ الثمرة إذا تلفت كانت من ضمان المشتري بالتلف.. لما كان لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟!» معنى ولا فائدة وهو لا يستحق الأخذ.
وأيضًا روت عائشة: «أن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: إن ابني اشترى ثمرة من فلان، فأذهبتها الجائحة، فسأله أن يضع عنه، فتألّى أن لا يفعل، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تألّى فلان أن لا يفعل خيرًا!!» . فلو كان ذلك واجبًا لأجبره عليه، ولأن التخلية

(5/389)


تسليمٌ يستفيد بها المشتري التصرف في الثمرة.. فوجب أن يكون قبضًا يدخل به في ضمان المشتري، كالنقل فيما ينقل.
وأما الجواب عن حديث سفيان: فقال الشافعيُّ: (وهَّنهُ سفيان) ، أي: ضعَّفه؛ لأنه لم يذكره، ثم ذكره.
وأمّا ثبوت خيار المشتري بالعطش: فإنّ أبا عليّ الطبريّ قال: إنّما يثبت له الخيار على القول القديم، فأمّا على القول الجديد: فلا يثبت.
فعلى هذا: لا نسلِّم ذلك، وقال أبو إسحاق: يثبت له الخيار على القولين؛ لأن العقد اقتضى أن يكون سقيُ الثمرة على البائع، كما اقتضى تركها على الأصول إلى أوان الجذاذ، فإذا عجز عن تسليمها في حال كمالها.. ثبت للمشتري الخيار.

[فرعٌ: التلف بغير آفة سماوية]
وإن تلفت الثمرة قبل القبض بفعل آدمي من نهب أو سرقة.. ففيه طريقان:
[أحدهما] : قال ابن الصبّاغ: هي كما لو تلفت بآفة سماويّة، وهل تتلف من ضمان البائع بعد التخلية؟ على قولين.
و [ثانيهما] : قال الشيخ أبو حامد: تتلف من ضمان المشتري بعد التخلية، قولاً واحدًا.

(5/390)


وإن اشترى ثمرة بشرط القطع، فتلفت بعد التخلية.. ففيه ثلاث طرق:
[أحدها] : قال القفال: تتلفت من ضمان المشتري، قولاً واحدًا؛ لأنه لمّا لم يجب على البائع سقيُها.. لم تتلف من ضمانه.
و [ثانيها] : حكى أبو عليّ السِّنجيُّ عن بعض أصحابنا: أنه قال: تتلف من ضمان البائع، قولاً واحدًا؛ لأن المشتري اشتراها على أن يكون القبض فيها هو القطع والنقل، فإذا هلكت قبل ذلك.. كانت من ضمان البائع، كما لو باعه طعامًا، فلم ينقله حتى تلف.
و [ثالثها] : من أصحابنا من قال: هي على قولين، ولم يذكر ابن الصبَّاغ غير هذا، كما لو اشتراها مطلقًا.

[فرعٌ: ترك الجداد والنقل بعد إمكانه]
] : فإذا بلغت الثمار وقت الجذاذ وأمكن المشتري نقلها، فلم يفعل حتى تلفت بجائحة.. ففيه طريقان:
[الطريق الأول] : قال الشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق: تتلف من ضمان المشتري، قولاً واحدًا؛ لأنها إذا بلغت وقت الجذاذ.. وجب عليه النقل، فإذا لم يفعل.. كان مفرِّطًا، فكان هلاكها من ضمانه.
و [ثانيهما] : قال ابن الصبَّاغ: إن قلنا إذا تلفت قبل أوان الجذاذ: إنّها تتلف من ضمان المشتري.. فهاهنا أولى، وإن قلنا هناك: تتلف من ضمان البائع.. فهاهنا قولان:
أحدهما: يكون تلفها من ضمان البائع؛ لأن الآفة أصابتها قبل نقلها، فأشبه إذا أصابتها قبل أوان الجذاذ.
والثاني: تتلف من ضمان المشتري؛ لأنه مفرِّطٌ في ترك الجذاذ.
فإن هلك بعض الثمرة بعد التخلية، فإن قلنا بالقول القديم: فإن البيع ينفسخ في

(5/391)


التالف، وهل ينفسخ في الباقي من الثمرة؟ فيه طريقان، مضى ذكرهما في تفريق الصفقة.
فإذا قلنا: ينفسخ.. فلا كلام. وإن قلنا: لا ينفسخ.. فينبغي أن يثبت للمشتري الخيار في فسخ البيع في الباقي؛ لأن الصفقة تفرَّقت عليه، فإن لم يختر الفسخ.. فإنَّ المشتري يسترجع من الثمن بقدر التالف، فإن اختلفا في قدر التالف، فقال المشتري: تلف نصف الثمرة، وقال البائع: بل تلف ثلثها.. فالقول قول البائع مع يمينه؛ لأن اليمين قد لزمت في الظاهر، فلا يسقط منه إلاَّ ما يقرُّ به البائع، ولأن الأصل عدم الهلاك، إلاَّ في القدر الذي يقرُّ به البائع.
وبالله التوفيق

(5/392)