البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب السَّلَم]
السَّلَم جائزٌ. والأصل في جوازه: الكتاب، والسنَّة، والقياس.
أمَّا الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] [البقرة: 282] .
قال ابن عبَّاس: (أشهد أنّ السلف المضمون في الذمة إلى أجل مسمًّى قد أحلَّه الله في كتابه، وأذن فيه، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ} [البقرة: 282] الآية [البقرة: 282] ) .
وأمَّا السنَّة: فروى الشافعيُّ بإسناده عن ابن عبَّاس: أنه قال: «قدم النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة، وهم يسلفون في التمر السنة ـ وربما قال: السنتين والثلاث ـ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من أسلف.. فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم» .

(5/393)


و (السلف) : يقع على القرض، وعلى السلم، وهو أن يسلف عوضًا حاضرًا في عوض موصوف في الذمة. والمراد بالخبر هو السلم؛ لأن القرض يثبت بمثله حالاً، ولا يحتاج إلى تعيين وتقدير وأجل.
وأمَّا القياس: فلأن البيع يشتمل على ثمن ومثمن، فإذا جاز أن يثبت الثمن في الذمة.. جاز أن يثبت المثمن في الذمّة، ولأن بالناس حاجة إلى جواز السلم؛ لأن أرباب الثمار قد يحتاجون إلى ما ينفقون على تكميل ثمارهم، وربما أعوزتهم النفقة، فجوِّز لهم السلم؛ ليرتفقوا بذلك، ويرتفق به المسلم في الاسترخاص.
فإن قيل: فقد رُوي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع ما ليس عنده) ، و: عن بيع السنين» ؟
فالجواب: أن المراد بالخبر: أن يبيع عينًا ليست عنده، أو يبيع ثمرة نخلةٍ سنين. فأمَّا إذا كان ذلك في الذمة: لم يدخل في النهي؛ لما ذكرناه في إذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

[مسألةٌ: فيما يشترط في سلم الأعمى]
] : ولا يصح السلم إلاَّ ممن يصح منه البيع؛ لأنه بيع في الحقيقة.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يصح السلم من الأعمى) .

(5/394)


قال المُزنيُّ: يشبه أن يكون أراد الشافعي ـ لمعرفتي بلفظه ـ: الأعمى الذي عرف الألوان قبل أن يعمى، فأمَّا من خلق أعمى: فلا معرفة له بالأعيان، فهو في معنى من اشترى ما يعرف طعمه ويجهل لونه، فلا يصح.
واختلف أصحابنا في ذلك:
فصوَّب المُزنيَّ أبو العبَّاس، وأبو عليّ بن أبي هريرة، وقالا: لا يصح السلم من الأكمه؛ لأن السلم يقع فيه على مجهول، وذلك لا يجوز.
وقال أبو إسحاق، وعامَّة أصحابنا: أخطأ المُزني، بل يصح السلم من الأكمه؛ لأنه المعتمد فيه على الصفات، والأكمه والأعمى في باب الصفات واحد.
قالوا: ولو لم يجز السلم من الأكمه؛ لأنه لم يشاهد الأعيان والألوان.. لم يجز للبصير أن يسلم في شيء لم يشاهده. ولم يقل أحدٌ: إنه لا يجوز لأهل بغداد أن يسلموا في الموز؛ لأنهم لم يشاهدوه، ولا لأهل خراسان السَّلَم في الرُّطب؛ لأنهم لم يشاهدوه، بل متى عرفوا أوصافه.. جاز السلم عليه وإن لم يشاهدوه، كذلك هذا مثله. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد.
فإذا قلنا بهذا: فإنما يصح السلم منه إذا كان رأس المال موصوفًا في الذمة، ثم يعين في المجلس، ويقبض، وهل يصح قبضه بنفسه، أو يوكِّل من يقبض له؟ فيه وجهان، حكاهما في " العدة ".
فأمَّا إن كان رأس المال مغيَّبًا: فإنه لا يصح السلم فيه ولا عليه؛ لأنه لا يعرفه.

[مسألةٌ: صيغة عقد السلم]
مسألةٌ: [صيغة عقده] : وينعقد السلم بلفظ السلم والسلف، بأن يقول: أسلمت إليك هذا الدينار، أو أسلفتك هذا الدينار بكذا وكذا؛ لأنه قد ثبت لهما عرف الشرع والاستعمال، وهل ينعقد السلم بلفظ البيع، بأن يقول: بعني ثوبًا في ذمتك، من صفته كذا وكذا بهذا الدينار؟ فيه وجهان:

(5/395)


أحدهما: لا يكون سَلَمًا؛ لأن السلم غير البيع، فلم ينعقد بلفظه.
فعلى هذا: يكون بيعًا، ولا يشترط فيه إلاّ قبض الدينار في المجلس، ويثبت فيه خيار الشرط.
والثاني: ينعقد سَلَمًا.
فعلى هذا: لا يصح السلم حتى يقبض الدينار قبل أن يتفرَّقا، ولا يثبت فيه خيار الشرط؛ لأن السلم نوع بيع يقتضي قبض العوض في المجلس، فانعقد بلفظ البيع، كالصرف. ومعنى هذا: أن الصرف ينعقد بلفظ البيع، وبلفظ الصرف، فكذلك السلم ينعقد بلفظ البيع، وبلفظ السلم، والمعنى الجامع بينهما: أنه يشترط قبض العوض فيهما في المجلس.

[مسألةٌ: خيار المجلس والشرط في السلم]
] : وإذا انقعد السلم.. ثبت لكل واحد منهما خيار المجلس إلى أن يفترقا، أو يتخايرا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يقل أحدهما للآخر: اختر» . وهذان متبايعان.
ولا يثبت فيه خيار الشرط؛ لأنه لا يجوز أن يتفرّقا قبل تمامه، ولهذا اشترط فيه قبض رأس المال في المجلس، فلم يثبت فيه خيار الشرط، كالصّرف.

[مسألةٌ: جواز السلم مؤجّلاً وحالاًّ]
ًّ] : يجوز السلم مؤجّلاً؛ للآية والخبر. ويجوز السلم حالاًّ عندنا.
وقال مالكٌ، والأوزاعيُّ، وأبو حنيفة: (لا يصح السلم في الحال، والأجل شرط في صحته) . واختلفوا في أقل الأجل:
فقال مالك: (أقلُّه ما له موقعٌ، كالشهر، وما زاد) .
وقال الأوزاعي: (أقلُّه ثلاثة أيام) . واختلف أصحاب أبي حنيفة: فمنهم من قال: أقلُّه ساعةٌ. ومنهم من قال: أقلُّه ثلاثة أيّامٍ.

(5/396)


دليلنا: أنه نوع معاوضة محضة، فصح معجلاً، كالبيع. وفيه احترازٌ من الكتابة؛ لأنه ليس المقصود منها العوض، وإنَّما المقصود منها تكميل أحكام العبد بالحرية.
ولأن السلم إذا صح مع ذكر الأجل ـ وهو نوعٌ من الغرر؛ لأنه ربما ينقطع المسلم فيه، وربما لا ينقطع، وربما أمكن التسليم، وربما لم يمكن ـ فلأن يصح مع فقده أولى. ولا تدخل عليه الكتابة؛ لأن الغرر فيها في فقد الأجل؛ لأنه يحل العوض فيها عقيب العقد، ولا يقدر على تسليمه؛ لأن ما بيده لمولاه، فيكون فيه غرر، فإذا كاتبه إلى نجمين.. يجوز أن يملك إلى حين المحل ما يؤدِّي، فانتفى عنه الغرر بذكر الأجل.

[فرعٌ: جواز السلم في المعدوم والموجود]
] : ويجوز السلم في المعدوم إذا كان مأمون الانقطاع عند المحل وإن كان منقطعًا حال العقد أو ما بعده، إلا أن يكون المسلم حالاًّ.. فيعتبر وجوده حال العقد. هذا مذهبُنا، وبه قال مالكٌ، وأبو يوسف، وأحمد، وإسحاق.
وقال الأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه: (من شرط السلم، أن يكون المسلم فيه موجودًا من حين العقد إلى حين المحل) .
دليلنا: ما روى ابن عبّاس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم المدينة، وهم يسلفون في التمر السنة والسنتين والثلاث، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من أسلف.. فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم» . ولا محالة أنه يكون منقطعًا في بعض الأوقات، ولأنه وقتٌ لم يكن محلاًّ للسلم عقدًا، فلم يكن وجوده فيه شرطًا، كما قبل العقد.
فقولنا: (عقدًا) احترازٌ من المسلم إليه إذا مات.. فإنه يكون وقتًا لمحل السلم، لكن بغير العقد.

(5/397)


ويجوز السلم في الموجود؛ لأنه إذا جاز السلم في المعدوم.. فلأن يجوز في الموجود أولى.

[مسألةٌ: السلم في العروض والنقد]
] : ويجوز أن يسلم في الثياب وغيرها من العروض، وفي الدراهم والدنانير على المشهور من المذهب.
وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\257] وجهًا آخر: أنه لا يصح. وليس بشيء؛ لأنه مالٌ يجوز بيعه، ويضبط بالصفة، فجاز السلم فيه، كالثمار.
فأمَّا إسلام الدراهم بالدراهم أو بالدنانير: فإن كان مؤجّلاً.. لم يجز؛ لأن الأجل لا يدخل في بيع أحدهما بالآخر. وإن كان حالاًّ.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال القاضي أبو الطيب: يصح، ويشترط قبضهما في المجلس؛ لأن السلم أحد نوعي البيع، فانعقد به الصرف، كلفظة البيع.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: لا يصح؛ لأن لفظ السلم يقتضي تقديم أحد العوضين، واستحقاق قبضه دون الآخر، والصرف يقتضي تسليم العوضين في المجلس، فتضادَّت أحكامهما، فلم يصح.

[فرعٌ: ما يجوز فيه السلم]
] : كلُّ حيوان جاز بيعه، وضبطه بالصفة، كالرقيق والأنعام والخيل والبغال والحمير.. جاز السلم عليه، وبه قال من الصحابة: عليٌّ، وابن عمر، وابن عبّاس، ومن التابعين: سعيد بن المسيِّب، والحسن البصريُّ، والنَّخعيُّ، ومن الفقهاء: مالك وأحمد.
وذهبت طائفة إلى: أنه لا يجوز السلم في الحيوان بحالٍ. وذهب إليه من الصحابة: ابن مسعود، ومن الفقهاء: الأوزاعيّ، وأبو حنيفة، وأصحابه.
دليلنا: ما روى عبد الله بن عمرو قال: «أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أجهز جيشًا،

(5/398)


وليس عندنا ظهرٌ، فأمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أبتاع البعير بالبعيرين والأبعرة، إلى خروج المصدِّق» . وهذه صفة السلم في الحيوان.
قال الشافعي: (ولأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض في الديات الإبل، فلولا أنّها تثبت في الذمة.. لم يفرضها فيها) .
ولأن الحيوان يضبط بالصفة، بدليل ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تصف المرأةُ المرأةَ لزوجها؛ كأنه ينظر إليها» . فجعل الصفة بمنزلة الرؤية في حصول العلم بها، وإذا كان الحيوان يمكن ضبطه بالصفات.. جاز السلم فيه، كغيره من الأموال.
ويجوز السلم في الزيت والحنطة؛ لما روى عبد الله بن أبي أوفى قال: «كنّا نسلف ـ ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فينا ـ في الزبيب، والزيت، والحنطة» .

(5/399)


ويجوز السلم في كل مال يجوز بيعه، ويضبط بالصفة، كالثياب والأخشاب والأحجار والحديد والرّصاص والصُّفر وغير ذلك؛ لأنه مالٌ يجوز بيعه، ويضبط بالصفة، فجاز السلم فيه، كالحنطة والتمر والزيت.

[مسألةٌ: السلم في النبال والنشاب]
] : قال الشافعيُّ في " المختصر ": (لا يجوز السلم في النبل) .
وقال في " الأم " [3/110] : (يجوز السلم في النُّشّاب) .
قال الشيخ أبو حامد: والنَّبل على ثلاثة أضرب.
أحدُها: أن يكون قد نحت ورُيِّش ونُصِّل، فهذا لا يجوز السلم فيه؛ لأنه لا يقدر على ضبطه بصفة؛ لأنه دقيق الطرفين غليظ الوسط، وذلك لا يضبط، ولأن فيه خشبًا وحديدًا وعقبا وريشا وغرا وذلك لا يمكن ضبط كل واحد منها، ولأن ريش النسر نجس.
الضرب الثاني: ما نحت وفوِّق لا غير، فهذا لا يجوز السلم فيه أيضًا؛ لأنه لا يضبط بالصفة؛ لما ذكرناه.

(5/400)


والضرب الثالث: ما شق خشبه، ولم ينحت، فهذا يجوز السلم فيه؛ لأنه يمكن ضبطه، وهذا الذي أراده الشافعي بما ذكره في " الأم ".
قال ابن الصبّاغ: ويجوز السلم فيها وزنًا.
وقال أبو علي في " الإفصاح ": إن أمكن أن يقدر عرضها وطولها.. جاز السلم فيها عددًا.

[فرعٌ: السلم في الجواهر والجلود والورق وغيرها]
] : ولا يجوز السلم في شيء من الجواهر: من لؤلؤ، وزبرجد، وياقوت، وعقيق، وفيروزج؛ لأن كبر أجسامها ووزنها وصفاتها مقصودٌ، وأثمانها تختلف لذلك. وذلك لا يضبط بالصفة. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\256] : إن أريدت للزينة. لم يجز السلم فيها؛ لما ذكرناه. وإن أريدت للسحق والدواء.. جاز السلم فيها.
وأمّا الجلود والرق: فنقل البغداديون من أصحابنا: أنه لا يجوز السلم فيها؛ لأنه لا يمكن ضبط صفتها، لأن جلد الوركين ثخين قوي، وجلد الصدر ثخين رخو، وجلد الظهر رقيق ضعيف، ولأنه لا يمكن ذرعه؛ لاختلاف أطرافه، ولأنه لا يمكن ضبط ذلك بالوزن؛ لأن الجلدين قد يتفقان في الوزن، ويختلفان في القيمة؛ لسعة أحدهما بالخفة، وضيق الآخر بالثقل.
وكذلك: لا يجوز السلم في النِّعال والخفاف والشمشك؛ لما ذكرناه في الجلد، ولأن في الخفاف والشِّمشك أخلاطًا، وذلك لا يضبط.
ونقل المسعودي [في " الإبانة " ق\255] : أن السلم يجوز في الجلود إذا ذكر

(5/401)


الجنس، والطول، والعرض. وقال [في " الإبانة " ق\256] : وكذلك يجوز السلم في الخف والنعل، إذا كانت طاقاته معلومة.
وحكى الصيمري: أن أبا العبّاس ابن سريج أجاز السلم في الخفاف والنعال. وبه قال أبو حنيفة.
ويجوز السلم في الورق؛ لأنه يمكن ضبط وصفه.
قال الصيمري: والوزن فيه أحوط. ولا يجوز السلم في الظهور والكتب المقروءة، إلاَّ أن تضبط. هكذا ذكر الصيمري.

[فرعٌ: السلم في العقار والأرض والأشجار]
] : ولا يجوز السلم في الدُّور، والأرض، والأشجار؛ لأنه لا بد من ذكر البقعة فيه، والثمن مختلف باختلاف البقاع، وإذا ذكرت البقعة.. كانت معينة، والسلم في المعين لا يجوز.

[مسألةٌ: السلم فيما عملت به النار]
] : ولا يجوز السلم فيها علمت فيه النار، كالخبز والشوى؛ لأن عمل النار فيها يختلف. فأما اللِّبَأُ: فإن طبخ بالشمس.. جاز فيه السلم. وإن طبخ في النار.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال الشيخ أبو حامد: لا يجوز؛ لأن عمل النَّار فيه يختلف.
و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: يصح؛ لأن ناره ليِّنة.
قال ابن الصباغ: والأول أقيس. وكل موضع صح السلم فيه.. فإنه يصفه بصفات اللبن على ما يأتي ذكره. ويذكر لونه؛ لأن لونه يختلف، ولا يحتاج إلى ذكر اللون في اللبن؛ لأنه لا يختلف. ولا يصح السلم في اللِّبأ إلا وزنًا؛ لأنه لا يمكن كيله.

(5/402)


[مسألةٌ: السلم في أخلاط]
] : ولا يجوز السلم فيما يجمع أجناسًا مقصودةً لا تتميَّز، كالغالية، والند، والعود المُطَرّى، والهريسة، والقوس العجميّ؛ لأن فيه الخشب والعظم والعصب. ولا يجوز السلم في جميع ذلك؛ لأنه لا يقدر على صفة كل خلط منها، وهو مقصود.
ولا يجوز السلم فيما خلط فيه ما ليس بمقصود، ولا مصحلة له فيه، كاللبن المخيض: الذي طرح فيه الماء، والحنطة التي فيها الزؤان؛ لأنَّ ذلك يمنع من ضبط صفة المقصود.
ويجوز السلم في الجبن وفيه الإنفحة، ويجوز السلم في السمك وفيه الملح؛ لأن المقصود هو الجبن والسمك، وإنما تطرح فيه الإنفحة والملح لمصلحته. وهل يجوز السلم في خل التمر والزبيب؟ فيه وجهان:

(5/403)


[الأول] : قال الصيمري في " الإيضاح ": لا يجوز؛ لأن فيه الماء، فهو كالمخيض.
و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: يجوز؛ لأن الماء هو عماده، وبه يكون خلاًّ بخلاف المخيض، فإنه لا مصلحة له في الماء، فيصير اللَّبن به مجهولاً.
وأمَّا السلم على خل العنب: فيجوز؛ لأنه لا يخالطه غيره، ويمكن وصفه.
ويجوز السلم في الأدهان المطيَّبة؛ لأن الطيب لا يختلط بها، وإنما تعبق به رائحته.

[فرعٌ: السلم في الثوب المصبوغ]
] : وإن أسلم في ثوب صبغ غزله، ثم نسج.. صحّ. وإن كان في ثوب نسج، ثم صبغ.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال الشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق: لا يجوز؛ لأنه سلم في ثوب وصبغ مجهول.
و [الثاني] : قال صاحب " الحاوي ": يجوز، كما يجوز فيما صبغ غزله، ثم نسج. قال الشاشيُ: وهذا أصح.
قال الشيخ أبو حامد: إذا قال: أسلمت إليك في ثوب مصبوغ.. لم يجز؛ لأن السلم في الصبغ لا يجوز. وإن قال: أسلمت إليك في ثوب مقصور.. جاز؛ لأن القصارة صفة للثوب، والصبغ عين. ولو قال: أسلمت إليك في ثوب على أن تقصره.. لم يجز؛ لأنه سلم في ثوب وصبغة، والصبغة مجهولة.
قال الشيخ أبو حامد: وإن أسلم في ثوب نسج، ثمّ نقش بالإبرة بعد النسج.. جاز

(5/404)


السلم. وكذلك: يجوز السلم فيما كان لحمته إبريسما وسُداه قطنًا؛ لأن المختلط وإن كان مقصودًا، إلا أنه متميز.
وذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": لا يجوز السلم فيما عمل فيه من غير غزله، كالقرقوبي؛ لأن ذلك لا يضبط. ولعله أراد المقرقب بالإبرة، فإن كان هذا مراده.. حصل فيها وجهان. قال: واختلف أصحابنا في السلم في الثوب المعمول من غزلين:
فمنهم من قال: لا يجوز؛ لأنهما جنسان مقصودان لا يتميز أحدهما من الآخر، فأشبه الغالية.
ومنهم من قال: يجوز؛ لأنهما جنسان يعرف قدر كلِّ واحدٍ منهما.

[فرعٌ: السلم في الرؤوس المأكولة]
] : وهل يجوز السلم في رؤوس ما يؤكل لحمه، غير المشوية والمطبوخة؟ فيه قولان:
أحدهما: يجوز، وبه قال مالك؛ لأن السلم يجوز في اللحم، وهو عظم ولحم، فكذلك في الرؤوس؛ لأنها لحمٌ وعظمٌ.
والثاني: لا يجوز، وبه قال أبو حنيفة، وهو الصحيح؛ لأنه لا يجوز السلم إلا فيما كان جميعه مقصودًا، كالسمن والعسل وغيرهما، أو فيما كان أكثره مقصودًا، كالتمر والبطِّيخ والرُّمان. وأمّا الرؤوس: فليست كلُّها مقصودة، ولا أكثرها مقصودًا؛ لأن أكثره العظم، وهو غير مقصود، فلم يصحّ السلم فيه.
وأمّا الأكارع: فقد ذكر القاضي أبو الطيب: أنه لا يجوز السلم فيها.
قال ابن الصبَّاغ: وعندي أنها على قولين، كالرؤوس.

(5/405)


فإذا قلنا: يجوز السلم فيها.. فلا يجوز عددًا ولا كيلاً؛ لأن ذلك يختلف، وإنما يجوز السلم فيها وزنًا.

[مسألةٌ: السَّلَم في الطير والجراد]
] : وهل يجوز السلم في الطير؟
قال الشيخ أبو إسحاق: لا يجوز؛ لأنه لا يضبط بالسن، ولا يعرف قدره بالذرع.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\255] : يجوز إذا ضبطها بالوصف.
وأمّا السَّلَم على الجراد: فذكر الصيمري: أنه يجوز السلم فيه حيًّا وميِّتًا، ولا يجوز السلم فيه مشويًّا ولا مطبوخًا.
قلت: وهذا محمول على أنه أراد في الزمان الذي يوجد فيه غالبًا.

[فرعٌ: السلم في الجارية وولدها]
] : ولا يجوز أن يُسْلِمَ في جارية وولدها؛ لأنه لا بد من وصفها، ووصف ولدها، ويتعذر وجود جارية لها ولد على ما وصفهما.
قال الشافعي: (وإذا أسلف في جارية وولد، ولم يقل ولدها.. جاز) ؛ لأنه أسلم في كبير وصغير.
ولو شرط في العبد: أنه خبّاز، وفي الجارية: أنّها ماشطة.. جاز، وكان له أدنى ما يقع عليه الاسم.
وإن أسلم في جارية عوّادة أو مغنية.. لم يجُز؛ لأنه أسلم فيما لا يجوز أن يعقد عليه. وإن أسلم في جارية يهودية أو نصرانية.. قال الصيمري: صح السلم.
والفرق بينهما: أن ذلك تقر عليه. ولو عقد عليها بعينها، وشرطا: أنّها كذلك.. جاز العقد دون السلم؛ لأنه صفة في الذمة.

(5/406)


ولو أسلم في عبد سارق، أو زان، أو قاذف.. قال الصيمري: فالصحيح جوازه، بخلاف المغنية؛ لأن تلك صناعة محظورة، وهذه أمور تحدث، فأشبهت العمى.
وإن أسلم في جارية حامل.. ففيه طريقان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: لا يصح، قولاً واحدًا؛ لأن الولد مجهول غير متحقق، فلم يجز السلم عليه.
و [الطريق الثاني] : منهم من قال: فيه قولان:
[أحدهما] : إن قلنا: إن الحمل لا حكم له.. لم يجز السلم فيها.
و [الثاني] : إن قلنا: للحمل حكم.. جاز السلم فيها. وهذه طريقة الشيخ أبي حامد.
قال ابن الصّباغ: والأول أصح.

[فرعٌ: السلم في الترياق والراوند]
] : قال الشافعي: (ولا خير في شراء شيء خالطه لحوم الحيَّات من الترياق) .
وجملة ذلك: أن لحوم الحيّات نجسة، والترياق يخالطه لحوم الأفاعي، فلا يجوز بيعه. ويخالطه أيضًا لبن الأتان، وهو نجس على المنصوص، فلم يجز السلم فيه لذلك، ولأنه أخلاط.
فأمَّا السُّم: فإن كان من لحوم الحيات.. فهو نجس، ولا يجوز بيعه. وإن كان من نبات الأرض، فإن كان يقتل قليله وكثيره.. لم يجز بيعه؛ لأنه لا منفعة فيه.
وإن كان يقتل كثيره، ويتداوى بيسيره.. جاز بيعه، والسَّلم فيه.

(5/407)


وقال القاضي أبو الطيب: يجوز بيع قليله، ولا يجوز بيع كثيره.
قال ابن الصبّاغ: وهذا ليس بصحيح؛ لأنه إذا جاز بيع قليله.. جاز بيع جنسه؛ لأن فيه منفعة في الجملة.
ويجوز بيع الراوند والسلم فيه؛ لأن فيه منفعة، وهو أنه يستعمل في الأدوية وإن كان يستعمل في النبيذ، وهذا هو الصحيح.
وقال أبو سعيد الإصطخري: لا يجوز بيعه. وهذا ليس بشيء.

[مسألةٌ: السلم فيما يوجد ويؤمن انقطاعه عند المحل]
] : لا يجوز السلم إلاَّ في شيء عامّ الوجود، مأمون الانقطاع وقت المحل. فإن أسلم في الصيد في بلد لا يجود فيها الصيد إلاَّ نادرًا، أو في بلد يكثر فيها الصيد، إلاَّ أنه جعل المحل فيه وقتًا لا يوجد فيه غالبًا، أو أسلم في الرُّطب وجعل محل السلم زمانًا يكون فيه أول الرطب أو آخره، فيوجد فيه نادرًا.. لم يصحّ السلم؛ لأن ذلك غرر فلم يصح.
وكذلك: إذا أسلم في ثمرة نخلة بعينها، أو حائط بعينه.. لم يصح السلم؛ لما رُوي: «أن يهوديًّا قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل لك يا محمد، أن تبيعني تمرًا معلومًا إلى أجل معلوم من حائط بني فلان؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا يا يهودي، ولكن أبيعك تمرًا معلومًا إلى كذا وكذا من الأجل» .

(5/408)


[مسألةٌ: شرط المسلم فيه]
] : وإذا أسلم في شيء.. فمن شرطه أن يكون المسلم فيه موصوفًا معلومًا بالصفة؛ لحديث ابن عبّاس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم» . فذكر الكيل، والوزن، والأجل؛ لينبه بذلك على غيره من الصفات، ولأنه إذا لم يكن معلومًا بالصفة.. أدَّى إلى الجهل بما يطالب به.
قال الشافعي: (ويكون معلومًا عند غيرهما، حتى لو تنازعا فيه.. أمكن الرجوع إلى الشاهدين) .
قال القفال: إنما قال ذلك على سبيل الاحتياط، فإن أسلم في مكيل.. ذكر مكيالاً معتادًا عند العامة. وإن كان في موزون.. ذكر ميزانًا معتادًا عند الناس.
قال الشيخ أبو حامد: يعني صنجة معتادة، حتى لا يخاف انقطاع ذلك. وإن كان أسلم في مذروع ذكر ذراعًا معتادًا عند الناس.
قال الصيمري: يكون الذراع من الحديد أو الخشب، لا ذراع اليد؛ لأن ذلك يختلف.
فإن علّق ذلك على مكيال بعينه، لم يعرفا له عيارًا، أو رطلاً بعينه، لم يعرفا عياره.. لم يصح السلم؛ لأنه لا يؤمن أن يتلف ذلك المعيَّن قبل المحل.
قال الشافعي: (ولو قال: أسلمت إليك في مثل هذا الثوب.. لم يصح السلم؛ لأنه ربّما لا يبقى ذلك الثوب إلى المحل) . وقال في (الصداق) : (ولو أصدقها ملء

(5/409)


هذه الجرة خلاًّ.. لم يصح؛ لأنها ربما انكسرت قبل حصول الخل) .
وإن أسلم فيما يكال بالوزن.. جاز؛ لأنه أحصر. وإن أسلم فيما يوزن بالكيل، وهو مما يمكن كيله.. جاز؛ لأنه يصير به معلومًا، بخلاف البيع في الربا.

[فرعٌ: السلم في الفاكهة]
] : ويجوز السلم في البطيخ والقثاء والخيار والرُّمان والسفرجل والكمثرى والخوخ والبيض وزنًا، ولا يجوز عددًا، ولا كيلاً؛ لأن ذلك يختلف. وأمّا التين: فيجوز السلم فيه كيلاً ووزنًا؛ لأن ذلك يمكن فيه. وأمّا الجوز واللَّوز: فلا يجوز السلم فيها عددًا، ولكن يجوز وزنًا، وهل يجوز كيلا؟ فيه وجهان:
[الأول] : قال أبو إسحاق: يجوز كيلا؛ لأنه يمكن كيله.
و [الثاني]ـ وهو المنصوص ـ: (أنه لا يجوز؛ لأنه يتجافى في المكيال) .
وقال أبو حنيفة: (يجوز السلم في البيض والجوز واللوز عددًا؛ لأن التفاوت بين ذلك بالعدد فيه قليلٌ) . وهذا لا يصح؛ لأن ذلك يختلف ويتباين ويتفاوت، فلم يصح السلم فيه بالعدد، كالرُّمان والبطيخ.
ويجوز السلم في البقول، كالكرَّاث والبصل والنَّعناع والهندباء، ولا يجوز السلم فيه حزمًا؛ لأن ذلك يختلف. ولا يصح السلم فيها إلا وزنًا.
قال الشافعي في " الأم " [3/113] : (ويجوز السلم في قصب السكر، إذا ضبط بما يعرف به، ولا يقبل أعلاه الذي لا حلاوة فيه، ويقطع مجامع عروقه من أسفله، ويطرح ما عليه من القشور، ولا يجوز السلم فيه إلا وزنًا؛ لأنه لا يمكن غيره.
وكذلك يجوز السلم على القصب، والقصيل وكلِّ ما تنبت الأرض، ولا يجوز السلم فيه إلاَّ وزنًا) .

(5/410)


[مسألةٌ: السلم في التمر]
] : وإذا أسلم في التمر.. فلا بد من ذكر سبعة أشياء:
الجنس: وهو قوله: تمر. والنوع: وهو أن يقول: برنيٌّ، أو معقليٌّ، أو صيحانيٌّ. واللون: وهو أن يقول: أحمر، أو أسود؛ لأن النوع الواحد قد يختلف لونه. ويذكر دقاق الحب، أو كبار الحب. ويذكر البلد؛ لأن ما يشرب من الماء العذب يكون أعذب مما يشرب من المالح. جيدٌ، أو رديءٌ. حديثٌ، أو عتيقٌ، وإن قال: عتيق عام أو عامين.. كان آكد.
وقال أصحاب أبي حنيفة: يذكر الجنس، والنَّوع، والجودة لا غير.
دليلنا: أنه يختلف باختلاف ما ذكرناه، فلم يكن بدٌّ من ذكره، كالجنس والنَّوع.
وإن أسلم في الرطب.. ذكر جميع صفات التمر، إلاَّ العتيق، فإن الرُّطب لا يكون عتيقًا.

[فرعٌ: السلم في البُرِّ]
وإن أسلم في الحنطة.. وصفها بستة أوصاف:
الجنس، فيقول: حنطة. والنوع، وذلك بذكر البلد. واللون، فيقول: سمراء، أو بيضاء. صغار الحب، أو كباره. جيِّدٌ، أو رديءٌ. حديثٌ، أو عتيقٌ.
قال الشافعي [في " الأم " 3/91] : (ويصفه بالدقة، والحدارة) .
و (الدقة) : أن يكون الحب دقيقًا، فيكن دقيقه قليلا، ولكن خبزه أكثر؛ لأنه يشرب الماء.
و (الحدارة) : امتلاء الحب؛ لأن دقيقه أكثر، وخبزه أقل.
قال ابن الصبّاغ: وأمّا العلس: فلا يصح السلم فيها؛ لاختلاف الأكمام،

(5/411)


وتغيب الحب. وكذلك لا يجوز السلم في الأرز؛ لما ذكرناه في العلس.
وأمّا السلم على الدقيق: فالمنصوص: (أنه يجوز) ؛ لأنه يصفه بالنعومة، والخشونة.
وقال أبو القاسم الداركي: لا يجوز؛ لأنه لا يمكن ضبط صفته. وليس بشيء.
قال الشافعي: (فإن أسلم في طعام على أن يطحنه.. لم يجز) ؛ لأنه سلم في طعام وصنعةٍ. وإن شرط على أن يعطيه عن الطعام دقيقًا مثل مكيله.. لم يصح؛ لأنه شرط أن يعطيه أقل من حقه؛ لأن مكيله حنطة أكثر من مكيله دقيقًا.

[فرعٌ: السلم في الذرة]
وإن أسلم في الذرة.. فإنّها توصف بستة أوصاف:
فيذكر الجنس، وهو أن يقول: ذرة. والنوع، فيقول: شريحيٌّ، أو أبيض، أو حدارٍ. والبلد الذي زرعت فيه؛ لأن ذلك يختلف. ويصف الحبّ، فيقول: كبار الحب، أو صغار، جيّد، أو رديء، حديث، أو عتيق. وأمّا اللون: فيحتمل أن لا يفتقر إليه؛ لأن ذكر النوع يشتمل عليه.
وإن أسلم إليه في أجود الطعام.. لم يجز؛ لأنّا لا يمكننا أن نجبر المسلم على قبوله؛ لأنه ما من طعام يأتي به المسلم إليه، ويقول: هذا الذي أسلمت إليك فيه، إلا ويقول المسلم: أسلمت في أجود منه، فلم يصح السلم فيه؛ لذلك.
وإن أسلم إليه في أردأ الطعام.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يصح، كما لا يصح في الأجود.
والثاني: يصح، وهو الصحيح؛ لأنه أي طعام أتى به المسلم إليه.. فإن المسلم يجبر على قبوله؛ لأنه وإن كان غيره أردأ منه، إلاَّ أنَّ المسلم إليه قد تطوع بزيادة لا تتميز، فلزمه قبوله.

(5/412)


[فرعٌ: السلم في العسل]
] : وإن أسلم في العسل.. قال: عسل من رعي كذا؛ لأن النحل يقع على الكمّون والصعتر فيكون دواء، وقد يقع على أنوار الفاكهة، قال الشيخ أبو حامد: فيكون داءً. ويذكر اللون، فيقول: أبيض، أو أحمر، أو أصفر. ويذكر الوقت، فيقول: خريفي، أو ربيعي، أو صيفي؛ لأنه يختلف باختلاف الأوقات. ويقول: جيِّدٌ، أو رديءٌ.
قال الشافعي: (فإن قال: عسل مصفّى.. كان أَولى. وإن لم يذكر ذلك.. جاز) ؛ لأن العسل اسم للمصفى.
فإن جاءه بعسل مصفًّى من الشمع بالشمس، أو بنار ليِّنة تجري مجرى الشمس.. لزم المسلم قبوله، وإن صُفِّي بنار شديدة.. لم يجبر المسلم على قبوله؛ لأن هذا نقص فيه.
وإن أتى به رقيقًا، فإن كانت رقَّته لشدة الحر، أو تأثير الهواء.. أُجبر المسلم على قبوله. وإن كانت رقته أصلية.. لم يجبر على قبوله؛ لأن هذا عيب فيه.

[فرعٌ: السلم في الشمع]
] : قال الصيمري: ويجوز السلم في الشمع مصبوبًا، وغير مصبوب.

[مسألة: السلم في القن]
] : قال الشافعي: (وإن كان ما أسلم فيه رقيقًا.. قال: عبدٌ نوبيٌّ خماسيٌّ، أو سداسيٌّ، أو محتلمٌ) . وهذا كما قال: إذا أسلم في الرقيق.. احتاج إلى ستة أوصاف:

(5/413)


النوع، فيقول: حبشيٌّ، أو زنجيٌّ، أو روميٌّ، أو تركيٌّ.
واللون إن كان يختلف لون النوع، كالأبيض، والأصفر، والأسود.
وإن كان النوع الواحد يختلف.. فهل يحتاج إلى ذكر الأنواع منه؟ فيه قولان، ذكرهما الشافعي في (الإبل) .
ويذكر أنه ذكر أو أنثى.
ويذكر السن، فيقول: بالغ، أو غير بالغ، ابن ثمان سنين، أو عشر. ويرجع في بلوغه إليه.
وأمّا السن: فإن كان مولَّدًا.. رجع إلى من ربّاه. وإن كان جلبيًّا.. رجع إلى أهل الخبرة من النَّخَّاسين.
ويذكر القامة، فيقول: خماسيٌّ، أو سداسيٌّ. فـ (الخماسيُّ) : ما كان طوله خمسة أشبار، و (السداسيُّ) : ما كان طوله ستة أشبار، وهو دون قامة الرجل، فإن قامة الرجل سبعة أشبار.
ويقول: جيد، أو رديء. فإن كان عبدًا.. فالمستحب: أن يجليه، فيقول: أزج الحاجبين، أدعج العينين، وما أشبه ذلك، ولا يجب ذلك. وإن كانت جارية.. فهل يجب أن يذكر أنها ثيب، أو بكر؟ فيه وجهان:
[الأول] : قال الشيخ أبو حامد: لا يجب ذلك، ولم يذكرها الشافعي، وإنّما يستحب؛ لأن الثمن لا يختلف بذلك اختلافًا متباينًا.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو إسحاق في " المهذب "، والصيمري: يجب؛ لأن الثمن يختلف بذلك. والمستحب: أن يصفها بأنها جعدة أوسبطة، ولا يجب ذلك؛ لأن الثمن لا يختلف باختلافه اختلافًا متباينًا.
قيل للشيخ أبي حامد: فإذا كان بيع الجارية لا يصح حتى يشاهد شعرها.. فهلاَّ

(5/414)


كان وصفه في السلم شرطًا؟ فقال: ليس كل ما تشترط رؤيته في بيع العين يشترط وصفه في بيع السلم. وإن قال: عبد أعور، أو أعمى، أو مقطوع اليد.. جاز.
قال الصيمري: وإن أسلم في جارية ذات زوج، أو عبدٍ ذي زوجة.. جاز؛ لأن ذلك يوجد غالبًا.
وإن أسلم جاريةً صغيرةً في جاريةٍ كبيرةٍ.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: لا يجوز؛ لأن الصغيرة ربّما كانت كبيرة في المحل، فيأتي بها، فيجبر على قبولها، فيكون قد أخذ جارية ووطئها، ثم ردّها فيصير في معنى من استقرض جارية.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: يجوز؛ لأنه حيوان يجوز السلم فيه، فجاز إسلام بعضه ببعض، كالإبل.
وما قاله الأول.. لا يصح؛ لأنه قد يشتري جارية، فيطؤها، ثم يجد بها عيبًا، فيردُّها، ولا يجري مجرى الاستقراض.
فإذا قلنا بهذا: فجاء بالصغيرة وقد كبرت، وصارت بصفة المسلم فيها.. فهل يجبر المسلم على قبولها؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجبر؛ لأنه يؤدي إلى أن يكون الثمن والمثمن واحدًا، وهذا لا يجوز.
والثاني: يجبر؛ لأن الثمن هو الذي يسلّم إليه، والمثمن هو الموصوف في الذمة، وهذه المدفوعة تقع عمَّا في الذمة.

[فرعٌ: السلم في الإبل والخيل والغنم]
] : وإن أسلم في الإبل.. احتاج إلى خمسة شرائط:
النوع، فيقول: من نتاج بني فلان. والسن، فيقول: بنت مخاض، أو بنت لبون، أو حقة. ذكر، أو أنثى. جيِّدٌ، أو رديء. أحمر، أو أصفر، أو أبيض، أو أسود.

(5/415)


فإن كان نتاج بني فلان يختلف.. فهل يحتاج إلى ذكر ذلك؟ فيه قولان: أحدهما: لا يحتاج إلى ذلك؛ لأن النِّتاج الواحد يتقارب ولا يختلف.
والثاني ـ قاله ابن الصَّباغ، وهو الأقيس ـ: أنه لا بد من ذكره؛ لأن الأنواع مقصودةٌ، وهي: المهرية، والأرحبية، والمجيدية، فوجب ذكرها.
إذا ثبت هذا: فإن الشافعي قال: (يقول: غير مودن، نقيٌّ من العيوب، سبط الخلق، مجفر الجنبين) .
فـ (المودن) : الناقص الخلق. وقوله: (سبط الخلق) يعني: مديده. (مجفر الجنبين) يعني: ممتلئ الجوف، منتفخ الخواصر.
ولا يختلف أصحابنا: أن ذلك تأكيد، وقد قال في " الأم " 3/84] : (وأحب إلي أن يقول: نقيٌّ من العيوب. وإن لم يقله.. لم يكن عيبًا) . وهذا يدل على ما قلناه.
وإن أسلم في الخيل.. ذكر فيها صفات الإبل، فإن ذكر شيته كالبلقة، والتحجيل، والغرة.. جاز. وإن لم يذكر ذلك.. جاز، وكان له البهيم، وهو لونٌ واحدٌ؛ لأنه إذا قال: أدهم أو أشقر أو أبيض.. اقتضى ذلك لونًا واحدًا.
وأمّا البغال والحمير: فلا نتاج لها، فيصفها وينسبها إلى بلادها، ويذكر اللون، والسن، والذكورية، والأنوثية، والجودة، والرَّداءة.
وأمَّا الغنم: فيذكر في السلم عليها: الجنس، فيقول: شاةٌ. والنوع، فيقول:

(5/416)


ضأنٌ، أو معزٌ من غنم بلد كذا. ويذكر السن. والذكر أو الأنثى. واللون. والجودة أو الرَّداءة.
فإن أسلم في شاة لبون.. ففيها قولان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه سلم في شاة، ولبن مجهول.
والثاني: يجوز، ويكون ذلك شرطًا يتميز به، ولا يكون سلمًا في لبن؛ لأنه لا يلزمه تسليمها وبها لبن، بل له أن يحلبها، ثم يسلمها.

[مسألة: السلم في الثياب والورق]
] : وإن أسلم في الثياب.. احتاج إلى ذكر الجنس، فيقول: كتّان، أو قطن. والنوع، فيقول: بغداديٌّ، أو رازيٌّ، أو بصريٌّ في الكتان. وإن كان قطنًا.. قال: هرويٌّ، أو مرويٌ. ويذكر الطول والعرض، والدقة والغلظ، والصَّفاقة أو الرقة؛ لأنه قد يكون غليظًا رقيقًا، وقد يكون غليظًا صفيقًا، فالصفاقة بخلاف الغلظ. ويذكر جيِّدًا، أو رديئًا. خشنًا، أو ناعمًا. وإن لم يذكر الجنس، وذكر النوع.. كان كافيًا.
وإن أسلم في ثوب، فذكر أنه مقصور، أو خام.. جاز. وإن أطلق.. سلَّم إليه ما شاء منهما. وإذا أسلم في الثوب، وضبطه بهذه الصفات، وشرط معها وزنًا معلومًا.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: لا يصحُّ؛ لأنه لا يكاد يتفق ثوبٌ على هذه الصفات المشروطة مع وزن معلوم. و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: يصح، وقد نص الشافعي على: (أنه إذا أسلم في آنية، وذكر لها وزنًا معلومًا.. صحّ) .

(5/417)


وإن أسلم في ثوب لبيس.. لم يصح؛ لأنه يختلف ولا ينضبط.
قال الصيمري: ويجوز السلم في القمص والسراويلات، إذا ضبطت بالطول، والعرض، والضيق، والسعة.
وإن أسلم في ورق.. وصفه بالنوع، فيقول: طلحيٌّ، أو زيديٌّ، أو نعمانيٌّ.
والطول والعرض، [فيقول] : دقيق، أو غليظ. صفيق، أو رقيق. جيّد، أو رديء. ويذكر اللون، فيقول: أبيض، أو أصفر، أو أحمر. وإن ذكر الوزن مع ذلك.. احتمل الوجهين في الثوب.

[فرعٌ: السلم في المعدن والأواني والعلوق]
وإن أسلم في النُّحاس والرصاص والحديد.. ذكر الجنس، فيقول: رصاص، أو نحاس. والنوع، فيضيف ذلك إلى البلد. ناعمٌ، أو خشنٌ. جيدٌ، أو رديءٌ. ويذكر اللون إن كان يختلف. وإن كان حديدًا.. ذكر مع ذلك ذكرًا أو أنثى؛ لأن الذكر منه أكثر ثمنًا؛ لأنه أحدُّ وأمضى.
وأمّا الأواني المتخذة منها: فإن استوى وسطه وطرفاه، كالسطل، والطست.. جاز بعد أن يذكر سعة معروفة من الطول والتدوير والعمق. وإن كان مما يختلف، كالأباريق، والقماقم، والمسارج.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: لا يجوز، كما لا يجوز السلم في النبل المعمول.
و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: يجوز؛ لأن الشافعي نص في " الأم " على صحة السلم على القمقم، ولأنه يمكن وصفه ولا يختلف اختلافًا متباينًا.

(5/418)


وإن اشترط وزنه.. كان أولى. وإن لم يشرط وزنه.. جاز. نصّ عليه الشافعي.
قال الصيمري: وإن أسلم في علوق الذهب والفضة.. قال: مصمت أو مجوف. فأما المحشوُّ منها: فلا يصح السلم فيها.

[مسألة: السلم في اللحم والشحم]
ويصح السلم على اللحم.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز) .
دليلنا: أنه يمكن ضبط صفاته، فجاز السلم عليه، كالثمار.
إذا ثبت هذا: فإنه يذكر في السلم عليه سبعة شرائط:
فيذكر الجنس، فيقول: هو لحم بقر، أو إبل، أو غنم.
والنوع، فإن كان من البقر.. قال: لحم بقر أهلي، أو جواميس، أو عراب، أو بقر الوحش. وإن كان من الغنم.. قال: ضأن، أو ماعز.
والسن، فيقول: صغير، أو كبير. فإن كان صغيرًا.. قال: فطيم، أو رضيع. وإن كان كبيرًا.. قال: جذع، أو ثنيُّ.
ويقول: ذكرٌ، أو أنثى، فإن كان ذكرًا.. قال: خصيّ أو فحل.
سمين، أو مهزول، ولا يقول: أعجف؛ لأن العجف عيب، وهو: أن يصيبه هزال من عيب، وذلك لا يعلم قدره.
ويقول: راع أو معلوف؛ لأن لحم الراعية أطيب.
ويذكر الموضع الذي يؤخذ منه، فيقول: من لحم الرقبة، أو الكتف، أو الجنب، أو الفخذ؛ لأن كل ما قرب من الماء.. كان أطيب، ولحم الفخذ أدون؛ لأنه أبعد من الماء.

(5/419)


فإذا ثبت هذا: فإن اللحم يسلمه إليه مع العظام؛ لأن اللحم يذكر مع العظام، فأشبه النوى في التمر، ولأن العظم يلتزق باللحم ويتصل به أكثر من اتّصال النوى بالتمر. فإن تطوع المسلم إليه، وأخرج العظم منه.. جاز.
وإن أسلم في الشحم.. ذكر فيه صفات اللحم، وذكر أنه من شحم البطن، أو غيره.
ويجوز السلم على الأليات بالوزن.

[فرعٌ: السلم على لحم الصيد بأنواعه]
وإن أسلم على لحم صيد في بلد يوجد فيه غالبًا.. ذكر النوع، فيقول: غزالٌ، أو ظبيٌ، أو وعلٌ. ذكرٌ، أو أنثى. ولا يقول: خصيٌّ، أو فحلٌ؛ لأن لا يكون إلاَّ فحلاً. والسنّ، فيقول: صغير، أو كبير، فإن كان صغيرًا.. قال: فطيم، أو رضيع؛ لأن لحم الرضيع أطيب وأرطب. ويذكر السمن، أو الهزال. جيّدًا، أو رديئًا. والموضع الذي يُعطى منه.
قال الشيخ أبو حامد: ويذكر الآلة التي يصطاد بها؛ لأنها إذا صيدت بالأحبولة.. كان لحمها أطيب من لحم ما صيد بالسهم. ويقال: إن ما صيد بالكلب أطيب ممّا صيد بالفهد؛ لأن فم الكلب مفتوحٌ أبدًا، فنكهته أطيب، وفا الفهد منطبق، فنكهته كريهة.
وقال ابن الصبَّاغ: إن كان اللحم يختلف بذلك اختلافًا متباينًا.. وجب ذكره. وإن كان اختلافًا يسيرًا.. لم يجب ذكره.
فأمّا لحم الطيور: فيذكر النوع، فيقول: حمامٌ، أو عصافير، أو قنابر. سمينٌ، أومهزول. جيِّدٌ، أو رديءٌ. ولا يمكن معرفة الذكر والأنثى منه، فإن

(5/420)


اختلف فيهما وأمكن معرفته.. وجب ذكره. ويذكر الصغير والكبير، ولا يذكر السن؛ لأنه لا يعرف. فإن كان الطير كبيرًا.. ذكر الموضع الذي يعطى منه، ولا يلزمه أن يقبل فيه الرأس والرِّجل؛ لأنهما عظمان، وإنما أسلم في اللحم.
وإن كان لحم سمك.. ذكر النوع، والصغر والكبر، والجودة أو الرداءة. وإن كان كبيرًا.. ذكر الموضع الذي يعطى منه، ولا يجوز أن يعطي في الوزن الذنب والرأس.

[فرعٌ: السلم في السمن واللبن]
] : وإذا أسلم في السمن.. فإنه يقول: سمن بقر، أو ضأن، أو معز.
قال الشافعي: (فإن كان بمكة.. قال: سمن ضأن نجدية أو تهامية؛ لأنهما يختلفان في الطعم واللون والثمن. ويذكر اللون، فيقول: أبيض أو أصفر. ويقول: جيد أو رديء) .
قال الشيخ أبو حامد: ويذكر ما ترعى الماشية.
وأمَّا الحديث أو العتيق: ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: لا يصح السلم على العتيق منها؛ لأنه معيب، ولا يُدرى قدر عيبه وتناهي نقصانه.
قال الشافعي: (لأنه يصلح للجراح، فإذا أسلم في السمن.. لم يلزمه أن يقبل إلا الحديث) .
و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: العتيق الذي تغيَّر لا يدخل فيه؛ لأنه معيب، وليس كل عتيق متغيِّرًا، فلا بد أن يقول: حديث أو عتيق إن كان يختلف.
ويسلم فيه وزنًا، ويجوز كيلا إذا لم يكن جامدًا يتجافى في المكيال.
ويجوز السلم في الزبد، ويصفه بصفات السمن، ويزيد فيه وصفا، فيقول: زبد يومه، أو أمسه؛ لأنه يختلف بذلك.
فإن جاءه بزبد فيه رقة.. نظرت:

(5/421)


فإن كان لشدة حر الزمان.. لزم المسلم قبوله. وإن كان لرقة في الأصل.. لم يلزمه قبوله؛ لأنه عيب فيه. ولا يجوز السلم فيه إلا وزنًا.
وإن أسلم في اللبن.. وصفه بالنوع، فيقول: لبن بقر أو ضأن أو معز، جيدٌ أو رديءٌ، ويذكر ما ترعى الماشية.
وقال ابن الصبّاغ: ويقول: معلوفة أو راعية، ولا يحتاج إلى ذكر الحليب؛ لأنه لا يصح السلم فيه إلا في الحليب، فأمّا الحامض منه.. فلا يصح السلم فيه؛ لأنه معيب.
قال الشافعي: (فإن أسلم في حليب يوم أو يومين.. جاز) .
قال ابنُ الصبَّاغ: ذكر ذلك تأكيدًا لا شرطًا.
وقال الشيخ أبو حامد: إن كان ببلدٍ يبقى اللبن حليبًا يومًا أو يومين.. جاز أن يسلم في حليب يومين.
قال الشافعي: (وأقل حدِّ الحليب: أن تقل حلاوته، وإذا قلت حلاوته.. خرج عن أن يكون حليبًا) .
قال الشيخ أبو حامد: ويجوز السلم فيه كيلا ووزنًا، فإن أسلم فيه كيلا.. لم يكله حتى تسكن رغوته؛ لأنها تؤثر في الكيل. وإن أسلم فيه وزنًا، فإن قال أهل الخبرة: إن كان لتلك الرغوة في الوزن أثر.. لم يوزن حتى تسكن. وإن قالوا: لا تأثير لها.. وزن كما هو.

[فرعٌ: السلم في الجبن]
] : ويجوز السلم في الجبن، ويصفه بصفات اللبن، ويذكر مع ذلك البلد؛ لأنه يختلف، ويذكر: أنه رطب، أو يابس. فإن أسلم في رطب، فإنه إذا أخرج، وترك

(5/422)


على موضع حتى نزل منه الماء، وبقي كالخاثر.. لزم المسلم قبوله. وإن أسلم في اليابس.. لزمه أن يقبل أدنى ما يتناوله اسم اليبس، وقد مضى ذكر اللِّبَأ.

[فرعٌ: السلم في الصوف والوبر]
ويجوز السلم في الصوف، فيذكر سبعة أوصاف:
فيقول: صوف غنم بلد كذا؛ لأنه يختلف باختلاف البُلدان. ويذكر اللون، فيقول: أبيض أو أسود أو أحمر. ويقول: طويل أو قصير؛ لأن الطويل خير من القصير. ويقول: جيد أو رديء. ويقول: صوف إناث أو ذكور؛ لأن صوف الإناث أنعم. ويذكر الزمان: خريفي أو ربيعي؛ لأن صوف الخريف أنظف؛ لأنه عقيب الصيف، وصوف الربيع رديء.
قال الشافعي: (ويقول: نقي خالص من الشوك والبعر، مغسول) .
قال أصحابنا: وهذا احتياط، فإن لم يذكر ذلك.. جاز؛ لأنه يجب دفعه كذلك.
قال الشافعي: (وكذلك الوبر والشعر، يجوز السلم فيهما، ويصفهما بصفات الصوف، ولا يجوز السلم في ذلك إلا وزنًا) .

[فرعٌ: السلم في القطن]
] : ويجوز السلم في (الكرسف) : وهو القطن، ويذكر فيه ستة أوصاف:
فيقول: قطن تهامة أو أبين. ويذكر اللون، فيقول: أبيض أو أسمر. ويقول:

(5/423)


ليِّنٌ أو خشنٌ. جيّد أو رديء. ويقول: طويل الشعر أو قصيره؛ لأن ذلك يختلف.
فإن شرط منزوع الحب.. جاز، ولزمه ذلك. وإن أطلق.. كان عليه أن يأخذه بحبه؛ لأن الحب فيه بمنزلة النوى في التمر.
فإن اختلف قديمه وحديثه.. ذكره. فإن أعطاه رطبا.. لم يلزمه قبوله؛ لأن الإطلاق يقتضي قطنًا جافًّا.
فإن أسلم في القطن في جوزه.. لم يصح؛ لأنه مستور بما لا مصلحة له فيه، ولأنه لا يجوز بيعه في جوزه، فلم يصح السلم عليه فيه، بخلاف الجوز واللوز؛ لأنه مستور بما له فيه مصلحة.
وإن أسلم في غزله.. لزمه وصفه بصفات القطن، إلا الطول والقصر، فلا يذكره. ويذكر فيه غليظ، أو دقيق.

[فرعٌ: السلم في الحرير]
] : وإن أسلم في الإبريسم.. ذكر نوعه، فيقول: إبريسم خوارزمي أو بغذاذي، أو غير ذلك من البلاد، ويذكر لونه فيقول: أبيض أو أصفر أو أحمر، جيد أو رديء. ويقول: طويل أو أقصير، دقيق أو غليظ.
وإن أسلم في القز، فإن كان فيه الدود.. لم يصح، حيًّا كان أو ميتًا؛ لأنه إن كان حيًّا.. فلا مصلحة في تركه فيه. وإن كان ميتا.. فلا يجوز بيعه. والقز وزنه مجهول. وإن كان قد خرج منه الدود.. جاز السلم فيه؛ لأنه يمكن وزنه.

[فرعٌ: السلم في الخشب]
] : وإن أراد أن يسلم على الخشب.. فالخشب على ثلاثة أضرب:

(5/424)


ضرب: يراد للبناء، فإذا أسلم فيه.. ذكر نوعه، فيقول: خشبه من ساج أو صنوبر أو غلب، ويذكر لونه أبيض أو أحمر أو أصفر أو أسود، رطب أو يابس، ويذكر طوله وعرضه، أو دوره وسمكه. ويقول: جيد أو رديء.
وإن ذكر مع ذلك الوزن.. جاز، وجهًا واحدًا، بخلاف الثوب؛ لأن النساج لا يمكنه أن ينسج ثوبا بصفات معلومة من غزل مقدر إلا نادرا، بخلاف الخشب، فإنه إذا أراد وزنه.. أمكن أخذ شيء منه. وإن لم يذكر الوزن.. جاز.
ولا يلزم المسلم أن يأخذ ما فيه عقد؛ لأن ذلك عيب. ويجب دفعه ذلك إليه من طرفه إلى طرفه بالعرض والسمك والدور الذي شرطه. وإن كان أحد طرفيه أدق.. لم يجبر على قبوله. وإن كان أحد طرفيه أغلظ.. قال ابن الصباغ: فقد زاده خيرًا.
الضرب الثاني ـ من الخشب ـ: ما يراد للقسي، فيذكر لونه ونوعه، ويقول: جيد أو رديء، رطب أو يابس، جبلي أو سهلي؛ لأنه يختلف؛ لأن الجبلي أقوى.
فإن كان للقِسيِّ العربية.. ذكر الطول والعرض. وإن كان للقسي العجمية.. لم يحتج إلى ذكر الطول والعرض؛ لأنه يكون قطعًا صغارًا، أو يكون موزونًا.
والضرب الثالث: ما يراد للوقود، فيذكر نوعه، ويقول: خوطٌ قرضٌ أو عسق صغارًا أو كبارًا أو وسطًا، رطبٌ أو يابسٌ، جيدٌ أو رديء. ولا يذكر اللون؛ لأن ليس بمقصود. ويذكر وزنه.

(5/425)


[فرعٌ: السلم في الأحجار والآجرِّ]
ِّ] : ويجوز السلم في الأحجار، وهي على ثلاثة أضرب:
ضرب: يراد للأرحية، فيصفها بالنوع، فيقول: من حجار بلد كذا وكذا، ويذكر اللون والدور والثخن، جيد أو رديء.
فإن شرط وزنه.. جاز. فإذا أراد وزنه، فإن أمكن وزنه بالقبان.. وزنه به. وإن لم يمكن وزنه بذلك.. وزنه بالسفينة، فيترك فيها، وينظر إلى أي حدٍّ تغوص في الماء، ثم توضع مكانه أحجار صغار أو رمل، حتى تغوص السفينة إلى ذلك الحد الذي غاصت فيه مع الحجر، ثم تخرج، ويزنها، فيعرف أن ذلك وزن ذلك الحجر.
والضرب الثاني ـ من الأحجار ـ: ما يراد للبناء، فيذكر نوعها بإضافتها إلى البلد، وطولها وعرضها ولونها، ويقول: جيد أو رديء، ويقول: صغار أو كبار.
والضرب الثالث: أحجار تراد للأبنية، فيذكر نوعها بذكر بلدها، ويذكر لونها، جيدًا أو رديئًا، ويذكر طولها وعرضها وسمكها وتدويرها. وإن ذكر الوزن.. جاز. وإن لم يذكر.. لم يفسد.
ويجوز السلم في الآجر، ويذكر طوله وعرضه والدور والثخن. ويجوز السلم في اللبن، ويصفه بما ذكرناه.
قال ابن الصباغ: وإن شرط في اللبن أن يطبخه.. لم يجز؛ لأنه قد يفسد.

(5/426)


[فرعٌ: السلم في أنواع الطيب]
] : ويجوز السلم في المسك والعنبر والكافور. قال الشافعي: (وأخبرني عدلٌ ممن أثق بخبره: أن العنبر نباتٌ يخلقه الله في البحر، ومنه: الأشهب والأخضر والأبيض) . فيذكر لونه، وإن كان يختلف باختلاف البلاد.. قال: عنبر بلد كذا، جيد أو رديء، ويذكر قطعة وزنها كذا إن كان يوجد قطعة وزنها ذلك. فإن شرط قطعة.. لم يجبر على قبول قطعتين. وإن أطلق ذلك.. كان له أن يعطيه صغارًا أو كبارًا.
وأما العود: فلا بد من ذكر نوعه بإضافته إلى البلد، ويرجع في صفات كل ما لا يعرفه المتعاقدان إلى أهل الخبرة به.

[مسألة: في بيان الأجل]
وإن أسلم في مؤجل.. وجب بيان الأجل؛ لحديث ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أسلف.. فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم» ، ولأن الأجل إذا كان مجهولاً.. تعذرت المطالبة والقبض، فيبطل المقصود، فلم يصح.
إذا ثبت هذا: فـ (الأجل المعلوم) : أن يسلم إلى شهر من شهور العرب، أو شهور الروم، أو الفرس، ويكون ذلك معلومًا عندهما. وكذلك: إذا أسلم إلى عيد الفطر أو الأضحى، أو أسلم إلى النيروز أو المهرجان، وهما عيدان من أعياد اليهود

(5/427)


معروفان عند المسلمين واليهود.. فإن ذلك يصح إذا كان المتعاقدان يعرفان ذلك. وإن كانا لا يعلمان ذلك.. لم يصح؛ لأن الاعتبار بهما.
وإن أسلم إلى النفر الأول أو الثاني.. جاز، وذلك لأهل مكة؛ لأنه معروف عندهم، وهل يجوز لغيرهم؟ فيه وجهان، حكاهما الشاشي عن " الحاوي "، قال: والأصح: إن كانا يعرفان وقت ذلك.. صح.
وإن أسلم إلى (يوم القر) : وهو يوم الحادي عشر من ذي الحجة.. قال الشاشي: فهل يصح لأهل مكة؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح، كما لو أسلم إلى يوم النفر.
والثاني: لا يصح؛ لأنه لا يعرفه إلا خواصهم.
وإن أسلم إلى جمادى أو ربيع، ولم يبين أنه الأول أو الثاني.. ففيه وجهان:
أحدهما: من أصحابنا من قال: لا يصح؛ لأنه مجهول.
والثاني ـ وهو المذهب ـ: أنه يصح؛ لأن الشافعي قال: (وإذا أسلم إلى النفر وأطلق.. صح، وحمل على النفر الأول) وإذا أسلم إلى عقب شهر كذا.. قال في (الإفصاح) : لم يصح؛ لأن عقب الشهر يقع على بقية الشهر، وعلى أول الشهر الذي بعده، وذلك مجهول، فلم يصح.

[فرعٌ: السلم إلى وقت مجهول]
وإن أسلم إلى عطاء السلطان الجند.. لم يجز؛ لأنه يختلف. فإن قال: إلى وقت العطاء، وكان له وقت معلوم.. صحّ. وإن قال: إلى الحصاد، أو الموسم، أو إلى قدوم الحاجّ، أو إلى الشتاء، أو إلى الصيف.. لم يجز، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك، وأبو ثور: (يصح السلم إلى العطاء، والحصاد، والدياس) .

(5/428)


دليلنا: ما روي عن ابن عبَّاس: أنه قال: (لا تبايعوا إلى الحصاد والدياس، ولا تبايعوا إلاّ إلى أجل معلوم) .
ولأن ذلك يتقدم ويتأخر، فلم يصح، كما لو قال: إلى مجيء المطر.
وإن أسلم إلى عيد من أعياد اليهود والنصارى، كالشعانين، وعيد الفطير.. قال الشافعي: (لم يصح؛ لأن هذا لا يعرفه المسلمون، ولأنهم يقدمونه ويؤخرونه على حساب لهم) .
وقال أبو إسحاق: إن علم المسلمون منه مثل ما يعلمونه.. جاز أن يجعلوه أجلاً في السلم.

[فرعٌ: وقت حلول الأجل لو أسلمه إلى يوم كذا]
إذا قال: أسلمت إليك إلى يوم كذا.. كان المحل إذا طلع الفجر من ذلك اليوم. وإن قال: إلى ليلة كذا.. كان المحل إذا غربت الشمس من اليوم الذي قبل تلك

(5/429)


الليلة. وإن قال: إلى شهر كذا، أو رأس شهر كذا أو غرته أو أوله.. كان المحل إذا غربت الشمس من آخر يوم من الشهر الذي قبل هذا الشهر؛ لأن اليوم اسم لبياض النهار، والشهر يشتمل على الليل والنهار. وإن قال: محله من يوم كذا، أو في شهر كذا، أو محله يوم كذا أو شهر كذا.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو علي بن أبي هريرة: يصح، ويتعلق بأوله ـ وبه قال أبو حنيفة ـ كما لو قال لها: أنت طالق في يوم كذا.. فإنه يتعلق بأوله.
والثاني ـ وبه قال عامّة أصحابنا ـ: أنه لا يصح؛ لأنه يقع على جميع أجزاء اليوم والشهر، وذلك مجهول، فلم يصح. والفرق بين الطلاق والسلم: أن الطلاق يصح أن يعلق بالمجهول والغرر، بخلاف العقود.
قال ابن الصباغ: وهذا الفرق ليس بصحيح عندي؛ لأنه لو كان مجهولاً.. لوجب أن يصح ولا يتعلق بأوله، بل يتعلق بوقت منه يقف على بيانه، فإذا فات جميعه.. وقع، فلمّا تعلق بأوله.. اقتضى ذلك: أن الإطلاق يقتضيه.
وإن قال: أسلمت إليك في كذا، بأن تسلمه إلي من هذا اليوم إلى رأس الشهر.. لم يصح؛ لأنه لا يدري أي يوم يطالبه به، ولا كم يطالبه به، في كل يوم.

[فرعٌ: أسلم إلى عدة شهور ولم يعين]
] : إذا قال: أسلمت إليك إلى خمسة أشهر أو ستة أشهر.. انصرف ذلك إلى الشهور العربية، والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] [البقرة: 189] . فجعلها علمًا للمواقيت، فانصر الإطلاق إليها. فإن كان حين العقد أول الشهر لم يمض جزء منه.. اعتبر الجميع بالأهلة، تامة كانت الشهور أو ناقصة؛ لأن الاعتبار بما بين الهلالين. وإن كان حين العقد قد مضى جزء من الشهر..عد ما بقي من هذا الشهر من الأيام، ثم اعتبر ما بعده من الشهور بالأهلة، تامة كانت أو ناقصة، وتمم الشهر الأول بعد ذلك بالعدد. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، وابن الصباغ.

(5/430)


وذكر في " المهذب ": إن كان العقد في الليلة التي رؤي فيها الهلال.. اعتبر الجميع بالأهلة. وإن كان العقد في أثناء الشهر.. اعتبر الشهر الأول بالعدد، وما بعده بالأهلة.

[فرعٌ: أسلم وشرط الحلول أو زاد أو نقص في الأجل]
] : وإن أسلم في شيء وشرط: أنه حال.. صح. وإن أطلق.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح السلم؛ لأن العقد يقع على مجهول؛ لأنه لم يذكر الحلول ولا التأجيل.
والثاني: يصح ويكون حالاًّ؛ لأن ما جاز حالاًّ ومؤجلاً.. حمل إطلاقه على الحال، كالثمن في البيع. وفيه احترازٌ من الكتابة؛ لأنها لا تصح حالة، وإذا أطلق العقد.. لم يصح.
وإن أسلم في شيء، وشرط: أنه حالٌّ، ثم اتفقا على تأجيله، أو أسلم على مؤجل، ثم اتفقا على حلوله، أو زادا في الأجل أو نقصا منه، فإن كان ذلك بعد التفرق.. لم يلحق بالعقد.
وقال أبو حنيفة: (يلحق بالعقد) . وإن كان قبل التفرق.. لحق بالعقد. وقال أبو عليّ الطبري: إذا قلنا: إن الملك ينتقل إلى المشتري بنفس العقد.. لم يلحق بالعقد. وقد مضى ذكر هذا في (المرابحة) .

[فرعٌ: أسلم في جنسين إلى أجل أو العكس]
] : إذا أسلم إليه شيئًا في جنس إلى أجلين أو آجال، أو أسلم إليه شيئًا في جنسين إلى أجل، مثل: أن قال: أسلمت إليك هذا الدينار في كذا وكذا رطل لحم، وتدفع إليّ كل يوم منه رطلا، أو قال: أسلمت إليك هذا الدينار بخسمة أذهاب بر، وخمسة أذهاب ذرة.. ففيه قولان:

(5/431)


أحدهما: لا يصح ـ وهو ضعيف ـ لأن ما يقابل أبعدهما أجلا من رأس المال أقل مما يقابل أقربهما أجلا، وما يقابل أحد الجنسين أقل مما يقابل الآخر، وذلك مجهول، فلم يصح. وهذا القول بناء على أن رأس المال يجب أن يكون معلومًا.
والثاني: يصح السلم ـ وبه قال مالك، وهو الأصح ـ لأن كل بيع جاز إلى أجل واحد.. جاز إلى أجلين، كبيع الأعيان ـ وفيه احتراز من الكتابة ـ أو كل بيع جاز على جنسين في عقدين.. جاز عليهما في عقد واحد، كبيع الأعيان.

[مسألةٌ: موضع التسليم]
] : وأمّا بيان موضع القبض: فهل يشترط ذلك في صحة السلم؟
قال في " الأم ": (لا بدّ من ذكره) . وقال في موضع: (يستحب) .
واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: هي على حالين:
فحيث قال: (لا بدّ من ذكره) أراد: إذا كان السلم في موضع لا يصلح للتسليم.
قال الشيخ أبو حامد: وذلك كالصحراء أو البادية.
وحيث قال: (يستحب) أراد: إذا كان السلم في بلد أو مصر.
والفرق بينهما: أن الصحراء والبادية لا تصلح للتسليم، فيكون موضع التسليم مجهولاً، فلم يصح، والبلد والمصر يصلح للتسليم.
فإذا أطلق العقد.. حمل على موضع العقد، كما إذا أطلق العقد في موضع فيه نقد غالب.
ومنهم من قال: إن كان السلم في الصحراء.. وجب بيان موضع التسليم، قولاً واحدًا. وإن كان في مصر.. ففيه قولان:

(5/432)


أحدهما: لا يفتقر إلى ذكره، كبيع العين بنقد مطلق، في موضع فيه نقد غالب.
والثاني: يفتقر إلى ذكره، كما إذا كان في الصحراء.
هكذا ذكر الشيخ أبو حامد، وذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": إذا كان السلم في موضع يصلح للتسليم.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يفتقر إلى ذكر موضع القبض؛ لأن الغرض يختلف باختلافه.
والثاني: لا يفتقر إلى ذكره، كبيع الأعيان.
والثالث: إن كان لحمل المسلم فيه مؤنة.. وجب بيان موضع التسليم، وإن لم يكن لحمله مؤنة.. لم يجب ـ وهذا قول ابن القاص، واختيار القاضي أبي الطيب، وبه قال أبو حنيفة ـ لأن الثمن يختلف باختلاف ما لحمله مؤنة، ولا يختلف بما ليس لحمله مؤنة.

[مسألةٌ: قبض المال في المجلس]
] : ولا يجوز تأخير قبض رأس مال السلم عن المجلس، فإن تفرقا قبل ذلك.. بطل العقد، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد.
وقال مالك: (إن تأخر قبضه بعد افتراقهما يومًا أو يومين أو ثلاثًا.. لم يبطل، وإن تأخر أكثر من ذلك.. بطل) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلف.. فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم» . و (الاستسلاف) : عبارة عن التعجيل، فظاهر الخبر: أن ذلك شرط في العقد.
ولأن السلم مشتق من (الإسلام) : وهو التسليم، فوجب أن يختص بمعنًى يضاهي الاسم.
ولأن من شرط أحد العوضين في السلم: أن يكون في الذمة، فلو جاز تأخير الآخر عن المجلس.. لصار في معنى بيع الدين بالدين؛ لأن رأس المال قد يكون موصوفًا

(5/433)


في الذمة، فإذا جوزنا تأخيره عن المجلس.. كان في معنى بيع الكالئ بالكالئ، فلم يجز.
إذا ثبت هذا: فإن الشيخ أبا حامد قال: البيوع على ثلاثة أضرب:
بيع خالص، وسلم خالص، وبيع معناه معنى السلم ولفظه لفظ البيع.
فأمَّا (البيع الخالص) : فأن يبيع ثوبًا، أو سلعة معينة بثمن في الذمة، أو بثمن معين، فلا يشترط قبض شيء منهما في الملجس؛ لما ذكرناه.
وأمّا (السلم الخالص) : فهو أن يقول: أسلمت إليك كذا، في ثوب صفته كذا، فمن شرطه قبض رأس مال السلم في المجلس؛ لما ذكرناه.
وأمّا (السلم بلفظ البيع) : فهو أن يقول: اشتريت منك ثوبًا صفته كذا وكذا، بشيء يذكره، فهذا لفظه لفظ البيع، ومعناه معنى السلم، فهل يراعى معنى اللفظ، ولا يشترط فيه قبض رأس المال في المجلس؟ أو يراعى معناه: وهو السلم، ولا بد من قبض رأس المال في المجلس؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما في أوّل الباب.

[فرعٌ: رأس مال السلم بالذمة أو معين]
] : إذا كان رأس مال السلم عرضًا في الذمة.. فيجب ذكر صفاته؛ لأنه عوض في الذمة غير معلوم بالعرف، فوجب ذكر صفاته، كالمسلم فيه.
فإن كان رأس المال نقدًا مطلقًا في الذمة، فإن كانا في بلدٍ فيه نقد غالب.. انصرف الإطلاق إليه، كما نقول في بيع الأعيان. وإن كانا في بلد فيه نقودٌ ليس بها نقدٌ غالبٌ.. لم يصح السلم حتى يبيِّنا واحدًا منها، كما قلنا في بيع الأعيان.

(5/434)


وإن كان رأس المال معيَّنًا.. فهل يفتقر إلى معرفة قدره وصفاته؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز أن يكون جزافًا، ولا بد من ذكر صفاته؛ لأنه أحد العوضين في السلم، فلم يجز أن يكون جزافًا، ولا غير معلوم الصفة، كالعوض الآخر، وهو المسلم فيه، ولأن عقد السلم لا يقع منبرمًا، وإنما يقع مراعى، وربما انفسخ العقد، فيحتاج أن يرجع المسلم إلى رأس المال، فإذا كان جزافًا، أو غير معلوم الصفة.. لم يمكنه الرجوع إليه.
فعلى هذا: لا يجوز أن يكون رأس المال ما لا يصح السلم فيه، كاللؤلؤ والزبرجد، أو ما عملت فيه النار، كالخبز والشواء.
والقول الثاني: يصح السلم وإن كان رأس المال جزافًا، ولا يفتقر إلى ذكر صفاته؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلف.. فليسلف في كيل معلوم» . ولم يفرق بين أن يكون رأس المال معلومًا موصوفًا، أو جزافًا غير موصوف. ولأنها عين يتناولها العقد بالإشارة إليها، فاستغني عن معرفة قدرها وصفتها، كالبيع.
فعلى هذا: يجوز أن يكون رأس المال ما لا يصح السلم فيه.

[فرعٌ: وجد رأس المال معيبًا بعد التفرق]
إذا قبض المسلم إليه رأس المال، فوجده معيبًا بعد التفرق، فإن كان العيب من غير جنس رأس المال، مثل: أن يسلم إليه دراهم، فوجدها رصاصًا أو نحاسًا.. بطل السلم؛ لأنهما تفرّقا قبل قبض رأس المال. وإن كان العيب من جنسه، مثل: أن وجد الدراهم مضطربة السكة، أو كانت فضتها خشنة.. نظرت:
فإن كان العقد وقع على عينها.. فالمسلم إليه بالخيار: بين أن يرضى بها، وبين أن يردّها أو يفسخ العقد. ولا يمكنه أن يطالب ببدلها؛ لأن العقد وقع على عينها.
وإن كان العقد وقع على دراهم في الذمة، ثم عين تلك الدراهم عنها.. فهل له أن يطالب ببدلها بعد التفرق؟ فيه قولان، قد مضى ذكرهما في (الصرف) .

(5/435)


[فرعٌ: الاختلاف في قبض القيمة]
] : إذا أسلم إلى رجل دراهم في شيء، فحصلت الدراهم في يد المسلم إليه، ثم اختلفا، فقال المسلم: أقبضتك هذه الدراهم بعد التفرق، وأقام على ذلك بينة، وقال المسلم إليه: بل أقبضتنيها قبل التفرق، وأقام على ذلك بينة.. قال أبو العباس: فبينة المسلم إليه أولى؛ لأنها مثبتة، والأخرى نافية، والمثبتة أولى.
وكذلك: لو كانت الدراهم في يد المسلم، فقال المسلم إليه: أقبضتني في المجلس، وأودعتها عندك، أو غصبتني عليها، وأقام على ذلك بينة، وقال المسلم: ما أقبضتك، وأقام على ذلك بينة.. فبينة المسلم إليه أولى؛ لأن بينته مثبتة.
والله أعلم، وبالله التوفيق

(5/436)