البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب القرض]
الإقراض مستحب، وفعل من أفعال البر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] [المائدة: 2] . وفي الإقراض إعانةٌ على البر.
وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا.. كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر.. يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر على مسلم.. ستر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه» . والقرض مما تفرج به الكرب.

(5/455)


وقد رُوي عن ابن عبّاس، وابن مسعود، وأبي الدرداء: أنهم قالوا: (لئن نقرض مرتين.. أحب إلينا من أن نتصدق مرة) .
وقال بعضهم: إنما كان القرض خيرًا من الصدقة؛ لأن الصدقة قد تدفع إلى من هو غنيٌّ عنها، ولا يسأل إنسان القرض إلا وهو محتاج إليه.

[مسألة: أركان القرض وشروطه]
] : ولا يصح القرض إلاَّ من جائز التصرف في المال؛ لأنه عقد على المال، فلم يصح إلا جائز التصرف فيه، كالبيع. ولا يصح إلاَّ بالإيجاب والقبول؛ لأنه تمليك

(5/456)


آدميٍّ، فافتقر إلى الإيجاب والقبول، كالبيع والهبة، وفيه احترازٌ من العتق.
وينعقد بلفظ القرض والسلف؛ لأنه قد ثبت له عرف الاستعمال. وسمي القرض: قرضًا؛ لأنه قطع له من ماله قطعة، ومن قطع منه شيئًا.. فقد قرضه. وينعقد بما يؤدي معنى ذلك، فإن قال: ملَّكتك هذا، على أن ترد عليَّ بدلَه.. كان قرضًا، وإن قال: ملَّكتك هذا، ولم يذكر البدل.. فهو هبة.
وإن اختلفا فيه.. فالقول قول الموهوب له؛ لأن الظاهر معه.
قال الشيخ أبو إسحاق: فإن قال: أقرضتك ألفا، وقبل، وتفرقا، ثم دفع إليه إلفا، فإن لم يطل الفصل.. جاز؛ لأن الظاهر أنه قصد الإيجاب. وإن طال الفصل.. لم يجز حتى يعيد لفظ القرض؛ لأنه لا يمكنه البناء على العقد مع طول الفصل.

[مسألة: الخيار في القرض وفسخه]
] : ولا يثبت في القرض خيار المجلس، ولا خيار الشرط؛ لأن الخيار يراد للفسخ، وكل واحد منهم يملك أن يفسخ القرض متى شاء، فلا معنى لإثبات الخيار.
ولو أقرضه شيئًا إلى أجل.. لم يلزم الأجل، وكان حالاًّ. وهكذا: لو كان له عنده ثمن حالٌّ فأجَّله، أو كان مؤجَّلاً فزاد في أجله.. لم يلزم ذلك.
وقال مالك - رحمة الله عليه -: (يدخل الأجل في ابتداء القرض، بأن يقرضه إلى أجل، ويدخل في انتهائه، بأن يقرضه حالاًّ، ثم يؤجِّله له، فيتأجَّلَ) .
ووافقنا أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أن الأجل لا يدخل في القرض، وأمّا الثمن الحالُّ: فيتأجل بالتأجيل) .
دليلنا على مالك: أن الأجل يقتضي جزءًا من العوَض، والقرض لا يحتمل الزيادة والنقصان في عوضه، فلم يجز شرط الأجل فيه.
وأمّا الدليل على أبي حنيفة: فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل شرط ليس في كتاب الله.. فهو باطل» ، وتأجيل الحق الحالِّ ليس في كتاب الله تعالى، فكان باطلاً، ولأنه حقٌّ مستقرٌّ فلم يتأجَّل بالتأجيل، كالقرض.

(5/457)


وقولنا: (مستقرٌّ) احترازٌ من الثمن في مدة الخيار؛ ولأنه إنظار تبرَّع به، فلم يلزمه، كالمرأة إذا وجدت زوجها عِنِّينًا، فأجَّلَته، ثم رجعت عن ذلك.. فإن لها ذلك.

[فرعٌ: يصح الرهن في القرض]
] : ويجوز شرط الرهن في القرض؛ لـ: «أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رهن درعه على شعير استقرضه من يهودي» . ويجوز عقد القرض بشرط الضمين فيه، وبشرط أن يقر عند الحاكم، أو يشهد؛ لأنه وثيقة فيه، فجاز شرطه فيه، كالرهن.

[مسألةٌ: ما تملك به العين المستقرضة]
] : ومتى يملك المستقرض العين التي استقرضها؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا يملكها إلاَّ بالتصرُّف بالبيع أو الهبة أو بأن يتلفها أو تتلف في يده؛ لأن للمقرض أن يرجع في العين، وللمستقرض أن يردّها. ولو ملكها المستقرض بالقبض.. لم يملك واحدٌ منهما فسخ ذلك.
فعلى هذا: إن استقرض حيوانًا.. كانت نفقته على المقرض إلى أن يتلفه المستقرض. وإن استقرض أباه.. لم يعتق عليه بالقبض.
و [الثاني] : منهم من قال: يملكها المستقرض بالقبض. قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح؛ لأنه بالقبض يملك التصرف فيها في جميع الوجوه، فلو لم يملكها بالقبض.. لما ملك التصرف فيها بما فيه حظٌّ، وبما لا حظَّ فيه. وأمَّا الرجوع في العين المقرضة: فلا خلاف بين أصحابنا: أنَّ للمستقرض أن

(5/458)


يردَّها على المقرض، وأمَّّا المقرض: فهل له أن يرجع فيها وهي في يد المستقرض؟
من أصحابنا من قال: إن قلنا: إنَّ المستقرض ملكها بالقبض.. لم يكن للمقرض أن يرجع فيها بغير رضا المستقرض، وإن قلنا: إنَّ المستقرض لا يملكها إلاَّ بالتصرُّف.. فللمقرض أن يرجع فيها.
ومنهم من قال: للمقرض أن يرجع فيها بكل حال، وهو المنصوص، ولا يكون جواز رجوع المقرض فيها مانعًا من ثبوت الملك للمستقرض فيها قبل التصرُّف، ألا ترى أن الأب إذا وهب لابنه شيئًا، وأقبضه إيَّاه.. فإن الابن قد ملكه، وللأب أن يرجع فيه؟
وكذلك: إذا اشترى كل واحد سلعة بسلعة، ثم وجد كل واحدٍ منهما بما صار إليه عيبًا.. فإن لكل واحد منهما أن يرجع في سلعته وإن كانت ملكًا للآخر. ويبطل بما لو تصرَّف هذا المستقرض بالعين المستقرضة، ثم رجعت إليه.. فإن للمقرض أن يرجع فيها، ولا يدلُّ ذلك على: أنَّ المستقرض لم يكن مالكًا للعين وقت التصرُّف فيها. فعلى هذا: إذا اقترض حيوانًا، وقبضه.. كانت نفقته على المستقرض. وإن اقترض أباه، وقبضه.. صحَّ، وعتق عليه.

[فرعٌ: يملك الضيف الطعام]
واختلف أصحابنا فيمن قدَّم إلى غير طعامًا، وأباح له أكله.. متى يملكه المقدَّم إليه؟
فـ[الأول] : منهم من قال: يملكه بالتناول، فإذا أخذ لقمة بيده.. ملكها، كما إذا وهبه شيئًا، وأقبضه إيَّاه.
فعلى هذا: لو أراد المقدِّم أن يسترجعها منه بعد أن أخذها بيده.. لم يكن له ذلك.
و [الثاني] : منهم من قال: يملكه بتركه في الفم.
فعلى هذا: للمقدِّم أن يرجع فيه ما لم يتركه المقدِّم إليه في فيهِ.

(5/459)


و [الثالث] : منهم من قال: لا يملكه إلا بالبلع.
و [الرابع] : حكاه في " المهذب ": أنه لا يملكه بالأكل، بل يأكله وهو على ملك صاحبه.
فإذا قلنا: إن المقدم إليه ملكه بأخذه باليد، أو بتركه في الفم.. فهل له أن يبيحه لغيره، أو يتصرف فيه بغير ذلك؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال عامَّة أصحابنا: لا يجوز له ذلك، لأنه أباح له انتفاعًا صحيحًا مخصوصًا، فلا يجوز له أن ينتفع به لغيره، كما لو أعاره ثوبًا.. لم يكن له أن يعيره غيره.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب: له أن يفعل به ما شاء من وجوه التصرفات، مثل: البيع، والهبة لغيره؛ لأنه يملكه، فهو كما لو وهبه شيئًا وأقبضه إيّاه.
قال ابن الصبّاغ: وهذا الذي قالاه لا يجيءُ على أصولهما؛ لأن من شرط الهبة عندهما القبول والإيجاب والإذن بالقبض، إلاَّ أن يتضمَّنها العتق لقوَّته، ولم يوجد ذلك هاهنا. ولأن الإذن بالتناول إنَّما تضمَّن إباحة الأكل، فلا يصح أن يحصل به الملك، ولو كان ذلك صحيحًا.. لجاز له تناول جميع الذي قدم إليه، وينصرف به إلى بيته. وكذلك: إذا قلنا: بتركه في فيه.. فإنه لم يحصل الأكل المأذون فيه، وإنَّما يملكه بالبلع.
وقال: وعندي: أنَّ بالبلع يبطل معنى الملك فيه، ويصير كالتالف.
قال: والأوجه في ذلك: أن يكون إذنًا في الإتلاف لا تمليك فيه.

[مسألةٌ: ما يصح قرضه]
] : ويصح القرض في كل عين يصح بيعها، وتضبط صفتها، كما قلنا في السلم. وأمّا ما لا يضبط بالصفة، كالجواهر وما عملت فيه النار.. فهل يصح قرضها؟ فيه وجهان، بناءً على الوجهين فيما يجب ردُّه بالقرض فيما لا مثل له:

(5/460)


فإن قلنا: يجب ردُّ القيمة.. جاز قرض هذه الأشياء.
وإن قلنا: يجب ردُّ المثل فيها.. لم يجز قرضها، ويأتي توجيههما.

[فرعٌ: قرض الدراهم المزيفة]
] : قال الصيمري: ولا يجوز قرض الدراهم المزيفة، ولا الزرنيخية، ولا المحمول عليها ولو تعامل بها الناس. فلو أقرضه دراهم أو دنانير، ثم حرمت.. لم يكن له إلاَّ ما أقرض. وقيل: قيمتها يوم حرمت.
ولا يصح القرض إلاَّ في مال معلوم، فإن أقرضه دراهم غير معلومة الوزن، أو طعامًا غير معلوم الكيل.. لم يصحَّ؛ لأنه إذا لم يعلم قدر ذلك.. لم يمكنه القضاء.

[مسألة: قرض الجواري]
] : ويجوز قرض غير الجواري من الحيوان، كالعبيد والأنعام، وغيرهما ممَّا يصح بيعها، ويضبط وصفها.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح قرضها) . وبنى ذلك على أصله: أن السلم لا يصح فيها. دليلنا: ما «روى أبو رافع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسلف من أعرابي بَكْرًا، فقدمت عليه إبلٌ من إبل الصدقة، فأمرني أن أقضيه، فقلت: لم أجِد في الإبل إلا جملاً خيارًا رباعيًّا، فقال: " اقضه إيّاه، فإن خير الناس أحسنهم قضاءً» .

(5/461)


ولأن ما صحَّ أن يثبت في الذمة مهرًا.. صحَّ أن يثبت فيها قرضًا، كالثياب.
فأمَّا استقراض الجواري: فيجوز ذلك لمن لا يحل له وطؤها بنسب أو رضاع أو مصاهرة، كغيرها من الحيوان، ولا يجوز لمن يحل له وطؤها.
وقال المزني، وابن داود، وابن جرير الطبري: يجوز.
وحكى الطبري عن بعض أصحابنا الخراسانيِّين: أنه يجوز قرضها، ولا يحل للمستقرض وطؤها.
دليلنا: أنَّه عقد إرفاق لا يلزم كل واحد من المتعاقدين، فلم يملك به الاستمتاع، كالعارية.
فقولنا: (عقد إرفاق لا يلزم كل واحد من المتعاقدين، فلم يملك به الاستمتاع) احترازٌ من البيع إذا اشترى جارية بجارية، ثم وجد كل واحد منهما بما صار إليه عيبًا.. فإن لكل واحد منهما أن يطأ جاريته، وليس بعقد إرفاق. ولا ينتقض بالرجل إذا وهب لابنه جارية؛ لأن الهبة تلزم من جهة الموهوب، ولا تلزم من جهة الواهب.

[مسألةٌ: في البيع والسلف]
] : ولا يجوز بيع وسلف، وهو أن يقول: بعتك هذه الدار بمائة على أن تقرضني خمسين؛ لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع وسلف، وعن بيعتين في بيعة، وعن ربح ما لم يضمن، وبيع ما ليس عنده» .
ولا يجوز أن يقرضه دراهم على أن يعطيه بدلها في بلد أخرى، ولا أن يكتب له بها سفتجة، فيأمن خطر الطريق ومؤنة الحمل. وكذلك: لا يجوز أن يقرضه شيئًا

(5/462)


بشرط أن يرد عليه خيرًا منه؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قرض جرَّ منفعة» . فإن أقرضه شيئًا بشرط أن يرد عليه أكثر منه.. نظرتَ:
فإن كان ذلك من أموال الرِّبا، بأن أقرضه درهمًا، بشرط أن يرد عليه درهمين، أو أقرضه ذهب طعام بشرط أن يرد عليه ذهبي طعام.. لم يجز؛ لما رويَ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل قرض جر منفعة.. فهو حرام» ، ولأن هذا ربًا، فلم يجز، كالبيع.

(5/463)


وإن كان ذلك في غير أموال الربا، كالثياب والحيوان.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: يجوز؛ لما روى «عبد الله بن عمرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: (أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أُجهِّزَ جيشًا، فنفدت الإبل، فأمرني أن آخذ بعيرًا ببعيرين إلى أجل» . وهذا استسلافٌ.
والثاني: لا يجوز، وهو المذهب؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل قرض جرّ منفعة.. فهو حرام» ، ولأن هذا زيادة لا يقابلها عوض، فلم تصح، كما لو باعه داره بمائة على أن يعطيه مائة وعشرة، ولأنه لو اشترط زيادة في الجودة.. لم يصح، فلأن لا يجوز اشتراط الزيادة في العدد أولى.
وأمَّا الخبر: فهو واردٌ في السلم، بدليل: أنه قال: (كنت آخذ البعير بالبعيرين إلى أجل) . والقرض لا يدخله الأجل.
وإن أقرضه شيئًا بشرط أن يرد عليه دون ما أقرضه.. ففيه وجهان، حكاهما في " المهذَّب ":
أحدهما: لا يجوز؛ لأن مقتضى القرض ردُّ المثل، فإذا شرط النقصان عمّا أقرضه.. فقد شرط ما ينافي مقتضى العقد، فلم يجز، كما لو شرط الزيادة.
والثاني: يجوز؛ لأن القرض جُعل رفقًا بالمستقرض، فشرط الزيادة يخرج القرض عن موضوعه، فلم يجز، وشرط النقصان لا يخرجه عن موضوعه، فجاز.

[فرعٌ: رد القرض وزيادة من غير شرط]
] : وإن اقترض رجلٌ من غيره درهمًا، فردَّ عليه درهمين أو درهمًا أجود من درهمه، أو باع منه داره، أو كتب له بدرهمه سَفْتَجَةً إلى بلدٍ آخر من غير شرط، ولا جرت للمقرض عادة بذلك.. جاز.
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز ذلك في أموال الرِّبا، ويجوز في غيرها. وهذا ليس بصحيح؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقترض نصف صاع، فرد صاعًا، واقترض

(5/464)


صاعًا، فردَّ صاعين» ، واقترض من الأعرابي بكرًا، فردَّ عليه أجود منه، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خيار الناس أحسنهم قضاء» ، «وقال جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (كان لي عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دين، فقضاني، وزادني» ، ولأنه متطوع بالزيادة، فجاز، كما لو وصله بها.
وكذلك: لو اقترض رجل شيئًا، وردَّ أنقص ممَّا أخذ، وطابت نفس المقرض بذلك.. جاز، كما لو أعطى الزيادة وطابت نفس المقترض بذلك.
وإن كان الرجل معروفًا أنه إذا أُقرض.. ردّ أكثر ممَّا اقترض، أو أجود منه.. فهل يجوز إقراضه مطلقًا؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصحُّ إقراضه إلاَّ بشرط أن يرد عليه مثل ما أخذه؛ لأن ما علم بالعرف، كالمعروف بالشرط.
والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنه يجوز إقراضه من غير شرط؛ لأن الزيادة مندوبٌ إليها في القضاء، فلا يمنع من جواز القرض، وأمّا ما كان معروفًا من جهة العرف: فلا يمنع جواز الإقراض، ألا ترى أنه لو جرت عادة رجل أنه إذا اشترى من إنسان تمرًا أطعمه منه، أو أطعم البائع من غيره.. لم يصر ذلك بمنزلة المشروط في بطلان البيع منه.

[فرعٌ: الإقراض بشرط فاسد]
] : وإن أقرضه شيئًا بشرط فاسد، بأن أقرضه إلى أجل، أو أقرضه درهمًا بدرهمين. .

(5/465)


بطل الشرط؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل شرط ليس في كتاب الله.. فهو باطل» وهل يبطل القرض؟ فيه وجهان:
أحدهما: يبطل.
فعلى هذا: لا يملكه المقترض؛ لأن القرض إنما وقع بهذا الشرط، فإذا بطل الشرط.. بطل القرض، كالبيع بشرط فاسد.
والثاني: لا يبطل؛ لأن القرض عقد إرفاق، فلم يبطل بالشرط الفاسد، بخلاف البيع.

[مسألة: يرد القرض بمثله]
وإذا اقترض شيئًا له مثل، كالحبوب والأدهان والدراهم والدنانير.. وجب على المستقرض ردُّ مثلها؛ لأنه أقرب إليه. وإن اقترض منه ما لا مثل له، كالثياب والحيوان.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب ردُّ قيمته، وهو اختيار الشيخ أبي حامد، ولم يذكر غيره؛ لأنه مضمون بالقيمة في الإتلاف، فكذلك في القرض.
والثاني: يضمنه بمثله في الصورة والخِلْقة، وهو اختيار القاضي أبي الطيب الطبري؛ لحديث أبي رافع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حيث: (أمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يقضي البكر بالبكر) ، ولأن طريق القرض الرِّفق، فسومح فيه بذلك، ألا ترى أنه يجوز فيه النسيئة فيما فيه الرِّبا، ولا يجوز ذلك في البيع، بخلاف المتلف، فإنه متعدٍّ، فأوجبت عليه القيمة؛ لأنها أخص؟
قال ابن الصبّاغ: فإن قلنا: تجب القيمة، فإن قلنا: إنه يملك ذلك بالقبض.. وجبت القيمة حين القبض. وإن قلنا: إنه لا يملك إلا بالتصرف.. وجبت عليه القيمة أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التصرف.
وإن اختلفا في قدر القيمة، أو في صفة المثل.. فالقول قول المستقرض مع يمينه؛ لأنه غارمٌ.

(5/466)


[فرعٌ: إقراض الخبز]
] : وأمَّا إقراض الخبز: فإن قلنا: يجوز قرض ما لا يضبط بالوصف، كالجواهر.. جاز قرض الخبز. وإن قلنا: لا يجوز قرض ما لا يضبط بالوصف.. ففي قرض الخبز وجهان:
أحدهما: لا يجوز ـ وبه قال أبو حنيفة ـ كغيره مما لا يضبط بالوصف.
والثاني: يجوز، قال ابن الصبّاغ: لإجماع أهل الأعصار على ذلك، فإنهم يقترضون الخبز.
فإذا قلنا: يجوز اقتراضه، فإن قلنا: يجب فيما لا مثل له رد مثله في الصورة.. رد مثل الخبز وزنًا. وإن قلنا: يجب ردُّ القيمة فيما لا مثل له.. رد قيمة الخبز.
فعلى هذا: إن شرط أن يرد مثل الخبز.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأنَّ الرفق باقتراض الخبز لا يحصل إلاَّ بذلك.
والثاني: لا يصح، كما لا يجوز بيع الخبز بالخبز.

[مسألة: إعادة القرض في غير مكان تسلمه]
وجواز أخذ قيمته] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في (الصرف) : (وإذا أقرضه طعامًا بمصر، فلقيه بمكة، فطالبه به.. لم يكن له ذلك) ؛ لأن عليه ضررًا في نقل الطعام من مصر إلى مكة، ولأن الطعام بمكة أكثر قيمة. وإن طالبه المستقرض بأخذه.. لم يلزم المقرض أخذه؛ لأن عليه مؤنة في حمله إلى مصر، فإن تراضيا على ذلك.. جاز؛ لأن الحق لهما، وإن طالب المقرض المستقرضَ بقيمة طعامه بمكة.. أُجبر المقترض على دفع قيمة الطعام؛ لأن الطعام بمكة كالمعدوم، وما له مثلٌ إذا عُدِم.. وجب قيمتُهُ.
قال الشيخ أبو حامد: ويأخذ قيمة الطعام بمصر لا بمكََّّةَ في يوم المطالبة؛ لأنه إنما وجب عليه دفع القيمة يوم المطالبة.

(5/467)


وهكذا: إن غصب منه طعامًا بمصر، أو أسلم إليه في طعام بمصر، فلقيه بمكة.. كان الحكم فيه كالحكم في القرض، إلاَّ في أخذ القيمة، فإنَّه لا يجوز أخذ القيمة عن المسلم فيه، ويجوز أخذ القيمة عن المغصوب، إلاَّ أنَّ الغاصب إذا دفع قيمة الطعام بمكة، وكان الطعام باقيًا.. لم يملكه الغاصب، بل إذا رجع إلى مصر.. ردَّ الطعام الذي غصبه، واسترجع القيمة، فأمَّا إذا كان في ذمَّته له دراهم أو دنانير من قرض أو غصب أو سلم بمصر، فطالبه بقضائها في مكة.. وجب عليه القضاء؛ لأنه ليس لنقلها مؤنة، فلم تختلف باختلاف البلدان.

[فرعٌ: دفع بدل القرض التالف]
] : فإن اقترض من رجل شيئًا، وقبضه، وتصرف فيه، أو أتلفه، ثم أراد أن يعطيه عن بدل القرض عوضًا.. جاز؛ لأنه مستقر في الذمة لا يخشى انتقاصه بهلاكه، فجاز تصرفه فيه قبل القبض، كالمبيع بعد القبض، بخلاف المسلم فيه، فإنه غير مستقر؛ لأنه يخشى انتقاصه بهلاكه، وحكمه في اعتبار القبض حكم ما يأخذه عوضًا عن رأس مال السَّلم بعد الفسخ، وقد مضى بيانه.
وإن كانت العين المقترضة باقية في يد المقترض.. فإنه لا يجوز أخذ العوض عنها؛ لأنَّا إن قلنا: إنَّ المقترض قد ملكها بالقبض.. فلا يجوز أخذ العوض؛ لأن ملك المقرض قد زال عن العين، ولم يستقرَّ بدلها في ذمة المقترض؛ لأن للمقرض أن يرجع في العين. وإن قلنا: إنَّ المقترض لا يملك العين إلاَّ بالتصرف.. لم يجز للمقرض أخذ بدل العين؛ لأن ملكه عليها ضعيف بتسليط المقترض عليه. هكذا ذكره ابن الصبّاغ.
والله أعلم وبالله التوفيق

(5/468)