البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب الرهن]
الرهن ـ في اللغة ـ: مأخوذ من الثبوت والدوام، تقول العرب: رهن الشيء: إذا ثبت. والنعمة الراهنة هي الثابتة الدائمة. يقال: رهنت الشيء، فهو مرهون. ولا يقال: أرهنت، إلا في شاذ اللغة.
وأما في الشرع: فهو جعل المال وثيقة على الدين، ليُستوفى منه الدين عند تعذره ممن عليه، وهو جائز.

والأصل في جوازه: الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] [البقرة: 283] . وهذا أمر على سبيل الإرشاد، لا على سبيل الوجوب.
وأما السنة: فما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الرهن محلوب ومركوب» .

(6/7)


وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يغلق الرهن» . وغير ذلك من الأخبار.
وأما الإجماع: فلا خلاف بين الفقهاء في جوازه.
إذا ثبت هذا: فيجوز أخذ الرهن في السفر؛ للآية، ويجوز أخذه في الحضر، وهو قول كافة الفقهاء، إلا ما حكي عن مجاهد وداود: أنهما قالا: (لا يجوز أخذ الرهن في الحضر) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقترض من أبي الشحم اليهودي ثلاثين صاعا من

(6/8)


شعير لأهله بعدما عاد من تبوك بالمدينة، ورهن عنده درعه، وكانت قيمتها أربعمائة درهم» .
ففي هذا الخبر فوائد:
منها: جواز الرهن؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رهن.
منها: جواز الرهن في الحضر؛ لأن ذلك كان بالمدينة، وكانت موطن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومنها: أنه يجوز معاملة من في ماله حرام وحلال إذا لم يعلم عين الحلال والحرام؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عامل اليهودي، ومعلوم أن اليهود يستحلون ثمن الخمر ويربون.
ومنها: أن الرهن لا ينفسخ بموت الراهن؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مات ودرعه مرهونة.
ومنها: أن الإبراء يصح وإن لم يقبل المبرأ؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يعدل عن معاملة مياسير الصحابة، مثل: عثمان، وعبد الرحمن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما-؛ لأنه

(6/9)


كان يعلم أنه لو استقرض منهم.. أبرءوه. فلو كانت البراءة لا تصح إلى بقبول المبرأ.. لكان لا يقبل البراءة منهم، فعدل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى اليهودي الذي يعلم أنه يطالبه بحقه. ولأنه وثيقة تجوز في السفر فجازت في الحضر، كالضمان، والشهادة.

[مسألة: فيما يشترط في الراهن]
ولا يصح الرهن إلا من جائز التصرف في المال. فأما الصبي والمجنون والمحجور عليه: فلا يصح منه الرهن؛ لأنه عقد على المال، فلم يصح منهم، كالبيع.

[مسألة: ما يصح الرهن به]
ويصح الرهن بكل حق لازم في الذمة، كدين السلم، وبدل القرض، وثمن المبيعات، وقيم المتلفات، والأجرة، والمهر، وعوض الخلع، والأرش على الجاني. وأما الدية على العاقلة: فإن كان قبل حلول الحول.. لم تصح؛ لأنه لم يجب عليهم شيء. وإن كان بعد حلول الحول.. صح.
قال الشيخ أبو حامد: وحكي عن بعض الناس: أنه قال: لا يصح الرهن إلا في دين السلم، وهو خلاف الإجماع.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] [البقرة: 282] إلى قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] [البقرة: 282 ـ 283] .

(6/10)


وقد يكون الدين في الذمة ثمنا، وقد يكون فيها مثمنا، ولأنه حق ثابت في الذمة، فجاز أخذ الرهن به، كالسلم، ويجوز أخذ الرهن بالدين الحال؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رهن درعه في بدل القرض، وهو حال.
ولا يصح الرهن بدين الكتابة.
وقال أبو حنيفة: (يصح)
دليلنا: أنه وثيقة يستوفى منها الحق، فلم يصح في دين الكتابة، كالضمان، ولأن الرهن إنما جعل لكي يستوفي منه من له الحق إذا امتنع من عليه الحق، وهذا لا يمكن في الكتابة؛ لأن للمكاتب أن يعجز نفسه أي وقت شاء، ويسقط ما عليه، فلا معنى للرهن به.
وأما الرهن بمال الجعالة، بأن يقول رجل: من رد عبدي الآبق.. فله الدينار: فإن رده رجل.. استحق الدينار، وصح أخذ الرهن به، وهل يصح أخذ الرهن به قبل الرد؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح، وهو اختيار أبي علي الطبري، والقاضي أبي الطيب؛ لأنه حق غير لازم، فهو كـ: مال الكتابة.
والثاني: يصح؛ لأنه يؤول إلى اللزوم، فهو كالثمن في البيع مدة الخيار.
وأما مال السبق والرمي: فإن كان بعد العمل.. صح أخذ الرهن به، وإن كان قبل العمل، فإن قلنا: إنه كالإجارة.. صح أخذ الرهن به. وإن قلنا: إنه كالجعالة.. فعلى الوجهين في مال الجعالة.
وأما العمل في الإجارة: فهل يصح أخذ الرهن به؟ ينظر فيه:
فإن كانت الإجارة على عمل الأجير بنفسه.. لم يصح أخذ الرهن به؛ لأنه لا يمكن استيفاء عمله من الرهن.
وإن كانت الإجارة على تحصيل عمل في ذمته.. صح أخذ الرهن به؛ لأنه يمكن استيفاء العمل من الرهن، بأن يباع الرهن، ويستأجر بثمنه منه من يعمل.

(6/11)


[فرع: لا يؤخذ الرهن على الأعيان المضمونة]
ولا يصح أخذ الرهن بالثمن، والأجرة، والصداق، وعوض الخلع، إذا كان معينا، ولا بالعين المغصوبة، ولا المعارة، ولا بالعين المأخوذة على وجه السوم.
وقال أبو حنيفة: (كل عين كانت مضمونة بنفسها.. جاز أخذ الرهن بها) . وأراد بذلك: أن ما كان مضمونا بمثله أو قيمته.. جاز أخذ الرهن به؛ لأن المبيع لا يجوز أخذ الرهن به؛ لأنه مضمون عليه بفساد العقد، ويجوز عنده أخذ الرهن بالمهر، وعوض الخلع؛ لأنه يضمن بمثله أو قيمته.
دليلنا: أن قبل هلاك العين في يده لم يثبت في ذمته دين، فلا يصح أخذ الرهن به، كالمبيع.

[مسألة: عقد الرهن على الدين اللازم]
ويجوز عقد الرهن بعد ثبوت الدين، مثل: أن يقرضه شيئا، أو يسلم إليه في شيء، فيرهنه بذلك؛ لأنه وثيقة بالحق بعد لزومه، فصح، كالشهادة، والضمان.
ويجوز شرط الرهن مع ثبوت الحق، بأن يقول: بعتك هذا بدينار في ذمتك، بشرط أن ترهنني به كذا، أو أقرضتك هذا، بشرط أن ترهنني كذا؛ لأن الحاجة تدعو إلى شرطه في العقد، فإذا شرط هذا الشرط.. لم يجب على المشتري الرهن، أي: لا يجبر عليه، ولكن متى امتنع منه.. ثبت للبائع الخيار في فسخ البيع.
ولا يجوز عقد الرهن قبل ثبوت الحق، مثل: أن يقول: رهنتك هذا على عشرة دراهم تقرضنيها، أو على عشرة أبتاع بها منك.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (يصح) .
دليلنا: أنه وثيقة بحق، فلم يجز أن يتقدم عليها، كالشهادة، بأن يقول: اشهدوا أن له علي ألفا اقترضتها منه عدًّا.

(6/12)


[فرع: لا يؤخذ الرهن قبل معرفة قيمة المأخوذ]
وإن ثقلت السفينة بقوم في البحر، وخافوا الغرق، فقال رجل لغيره: ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه، فإن كان المتاع غير معلوم القيمة.. لم يصح أخذ الرهن به قبل الإلقاء؛ لأنه رهن بدين قبل وجوبه، وهل يصح الضمان به؟ فيه وجهان، حكاهما الصيمري.
وإن عرف قدر المتاع وقيمته ... ففيه ثلاثة أوجه، حكاها الصيمري:
أحدها: لا يصح الرهن به ولا الضمان. وهذا هو المشهور؛ لأن القيمة لا تجب قبل الإلقاء.
والثاني: يصحان.
والثالث: يصح الضمان، ولا يصح الرهن.
وأما إذا ألقاه في البحر: وجبت القيمة في ذمة المستدعي، ويصح أخذ الرهن به والضمان؛ لأنه دين واجب.

[مسألة: الرهن عقد غير لازم]
ولا يلزم الرهن من جهة المرتهن بحال، بل متى شاء.. فسخه؛ لأنه عقد لحظه، فجاز له إسقاطه متى شاء، كالإبراء من الدين.
فأما من جهة الراهن: فلا يلزم قبل القبض، سواء كان مشروطا في عقد أو غير مشروط، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (يلزم من جهة الراهن بالإيجاب والقبول، فمتى رهن شيئا.. أجبر على إقباضه) . وكذلك قال في الهبة.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] [البقرة: 283]

(6/13)


فوصف الرهن بالقبض، فدل على أنه لا يكون رهنا إلا بالقبض، كما أنه وصف الرقبة المعتقة بالإيمان. ثم لا يصح عن الكفارة إلا عتق رقبة مؤمنة، ولأنه عقد إرفاق من شرطه القبول، فكان من شرطه القبض، كالقرض.
فقولنا: (عقد إرفاق) احتراز من البيع، فإنه عقد معاوضة.
وقولنا: (من شرطه القبول) احتراز من الوقف.
إذا ثبت هذا: فالعقود على ثلاثة أضرب:
ضرب لازم من الطرفين، كالبيع، والحوالة، والإجارة، والنكاح، والخلع.
وضرب جائز من الطرفين، كالوكالة، والشركة، والمضاربة، والرهن قبل القبض.
وضرب لازم من أحد الطرفين جائز من الآخر، كالرهن بعد القبض، والضمان، والكتابة.

[فرع: الإذن في قبض المرهون به]
وإن عقد الرهن على عين في يد الراهن.. لم يجز للمرتهن قبضها إلى بإذن الراهن؛ لأن للراهن أن يفسخ الرهن قبل القبض، فلم يجز للمرتهن إسقاط حقه من ذلك بغير إذنه. فإن كانت العين المرهونة في يد المرتهن وديعة أو عارية.. فإن الرهن يصح؛ لأنه إذا صح عقد الرهن على ما في يد الراهن.. فلأن يصح على ما في يد المرتهن للراهن أولى.
أما القبض فيها: فنص الشافعي هاهنا: (أنها تصير مقبوضة عن الرهن إذا أذن الراهن في قبضها، ومضت مدة يمكنه فيها أن يقبض) . وقال في كتاب (الإقرار والمواهب) : (إذا وهب له عينا في يد الموهوب له، فقبلها تمت الهبة، ولم يعتبر الإذن في القبض) .
واختلف أصحابنا فيها على ثلاث طرق:
[أحدها] : من قال: لا يلزم واحد منهما إلا بالقبض، ولا يصح قبضهما إلا

(6/14)


بالإذن. وما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في (الهبة) فأراد: إذا أذن وأضمر ذلك، وصرح به في الرهن.
و [ثانيها] : منهم من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى، وخرجهما على قولين:
أحدهما: لا يفتقر واحد منهما إلى الإذن؛ لأن إقراره له بيده بعد عقد الرهن والهبة، بمنزلة الإذن بالقبض، ولأنه لما لم يفتقر إلى نقل مستأنف.. لم يفتقر إلى إذن.
والثاني: يفتقر إلى الإذن فيهما. قال الشيخ أبو إسحاق: وهو الصحيح؛ لأنه قبض يلزم به عقد غير لازم، فلم يحصل إلا بالإذن، كما لو كانت العين في يد الراهن.
و [الطريق الثالث] : منهم من حمل المسألتين على ظاهرهما، فقال في الهبة: لا تفتقر إلى الإذن بالقبض فيها. وفي الرهن: لا بد من الإذن بالقبض فيه؛ لأن الهبة عقد قوي يزيل الملك، فلم تفتقر إلى الإذن فيها، والرهن عقد ضعيف لا يزيل الملك، فافتقر إلى الإذن بالقبض فيه.
إذا ثبت هذا: فرهنه ما عنده.. فإنه لا يحتاج إلى أن ينقله، بلا خلاف على المذهب، وهل يحتاج إلى الإذن بالقبض؟ على الطرق المذكورة.
وسواء قلنا: يفتقر إلى الإذن بالقبض، أو لا يفتقر إلى الإذن، فلا بد من مضي مدة يتأتى فيها القبض في مثله: إن كان مما ينقل، فبمضي زمان يمكنه نقله. وإن كان مما يخلى بينه وبينه.. فبمضي زمان يمكنه فيه التخلية.
قال الشيخ أبو حامد: وحكي عن حرملة نفسه: أنه قال: لا يحتاج إلى مضي مدة، بل يكفيه العقد والإذن إذا قلنا: إنه شرط، أو العقد لا غير إذا قلنا: إن الإذن ليس بشرط؛ لأن يده ثابتة عليه، فلا معنى لاعتبار زمان ابتداء القبض. وهذا غلط؛ لأن القبض لا يحصل إلا بالفعل أو بالإمكان، ولم يوجد واحد منهما.
قال الشيخ أبو حامد: فعلى هذا: إن كان المرهون معه في المجلس أو بقربه،

(6/15)


وهو يراه أو يعلم به.. فإن القبض فيه هو مضي مدة، لو قبضه فيها.. أمكنه. وإن كان الرهن في صندوق وهو في البيت، ويتحقق كونه فيه.. فقبضه أن تمضي مدة، لو أراد أن يقوم إلى الصندوق ويقبضه.. أمكنه. وإن كان الرهن غائبا عن المجلس، بأن يكون في البيت والمرتهن في المسجد أو السوق.. فنقل المزني عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لا يصير مقبوضا حتى يصير المرتهن إلى منزله، والرهن فيه) .
فقال أبو إسحاق: هذا فيما يزول بنفسه، مثل العبد والبهيمة، وأما ما لا يزول بنفسه، كالثوب، والدار.. فلا يحتاج إلى أن يصير إلى منزله، بل يكفي أن يأتي عليه زمان يمكنه القبض فيه.
قال القاضي أبو الطيب: وقد نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على مثل ذلك في " الأم " [3/125] ؛ لأن ما يزول بنفسه لا يعلم مكانه، فلا يمكن تقدير زمان يمكن فيه القبض، وما لا يزول بنفسه، فالظاهر بقاؤه في مكانه.
وأما الشيخ أبو حامد: فقال: غلط أبو إسحاق، فقد نص الشافعي في " الأم " على: (أنه لا فرق بين الحيوان وغيره) ؛ لأنه يجوز أن يحدث على غير الحيوان التلف من سرقة أو حريق أو غرق، فهو بمنزلة الحيوان.
وحكى في " المهذب ": أن من أصحابنا من قال: إن أخبره ثقة: بأنه باق على صفته، ومضى زمان يتأتى فيه القبض.. صار مقبوضا، كما لو رآه وكيله، ومضى زمان يتأتى فيه القبض. وليس بشيء؛ لأنه يجوز أن يكون قد تلف بعد رؤية الثقة.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -[في " الأم " (3/125) ] : (ولا يكون القبض إلا ما حضره المرتهن، أو وكيله) .
قال أصحابنا: وهذا الكلام يحتمل تأويلين:
أحدهما: أن هذه مسألة مبتدأة، أي: أن القبض لا يحصل في الرهن إلا أن يقبضه المرتهن أو وكيله. فقصد بهذا بيان جواز الوكالة في القبض؛ لأن القبض هو نقله من يد الراهن إلى يد المرتهن، وهذا لا يوجد إلا بحضور المرتهن، أو وكيله. وقد فرع الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على هذا في " الأم " [3/124] : (أن المرتهن لو وكل

(6/16)


الراهن في قبض الرهن له من نفسه.. لم يصح؛ لأنه لا يجوز أن يكون وكيلا لغيره على نفسه في القبض) .
والتأويل الثاني: أن هذا عطف على المسألة المتقدمة، إذا رهنه وديعة عنده غائبة عنه، فلا تكون مقبوضة حتى يرجع المرتهن أو وكيله، ويشاهدها. قالوا: وهذا أشبه؛ لأنه اعتبر مجرد الحضور لا غير، وإنما يكفي ذلك فيما كان عنده. فأما ما كان في يد الراهن: فلا بد من النقل فيه.

[فرع: رهن المغصوب]
وإن غصب عينا، ثم رهنها المغصوب منه عند الغاصب.. صح الرهن، فإذا أذن الراهن للمرتهن في قبض الرهن، ومضت مدة يتأتى فيها القبض.. صار مقبوضا عن الرهن. ولا يزول عن الغاصب ضمان الغصب إلا بأن يسلمه إلى المغصوب منه، أو بأن يبرئه المغصوب منه عن الضمان في أحد الوجهين.
وقال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، والمزني - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى: (يزول ضمان الغصب عن المرتهن) .
دليلنا: أنه لم يتخلل بين الغصب والرهن أكثر من عقد الرهن وقبضه، والرهن لا ينافي الغصب؛ لأنهما قد يجتمعان، بأن يرتهن عينا ويتعدى فيها. فإن ارتهن عارية في يده وأذن له في قبضها عن الرهن.. صح، وكان له الانتفاع بها؛ لأن الرهن لا ينافي ذلك، ويكون ضمان العارية باقيا عليه، فإن منعه المعير من الانتفاع.. فهل يزول عن المستعير الضمان؟ فيه وجهان:
أحدهما: يزول عنه؛ لأنها خرجت عن أن تكون عارية.
والثاني: لا يزول عنه الضمان؛ لأن يده لم تزل.
وإن أودعها المعير عند المستعير، أو المغصوب منه عند الغاصب.. فهل يزول عنه الضمان؟ فيه وجهان:

(6/17)


أحدهما: لا يزول عنه الضمان، لبقاء يده.
والثاني: يزول؛ لأن الإيداع ينافي الغصب والعارية.

[فرع: كيفية القبض]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والقبض في العبد والثوب وما يحول: أن يأخذه مرتهنه من يد راهنه، وقبض ما لا يحول من أرض أو دار: أن يسلمه بلا حائل) . وهذا كما قال: القبض في الرهن كالقبض في البيع. فإذا رهنه ما ينقل، مثل: الدراهم، والدنانير، والثياب.. فقبضها أن يتناولها، وينقلها من مكان إلى مكان.
وكذلك: إذا رهنه عبدا أو بهيمة.. فقبض العبد أن يأخذه بيده، وينقله من مكان إلى مكان، وفي البهيمة أن يقودها أو يسوقها من مكان إلى مكان. وإن رهنه صبرة جزافا.. فقبضها أن ينقلها من مكان إلى مكان، وإن رهنه مكيلا من صبرة فقبضه بالكيل. وإن رهنه ما لا ينقل، كالأرض، والدار، والدكان.. فالقبض فيها أن يزيل الراهن يده عنها، بأن يخرج منها، ويسلمها إلى المرتهن، ولا حائل بينه وبينها. فإن رهنه دارا، فخلى بينه وبينها وهما فيها، ثم خرج الراهن.. صح القبض.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح حتى يخلي بينه وبينها بعد خروجه منها؛ لأنه إذا كان في الدار.. فيده عليها، فلا تصح التخلية) . وهذا ليس بصحيح؛ لأن التخلية تحصل بقوله، وبرفع يده عنها، ألا ترى أن بخروجه من الدار لا تزول يده عنها، وبدخوله إلى دار غيره لا تثبت يده عليها؟ ولأنه بخروجه عنها محقق لقوله، فلا معنى لإعادة التخلية. هكذا ذكره ابن الصباغ.
قال: وإن خلى بينه وبين الدار، وفيها قماش للراهن.. صح التسليم في الدار. وقال أبو حنيفة: (لا يصح التسليم في الدار؛ لأنها مشغولة بملك الراهن) . وكذلك يقول: (إذا رهنه دابة عليها حمل للراهن، وسلم الجميع إليه.. لم يصح قبض الدابة، ولو رهنه الحمل دون الدابة، أو معها، وسلمها إليه.. صح القبض) .
وكذلك يقول في قماش الدار. وهذا ليس بصحيح؛ لأن كل ما كان قبضا في البيع..

(6/18)


كان قبضا في الرهن، كالحمل، وقد قال: (إذا رهنه سرج دابة ولجامها، وسلمها بذلك.. لم يصح القبض فيه؛ لأنه تابع للدابة) . وهذا ينقض ما ذكره في الحمل.
وقوله: (إنه تابع) فيبطل به إذا باع الدابة.. فإن السرج لا يدخل فيه، وعلى أن الدابة في يده، وكذلك ما تبعها.

[فرع: جوازالتوكيل في قبض الرهن]
فرع: [جواز التوكيل في قبض الرهن] :
قال الصيمري: ولو قال الراهن للمرتهن: وكل عني رجلا ليقبضك أو ليقبض وكيلك عني.. جاز. ولو أمر الراهن وكيله ليقبض المرتهن، فأقبض وكيله.. جاز.

[فرع: الإقرار بقبض الرهن]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والإقرار بقبض الرهن جائز، إلا فيما لا يمكن في مثله) . وهذا كما قال: إذا أقر الراهن بالإقباض إقرارا مطلقا، وصدقه المرتهن على ذلك.. حكم بصحة ذلك؛ لأنه يمكن صدقهما، وإن علقا ذلك بزمان لا يمكن صدقهما فيه، مثل: أن يقرا بأنهما تراهنا دارا ببغداد، وتقابضاها اليوم وهما بمكة.. فإن هذا لا يمكن ولا يثبت، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا أقر الرجل أن زوجته أمه من الرضاع أو ابنته، فإن كان سنه مثل سنها.. لم يقبل، ولم ينفسخ النكاح، وإن أمكن صدقه.. قبل، وحكم بانفساخ النكاح) .
فإن عقد على عين رهنا وإجارة، ثم أذن له في قبضها عنهما، أو عن الرهن، فقبضها صارت مقبوضة عنهما؛ لأن الإجارة لا تفتقر إلى الإذن بالقبض، والرهن يفتقر. وإن أذن له في قبضها عن الإجارة.. صارت مقبوضة عن الإجارة دون الرهن؛ لأنه لم يأذن له في القبض عن الرهن.

(6/19)


[مسألة: رجوع الراهن عن الإذن قبل القبض]
وإن رهنه عينا، وأذن له بقبضها، فقبل أن يقبضها المرتهن رجع الراهن عن الإذن.. لم يكن للمرتهن قبضها؛ لأنه إنما يقبضها بإذن الراهن، وقد بطل إذنه برجوعه. وإن رهنه شيئا، ثم جن الراهن، أو أغمي عليه، أو أفلس، أو حجر عليه.. لم يصح إقباض الراهن، ولا يكون للمرتهن قبضه؛ لأنه لا يصح قبضه إلا بإذن الراهن، وقد خرج عن أن يكون من أهل الإذن.
وكذلك: إذا أذن له في القبض، فقبل أن يقبض طرأ على الراهن الجنون، أو الإغماء، أو الحجر.. بطل إذنه لذلك، ولا يبطل الرهن بذلك.
وقال أبو إسحاق: يبطل الرهن بذلك؛ لأن الرهن قبل القبض من العقود الجائزة، فيبطل بهذه الأشياء، كالوكالة والشركة. والمذهب الأول؛ لأن الرهن يؤول إلى اللزوم، فهو كالبيع بشرط الخيار. وقيل: إن أبا إسحاق رجع عن هذا.
إذا ثبت ما ذكرناه: فإن الولي عن المجنون والمغمى عليه ينظر:
فإن كان الحظ بإقباض الرهن، مثل: أن يكون شرطاه في بيع يستضر بفسخه أو ما أشبه ذلك.. أقبضه عنهما.
وإن كان الحظ في تركه.. لم يقبضه.
وإن كان للمحجور عليه غرماء غير المرتهن.. قال ابن الصباغ: لم يجز للحاكم تسليم الرهن إلى من رهنه عنده قبل الحجر؛ لأنه ليس له أن يبتدئ عقد الرهن في هذه الحالة، فكذلك تسليم الرهن.

(6/20)


[فرع: تصرف الراهن قبل الإقباض يبطله]
] : وإن رهن عند غيره رهنا، ثم تصرف فيه الراهن قبل القبض.. نظرت:
فإن باعه، أو أصدقه، أو جعله عوضا في خلع، أو وهبه وأقبضه، أو رهنه وأقبضه، أو كان عبدا فأعتقه، أو كاتبه.. بطل الرهن؛ لأنه يملك فسخ الرهن قبل القبض، فجعلت هذه التصرفات اختيارا منه للفسخ، وإن كانت أمة فزوجها، أو عبدا فزوجه.. لم يبطل الرهن؛ لأن التزويج لا ينافي الرهن. ولهذا يصح رهن الأمة المزوجة والعبد المزوج.
وإن أجر الرهن، فإن قلنا: يجوز بيع المستأجر.. لم ينفسخ الرهن بالإجارة، وإن قلنا: لا يجوز بيع المستأجر، فإن كانت مدة الإجارة تنقضي قبل حلول الدين لم ينفسخ الرهن، وإن كان الدين يحل قبل انقضاء مدة الإجارة.. انفسخ الرهن بها.
وإن دبر الراهن العبد المرهون.. فالمنصوص: (أن الرهن ينفسخ) .
قال الربيع: وفيه قول آخر: (أنه لا ينفسخ) ؛ لأن تدبيره لا يمنع من بيعه. والأول أصح؛ لأن موجب التدبير هو العتق، وهو ينافي الرهن.
قال أصحابنا: وما حكاه الربيع.. فهو من تخريجه. وأما إذا رهنه الراهن من آخر ولم يقبضه، أو وهبه ولم يقبضه.. كان ذلك إبطالا للرهن الأول، على المشهور من المذهب؛ لأن موجبه ينافي الرهن وعلى تخريج الربيع لا يكون رجوعا في الرهن.

[فرع: استدامة القبض]
استدامة القبض في الرهن ليس بشرط في الرهن.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (استدامة القبض شرط فيه) .

(6/21)


دليلنا: أنه عقد يعتبر فيه القبض، فلم تكن استدامته شرطا، كالهبة مع أبي حنيفة، والقرض مع مالك رحمة الله عليهما.

[فرع: خرس الراهن]
إذا رهن شيئا ثم خرس الراهن قبل الإذن بالقبض، فإن كانت له إشارة مفهومة، وأذن بالقبض بالإشارة.. جاز للمرتهن قبضه؛ لأن إشارته كعبارة الناطق، وإن لم تكن له إشارة مفهومة.. لم يكن للمرتهن قبض الرهن؛ لعدم الإذن من الراهن.
وإن رهنه وأذن له بالقبض، ثم خرس الراهن قبل القبض.. قال ابن الصباغ: فينبغي أن ينظر:
فإن كانت للراهن إشارة مفهومة أو كتابة.. لم يبطل إذنه.
وإن لم يكن له شيء من ذلك.. بطل إذنه، كالمغمى عليه والمجنون.

[مسألة: موت أحد المتراهنين]
وإن عقد الرهن، ثم مات أحد المتراهنين قبل القبض.. فقد نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أن الرهن لا ينفسخ بموت المرتهن، بل الراهن بالخيار: بين أن يقبض ورثة المرتهن، أولا يقبضهم) .
وحكى الداركي: أن الشافعي قال في موضع آخر: (إن الرهن ينفسخ بموت الراهن قبل التسليم) . واختلف أصحابنا في المسألة على ثلاثة طرق:
فـ[الطريق الأول] : منهم من نقل جوابه في كل واحدةٍ منهما إلى الأخرى، وخرجهما على قولين:
أحدهما: ينفسخ بموت أحدهما؛ لأنه عقد جائز، فبطل بالموت، كالوكالة والشركة.
والثاني: لا ينفسخ بموت واحدٍ منهما؛ لأنه عقد يؤول إلى اللزوم، فلم ينفسخ بالموت، كالبيع بشرط الخيار.

(6/22)


و [الطريق الثاني] : منهم من قال: ينفسخ بموت الراهن، ولا ينفسخ بموت المرتهن؛ لأن بموت المرتهن لا يحل الدين المؤجل عليه، وبموت الراهن يحل الدين المؤجل عليه، فإن كان عليه دين غير دين المرتهن.. كان للمرتهن أسوة الغرماء، ولا يجوز للورثة تخصيص المرتهن بالرهن، وإن لم يكن عليه دين غير المرهون به.. فقد تعلق الدين بجميع التركة، فلا وجه لتسليم الرهن به، وليس كذلك المرتهن، فإن ماله من الدين لا يحل بموته، فالحاجة باقية إلى الاستيثاق بالرهن.
و [الطريق الثالث] : من أصحابنا من قال: لا يبطل الرهن بموت واحد منهما، قولا واحدا؛ لأن الرهن إذا لم ينفسخ بموت المرتهن، والعقد لا يلزم من جهته بحال.. فلأن لا يبطل بموت الراهن ـ والعقد قد لزم من جهته بعد القبض ـ أولى.
وأنكر الشيخ أبو حامد ما حكاه الداركي، وقال: بل كلام الشافعي يدل على: أن الرهن لا ينفسخ بموت الراهن؛ لأنه قال في " الأم ": (وإذا رهن عند رجل شيئا، ثم مات الراهن قبل أن يقبض الرهن، فإن كان عليه دين.. كان له أسوة الغرماء، وإن لم يكن عليه دين.. فوارثه بالخيار: بين أن يقبض الرهن المرتهن، أو يمنعه) .
وإن مات أحدهما بعد القبض.. لم ينفسخ الرهن بلا خلاف، ويقوم وارث كل واحد منهما مقامه؛ لأن الرهن لازم من جهة الراهن، والعقد اللازم لا يبطل بالموت، كالبيع والإجارة.

[مسألة: امتناع الراهن من الإقباض]
إذا امتنع الراهن من الإقباض، أو انفسخ عقد الرهن قبل القبض.. نظرت:
فإن كان الرهن غير مشروط في العقد.. بقي الدين بغير رهن، ولا خيار للمرتهن.
وإن كان الرهن مشروطا في بيع.. ثبت للبائع الخيار: بين فسخ البيع، وبين إمضائه؛ لأنه دخل في البيع بشرط الوثيقة، ولم تسلم له الوثيقة، فثبت له الخيار.

(6/23)


[مسألة: لزوم الرهن بالإقباض]
وإذا أقبض الراهن الرهن.. لزم من جهته، فلا يملك فسخه.
قال ابن الصباغ: وهو إجماع لا خلاف فيه، ولأنه يراد للوثيقة، فلو جاز له الفسخ.. لم يحصل بذلك وثيقة، وإذا قبض الرهن.. فإنه يكون وثيقة بالدين، وبكل جزء منه. فإذا رهنه عبدين بألف، وقبضهما المرتهن، ثم تلف أحدهما.. كان الباقي رهنا بجميع الألف، وبه قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما روي عنه في الأصول.
وروي عنه في " الزيادات ": (أن الدين يتقسط على الرهن) .
دليلنا: أنه مال محبوس بحق، فوجب أن يكون محبوسا بالحق، وبكل جزء منه، كما لو مات وخلف تركة ودينا عليه.. فإن التركة محبوسة بالدين، وبكل جزء منه، ولأن وثيقة بحق، فكان وثيقة بالحق، وبكل جزء منه، كالشهادة، والضمان.
فإذا قضى الراهن الدين، أو أبرأه منه المرتهن، والرهن في يد المرتهن.. بقي في يده أمانة.
وقال أبو حنيفة: (إن قضاه الراهن.. كان الرهن مضمونا على المرتهن، وإن أبرأه المرتهن، أو وهبه، ثم تلف الرهن في يده.. لم يضمنه استحسانا؛ لأن البراءة والرهن لا تقتضي الضمان) . وهذا مناقضة منه؛ لأن القبض المضمون عنده لم يزل، ولم يبرئه منه.

(6/24)


[فرع: أسلم بطعام وأخذ رهنا]
وإن أسلم في طعام، فأخذ به رهنا، ثم تقايلا عقد السلم.. برئ المسلم إليه من الطعام، ووجب عليه رد رأس مال المسلم، وبطل الرهن؛ لأن الدين الذي ارتهن به قد سقط، ولا يكون له حبس الرهن، إلا أنه يأخذ رأس المال؛ لأنه لم يرهنه به.
وإن اقترض منه ألفا، ورهنه بها رهنا، ثم أخذ المقرض بالألف عينا.. سقطت الألف عن ذمة المقترض، وبطل الرهن، فإن تلفت العين في يد المقترض قبل أن يقبضها المقرض.. انفسخ القضاء، وعاد القرض والرهن؛ لأنه متعلق به، وقد عاد.
قال الشيخ أبو حامد: وإن باع من رجل كر طعام بألف درهم إلى أجل، وأخذ بالثمن رهنا، فإذا حل الأجل، أو كان حالا.. فللبائع أن يأخذ منه بدل الثمن دنانير، فإذا أخذها.. انفسخ الرهن، وإن تفرقا قبل القبض.. بطل القضاء، وعاد الثمن إلى ذمة المشتري، ويعود الرهن؛ لأن الرهن من حق ذلك الثمن، فسقط بسقوطه، فإذا عاد الثمن.. عاد بحقه.
وإن ابتاع منه مائة دينار بألف درهم في ذمته، ودفع عن الدراهم رهنا.. صح، فإن تقابضا في المجلس.. صح الصرف، وانفك الرهن، وإن تفرقا من غير قبض.. بطل الصرف والرهن.

(6/25)


[فرع: لرهن من اثنين]
فرع: [الرهن من اثنين] :
وإن كان لرجل على رجلين دين، فرهناه ملكا بينهما مشاعا.. جاز، كما لو باعا ذلك منه، فإذا قضاه أحدهما ما عليه له، أو أبرأ المرتهن أحدهما.. انفك نصف الرهن؛ لأن الصفقة إذا حصل في أحد شطريها عاقدان.. فهما عقدان، فلا يقف الفكاك في أحدهما على الفكاك في الآخر، فإن طلب من انفك نصيبه القسمة.. نظرت:
فإن كان الرهن مما لا تتساوى أجزاؤه، كالثياب، والحيوان، أو كانا دارين، فأراد من انفك نصيبه أن يجعل كل دار بينهما.. لم يجز ذلك من غير إذن المرتهن؛ لأن ذلك مناقلة، والرهن يمنع من ذلك.
وإن كان الرهن مما تتساوى أجزاؤه، كالطعام.. فله المطالبة بقسمته؛ لأنه لا ضرر على المرتهن بذلك، وهكذا: إذا كانت الأرض متساوية الأجزاء.. فهي كالطعام.
وإن كان الرهن مما تنقص قيمته بالقسمة، كالحجرة الواحدة إذا أراد قسمتها نصفين.. فهل للمرتهن أن يمتنع؟ فيه وجهان:
أحدهما: له أن يمتنع؛ لأن الضرر يدخل عليه بذلك.
والثاني: ليس له أن يمتنع؛ لأن المرتهن عنده النصف، فلا يملك الاعتراض على المالك فيما لا حق له فيه. هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 262] : إن قلنا: إن القسمة فرز النصيبين.. جازت القسمة، وإن قلنا: إنها بيع.. لم تجز.
وإن رهن رجل ملكا له عند رجلين بدين لهما عليه، فقضى أحدهما دينه، أو أبرأه أحدهما عن دينه.. انفك نصف الرهن؛ لأن في أحد شطري الصفقة عاقدين، فهما كالعقدين، والحكم في القسمة ما مضى.

(6/26)


[مسألة: العيب في الرهن]
وإذا قبض المرتهن الرهن، ثم وجد به عيبا كان موجودا في يد الراهن.. نظرت:
فإن كان الرهن غير مشروط في عقد البيع.. فلا خيار للمرتهن في فسخ البيع؛ لأن الراهن متطوع بالرهن.
وإن كان الرهن مشروطا في عقد البيع.. ثبت للبائع الخيار في فسخ البيع؛ لأنه لم يسلم له الشرط.
وإن لم يعلم بالعيب حتى هلك الرهن عنده، أو حدث عنده به عيب.. لم يثبت له الخيار؛ لأنه لا يمكنه رد الرهن كما أخذ، ولا يثبت له أرش العيب، كما يثبت للمشتري أرش العيب، والفرق بينهما: أن المبيع يجبر البائع على إقباضه، فأجبر على دفع الأرش، والراهن لا يجبر على إقباض الرهن، فلم يجبر على دفع الأرش، ولأن المبيع لو تلف جميعه في يد البائع قبل التسليم.. لوجب عليه ضمانه بالثمن، وهاهنا لو تلف الرهن في يد الراهن قبل التسليم.. لم يجب عليه بدله، فلم يجب عليه بدل جزء منه، ولأنا لو قلنا: لا أرش للمشتري.. لأسقطنا حقه، وهاهنا لا يسقط حق المرتهن؛ لأن حقه في ذمة الراهن.
قال الشيخ أبو حامد: فلو باعه شيئا بشرط أن يرهنه عبدين، فرهنهما عنده، وأقبضه أحدهما دون الآخر، وتلف عند المرتهن، وامتنع الراهن من إقباض الثاني، أو تلف في يد الراهن.. لم يكن للمرتهن الخيار في فسخ البيع؛ لأنه لا يمكن رد العبد الذي قبض، فيمضي البيع بلا رهن.
وبالله التوفيق

(6/27)


[باب ما يجوز رهنه وما لا يجوز]
كل ما لا يجوز بيعه، كالكلب، والخنزير، وما أشبههما.. لا يجوز رهنه؛ لأن الرهن يراد ليستوفى الحق من ثمنه، وهذا لا يوجد فيما لا يجوز بيعه.

[مسألة: رهن شيء رطب يقبل التجفيف]
وإن رهنه شيئا رطبا يسرع إليه الفساد، فإن كان مما يمكن تجفيفه كالرطب والعنب.. صح رهنه، ووجب على الراهن مؤنة تجفيفه، كما يجب عليه مؤنة حفظه، وعلف الحيوان، وإن كان مما لا يمكن تجفيفه، كالبقل، والبطيخ، والهريس.. نظرت:
فإن رهنه بحق حال، أو بمؤجل يحل قبل فساده.. صح الرهن؛ لأنه يمكن استيفاء الحق من ثمنه.
وإن رهنه بدين مؤجل يفسد قبل حلول الدين.. نظرت:
فإن شرط المرتهن على الراهن بيع الرهن عند خوف الفساد؛ ليكون ثمنه رهنا.. صح الرهن؛ لأن الغرض يحصل بذلك.
وإن شرط الراهن أن لا يباع إلا بعد حلول الحق.. لم يصح الرهن؛ لأنه يتلف، ولا يحصل المقصود، وإن أطلقا ذلك.. ففيه قولان:
أحدهما: يصح الرهن، فإذا خيف عليه الفساد.. بيع، وجعل ثمنه رهنا؛ لأن العقد يبنى على عرف الناس، وفي عرفهم: أن المالك لا يترك من ماله ما يخاف عليه الفساد ليفسد.
والثاني: لا يصح الرهن، وهو الصحيح؛ لأنه لا يمكن إجبار الراهن على إزالة ملكه قبل حلول الدين، فإذا كان كذلك.. فلا يمكن استيفاء الحق من ثمنه، فلم يصح رهنه، كأم الولد.

(6/28)


[مسألة: رهن العبد المعلق عتقه على صفة]
وإن علق عتق عبده على صفة، ثم رهنه.. ففيه ثلاث مسائل:
الأولى: إذا قال: إذا جاء رأس الشهر.. فأنت حر، ثم رهنه بحق حال، أو بمؤجل يحل قبل مجيء رأس الشهر.. فيصح الرهن، قولا واحدا؛ لأنه يمكن استيفاء الحق من ثمنه.
الثانية: أن يرهنه بحق مؤجل توجد الصفة قبله، فقد قال عامة أصحابنا: لا يصح، قولا واحدا.
وقال أبو علي الطبري: فيه قولان، كرهن ما يسرع إليه الفساد. والصحيح هو الأول؛ لأن الطعام الرطب، الظاهر من جهة الراهن بيعه إذا خيف عليه الفساد وجعل ثمنه رهنا، والظاهر ممن علق عتق عبده على صفة: أنه أراد إيقاع العتق بذلك.
الثالثة: إذا علق عتقه على صفة يجوز أن توجد قبل حلول الدين، ويجوز أن يحل الدين قبلها، بأن يقول: إذا قدم زيد.. فأنت حر. أو إذا دخلت الدار، أو كلمت زيدا.. فأنت حر.. فهل يصح رهنه هاهنا بعد ذلك؟ فيه قولان:
أحدهما: يصح الرهن؛ لأن وقوع العتق قبل محل الدين مشكوك فيه.
والثاني: لا يصح؛ لأن الصفة قد توجد قبل محل الدين، فيبطل الرهن، وذلك غرر من غير حاجة، فلم يجز. هذا قول عامة أصحابنا.
وقال أبو علي في " الإفصاح ": لا يصح رهنه، قولا واحدا، لأنه عقد الرهن على غرر.

[مسألة: رهن عبده بعد تدبيره]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو دبره، ثم رهنه.. كان الرهن مفسوخا) .
وجملة ذلك: أنه إذا قال لعبده: إذا مت.. فأنت حر، ثم رهنه بعد ذلك.. فاختلف أصحابنا في صحة الرهن على ثلاث طرق:

(6/29)


فـ[أحدها] : منهم من قال: إن قلنا: إن التدبير وصية.. صح الرهن، وبطل التدبير؛ لأن الوصية يجوز الرجوع فيها بالقول، فجعل الرهن رجوعا. وإن قلنا: إن التدبير عتق بصفة.. لم يصح الرهن؛ لأنه لا يصح الرجوع فيه إلا بتصرف يزيل الملك.
قال: وقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (كان الرهن مفسوخا) أراد على هذا القول.
و [الثاني] : منهم من قال: لا يصح الرهن، قولا واحدا، وعليه يدل ظاهر قوله في " الأم " [3/140] ؛ لأنه قال: (إذا دبر عبده، ثم رهنه.. كان الرهن مفسوخا. ولو قال: كنت رجعت عن التدبير قبل الرهن.. فهل يصح الرهن؟ فيه قولان) .
وهذا نص في أنه لا يصح الرهن قبل الرجوع، قولا واحدا، ولأنا وإن قلنا: إن التدبير وصية، إلا أنه أقوى من الوصية، بدليل: أنه يتنجز بالموت من غير قبول، بخلاف الوصية.
و [الثالث] : منهم من قال: يصح الرهن، قولا واحدا، ولا يبطل التدبير؛ لأن الشافعي قال: (كل ما جاز بيعه.. جاز رهنه) . والمدبر يجوز بيعه، قولا واحدا، فكذلك رهنه.
قال ابن الصباغ: والطريقة الأولى أصح، والثانية ظاهر كلامه، والثالثة مخالفة للنص والقياس.
فإذا قلنا بالطريقة الأولى، وأن الرهن يصح إذا قلنا: إن التدبير وصية.. فإن التدبير يبطل، وهو اختيار المزني. فإن قضى الحق من غيره.. فلا كلام، ولم يعتق العبد بالموت إلا بتدبير ثان أو عتق، وإن لم يقضه من غيره.. بيع العبد في الدين.
وإن قلنا بالطريقة الثانية، وأن الرهن لا يصح.. فالعبد على تدبيره.
وإن قلنا بالطريقة الثالثة، وأن الرهن صحيح، والتدبير صحيح ... نظرت:
فإن حل الحق، وقضى الحق من غير الرهن.. بقي العبد على تدبيره.
وإن لم يقضه من غيره.. قيل له: أترجع في التدبير؟ فإن اختار الرجوع فيه

(6/30)


ورجع.. بيع العبد في الدين، وإن لم يختر الرجوع فيه، فإن كان له مال غير العبد.. أجبر على قضاء الدين منه، وبقي العبد على التدبير، وإن لم يكن له مال غيره.. ففيه وجهان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: يحكم بفساد الرهن؛ لأنا إنما صححنا الرهن رجاء أن يرجع في التدبير، فيباع. وتأول هذا القائل قول الشافعي: (كان الرهن مفسوخا) على هذا الموضع.
و [الثاني] : منهم من قال: يباع في الدين، وهو الصحيح؛ لأنا إذا حكمنا بصحة الرهن.. لم يتعقبه الفساد بامتناع الراهن، ومن حكم الرهن أن يباع في الدين.

[فرع: رهن العبد ثم دبره]
وإن رهن عبده، ثم دبره، فإن دبره قبل أن يقبضه.. كان فسخا للرهن، على المنصوص، وعلى تخريج الربيع لا يكون فسخا، وقد مضى ذكره.
وإن أقبضه، ثم دبره.. قال الشافعي: (أوقفت التدبير، فإن حل الحق، وقضى الدين من غير الرهن.. خرج العبد من الرهن، وكان مدبرا. وإن لم يقضه من غيره، فإن باعه.. صح، وبطل التدبير. وإن لم يختر الرجوع في التدبير، فإن كان له مال غيره.. أجبر على قضائه منه، وبقي العبد على التدبير. وإن لم يكن له مال غير العبد.. بيع في الدين، وبطل التدبير. وإن مات الراهن قبل قضاء الدين.. فقد حل الدين بموته، فإن خلف تركة تفي بالدين غير العبد.. قضي الدين منها، وعتق العبد من ثلث ما يبقى. وإن لم يكن له مال غيره، فإن كان الدين يستغرق قيمة العبد.. بيع العبد في الدين، وإن كانت قيمته أكثر من الدين.. بيع منه بقدر الدين، وعتق ثلث ما يبقى منه بالتدبير، وإن أجاز الورثة عتق باقيه.. نفذ) .

(6/31)


[مسألة: رهن قسط من مشاع]
وما صح رهنه.. صح رهن جزء منه مشاعا، سواء كان مما ينقسم، كالدور والأرضين، أو مما لا ينقسم، كالجواهر، وسواء رهنه من شريكه أو من غيره، وبه قال مالك، والأوزاعي، وابن أبي ليلى، وعثمان البتي.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح رهن المشاع من غير شريكه) . وفي رهنه من شريكه روايتان، وإن طرأت الإشاعة على الرهن، بأن يبيع بعضه بإذن المرتهن.. فهل يبطل الرهن؟ فيه روايتان عنه.
دليلنا: أن المشاع يصح بيعه، فصح رهنه، كالمفرد، ولأن كل من جاز له أن يرتهن المفرد.. جاز له أن يرتهن المشاع. أصله إذا ارتهن رجلان من رجل شيئا؛ لأن الرهن مشاع بين المرتهنين.
وإن كان بين رجلين دار فيها بيوت، فرهن أحدهما نصيبه من بيت، من غير شريكه، فإن كان بإذن شريكه.. صح الرهن، وإن كان بغير إذنه.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح، كما يصح بيعه.
والثاني: لا يصح؛ لأن في ذلك ضررا على شريكه؛ لأنهما قد يقتسمان، فيقع هذا البيت في حق شريكه، فيكون قد رهن ملك غيره بغير إذنه، بخلاف البيع، فإنه إذا باعه.. زال ملكه فيه، ولا يملك المقاسمة على ما باع.
إذا ثبت هذا: ورهن شقصا مشاعا في عين بينه وبين غيره، فإن كان مما لا ينقل.. فإن الراهن يخلي بينه وبين المرتهن، سواء حضر الشريك أو لم يحضر. وإن كان مما ينقل، كالجواهر، والعبيد، وما أشبههما.. فإن القبض لا يحصل فيها إلا بالنقل، ولا يمكنه تناولها إلا بإذن الشريك، فإن رضي الشريك.. تناولها، وإن امتنع، فإن رضي المرتهن أن تكون في يد الشريك.. جاز، وناب عنه في القبض. وإن تنازعا.. فإن الحاكم ينصب عدلا يكون في يده لهما، وإن كان مما له منفعة.. أجره عليهما.

(6/32)


[مسألة: لا يرهن إلا ما يملك]
ولا يجوز رهن مال الغير من غير إذنه؛ لأنه لا يقدر على تسليمه، فهو كما لو رهنه سمكة في البحر. وإن كان في يده مال لمن يرثه، فباعه، أو رهنه قبل أن يعلم بموته، ثم بان أنه كان قد مات قبل البيع والرهن.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو المنصوص ـ: (أنه لا يصح) ؛ لأنه باع ورهن ما لا يعتقده ملكه، فكان متلاعبا في ذلك.. فلم يصح.
والثاني: يصح؛ لأنه بان أنه ملكه.
وهكذا: لو وكل رجلا يشتري له عبدا بعينه، فباعه الموكل، أو رهنه قبل أن يعلم بالشراء، أو قال: بعتك هذا العبد إن كان لي، فبان أنه كان له، أو كان له مال في صندوق، وكان قد رآه المرتهن، فرهنه، أو باعه وهو لا يتحقق كونه فيه، ثم بان أنه كان فيه.. قال الشيخ أبو حامد: فعلى هذين الوجهين: المنصوص: (أنه لا يصح) .

[فرع: رهن منفعة كسكنى دار]
وإن رهنه سكنى دار.. لم يصح؛ لأن الدين إن كان مؤجلا.. فالمنافع تتلف إلى وقت الحلول، وإن كان الدين حالا.. لم يحصل الاستيثاق؛ لأنه كلما مضى جزء.. فات، والرهن لا يلزم إلا بالقبض، والقبض لا يمكن في السكنى إلا بإتلافه، فكأنه رهنه ما لا يمكنه إقباضه. فإن قال: أردت به: إن أجرتها تكون الأجرة رهنا.. لم يصح أيضا؛ لأنه لا يدري بكم يؤاجرها، فكان باطلا.

[مسألة: رهن المشتري قبل القبض]
] : وإن اشترى عينا، فرهنها قبل أن يقبضها، فإن كان قبل أن يدفع الثمن.. لم يصح الرهن؛ لأنها مرهونة بالثمن، وكذلك إن رهنها بثمنها.. لم يصح؛ لأنها قد صارت مرهونة به، وإن نقد الثمن، ثم رهنها.. ففيه وجهان:

(6/33)


أحدهما: لا يصح؛ لأن عقد الرهن يفتقر إلى القبض، فلم يصح في المبيع قبل القبض، كما لو باعه، وفيه احتراز من العتق والتزويج.
والثاني: يصح، وهو الصحيح؛ لأن الرهن لا يقتضي الضمان على المرتهن، فصح فيما لم يدخل في ضمانه، بخلاف البيع.

[مسألة: بيع الدين ورهنه]
وفي بيع الدين المستقر، وهبته، ورهنه من غير من هو عليه.. ثلاثة أوجه:
أحدها: لا يصح واحد منها؛ لأنه غير مقدور على تسليمه، فلم يصح، كالسمك في الماء.
والثاني: يصح الجميع منها، وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأن الذمم تجري مجرى الأعيان، ألا ترى أنه يصح أن يشتري بثمن في ذمته ويبيع فيها، كما يجوز أن يشتري الأعيان ويبيعها، إلا أن البيع لا يفتقر لزومه إلى القبض، وفي الهبة والرهن لا يلزمان من غير قبض، كما قلنا في الأعيان.
والثالث: أن البيع والهبة يصحان ويلزمان من غير قبض، ولا يصح الرهن؛ لأن البيع والهبة تمليك، فجرى مجرى الحوالة، بخلاف الرهن.

[مسألة: رهن الرهن عند آخر]
وإن رهن عبدا عند رجل، وأقبضه إياه، فقبضه، ثم رهنه الراهن عند آخر من غير إذن الأول.. لم يصح الرهن الثاني؛ لأن ما يستحق بعقد لازم لا يجوز أن يعقد عليه مثله من غير إذن من له الحق، كما لو باع عينا من زيد، ولزم البيع، ثم باعها من عمرو.
فقولنا: (بعقد لازم) احتراز من الرهن قبل القبض، ومن إعارة ما أعاره.
وقولنا: (لا يجوز أن يعقد عليه مثله) احتراز من عقد الإجارة على الرهن، فإنه يصح بغير إذن المرتهن.

(6/34)


وقولنا: (من غير إذن من له الحق) احتراز من المرتهن؛ لأن المرتهن لو أذن في رهنه من غيره.. صح.
وإن رهن رجلا عبدا بألف درهم، ثم رهنه غيره بألف أخرى.. ففيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (يصح) . وبه قال مالك، وأبو يوسف، والمزني لأنه لما جاز أن يزيده في الحق الواحد رهنا آخر.. جاز أيضا أن يرهن الرهن الواحد بحق آخر، ولأن الرهن وثيقة، كالضمان، فلما جاز أن يضمن عن غيره حقا، ثم يضمن عنه حقا.. جاز في الرهن مثله.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يصح) . وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه رهن لازم بدين، فلم يجز رهنه بدين آخر، كما لو رهنه عند غيره، وفيه احتراز من رهنه قبل القبض.
فعلى هذا: إن أراد أن يرهنه بألفين.. فسخ الأول، ثم يرهنه بالألفين. فإن رهنه بألف، ثم رهنه بألف آخر، وأقر أنه رهنه بالألفين.. كان الإقرار صحيحا في الظاهر والباطن على القديم، وأما على الجديد: فيكون رهنا بالألفين حكما ظاهرا، وأما في الباطن: فيكون مرهونا بألف. فإن ادعى المقر: أنه رهنه بألف، ثم رهنه بألف، وادعى المقر له: أنه رهنه بهما معا.. فالقول قول المقر له مع يمينه؛ لأن الظاهر صحة الإقرار.
وإن شهد شاهدان على عقد الرهنين، ثم أرادا أن يقيما الشهادة، فإن كانا يعتقدان صحة القول الجديد.. شهدا أنه رهنه بألف، ثم رهنه بألف. وإن كانا يعتقدان صحة القول القديم.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز أن يشهدا أنه رهنه بألفين، ويطلقا ذلك؛ لأنهما يعتقدان صحة ما يشهدان به.
والثاني: لا يجوز أن يشهدا إلا على ما وقع عليه العقدان؛ لأن الاجتهاد في ذلك إلى الحاكم.

(6/35)


[فرع: جناية العبد المرهون بقدر الرهن]
وإن رهن عبده عند رجل بألف درهم، ثم جنى العبد على آخر جناية أرشها ألف، فلم يفده الراهن، واختار المرتهن أن يفديه، وشرط على الراهن بدله، وأنه يكون مرهونا بما يفديه به وبالألف الأولى.. فقد قال الشافعي: (صح ذلك) .
فمن أصحابنا من قال: هذا على القول القديم، فأما على الجديد: فلا يصح أيضا.
ومنهم من قال: يصح ذلك على القولين، وقد نص الشافعي عليه في الجديد؛ لأن في ذلك مصلحة للراهن في حفظ ماله، وللمرتهن حظ في حفظ وثيقته.

[مسألة: رهن أرض الخراج]
قال الشافعي: (وإن رهنه أرضا من أرض الخراج.. فالرهن مفسوخ؛ لأنها غير مملوكة) . واختلف أصحابنا في تأويل هذا:
فقال أبو سعيد الإصطخري: أراد الشافعي بذلك سواد العراق، وذلك: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - افتتحها، وأخرجها من أيدي المجوس، وقسمها بين الناس، فاستغلوها سنتين أو ثلاثا، ثم رأى أنهم قد اشتغلوا بالأرض عن الجهاد، فسألهم أن يردوا عليه، فمنهم من طابت نفسه بالرد بغير عوض، ومنهم من لم تطب نفسه إلا بعوض، ثم وقفها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على المسلمين، وأجرها ممن هي في يده على كل نوع من الغلات أجرة معلومة لا إلى غاية) .
فعلى هذا: لا يجوز بيعها، ولا رهنها، وهذا ظاهر النص.
وقال أبو العباس بن سريج: لما استرد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الأرض من المسلمين..

(6/36)


باعها ممن هي في يده، وجعل ثمنها هو الخراج الذي يؤخذ منهم، فيجوز بيعها ورهنها؛ لأن الناس من وقت عمر إلى يومنا هذا يبيعونها ويبتاعونها من غير منكر.
وأما قول الشافعي: فمحمول عليه ما إذا أوقف الإمام أرضا، وضرب عليها الخراج. فإن قيل: فهذا الذي قلتموه في فعل عمر من التأويلين جميعا لا يصح على مذهب الشافعي ولا غيره؛ لأن الإجارة لا تجوز إلى مدة غير معلومة ولا بأجرة غير معلومة، وكذلك البيع لا يجوز إلا إلى أجل غير معلوم، ولا بثمن غير معلوم؟
فالجواب: أن هذا إنما لا يصح إذا كانت المعاملة في أموال المسلمين، فأما إذا كانت في أملاك المشركين.. فيصح، ألا ترى أن رجلا لو قال: من جاء بعبدي الآبق.. فله عبد أو ثوب، وهما غير موصوفين.. لم يكن هذا جعلا صحيحا، ولو قال الإمام: من دلنا على القلعة الفلانية.. فله منها جارية.. لكان جعلا صحيحا، ولهذا: «نفل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البداءة الربع، وفي القفول الثلث» . وهذا مجهول، لكنه صح؛ لأنه معاملة في أموال المشركين.

(6/37)


[فرع: رهن بناء الخراج]
فإن كان في أرض الخراج بناء أو غراس، فإن كان محدثا في أرض الخراج من غيرها.. صح بيعه ورهنه مفردا، وإن باعه، أو رهنه مع أرض الخراج، وقلنا: لا يصح بيعها ورهنها.. بطل في الأرض، وهل يصح في البناء والغراس؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة، وقد مضى ذكر ذلك. وإن كان البناء والغراس من أرض الخراج.. لم يصح بيعه ورهنه.

[فرع: تأدية المرتهن الخراج تطوع]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن أدى عنه الخراج.. كان متطوعا لا يرجع به، إلا أن يكون دفع بأمره، فيرجع) . وهذا كما قال: إذا رهن أرضا من أرض الخراج، أو أجرها.. فإن الخراج الذي يجب في الأرض، يجب على راهن الأرض الذي رهنها أو أجرها، فإن دفع المرتهن أو المستأجر الخراج الواجب فيها.. نظرت:
فإن كان بغير أمر من وجب عليه، أو قضى الدين عن غيره بغير إذنه.. لم يرجع عليه بشيء.
وقال مالك رحمة الله عليه: (يرجع عليه) .
دليلنا: أنه متطوع بالدفع عنه، فلم يرجع عليه بشيء، كما لو وهبه شيئا.
وإن قضى بإذنه، وشر ط عليه البدل.. رجع عليه بالبدل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمنون على شروطهم» .
وإن قضى عنه بأمره، ولم يشترط عليه الرجوع بالبدل.. ففيه وجهان:

(6/38)


أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق، واختيار القاضي أبي الطيب، والشيخ أبي حامد ـ: أنه يرجع عليه، لأن إذنه بذلك يقتضي الرجوع، فهو كما لو شرط عليه البدل.
والثاني: لا يرجع عليه بشيء، وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ولو دفع ثوبا إلى قصار، فقصره.. لا أجرة له؛ لأنه لم يشترطها له، ولأنه لم يشترط الرجوع عليه بشيء، فلم يرجع عليه بشيء، كما لو وهبه شيئا) .

[مسألة: رهن العبد الجاني]
وفي رهن العبد الجاني قولان، وفي موضع القولين ثلاث طرق، مضى ذكر ذلك في البيع. ولا يجوز رهن ما لا يقدر على تسليمه، كالطير الطائر، والعبد الآبق، ولا رهن عبد من عبيد، كما لا يجوز بيع ذلك.

[فرع: الرهن لا يجوز إلا بمعلوم]
إذا قال: رهنتك هذا الحق بما فيه، أو هذا البيت بما فيه، أو هذا الجراب بما فيه، أو هذه الخريطة بما فيها.. فنص الشافعي في " الأم " [3/143] : (أن الرهن لا يصح بما في هذه الأشياء) .
قال الشيخ أبو حامد: وهل يصح الرهن في الحق والبيت والجراب والخريطة؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة.
وإن قال: رهنتك هذا الحق دون ما فيه، أو هذا البيت دون ما فيه، أو هذا الجراب دون ما فيه، أو هذه الخريطة دون ما فيها.. صح الرهن في هذه الأشياء دون

(6/39)


ما فيها. وإن قال: رهنتك هذا الحق، أو هذا البيت، أو هذا الجراب، أو هذه الخريطة، ولم يقل: دون ما فيه، ولا بما فيه.. فنص الشافعي: (أن الرهن يصح في الحق والبيت والجراب، ولا يصح في الخريطة) ؛ لأن الحق والبيت والجراب لها قيمة تقصد في العادة، والخريطة ليس لها قيمة مقصودة في العادة، وإنما المقصود ما فيها.
قال الشيخ أبو حامد: ولأصحابنا في هذا تخليط، ومنصوص الشافعي ما ذكرته.
وأما ابن الصباغ: فقال: قال أصحابنا: فلو كانت الخريطة مما يقصد؛ لأنها ديباج أو شيء له قيمة.. كانت كالحق، ولو كان الحق لا قيمة له.. كان كالخريطة.

[مسألة: رهن النخل المؤبر]
] : إذا رهنه نخلا وعليها طلع مؤبر، ولم يرهنه الثمرة.. صح الرهن في النخل دون الثمرة؛ لأنه لو باعه نخلا عليها طلع مؤبر، ولم يشترط دخوله في البيع.. لم يدخل، فكذلك الرهن.
وإن كان عليها طلع غير مؤبر، ولم يشترط دخوله في الرهن، ولا خروجه من الرهن.. فهل يدخل الطلع في الرهن؟ المنصوص: (أنه لا يدخل) . قال الربيع: قول آخر: (أنه يدخل، كالبيع) .
فمن أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: يدخل في الرهن، كما قلنا في البيع.
والثاني: لا يدخل ـ وهو الصحيح ـ كما لا تدخل الثمرة الحادثة بعد الرهن.
ومنهم من قال: لا يدخل، قولا واحدا، وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لما ذكرناه.
وقال أبو حنيفة: (تدخل الثمرة في الرهن بكل حال، بخلاف قوله في البيع) . وهذا ليس بصحيح؛ لأن البيع أقوى من الرهن، فإذا لم تدخل الثمرة في البيع.. فلأن لا تدخل في الرهن أولى.

(6/40)


وإن قال: رهنتك النخل والثمرة.. صح، سواء كان قبل التأبير أو بعده، كما قلنا في البيع، ثم ينظر فيه:
فإن رهن ذلك بحق حال أو بمؤجل يحل قبل إدراك الثمرة، أو مع إداركها.. صح ذلك؛ لأنه يمكن استيفاء الحق منها.
وإن كان بحق مؤجل لا يحل إلا بعد إدراك الثمرة.. نظرت في الثمرة:
فإن كانت مما يمكن استصلاحها وتجفيفها، كالتمر والزبيب.. صح ذلك، ولزم الراهن مؤنة تجفيفها.
وإن كانت ثمرة لا يمكن تجفيفها، كالتفاح والكمثرى.. فمن أصحابنا من قال:
فيه قولان، كما قلنا في رهن ما يسرع إليه الفساد. ومنهم من قال: يصح الرهن، قولا واحدا؛ لأن الثمرة تابعة للأصول، فصح رهنها، كما يجوز بيع الثمرة التي لم يبد صلاحها مع الأصول، ولا يجوز بيعها مفردة.
فإذا قلنا: يبطل الرهن في الثمرة.. فهل يبطل في الأصول؟ يبنى على القولين نفي تفريق الصفقة، وقد مضى ذكره.
وإن رهنه الثمرة مفردة، فإن كان بعد بدو صلاحها.. فهو بمنزلة رهن الأشياء الرطبة، وقد مضى ذكره. وإن كان قبل بدو صلاحها، فسواء كانت قد أبرت أو لم تؤبر، فإن كان الدين حالا، وشرط القطع.. صح الرهن، كما يصح البيع، وإن لم يشترط القطع.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يصح الرهن، كما لا يصح البيع.
والثاني: يصح الرهن؛ لأن رهنه بالدين الحال يوجب الطع، فصار كما لو شرط القطع.
وإن رهنها بدين مؤجل، فإن كان بشرط القطع.. قال ابن الصباغ: كان بمنزلة

(6/41)


رهن البقول والفواكه. قال: وأصحابنا أطلقوا جواز ذلك. وإن رهنها مطلقا.. ففيه ثلاثة أقوال:
أحدهما: لا يصح الرهن، كما لا يصح البيع.
والثاني: يصح؛ لأن البيع إنما لم يصح؛ لما فيه من الغرر، وليس في الرهن غرر، ولأنه يتلف ـ إن تلف ـ من مال صاحبه.
والثالث ـ نقله المزني ـ: إن شرط القطع حال المحل.. صح، وإن أطلق.. لم يصح؛ لأن إطلاقه يقتضي بقاءه إلى وقت الجذاذ، وذلك تأخير الدين عن محله. هذا ترتيب ابن الصباغ.
وأما الشيخ أبو حامد: فذكر أنها على القولين الأولين، سواء شرط القطع أو لم يشرط.

[مسألة: رهن شجرة ذات حملين بحملها الأول]
إذا كانت له شجرة تحمل في السنة حملين، كالتين والباذنجان والقثاء والخيار، فرهن الشجرة والحمل الأول، أو رهن الحمل الأول مفردا.. نظرت:
فإن كان بحق حال، أو بمؤجل يحل قبل حدوث الثمرة الثانية.. صح الرهن، وكذلك: إن رهنه بحق مؤجل لا يحل إلا بعد حدوث الثانية، إلا أنهما اشترطا: أنه إذا خيف اختلاط الثانية بالأولى.. قطعت الأولى، أو كانت الثانية إذا اختلطت بالأولى تميزت عنها ... فإن الرهن صحيح؛ لأن الرهن لا يختلط بغيره.
وإن رهنه بحق مؤجل، لا يحل إلا بعد حدوث الثانية، ولا تتميز إحداهما عن الأخرى.. فذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: أن الرهن لا يصح؛ لأنه لا يمكن استيفاء الحق من الرهن؛ لأنه يختلط الرهن بغيره، ولا يتميز، فيصير مجهولا. وذكر في " المهذب ": أنها على قولين:
أحدهما: لا يصح الرهن؛ لما ذكرناه.
والثاني: يصح؛ لأنه يمكن الفصل عند الاختلاط، بأن يسمح الراهن بترك ثمرته

(6/42)


للمرتهن، أو ينظر: كم كان المرهون؟ فيحلف عليه، فلم يحكم ببطلان الرهن.
قال الشيخ أبو حامد: فإذا رهنه بحق حال، فتوانى في قطع الثمرة الأولى حتى حدثت الثانية، واختلطت، ولم تتميز.. ففيه قولان:
أحدهما: يبطل الرهن؛ لأن الرهن قد صار مجهولا؛ لاختلاطه بما ليس برهن.
والثاني: لا يبطل؛ لأنه كان معلوما عند العقد، وعند حلول الحق، فلا يبطل بالجهالة الحادثة.
فإذا قلنا: يبطل.. فلا كلام. وإذا قلنا: لا يبطل.. قيل للراهن: أتسمح بترك الثمرة الثانية لتكون رهنا؟ فإن سمح.. فلا كلام، وإن لم يسمح، فإن اتفقا على قدر الأولى.. فلا كلام، وإن اختلفا في قدر الأولى.. فالقول قول الراهن مع يمينه في قدر الأولى، سواء كانت الثمرة في يده أو في يد المرتهن.
وقال المزني: إن كانت الثمرة في يد المرتهن.. فالقول قوله مع يمينه. وهذا غلط؛ لأنهما اتفقا على أن الحادثة ملك الراهن، وإنما يختلفان في قدر المرهون منهما، فكان القول قول الراهن مع يمينه؛ لأنه مدعى عليه.

[فرع: سقي الشجر المرهون]
وإذا رهنه ثمرة.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فعلى الراهن سقيها وصلاحها وجذاذها وتشميسها، كما تكون عليه نفقة العبد) . وقال في موضع آخر: (ليس عليه تشميسها) .
قال أصحابنا: ليس التشميس على قولين، وإنما هو على اختلاف حالين: فالموضوع الذي قال: (عليه التشميس) إذا بلغت الثمرة أوان الجذاذ قبل حلول الحق، والذي قال: (ليس عليه التشميس) إذا كان الحق قد حل مع تكامل صلاح الثمرة؛ لأنها تباع في الحق، وليس لأحدهما أن يطالب بقطعها قبل أوان قطعها، إلا

(6/43)


برضا الآخر؛ لأن على كل واحد منهما ضررا بقطعها قبل أوان قطعها، فلم يجز ذلك من غير رضاهما.

[مسألة: رهن جارية لها ولد]
وإذا رهن الجارية ولها ولد صغير من زوج أو زنا، ولم يرهن الولد معها.. صح الرهن؛ لأن الرهن لا يزيل الملك، فلا يكون فيه تفرقة بينهما، فإذا حل الحق، فإن قضى الراهن الدين من غير الرهن.. انفسخ الرهن، وإن لم يقضه، وكان الولد صغيرا يومئذ.. بيعت الجارية والولد؛ لأنه لا يجوز التفرقة بينهما، ويقسم الثمن على قدر قيمتهما، فما قابل الأم.. تعلق به حق المرتهن، وما قابل الولد.. تعلق به حق الراهن.
قال الشيخ أبو حامد: وكيفية ذلك: أن يقال: كم قيمة هذه الجارية ولها ولد دون ولدها؛ لأنها إذا كانت ذات ولد كانت قيمتها أنقص؟ فإن قيل: قيمتها ـ مثلا ـ مائة.. قيل: فكم قيمة ولدها؟ فإن قيل: خمسون.. تعلق حق المرتهن بثلثي ثمنهما، وللراهن ثلث ثمنهما، وهذا إذا علم المرتهن بولدها حال الرهن أو بعده ورضي به، وإن لم يعلم بالولد، ثم علم.. ثبت له الخيار في فسخ البيع المشروط به الرهن.
وأما إذا رهنه جارية حائلا، ثم حملت في يد المرتهن من زوج أو زنا.. فإن الولد خارج من الرهن، فإذا أراد البيع.. بيعت الجارية وولدها الصغير، ويكون للمرتهن حصتها من الثمن، وللراهن حصة الولد، وكيفية التقسيط: أن يقال: كم قيمة هذه الجارية خالية من الولد؟ ثم يقوم الولد، ويقسم الثمن على قدر قيمتها. والفرق بينهما: أن المرتهن رضي في الأولى أن تكون الجارية التي لها ولد صغير رهنا، وهاهنا لم يرض بكونها لها ولد صغير رهنا، وهذا كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا

(6/44)


رهن أرضا، فحدث فيها نخل وشجر، إذا بيعت الأرض والشجر برضاهما.. فإن الأرض تقوم بيضاء لا شجر فيها) .

[مسألة: رهن المصحف ونحوه لكافر]
] : وهل يجوز رهن المصحف وكتب الحديث والفقه والعبد المسلم من الكافر؟ فيه طريقان:
[الأول] : قال أبو إسحاق، والقاضي أبو حامد: فيه قولان:
أحدهما: لا يصح.
والثاني: يصح، ويوضع ذلك على يد مسلم، كما قلنا في بيع ذلك منه.
و [الطريق الثاني] : قال أبو علي في " الإفصاح ": يصح الرهن، قولا واحدا، ويوضع على يد مسلم؛ لأن الكافر لا يملك الرهن، بخلاف البيع.

[مسألة: شرطا شيئا في الرهن]
وإذا شرط المتراهنان في الرهن شرطا.. نظرت:
فإن كان شرطا يقتضيه الرهن، مثل: أن يشترطا أن يباع في الدين عند حلول الأجل، أو على أن يباع بثمن المثل، أو على أن منفعته للراهن.. صح الشرط والرهن؛ لأن العقد يقتضي ذلك، فكان هذا الشرط تأكيدا.
وإن كان شرطا لا يقتضيه العقد.. فلا يخلو: إما أن يكون نقصانا في حق المرتهن، أو زيادة في حقه:
فإن كان نقصانا في حقه، مثل: أن يكون رهنه رهنا على أن لا يباع في الدين، أو على أن لا يباع إلا بأكثر من ثمن مثله، أو على أن لا يباع إلا بما يرضى به الراهن.. فالشرط باطل؛ لأنه ينافي مقتضى عقد الرهن، ويبطل الرهن بذلك؛ لأنه يمنع مقصود الرهن.
وإن كان الشرط زيادة في حق المرتهن، مثل: أن يرهنه شيئا بشرط أن يباع قبل

(6/45)


محل الحق، أو على أن يباع بأي ثمن كان وإن كان أقل من ثمن مثله.. فالشرط باطل؛ لأنه ينافي مقتضى الرهن، وهل يبطل الرهن؟ فيه قولان:
أحدهما: يبطل الرهن، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق؛ لأنه شرط فاسد قارن عقد الرهن، فأبطله، كما لو كان نقصانا في حق المرتهن.
والثاني: لا يبطل؛ لأن المقصود من الرهن الوثيقة، وهذه الشروط لا تقدح في الوثيقة، لأنها زيادة في حق المرتهن، بخلاف الشروط التي تقتضي نقصانا في حق المرتهن.
فإذا قلنا: إن الرهن باطل بهذه الشروط، أو شرطا نقصانا في حق المرتهن.. نظرت:
فإن كان الرهن غير مشروط في البيع.. بقي الدين بغير رهن.
وإن شرطا ذلك في البيع، بأن قال: بعتك عبدي هذا بألف على أن ترهنني دارك هذه بالألف، على أن لا تباع الدار في الدين.. فهل يبطل البيع؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يبطل البيع؛ لأن البيع ينعقد منفردا عن الرهن، فلم يبطل البيع ببطلان الرهن، كالصداق في النكاح؛ لأنه قد يتزوجها بغير صداق، ثم يفرض لها صداقا بعد ذلك، ثم لا يفسد النكاح لفساد الصداق وإن قارنه، فكذلك الرهن مع البيع.
والثاني: يبطل البيع، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه شرط فاسد قارن عقد البيع، فأفسده، كما لو باعه شيئا بشرط أن لا يسلمه.

[فرع: البيع بنقد ومنفعة مجهولة]
إذا قال لغيره: بعني عبدك هذا بألف، على أن أرهنك به داري هذه، وتكون منفعة الدار لك، فإن كانت منفعة الدار مجهولة.. كان الرهن والبيع باطلين، قولا

(6/46)


واحدا؛ لأنه باعه العبد بألف وبمنفعة الدار مدة غير معلومة، والبيع بثمن مجهول باطل. وإن كانت منفعة الدار معلومة.. قال القاضي أبو الطيب: هذه صفقة جمعت بيعا وإجارة، فهل يصحان؟ فيه قولان.
وقال الشيخ أبو حامد: شرط منفعة الدار للمرتهن باطل؛ لأنه ينافي مقتضاه، وهل يبطل به الرهن؟ فيه قولان؛ لأنه زيادة في حق المرتهن.
فإذا قلنا: إنه باطل.. فهل يبطل البيع؟ فيه قولان. فإذا قلنا: إن الرهن صحيح، أو قلنا: إنه باطل، ولا يبطل البيع.. ثبت للبائع الخيار في فسخ لا بيع؛ لأنه لم يسلم له ما شرط، وهذا ظاهر كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وإن قال لغيره: بعني عبدك هذا بألف، على أن تكون داري رهنا به، ومنفعتها أيضا رهنا به.. فإن المنفعة لا تكون رهنا؛ لأنها مجهولة، ولأنه لا يمكن إقباضها. فإذا بطل رهن المنفعة.. فهل يبطل الرهن في أصل الدار؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة.
فإذا قلنا: إن الرهن لا يفسد في أصل الدار.. لم يفسد البيع، ولكن يثبت للبائع الخيار؛ لأنه لم يسلم له جميع الرهن.
وإن قلنا: يفسد في أصل الدار.. فهل يبطل البيع؟ فيه قولان.

[فرع: البيع بثمن ومنفعة]
وإن كان لرجل على آخر ألف بغير رهن، فقال من عليه الألف لمن له الألف: بعني عبدك هذا بألف، على أن أعطيك داري رهنا بها وبالألف الذي لك علي بغير رهن، فقال: بعتك.. كان البيع باطلا؛ لأن ثمن العبد مجهول؛ لأنه باعه بألف ومنفعة أخرى، وهو أن يعطيه رهنا بالألف التي لا رهن بها، ولأنه بيعتان في بيعة.

(6/47)


[فرع: القرض بشرط رهن ومنفعته]
إذا قال لغيره: أقرضني ألف درهم، على أن أعطيك عبدي هذا رهنا، وتكون منفعته لك، فأقرضه.. فالقرض باطل؛ لأنه قرض جر منفعة، وهكذا: لو كان عليه ألف بغير رهن، فقال له: أقرضني ألفا، على أن أعطيك عبدي هذا رهنا بها وبالألف التي لا رهن بها، فأقرضه.. فالقرض فاسد؛ لأنه قرض جر منفعة، والرهن باطل فيهما؛ لأن الرهن إنما يصح بالدين، ولا دين له في ذمته. وإن قال: أقرضني ألفا، على أن أرهنك داري به، وتكون منفعتها رهنا بها أيضا.. لم يصح شرط رهن المنفعة؛ لأنها مجهولة، ولأنه لا يمكن إقباضها.
فإذا ثبت: أنه لا يصح هذا الشرط.. فإنه زيادة في حق المرتهن، وهل يبطل بها الرهن؟ فيه قولان.

[فرع: التطوع بالرهن للدين المستقر]
إذا كان له دين مستقر في ذمته، فتطوع بالرهن به، فقال: رهنتك هذه النخلة، على أن ما تثمر يكون داخلا في الرهن، أو هذه الماشية، على أن ما تنتج داخل في الرهن.. فهل يصح الرهن في الثمرة والنتاج؟ فيه قولان:
أحدهما: يصح الرهن فيهما؛ لأنهما متولدان من الرهن، فجاز أن يكونا رهنا معا.
والثاني: لا يصح الرهن فيهما، وهو الصحيح؛ لأنه رهن معدوم ومجهول.
فعلى هذا: هل يبطل الرهن في النخلة والماشية؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة.
وإن قال: بعتك عبدي هذا بألف، على أن ترهنني نخلتك هذه، على أن ما تثمر داخل في الرهن، فإن قلنا: يصح الرهن في الثمرة.. صح البيع. وإن قلنا: لا يصح

(6/48)


الرهن في الثمرة، فإن قلنا: لا يبطل الرهن في النخلة.. لم يبطل البيع في العبد، ولكن يثبت لبائعه الخيار؛ لأنه لم يسلم له جميع الرهن المشروط. وإن قلنا: يبطل الرهن في النخلة.. فهل يبطل البيع في العبد؟ فيه قولان، فإن قلنا: لا يبطل.. ثبت للبائع الخيار؛ لأنه لم يسلم له جميع الرهن المشروط، فتحصل في هذه المسألة أربعة أقوال:
أحدها: يصح الرهن في الكل، ويصح البيع.
والثاني: يبطل الرهن والبيع.
والثالث: يصح الرهن في النخلة لا غير، ويصح البيع، وللبائع الخيار.
والرابع: أن الرهن باطل، والبيع صحيح، وللبائع الخيار.

[فرع: الإقراض بشرط الرهن ونمائه]
قال ابن الصباغ: إذا أقرضه ألفا برهن، وشرط أن يكون نماء الرهن داخلا فيه.. فالشرط باطل في أشهر القولين، وهل يفسد الرهن؟ فيه قولان؛ لأنه زيادة في حق المرتهن، وأما القرض: فهو صحيح؛ لأنه لم يجر منفعة، وإنما الشرط زيادة في الاستيثاق، ولم يثبت.

[فرع: اشترط ضمان الرهن]
على المرتهن] :
ولو رهنه شيئا، وشرط على المرتهن ضمان الرهن.. فإن الرهن غير مضمون عليه، على ما يأتي بيانه، ويكون هذا شرطا فاسدا؛ لأنه يخالف مقتضاه، وهل يفسد الرهن بهذا الشرط؟
من أصحابنا من قال: يفسد، قولا واحدا؛ لأن ذلك نقصان في حق المرتهن.
وقال أبو علي في " الإفصاح ": وهل يبطل الرهن؟ فيه قولان، لأن شرط الضمان يجري مجرى الحقوق الزائدة في الرهن؛ لأنه لم ينقص حق المرتهن.
قال ابن الصباغ: والأول أصح.

(6/49)


[فرع: شراء سلعة بشرط جعلها رهنا بالثمن عند البائع]
إذا اشترى سلعة بشرط أن يجعلها رهنا بالثمن.. فالرهن باطل؛ لأنه رهن ما لا يملك، والبيع باطل؛ لأنه في معنى من باع عينا، واستثنى منفعتها، فكان باطلا، ولأن هذا شرط يمنع كمال تصرف المشتري، ولأن من اشترى شيئا.. فله أن يبيعه ويهبه، والرهن يمنع ذلك، فأبطل البيع، سواء شرطا أن يسلمها البائع إلى المشتري، ثم يرهنها منه، أو لم يشرط تسليمها إليه، فالحكم واحد؛ لما ذكرناه.
وإن كان لرجل على آخر دين إلى أجل، فقال من عليه الدين: رهنتك عبدي هذا بدينك؛ لتزيدني في الأجل.. لم يثبت الأجل المزيد؛ لأن التأجيل لا يلحق بالدين، والرهن باطل؛ لأنه جعله في مقابلة الأجل، وإذا لم يسلم له الأجل.. لم يصح الرهن.

[مسألة: باعه بشرط رهن مشاهد]
إذا باعه شيئا بثمن في ذمته، على أن يرهنه بالثمن رهنا معلوما بالمشاهدة، أو بالصفة.. صح البيع والرهن؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك. فإن شرط رهنا بعينه، ثم أراد الراهن أن يرهنه غير ذلك المعين.. لم يلزم البائع قبوله، سواء كانت قيمته مثل قيمة المعين أو أكثر؛ لأنه قد تعين بالشرط.
وإن قال: بعتك عبدي بمائة درهم، على أن ترهنني بها رهنا غير معين، ولا موصوف.. لم يصح هذا الشرط.
وقال مالك رحمة الله عليه: (يصح، ويرجع فيه إلى العادة فيما يرهن بمثل ذلك الثمن) .
دليلنا: أنه رهن مجهول، فلم يصح، كما لو قال: رهنتك ما في كمي.

[فرع: شرط وضع الرهن عند عدل أو المرتهن]
] : وإذا شرطا في البيع رهن عبد معلوم، أو موصوف.. نظرت:
فإن شرطا أن يكون الرهن على يد عدل.. جاز.

(6/50)


وإن شرطا أن يكون على يد المرتهن.. صح؛ لأن الحق لهما، فجاز ما اتفقا عليه من ذلك.
وإن أطلقا ذلك.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: أن الرهن باطل؛ لأن كون الرهن في يد أحدهما ليس بأولى من الآخر، فإذا لم يذكر ذلك.. بطل الرهن.
والثاني: يصح الرهن، ويدفع إلى الحاكم؛ ليجعله على يد عدل إن اختلفا فيمن يكون عنده.
وإن كان الرهن جارية، ولم يشرطا كونها عند أحد.. قال الشيخ أبو حامد: صح الرهن، وجها واحدا، وجعلت على يد امرأة ثقة؛ لأنه ليس لها جهة توضع فيه غير هذا، بخلاف غير الجارية، فإن شرطا أن تكون هذه الجارية عند المرتهن، أو عند عدل.. نظرت:
فإن كان محرما لها.. جاز ذلك. قال القاضي أبو الفتوح: وكذلك: إن كانت صغيرة لا يشتهى مثلها.. جاز تسليمها إلى المرتهن، أو العدل؛ لأنه لا يخشى عليها منه.
وإن كانت كبيرة، واشترطا وضعها على يد المرتهن أو العدل، وليس بذي محرم لها، فإن كانت له زوجة أو جارية، قال الشيخ أبو حامد: أو في داره نساء تكون هذه المرهونة معهن.. جاز تركها معه؛ لأنه لا يخشى عليها أن يخلو بها. فإن لم تكن له زوجة ولا جارية.. لم يجز وضعها على يده، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يخلون رجل بامرأة، فإن ثالثهما الشيطان» ، فإذا شرطا ذلك.. بطل الشرط، ولم يبطل الرهن؛ لأن هذا الشرط لا يؤثر في الرهن.

(6/51)


[فرع: رهن الخنثى]
] : وإن كان الرهن خنثى مشكلا.. قال القاضي: فإن كان صغيرا.. جاز أن يكون على يد المرتهن، وعلى يد العدل، وعلى يد امرأة ثقة. وإن كان كبيرا.. وضع على يد ذي رحم محرم له، رجلا كان أو امرأة، ولا يوضع على يد أجنبي ولا أجنبية، فإن كان المرتهن محرما له، أو كان عنده محرم له.. جاز أن يجعل على يده، فإن أطلقا من يكون عنده.. صح؛ لأنه لا جهة لوضعه إلا واحدة، وهو المحرم، رجلا كان أو امرأة.

[فرع: وضعا الرهن عند عدل، ثم أنكر العدل]
وإذا اتفق المرتهنان على وضع الرهن على يد عدل، ثم أقرا أن العدل قد قبض الرهن، وأنكر العدل ذلك.. لزم الرهن؛ لأن الحق لهما دون العدل، فإن رجع أحدهما وصدق العدل أنه لم يقبضه.. لم يقبل رجوعه عنه؛ لأن إقراره السابق يكذبه. وإن أقر الراهن والعدل بالقبض، وأنكر المرتهن.. فالقول قول المرتهن؛ لأن الأصل عدم القبض، ولا يقبل قول العدل عليه؛ لأنه يشهد على فعل نفسه. هذا مذهبنا.
وإن قبض العدل الرهن بإذن المرتهن.. صح، وبه قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال ابن أبي ليلى: لا يصح توكيل العدل في القبض.
دليلنا: أن من اشترى شيئا.. صح أن يوكل في قبضه، فكذلك في الرهن.

[فرع: يجوز نقل الرهن من يد عدل إلى مثله برضاهما]
وإذا حصل الرهن عند العدل باتفاق المتراهنين، فإن نقلاه إلى عدل غيره.. جاز.

(6/52)


وإن أراد أحدهما أن ينقله إلى غيره.. لم يجز من غير رضا الآخر؛ لأنه حصل في يده برضاهما، فلا يخرج عن يده إلا برضاهما.
وإن دعا أحدهما إلى نقله، وامتنع الآخر.. رفع إلى الحاكم، فإن كان العدل ثقة لم ينقل عنه. وإن تغير حاله.. نقله الحاكم إلى عدل آخر.
وهكذا: إن كان الرهن عند المرتهن، فمات، أو اختل بجناية، أو أفلس، أو حجر عليه ـ هكذا ذكر الشيخ أبو حامد ـ واختلف ورثته والراهن فيمن يكون الرهن عنده، أو مات العدل، أو اختل، واختلف المتراهنان فيمن يكون الرهن عنده.. رفع الأمر إلى الحاكم ليجعله عند عدل؛ لأن ذلك أقطع للخصومة.

[فرع: وضعا الرهن بيد عبد وأذنا له بالتصرف]
إذا وضعا الرهن على يد عبد، ووكلاه في بيعه.. قال أبو العباس: لا يجوز للعبد حفظه ولا بيعه، سواء جعلا له جعلا أو لم يجعلا له على ذلك؛ لأن منفعة العبد ملك لمولاه، فلا يجوز له بذلها بغير إذن سيده.
وإن جعلا الرهن على يد مكاتب، ووكلاه في بيعه، فإن كان بجعل.. جاز، وإن كان بغير جعل.. لم يجز؛ لأن المكاتب لا يملك بذل منافعه بغير عوض. وإن جعلا الرهن على يد صبي مراهق، وقبضه.. لم يصح قبضه؛ لأنه لا حكم لقبضه.
قال الشيخ أبو حامد: فصرح أبو العباس: أن قبض الصبي لا يصح، ولم يتعرض لصحة قبض العبد والمكاتب، وإنما ذكر حفظهما، ولكن يصح قبضهما؛ لأنهما مكلفان، وإنما لا يجوز لهما الحفظ والبيع؛ لأنه بذل منفعة بغير إذن السيد.

[فرع: رد العدل الرهن على المتراهنين]
فإذا أراد العدل رد الرهن على المتراهنين، فإن كانا حاضرين.. رده عليهما، ويجب عليهما قبوله؛ لأنه أمين متطوع، ولا يلزمه المقام على ذلك. فإن امتنعا من

(6/53)


أخذه.. رفع الأمر إلى الحاكم، ليجبرهما على تسلمه، فإن رده العدل على الحاكم قبل أن يرده عليهما.. ضمن العدل، وضمن الحاكم؛ لأنه لا ولاية للحاكم على غير ممتنع. وكذلك: إن أودعه العدل عند ثقة.. ضمنا جميعا. فإن امتنعا، ولم يكن حاكم، فتركه العدل عند ثقة.. قال ابن الصباغ: جاز. وإن امتنع أحدهما، فدفعه إلى الآخر.. ضمن.
وإن كانا غائبين، فإن كان للعدل عذر، مثل: أن يريد سفرا، أو به مرض يخاف منه، أو عجز عن حفظه.. دفعه إلى الحاكم، وقبضه الحاكم منه، أو نصب عدلا ليكون عنده. وإن لم يكن هناك حاكم.. جاز أن يدفعه إلى ثقة. وإن دفعه إلى ثقة مع وجود الحاكم.. ففيه وجهان، نذكرهما في (الوديعة) إن شاء الله تعالى.
وإن لم يكن له عذر في الرد، فإن كانت غيبتهما إلى مسافة تقصر فيها الصلاة.. قبضه الحاكم منه، أو نصب عدلا ليقبضه؛ لأن للحاكم أن يقضي عليهما فيما لزمهما من الحقوق.
قال ابن الصباغ: وإن لم يجد حاكما.. أودعه عند ثقة. وإن كانت غيبتهما إلى مسافة لا تقصر فيها الصلاة.. فهو كما لو كانا حاضرين، فإن كان أحدهما حاضرا والآخر غائبا.. لم يجز تسليمه إلى الحاضر، وكان كما لو كانا غائبين. فإن رد على أحدهما في موضع لا يجوز له الرد إليه.. قال الشيخ أبو حامد: ضمن للآخر قيمته. وذكر المسعودي [في " الإبانة " ق\ 268] : إن رده على الراهن.. ضمن للمرتهن الأقل من قيمة الرهن، أو قدر الدين الذي رهن به. وإن رده على المرتهن ضمن للراهن قيمته. وهذا التفصيل حسن.
قال ابن الصباغ: فإن غصب المرتهن الرهن من العدل.. وجب عليه رده إليه، فإذا رده إليه.. زال الضمان عنه. ولو كان الرهن في يد المرتهن، فتعدى فيه، ثم زال التعدي.. لم يزل عنه الضمان؛ لأن الاستئمان قد بطل، فلم يعد بفعله.

(6/54)


[فرع: رهنا عند عدلين وأراد أحدهما تفويض حفظه للآخر]
إذا تركا الرهن على يد عدلين.. فهل لأحدهما أن يفوض حفظ جميعه إلى الآخر؟
فيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأن المتراهنين.. لم يرضيا إلا بأمانتهما جميعا، فهو كما لو أوصى إلى رجلين، فليس لأحدهما أن ينفرد بالتصرف.
فعلى هذا: عليهما أن يحفظا الرهن في حرز يدهما عليه، إما بملك، أو عارية، أو إجارة.
وإن سلم أحدهما جميعه إلى الآخر.. ضمن نصفه.
والثاني: يجوز؛ لأن عليهما مشقة في الاجتماع على حفظه، فإن كان مما لا ينقسم، كالعبد.. جاز لأحدهما أن يسلمه إلى الآخر.
وإن كان مما ينقسم، فاقتسما.. فهل لأحدهما أن يسلم إلى الآخر ما حصل بيده بعد القسمة؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأنه لو سلم إليه ذلك قبل القسمة.. صح، فكذلك بعد القسمة.
والثاني: لا يجوز لأنهما لما اقتسما.. صار كما لو قسمه المتراهنان بينهما. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن كان مما لا ينقسم.. جاز لكل واحد منهما إمساك جميعه، وإن كان مما ينقسم.. لم يجز، ويقتسمانه) .
دليلنا: أن المالك لم يرضَ إلا بأمانتهما، فلم يكن لأحدهما أن ينفرد بحفظ جميعه، كالوصيين.

[فرع: توكيل العدل ببيع الرهن وقت محله]
إذا وضعا الرهن على يد عدل، ووكلاه في بيعه عند محل الحق.. صح التوكيل، ولا يكون هذا تعليق وكالة على شرط، وإنما هو تعليق التصرف.

(6/55)


قال ابن الصباغ: فإذا حل الحق.. لم يجز للعدل أن يبيعه حتى يستأذن المرتهن؛ لأن البيع لحقه، فإذا لم يطالب به.. لم يجز بيعه فإذا أذن المرتهن بذلك فهل يحتاج إلى استئذان الراهن ليجدد له الإذن؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو علي بن أبي هريرة: لا بد من استئذانه كما يفتقر إلى تجديد إذن المرتهن، ولأنه قد يكون له غرض في أن يقضي الحق من غيره.
و [الثاني] : قال أبو إسحاق: لا يفتقر إلى استئذانه؛ لأن إذنه الأول كافٍ، ويفارق المرتهن؛ لأن البيع يفتقر إلى مطالبته بالحق، وأما غرض الراهن: فلا اعتبار به؛ لأنه ما لم يغير الإذن الأول، فهو راضٍٍ به.
وإن عزل الراهن العدل.. انعزل، ولم يجز له البيع، وبه قال أحمد رحمة الله عليه.
وقال مالك، وأبو حنيفة رحمة الله عليهما: (لا ينعزل) .
دليلنا: أن الوكالة عقد جائز، فانعزل بعزله، كسائر الوكالات. وإن عزله المرتهن.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: ينعزل؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ولكل واحد منهما منعه من البيع) ، ولأنه أحد المتراهنين، فملك عزل العدل، كالراهن.
و [الثاني] : قال أبو إسحاق: لا ينعزل؛ لأن العدل وكيل الراهن، فلم ينفسخ بعزل غيره، وتأول كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه أراد: أن لكل واحد منهما منعه من البيع؛ لأن للمرتهن أن يمنعه من البيع؛ لأن البيع إنما يستحق بمطالبته، فإذا لم يطالب به، ومنع منه ... لم يجز، فأما أن يكون فسخا: فلا.

[فرع: وكالة العدل في بيع الرهن إذا حل الأجل]
إذا رهن شيئا، وشرط أن يكون في يد عدل، ووكل العدل في بيعه، فحل الحق قبل أن يقبض الرهن.. فذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ": أنه لا يجوز للعدل بيع الرهن؛ لأنه وكله ببيعه رهنا، وهذا رهن لم يلزم؛ لأنه لم يقبض، اللهم إلا أن يقبضه الآن، فيكون له بيعه.

(6/56)


وذكر الطبري في " العدة ": إن وكله في بيعه رهنا.. لم يكن له بيعه؛ لأنه لا يصير رهنا إلا بالقبض. وإن كان الإذن في بيعه مطلقا.. كان له أن يبيعه؛ لأن للوكيل بيع الشيء وهو في يد الموكل.

[فرع: وضع اثنان رهنا عند مسلم أو غيره]
إذا تراهن الذميان رهنا، وجعلاه على يد مسلم.. جاز. وإن تراهن المسلمان، أو المسلم والذمي، أو الذميان، وجعلاه على يد ذمي.. جاز؛ لأن الذمي يصح أن يكون وكيلا في البيع. فإن اقترض مسلم من ذمي دراهم، ورهنه بها خمرا، وجعلاه على يد ذمي، ووكلاه في بيعه، فباعه.. لم يصح بيعه؛ لأنه بيع خمر على مسلم.
وإن اقترض ذمي من ذمي دراهم، ورهنه بها خمرا، وجعلاه على يد مسلم، ووكلاه في بيعه، فباعه.. لم يصح؛ لأنه بيع الخمر من مسلم. وإن اقترض ذمي من مسلم دراهم، ورهنه بها خمرا، وجعلاه على يد ذمي، ووكلاه في بيعه، فباعه.. فهل يجبر المسلم على قبض حقه منه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجبر؛ لأنه ثمن الخمر، وثمن الخمر محرم على المسلم.
والثاني: يجبر، فيقال له: إما أن تأخذه، وإما أن تبرئ من قدره من الدين؛ لأن أهل الذمة إذا تقابضوا في ثمن الخمر، وما أشبهه من العقود الفاسدة.. أقروا عليها، وصار ذلك مالا من أموالهم.

[فرع: يضمن العدل ثمن الرهن للراهن]
إذا وكل العدل في بيع الرهن، فباعه، وقبض الثمن.. فإن الثمن يكون في يده من ضمان الراهن إلى أن يسلمه إلى المرتهن، وبه قال أحمد رحمة الله عليه.
وقال مالك، وأبو حنيفة رحمة الله عليهما: (هو من ضمان المرتهن) .

(6/57)


دليلنا: أن العدل وكيل للراهن في البيع، والثمن ملكه، فكان من ضمانه، كالموكل في غير الرهن.
فإن تلف الثمن في يده، وخرج المبيع مستحقا، فعلى من يرجع المشتري؟ ينظر في العدل:
فإن أطلق البيع، ولم يذكر: أنه يبيع على الراهن.. رجع المشتري على العدل؛ لأن الظاهر أنه باع مال نفسه، فلزمه الضمان بحكم الظاهر.
وإن ذكر حال البيع: أنه يبيع على الراهن، أو صدقه المشتري على ذلك فإن المشتري يرجع بالعهدة على الراهن دون العدل؛ لأن العقد له.
وإن قبض العدل الثمن، وسلمه إلى المرتهن، ثم وجد المشتري بالرهن عيبا، فإن أقام البينة على العيب، بأن لم يذكر العدل: أنه يبيع للراهن.. فإن المشتري يرجع بالثمن على العدل، ويرجع العدل على الراهن؛ لأنه وكيله، ولا يسترجع الثمن من المرتهن؛ لأن الرهن لما بيع.. حصل ثمنه للراهن وملكه، فإذا دفع إلى المرتهن.. فقد قضى دينه بملكه، فزال ملك الراهن عنه. فإن لم يكن للعدل ولا للراهن مال غير الرهن.. بيع، وقضي حق المشتري من ثمنه، وما بقي.. كان للمشتري دينا على العدل، وللعدل على الراهن.
فإن لم يكن مع المشتري بينة بالعيب، فإن كان العيب مما لا يمكن حدوثه عند المشتري.. فهو كما لو قامت البينة أنه كان موجودا به وقت البيع. وإن كان مما يمكن حدوثه عند المشتري، فإن صدقه العدل والراهن أنه كان موجودا به وقت البيع.. فهو كما لو قامت البينة أنه كان موجودا وقت البيع، فالحكم فيه كما ذكرناه. وإن كذباه.. حلف له العدل: لقد باعه إياه بريئا من هذا العيب، فإن لم يحلف، ونكل، فحلف المشتري.. رجع على العدل بالثمن، ولا يرجع العدل بالثمن على الراهن؛ لأنه كان يمكنه أن يحلف. وإن كان العدل قد قال وقت البيع: إنه يبيع للراهن.. رجع المشتري على الراهن دون العدل.

(6/58)


[مسألة: لا يبيع المرتهن الرهن إلا بحضور الراهن]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو شرط المرتهن إذا حل الحق: أن يبيعه لنفسه.. لم يجز أن يبيع إلا أن يحضر رب الرهن، فإن امتنع.. أمر الحاكم ببيعه) .
وجملة ذلك: أنه إذا رهنه رهنا، وشرطا في عقد الرهن: أن المرتهن يبيع الراهن.. فهذا شرط فاسد، وهل يبطل الرهن؟ فيه قولان؛ لأنه زيادة في حق المرتهن، وقد مضى ذكر مثل ذلك.
فأما إذا رهنه رهنا صحيحا، وأقبضه إياه، فلما حل الحق.. وكل الراهن المرتهن ببيع الرهن.. لم تصح الوكالة. وإذا باع المرتهن.. كان البيع باطلا، وبه قال أحمد رحمة الله عليه.
وقال مالك، وأبو حنيفة رحمة الله عليهما: (يصح التوكيل، والبيع) .
دليلنا: أنه توكيل يجتمع فيه غرضان متضادان، وذلك: أن الراهن يريد التأني في البيع للاستقصاء في الثمن، والمرتهن يريد الاستعجال في البيع ليستوفي دينه، فلم يجز، كما لو وكله ببيع الشيء من نفسه. فإن كان الراهن حاضرا.. فهل يصح بيع المرتهن بإذنه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح البيع، وهو ظاهر النص، فإن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (إلا أن يحضر رب الرهن) ، ولأنه إذا كان حاضرا، فسمع تقدير الثمن.. انتفت التهمة من المرتهن، فصح بيعه.

(6/59)


الثاني ـ وهو اختيار الطبري في " العدة " ـ: أنه لا يصح البيع؛ لأنه توكيل فيما يتعلق به حقه فلم يصح، كما لو كان غائبا، وقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إلا أن يحضر رب الرهن) معناه: فيبيعه بنفسه، ألا ترى أنه قال: (فإن امتنع.. أمره الحاكم ببيعه) ؟
فإن قيل: هلا قلتم: يصح البيع وإن كانت الوكالة فاسدة، كما قلتم في سائر الوكالات الفاسدة؟
فالجواب: أن الوكالة الفاسدة إنما يصح البيع فيها؛ لأن الفساد غير راجع إلى الإذن، وإنما هو راجع إلى معنى في العوض، وهاهنا الفساد راجع إلى الإذن نفسه، فهو كما لو وكله أن يبيع من نفسه.. فباع.
وبالله التوفيق

(6/60)


[باب ما يدخل في الرهن وما لا يدخل وما يملكه الراهن وما لا يملكه]
باب ما يدخل في الرهن وما لا يدخل
وما يملكه الراهن وما لا يملكه إذا رهنه أرضا وفيها بناء أو شجر، فإن شرط دخول ذلك في الرهن، أو قال: رهنتكها بحقوقها.. دخل البناء والشجر في الرهن مع الأرض، وهكذا: إن قال: رهنتك هذا البستان أو هذه الدار.. دخل الشجر والبناء في الرهن. فإن قال: رهنتك هذه الأرض، وأطلق.. فهل يدخل البناء والشجر في الرهن؟ فيه ثلاث طرق، ذكرناها في البيع.
وإن باعه شجرة، أو رهنها منه.. صح البيع والرهن في الشجرة، وهل يدخل قرارها في البيع والرهن؟ ذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: أن قرارها لا يدخل في الرهن، وجها واحدا، وهل يدخل في البيع؟ فيه وجهان.
وذكر الطبري في " العدة ": أن البيع والرهن على وجهين:
أحدهما: لا يدخل؛ لأن المسمى في العقد هو الشجر، وهذا ليس بشجر.
فعلى هذا: إذا انقطعت الشجرة.. لم يكن للمشتري أن يغرس مكانها غيرها.
والثاني: يدخل قرار الشجرة؛ لأن قوام الشجرة به، فهو كعروق الشجرة تحت الأرض.
فعلى هذا: إذا انقطعت هذه الشجرة.. كان للمشتري أن يغرس مكانها.
وأما البياض الذي بين الشجر: فلا يدخل في البيع والرهن، وجها واحدا؛ لأن العقد إنما يتناول الشجر.

[مسألة: زيادة الرهن]
وأما نماء الرهن: فضربان: موجود حال الرهن، وحادث بعد الرهن.
فأما الموجود حال الرهن: فإن كان ثمرة.. فقد مضى ذكرها. واختلف أصحابنا

(6/61)


في ورق التوت وأغصان الخلاف والآس:
فمنهم من قال: هو كالورق والأغصان من سائر الأشجار، فيدخل في الرهن.
ومنهم من قال: هو كالثمار من سائر الأشجار. وقد مضى ذكرها.
وإن رهنه ماشية، وفيها لبن أو صوف.. فالمنصوص: (أنه لا يدخل في الرهن) .
وقال الربيع: في الصوف قول آخر: (أنه يدخل) . فمن أصحابنا من قال: في الصوف قولان. ومنهم من قال: لا يدخل، قولا واحدا. وما ذكره الربيع: من تخريجه.

وأما النماء الحادث بعد الرهن: كالولد، والثمرة، واللبن، وسائر منافعه.. فاختلف أهل العلم فيه:
فذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى: (أنه ملك للراهن، وأنه لا يدخل في الرهن، وللراهن أن ينتفع بالرهن) .
وقال قوم من أصحاب الحديث: نماء الرهن ومنافعه ملك لمن ينفق عليه، فإن كان الراهن هو الذي ينفق عليه.. ملكه. وإن كان المرتهن هو الذي ينفق عليه.. فالنماء ملك له.
وقال أحمد رحمة الله عليه: (لبن الرهن ملك للمرتهن، فله حلبه وشربه) .
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (الثمرة والولد واللبن الحادث بعد الرهن ملك للراهن، إلا أنه يدخل في الرهن) . وقال أيضا: (ليس للراهن ولا للمرتهن أن ينتفع بالرهن، بل تترك المنافع تتلف) .

(6/62)


وقال مالك رحمة الله عليه: (الولد الحادث يكون رهنا ـ كقول أبي حنيفة ـ وأما الثمرة: فلا تكون رهنا) . كقولنا.
دليلنا على أصحاب الحديث، وعلى أحمد رحمة الله عليه: ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يغلق الرهن من راهنه الذي رهنه، له غنمه، وعليه غرمه» . فمن قال: إنه ملك للمرتهن.. فقد خالف نص الخبر.
وروى الشعبي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من رهن دابة.. فعليه نفقتها، وله ظهرها ونتاجها» . وهذا نص، ولأن الرهن ملك للراهن، فكان نماؤه ملكا له، كما لو لم يكن مرهونا.
وعلى أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ما روى الأعمش، عن أبي هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الرهن محلوب ومركوب» . وبالإجماع بيننا وبين أبي حنيفة: أنه لم يرد: أنه محلوب ومركوب للمرتهن، فثبت: أنه محلوب ومركوب للراهن.
وأيضا: فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يغلق الرهن من راهنه الذي رهنه، له غنمه، وعليه غرمه» . و (الغنم) : هو النماء، فمن قال: إنه رهن.. فقد خالف الخبر، ولأن الرهن عقد لا يزيل الملك عن الرقبة، فلم يسر إلى الولد، كالإجارة، ولأن الرهن حق تعلق بالرقبة ليستوفي من ثمنها، فلم يسر إلى الولد، كالأرش في الجناية، وذلك: أن الجارية إذا جنت.. تعلق حق الجناية برقبتها، وإذا أتت بولد.. لم يسر أرش الجناية إلى ولدها.

إذا ثبت: أن منافع الرهن ملك للراهن.. فله أن يستوفيها على وجه لا ضرر فيه على المرتهن، فإن كان الرهن عبدا أو دابة.. فله أن يعيره ثقة، وله أن يؤاجره من ثقة

(6/63)


إلى مدة تنقضي قبل حلول الحق، وهل له أن يستخدمه بنفسه، أو يركب البهيمة بنفسه؟
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع: (له ذلك) . وقال في موضع: (ليس له ذلك) .
فمن أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز، لأنه لا يؤمن أن يجحده.
والثاني: يجوز، وهو الصحيح؛ لأنه لما جاز أن يستوفيه بغيره.. جاز أن يستوفيه بنفسه، كغير الرهن.
ومنهم من قال: إن كان الراهن ثقة.. جاز له أن يستوفيه بنفسه وإن كان غير ثقة لم يجز أن يستوفي بنفسه لأن الثقة يؤمن منه أن يجحد، وغير الثقة لا يؤمن منه أن يجحد. وحمل القولين على هذين الحالين. والصحيح الطريق الأول.
إذا ثبت هذا: فإنما له أن يعير الرهن، ويؤاجره، ويستوفي ذلك بنفسه، بحيث لا يخرجه عن سلطان المرتهن، وهو أن يفعل ذلك كله في بلدة المرتهن، بحيث يرده إلى المرتهن أو إلى العدل بالليل، فأما أن يؤاجره للمسافرة به، أو يسافر هو به.. فلا يجوز؛ لأن ذلك يخرج الرهن عن سلطان المرتهن.
وإن كان الرهن دارا.. فله أن يؤاجرها، ويعيرها، وهل له أن يسكنها بنفسه؟ على الطريقين، إلا أن لساكنها أن يسكنها ليلا ونهارا.
والفرق بين الدار والعبد والدابة: أن سكنى الدار تتصل ليلا ونهارا، وخدمة العبد، وركوب الدابة وتحميلها لا يتصل، وإنما يكون بالنهار.
وإن كان الرهن ثوبا.. لم يجز للراهن لبسه بنفسه، ولا له أن يؤاجره، ولا يعيره؛ لأن ذلك يؤدي إلى إتلافه.
وإن كان الرهن جارية.. لم يكن للراهن تزويجها، وكذلك لا يجوز له تزويج العبد المرهون.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يجوز تزويجهما) .

(6/64)


دليلنا: أن التزويج ينقص قيمتهما.
وهل يجوز له وطء الجارية المرهونة؟ ينظر فيه:
فإن كانت ممن يحبل مثلها.. لم يجز له ذلك؛ لأن ذلك يؤدي إلى الإضرار بالمرتهن بأن تحبل، فتتلف. وله أن يؤاجرها ويعيرها للخدمة، وهل له أن يستخدمها بنفسه؟
إن قلنا: لا يجوز له استخدام العبد بنفسه.. فهذه الجارية أولى.
وإن قلنا: له أن يستخدم العبد بنفسه.. قال أصحابنا: فليس له أن يستخدم هذه الجارية، قولا واحدا؛ لأنه لا يؤمن أن يخلو فيها فيطأها.
والذي يبين لي: أنها إذا كانت ممن لا يحل له وطؤها، كامرأة من ذوات محارمه.. أنه يجوز له أن يستخدمها؛ لأن ذلك مأمون في حقه.
وإن كانت الجارية صغيرة.. فهل له أن يطأها؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: يجوز له أن يطأها؛ لأنه يؤمن أن يحبلها.
و [الثاني] : قال أبو علي بن أبي هريرة: لا يجوز له؛ لأن الإحبال والحيض قد يختلف بالنساء، فقد يسرع إلى بعضهن لقوتها وسمنها، ويتأخر عن البعض، فحسمنا الباب.
فإن قلنا بهذا: لم يجز له استخدامها بنفسه؛ لأنه لا يؤمن أن يطأها.
وإن قلنا بقول أبي إسحاق.. فهي كالعبد إذا أراد أن يستخدمه بنفسه.
وإن كان الرهن أرضا، فأراد الراهن أن يزرع فيها.. نظرت:
فإن كان زرعا يضر بها.. لم يكن له ذلك؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا إضرار»

(6/65)


وإن كان لا يضر بالأرض.. نظرت:
فإن كان يحصد قبل حلول الدين.. لم يمنع منه.
وإن كان لا يحصد إلا بعد حلول الدين.. فالمنصوص: (أنه ليس له ذلك) .
وقال الربيع فيه قول آخر: (أن له ذلك) .
فمن أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه ينقص قيمة الأرض عند حلول الدين.
والثاني: له ذلك؛ لأن الزرع قد يمكن نقله من غير ضرر.
قال الشيخ أبو حامد: ليس له أن يزرع ذلك، قولا واحدا، وما حكاه الربيع من كيسه.

(6/66)


وإن أراد الراهن أن يغرس في الأرض المرهونة، أو يبني فيها.. لم يكن له ذلك؛ لأن ذلك ينقص قيمتها، فإن خالف، وغرس، وبنى.. لم يقلع؛ لأنه قد يقضى الدين من غير الأرض، وربما وفت قيمة الأرض بالدين، فلا يجوز الإضرار به لضرر متوهم في الثاني.
فإذا حل الدين وفي الأرض ما غرسه الراهن، أو حمل إليها السيل غراسا له، فنبت له، فإن قضى الراهن الدين من غير الأرض.. فلا كلام. وإن لم يقضه من غير الأرض.. نظرت:
فإن كانت قيمة الأرض وحدها تفي بالدين.. بيعت الأرض في الدين، ويبقى الغراس والبناء على ملك الراهن.
وإن كانت قيمة الأرض وحدها لا تفي بالدين.. نظرت:
فإن لم تنقص قيمتها لأجل الغراس والبناء.. بيعت الأرض وحدها، وقضي الدين من ثمنها.
وإن كانت قيمة الأرض قد نقصت لأجل الغراس والبناء، بأن كانت قيمتها وهي بيضاء مائة، فصارت قيمة الأرض وحدها بعد الغراس ثمانين، نظرت: فإن كان الراهن غير محجور عليه.. فهو بالخيار: بين أن يقلع غراسه وبناءه، ويسوي الأرض كما كانت، وتباع في حق المرتهن، وبين أن يبيع الأرض والغراس والبناء، ويسلم إلى المرتهن قيمة الأرض بيضاء وهي مائة؛ لأن قيمتها نقصت بفعله.
وإن كان الراهن محجورا عليه.. نظرت:
فإن لم تزد قيمة الأرض والغراس، بأن كانت قيمة الأرض بيضاء مائة، وقيمة الغراس خمسين، فصارت قيمتهما جميعا مائة وخمسين.. بيعا جميعا، ودفع إلى المرتهن قيمة الأرض، وإلى سائر الغرماء قيمة الغراس.

(6/67)


وإن نقصت قيمة الأرض بالغراس، بأن صارت قيمتها جميعا مائة وثلاثين.. لم يجز للراهن قلع الغراس؛ لأنه تعلق به حق الغرماء، ولكن تباع الأرض والغراس، ويدفع إلى المرتهن قيمة الأرض بيضاء وهي مائة، وإلى سائر الغرماء ثلاثون.
وإن كانت قيمة الأرض بيضاء مائة، وقيمة الغراس منفردا خمسين، فإذا جمع بينهما، صارت قيمتهما مائتين.. فقد حدثت الزيادة فيهما، فيتعلق حق المرتهن بثلثي الخمسين الزائدة، وللراهن ثلثها.
وإن ترك في أرضه نوى، ثم رهنها، ثم نبتت نخلا، فإن علم المرتهن بذلك.. فلا خيار له؛ لأنه رضي بارتهان أرض ذات نخل، ولا يكون النخل داخلا في الرهن، فإذا حل الحق، وبيعت الأرض.. كان للمرتهن قيمة الأرض بيضاء ذات نخل. وإن لم يعلم بها، ثم علم.. كان له الخيار، فإن فسخ.. فلا كلام، وإن لم يفسخ.. كان الحكم ما ذكرناه.

[فرع: الانتفاع بالرهن]
وإن أراد الراهن أن يؤجر الرهن إلى مدة لا تنقضي إلا بعد محل الدين:
فإن قلنا: لا يجوز بيع المستأجر.. لم يكن له ذلك؛ لأن ذلك يمنع من بيعه.
وإن قلنا: يجوز بيع المستأجر.. ففيه طريقان:
[أحدهما] : قال عامة أصحابنا: لا يجوز له ذلك؛ لأن ذلك ينقص من قيمته عند البيع.
و [الثاني] : قال أبو علي الطبري: فيه قولان، كالقولين في زراعة ما لا يحصد، إلا بعد محل الدين.

(6/68)


[فرع: رهن فحل الضراب]
وإن كان الرهن فحلا، فأراد الراهن أن ينزيه على بهائمه، أو بهائم غيره.. قال الشافعي: (جاز؛ لأن هذا منفعة، ولا ينقص به كثيرا) . وإن كان أتانا، وأراد أن ينزي عليها الفحل، فإن كانت تلد قبل حلول الدين، أو مع حلول الدين.. جاز؛ لأنه استيفاء منفعة لا ضرر على المرتهن بها. وإن كانت لا تضع إلا بعد حلول الدين.. فإن قلنا: لا حكم للحمل.. كان له ذلك؛ لأن الحق إذا حل وهي حامل.. صح بيعها، وحملها يدخل في البيع. وإن قلنا: للحمل حكم.. لم يكن له ذلك؛ لأن الحمل لا يدخل في الرهن، ولا يمكن بيعها دون الحمل. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " من غير تفصيل.
وذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب " وابن الصباغ: أن القولين إذا كان الحمل يظهر بها قبل حلول الدين، فأما إذا كان الحمل لا يظهر بها قبل محل الدين.. جاز؛ لأنه يمكن بيعها في الدين. ولعل الشيخ أبا حامد أراد بإطلاقه هذا.

[مسألة: تصرف المرتهن بما فيه منفعة]
ويملك الراهن التصرف في عين الرهن بما لا ضرر فيه على المرتهن، كحجامة العبد وفصده؛ لأنه إصلاح لماله، ولا ضرر فيه على المرتهن. وإن مرض، فأراد مداواته بدواء لا ضرر فيه، وإنما يرجى نفعه.. لم يكن للمرتهن منعه، ولا يجبر على ذلك؛ لأن الشفاء قد يأتي من غير دواء.
وإن أراد الراهن أن يقطع شيئا من بدنه، فإن كان في قطعه منفعة، وفي ترك قطعه خوف عليه، مثل: الآكلة إذا كانت في يده.. فإن للراهن أن يقطع ذلك بغير إذن المرتهن؛ لأن في قطع ذلك مصلحة من غير خوف؛ لأنه لحم ميت، [و] لا يحس

(6/69)


بلحم ميت. وإن كان يخاف من قطعه، ويخاف من تركه.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ ولم يذكر الشيخان غيره ـ: أنه لا يجوز إلا بإذن الراهن والمرتهن؛ لأنه يخاف عليه من قطعه، فلم يجز، كما لو لم يخف عليه من تركه.
والثاني ـ حكاه ابن الصباغ عن أبي علي الطبري ـ: أن له أن يفعله، إلا أن يخاف منه التلف غالبا، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لأن المنفعة بذلك إذا كانت هي الغالبة.. كان فيه صلاح، كالمتيقن. وإن كانت به سلعة أو أصبع زائدة أو ضرس زائد، وأراد قطعه.. قال الشيخ أبو حامد: لم يكن له قطعه وإن تراضيا؛ لأنه لا يخاف من تركه، ويخاف من قطعه، ولهذا: لو أراد الحر قطع ذلك من نفسه.. لم يكن له ذلك. وقال ابن الصباغ: هذا مما لا يخاف من قطعه غالبا، فيكون على الوجهين.
وإن كان العبد صغيرا، وأراد الراهن أن يختنه.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (له ذلك؛ لأنه سنة، وزيادة) . وأطلق هذا.
قال أصحابنا: ينظر فيه: فإن كان الحق حالا أو مؤجلا بحيث يحل قبل أن يبرأ.. لم يكن له أن يختنه؛ لأنه بالختان يتغير لونه وسجيته. وإن كان الختان يبرأ قبل حلول الحق.. كان له ذلك؛ لأنه سنة، ويزيد في قيمة العبد.
وإن كان الرهن دابة، فاحتاجت إلى التوديج، وهو: فتح عرقين عريضين عن يمين ثغرة النحر ويسارها يسميان: الوريدين، أو إلى التبزيغ وهو: فتح

(6/70)


الرهصة، و (التبزيغ) : الشق. ولهذا يقال: بزغت الشمس: إذا طلعت.. فللراهن أن يفعل ذلك بغير إذن المرتهن؛ لأن فيه مصلحة من غير ضرر.
وإن أراد المرتهن أن يفعل شيئا من هذا بغير إذن الراهن.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فكل ما كان فيه مصلحة، ولا يتضمن المضرة أصلا.. جاز أن يفعله، مثل: تدهين الماشية الجرباء بالقطران، وغير ذلك مما فيه منفعة من غير مضرة. وأما ما كان فيه منفعة، وقد يضر أيضا؛ كالفصد والحجامة وشرب الدواء وغير ذلك فكل هذا قد ينفع وقد يضر أيضا؛ لأنه قد لا يوافق.. فليس له ذلك.
وللراهن أن يفعل ما يتضمن المنفعة والضرر من هذه الأشياء بغير إذن المرتهن، بخلاف المرتهن، فإنه لا يفعل شيئا من ذلك إلا بإذن الراهن) .
قال الشيخ أبو حامد في " التعليق ": وهذه المسألة غريبة.

[فرع: رهن الماشية]
إذا كان الرهن ماشية.. فللراهن أن يرعى ماشيته، وليس للمرتهن منعه من ذلك؛ لأنها تأوي بالليل إلى يد الموضوعة على يده. وإن أراد الراهن أن ينتجع بها، وهو: أن يحملها إلى غير ذلك الموضع ليطلب الكلأ، فإن اتفقا عليه.. جاز. وإن امتنع أحدهما.. نظرت:

(6/71)


فإن كان الموضع مخصبا كما كان.. لم يجبر الممتنع؛ لأن المرتهن يقول: إنما ارتهنتها في هذه البلد، فليس لك أن تنقلها منه إلى بلد آخر بغير ضرورة.
وإن كان الموضع مجدبا، فإن اتفقا على النجعة والمكان.. جاز؛ لأن الحق لهما، وقد رضيا. وإن اتفقا على النجعة، واختلفا في المكان، قال الشيخ أبو حامد: وكان المكانان متساويين في الخصب والأمن.. قدم قول الراهن؛ لأنه هو المالك للرقبة. وإن اختلفا في النجعة.. أجبر الممتنع منهما من النجعة عليها؛ لأن المرتهن إن كان هو الممتنع.. قيل له: ليس لك ذلك؛ لأنك تضر بالماشية، فإما أن تخرج معها، أو ترضى بعدل من قبلك تأوي إليه، وإلا نصب الحاكم عدلا من قبله عليها. وإن كان الممتنع هو الراهن.. قيل له: ليس لك ذلك؛ لأنك تضر بالمرتهن، فإما أن تخرج معها، أو توكل من يأخذ رسلها، وهو: لبنها، ويرعاها، ويحفظها.

[فرع: رتهن نخلا فله تأبيرها]
فرع: [ارتهن نخلا فله تأبيرها] :
وإن كان الرهن نخلا، فأطلعت.. كان للراهن تأبيرها من غير إذن المرتهن؛ لأن ذلك مصلحة لماله من غير ضرر، وما يحصل من السعف الذي يقطع كل سنة، أو الليف.. فهو للراهن، لا يدخل في الرهن؛ لأنه يقطع في كل سنة، فهو كالثمرة. فإن قيل: هذا قد تناوله عقد الرهن، وليس بحادث؟

(6/72)


فالجواب: أن ما يحدث من السعف يقوم مقامه، فصار هذا بمنزلة المنفعة خارجا عن الأصول.
فإن خرجت الفسلان في أصل النخل.. قال ابن الصباغ: فعندي: أن ذلك يكون للراهن، لا حق للمرتهن فيه؛ لأنه يخرج عن الأصول، فهو كالولد.
فإن ازدحمت النخل أو الشجر، فأراد الراهن أن يحول بعضها إلى بعض أرض الرهن، وكان في تحويلها مصلحة للباقي.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (كان له ذلك) ؛ لأن النخل إذا ازدحمت قتل بعضها بعضا، فإن حولها، فنبتت.. كانت رهنا. وإن جف منها شيء.. كانت أخشابها رهنا، وإن لم يكن في أرض الرهن ما يمكن تحويلها إليه، وأراد الراهن قطع بعضها، وفي ذلك زيادة للباقي.. كان للراهن أن يفعل ذلك بغير إذن المرتهن، كما قلنا في التحويل، فإذا قطعت.. كانت أخشابها رهنا. وإن أراد الراهن تحويل بعضها إلى أرض غير الأرض المرهونة، أو أراد تحويل جميعها إلى الأرض المرهونة، أو قطع جميعها.. لم يكن له ذلك؛ لأن ذلك ضرر من غير منفعة.

[فرع: المرتهن يحول المساقي]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن أراد الراهن تحويل المساقي، فإن كان يضر بالرهن.. لم يكن له ذلك) .
قال الشيخ أبو حامد: والمساقي، جمع: مسقى، وهو: الإجانة التي تكون حول النخل، يقف الماء فيها ليشربه النخل، فإذا أراد أن يحولها الراهن من جانب إلى جانب، فإن لم يكن فيه ضرر على النخل.. جاز له ذلك. وإن كان فيه ضرر على النخل.. لم يجز له ذلك.

(6/73)


قال الشيخ أبو حامد: فأما المرتهن إذا أراد أن يفعل ذلك.. لم يكن له؛ لأنه يتصرف في ملك الراهن، ولا يجوز له التصرف في ملك غيره، وليس هذا كتدهين الجرباء من الماشية بالدهن والقطران؛ لأن في التدهين بذلك منفعة من غير مضرة، فوزانه من النخل: إن احتاج إلى سقي.. فللمرتهن أن يسقي النخل بغير إذن الراهن؛ لأن فيه منفعة من غير مضرة.

[مسألة: أزال مالك الرهن ملكه عنه]
وإن أزال الراهن ملكه عن الرهن بغير إذن المرتهن.. نظرت:
فإن كان ببيع، أو هبة، وما أشبههما من التصرفات.. لم يصح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا إضرار» . وفي هذه التصرفات إضرار على المرتهن، ولأنه تصرف لا يسري إلى ملك الغير يبطل به حق المرتهن من الوثيقة، فلم يصح من الراهن بغير إذن المرتهن، كالفسخ.
فقولنا: (لا يسري إلى ملك الغير) احتراز من العتق.
وقولنا: (يبطل به حق المرتهن من الوثيقة) احتراز من إجارته وإعارته للانتفاع به.
وقولنا: (بغير إذن المرتهن) احتراز منه إذا أذن.
وإن كان الرهن رقيقا، فأعتقه الراهن بغير إذن المرتهن.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (إن كان موسرا.. نفذ عتقه، وإن كان معسرا.. فعلى قولين) .
وقال في القديم: (قال عطاء: لا ينفذ عتقه، موسرا كان أو معسرا) . ولهذا وجه. ثم قال: (قال بعض أصحابنا: ينفذ إن كان موسرا، ولا ينفذ إن كان

(6/74)


معسرا) . واختلف أصحابنا في ترتيب المذهب فيها:
فقال أبو علي الطبري، وابن القطان: في المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: ينفذ إعتاقه، موسرا كان أو معسرا.
والثاني: لا ينفذ إعتاقه، موسرا كان أو معسرا.
والثالث: إن كان موسرا.. نفذ، وإن كان معسرا.. لم ينفذ. وهذه الطريقة اختيار الشيخ أبي إسحاق، وابن الصباغ.
وقال أبو إسحاق المروزي: القولان في الموسر، وأما المعسر: فمرتب على الموسر، فإن قلنا: إن عتق الموسر لا ينفذ.. فالمعسر أولى أن لا ينفذ عتقه. وإن قلنا: عتق الموسر ينفذ.. ففي عتق المعسر قولان.
وقال الشيخ أبو حامد: في عتق الموسر والمعسر قولان، وما حكاه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من الفرق بين الموسر والمعسر.. فإنما حكى قول غيره، ولم يختره لنفسه. قال: وترتيب أبي إسحاق ليس بشيء. قال الشيخ أبو حامد: إلا أن الصحيح من القولين في الموسر: أن عتقه ينفذ، والصحيح من القولين في المعسر: أنه لا ينفذ عتقه.
فإذا قلنا: إن عتقه يصح موسرا كان أو معسرا، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد رحمة الله عليهما.. فوجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا طلاق إلا في نكاح، ولا عتق إلا فيما يملكه ابن آدم» وهذا يملكه، ولأن الرهن محبوس على استيفاء حق، فجاز أن

(6/75)


يلحقه عتق المالك، كالمشتري إذا أعتق العبد المبيع في يد البائع قبل أن ينقد الثمن، ولأن الرهن عقد لا يزيل الملك، فلم يمنع صحة العتق، كالإجارة والنكاح، وفيه احتراز من البيع والهبة.
فعلى هذا: إن كان موسرا.. أخذت من الراهن قيمة الرهن عند الحكم بعتقه، وجعلت رهنا مكانه، ولا يفتقر إلى تجديد عقد الرهن على القيمة؛ لأنها قائمة مقام الرهن. وإن كان معسرا.. وجبت القيمة في ذمته، فإن أيسر قبل محل الدين.. أخذت منه القيمة، وجعلت رهنا، إلا أن يختار تعجيل الدين، فله ذلك. وإن لم يؤسر إلا بعد محل الدين.. طولب بقضاء الدين. ومتى يحكم بالعتق؟ فيه طريقان:
[الطريق الأول] : من أصحابنا من قال: فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: يعتق بلفظ الإعتاق.
والثاني: لا يعتق إلى بدفع القيمة.
والثالث: أنه موقوف، فإن دفع القيمة.. علمنا أنه قد كان عتق بلفظ الإعتاق، وإن لم يدفع القيمة.. علمنا أنه لم يعتق، كما لو أعتق الموسر شقصا له من عبد.. فإن نصيب شريكه يعتق عليه، ومتى يعتق؟ على هذه الأقوال.
و [الطريق الثاني] : منهم من قال: يعتق بلفظ العتق، قولا واحدا، وهو الصحيح؛ لأنه لو كان كعتق الشقص.. لم ينفذ عتق المعسر، كما لا يعتق نصيب الشريك من المعسر.
وإذا قلنا: لا ينفذ إعتاقه موسرا كان أو معسرا.. فوجهه: أن العتق معنى تبطل به الوثيقة من غير الرهن، فلم يصح من الراهن بنفسه، كالبيع، ولأن حق المرتهن متعلق بمحلين: ذمة الراهن، وعين الرهن. ولو أراد الراهن أن يحول الحق من ذمته إلى ذمة غيره.. لم يصح بغير رضا المرتهن، وكذلك إذا أراد تحويل حقه من عين الرهن إلى غيره.
فعلى هذا: يكون الرهن بحاله. وإذا حل الحق، وبيع العبد في الدين.. صح البيع.

(6/76)


وإن قضى الراهن الدين من غير الرهن، أو أبرأه المرتهن، أو بيع في الدين، ثم رجع إلى الراهن ببيع، أو هبة، أو إرث.. فهل ينفذ عتقه الأول؟ فيه وجهان:
أحدهما: ينفذ، وبه قال مالك رحمة الله عليه، لأنا إنما لم نحكم بصحته؛ لحق المرتهن، وقد زال حق المرتهن، فوجب أن يحكم بصحته، كالإحبال.
والثاني وهو المذهب: أنه لا ينفذ؛ لأنه عتق لم يصح حال الإعتاق، فلم يصح فيما بعد، كالمحجور عليه إذا أعتق عبده، ثم فك عنه الحجر، ويخالف الإحبال فإنه أقوى، ولهذا نفذ إحبال المجنون، ولم ينفذ عتقه.
وإذا قلنا: ينفذ إعتاق الموسر، ولا ينفذ إعتاق المعسر.. فوجهه: أنه عتق في ملكه يبطل به حق الغير، فاختلف فيه الموسر والمعسر، كالعتق في العبد المشترك، ولأنه لا ضرر على المرتهن في إعتاق الموسر، فصح، وعليه ضرر في إعتاق المعسر، فلم يصح، كما قلنا في العبد المأذون له في التجارة، إذا كان في يده عبد، فأعتقه سيد المأذون، فإن كان لا يدن على المأذون له.. نفذ عتق السيد في العبد، وإن كان عليه دين.. لم ينفذ.
فعلى هذا: إن كان الراهن موسرا.. أخذت منه القيمة، وجعلت رهنا، وتعتبر القيمة وقت العتق. ومتى يعتق؟ الذي يقتضي المذهب: أنه على الأقوال الثلاثة في عتق نصيب الشريك. وإن كان المعتق معسرا.. فالرهن بحاله، فإن أيسر قبل محل الدين، أو قضى الدين عنه أجنبي، أو أبرأه المرتهن، أو بيع العبد في الدين، ثم رجع إلى الراهن ببيع، أو هبة، أو إرث.. فهل يعتق عليه بإعتاقه الأول؟ ينبغي أن يكون على الوجهين إذ قلنا: لا ينفذ عتقه بحال.

[مسألة: جواز رهن الجارية الموطوءة]
وإن كان له جارية، فوطئها، ثم رهنها.. صح الرهن؛ لأن الأصل عدم الحمل، فلم يمنع صحة الرهن. وهكذا: لو رهنها، ثم وطئها، ثم أقبضها عن الرهن.. صح الإقباض؛ لأن الرهن قبل القبض غير لازم، فهو كما لو وطئها، ثم رهنها. فإن ولدت بعد الإقباض.. نظرت:

(6/77)


فإن ولدت لدون ستة أشهر من وقت الوطء.. لم يلحق الولد بالراهن، ولم يبطل الرهن في الأم؛ لأنها لم تصر أم ولد له، وكان الولد مملوكا.
وإن وضعت الولد لستة أشهر من وقت الوطء.. نظرت:
فإن اعترف الراهن عند تسليمها: أنه كان قد وطئها، ولم يستبرئها.. صارت أم ولد له، وثبت نسب الولد منه، ويبطل الرهن فيها؛ لأنه بان أنه رهنها بعد أن صارت أم ولد. وهل يثبت للمرتهن الخيار في البيع إن كان رهنها مشروطا في البيع؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال القاضي أبو الطيب: لا خيار له. وحكاه ابن الصباغ عن الشيخ أبي حامد؛ لأنه قبضها مع الرضا بالوطء، فصار بمنزلة رضاه بالعيب.
والثاني ـ ذكره الشيخ أبو حامد في " التعليق "، وهو قول ابن الصباغ ـ: أن له الخيار؛ لأنه باع بشرط أن يتسلم رهنا صحيحا، ولم يسلم له ذلك، ولأنا إذا جعلنا الأصل عدم الحمل، وصححنا عقد الرهن.. لم يكن رضا المرتهن بقبض الموطوءة رضا بالحمل، فثبت له الخيار.
وإن وضعته لأكثر من ستة أشهر، ولأربع سنين فما دونها من وقت الوطء.. ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\263-264] :
أحدهما ـ وهو قول البغداديين من أصحابنا ـ: أنها كالأولى؛ لأنا نتبين أن الولد كان موجودا وقت الإقباض، فيلحق النسب بالراهن، وتصير أم ولد له، ويبطل الرهن.
والثاني: لا يبطل الرهن؛ لأن النسب يثبت بالاحتمال، ولا يبطل الرهن بالاحتمال.
وإن وضعت الولد لأكثر من أربع سنين من وقت الوطء.. لم يلحق نسبه بالراهن، ولم تصر الجارية أم ولد له، ولا يبطل الرهن، لأنا نعلم أن هذا الولد حدث من وطء بعد الرهن.
وإن ولدت لستة أشهر من وقت الإقباض، فقال الراهن عند ذلك: كنت وطئتها قبل الإقباض.. فهل يقبل قوله؟ فيه قولان، كما لو رهن عبدا، وأقبضه، ثم أقر

(6/78)


الراهن: أن العبد كان جنى خطأ على غيره قبل الرهن، وصدقه المقر له، وأنكر المرتهن، ويأتي توجيههما إن شاء الله تعالى.

[فرع: لا يحل وطء الراهن الجارية إلا بإذن المرتهن]
] . فأما إذا رهن جارية، فأقبضها.. فلا يحل له وطؤها بغير إذن المرتهن؛ لأن فيه ضررا على المرتهن؛ لأنها ربما حبلت، فتموت منه، أو تنقص قيمتها. فإن خالف، ووطئ.. فلا حد عليه؛ لأن وطأه صادف ملكه، ولا مهر عليه؛ لأن غير الراهن لو وطئها بشبهة، أو أكرهها.. لكان المهر للراهن، فإن وطئها الراهن.. لم يجب عليه مهر لنفسه. فإن أفضاها، أو كانت بكرا، فافتضها.. وجبت عليه قيمتها بالإفضاء، وأرش ما نقصها الافتضاض؛ لأن ذلك بدل عن جزء منها، ويكون الراهن بالخيار: إن شاء.. جعل ذلك قصاصا من الحق إن كان لم يحل، وإن شاء.. جعله رهنا معها إلى أن يحل الحق. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا أظن أن عاقلا يجعل ذلك رهنا) ، فيكون أمانة؛ لأنه يمكنه أن يجعله قصاصا من الحق. وإن حبلت من هذا الوطء.. انعقد الولد حرا، وثبت نسبه من الراهن. وهل تصير الجارية أم ولد، ويبطل الرهن؟
قال عامة أصحابنا: هو كما لو أعتقها الراهن بعد الإقباض بغير إذن المرتهن على الأقوال المذكورة في العتق.
وقال أبو إسحاق المروزي: إن قلنا: ينفذ عتقه.. نفذ إحباله. وإن قلنا: لا ينفذ عتقه.. فهل ينفذ إحباله؟ فيه وجهان؛ لأن الإحبال أقوى؛ لأنه ينفذ من المجنون، ولا ينفذ عتقه. والأول أصح.
فإن قلنا: ينفذ إحباله، وتصير أم ولد.. فالحكم فيه، كالحكم إذا قلنا: يصح عتقه على ما مضى.

(6/79)


وإن قلنا: لا ينفذ إحباله، ولا تصير أم ولد.. فإنما نريد بذلك: أنها لا تصير أم ولد للراهن في حق المرتهن، ولا يبطل به الرهن.
قال الشيخ أبو حامد: وإن أراد الراهن أن يهبها من المرتهن.. لم تصح الهبة.
فعلى هذا: يكون الولد حرا ثابت النسب من الراهن، فما دامت حاملا لا يجوز بيعها؛ لأنها حامل بحر، ولا يجوز بيعها واستثناء الولد عن البيع، كما لا يجوز استثناء بعض أعضائها، ولا يجوز بيعها مع الولد؛ لأن الحر لا يصح بيعه.
فإن ماتت من الولادة.. وجب على الراهن قيمتها؛ لأنها هلكت بسبب من جهته تعدى به، فلزمه ضمانها، كما لو جرحها، فماتت منها، ومتى تعتبر قيمتها؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: تعتبر قيمتها حين وطئها؛ لأنه حين الجناية، كما لو جرحها، وماتت.. فإن قيمتها تعتبر يوم جرحها.
والثاني: تعتبر قيمتها أكثر ما كانت من حين وطئها إلى أن ماتت، كما لو غصب جارية، وأقامت في يده، ثم ماتت.
والثالث ـ وهو قول أبي علي بن أبي هريرة ـ: أن قيمتها تعتبر حين ماتت؛ لأن التلف حصل به. وحكي: أن أبا علي ألزم إذا جرحها، فسرى إلى نفسها، فالتزم ذلك، وقال: يجب قيمتها يوم موتها.
قال أصحابنا: وهذا خطأ، بل تعتبر قيمتها يوم الجراحة، وإن لم تمت، ولكن نقصت قيمتها بالولادة.. لزم الراهن أرش النقص، فإن شاء.. جعل ذلك رهنا، وإن شاء.. جعله قصاصا من الحق.
وإن ولدت.. فلا يجوز بيعها قبل أن تسقي الولد اللبأ؛ لأن الولد لا يعيش إلا به، فإذا سقته اللبأ.. نظرت:
فإن لم توجد له مرضعة.. لم يجز بيعها حتى تفطمه؛ لأن ذلك يؤدي إلى تلفه.
وإن وجد من ترضعه غيرها.. جاز بيعها بحق المرتهن.
فإن قيل: كيف جاز التفريق بينها وبين الولد؟ قيل: إنما لا يجوز التفريق بينهما إذا كان يمكن الجمع بينهما في البيع، وهاهنا لا يجوز بيع الولد، فلذلك فرق بينهما.

(6/80)


فإن كان الدين يستغرق قيمتها.. جاز بيع جميعها. وإن كان الدين أقل من قيمتها.. بيع منها بقدر الدين، إلا إن لم يوجد من يشتري بعضها، فتباع جميعها للضرورة، فيدفع إلى المرتهن حقه، والباقي من ثمنها للراهن. وإن بيع بعضها بدين المرتهن. انفك الباقي منها من الرهن، وكان ما بيع منها مملوكا للمشتري، وما انفك أم ولد للراهن. فإن مات الراهن.. عتق عليه ما انفك فيه الرهن، ولم يقوم عليه الباقي وإن كانت له تركة؛ لأنه عتق على الميت، والميت لا مال له؛ لأن بالموت صار ماله لورثته. وإن رجع هذا المبيع إلى الراهن بهبة، أو بيع، أو إرث، أو بيع جميعها، ثم رجعت إليه، أو أبرأه المرتهن عن دينه.. ثبت لها حكم الاستيلاد، وعتقت على الراهن بموته على هذا القول.
وقال المزني: لا يثبت لها حكم الاستيلاد على هذا، كما قلنا فيه: إذا أعتقها، وقلنا: لا ينفذ عتقه، ثم رجعت إليه. وهذا ليس بشيء؛ لأنا إنما حكمنا بأن إحباله لم ينفذ في حق المرتهن لا غير، بدليل: أنه لو وهبها من المرتهن.. لم تصح هبته. فإذا زال حق المرتهن.. ثبت لها حكم الاستيلاد، كما لو قال رجل: العبد الذي في يد فلان حر.. فإنه لا يعتق على من هو بيده، ثم ملكه الشاهد له بذلك.. لعتق عليه.. ويفارق الإحبال العتق؛ لأن الإحبال فعل له تأثير لا يمكن رفعه إذا وقع، والعتق قول، فإذا بطل في الحال.. لم يصح فيما بعد؛ لأن الإحبال يصح من المجنون والسفيه، ولا يصح عتقهما.

[مسألة: وقف الرهن بغير إذن المرتهن]
] : وإن وقف الراهن الرهن بعد القبض بغير إذن المرتهن.. ففيه وجهان، حكاهما في " المهذب ":
أحدهما: انه كالعتق، فيكون على الأقوال؛ لأنه حق لله تعالى لا يصح إسقاطه بعد ثبوته، فصار كالعتق.

(6/81)


فقولنا: (لأنه حق لله) احتراز من البيع والهبة.
وقولنا: (لا يصح إسقاطه بعد ثبوته) احتراز من التدبير، فإنه إذا رهن عبدا، وأقبضه، ثم دبره.. لم يحكم ببطلان التدبير.
والوجه الثاني: أن الوقف لا يصح؛ لأنه تصرف لا يسري إلى ملك الغير، فلم يصح من الراهن بنفسه، كالبيع، والهبة.
فقولنا: (لا يسري إلى ملك الغير) احتراز من العتق.

[مسألة: إحبال الراهن الجارية بإذن المرتهن]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو أحبلها الراهن، أو أعتقها بإذن المرتهن.. خرجت من الرهن) . وهذا كما قال: إذا رهنه جارية، وأقبضه إياها، ثم إن المرتهن أذن للراهن بعتقها فأعتقها.. صح ذلك، قولا واحدا، وكذلك: إذا أذن له بوطئها.. جاز له وطؤها؛ لأن المنع من ذلك لحق المرتهن، فإذا أذن له فيه.. زال المنع.
فإن حبلت من الوطء المأذون فيه.. صارت أم ولد للراهن، وخرجت من الرهن، قولا واحدا؛ لأن ذلك ينافي الرهن، فإذا أذن فيه المرتهن.. صار كما لو أذن له في فسخ الرهن، ولو أذن له في الفسخ، ففسخ.. انفسخ الرهن.
فإن قيل: إنما أذن في الوطء دون الإحبال؟
فالجواب: أنه وإن لم يأذن في الإحبال، إلا أن الإحبال من مقتضى إذنه، مع أن الواطئ لا يقدر على الإحبال، وإنما الإحبال من الله سبحانه وتعالى، ولم يفعل الواطئ أكثر مما أذن له فيه، فإذا أحبلها الراهن، أو أعتقها بإذن المرتهن.. لم يجب عليه قيمتها؛ لأن الإتلاف حصل بإذن المرتهن، فصار كما لو أذن له في قتلها، فقتلها.. فإنه لا قيمة للمرتهن على الراهن.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (وإن أذن المرتهن للراهن في ضرب الجارية المرهونة، فضربها الراهن، فماتت من الضرب.. انفسخ الرهن، ولم يجب على الراهن قيمتها) ؛ لأنه أذن له في الضرب إذنا طلقا، فأي ضرب ضربها.. فإنه مأذون

(6/82)


فيه، وما تولد من المأذون فيه.. فلا شيء عليه لأجله.
فإن قيل: أليس قد أذن للإمام في الضرب في التعزير، وللزوج أن يضرب زوجته، وللمعلم أن يضرب الصبي، ثم إذا أدى ضرب واحد منهم إلى التلف.. كان عليه الضمان؟
قلنا: الفرق بين هؤلاء والراهن: أن هؤلاء إنما أبيح لهم الضرب على وجه التأديب بشرط السلامة، فإن أدى ضربهم إلى التلف.. كان عليهم الضمان؛ لأنه غير مأذون فيه، وليس كذلك الراهن، فإن الإذن له وقع مطلقا، فأي ضرب ضربه.. فهو مأذون له فيه.
قال ابن الصباغ: إلا أن يكون الإذن في تأديبه، أو تضمنه إذنه، فيشترط فيه حينئذ السلامة عندي، كما قلنا في الضرب الشرعي.

[فرع: اختلاف المتراهنين في إلحاق الولد]
وإذا أذن المرتهن للراهن في وطء الجارية المرهونة، فأتت بولد، ثم اختلفا فيه، فقال الراهن: هذا الولد مني، وقال المرتهن: هذا الولد من زوج أو زنا.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فالقول قول الراهن) .
قال أصحابنا: وأراد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن القول قول الراهن إذا أقر المرتهن بأربعة أشياء:
أحدها: أن يقر أنه قد أذن له بالوطء.
الثاني: أن يقر أن الراهن قد وطئها.
الثالث: أن يقر أن هذا الولد ولدته هذه الجارية.

(6/83)


الرابع: أن يقر بأنه قد مضى من حين الوطء أقل مدة الوضع.
فإذا أقر المرتهن بهذه الأربعة الأشياء.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (فالقول قول الراهن بلا يمين؛ لأنه إذا اعترف بوطء جاريته.. صارت فراشا له، فإذا أتت بولد يمكن أن يكون منه.. لحقه نسبه. ولو ادعى أنه ليس منه.. لم يقبل قوله، فلا معنى لاستحلافه) .
وأما إذا قال المرتهن: لم آذن بالوطء. أو قال: أذنت لك به، ولم تُطأ.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم ذلك، وبقاء الوثيقة.
وهكذا: لو أنكر مضي مدة الحمل.. فالقول قول المرتهن مع يمينه؛ لأن الأصل عدم مضيها.
وكذلك: إذا قال: هذا الولد لم تلده الجارية.. فعلى الراهن البينة أنها ولدته، فإذا لم تقم بينة على ذلك.. حلف المرتهن؛ لأن الأصل عدم ولادتها له.

[مسألة: وطء المرتهن الجارية المرهونة]
وأما المرتهن إذا وطئ الجارية المرهونة، فإن كان بغير إذن الراهن، فإن كان عالما بالتحريم.. وجب عليه الحد؛ لأنه لا شبهة له فيها؛ لأن عقد الرهن عقد استيثاق بالعين، ولا مدخل لذلك في إباحة الوطء، ولأن الحد لا يسقط بالوطء المحرم إلا لأحد ثلاثة أشياء:
[أولها] : إما لشبهة عقد، بأن يتزوجها بغير ولي أو لا شهود؛ لاختلاف العلماء في صحته.
[ثانيها] : أو لشبهة في الموطوءة، بأن يطأ جارية ابنه، أو الجارية المشتركة بينه وبين غيره.

(6/84)


[ثالثها] : أو لشبهة في الفعل، بأن يطأ امرأة يظنها جاريته أو امرأته.
وليس هاهنا واحد من ذلك. فإن أولدها.. فالولد مملوك للراهن، ولا يثبت نسبه من المرتهن.
وأما المهر: فإن أكرهها على الوطء، أو كانت نائمة، فوطئها.. فعليه المهر؛ لأنه وطء يسقط به الحد عن الموطوءة، فلم يعر من وطئها في نكاح فاسد. وإن طاوعته على الوطء.. فالمنصوص: (أنه لا مهر عليه) .
ومن أصحابنا من قال: فيه قول مخرج: أنه يجب عليه المهر؛ لأن المهر حق للسيد، فلا يصح بذل الجارية له، كأجرة منافعها. والأول أصح؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن مهر البغي» .
و (البغي) : الزانية. وهذه زانية.
وإن ادعى الجهالة بتحريمه، فإن لم يحتمل صدقه، بأن يكون ناشئا في أمصار المسلمين.. لم يقبل قوله في ذلك؛ لأن الظاهر ممن نشأ بين المسلمين أنه لا يخفى عليه ذلك، فيكون حكمه حكم الأولى. وإن احتمل صدقه، بأن يكون قريب العهد بالإسلام، أو كان مسلما ناشئا في بادية بعيدة من المسلمين.. لم يجب عليه الحد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ادرؤوا الحدود بالشبهات» .

(6/85)


وروي: أن عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه زوج جارية له من راع، فزنت، فأتى بها إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، فقال لها عمر: (يا لكعاء زنيت؟ فقال: من مرغوش بدرهمين، فقال أمير المؤمنين عمر لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: ما تقول في هذا؟ فقال: قد اعترفت، عليها الحد. ثم قال لعبد الرحمن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: ما تقول؟ قال: أقول: كما قال أخي علي، فقال

(6/86)


لعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: ما تقول؟ قال: أراها تستهل به، كأنها لا تعلم، وإنما الحد على من علم. فدرأ عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه عنها الحد) .
قال الشيخ أبو حامد: بعض أهل الحديث قالوا: هو مرغوش بالشين. قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهو بالسين. قال: فسألت عنه جماعة من أهل اللغة، فلم يعرفوه، إلا فلانا قال: هو اسم طير.
وأما المهر: فإن أكرهها المرتهن.. فعليه المهر. وإن طاوعته، فإن كانت جاهلة أيضا.. فعليه المهر. وإن كانت عالمة بالتحريم.. فالمنصوص: (أنه لا مهر عليه) .
وعلى القول المخرج.. عليه المهر. وإن أولدها.. فالولد حر ثابت النسب من المرتهن، وعليه قيمته يوم يسقط.
وأما إذا وطئها المرتهن بإذن الراهن.. فإن عامة العلماء قالوا: لا يحل له الوطء، إلا عطاء، فإنه قال: يحل له الوطء.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\264 و 265] : وهل يكون قول عطاء شبهة يسقط به عنه الحد مع العلم بالتحريم؟ فيه وجهان.

(6/87)


وذكر القاضي أبو الطيب: أن الإذن شبهة في حق العامة يحتمل صدقهم معه في دعوى الجهالة؛ لأن إذن المالك قد يعتقد به قوم جواز الوطء.
وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ": إذا كان المرتهن عالما بأن إذن الراهن لا يبيح له الوطء.. فالحكم فيه كالحكم فيه إذا وطئها بغير إذن، إلا في شيء واحد، وهو أنه إذا وطئها بغير إذنه، وكانت مكرهة على الوطء، أو نائمة.. وجب هناك المهر، قولا واحدا، وهاهنا على قولين.
وإن كان المرتهن جاهلا لا يعلم أن ذلك لا يجوز.. فلا حد عليه، والولد حر ثابت النسب منه.
وأما المهر: فذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: أنها إذا طاوعته.. فلا مهر عليه، قولا واحدا؛ لأن إذن المالك للمنفعة وجد، فهي كالحرة المطاوعة. وإن كانت مكرهة، أو نائمة.. فهل يجب المهر؟ فيه قولان.
وأما الشيخ أبو إسحاق: فأطلق القولين:
أحدهما: يجب عليه المهر؛ لأنه وطء في غير ملك يسقط به الحد عن الموطوءة، فوجب به المهر وإن حصل به الرضا، كالوطء في النكاح الفاسد بغير مهر.
والثاني: لا يجب، لأن هذا الوطء يتعلق به حق الله تعالى، وحق الآدمي، سقط حق الآدمي بإذنه، كما لو أذن له في قتل عبده، أو أذن له في قتل صيده، وهو محرم. فإنه لا يجب عليه قيمة العبد والصيد وإن وجبت الكفارة والجزاء.
وأما قيمة الولد.. فقد قال الشافعي رحمة الله تعالى عليه: (تجب قيمته يوم خرج حيا) .
فمن أصحابنا من قال: في قيمة الولد قولان، كالمهر، وإنما نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أحدهما.
ومنهم من قال: تجب قيمة الولد، قولا واحدا.
قال الشيخ أبو حامد: والفرق بينهما: أن المهر بدل عن الوطء، وقد وقع الإذن في الوطء صريحا، فسقط بدله، وليس كذلك الولد؛ لأنه وإن كان من متضمن

(6/88)


الوطء، فليس ببدل عنه؛ لأن الوطء قد يكون ولا ولد منه، ولم يقع الإذن فيه. فلم يسقط بدله.
قال القاضي أبو الطيب: وهذا الفرق ليس بصحيح؛ لأنه لو أذن له في قطع أصبع منه، فقطعها، فسرت إلى أخرى.. لم يضمن واحدة منهما.
قال ابن الصباغ: ويمكن أن يقال: لأن إذنه لم يفسد حرية الولد، وإنما شبهة الوطء أتلفت رق الولد، فضمنه بقيمته؛ لأن ذلك ليس بمتولد من المأذون فيه.

[مسألة: توكيل الراهن للمرتهن ثم رجوعه]
وإن أذن المرتهن للراهن في العتق، فأعتق، أو في الهبة والإقباض، فوهب وأقبض، ثم رجع عن الإذن بعد العتق والهبة.. لم يبطل العتق والهبة؛ لأنهما قد صحا. وإن رجع المرتهن عن الإذن قبل العتق والهبة، ثم أعتق الراهن، أو وهب بعد علمه بالرجوع عن الإذن.. لم يصح العتق والهبة؛ لأن بالرجوع يسقط الإذن، فصار كما لو لم يأذن، وإن أعتق أو وهب بعد الرجوع، وقبل علمه به.. فهل يصح العتق والهبة؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الوكيل إذا باع بعد العزل، وقبل علمه به.
وإن اختلفا: فقال المرتهن: أعتقت بعد رجوعي. وقال الراهن: بل أعتقت قبل رجوعك.. قال ابن الصباغ: فالقول قول المرتهن؛ لأن الأصل بقاء الرهن.

[فرع: إذن المرتهن للراهن في بيع الرهن]
وإن أذن المرتهن للراهن في بيع الرهن، فباعه.. نظرت:
فإن كان بعد حلول الدين، فباع.. صح البيع، وتعلق حق المرتهن بالثمن؛ لأن مقتضى الرهن أن يستوفي الحق من ثمنه بعد حلوله، ولأن بيع الرهن بعد حلول الدين حق للمرتهن يستحقه على الراهن، بدليل: أن الراهن لو امتنع عن ذلك.. أجبر عليه، فإذا كان مستحقا.. فقد أذن فيما استحق.

(6/89)


وإن كان الدين مؤجلا، فإن كان الإذن من المرتهن مطلقا، فباع الراهن.. صح البيع، وانفسخ الرهن، ولم يتعلق حق المرتهن بالثمن، وبه قال أبو يوسف.
قال أبو حنيفة، ومحمد رحمهما الله: (يكون الثمن رهنا إلى أن يحل الحق) .
دليلنا: أنه تصرف في عين الرهن لا يستحقه المرتهن، فإذا أذن فيه المرتهن.. سقط حقه من الوثيقة، كالعتق.
فقولنا: (في عين الرهن) احتراز من العقد على منافع الرهن.
وقولنا: (لا يستحقه المرتهن) احتراز من البيع بعد حلول الحق.
قال في " الأم " [3/128] : (فإن قال المرتهن: إني أردت بإطلاق الإذن أن يكون الثمن رهنا مكانه.. لم يلتفت إلى قوله، وحمل إذنه على الإطلاق، ولا تؤثر الإرادة فيه) .. وإن أذن له في البيع، بشرط أن يكون الثمن رهنا، فباعه. ففيه قولان:
أحدهما: أن البيع صحيح، ويكون ثمنه رهنا، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، والمزني رحمة الله عليهم؛ لأنه لو أذن له في البيع، بشرط أن يرهنه عينا أخرى مكان هذا الرهن.. لصح ذلك، فكذلك إذا اشترط كون الثمن رهنا، ولأنه لو أذن له بعد المحل بالبيع، بشرط أن يكون الثمن رهنا إلى أن يوفيه الحق.. جاز، فكذلك إذا شرط ذلك قبل المحل.
والقول الثاني: أن البيع لا يصح؛ لأنه بيع بشرط مجهول؛ لأن الذي يباع به الرهن من الثمن مجهول، فلم يصح، كما لو أذن له في البيع، بشرط أن يرهنه عينا مجهولة.
وإن أذن له في البيع، بشرط أن يعجل له حقه، فباعه.. فالمنصوص: (أن البيع باطل) .
وقال أبو حنيفة، وأحمد، والمزني رحمة الله عليهم: (يصح، ويكون ثمنه رهنا، ولا يجب التعجيل) .

(6/90)


وقال أبو إسحاق: إذا قلنا في المسألة قبلها إذا أذن له بشرط أن يكون الثمن رهنا: إن ذلك يصح.. كان هاهنا مثله.
دليلنا: أنه أذن له بشرط، فإذا لم يثبت له الشرط.. لم يصح الإذن، كما لو شرط في البيع شرطا لم يثبت.. فإن البيع لا يصح.
وإن اختلف الراهن والمرتهن: فقال المرتهن: أذنت لك بشرط أن تعطيني حقي. وقال الراهن: بل أذنت لي مطلقا.. قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: فالقول قول المرتهن؛ لأنهما لو اختلفا في أصل الإذن.. لكان القول قول المرتهن، فكذلك إذا اختلفا في صفته، ولأن الأصل صحة الرهن، والراهن يدعي ما يزيله ويبطله، فلم يقبل قوله.

[مسألة: مؤنة الرهن على الراهن]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وعليه مؤنة رهونه، ومن مات من رقيقه.. فعليه كفنه) . وهذا كما قال: يجب على الراهن ما يحتاج إليه الرهن من نفقة وكسوة وعلف. وإن كان عبدا فمات.. فإن عليه كفنه ومؤنة تجهيزه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرهن من راهنه، له غنمه، وعليه غرمه» . وهذا من غرمه ولما روى الشعبي، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من رهن دابة.. فعليه نفقتها، وله ظهرها وحملها» ، ولأنه ملكه، فوجب أن تكون نفقته عليه، كما لو لم يكن مرهونا، وإن كان الرهن مما يحتاج إلى موضع يكون فيه، مثل: أن يكون حيوانا يحتاج إلى إصطبل، أو متاعا يحتاج إلى بيت يكون فيه عند العدل.. فإن ذلك يكون على الراهن، وكذلك أجرة حافظه على الراهن.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يجب ذلك على المرتهن) .

(6/91)


دليلنا: أن ذلك من مؤنة الرهن، فكان على الراهن، كالنفقة.
فإن كان الراهن حاضرا.. كلف أن يكتري موضعا لذلك. وإن امتنع من ذلك.. أخذ الحاكم لذلك من ماله. وإن كان معسرا، فإن أنفق المرتهن بغير إذنه.. كان متطوعا. وإن أنفق بإذن الراهن ليرجع به عليه.. رجع به عليه إذا أيسر. وإن أنفق بإذنه ليكون دينا عليه، ويكون الرهن رهنا به وبالدين.. ففيه طريقان، كالعبد إذا جنى وفداه المرتهن بإذن الراهن ليكون دينا عليه، ويكون العبد مرهونا به وبالدين.
وإن كان الراهن غائبا.. رفع الأمر إلى الحاكم، فإن كان للراهن مال.. أنفق عليه من ماله، وإن لم يكن له مال، فإن أنفق المرتهن بإذن الحاكم.. رجع به على الراهن، وإن أنفق عليه بغير إذن الحاكم مع القدرة عليه.. كان متطوعا، ولم يرجع. وإن لم يقدر على إذن الحاكم، فأنفق.. فهل يرجع بما أنفق؟ فيه وجهان، كما نقول في الجمال إذا هرب وأنفق المكتري. فإن جني على الرهن، واحتاج إلى مداواة.. كانت المداواة على الراهن، وكذلك إن أبق.. فأجرة من يرده على الراهن.
وقال أبو حنيفة: (إن كانت قيمة الرهن كقدر الدين.. فالمداواة على المرتهن، وإن كانت قيمة الرهن أكثر من الدين.. فأجرة المداواة على الراهن والمرتهن بالقسط على المرتهن بقدر حقه، والزيادة على الراهن) . وكذا قال في أجرة من يرده: (تكون بقدر الأمانة على الراهن، وبقدر الضمان على المرتهن) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرهن من راهنه، له غنمه، وعليه غرمه» . وهذا من غرمه، ولأنه من مؤنة الرهن، فكان على المالك، كالنفقة، والكسوة.
وإن مرض الرهن واحتاج إلى دواء.. فإن الراهن لا يجبر عليه؛ لأنه لا يتحقق أنه سبب لبقائه، وقد يبرأ بغير علاج، بخلاف النفقة عليه؛ لأنه لا يبقى من غير نفقة.

[مسألة: جناية العبد المرهون]
وإن جنى العبد المرهون.. لم يخل: إما أن يجني على أجنبي، أو على سيده، أو على من يرثه سيده، أو على عبد سيده.

(6/92)


فإن جنى على أجنبي أو أتلف له مالا.. تعلق حق الجناية وغرم المال في رقبته، وكان مقدما على حق المرتهن؛ لأن حق المجني عليه يقدم على حق المالك، فلأن يقدم على حق المرتهن أولى، ولأن أرش الجناية تعلق برقبة العبد بغير اختيار المجني عليه، وحق المرتهن تعلق برقبة العبد باختيار المرتهن، والحق المتعلق بغير اختيار من له الحق آكد من الحق الذي يثبت له اختياره، كالميراث، والبيع، ألا ترى أن ما ملكه بالميراث.. ملكه بغير اختياره؟ فلذلك لم يلحقه الفسخ، وما ملكه بالبيع.. ملكه باختياره؟ فلذلك يلحقه الفسخ.
إذا ثبت هذا: فإن كانت الجناية عمدا على النفس، فاقتص منه الولي.. بطل الرهن. وإن كانت عمدا فيما دون النفس، واقتص منه المجني عليه.. بقي الرهن في الباقي. وإن كانت الجناية خطأ، أو عمد خطأ، أو عمدا، وعفا المجني عليه على مال، فإن لم يختر السيد أن يفديه.. بيع العبد في الجناية إن كان الأرش يستغرق قيمته، وإن كان الأرش لا يستغرق قيمته.. بيع منه بقدر أرش الجناية، وكان الباقي منه رهنا. إلا أن يتعذر بيع بعضه فيباع جميعه، ويكون ما بقي من الثمن عن قدر الأرش رهنا، وإن فداه السيد أو أجنبي، أو أبرأه المجني عليه من حقه.. كان العبد رهنا؛ لأن الجناية لم تبطل الرهن، وإنما قدم الأرش على حق المرتهن، فإذا سقط حق المجني عليه.. بقي الرهن كما كان، كما قلنا في حق المرتهن والمالك. وإن فداه المرتهن بغير إذن الراهن.. لم يرجع عليه بما فداه به. وإن فداه بإذنه ليرجع به عليه.. رجع به عليه. وإن فداه بإذنه، ولم يشترط الرجوع.. فهل يرجع به عليه؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما في الجراح. وإن فداه على أن يرجع بما فداه به، ويكون العبد رهنا به وبالدين الأول، ورضي السيد بذلك.. رجع على السيد بما فداه به، وهل يكون العبد رهنا بما فداه به؟ فيه طريقان، مضى ذكرهما. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا جنى العبد المرهون.. كان ضمان الجناية على المرتهن، فإن فداه..كان العبد مرهونا كما لو كان، ولا يرجع بالفداء. وإن بيع في الجناية، أو فداه السيد.. سقط دين المرتهن إن كان قدر الفداء أو دونه) . وبنى هذا على أصله: أن الرهن مضمون على المرتهن، فتكون جنايته مضمونة عليه،

(6/93)


كالغصب. والكلام معه في ذلك يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.

وإن جنى العبد المرهون على سيده: فإن كانت على ما دون النفس.. نظرت:
فإن كانت الجناية عمدا.. فللسيد أن يقتص منه بها إن كانت مما يثبت بها القصاص؛ لأن القصاص جعل للزجر، والعبد أحق بالزجر عن سيده. ولا يلزم قطع العبد بسرقة مال سيده؛ لأن القطع إنما يجب بسرقة مال لا شبهة له فيه، وللعبد شبهة في مال سيده. فإن أراد السيد أن يعفو عنه على مال.. فذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى: (أنه لا يثبت له المال) . وقال أبو العباس: يثبت له المال، ويستفيد به ببيعه في أرش الجناية وإخراجه من الرهن؛ لأن كل من ثبت له القصاص على شخص.. ثبت له العفو عنه على مال، كغير السيد.
ووجه المذهب: أن السيد لا يثبت له على عبده مال ابتداء. ولهذا لو أتلف له مالا.. لم يثبت له في ذمته بدله. ودليل أبي العباس يبطل بعبده الذي ليس بمرهون.
وإن جنى على سيده خطأ فيما دون النفس.. كانت هدرا على مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وعلى قول أبي العباس يتعلق الأرش برقبته.

وإن جنى العبد المرهون على من يرثه سيده: إما على أبيه، أو ابنه، أو مكاتبه.. نظرت:
فإن كانت الجناية عمدا فيما دون النفس.. فللمجني عليه أن يقتص منه.
وإن كانت خطأ، أو عمدا وعفا المجني عليه على مال.. ثبت المال للمجني عليه؛ لأنه أجنبي منه.
وإن مات المجني عليه قبل القصاص، والجناية عمدا، وكانت الجناية على النفس، وكان وارثه هو السيد، أو عجز المكاتب.. فللسيد أن يقتص منه أيضا. وإن كانت الجناية خطأ أو عمدا وأراد السيد العفو عنه على مال.. فقد قال الشيخ أبو حامد: يثبت له المال على عبده، كما كان يثبت لموروثه؛ لأن الاستدامة أقوى من

(6/94)


الابتداء، فجاز أن يثبت له على ملكه المال في الاستدامة دون الابتداء. وقال القفال: يبنى على وقت وجوب الدية، وفيها قولان:
أحدهما: تجب بعد موت المقتول في ملك الورثة؛ لأنها بدل نفسه، فلا تجب في حياته.
فعلى هذا: لا يثبت للسيد المال، كما لو أتلف له مالا.
والثاني: تجب في آخر جزء من أجزاء حياة المقتول، ثم تنتقل إلى ورثته؛ لأنه يقضى منها دينه، وينفذ منها وصاياه.
فعلى هذا: هل يثبت للسيد المال؟ فيه وجهان، بناء على الوجهين فيمن جنى عليه عبد غيره، ثم ملكه المجني عليه.. فهل يستدام عليه وجوب الأرش؟ فيه وجهان.
وإن قتل العبد المرهون سيده عمدا.. فلوارثه أن يقتص منه، كما كان للسيد أن يقتص منه. فإن أراد الوارث أن يعفو عنه على مال، أو كانت الجناية خطأ.. فهل يثبت لهم المال؟ ذكر الشيخان، أبو حامد، وأبو إسحاق: أنها على قولين:
أحدهما: لا يثبت للوارث المال؛ لأن الوارث قائم مقام السيد، فلما لم يثبت للسيد المال في هذه الجناية.. لم يثبت لمن يقوم مقامه.
والثاني: يثبت للوارث المال؛ لأنه يأخذ المال عن جناية حصلت في غير ملكه، فصار كما لو جنى على من يرثه السيد.
وقال أبو علي بن أبي هريرة: هذان القولان مبنيان على وقت وجوب الدية:
فإن قلنا: إنها وجبت في آخر جزء من أجزاء حياة المقتول.. لم تثبت الدية للوارث؛ لأنها وجبت لسيده.
وإن قلنا: إنها وجبت بعد موته في ملك الورثة.. ثبتت الدية للوارث؛ لأنها تثبت لغير مولاه بالجناية. وهذه طريقة القفال.
قال ابن الصباغ: وهذا ليس بصحيح؛ لأنها إذا وجبت بعد موت السيد، فقد وجبت لهم على ملكهم، بل القولان أصل بأنفسهما غير مبنيين على غيرهما.

(6/95)


أصحهما: أنه لا يثبت المال للوارث.

وإن جنى العبد المرهون على عبد لسيده: فإن كان العبد المجني عليه غير مرهون.. فهو كما لو جنى على سيده، فإن كانت الجناية عمدا.. فللسيد أن يقتص منه، إلا أن يكون المقتول ابن القاتل، فلا يقتص منه بابنه. وإن كانت الجناية خطأ، أو عمدا وأراد السيد العفو عنه على مال.. لم يثبت له المال على قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ويثبت له على قول أبي العباس.
وإن كان العبد المقتول مرهونا.. نظرت:
فإن كان مرهونا عند مرتهن آخر، فإن كانت الجناية عمدا.. فللسيد أن يقتص من القاتل، إلا أن يكون المقتول ابن القاتل، فلا قصاص له، إذا اقتص السيد.. بطل الرهنان. وإن كانت الجناية خطأ، أو عمدا وعفا السيد على مال.. ثبت المال لأجل المرتهن الذي عبده المقتول، لا لأجل السيد؛ لأن السيد لو قتل هذا العبد.. لثبت عليه المال، فإذا قتله عبده.. كان أولى أن يثبت عليه المال. وإن عفا السيد عنه عن جناية العمد على غير مال، أو مطلقا.. فإن قلنا: إن موجب قتل العمد القود لا غير.. لم يثبت له المال. وإن قلنا: إن موجبه القود، أو الدية.. ثبتت قيمة العبد المقتول في رقبة القاتل؛ لأن العفو عنها إبراء، ولا يصح إبراء السيد منها؛ لأجل حق المرتهن للمقتول.
فإذا تعلقت قيمة المقتول في رقبة القاتل، فإن كانت قيمة القاتل أكثر من قيمة المقتول.. بيع من القاتل بقدر قيمة المقتول، وجعل ذلك رهنا عند مرتهن المقتول، وكان الباقي من رقبة القاتل رهنا عند مرتهنه، وإن لم يمكن بيع بعضه.. بيع جميعه، وكان قدر قيمة المقتول من ثمن القاتل رهنا عند مرتهن المقتول، وما زاد على ذلك مرهونا عند مرتهن القاتل. وإن كانت قيمة القاتل مثل قيمة المقتول، أو أقل.. ففيه وجهان:
أحدهما: ينقل القاتل إلى يد مرتهن المقتول رهنا، وينفك من رهن مرتهنه؛ لأنه لا فائدة في بيعه.

(6/96)


والثاني: يباع؛ لأنه ربما رغب فيه راغب، فاشتراه بأكثر من قدر قيمة المقتول، فتكون الزيادة على قدر قيمة المقتول رهنا عند مرتهن القاتل.
وإن كان العبدان القاتل والمقتول مرهونين عند رجل واحد، فإن كانت الجناية عمدا. فللمولى أن يقتص منه، فإن اقتص.. بطل الرهنان. وإن كانت خطأ، أو عمدا وعفا عنه على مال.. نظرت:
فإن رهنا بحق واحد.. كانت الجناية هدرا؛ لأن جميع الدين متعلق برقبة كل واحد منهما، فإذا قتل أحدهما.. بقي الحق متعلقا بالآخر.
وإن كان كل واحد منهما مرهونا بحق منفرد.. نظرت:
فإن كان أحدهما مرهونا بحق معجل، والآخر مرهونا بحق مؤجل.. بيع القاتل بكل حال؛ لأنه إن كان دين المقتول معجلا.. بيع القاتل ليستوفي دينه المعجل، وما بقي منه.. كان رهنا بدينه المؤجل.
وإن كان دين القاتل معجلا.. يبع ليستوفي منه المعجل، وما بقي.. كان مرهونا بدين المقتول.
وإن اتفق الدينان بالحلول والتأجيل.. ففيه ثلاث مسائل:
إحداهن: أن تكون قيمتهما سواء، والحقان سواء، مثل: أن يكون قيمة كل واحد منهما مائة، وكل واحد منهما مرهونا بمثل ما رهن به الآخر، أو من جنس قيمته، مثل قيمة ما رهن به الآخر، فإن الجناية هاهنا هدر؛ لأنه لا فائدة في بيعه ولا في نقله.
قال أبو إسحاق: إلا أن يكون الدين الذي رهن به المقتول أصح وأثبت من دين القاتل، مثل: أن يكون دين المقتول مستقرا، ودين القاتل عوض شيء يرد بعيب، أو صداقا قبل الدخول.. ففيه وجهان:
أحدهما: ينقل إليه؛ لأن في نقله غرضا للمرتهن.
والثاني: لا ينقل؛ لأنهما سواء في الحال.

(6/97)


فإذا قلنا: ينقل.. فهل يباع وينقل ثمنه، أو ينقل العبد من غير بيع؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما.
المسألة الثانية: أن يختلف الحقان، وتتفق القيمتان، بأن كانت قيمة كل واحد منهما مائة، وأحدهما مرهون بمائتين، والآخر مرهون بمائة، فإن كان ما رهن به القاتل أكثر.. لم ينقل؛ لأنه لا فائدة في نقله، وإن كان ما رهن به المقتول أكثر.. نقل؛ لأن في نقله فائدة، وهو: أن يصير مرهونا بأكثر مما هو مرهون به، وهل يباع وينقل ثمنه، أو ينقل من غير بيع؟ على الوجهين.
المسألة الثالثة: أن يتفق الحقان، وتختلف القيمتان، بأن يكون كل واحد منهما مرهونا بمائة، وقيمة أحدهما مائة، وقيمة الآخر مائتان، فإن كانت قيمة المقتول أكثر.. لم ينقل القاتل؛ لأنه مرهون بمائة، وإذا نقل كان مرهونا بمائة، فلا فائدة في ذلك.
وإن كانت قيمة القاتل أكثر.. بيع منه بقدر قيمة المقتول؛ ليكون رهنا بدين المقتول، ويبقى نصفه رهنا بدينه.
قال ابن الصباغ: وإن اتفقا على تبقيته ونقل الدين إليه.. صار مرهونا بالدينين معا.

[فرع: إقرار العبد المرهون جائز]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإقرار العبد المرهون فيما فيه قصاص جائز، كالبينة، وما ليس فيه قصاص.. فباطل) . وهذا كما قال: إذا أقر العبد على نفسه بجناية عمد توجب القصاص.. قبل إقراره مرهونا كان أو غير مرهون؛ لأنه لا يتهم في ذلك، ويكون المجني عليه بالخيار: بين أن يقتص منه، وبين أن يعفو على مال، فيكون كما لو قامت عليه البينة على ما مضى. وإن أقر المولى عليه بذلك.. لم يصح إقراره؛ لأنه يقبل فيه إقرار العبد، فلم يقبل فيه إقرار السيد، كإقراره عليه بالزنا.
وإن أقر العبد بجناية الخطأ، أو بإتلاف المال.. لم يقبل في حق السيد؛ لأنه متهم

(6/98)


في ذلك، وليكون الغرم متعلقا بذمته، فإن أعتق وأيسر.. طولب به؛ لأنا إنما منعنا من قبول إقراره في حق السيد، وقد زال حق السيد، فثبت إقراره، وقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وما ليس فيه قصاص.. فباطل) ، يعني: في حق سيده. وإن أقر المولى عليه بجناية الخطأ، أو بإتلاف المال.. صح إقراراه؛ لأنه لما لم يصح إقرار العبد به.. صح إقرار المولى به، كجناية العمد، لما لم يقبل فيه إقرار السيد.. صح فيه إقرار العبد، ولأنه لا تهمة على السيد في ذلك.

[مسألة: أمر السيد عبده المرهون بجناية]
وإن أمر السيد عبده بالجناية على غيره، فجنى عليه، فإن كان العبد بالغا عاقلا، أو مراهقا مميزا يعلم أن طاعة المولى لا تجوز في المحرمات.. نظرت:
فإن لم يكرهه السيد على القتل.. فحكمه حكم ما لو جنى بغير أمره، إلا القصاص، فإنه لا يجب على من لم يبلغ، ولا يلحق السيد بذلك إلا الإثم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أعان على قتل امرئ مسلم، ولو بشطر كلمة.. جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله» .
وإن أكرهه المولى على القتل.. وجب على السيد القود إن كانت الجناية عمدا، والمجني عليه ممن يستحق القود على المولى، أو الدية إن عفا عنه، كما لو جنى

(6/99)


السيد عليه بيده، وهل يجب القود على العبد إن كان بالغا عاقلا؟ فيه قولان.
فإن قلنا: يجب عليه القود.. كان الولي بالخيار: بين أن يقتلهما، وبين أن يقتل السيد، ويستحق نصف الدية في رقبة العبد، أو يقتل العبد، ويستحق في ذمة السيد نصف الدية، وبين أن يعفو عنهما على مال، فيستحق في ذمة السيد نصف الدية، وفي رقبة العبد نصفها.
وإن قلنا: لا يجب القود على العبد.. تعلق برقبته نصف دية المقتول، ثم الولي بالخيار: بين أن يقتل السيد، وبين أن يعفو عنه على مال، ويستحق في ذمته نصف الدية.
وإن كان العبد صغيرا غير مميز، أو أعجميا غير عارف بأحكام المسلمين، يعتقد أن طاقة المولى تجوز في المحرمات.. فإن الجاني هو السيد؛ لأن العبد كالآلة له، فإن كان السيد موسرا.. أخذ منه الأرش، وإن كان معسرا.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن كان العبد صبيا، أو أعجميا، فبيع في الجناية.. كلف السيد أن يأتي بمثل قيمته تكون رهنا مكانه) . واختلف أصحابنا في هذا:
فمنهم من قال: أراد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بذلك: إن كانت الجناية توجب المال، وكان السيد معسرا.. فإن العبد يباع في الجناية، ثم إذا أيسر السيد.. أخذت منه قيمة العبد، وجعلت رهنا مكانه؛ لأن السيد وإن كان هو الجاني، إلا أن العبد هو الذي باشر الجناية، فبيع فيها عند تعذر أخذ الأرش من السيد.
ومنهم من قال: لا يباع العبد، وهو المذهب؛ لأن الجاني هو السيد، والعبد آلة له، فلم يبع فيها، كما لو رهن سيفا، فقتل به إنسانا.. [لما] وجب بيعه؛ لأنه باشر الجناية ليبع فيها وإن كان السيد موسرا.
وأما ما ذكره الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فله تأويلان:
أحدهما: أن تكون البينة قد شهدت على العبد أنه جنى، فقال السيد: أنا أمرته

(6/100)


بذلك، فأنكر المجني عليه الأمر، فإن قول السيد لا يقبل في حق المجني عليه، ويباع العبد في الجناية، ويقبل إقرار السيد في حق المرتهن، فيجب عليه القيمة.
والثاني: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (فبيع في الجناية) . وليس هذا أمرا منه بالبيع له، وإنما أراد: إذا باعه الحاكم باجتهاده؛ لأن ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد.

[مسألة: الجناية على القن المرهون]
وإن جني على العبد المرهون.. فالخصم في ذلك الراهن؛ لأنه هو المالك للرقبة، وإنما للمرتهن حق الوثيقة، فإن أراد المرتهن حضور الخصومة.. كان له ذلك؛ لأنه حقه، يتعلق فيما يقضى به على الجاني.
إذا ثبت هذا: فادعى الراهن على رجل أنه قتل عبده المرهون، فأنكر، ولا بينة.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، فإن حلف.. فلا كلام، وإن نكل عن اليمين.. حلف الراهن؛ لأنه هو المالك، فإن نكل الراهن.. فهل ترد اليمين على المرتهن؟ فيه قولان، بناء على القولين في المفلس إذا نكل عن اليمين، فهل ترد على الغرماء؟ وفيه قولان:
أحدهما: لا ترد اليمين على المرتهن؛ لأنه غير المدعي.
والثاني: ترد؛ لأن حقه يتعلق فيما يقضى به على الجاني.
وسواء كانت الجناية عمدا أو خطأ.. فإن المرتهن يحلف على أحد القولين؛ لأن العمد قد سقط إلى المال. وإن أقر الجاني، أو قامت عليه البينة، أو حلف الراهن، أو المرتهن في أحد القولين.. نظرت:
فإن كانت الجناية توجب القود.. فللمولى أن يقتص، وله أن يعفو على المال، فإن اقتص.. بطل الرهن، وليس للمرتهن مطالبة المولى بالعفو على المال؛ لأن

(6/101)


القصاص حق له. فإن عفا على مال تعلق حق المرتهن به؛ لأنه بدل عن الرقبة. وإن عفا مطلقا، أو عفا على غير مال، فإن قلنا: إن موجب العمد القود لا غير، وإنما يثبت المال بالشرط في العفو.. صح عفوه، والثمن للمرتهن. وإن قلنا: إن موجب العمد أحد الأمرين.. ثبت المال على الجاني، وتعلق به حق المرتهن.
وإن قال الراهن: لا أقتص ولا أعفو.. فهل للمرتهن أن يطالب بإجباره على أحدهما؟ فيه طريقان:
[أحدهما] : قال أبو علي بن أبي هريرة: للمرتهن أن يطالب بإجباره على أحدهما؛ لأن له حقا في المال.
و [الثاني] : قال أبو القاسم الداركي: فيه قولان:
[أحدهما] : إن قلنا: إن الواجب بقتل العمد القود لا غير.. لم يكن للمرتهن مطالبته بإجباره؛ لأنه إذا ملك إسقاطه.. فلأن يملك تأخيره أولى.
و [الثاني] : إن قلنا: إن الواجب بقتل العمد أحد الأمرين.. كان له المطالبة بإجباره على أحدهما؛ لأن له حقا في أحدهما، فأجبر على تعيينهما.
فإن عفا الراهن على مال، أو كانت الجناية خطأ، أو كان الجاني عليه ممن لا يقتص منه له، كالحر.. ثبت المال. وإن أسقط المرتهن حقه من الوثيقة.. سقط، كما يسقط حقه بإسقاطه مع بقاء الرهن. وإن أبرأ المرتهن الجاني من الأرش.. لم يصح إبراؤه؛ لأنه لا يملك ما أبرأه عنه، وهل يبطل حقه من الوثيقة لهذا الإبراء؟ فيه وجهان، حكاهما في " المهذب ":
أحدهما: يبطل؛ لأن ذلك يتضمن إسقاط حقه من الوثيقة.
والثاني: لا يبطل؛ لأن إبراءه لم يصح، فلم يصح ما تضمنه الإبراء.
وإن أبرأ الراهن الجاني من الأرش.. لم يصح إبراؤه لتعلق حق المرتهن به.
فإن قضى الدين من غير الرهن، أو أبرأه المرتهن من الدين، أو أسقط حقه من

(6/102)


الوثيقة.. فهل يحكم بصحة إبراء الراهن من الأرش؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يحكم بصحته؛ لأنه وقع باطلا، فلا تتعقبه الصحة.
والثاني: يحكم بصحته؛ لأن المنع من صحته لحق المرتهن، وقد زال حق المرتهن، فحكم بصحته. وليس بشيء.
فإن أراد الراهن أن يصالح الجاني عن الأرش بعوض بغير رضا المرتهن.. لم يصح الصلح؛ لتعلق حق المرتهن بالأرش، فإن أذن المرتهن بالصلح على حيوان.. صح الصلح، ويكون الحيوان رهنا، فإن كان له ظهر أو لبن أو نماء.. كان ذلك للراهن، كأصل الرهن.

[فرع: رهن جارية حاملة]
وإن كان الرهن جارية حاملا، فضربها ضارب، فأسقطت جنينا ميتا.. وجب على الضارب عشر قيمة الأم، ويكون خارجا من الرهن؛ لأنه بدل عن الولد، والولد خارج من الرهن. وإن نقصت قيمة الجارية بالولادة.. لم يجب لأجل النقص شيء؛ لأنه يدخل في بدل الجنين. وإن حصل بها أثر من الضرب نقصت به قيمتها.. وجب على الضارب أرش ذلك، ويكون رهنا.
وإن كان الرهن بهيمة، فضربها ضارب، فأسقطت جنينا ميتا.. وجب عليه ما نقص من قيمة الأم بذلك؛ لأن الجنين إنما يضمن ببدل مقدر من الآدميات، ويكون ذلك رهنا؛ لأنه بدل عن جزء من الأم.
وإن أسقطت البهيمة بالضرب جنينا حيا، ثم مات.. ففيه قولان:
أحدهما: تجب قيمة الولد حيا؛ لأنه يمكن تقويمه، ولا يكون رهنا؛ لأن الولد غير داخل في الرهن، فكذلك بدله.
والثاني: يجب أكثر الأمرين من قيمة الولد، أو ما نقص من قيمة الأم بالإسقاط؛ لأنه وجد سبب ضمان كل واحد منهما، ولم يجتمعا؛ لأن النقصان كان سببه انفصال

(6/103)


الولد الذي تعلق به ضمانه، فسقط أحدهما عند ثبوت الآخر؛ لأنه لا يتميز كل واحد منهما عن الآخر، ويتعذر معرفته، فإن كانت قيمة الولد أكثر.. كان خارجا من الرهن، وإن كان ما نقص من قيمة الأم أكثر.. كان رهنا.

[مسألة: الجناية على الرهن]
فإن جنى على الرهن، ولم يعرف الجاني، فجاء رجل، فقال: أنا قتلته، فإن كذبه الراهن والمرتهن.. لم يكن لهما مطالبته بشيء؛ لأنه يعترف لمن كذبه. وإن صدقاه.. كان كما لو قامت عليه البينة في جميع ما ذكرناه، إلا إذا كانت الجناية خطأ.. فإن العاقلة لا تحملها، قولا واحدا؛ لأن العاقلة لا تحمل ما يثبت باعتراف الجاني. وإن صدقه الراهن، وكذبه المرتهن.. سقط حق المرتهن مما يجب على المقر، فيأخذ الراهن القيمة من المقر، ولا يكون رهنا؛ لأن المرتهن أسقط حقه عنها بتكذيبه. وإن صدقه المرتهن دون الراهن.. تعلق حق المرتهن بالأرش، فإذا حل الحق، ولم يقضه الراهن. استوفى حقه من القيمة. وإن قضاه الراهن، أو أبرأ المرتهن الراهن من الدين أو الوثيقة.. ردت القيمة إلى المقر؛ لأن الراهن أسقط حقه منها بتكذيبه.

[مسألة: جواز رهن العصير]
إذا رهنه عصيرا.. صح رهنه؛ لأنه يتمول في العادة، فجاز رهنه، كالثياب، ولأن أكثر ما فيه أنه يخشى تلفه، بأن يصير خمرا، وينفسخ الرهن فيه، وذلك لا يمنع صحة الرهن به، كالحيوان يجوز رهنه وإن جاز أن يموت. فإذا رهنه عصيرا، فاستحال خلا، أو ما لا يسكر كثيره.. فالرهن فيه بحاله؛ لأنه تغير إلى حالة لا تخرجه عن كونه مالا، فلم تخرجه من الرهن، كما لو رهنه عبدا شابا، فصار شيخا. وإن استحال خمرا.. زال ملك الراهن عنه، وبطل الرهن فيه.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: (لا يزول ملك الراهن عنه، ولا يبطل الرهن به) ؛ لأنه يجوز أن يصير له قيمة.

(6/104)


دليلنا: أن كونه خمرا يمنع صحة التصرف فيه، والضمان على متلفه، فبطل به الملك والرهن، كموت الشاة.
إذا ثبت هذا: فإنه يجب إراقته، فإن أتلف.. فلا كلام، ولا خيار للمرتهن في البيع إن كان شرط رهنه فيه إذا كان انقلابه بيده؛ لأن التلف حصل بيده. وإن استحال الخمر خلا بنفسه من غير معالجة.. عاد الملك فيه للراهن بلا خلاف، وعاد الرهن فيه للمرتهن؛ لأنا إنما حكمنا بزوال ملك الراهن عنه، وبطلان الرهن بحدوث الشدة المطربة، وقد زالت تلك الشدة من غير نجاسة خلفتها، فوجب أن يعود إلى الملك السابق كما كان.
فإن قيل: أليس العقد إذا بطل.. لم يصح حتى يبتدأ، والرهن قد بطل، فكيف عاد من غير تجديد عقد؟
فالجواب: أنا إنما نقول ذلك، إذا وقع العقد فاسدا، فأما إذا وقع العقد صحيحا، ثم طرأ عليه أمر أخرجه عن حكم العقد، فإنه إذا زال ذلك المعنى.. عاد العقد صحيحا، كما نقول في زوجة الكافر إذا أسلمت، فإن وطأها يحرم عليه، فإذا أسلم الزوج قبل انقضاء العدة.. عاد العقد كما كان، وكذلك إذا ارتد الزوجان أو أحدهما.
فإن استحال الخمر خلا بصنعة آدمي.. لم يطهر بذلك، بل تزول الخمرية عنه، ويكون خلا نجسا لا يحل شربه، ولا يعود ملك الراهن فيه، ولا الرهن.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يكون طاهرا يحل شربه، والرهن فيه بحاله) .
دليلنا: ما «روى أبو طلحة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما نزل تحريم الخمر.. قلت: يا رسول الله، إن عندي خمرا لأيتام ورثوه، فقال: "أرقه"، قلت: أفلا أخلله؟ قال: "لا» . فنهاه عن التخليل. وظاهر هذا يقتضي التحريم.
فإن كان مع رجل خمر فأراقه، فأخذه آخر، فصار في يده خلا، أو وهبه لغيره، فصار في يد الموهوب له خلا.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: يكون لمن أراقه؛ لأنه يعود إلى الملك

(6/105)


السابق، والملك للمريق، فهو كما لو غصب من رجل خمرا، فصار في يده خلا.
والثاني: يكون ملكا لمن هو بيده؛ لأنه إذا أراقه صاحبه، فقد رفع يده عنه، فإذا جمعه الآخر.. صارت له يد عليه. والأول أصح.

[فرع: رهنه عصيرا فاستحال قبل قبضه خمرا]
قال ابن الصباغ: إذا رهنه عصيرا، فصار في يد الراهن قبل القبض خمرا.. بطل الرهن فإن عاد خلا.. لم يعد الرهن، ويخالف إذا كان بعد القبض؛ لأن الرهن قد لزم، وقد صار مانعا للملك. وكذلك: إذا اشترى عصيرا، فصار خمرا في يد البائع، وعاد خلا.. فسد العقد، ولم يعد لملك المشتري بعوده خلا. والفرق بينه وبين الرهن: أن الرهن عاد تبعا لملك الراهن، وهاهنا يعود ملك البائع لعدم العقد.

[فرع: رهن الشاة فماتت]
وإن رهن عند رجل شاة، وأقبضه إياها، فماتت.. زال ملك الراهن، وبطل الرهن فيها؛ لأنها خرجت عن أن تكون مالا، فإن أخذ الراهن جلدها، فدبغه.. عاد ملكه على الجلد بلا خلاف، وهل يعود رهنا؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال ابن خيران: يعود رهنا، كالخمر إذا تخللت.
و [الثاني] : قال أبو إسحاق: لا يعود رهنا؛ لأن الملك إنما عاد بمعالجة ومعنى أحدثه، بخلاف الخمر. وسئل أبو إسحاق عن رجل ماتت له شاة، فجاء آخر، فأخذ جلدها، فدبغه؟ فقال: إن لم يطرحها مالكها.. فالجلد لمالك الشاة دون الدابغ؛ لأن الملك وإن عاد بمعنى أحدثه الدابغ، إلا أن يد المالك كانت مقرة على الجلد، وجوز له استصلاحه، فإذا غصبه غاصب، ودبغه.. لم تنقل يد المالك، كما لو كان

(6/106)


له جرو كلب يريد تعليمه الصيد، فغصبه إنسان، وعلمه.. فإن المغصوب منه أحق به؛ لأن يده كانت مقرة عليه. قال: فأما إذا طرح صاحب الشاة شاته على المزبلة، فأخذ رجل جلدها ودبغه.. ملكه؛ لأن المالك قد أزال يده عنها.
قيل له: أليس من تحجر مواتا كان أحق بإحيائها من غيره، ثم جاء آخر، فأحياها..ملكها؟
فقال: الفرق بينهما: أن من تحجر على شيء من الموات.. فقد صار أولى به، بمعنى أثره فيه، وهو التحجر، ويده ضعيفة لا تستند إلى ملك، فإذا وجد سبب الملك، وهو الإحياء. بطلت يده. وليس كذلك من ماتت له شاة؛ لأن يده مقرة عليها بالملك.

[مسألة: تلف الرهن بيد المرتهن]
إذا قبض المرتهن الرهن، فهلك في يده من غير تفريط.. لم يلزمه ضمانه، ولا يسقط من دينه شيء، وبه قال الأوزاعي، وعطاء، وأحمد، وأبو عبيد رحمة الله عليهم، وهم أحد الروايتين عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
وذهب الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إلى: (أن الرهن مضمون على المرتهن بأقل الأمرين من قيمته، أو قدر الدين، فإذا هلك، فإن كان الدين مائة، وقيمة الرهن تسعين.. ضمنه بتسعين، وبقي له من دينه عشرة. وإن كان الدين تسعين، وقيمة الرهن مائة، فهلك الرهن.. سقط جميع دينه، ولا يرجع الراهن عليه بشيء، وإن تساويا.. سقط الدين) . وروي ذلك عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.

(6/107)


وذهب إسحاق بن راهويه إلى: أن الرهن مضمون على المرتهن بكمال قيمته، ثم يتردان. وهي الرواية الثانية عن أمير المؤمنين علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه.
وذهب الشعبي والحسن البصري رحمة الله عليهما إلى: أن الرهن إذا هلك في يد المرتهن.. سقط جميع دينه، سواء كانت قيمته أكثر من قدر الدين، أو أقل، أو كانا متساويين.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن هلك الرهن هلاكا ظاهرا، مثل: أن كان عبدا فمات، أو دارا فانهدمت. فهو غير مضمون على المرتهن. وإن هلك هلاكا خفيا، مثل: أن يدعي المرتهن أنه هلك.. فهو مضمون عليه) . كما قال إسحاق بن راهويه.
دليلنا: ما روى سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يغلق الرهن من راهنه الذي رهنه، له غنمه، وعليه غرمه» . فلنا من الخبر ثلاثة أدلة:

(6/108)


أحدها: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يغلق الرهن» وله ثلاث تأويلات:
أحدها: لا يكون للمرتهن بحقه إذا حل الحق، بل إذا قضاه من غيره.. انفك.
التأويل الثاني: أن لا يسقط الحق بتلفه.
التأويل الثالث: أي لا ينغلق حتى لا يكون للراهن فكه عن الرهن، بل له فكه، بأن يقضي الدين.
فإن قيل: فهذا حجة عليكم؛ لأن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يغلق الرهن» ، أي: لا يهلك بغير عوض، قال الشاعر، وهو زهير:
وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا
يعني: ارتهن قلبه الحب يوم الوداع، فأمسى وقد غلق الرهن، أي: قد هلك بغير عوض.
قلنا: هذا غلط؛ لأن القلب لا يهلك، وإنما معناه: أن القلب صار رهنا بحبها، وقد انغلق انغلاقا لا ينفك.

(6/109)


الدلالة الثانية من الخبر: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرهن من راهنه» ، يعني: من ضمانه.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وهذه أبلغ كلمة للعرب في أنهم إذا قالوا: هذا الشيء من فلان.. يريدون من ضمانه) .
الدلالة الثالثة من الخبر: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «له غنمه، وعليه غرمه» .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وغرمه: هلاكا وعطبه) ، ولأنه مقبوض عن عقد لو كان فاسدا.. لم يضمن، فوجب إذا كان صحيحا، ألا يضمن.
أصله الوديعة، ومال المضاربة، والوكالة، والشركة، وعكسه المقبوض عن البيع، والقرض.

[فرع: الرهن أمانة عند المرتهن]
إذا سقط حق المرتهن بإبراء أو قضاء.. كان الرهن عنده أمانة؛ لأنه كان عنده أمانة ووثيقة، فإذا سقطت الوثيقة.. بقيت الأمانة.
قال ابن الصباغ: قال أصحابنا: ولا يلزمه رده عليه حتى يطالبه به؛ لأنه بمنزلة الوديعة، ويفارق: إذا أطارت الريح ثوبا لغيره إلى داره، أو دخلت شاة لغيره إلى داره.. فإنه يلزمه إعلامه؛ لأنه لم يرض بكونه في يده.
قال ابن الصباغ: وينبغي إذا أبرأه المرتهن، ولم يعلم الراهن بذلك أن يعلمه بالبراءة، أو يرده عليه؛ لأنه لم يرض بتركه عنده، إلا على سبيل الوثيقة، ويفارق: إذا علم به؛ لأنه قد رضي بتركه في يده.

[فرع: رهن مغصوبا فتلف عند المرتهن]
وإذا غصب رجل من رجل عينا، فرهنها عند آخر، وأقبضها للمرتهن، فأتلفها المرتهن، أو تلفت عنده بغير تفريط، فإن كان عالما بأنها مغصوبة.. فللمغصوب منه

(6/110)


أن يرجع بقيمتها على الغاصب أو المرتهن؛ لأن كل واحد منهما يجب عليه الضمان، فإن رجع على الغاصب.. رجع الغاصب على المرتهن؛ لأنه أتلفها، أو لأنه كان عالما بغضبها، فيستقر عليه الضمان؛ لحصول التلف في يده. وإن رجع المغصوب منه على المرتهن.. لم يرجع المرتهن على الراهن؛ لأن الضمان استقر عليه.
وإن كان المرتهن غير عالم بكونها مغصوبة، وتلفت عنده من غير تفريط.. فللمغصوب منه أن يرجع على الغاصب؛ لأنه أخذها من مالكها متعديا، وهل للمالك أن يرجع على المرتهن؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يرجع عليه؛ لأنه أخذها على وجه الأمانة.
والثاني: يرجع عليه؛ لأنه أخذها من يد ضامنة.
فإذا قلنا: يرجع على المرتهن.. فهل للمرتهن أن يرجع بما ضمنه على الراهن؟
قال أبو العباس: لا يرجع؛ لأنه تلف في يده، فاستقر الضمان عليه، وفيه وجه آخر، ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره: أنه يرجع عليه؛ لأن المرتهن أمين، فلا يضمن بغير تعد، فيكون تلف الرهن من ضمان الراهن، ويرجع بالقيمة عليه؛ لأنه غره. فإن بدا المغصوب منه، فضمن الراهن.. فهل يرجع الراهن على المرتهن؟
إن قلنا بقول أبي العباس - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا ضمن المغصوب منه المرتهن أنه لا يرجع على الراهن.. رجع الراهن هاهنا على المرتهن.
وإن قلنا بما ذكره الشيخ أبو حامد رحمة الله عليه، وأن المرتهن يرجع على الراهن.. لم يرجع الراهن هاهنا.

[فرع: اشتراط أخذ الرهن عند الدفع وتركه عند عدمه]
قال في " الأم ": (وإن رهنه على أنه إذا دفع الحق وقضاه، أخذ الرهن، وإن لم يقضه، كان له بدينه.. فالرهن والبيع فاسدان) . وهذا صحيح، أما الرهن: فبطل؛ لأنه مؤقت بمحل الدين، ومن شأنه أن يكون مطلقا. وأما البيع: فبطل؛ لأنه

(6/111)


متعلق بزمان مستقبل. فيكون هذا الرهن في يد المرتهن إلى أن يحل الحق غير مضمون عليه؛ لأنه مقبوض عن رهن فاسد، وحكم المقبوض في الضمان عن العقد الفاسد كالمقبوض عن العقد الصحيح، فإن تلف الرهن.. لم يضمن، وإذا حل الحق..كان مضمونا على المرتهن؛ لأنه مقبوض عن بيع فاسد، فضمنه، كالمقبوض عن بيع صحيح.
فعلى هذا: إذا تلف في يده.. لزمه ضمانه، سواء فرط فيه، أو لم يفرط.
فإن كان الرهن أرضا، فغرس فيها المرتهن، فإن كان غرسه قبل حلول الحق.. قلع غرسه؛ لأنه متعد بغرسه. وإن غرسه بعد حلول الحق.. فقد غرس بإذن الراهن؛ لأن البيع وإن كان فاسدا، فقد تضمن الإذن في التصرف.
قال ابن الصباغ: فيكون الراهن مخيرا بين أن يقر غرسه، أو يدفع إليه قيمته، أو يجبره على قلعه ويضمن ما نقص.
وبالله التوفيق

(6/112)


[باب اختلاف المتراهنين]
إذا ادعى رجل على رجل أنه رهنه عينا بدين له عليه، فقال: ما رهنتكها. ولا بينة.. فالقول قول من عليه الدين مع يمينه أنه ما رهنه؛ لأن الأصل عدم الرهن. وإن اختلفا في عين الرهن، فادعى المرتهن أنه ارتهن منه هذا العبد، وقال الراهن: ما رهنتك هذا العبد، وإنما رهنتك الجارية.. حلف الراهن أنه ما رهنه العبد. وخرج العبد عن أن يكون رهنا بيمين الراهن، وخرجت الجارية عن أن تكون رهنا بإنكار المرتهن لها.
وإن اختلفا في قدر الرهن، مثل: أن يقول المرتهن: رهنتني هذين العبدين بمائة، وقال الراهن: بل رهنتك أحدهما بمائة، أو اختلفا في قدر الدين المرهون به، مثل: أن يقول المرتهن: رهنتني هذا العبد بمائة لي عليك، وقال الراهن: بل رهنتكه بخمسين منها. فالقول قول الراهن مع يمينه في المسألتين، وبه قال أبو حنيفة وأحمد رحمهما الله تعالى.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (القول قول من الظاهر معه، فإن كان العبد الذي أقر الراهن برهنه في المسألة الأولى يساوي مائة أو دونها، ويرهن مثله بمائة فالقول قول الراهن. وإن كان لا يساوي مائة، ولا يرهن مثله بمائة في العادة.. فالقول قول المرتهن، وكذلك في الثانية القول قول المرتهن في قدر الدين إن كانت قيمة العبد مائة. وإن كانت قيمته أكثر من المائة.. فالقول قول الراهن مع يمينه) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» . وهذا الراهن منكر فيهما، ولأنهما لو اختلفا في أصل العقد.. لكان القول قول الراهن، فكذلك إذا اختلفا في قدر المعقود عليه.

(6/113)


وإن كان له عليه ألف مؤجلة، وألف معجلة، فرهنه عبدا بألف، ثم اختلفا: فقال المرتهن: رهنتنيه بالألف الحال. وقال الراهن: بل رهنتكه بالألف المؤجل.. فالقول قول الراهن مع يمينه؛ لما ذكرناه في المسألة قبلها.

[مسألة: رهن أرضا واختلفا على وجود نخل فيها]
وإن رهنه أرضا، ووجد فيها نخلا أو شجرا، فقال المرتهن: كان هذا موجودا وقت الرهن، فهو داخل في الرهن، وقال الراهن: بل حدث بعد الرهن، فهو خارج من الرهن، فإن كان ما قاله المرتهن غير ممكن، مثل: أن يكون النخل صغارا، وقد عقد الرهن من مدة بعيدة لا يجوز أن يكون هذا النخل موجودا وقت العقد.. فالقول قول الراهن من غير يمين؛ لأنه لا يمكن صدق المرتهن. وإن كان ما قاله الراهن غير ممكن، وما قاله المرتهن ممكنا، مثل: أن يكون لعقد الرهن مدة لا يجوز أن يحدث هذا النخل بعدها، مثل: أن يكون النخيل كبارا، ومدة الرهن شهر، أو ما أشبهه.. فالقول قول المرتهن بلا يمين؛ لأن ما يقوله الراهن مستحيل غير ممكن، فلم يقبل قوله. وإن كان يمكن صدق كل واحد منهما، مثل: أن يكون هذا النخيل يمكن أن يكون موجودا حال العقد، ويمكن أن يحدث بعده.. قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (فالقول قول الراهن مع يمينه) . وقال المزني: القول قول المرتهن؛ لأنه في يده.
والمذهب الأول؛ لأن المرتهن قد اعترف للراهن بملك النخل، وصار يدعي عليه عقد الرهن، والراهن منكر ذلك، فكان القول قول الراهن، كما لو ادعى عليه عقد الرهن في النخل منفردا عن الأرض. وأما اليد: فلا يرجح بها في دعوى العقد، وإنما يرجح بها في دعوى الملك.
فإذا حلف الراهن.. نظرت:
فإن كان الرهن في القرض، أو كان متطوعا به في الثمن غير مشروط في البيع..

(6/114)


بقي الرهن في الأرض ولا كلام. وإن كان الرهن مشروطا في عقد البيع.. فإن هذا الاختلاف يوجب التحالف، وقد حلف الراهن، وخرج النخل عن الرهن، فإن رضي المرتهن بذلك.. فلا كلام، وإن لم يرض.. حلف المرتهن: أن النخل كان داخلا في عقد الرهن، وهل ينفسخ البيع والرهن بنفس التحالف، أو بالفسخ؟ على الوجهين في التحالف.
فإن قلنا: لا ينفسخ، فتطوع الراهن بتسليم النخل رهنا.. لم يكن للمرتهن فسخ البيع.

[مسألة: اختلفا على أي عقد كان الرهن]
وإن رهنه عبدا، فاختلفا، فقال الراهن: رهنته بمائة بعقد، ثم زادني مائة أخرى، فعقدت له الرهن بها على العبد قبل فسخ العقد الأول، وقلنا: لا يجوز ذلك، وقال المرتهن: بل ارتهنته مائة بالمائتين بعقد واحد.. ففيه وجهان:
أحدهما: القول قول الراهن مع يمينه؛ لأنهما لو اختلفا في أصل العقد.. لكان القول قوله، فكذلك إذا اختلفا في صفته.
والثاني: القول قول المرتهن مع يمينه؛ لأنهما اتفقا على عقد الرهن، والراهن يدعي معنى يقتضي بطلانه، والأصل عدم ما يبطله.

[فرع: إقرار الراهن بعبد للمرتهن بألف]
إذا قال رجل لغيره: هذا العبد الذي في يدي هو لك، رهنتنيه بألف لي عليك، فقال المقر له: هذا العبد وديعة عندك لي، وإنما رهنتك بألف عليّ لك عبدا آخر، فقتلته، وأنا أستحق عليك قيمته.. فالقول المقر له مع يمينه: أنه ما رهنه هذا العبد. أو القول قول المقر مع يمينه: أنه ما قتل له عبدا، ولا شيء له عليه من القيمة؛ لأن الأصل براءة ذمته. وأما المقر له بالعبد.. فعليه الألف؛ لأنه مقر بوجوبها.

(6/115)


[فرع: اختلف الراهن والمرتهن على مقدار الرهن]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (إذا قال الرجل لغيره: رهنتك عبدي هذا بألف درهم لك علي، فقال المرتهن: بل رهنتنيه وزيدا بألفي درهم، ألف درهم لي، وألف درهم لزيد، وادعى زيد ذلك.. فالقول قول الراهن: أنه ما رهن زيدا شيئا، فإذا حلف.. كان العبد رهنا عند الذي أقر له به) .
قال الشيخ أبو حامد: وهذا لا يجيء على أصل الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن المالك أقر للمرتهن برهن جميع العبد، وهو لا يدعي إلا رهن نصفه، وإنما ادعى زيد نصفه، وقد حلف له المالك، فوجب أن لا يبقى عند المقر له إلا نصف العبد مرهونا.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فأما إذا قال لغيره: رهنتك عبدي هذا بألف درهم لك علي، فقال المرتهن: هذا الألف الذي أقررت أنه لي رهنتني به هذا العبد هو لي ولزيد.. قبل ذلك؛ لأنه إقرار في حق نفسه، فقبل، فيكون الألف بينه وبين زيد) .
وقال الشيخ أبو حامد: ولم يذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - حكم الرهن هاهنا، ولكن يكون العبد رهنا بالألف؛ لأن المرتهن اعترف بالألف الذي ارتهن به أنه له ولغيره، فقبل إقراره في ذلك، كما لو كان له ألف برهن، فقال: هذا الألف لزيد.. كان له الألف بالرهن، كذلك هذا مثله.

[مسألة: إرسال شخص برهن]
ذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في باب (الرسالة) من " الأم " [3/155] أربع مسائل:
الأولى: إذا دفع رجل ثوبا، وأرسله ليرهنه له عند رجل، فرهنه له، ثم اختلف الراهن والمرتهن، فقال المرتهن: أذنت له ليرهنه عندي بعشرين، وقد أعطيته العشرين، ورهنني الثوب بها. فقال المرسل: ما أمرته أن يأخذ إلا عشرة ويرهن بها، فإن صدق الرسول الراهن المرسل.. فالقول قول الرسول، فيحلف: إنه

(6/116)


ما رهنه إلا بعشرة، ولا يمين على المرسل؛ لأن الرسول هو الذي باشر العقد.
قال ابن الصباغ: وعندي: أن المرتهن إذا ادعى على المرسل: أنه أذن له في ذلك، وقبض منه عشرين بإذنه.. أن له أن يحلفه؛ لأن المرسل لو أقر بذلك.. لزمه ما قاله، فإذا أنكره.. حلف.
المسألة الثانية: إذا صدق الرسول المرتهن.. فالقول قول المرسل: أنه لم يأذن له في رهنه بعشرين، ولم يلزم المرسل إلا عشرة لا غير، ويلزم الرسول عشرة؛ لأنه أقر بقبض العشرين.
قال ابن الصباغ: وعندي: أن المرتهن إذا صدق الرسول أن الراهن أذن له في ذلك.. لم يكن له الرجوع على الرسول؛ لأنه يقر أن الذي ظلمه هو المرسل.
المسألة الثالثة: إذا دفع إليه ثوبا وعبدا، وأمره أن يرهن أحدهما عند رجل بشيء يأخذه له منه، فرهن الرسول العبد، ثم قال المرسل: إنما أذنت لك برهن الثوب، وأما العبد: فوديعة، وقال الرسول أو المرتهن: إنما أذنت في رهن العبد.. حلف المرسل: إنه ما أذن له برهن البعد، وخرج العبد عن الرهن بيمينه، وخرج الثوب عن الرهن؛ لأنه لم يرهن.
المسألة الرابعة: إذا قال المرسل: أمرتك برهن الثوب، ونهيتك عن رهن العبد. وأقام على ذلك بينة، وأقام الرسول بينة أنه أذن له في رهن العبد. فبينة الرسول أولى؛ لأنه يحتمل أن يكون قد أذن له في رهن العبد، ثم نهاه عن رهنه، فلا يصح رهنه، ويحتمل أن يكون قد أذن له في رهن الثوب، ونهاه عن رهن العبد، ثم أذن له في رهن العبد، فيصح، وإذا احتمل هذا وهذا، فقد وجد من الرسول عقد الرهن على العبد، والظاهر أنه عقد صحيح.. فلا يحكم ببطلانه لأمر محتمل) .

[مسألة: اختلفا في كون الرهن قرضا أو بيعا]
إذا كان في يد رجل عبد لغيره، فقال من بيده العبد للمالك: رهنتني هذا العبد بألف هي لي عليك قرضا، وقال المالك: بل بعتكه بألف هي لي عليك ثمنا.. حلف

(6/117)


السيد: أنه ما رهنه العبد؛ لأن الأصل عدم الرهن، ويحلف من بيده العبد: أنه ما اشتراه؛ لأن الأصل عدم الشراء، ويبطل العقدان، ويسقط المالان، ويرد العبد إلى سيده.
وإن قال من بيده العبد: رهنتني هذا العبد بألف أقبضتكها. وقال السيد: بل رهنتكه بألف لم أقبضها.. فالقول قول السيد مع يمينه؛ لأن الأصل عدم القبض، فإذا حلف. بطل الرهن؛ لأن الرهن إنما يكون على حق في الذمة. وإن قال من بيده العبد: بعتنيه بألف، وقال السيد: بل رهنتكه بألف.. حلف السيد: إنه ما باعه العبد، فإذا حلف.. خرج العبد من يد من هو بيده؛ لأن البيع زال بيمين السيد، وبطل الرهن؛ لأن المالك يقر له به، والمرتهن ينكره، ومتى أنكر المرتهن الرهن.. زال الرهن.
قال الشيخ أبو إسحاق في " المهذب "، والمحاملي في " المجموع ": فإن قال السيد: رهنتكه بألف قبضتها منك قرضا، وقال الذي بيده العبد: بل بعتنيه بألف قبضتها مني ثمنا.. حلف كل واحد منهما على نفي ما ادعي عليه؛ لأن الأصل عدم العقد. وعلى السيد الألف؛ لأنه مقر بوجوبها.
قلت: والذي يقتضي القياس عندي: أنه لا يمين على الذي بيده العبد؛ لأنه ما ارتهن العبد؛ لما ذكرناه في المسألة قبلها.

[مسألة: اختلفا على عين أنها رهن أو إجارة]
وإن رهنه عينا فوجدت في يد المرتهن، فقال المرتهن للراهن: قبضتها بإذنك رهنا. وقال الراهن: لم آذن لك في قبضها، وإنما غصبتنيها، أو أجرتها منك، فقبضتها عن الإجارة. فالقول قول الراهن مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الإذن.
وإن اتفقا على الرهن والإذن والقبض، ولكن قال الراهن: رجعت في الإذن قبل أن تقبض، وقال المرتهن: لم ترجع، ولم تقم بينة على الرجوع.. فالقول قول المرتهن مع يمينه: أنه ما يعلم أنه رجع؛ لأن الأصل عدم الرجوع.
وإن اتفقا على الرهن والإذن، واختلفا في القبض: فقال الراهن: لم تقبض،

(6/118)


وقال المرتهن: بل قبضت.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع: (القول قول الراهن) . وقال في موضع: (القول قول المرتهن) .
قال أصحابنا: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين، فإن كانت العين في يد الراهن.. فالقول قول الراهن؛ لأن الأصل عدم القبض.
والذي يقتضي المذهب عندي: أنه يحلف أنه ما يعلم أنه قبض؛ لأنه يحلف على نفي فعل غيره. وإن كانت العين في يد المرتهن.. حلف: إنه قبض؛ لأن الظاهر أنه قبض بحق.

[فرع: رجوع الراهن عن إقباض العين للمرتهن]
وإن أقر أنه رهن عند غيره عينا، وأقبضه إياها، ثم قال الراهن للمرتهن: لم تكن قبضتها، وأراد منعه من القبض.. لم يقبل رجوعه عن إقراره بالقبض؛ لأن إقراره لازم. فإن قال الراهن للمرتهن: احلف: أنك قبضتها.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أحلفته) . واختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو إسحاق: إن كان المرهون غائبا، فقال: أقررت بالقبض؛ لأن وكيلي أخبرني: أنه أقبضه، ثم بان لي أنه لم يقبضه.. أحلف المرتهن؛ لأنه لا يكذب نفسه، وإنما يدعي أمرا محتملا. فأما إذا كان الرهن حاضرا، وأقر أنه أقبضه بنفسه، ثم رجع، وقال: لم يقبض.. لم تسمع منه دعواه، ولم يحلف المرتهن؛ لأنه يكذب نفسه.
وقال أبو علي بن خيران، وعامة أصحابنا: يحلف المرتهن بكل حال، وهو ظاهر النص. أما مع غيبة الرهن: فلما ذكر الشيخ أبو إسحاق. وأما مع حضوره: فلأنه قد يستنيب غيره بالإقباض، فيخبره: بأن المرتهن قد قبض، ثم تبين له أنه قد خان في إخباره، وأيضا فإنه قد يعده بالإقباض، فيقر له به قبل فعله، فكانت دعواه محتملة.
قالوا: وهكذا: لو أن رجلا أقر: بأنه اقترض من رجل ألفا، ثم قال بعد ذلك: لم

(6/119)


أقبضها، وإنما وعدني أن يقرضني، فأقررت به، ثم لم يفعل.. لم يحلف، واستحلف المقرض؛ لأنه لا يكذب نفسه. فأما إذا شهد شاهدان: بأنه رهنه عبده وأقبضه، ثم ادعى أنه لم يقبضه، وطلب يمين المرتهن.. لم تسمع دعواه، ولم يحلف المقر له؛ لأن في ذلك قدحا في البينة.

[مسألة: البيع بشرط أن يرهن عصيرا]
إذا باعه شيئا بشرط أن يرهنه عصيرا، فرهنه العصير، وقبضه المرتهن، فوجده خمرا، فقال المرتهن: أقبضتنيه خمرا، فلي الخيار في فسخ البيع. وقال الراهن: بل صار خمرا بعد أن صار في يدك، فلا خيار لك.. ففيه قولان:
أحدهما: أن القول قول المرتهن مع يمينه، وهو قول أبي حنيفة، والمزني؛ لأن الراهن يدعي قبضا صحيحا، والأصل عدمه.
والثاني: أن القول قول الراهن، وهو الصحيح؛ لأنهما قد اتفقا على العقد والتسليم، واختلفا في تغيير صفته، والأصل عدم التغيير وبقاء صفته، كما لو باعه شيئا وقبضه، فوجد به عيبا في يد المشتري يمكن حدوثه بيده.. فإن القول قول البائع. وإن قال المرتهن: رهنتنيه وهو خمر. وقال الراهن: رهنتكه، وهو عصير، وقبضته عصيرا، وإنما صار خمرا في يدك.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو علي بن أبي هريرة: القول قول المرتهن، قولا واحدا؛ لأنه لا ينكر أصل العقد.
وقال سائر أصحابنا: هي على قولين كالتي قبلها. وهو المنصوص في " مختصر المزني ".

[فرع: رهن عبدا ملفوفا]
وإن رهنه عبدا، وأقبضه إياه ملفوفا في ثوب، فوجد ميتا، فقال المرتهن: أقبضتنيه ميتا. وقال الراهن: أقبضتكه حيا، ثم مات عندك.. ففيه طريقان:

(6/120)


[أحدهما] : قال عامة أصحابنا: هي على قولين، كالعصير.
و [الثاني] : قال أبو علي الطبري: القول قول المرتهن، قولا واحدا. والصحيح هو الأول؛ لما ذكرناه في المسألة قبلها.

[مسألة: رهنا عبدا على مائتي دينار]
إذا كان لرجلين على رجل مائتا دينار، لكل واحد منهما مائة، وله عبد، فادعى عليه كل واحد منهما أنه رهن عنده العبد، وأقبضه إياه، ولا بينة لهما، فإن كذبهما.. حلف لكل واحد منهما يمينا؛ لأن الأصل عدم الرهن، سواء كان العبد في أيديهما، أو في يده؛ لأن اليد لا يرجح بها في العقد. وإن صدق أحدهما، وكذب الآخر.. حكم بالرهن للمصدق، وسواء كان العبد في يد المصدق أو المكذب، وهل يحلف الراهن للمكذب؟ فيه قولان، بناء على من أقر بدار لزيد، ثم أقر بها لعمرو، هل يغرم لعمرو قيمته؟ فيه قولان:
فإن قلنا: يغرم.. حلف هاهنا؛ لجواز أن يخاف اليمين، فيقر للمكذب، فتثبت له القيمة.
وإن قلنا: لا يغرم.. لم يحلف؛ لأنه لو أقر له بعد الإقرار الأول.. لم يحكم له بشيء، فلا فائدة في تحليفه.
وإن أقر لهما بالرهن والتسليم، فادعى كل واحد منهما أنه هو السابق بالرهن والتسليم.. رجع إلى الراهن، فإن قال: لا أعلم السابق منكما بذلك، فإن صدقاه أنه لا يعلم، ولا بينة لهما.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو المنصوص ـ: (أن الرهن ينفسخ) ؛ لأنهما قد استويا في ذلك، والبيان من جهته قد تعذر، فحكم بانفساخ العقدين، كما نقول في المرأة إذا زوجها وليان لها من رجلين، وتعذر معرفة السابق منهما، وكذلك الجمعتان.
والثاني: يقسم بينهما؛ لأنه يمكن قسمته بينهما، ويمكن أن يكون رهن عند كل واحد منهما نصفه.

(6/121)


وإن كذباه، وقالا: بل هو يعلم السابق من العقدين والتسليم فيه.. فالقول قول الراهن مع يمينه؛ لأن الأصل عدم العلم.
قال الشيخ أبو حامد: فيحلف لكل واحد منهما يمينا: أنه لا يعلم أنه السابق، فإذا حلف لهما.. كانت على وجهين، مضى ذكرهما:
المنصوص: (أنه ينفسخ العقدان) .
والثاني: يقسم بينهما.
وإن نكل عن اليمين.. عرضنا اليمين عليهما، فإن حلف كل واحد منهما: أن الراهن يعلم أنه هو السابق.. قال ابن الصباغ: كانت على الوجهين الأولين:
المنصوص: (أن الرهنين ينفسخان) .
والثاني: يقسم بينهما.
وإن حلف أحدهما، ونكل الآخر.. حكم بالرهن للحالف دون الآخر. وإن اعترف الراهن أنه يعلم السابق منهما، وقال: هذا هو السابق، لم يخل: إما أن يكون الرهن في يد الراهن، أو في يد أجنبي، أو في يد أحد المرتهنين، أو في يدهما، فإن كان الرهن في يد الراهن، أو في يد أجنبي، أو في يد المقر له بالسبق.. حكم بالرهن للمقر له؛ لأنه اجتمع له اليد والإقرار، وهل يحلف الراهن للآخر؟ فيه قولان، وحكاهما الشيخ أبو حامد وجهين:
المنصوص: (أنه لا يحلف له؛ لأنه لو أقر للثاني.. لم ينزع الرهن من يد المقر له، فلا معنى لاستحلافه) .
والثاني: يحلف له؛ لأنه ربما خاف من اليمين، فأقر للثاني، فتؤخذ منه القيمة، فتكون رهنا مكانه.
فإذا قلنا: لا يمين عليه.. فلا كلام. وإن قلنا: عليه اليمين.. نظرت:
فإن حلف للثاني.. انصرف.
وإن خاف من اليمين، فأقر للثاني أنه رهنه أولا، وأقبضه.. لم يقبل هذا الإقرار في حق المقر له أولا بانتزاع الرهن منه، ولكن تؤخذ من المقر قيمة الرهن، وتجعل

(6/122)


رهنا عند الثاني المقر له؛ لأنه حال بينه وبينه بإقراره المتقدم.
وإن نكل عن اليمين.. ردت على الثاني، فإن لم يحلف.. قلنا له: اذهب فلا حق لك. وإن حلف، فإن قلنا: إن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كالبينة.. انتزع الرهن من يد الأول، وسلم إلى الثاني. قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: إلا أن أصحابنا لم يفرعوا على هذا القول، وهذا يدل على ضعفه. وإن قلنا: إن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كالإقرار.. فذكر في " المهذب " هاهنا ثلاثة أوجه:
أحدها ـ ولم يذكر في " التعليق " و " الشامل " غيره ـ: أن الرهن لا ينزع من يد الأول، ويلزم المقر أن يدفع قيمته إلى الثاني المقر له ليكون رهنا عنده؛ لأنه حال بينه وبينه بإقراره الأول.
والثاني: يجعل بينهما؛ لأنهما استويا في الإقرار، ويجوز أن يكون مرهونا عندهما، فجعل بينهما.
والثالث: ينفسخ الرهن؛ لأنه أقر لهما، وجهل السابق منهما.
وإن كان الرهن في يد الذي لم يقر له.. فقد حصل لأحدهما الإقرار، وللآخر اليد، وفيه قولان:
أحدهما: أن صاحب اليد أولى، فيكون القول قوله مع يمينه: أنه السابق، كما لو قال: بعت هذا العبد من أحدهما، وكان في يد أحدهما.. فالقول قوله مع يمينه.
والثاني: أن القول قول الراهن: أن الآخر هو السابق؛ لأنه إذا اعترف أن السابق هو الآخر.. فهو يقر أنه لم يرهن ممن بيده شيئا، ومن بيده يدعي ذلك، فيكون كما لو ادعى عليه أنه رهنه.
فإذا قلنا بهذا: فهل يحلف الراهن لمن هو بيده؟ على القولين فيمن أقر بدار لزيد، ثم أقر بها لعمرو، على ما مضى من التفريع.
وإن كان الرهن في يد المرتهنين.. فقد اجتمع لأحدهما اليد والإقرار في النصف،

(6/123)


فيكون أحق به، وهل يحلف للآخر عليه؟ على القولين.
وأما النصف الذي في يد الآخر: فهل اليد أقوى، أو الإقرار؟ على القولين الأولين.
فإن قلنا: إن اليد أقوى.. حلف من هو في يده عليه، وكان رهنا بينهما، وهل يحلف المقر لمن لم يقر له على النصف الذي بيد المقر له؟ على القولين.
وإن قلنا: الإقرار أولى.. انتزع العبد، فجعل رهنا للمقر له، وهل يحلف للآخر على جميعه؟ على القولين فيمن أقر بدار لزيد، ثم أقر بها لعمرو والمنصوص هاهنا: (أنه لا يحلف) .

[مسألة: رهن عبدا أو أقبضه]
إذا رهن عند رجل عبدا، وأقبضه إياه، ثم أقر الراهن أنه جنى قبل الرهن على غيره جناية توجب المال، أو أتلف عليه مالا، فإن لم يصدقه المقر له.. لم يحكم بصحة الإقرار؛ لأنه أقر لمن لا يدعيه. وإن صدقه المقر له، فإن صدقهما المرتهن.. حكم بصحة الإقرار، وكان للمرتهن الخيار في فسخ البيع إن كان مشروطا فيه، وإن كذبهما المرتهن.. ففيه قولان:
أحدهما ـ وهو الضعيف ـ: أن القول قول الراهن؛ لأنه غير متهم في هذا الإقرار؛ لأن المجني عليه يأخذ الأرش، ويبقى حق المرتهن في ذمة الراهن، فلا تهمة عليه فيه، وكل من أقر بما لا تهمة عليه فيه.. قبل، كالزوجة إذا أقرت بقتل العمد.. فإنه يقبل إقرارها، ولأنه لو أجر عبده، ثم أقر أنه جنى قبل الإجارة.. قبل إقراره، فكذلك في الرهن مثله.
والقول الثاني: أن القول قول المرتهن، وهو قول أبي حنيفة، والمزني، وهو الصحيح؛ لأنه معنى يبطل حق الوثيقة من عين الرهن، فلم يملكه الراهن، كما لو باعه، ولأنه متهم؛ لأنه ربما واطأ المقر له ليبطل الوثيقة، ويأخذ العبد، ويخالف

(6/124)


الإجارة، فإن الإجارة عقد على المنفعة، ويمكن استيفاء المنفعة منه، ثم يباع في الجناية.
فإن لم يقر بأنه جنى، ولكن أقر بعد الرهن والإقباض أنه كان غصب هذا العبد، أو باعه، أو أعتقه قبل الرهن، وأنكر المرتهن ذلك.. قال الشيخ أبو حامد: ففيه قولان، كما لو أقر أنه كان جنى. وقال ابن الصباغ: ينبغي أن يكون في الإقرار بالعتق قول ثالث: إن كان موسرا.. نفذ إقراره، وإن كان معسرا.. لم ينفذ إقراره، ويجري الإقرار به مجرى الإعتاق.
فأما إذا باع عبدا، ثم أقر أنه كان جنى قبل البيع، أو كان أعتقه، أو غصبه، أو باعه من غيره.. لم يقبل في حق المشتري، قولا واحدا؛ لأن البيع يزيل ملكه.
وإن كاتب عبدا، ثم أقر أنه كان جنى قبل ذلك.. لم يقبل أيضا إقراره، قولا واحدا؛ لأن المكاتب بمنزلة من زال ملكه عنه؛ لأن أرش الجناية عليه لا يرجع إليه
وإن كاتبه، ثم أقر أنه كان أعتقه، أو باعه قبل ذلك.. قال الشيخ أبو حامد: عتق في الحال، وسقط المال عنه؛ لأن إقراره بذلك إبراء منه له من مال المكاتبة.
إذا ثبت هذا: رجعنا إلى الرهن، فإن قلنا: القول قول الراهن.. فهل يحتاج أن يحلف؟ من أصحابنا من قال: فيه قولان. وقال الشيخ أبو حامد: هما وجهان:
أحدهما: أن عليه اليمين، وهو اختيار الشيخ أبي حامد، وهو المنصوص؛ لأن ما قاله يحتمل الصدق والكذب، فلم يكن بد من اليمين، كما لو ادعى دارا في يد غيره، فأنكر.. فلا بد من يمين المنكر؛ لأنه يمكن صدقه وكذبه.
فعلى هذا: إذا حلف.. فإنه يحلف على البت والقطع؛ لأنها يمين إثبات.
والثاني: أنه لا يمين عليه، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لأنه لو رجع عن هذا الإقرار.. لم يقبل رجوعه، فلا معنى لعرض اليمين عليه.
فإذا قلنا: عليه اليمين، فحلف، أو قلنا: لا يمين عليه، فإن كانت قيمة العبد بقدر أرش الجناية أو أقل.. بيع العبد لأجل الأرش، ولا كلام. وإن كان أرش الجناية أقل من قيمة العبد، فإن قلنا: إن رهن العبد الجاني صحيح.. بيع منه بقدر أرش

(6/125)


الجناية، وكان الباقي منه رهنا. وإن لم يمكن بيع بعضه إلا ببيع جميعه.. بيع جميعه، وكان ما فضل من ثمنه عن أرش الجناية رهنا. وإن قلنا: إن رهن الجاني باطل.. بطل في قدر أرش الجناية، وهل يبطل فيما زاد على الأرش؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه باطل، فيكون للراهن مطلقا؛ لأن تعلق الأرش بالرقبة وإن قل يبطل الرهن.
والثاني: لا يبطل الرهن فيما يفضل عن أرش الجناية؛ لأن ما زاد على أرش الجناية لا يدعيه المجني عليه، فلم يحكم ببطلان الرهن فيه، كما لو لم يدع المجني عليه الجناية.. فإنه لا يحكم ببطلان الرهن.
فإن اختار السيد أن يفديه، إذا قلنا: القول قوله.. فبكم يفديه؟ فيه قولان:
أحدهما: بأقل الأمرين من قيمته، أو أرش الجناية.
والثاني: بأرش الجناية بالغا ما بلغ، أو يسلمه للبائع، كما لو ثبتت جنايته بالبينة، أو كان غير مرهون.
وإذا قلنا: إن القول قول المرتهن.. فإن عليه اليمين، قولا واحدا؛ لأنه لو اعترف بالجناية.. لصح اعترافه.
فعلى هذا: يحلف: أنه ما يعلم أنه جنى؛ لأنه يحلف على نفي فعل غيره.
فإن حلف المرتهن.. بقي الرهن في العبد بحاله، وهل يلزم الراهن أن يغرم للمجني عليه؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يلزمه؛ لأنه قد فعل ما يلزمه في الشرع، وهو الإقرار، فإذا منع الشرع من قبول إقراره.. لم يلزمه ضمان.
فعلى هذا: إذا رجع العبد إليه، بأن فكه من الرهن، أو أبرئ من الدين، أو بيع في الدين، فرجع إليه ببيع، أو هبة، أو إرث.. تعلق الأرش برقبته؛ لأنا إنما منعنا من نفوذ إقراره بحق المرتهن، وقد زال.

(6/126)


والقول الثاني: يلزمه أن يغرم؛ لأنه منع من بيعه لأرش الجناية بعقد الرهن، فصار كما لو قتل عبده، ثم أقر أنه كان جنى.. فإنه يلزمه الغرم للمجني عليه.. ولا فرق بين أن يعلم بالجناية عند عقد الرهن، أو لا يعلم؛ لأن حقوق الآدميين تضمن بالعمد والخطأ.
فإذا قلنا بهذا: فكم يلزمه أن يغرم؟ فيه طريقان:
[الطريق الأول] : قال أبو إسحاق: فيه قولان:
أحدهما: أقل الأمرين من قيمته، أو أرش الجناية.
والثاني: أرش الجناية بالغا ما بلغ، كالمسألة قبلها.
و [الطريق الثاني] : قال أكثر أصحابنا: يلزمه أقل الأمرين، قولا واحدا، وهو المنصوص؛ لأنه لا يمكن البيع هاهنا، فهو كأم الولد.
قال ابن الصباغ: ويمكن من قال بالطريق الأول أن يجيب عن هذا: بأن هذا منع من بيعه بالرهن بعد أن كان يمكن بيعه بالجناية، وأم الولد منع من بيعها قبل الجناية.
فإن نكل المرتهن عن اليمين.. فعلى من ترد اليمين؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو المنصوص ـ: (أنها ترد على المجني عليه) ؛ لأن الأرش له، فحلف لإثباته.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: ترد على الراهن؛ لأنه هو المالك للرهن، والخصومة بينه وبينه فيه.
فإذا قلنا: ترد اليمين على المجني عليه، فنكل.. فهل ترد على الراهن؟ فيه قولان.
وإن قلنا: ترد على الراهن، فنكل.. فهل ترد على المجني عليه؟ فيه قولان، بناء على القولين في المفلس إذا أقام شاهدا على حق له على غيره، ولم يلحف معه.. فهل يحلف الغرماء معه؟ فيه قولان.

(6/127)


[فرع: عتق الجارية المرهونة]
ولو أعتق الراهن الجارية المرهونة بعد الرهن والإقباض، أو أحبلها، وادعى أن المرتهن أذن له في ذلك، فأنكر، ولا بينة.. فالقول قول المرتهن مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الإذن. فإن نكل عن اليمين.. ردت على الراهن، فإن نكل.. فهل ترد على الجارية؟ فيه طريقان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، بناء على القولين في غرماء المفلس.
و [الثاني] : منهم من قال: ترد عليها اليمين، قولا واحدا، وهو المنصوص؛ لأنها تثبت لنفسها حقا، وهو العتق والاستيلاد، بخلاف غرماء المفلس، فإنهم يثبتون الحق لغيرهم.
فإن حلف الراهن أو الجارية، فإذا قلنا: يحلفا.. ثبت العتق والاستيلاد، وبطل الرهن، قولا واحدا. وإن لم يحلف واحد منهما.. فهو كما لو أعتقها، أو أحبلها بغير إذن المرتهن، وقد مضى.

[مسألة: قضاه أحد الدينين أحدهما رهن]
وإن كان لرجل على رجل مائتا درهم، مائة برهن، ومائة بغير رهن، فقضاه مائة، ثم اختلفا: فقال الراهن: قضيتكها عن المائة التي بها الرهن، وقال المرتهن: بل أقبضتنيها عن المائة التي لا رهن بها، فإن اختلفا في اللفظ، بأن قال الراهن: أنا قلت: هي عن المائة المرهون بها، وقال المرتهن: بل قلت: هي عن المائة التي لا رهن بها.. فالقول قول الراهن مع يمينه؛ لأنه أعلم بقوله.
وهكذا: إذا اتفقا أنه لم يتلفظ، وإنما اختلفا في نيته.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أعلم بما نوى. وإن اتفقا أنه لم يتلفظ ولم ينو، ولكن قال الراهن: أريد أن أجعلها عن المائة التي بها الرهن، وقال المرتهن: بل تكون عن التي لا رهن بها، وكان هذا بعد القضاء.. ففيه وجهان:

(6/128)


[أحدهما] : قال أبو إسحاق: للراهن أن يجعلها عما شاء، كما إذا طلق إحدى نسائه بغير عينها.. فله أن يصرفه إلى أيتهن شاء.
و [الثاني] : قال أبو علي بن أبي هريرة: يصرف إليهما نصفين؛ لأنهما متساويان في الوجوب، فصرفت إليهما.

[فرع: إبراء المرتهن الراهن عن بعض الرهن]
فإن كانت المسألة بحالها، وأبرأه المرتهن عن مائة، ثم اختلفا: فقال الراهن: أبرأتني عن المائة التي بها الرهن، وقال المرتهن: بل أبرأتك عن المائة التي لا رهن بها، فإن اختلفا في لفظ المرتهن أو في نيته.. فالقول قوله مع يمينه؛ لما ذكرناه في التي قبلها.
وإن اتفقا على أنه لم يتلفظ ولم ينو.. فعلى الوجهين في الأولى:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: للمرتهن أن يصرفه إلى التي لا رهن بها.
و [الثاني] : قال أبو علي: ينصرف إليهما نصفين.

[مسألة: هلاك الرهن بيد المرتهن]
وإن كان الرهن على يد المرتهن، وادعى هلاكه من غير تفريط.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أمين، فكان القول قوله في الهلاك، كالمودع.
وإن ادعى رده، فأنكره الراهن فقد قال البغداديون من أصحابنا: لا يقبل قوله من غير بينة، بل القول قول الراهن.. مع يمينه؛ لأنه قبض العين لمنفعة نفسه، فلم يقبل قوله في الرد، كالمستأجر. وحكى أبو علي السنجي: أن الخراسانيين من أصحابنا قالوا: يقبل قوله مع يمينه، كما يقبل قوله في الهلاك، كالمودع.

[مسألة: أذنا في بيع الرهن عند المحل بدراهم أو دنانير]
] : وإن جعلا الرهن على يد عدل، وأذنا له في بيعه عند المحل، ثم اختلفا فيما يباع به. فقال أحدهما: بع بالدنانير، وقال الآخر: بع بالدراهم.. فإن الشيخ أبا حامد

(6/129)


وابن الصباغ قالا: لا يبيع بقول كل واحد منهما؛ لأن لكل واحد منهما حقا تعلق به، فلم يكن قبول قول أحدهما بأولى من الآخر، ولكن يرفع الأمر إلى الحاكم، وهو المنصوص في " المختصر "، فيأمره الحاكم بالبيع بنقد البلد، وسواء كان نقد البلد مما طلب أحدهما أو مما لم يطلبه أحدهما فإن كان الدين من نقد البلد.. صرف الثمن إليه، وإن كان من غير نقد البلد.. اشتري له بما بيع به الرهن جنس حقه.
وإن كان ما قال كل واحد منهما من نقد البلد، أو كان في البلد نقدان غير ما قالا، فإن كان أحدهما أغلب في الاستعمال من الآخر.. أمره الحاكم أن يبيع بالغالب. وإن كانا متساويين، فإن كان البيع بأحدهما أحظ لهما. باع بالأحظ لهما. وإن كانا متساويين في الحظ، فإن كان أحدهما من جنس حق المرتهن.. باع به؛ لأن ذلك أسهل، وإن كان الدين من غيرهما.. باع بما هو أسهل صرفا إلى جنس الدين، وأقرب إليه. فإن استويا في ذلك.. عين له الحاكم أحدهما، فباع به.
وذكر القاضي أبو الطيب في " المجرد ": أنه إذا قال الراهن: بعه بالدراهم، وقال المرتهن: بعه بالدنانير، وكانت الدراهم قدر حق المرتهن.. باعه بالدراهم؛ لأنه لا غرض للمرتهن في الدنانير.
ولم يذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": أنه يرفع إلى الحاكم، ولعله أراد ذلك بإطلاقه.
والله أعلم

(6/130)


[باب التفليس]
الفلس - في اللغة -: مأخوذ من الفلوس وهو أخس مال الرجل الذي يتبايع به، كأنه إذا أفلس.. منع من التصرف في ماله إلا من الشيء التافه.
وهو - في الشرع - اسم لمن عليه ديون لا يفي ماله بها.

[مسألة: مطالبة المدين عند حلول الأجل]
] : إذا كان على الرجل دين، فلا يخلو: إما أن يكون مؤجلا، أو حالا.
فإن كان مؤجلا.. لم تجز مطالبته به قبل حلول الأجل؛ لأن ذلك يسقط فائدة التأجيل، فإن أراد أن يسافر قبل محل الدين سفرا يزيد على الأجل..نظرت: فإن كان لغير الجهاد.. لم يكن للغريم منعه، ولا مطالبته بأن يقيم له كفيلا بدينه، ولا أن يعطيه رهنا.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويقال له: حقك حيث وضعته) ، يعني: أنك رضيت حال العقد أن يكون مالُكَ عليه بلا رهن ولا ضمين.
وحكى أصحابنا، عن مالك رحمة الله عليه: أنه قال: (له مطالبته بالكفيل، أو الرهن) .

(6/131)


دليلنا: أنه ليس له مطالبته بالحق، فلم يكن له مطالبته بالكفيل أو الرهن، كما لو لم يرد السفر.
وإن كان السفر للجهاد.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: له منعه من السفر إلى أن يقيم له كفيلا أو يعطيه رهنا بدينه؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ولا يجاهد إلا بإذن أهل الدين) . ولم يفرق بين الحال والمؤجل، ولأن المجاهد يعرض نفسه للقتل طلبا للشهادة، فلم يكن بد من إقامة الكفيل؛ ليستوفي صاحب الدين دينه منه.
و [الثاني] : منهم من قال: لا يلزمه ذلك؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (وإذا أراد الذي عليه الدين إلى أجل السفر، وأراد غريمه منعه؛ لبعد سفره وقرب أجله.. لم يكن له منعه) . ولم يفرق بين سفر الجهاد وغيره، لأنه لم يحل الدين، فلم يملك المطالبة بذلك، كما لو كان السفر لغير الجهاد.

وإن كان الدين حالا، فإن كان معسرا.. لم يجز مطالبته؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] [البقرة: 280] . ولا يجوز لغريمه ملازمته، وبه قال مالك رحمة الله عليه.
وقال أبو حنيفة رحمة الله عليه: (ليس للغريم مطالبته، ولكن له ملازمته، فيسير معه حيث سار، ويجلس معه حيث جلس، إلا أنه لا يمنعه من الاكتساب، وإذا رجع إلى داره، فإن أذن لغريمه بالدخول معه.. دخل معه؛ وإن لم يأذن له بالدخول.. كان للغريم منعه من الدخول) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] . فأمر بإنظار المعسر، فمن قال: إنه يلازمه.. فقد خالف ظاهر الآية.
وروي: «أن رجلا ابتاع ثمرة، فأصيب بها، فكثر دينه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تصدقوا عليه". فتصدقوا عليه، فلم يف بما عليه. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لغرمائه:

(6/132)


خذوا ما وجدتم، ما لكم غيره» وهذا نص. ولأن كل من لا مطالبة له عليه.. لم تجز ملازمته، كما لو كان الدين مؤجلا.
وإن كان من عليه الدين يحسن صنعة.. لم يجبر على الاكتساب بها ليحصل ما يقضي به الدين، بل إن اكتسب، وحصل معه مال يفضل عن نفقته ونفقة من تلزمه نفقته.. قضى به الدين، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وعامة أهل العلم.
وقال أحمد، وإسحاق: (يجبر على الاكتساب لقضاء الدين) . وبه قال عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعبيد الله بن الحسن العنبري، وسوار القاضي. دليلنا: الخبر في الرجل الذي ابتاع الثمرة، فأمر النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غرماءه أن يأخذوا ما معه، وقال: «خذوا ما وجدتم، ما لكم غيره» . ولم يأمره بالاكتساب لهم، ولأن هذا إجبار على الاكتساب، فلم يجب ذلك، كما لا يجبر على قبول الهبة والوصية، وكذلك: لو تزوج امرأة بمهر كثير.. لم يجبر على طلاقها قبل الدخول ليرجع إليه نصفه.

فإن كان موسرا.. جازت مطالبته؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] [البقرة: 280] . فأوجب إنظار المعسر، فدل على: أن الموسر لا يجب إنظاره، فإن لم يقضه.. أمره الحاكم بالقضاء، فإن لم يفعل، فإن كان له مال ظاهر.. باع الحاكم عليه ماله، وقضى الغريم، وإن قضى الحاكم الغريم شيئا من مال من عليه الدين.. جاز، وبه قال مالك، وأبو يوسف، ومحمد.

(6/133)


وقال أبو حنيفة: (لا يجوز للحاكم أن يبيع عليه ماله، ولكن يحبسه حتى يقضي الدين بنفسه) .
دليلنا: ما روي: (أن أمير المؤمنين عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صعد المنبر، وقال: ألا إن الأسيفع أسيفع جهينة رضي من دينه وأمانته أن يقال: سابق الحاج - وروي: سبق الحاج - فادان معرضا، فأصبح وقد رين به، فمن كان له ذلك عليه دين.. فليحضر غدا، فإنا بائعوا ماله، وقاسموه بين غرمائه) . وروي: (فمن كان له عليه دين.. فليغد بالغداة، فلينقسم ماله بينهم بالحصص) . وهذا بمجمع من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، ولم ينكر عليه أحد، فدل على: أنه إجماع.
وقوله: (فادان معرضا) أي: أنه يتعرض الناس، فيستدين ممن أمكنه، ويشترى به الإبل الجياد، ويروح في الحج، ويسبق الحاج.
وقوله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: (فأصبح وقد رين به) يقال: رين بالرجل: إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه، ولا قبل له به، ويقال لما عليك وعلاك: وقد ران بك، وران عليك، قال الله تعالى: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] .

(6/134)


قال الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هو الذنب على الذنب حتى يسود القلب.

وإن امتنع من عليه الدين من القضاء، وكتم ماله.. عزره الحاكم، وحبسه إلى أن يظهر ماله.
والدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لي الواجد يحل عقوبته وعرضه» . و (اللي) : المطل، يقال: لواه غريمه بدينه يلويه ليا وليانا. قال الشاعر:
تطيلين لياني وأنت ملية ... وأحسن يا ذات الوشاح التقضايا
وقوله: (الواجد) يعني: الغني. وهذا كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مطل الغني ظلم» وقوله: (يحل عرضه) لم يرد به: أنه يقذفه، ويطعن في نسبه، وإنما يقول: يا ظالم، يا متعد. وقوله: (عقوبته) يعني: حبسه وتعزيره، وهو كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لصاحب الحق اليد واللسان» . وأراد باليد: الملازمة، وباللسان: أن يقول: يا ظالم، يا مطال.

(6/135)


وروي: «أن رجلا كان له على رجل دين، فترافعا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمره بملازمته، ثم إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر به، فقال: أحسن إلى أسيرك» فسماه: أسيرا.
وروي: «أن كعب بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان له على رجل دين، فلازمه في مسجد بني حدرد، قال: فارتفعت أصواتنا، فسمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصواتنا، فقال لي: يا كعب، أحسن إلى أسيرك، خذ الشطر، ودع الشطر» فأقره على ملازمته، وهذا محمول على أن من عليه الدين كان له مال، فكتمه، وأما إذا لم يكن لمن عليه الدين مال ظاهر، وقال: أنا معسر، وكذبه الغريم.. نظرت:
فإن حصل عليه الدين بمعاوضة، مثل بيع، أو سلم، أو قرض، أو ثبت عليه الدين عن جناية، أو مهر، لكن قد عرف له قبل ذلك مال.. لم تقبل دعواه أنه معسر؛ لأنه قد ثبت ملكه للمال، والأصل بقاؤه، فلا يقبل قوله في الإعسار، بل يحبسه الحاكم. فإن قال: غريمي يعلم أني معسر، أو أن مالي هلك، فإن صدقه الغريم على ذلك.. خلي من الحبس، وإن كذبه.. حلف الغريم: أنه ما يعلم أنه معسر، أو أنه ما يعلم أن ماله هلك، وحبس من عليه الدين، فإن أراد أن يقيم البينة على تلف ماله.. قبلت شهادة عدلين، سواء كانا من أهل الخبرة بباطنه أو لم يكونا؛

(6/136)


لأن كل أحد يدرك التلف، فإن طلب الغريم يمينه مع ذلك.. لم يحلف؛ لأن في ذلك تكذيبا للشهود. وإن أراد أن يقيم البينة على الإعسار.. لم يقبل إذا لم يكونا من أهل الخبرة الباطنة بحاله؛ لأن ملكه على المال قد ثبت، فلا يقبل على الإعسار شهادة من لم يكن من أهل الخبرة الباطنة بحاله، وإن كانت البينة من أهل الخبرة الباطنة بأمره.. سمعت.
وقال مالك رحمة الله عليه: (لا تسمع؛ لأنها شهادة على النفي، فلم تقبل) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لقبيصة بن المخارق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: "لا تحل المسألة إلا لثلاثة: رجل تحمل بحمالة، فحلت له المسألة حتى يؤديها، ثم يمسك، ورجل أصابته فاقة وحاجة حتى شهد أو تكلم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه أن به حاجة، فحلت له المسألة حتى يصيب سدادا من عيش أو قواما» .
وما ذكروه من أنها شهادة على النفي، غير صحيح؛ لأنها وإن كانت تتضمن النفي، فهي تثبت حالا يظهر، ويقف عليها الشاهد، كما لو شهد أن لا وارث له غير هذا.

إذا ثبت هذا: فإن البينة تسمع في الحال، ويخلى.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا تسمع في الحال، ويحبس من عليه الدين شهرين) في رواية (الأصول) .
وقال الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحبس شهرا، وروي: ثلاثة أشهر، وروي: أربعة أشهر، حتى يغلب على ظن الحاكم أنه لو كان له مال لأظهره. وهذا ليس بصحيح؛ لأن كل بينة جاز سماعها بعد مدة.. جاز سماعها في الحال، كسائر البينات، وكم

(6/137)


عدد البينة التي يقبل سماعها في الإعسار؟
قال البغداديون من أصحابنا: تقبل فيه شهادة ذكرين عدلين، كشهادة التلف.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 275] : لا يقبل أقل من ثلاثة رجال، ويحلف معهم. ولعله يحتج بخبر قبيصة بن المخارق في عددهم.
فإن أقام البينة على الإعسار، فقال الغريم: له مال باطن لا تعلم به البينة، فطلب يمينه على ذلك.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يجب عليه أن يحلف، وهو قول أبي حنيفة؛ لأن فيه تكذيبا للشهود.
والثاني: يجب عليه أن يحلف، فإن لم يحلف.. حبس، ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره؛ لأنه يجوز أن يكون له مال باطن خفي على البينة، وقد يكون للأب مال لا يعلم به ابنه، وقد يكون لأحد الزوجين مال لا يعلم به الآخر.
وإن ثبت عليه الدين في غير معاوضة، مثل: أن جنى على غيره، أو أتلف عليه مالا، ولم يعلم له قبل ذلك مال، وادعى أنه معسر.. فالقول قوله مع يمينه أنه معسر؛ لأن الأصل الفقر حتى يعلم اليسار.
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لابني خالد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: لا تيأسا من رزق الله ما اهتزت رؤوسكما، فإن ابن آدم خلق أحمر ليس عليه قشر إلا قشرتاه، ثم يرزقه الله عز وجل»

(6/138)


فإذا حلف، ثم ظهر له غريم آخر.. قال الصيمري: لم يحلف له ثانيا؛ لأنه قد ثبت إعساره باليمين الأولى.
وإن كان في يده مال، فقال: هو لزيد وديعة، أو مضاربة، فإن كان المقر له غائبا.. حلف من عليه الدين، وسقطت عنه المطالبة؛ لأن الأصل العسرة، وما ذكره ممكن. وإن كان المقر له حاضرا.. رجع إليه، فإن كذبه.. قسم المال بين الغرماء، وإن صدقه.. حكم به للمقر له، فإن طلب الغريم يمين المقر له أنه صادق في إقراره.. فهل يجب إحلافه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجب إحلافه؛ لأنه لو رجع عن إقراره.. لم يقبل، فلا معنى لإحلافه.
والثاني: أنه يجب إحلافه، فإن لم يحلف.. حبس؛ لجواز أن يكون قد واطأ المقر له على ذلك.
فإن طلب الغريم يمين المقر له أن المال له. قال ابن الصباغ: فعندي: أنه يحلف؛ لأنه لو أكذب المقر. ثبت المال للغرماء، فإذا صدقه.. حلف.
إذا ثبت هذا: فكل موضع حكمنا بإعساره بالبينة أو بيمينه.. فإنه لا يحبس، وكل موضع لم نحكم بإعساره.. وجب حبسه، ولا غاية للحبس عندنا، بل يحبس حتى يكشف عنه ثلاثا أو أربعا، فمتى ثبت إعساره.. خلي، ولا تغفل المسألة عنه.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية (الأصول) : (يحبس أربعة أشهر) . وقال في موضع: (ثلاثة أشهر) . وقال في موضع: (أربعين يوما) . وقال في موضع: (يحبس شهرا) .
قال أصحابه: ليس هذا على سبيل التحديد، وإنما هو على قدر حال المفلس، فإن كان ممن لا يعلم بحاله إلا بحبس أربعة أشهر.. حبس قدر ذلك، وكذلك إذا كان لا يعلم بحاله إلا بحبس ثلاثة أشهر.. حبس قدر ذلك.
دليلنا: أنه لا سبيل إلى العلم بحاله من طريق القطع، وإنما يعلم بحاله من طريق الظاهر، وذلك يعلم بحبس ثلاثة أيام أو أربعة وما أشبه ذلك.

(6/139)


وإذا حبسه الغريم. فليس له منعه في الحبس من النوم والأكل، وفي نفقته في الحبس وجهان، حكاهما الصيمري في " الإيضاح ":
[أحدهما]- وهو المذهب -: أنها في مال نفسه.
والثاني: أنها على الغريم، فإن كان المحبوس ذا صنعة.. فقد قال الصيمري: قد قيل: يمكن منها؛ لأنه يقضي بما يحصل منها دينه. وقيل: يمنع منها إذا علم أن ذلك يراخي أمره، ولا معصية عليه بترك الجمعة والجماعة إن كان معسرا.
قال الصيمري: وقيل: يلزمه استئذان الغريم عند ذلك حتى يمنعه، فيسقط عنه الحضور.

[فرع: حاجة السجين إلى من يخدمه]
فإن مرض في الحبس، ولم يجد من يخدمه في الحبس.. أخرج. وإن وجد من يخدمه في الحبس.. فهل يجب إخراجه؟ فيه وجهان، حكاهما الصيدلاني. وإن جن في الحبس.. أخرج. وإذا حبس بقول جماعة من الغرماء.. لم يكن لواحد منهم أن يخرجه حتى يجتمعوا على إخراجه. وإن حبس بطلب غريم، ثم حضر غريم آخر، فطلب أن يخرج ليدعي عليه.. أحضر، فإذا ثبت له عليه حق، وطلب أن يحبس له.. حبس، ولا يجوز إخراجه إلا باجتماعهما. وإن ثبت إعساره.. أخرجه الحاكم من غير إذن الغريم.
قال الصيدلاني: وإذا لم يكن للمفلس مال.. فهل له أن يحلف: أنه لا حق عليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: له أن يحلف، وينوي أن ليس عليه اليوم حق يلزمه الخروج إليه منه.
والثاني: ليس له أن يحلف؛ لأن الحاكم إذا كان عادلا.. لا يحبسه إلا بعد الكشف عن حاله.

(6/140)


[مسألة: ثبوت الديون مجلبة للحجر]
] : وإذا ثبتت الديون على رجل إما بالبينة، أو باعترافه، أو بأيمان المدعين عند نكوله، وسأل الغرماء الحاكم أن يحجر عليه.. نظر الحاكم في ماله:
فإن كان يفي بما عليه من الدين.. لم يحجر عليه، بل يأمره بقضاء الدين، فإن امتنع.. باع عليه الحاكم ماله، وقضى أصحاب الديون، خلافا لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقد مضت هذه المسألة، وهل تقوم الأعيان التي عليه أثمانها؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: لا يقومها؛ لأن لأربابها الرجوع فيها، فلا تحتسب أثمانها عليه، فلم يقومها عليه مع ماله.
والثاني: يقومها؛ لأن أصحابها بالخيار: بين أن يرجعوا فيها، وبين أن لا يرجعوا فيها، ويطالبوه بالثمن.
وإن قوم ماله، فوجدوه لا يفي بديونه.. لم يحجر الحاكم عليه قبل سؤال الغرماء ذلك؛ لأنه لا ولاية له عليه في ذلك. وإن سأل الغرماء أو بعضهم الحاكم الحجر عليه بعد ذلك.. حجر عليه، وباع عليه ماله، وبه قال مالك رحمة الله عليه، ومحمد، وأبو يوسف رحمهما الله.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا يحجر عليه، ولا يبيع عليه ماله، بل يحبسه حتى يقضي ما عليه) .
دليلنا: ما وري: «أن معاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ركبه الدين على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكلم غرماؤه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فحجر عليه، وباع عليه ماله حتى قام معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بغير شيء) .

(6/141)


وفي رواية: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلع ماله لهم» يعني: لغرمائه، وهذا يحتمل تأويلين:
أحدهما: أن ماله لم يف بالدين، فحجر عليه، فيكون معنى قوله: (خلع) أي: حجر عليه.
والثاني: أن معنى قوله: (خلع ماله لهم) أي: باع ماله لهم.
وروى أبو سعيد الخدري: «أن رجلا أصيب في ثمار ابتاعها، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تصدقوا عليه". فلم يف بما عليه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خذوا ماله، ليس لكم إلا ذلك» ولم يرد بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " خذوا ماله " أي: انتهبوا ماله، وإنما أراد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خذوه بالحصص.
وأبو حنيفة يقول: (ليس لهم أن يأخذوه إلا أن يعطيهم إياه) . وهذا يخالف الخبر.
وإن كان له مال يفي بدينه، إلا أن أمارات الفلس ظهرت به، بأن كان ماله بإزاء دينه، ولا وجه لنفقته إلا مما بيده، أو كان له وجه كسب إلا أن قدر النفقة أكثر مما يحصل له بالكسب.. فهل للحاكم أن يحجر عليه إذا سأله الغرماء ذلك؟ حكى الشيخ أبو إسحاق في ذلك قولين، وحكاهما الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ وجهين:
أحدهما: لا يجوز الحجر عليه، بل يأمره الحاكم بقضاء الدين على ما بيناه؛ لأن الحجر إنما يكون على المفلس، وهذا ليس بمفلس.

(6/142)


والثاني: يحجر عليه؛ لأن الظاهر من حاله أن ماله يعجز عن ديونه، والحجر يجوز بالظاهر، ألا ترى أن السفيه يجوز الحجر عليه؛ لأن الظاهر منه التبذير وإن كان يجوز ألا يبذر؟

[مسألة: الإشهاد على الحجر]
وإذا حجر الحاكم عليه.. فالمستحب: أن يشهد على الحجر، ويأمر مناديا فينادي في البلد: ألا إن الحاكم قد حجر على فلان بن فلان؛ لأنه إذا لم يفعل ذلك.. اغتر الناس به، فيعاملونه، فيؤدي إلى الإضرار بهم، فإذا عاملوه بعد علمهم بالحجر.. فقد دخلوا على بصيرة، ولأن هذا الحاكم ربما مات أو عزل، فولي غيره، فإذا أشهد الأول على الحجر.. أمضاه الثاني، ولا يحتاج إلى ابتداء حجر عليه.

[فرع: الحجر للإفلاس يعلق الديون بماله]
وإذا حجر الحاكم على المفلس.. تعلقت ديون الغرماء بماله، ومنع من التصرف بماله.
وقال أبو حنيفة: (لا تتعلق الديون بماله، ولا يمنع من التصرف بماله، بل يحبسه الحاكم حتى يقضي ما عليه من الدين) .
دليلنا: ما روي: «أن معاذ بن جبل ركبته الديون على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غرماؤه، فلم يزد على أن خلع ماله لهم» وأقل ما يقتضي الخلع: أنه منعه من التصرف بماله.
وروى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن رجلا أصيب بثمار ابتاعها، فلم يف ماله بدينه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خذوا ماله، ليس لكم إلا ذلك» وفي إذنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهم بأخذ ماله.. منع من التصرف فيه.
وإذا تصرف المفلس بعد الحجر.. نظرت:
فإن تصرف في ذمته، بأن اقترض، أو اشترى شيئا بثمن في ذمته، أو أسلم إليه في

(6/143)


شيء.. صح ذلك؛ لأن الحجر عليه في أعيان ماله، فأما ذمته.. فلا حجر عليه بها لأنه لا ضرر على الغرماء فيما يثبت عليه بذمته.. ومن باعه شيئا أو أقرضه بعد الحجر.. لم يشارك الغرماء بماله؛ لأنه إن علم بالحجر.. فقد دخل على بصيرة. وإن لم يعلم به.. فقد فرط في ترك السؤال عنه، وهل تقسم الأعيان التي اشتراها بثمن في ذمته بعد الحجر بين الغرماء الأولين، أو يكون بائعوها أحق بها؟ فيه وجهان، يأتي ذكرهما في موضعهما.
وإن تصرف المفلس بشيء من أعيان ماله بأن باع، أو وهب، أو أقرض، أو أعتق.. فهل يصح تصرفه بها؟ فيه قولان:
أحدهما: أن تصرفه موقوف، فإن كان فيما بقي من ماله وفاء بدينه.. نفذ تصرفه، وإن لم يكن فيه وفاء بدينه.. لم ينفذ تصرفه، وهو أضعف القولين؛ لأن من صح ابتياعه في ذمته.. صح بيعه لأعيان ماله، كغير المفلس؛ ولأنه حجر عليه لحق الغير، فكان تصرفه صحيحا موقوفا، كالحجر على المريض، وفيه احتراز من تصرف المحجور عليه للسفه.
والقول الثاني: أن تصرفه باطل، وهو قول ابن أبي ليلي، والثوري، ومالك رحمة الله عليهم، واختيار المزني، وهو الصحيح؛ لأنه حجر ثبت بالحاكم، فلم يصح تصرفه فيه، كالسفيه، ولأن كل ما تعلق بماله حق الغير.. وجب أن يكون ممنوعا من التصرف فيه، كالرهن لا يصح تصرف الراهن به.
فإذا قلنا: إن تصرفه باطل في أعيان ماله.. رد جميع ما باع أو وهب أو أعتق، وقسم ماله بين الغرماء، فإن وفي ماله بدينه، بأن زادت قيمته، أو أبرئ من بعض دينه، وفضل ما كان تصرف فيه عن الدين.. لم يحكم بصحة تصرفه الأول؛ لأنه وقع باطلا.
فعلى هذا القول: إن باع عينا من أعيان ماله من غريمه بدينه الذي له عليه.. فهل يصح؟ فيه وجهان، حكاهما في " العدة ":

(6/144)


[أحدهما] : قال صاحب " التلخيص ": يصح؛ لأن الحجر عليه للدين، فبيعه بذلك الدين يوجب سقوطه.
والثاني: لا يصح، وهو قول الشيخ أبي زيد؛ لأن الحجر على المفلس ليس مقصورا على هذا الغريم؛ لأنه ربما ظهر له غريم آخر.
وإن قلنا: إن تصرفه صحيح موقوف.. قسم ماله بين غرمائه، فإن وفى ماله بدينه غير الذي تصرف فيه.. نفذ تصرفه. وإن لم يف ماله إلا بنقض جميع ما تصرف فيه.. نقض جميع ما تصرف فيه. وإن لم يف ماله بدينه، إلا ببعض الأعيان التي تصرف فيها.. نقض منها شيء بعد شيء. وما الذي ينقض أولا؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد، وعامة أصحابنا: ينقض الأضعف، فالأضعف وإن كان متقدما في التصرف.
فعلي هذا: تنقض الهبة أولا؛ لأنها أضعف؛ لأنه لا عوض فيها، ثم البيع بعدها؛ لأنه يلحقه الفسخ.
قال ابن الصباغ: ثم العتق، ثم الوقف.
والذي يقتضي القياس عندي على هذا: أن الوقف ينقض أولا قبل العتق؛ لأن العتق من الوقف، بدليل: أنه يسري إلى ملك الغير، والوقف لا يسري إلى ملك الغير.
والوجه الثاني: وهو قول صاحب " المهذب ": أنه ينقض من تصرفه الآخر، فالآخر، عتقا كان أو غيره، كما قلنا في تبرعات المريض المنجزة إذا عجز عنها الثلث.. فإنه ينقض الآخر فالآخر.

[مسألة: إفلاس أحد المتبايعين بالخيار]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو تبايعا بالخيار ثلاثا، ففلسا أو أحدهما.. فلكل واحد منهما إجازة البيع، ورده دون الغرماء؛ لأنه ليس بمستحدث) . وهذا كما

(6/145)


قال: إذا تبايع رجلان، وبينهما خيار الثلاث، أو خيار المجلس، ثم حجر عليهما، أو على أحدهما بالإفلاس قبل انقضاء الخيار.
ومعنى قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ففلسا) أي: حجر عليهما، وحكم عليهما بالإفلاس. وقد اختلف أصحابنا في هذه المسألة على طرق:
فمنهم من حملها على ظاهرها، وقال: لكل واحد منهما أن يفسخ البيع، وله أن يجيز، سواء كان الحظ فيما فعله من ذلك، أو في غيره؛ لأن الحجر إنما يمنع تصرفه في المستقبل لا فيما مضى، ولأن المفلس لا يجبر على الاكتساب، فلو قلنا: يلزمه أن يفعل ما فيه الحظ.. لألزمناه الاكتساب.
وقال أبو إسحاق: إن كان الحظ في الفسخ.. لزمه أن يفسخ، وإن أجاز.. لم تصح إجازته، وإن كان الحظ في الإجازة.. لزمه أن يجيز، وإن فسخ.. لم يصح الفسخ؛ لأن الحجر يقتضي طلب الحظ، فلم يفعل إلا ما فيه الحظ، كما لو باع بشرط الخيار، ثم جن، فإن الولي لا يفعل إلا ما فيه الحظ. وتأول كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على هذا.
ومنهم من قال: يبنى ذلك على وقت انتقال الملك إلى المشتري، وتصورها في البائع إذا باع بشرط الخيار، وأفلس البائع، فإن قلنا: إن الملك انتقل إلى المشتري بنفس العقد.. فللبائع أن يجيز البيع وإن كان الحظ في الفسخ، وله أن يفسخ وإن كان الحظ في الإجازة.
وإن قلنا: إن البيع لا ينتقل إلا بشرطين، أو قلنا: إنه موقوف.. فليس له أن يفعل إلا ما فيه الحظ على القولين.
قال ابن الصباغ: والطريقة الأولى أسد عند أصحابنا؛ لأن التصرف من المحجور عليه لا تنفذ، سواء كان فيه الحظ، أو لم يكن.
وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " طريقة رابعة، وقال: الصحيح عندي: أنه لا يملك فسخ العقد، ولا إجازته بعد الحجر عليه بكل حال؛ لأن عندنا ينقطع تصرفه بالحجر عليه، بدلالة أنه إذا باع شيئا، ثم حجر عليه قبل قبض الثمن.. لم يكن له

(6/146)


قبضه، اللهم إلا أن يكون الإمام أمر من يقوم بأمره، وينظر في مصالحه، فرأى الحظ له في الفسخ، فإنه يفعل.

[مسألة: هبة المحجور عليه بثواب]
وإن وهب لغيره قبل الحجر هبة تقتضي الثواب، ثم حجر على الواهب، وقلنا: إن الثواب مقدر بما يرضى به الواهب.. فله أن يرضى بالقليل والكثير؛ لأنا لو ألزمناه طلب الفضل.. لألزمناه الاكتساب، وذلك لا يلزمه.

[مسألة: تعلق الدين المقر به في ذمة المحجور عليه]
وإذا أقر المحجور عليه بدين لزمه قبل الحجر، وصادقه المقر له، وكذبه الغرماء.. تعلق الدين بذمته، قولا واحدا، وهل يقبل إقراراه في حق الغرماء ليشاركهم المقر له؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه لا يقبل في حقهم، ولا يشاركهم؛ لأنه مال تعلق به حق الغير، فلم يقبل إقرار من عليه الحق في ذلك المال، كالراهن إذا أقر بدين لم يبطل به حق المرتهن، ولأنه لا يؤمن أن يواطئ المفلس من يقر له بالدين ليشارك الغرماء، ثم يسلمه إلى المفلس.
والقول الثاني: أن إقراره مقبول في حق الغرماء، فيشاركهم المقر له، وهو الصحيح؛ لأنه حق يثبت بسبب منسوب إلى ما قبل الحجر، فوجب أن يشارك صاحب الحق بحقه الغرماء، كما لو ثبت حقه بالبينة، ولأن المريض لو أقر لرجل بدين لزمه في حال الصحة. لشارك من أقر له في حال المرض، فكذلك هذا المفلس لو أقر بدين قبل الحجر ليشارك الغرماء. وكذلك: إذا أقر بدين بعد الحجر، وإضافة إلى ما قبل الحجر، يكون كما لو أقر به قبل الحجر.
وإن كان في يد المفلس عين، وقال: هذه العين عارية عندي لفلان، أو غصبتها منه، أو أودعنيها.. فهل يقبل إقراراه في حق الغرماء؟ على القولين:

(6/147)


أحدهما: لا يقبل، فإن لم يف مال المفلس بدينه إلا ببيع تلك العين.. بيعت، وفرق ثمنها على الغرماء، وكان دينا على المفلس.
والقول الثاني - وهو الصحيح -: أنه يقبل إقراره فيها على الغرماء، وتسلم العين إلى المقر له.
قال الشيخ أبو حامد: وقد شنع الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على القول الأول، وقال: (من قال بهذا، أدى إلى أن القصار إذا أفلس، وعنده ثياب لقوم، فأقر أن هذا الثوب لفلان، وهذا لفلان.. فلا يقبل منه، وكذلك الصباغ والصائغ إذا أفلس، فأقر بمتاع لأقوام بأعيانهم.. أن لا يقبل، وهذا لا سبيل إليه، وكذلك لو قال: عندي عبد آبق، ولم يقبل قوله، فبيع العبد.. رجع بعهدته على المفلس، فيكون قد رجع عليه بعهدة عبد أقر أنه آبق، وباعه بهذا الشرط، وهذا لا سبيل إليه؛ لأنه إبطال لأصول الشرع، فلذلك قلنا: يقبل إقراره) .

[فرع: جحود المفلس دينا في ذمته]
وإن ادعى رجل على المفلس بدين في ذمته، أو عين في يده، فجحده، فإن أقام المدعي بينة.. شارك الغرماء بالدين، وأخذ العين، وإن لم يقم البينة.. فالقول قول المفلس مع يمينه، فإن حلف له.. انصرف المدعي، وإن نكل المفلس عن اليمين، فحلف المدعي.. فهل يشارك الغرماء في الدين، ويأخذ العين؟ فيه طريقان:
[أحدهما] : قال الشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق: إن قلنا: إن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كالبينة.. شارك الغرماء بالدين، وأخذ العين. وإن قلنا: إنه كالإقرار.. كان على القولين الأولين في إقرار المفلس.
[الثاني] : قال ابن الصباغ: يشارك الغرماء، قولا واحدا، كما لو ثبت ذلك بالبينة.

(6/148)


[مسألة: جناية المحجور عليه]
وإن جنى المحجور عليه على غيره، أو أتلف عليه مالا.. شارك المجني عليه والمتلف عليه الغرماء؛ لأن ذلك ثبت بغير رضا من له الحق. وإن كان له عبد، فجنى على غيره.. قدم حق المجني عليه في رقبة العبد على سائر الغرماء؛ لأن حقه يختص بعين هذا العبد، فقدم على غيره، كما قلنا في الرهن.
وإن جني على المفلس جناية خطأ.. تعلق حق الغرماء بالأرش؛ لأن الأرش مال له، فتعلق به حق الغرماء، كسائر أمواله. وإن جني عليه جناية عمد توجب القصاص.. فالمفلس بالخيار: بين أن يقتص، وبين أن يعفو، وليس للغرماء أن يطالبوه بالعفو على مال؛ لأن ذلك اكتساب للمال، وذلك لا يلزمه، ولأنا لو ألزمناه ذلك.. لصار ذلك ذريعة إلى الجناية عليه ثانيا وثالثا، فلم يلزمه. فإن عفا على مال.. تعلق به حق الغرماء، وإن عفا مطلقا فإن قلنا إن موجب العمد القود لا غير.. لم يجب المال، وإن قلنا: إن موجبه أحد الأمرين.. ثبت المال، وتعلق به حق الغرماء، وإن عفا على غير مال، فإن قلنا: إن موجب العمد القود لا غير.. صح عفوه ولم يجب المال، وإن قلنا: إن موجبه أحد الأمرين.. فذكر في " التعليق " و " الشامل ": أن المال يثبت، وتتعلق به حقوق الغرماء، ولا يصح عفوه عنه.

[مسألة: ادعاء المفلس دينا]
وإن ادعى المفلس على غيره بدين، أو عين، وأنكره المدعى عليه، فأقام المفلس شاهدا، فإن حلف معه.. استحق ما ادعاه، وقسم على الغرماء لأنه ملك له وإن لم يحلف فهل يحلف الغرماء.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المختصر ": (لا يحلف الغرماء) . وقال: (إذا مات، وخلف ورثة وعليه دين، وله دين على آخر له به شاهد، ولم يحلف الورثة.. هل يحلف الغرماء؟ على قولين) .
فمن أصحابنا من قال: المسألتان على قولين.

(6/149)


ومنهم من قال: لا يحلف غرماء المفلس، قولا واحدا، وفي غرماء الميت قولان، والفرق بينهما: أن المفلس يرجى أن يحلف، فلم يحلف غرماؤه، والميت لا يرجى أن يحلف، فحلف غرماؤه. والصحيح: أنهما على قولين:
أحدهما: يحلفون؛ لأن حقوقهم تتعلق بما يثبت للمفلس، فكان لهم أن يحلفوا، كالورثة، ولأن الإنسان قد يحلف لإثبات المال لغيره، كما تقول في الوكيل إذا خالفه العاقد له.. فإن الوكيل يحلف، ويثبت المال للموكل، كذلك هذا مثله.
والثاني: لا يحلفون، وهو الصحيح؛ لأنهم يثبتون بأيمانه ملكا لغيرهم، لتتعلق به حقوقهم بعد ثبوته، وهذا لا يجوز، كما لا تحلف الزوجة لإثبات مال لزوجها وإن كان إذا ثبت تعلقت به نفقتها، ولا يشبه الورثة؛ لأنهم يثبتون الملك لأنفسهم بأيمانهم، وأما الوكيل: فإنما حلف؛ لأن اليمين متعلقة بالعقد، فلما كان هو العاقد توجهت اليمين عليه.
فإن ادعى المفلس على غيره بدين أو عين، ولا بينة له.. فالقول المدعى عليه مع يمينه، فإن حلف.. فلا كلام، وإن نكل المدعى عليه عن اليمين.. ردت على المفلس، فإن حلف.. ثبت له المال، وقسم على الغرماء، وإن لم يحلف المفلس.. فهل يحلف غرماؤه؟ قال ابن الصباغ: هي على قولين، كاليمين مع الشاهد، وإذا حلفوا.. فإن المال الثابت بأيمانهم يقسم بينهم على قدر ديونهم.

[فرع: الديون المؤجلة لا توجب الحجر]
وإن كان على رجل ديون مؤجلة.. فليس لغرمائه أن يسألوا الحاكم أن يحجر عليه؛ لأجل ديونهم وإن كان ماله أقل من ديونهم؛ لأنهم لا حق لهم قبل محل الأجل. وإن كان عليه ديون حاله وديون مؤجله، فرفع أصحاب الديون الحالة أمره إلى الحاكم، فنظر إلى ما عليه من الديون الحالة وإلى ما معه من المال، فوجد ماله لا يفي بالديون الحالة، فحجر عليه لمسألتهم.. فهل تحل عليه الديون المؤجلة؟ فيه قولان:

(6/150)


أحدهما: تحل، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن الديون تتعلق بالمال بالحجر، فأسقط الحجر الأجل، كالموت.
والثاني: لا تحل، وهو اختيار المزني، وهو الأصح؛ لأنه دين مؤجل على حي، فلم يحل قبل أجله، كما لو لم يحجر عليه، ويفارق الميت؛ لأن ذمته خربت، وهذا له ذمة صحيحة.

[مسألة: نفقة المحجور عليه]
وإذا حجر الحاكم على المفلس، ومنعه من التصرف في ماله.. فمن أين تكون نفقته إلى أن يبيع ماله ويقسمه على الغرماء؟ ينظر فيه: فإن كان له كسب.. كانت نفقته في كسبه. وإن لم يكن له كسب.. فإن على الحاكم أن يدفع إليه نفقته من ماله؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للرجل الذي جاءه بالدينار: أبدأ بنفسك، ثم بمن تعول»
فأمره أن يبدأ بنفسه على من يعول، ومعلوم أن فيمن يعول من تجب نفقته، وتكون دينا عليه، وهي الزوجة، فعلم أن نفقته مقدمة على الدين، ويكون طعامه على ما جرت به عادته، ويدفع إليه نفقة يوم بيوم، وآخرها اليوم الذي يقسم فيه الحاكم ماله، فيدفع إليه نفقة ذلك اليوم؛ لأن النفقة تجب في أوله، ويترك له ما يحتاج إليه من الكسوة؛ لأنه لا بد له أن يتصرف، فلو قلنا: إنه لا يكتسب.. لامتنع الناس من معاملته، ويترك له من الكسوة ما يكفيه على ما جرت به عادته.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يكفيه قميص وسراويل، ورداء إن كان ممن يتردى، وحذاء لرجله، هذا إذا كان في الصيف، وإن كان في الشتاء.. زيد على القميص جبة

(6/151)


محشوة، وخف بدل النعل. وإن كان ممن عادته أن يتطيلس.. دفع إليه الطيلسان، وأما جنس ثيابه: فمعتبر بحاله، فإن كان ممن عادته لبس السرب والدبيقي.. ترك له ذلك. وإن كانت عادته أن يلبس من غليظ القطن أو الكتان.. لم يزد على ذلك، وإن كان ممن يلبس المتوسط من الثياب.. ترك له ذلك) .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإذا كان له ثياب غوال.. بيعت) .
قال أصحابنا: أراد: إذا كان من عوام الناس، وله ثياب غالية جرت العادة أن يلبسها ذوو الأقدار، ونبل التجار.. بيعت، ويشترى له ثياب جرت العادة أن يلبسها مثله في العادة، ويصرف الباقي من ثمنها إلى الغرماء.

[فرع: يترك للمحجور عليه نفقة عياله]
وإن كان للمفلس من تلزمه نفقته، كالزوجة والوالدين والمولودين.. ترك لهم ما يحتاجون إليه من نفقة وكسوة، كما قلنا في المفلس؛ لأنهم يجرون مجرى نفسه؛ لأن الأقارب يعتقون عليه إذا ملكهم، كما يعتق نفسه إذا ملكها، ونفقة الزوجة آكد من نفقة الأقارب؛ لأنها تجب بحكم المعاوضة.

(6/152)


[فرع: مؤنة تجهيز المحجور عليه]
] : وإن مات المفلس.. كانت مؤنة تجهيزة وكفنه من ماله؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدمت إليه جنازة ليصلي عليها، فقال: (هل على صاحبكم من دين؟ "، فقالوا: نعم. فقال: صلوا على صاحبكم»
ولا محالة أنه كان قد كفن، فعلم أن الكفن مقدم على حقوق الغرماء؛ لأنه لم يتعرض له. وإن مات له من تلزمه نفقته، فإن كانت له زوجة.. فهل يجب كفنها ومؤنة تجهيزها عليه، أو في مالها؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما في (الجنائز) .
وإن كان من الوالدين أو المولودين.. وجب مؤنة تجهيزه وكفنه على المفلس، ويقدم ذلك على الغرماء، كما قلنا في المفلس نفسه. وكم القدر الذي يجب في الكفن في حق المفلس وقرابته؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها الشيخ أبو حامد:
أحدها: ثوب واحد.
والثاني: ما جرت به العادة في الكفن، من ثوب أو ثوبين أو ثلاثة.
و [الثالث] : قال أبو إسحاق: ما يستر العورة لا غير.

[فرع: يباع دار وخادم المحجور عليه]
وإن كان للمفلس دار يسكنها، أو خادم يخدمه.. بيعا عليه، وصرف ثمنهما إلى غرمائه؛ لأنه يمكنه أن يكتري دارا يسكنها، وخادما يخدمه، وقد جرت العادة أن الناس يكترون الدور والخدم، بخلاف الثياب، فإن العادة لم تجر باكترائها، ولأن أكثر ما فيه إذا بيع داره أو خادمه، أنه بيع من ماله ما هو من تمام كفايته، وهذا لا يمتنع، ألا ترى أنه لو كان له عقار يأتيه منها كفايته.. فإنها تباع بالدين وإن كانت من تمام كفايته؟

(6/153)


[مسألة: حضور الخصمين عند إرادة الحاكم بيع مال المفلس]
وإذا أراد الحاكم بيع مال المفلس أو الرهن.. فالمستحب: أن يحضر المفلس والراهن؛ لأنه أعرف بقيمة أمواله وأثمانها التي اشتراها بها، ولأنه إذا حضر.. احتاط أكثر مما يحتاط غيره، ويستحب أن يحضر الغرماء؛ لأنه ربما كان فيهم من يبتاع شيئا من مال المفلس، فيكثر المبتاعون، فيكون أوفر للثمن، ولأنه ربما وقع غبن في بيع شيء يسهو الحاكم عنه، فاستدركه. فإن باع الحاكم ماله بغير حضور المفلس والغرماء.. صح البيع؛ لأن المفلس لا تصرف له، والغرماء لا ملك لهم.

[فرع: يطلب الدلال لعرض السلع]
وإذا أراد الحاكم بيع مال المفلس.. فلا بد من دلال، وهو: من ينادي على المتاع فيمن يزيد. ويستحب أن يقول الحاكم للمفلس والغرماء: ارتضوا برجل ينادي على بيع المتاع؛ لأنهم أعرف بمن يصلح لذلك الأمر، ولأن في ذلك تطييبا لأنفسهم. فإن لم يستأذنهم الحاكم في ذلك، ونصب مناديا من قبله.. جاز؛ لأن المفلس قد انقطع تصرفه، والغرماء لا ملك لهم.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يقبل إلا ثقة) . وفي بعض نسخ المزني: (ولا يقبل إلا من ثقة) . فمن نقل: (ولا يقبل إلا ثقة) فمعناه: إذا نصب المفلس والغرماء من ينادي على ثمن المتاع.. لم يقبله الحاكم إلا أن يكون ثقة. والفرق بين هذا وبين الرهن: إذا اتفق المتراهنان على وضع الرهن على يد من ليس بثقة.. لم يعترض الحاكم عليهما؛ لأن الحق في الرهن للمتراهنين لا يتعداهما، وهاهنا النظر للحاكم؛ لأنه ربما ظهر غريم آخر.
وأما من نقل: (ولا يقبل إلا من ثقة) فمعناه: إذا نودي على مال المفلس فزاد

(6/154)


في ثمنه إنسان، فإنه لا تقبل الزيادة إلا من ثقة؛ مخافة أن يزيد، فيتركها، فيفسدها، فإن تطوع الدلال بالنداء من غير أجره.. لم يستأجر الحاكم من ينادي؛ لأنه لا حاجة به إلى ذلك، فإن لم يوجد من يتطوع بذلك.. استؤجر بأقل ما يوجد، فإن كان في بيت المال فضل أعطي الأجير الأجرة منه؛ لأن في ذلك مصلحة، فهو كأجرة الكيال والوزان في الأسواق. وإن لم يكن في بيت المال فضل.. استؤجر من مال المفلس لذلك؛ لأن العمل له.
قال أبو علي في " الإفصاح ": وأما أجرة النقاد: فعلى الغريم، لا على المفلس، فإن اختار المفلس رجلا ينادي على المتاع، واختار الغرماء غيره.. نظر الحاكم فيهما: فإن كان أحدهما ثقة دون الآخر.. أقر الثقة منهما، وإن كانا ثقتين، فإن كان أحدهما متطوعا دون الآخر.. أقر المتطوع دون الآخر؛ لأنه أوفر عليهم، فإن كانا متطوعين.. ضم أحدهما إلى الآخر؛ لأن ذلك أحوط، وإن كانا غير متطوعين.. اختار أوثقهما وأعرفهما.

[فرع: تباع كل سلعة في محالها]
ويباع كل شيء من الأمتعة في سوقه، فتباع الكتب في سوق الوراقين، ويباع البز في سوق البزازين، والطعام في سوق الطعام، وما أشبه ذلك؛ لأن الشيء إنما يطلب في سوقه، فإن باع شيئا بثمن مثله الذي يباع به في سوقه، في غير سوقه.. صح البيع؛ لأن الغرض حصول ثمن مثله، ويبدأ ببيع ما يسرع إليه الفساد من مال المفلس، كاللحم الطري، والبطيخ، والهريس، وما أشبه ذلك؛ لأنه إذا لم يبع.. تلف بالفساد، أو نقصت قيمته، ثم بيع بعده الحيوان؛ لأنه معرض للتلف، ويحتاج إلى المؤنة في بقائه، ثم يبيع بعده سائر الأمتعة التي تحول وتنقل، كالثياب وغيرها؛ لأن اليد تنالها ويخاف عليها، ثم يبيع بعد ذلك العقار، لأنه لا يخاف عليه الهلاك.

(6/155)


وجميع أمواله تباع في حال النداء، وفيمن يزيد في سوقها في وقت قيام ذلك السوق، إلا العقار، فإنه لا ينادى عليه، وإنما يؤمر الدلال بعرضه؛ لأن العادة قد جرت إذا بيع العقار على أيدي الدلالين.. كان أعز له، وأكثر لثمنه، ويخالف السلع، فإن النداء عليها يجلب الزبون، ولأن من يشتري ذلك لا ينحصر، وأما العقار: فإن الدلالين يعرفون من يشتريه، فيعرضونه عليه، والنداء يخلفه.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن كان بقرب ذلك البلد قوم يشترون العقار في بلد المفلس.. أنفذ إليهم، وأعلمهم بذلك ليحضروا، فيشتروا، فيتوفر الثمن على المفلس) .

[فرع: يباع متاع المفلس بنقد البلد]
] : ويباع مال المفلس بنقد البلد وإن كان من غير جنس حق الغرماء؛ لأنه أوفر، فإن كان حق الغرماء من نقد البلد.. دفعه إليهم، وإن كان حقهم من غير نقد البلد، فإن كان حقهم ثبت من غير جهة السلم.. دفع إليهم عوضه إن رضوا بذلك، وإن لم يرضوا.. اشترى لهم جنس حقوقهم. وإن كان حقهم ثبت من جهة السلم.. لم يجز أخذ العوض عن ذلك، وإنما يشتري لهم حقهم.

[فرع: بيع ما رهنه المفلس]
وإن كان في مال المفلس رهن.. بدئ ببيعه؛ لأن حق المرتهن يختص بالعين، وحقوق الغرماء لا تختص بالعين، ولأنه ربما زاد ثمن الرهن على حق المرتهن، فتفرق الزيادة على سائر الغرماء، وربما نقص ثمنه عن حق المرتهن، فيضرب مع الغرماء بما بقي له، فاحتيج إلى تقديم بيعه لذلك.

(6/156)


وإن كان هناك عبد جنى على غيره.. قدم بيعه أيضا؛ لأن حقه يختص بعين العبد، ولأنه ربما زاد ثمنه على قدر الأرش، فتفرق الزيادة على سائر الغرماء، ولا يجيء في هذا أن يقال: إن نقص ثمنه.. ضرب المجني عليه بما نقص مع الغرماء؛ لأنه ليس للمجني عليه أكثر من العبد الجاني.

[فرع: يدفع ثمن متاع المفلس لغريمه]
وإذا بيع شيء من مال المفلس، فإن كان دينه لواحد.. فإنه يدفع كلما باع شيئا وقبض ثمنه إلى الغريم؛ لأنه لا حاجة به إلى التأخير. وإن كان الدين لجماعة.. نظرت:
فإن بيع جميع ماله دفعة واحدة.. قبض ثمنه وفرقه على الغرماء بالحصص على قدر ديونهم.
وإن لم يمكن بيع ماله إلا شيئا بعد شيء.. نظرت فيما باع به أولا:
فإن كان ثمنه كثيرا يمكن قسمته على الغرماء.. قسم بينهم؛ لأنه لا حاجة به إلى التأخير.
وإن كان قليلا تتعذر قسمته، أو يكون القسم منه نزرا.. أخرت قسمته، فإن وجد الحاكم ثقة مليئا.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أقرضه إياه حالا) . فإذا تكامل بيع المال.. أخذه من الذي أقرضه إياه، وقسمه بين الغرماء، ويكون ذلك أولى من إيداعه؛ لأن القرض مضمون على المقترض، والوديعة أمانة يخاف تلفها. فإن لم يجد ثقة مليئا يقرضه إياه. أودعه عند ثقة.
فإن قيل: فلم قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يقرضه حالا) ، والقرض عنده لا يكون إلا حالا؟
فقال أكثر أصحابنا: وصف القرض بذلك؛ لأنه شرط، وقصد بذلك الرد على مالك رحمة الله عليه، حيث قال: (يصح القرض مؤجلا) .

(6/157)


وقال بعض أصحابنا: أراد حالا - بغير تشديد - يعني: يقرضه في الحال. وهذا ليس بشيء.
فإن قيل: فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إنه لا يجوز إقراض مال اليتيم إلا في حال الضرورة، وهو أن يكون في بحر، ومعه مال اليتيم، ويخاف عليه الغرق، أو يخاف عليه النهب أو الحريق، ولا يقرضه في غير ذلك، وإنما يودعه) ، فما الفرق بينه وبين المفلس؟
قلنا: الفرق بينهما: أن مال الصبي معد لمصلحة تظهر له من شراء عقار أو تجارة، وقرضه قد يتعذر معه المبادرة إلى ذلك، ومال المفلس معد للغرماء خاصة، فافترقا.

[فرع: طلب الحاكم إقالة البيع لمصلحة المفلس]
وإذا باع الحاكم مال المفلس، وانصرم البيع بالتفرق، وانقضى الخيار، ثم جاء رجل إلى الحاكم، وزاده في الثمن.. استحب للحاكم أن يسأل المشتري الإقالة لطلب الفضل، فإن أقاله المشتري.. باع الحاكم من المطالب بالزيادة، وإن لم يفعل المشتري.. لم يجبر على ذلك؛ لأن البيع قد لزم.

[فرع: توكيل الحاكم أمينا يبيع متاع المفلس]
وإذا نصب الحاكم أمينا لبيع مال المفلس وقبض ثمنه، فباع شيئا من مال المفلس وقبض ثمنه، ثم تلف في يده من غير تفريط.. تلف من ضمان المفلس؛ لأن العدل أمين له، وإن باع العدل شيئا من مال المفلس، وقبض ثمنه، ثم إن رجلا ادعى على

(6/158)


المشتري أن العين التي اشتراها ملكه، وأقام على ذلك بينة.. أخذها من يد المشتري، فإن كان الثمن باقيا في يد العدل.. رجع به المشتري، وإن كان المال قد تلف في يد العدل بغير تفريط.. رجع المشتري بالعهدة في مال المفلس، ووافقنا أبو حنيفة في هذا، وخالفنا في العدل - إذا تلف الرهن في يده، وفي الوكيل والوصي إذا تلف المال في أيديهم بغير تفريط -: (أن الضمان يجب عليهم) . فنقيس تلك المسائل على هذه، ونقول: لأنه باع مال الغير، فإذا تلف في يده من غير تفريط.. لم يضمن، قياسا على أمين الحاكم في مال المفلس. وهل يقدم المشتري على سائر الغرماء، أو يكون أسوتهم؟
نقل المزني: (أنه يقدم عليهم) . ونقل الربيع: (أنه يكون أسوة لهم) .
واختلف أصحابنا فيه على طريقين:
فمنهم من قال: في المسألة قولان:
أحدها: أنه يقدم عليهم؛ لأن في ذلك مصلحة لمال المفلس؛ لأن المشترين إذا علموا أنهم يقدمون في الثمن إذا كان استحق ما اشتروه.. رغبوا في الشراء، فكثر المشترون، وزادت الأثمان، وإذا علموا أنهم لا يقدمون.. تجنبوا الشراء خوفا من الاستحقاق، فتقل الأثمان.
والثاني: لا يقدم، بل يكون أسوة الغرماء؛ لأنه حق تعلق بذمة المفلس بغير اختيار من له الحق، فكان أسوة الغرماء، كما لو جنى على رجل.
ومنهم من قال: هي على حالين:
فالموضع الذي قال: (يقدم على الغرماء) أراد به: إذا لم يكن الغرماء اقتسموا المال.
والموضع الذي قال: (يكون أسوتهم) أراد به: إذا كان بعد القسمة في حجر ثان، مثل: أن قسم المال بين الغرماء، ثم استحق شيء من أعيان ماله، ثم حجر عليه ثانيا.. فإن المشتري يكون أسوة الغرماء؛ لأن حقه ثبت في ذمته قبل الحجر، كسائر الغرماء. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد هذا التفصيل على هذا الطريق.

(6/159)


وأما صاحب " المهذب ": فقال: إن لم ينفك عنه الحجر.. قدم؛ لأن فيه مصلحة له، وإن فك عنه الحجر.. كان كسائر الغرماء. ولم يذكر الحجر الثاني.

[مسألة: وجد ماله عند المفلس على صفته]
مسألة: [من وجد ماله عند المفلس على صفته] :
وإن كان في الغرماء من باع شيئا من المفلس قبل الإفلاس، ولم يقبض الثمن، ووجد عين ماله على صفته خاليا عن حق غيره.. فالبائع بالخيار: بين أن يضرب مع الغرماء بالثمن، وبين أن يرجع في عين ماله.. وبه قال في الصحابة: عثمان، وعلي وأبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، ولا يعرف لهم مخالف في الصحابة، ومن التابعين: عروة بن الزبير، ومن الفقهاء: أحمد، وإسحاق، ومالك رحمة الله عليهم.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز للبائع أن يرجع في عين ماله) . وبه قال الحسن، والنخعي، وابن شبرمة.
دليلنا: ما «ورى عمر بن خلدة الزرقي - قاضي المدينة - قال: أتينا أبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في صاحب لنا أفلس، فقال: هذا الذي قضى به محمد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أيما رجل مات، أو أفلس.. فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه»

(6/160)


وفي رواية أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما رجل باع متاعا على رجل، ثم أفلس المبتاع، ثم وجد البائع متاعه بعينه.. فصاحب المتاع أحق به دون الغرماء» . وهذا نص في موضع الخلاف.
ولأنه نوع معاوضة يلحقه الفسخ ينتقل به حق المعاوض من عين إلى ذمة، فجاز له الرجوع إلى العين عند خراب الذمة، كالمكاتب إذا عجز عن المال.

[فرع: شراء سلعة وهو لا يجد ثمنها يكون مفلسا]
وإن اشترى رجل سلعة بثمن في ذمته، وكانت قيمة السلعة مثل الثمن أو أكثر، ولا يملك المشتري غير هذه السلعة، ولا دين عليه غير هذا الثمن.. فهل يجعل هذا المشتري مفلسا، فيكون للبائع الرجوع إلى عين ماله؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإفصاح ":
أحدهما: يكون مفلسا، فيكون البائع بالخيار: بين أن يرجع في عين ماله، وبين أن يضرب مع الغرماء بالثمن.
والثاني: لا يكون مفلسا، ولكن تباع السلعة، ويعطى منها حقه، والباقي للمشتري.

(6/161)


[فرع: ظهور علامة الإفلاس بعد البيع]
وإن كان ماله يفي بدينه، ولكن ظهرت فيه أمارات الفلس، وقلنا: يجوز الحجر عليه، فحجر عليه.. فهل يجوز لمن باع منه شيئا، ولم يقبض ثمنه، ووجد عين ماله أن يرجع إلى عين ماله؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: له أن يرجع إلى عين ماله؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما رجل باع متاعا على رجل، ثم أفلس المبتاع، فوجد البائع ماله بعينه.. فهو أحق به من سائر الغرماء» .
وهذا قد أفلس، ولأنه محجر عليه لحق الغرماء، فجاز لمن وجد عين ماله الرجوع إليه، كما لو كان ماله أقل من دينه.
والثاني: ليس له الرجوع إلى عين ماله؛ لأنه إنما جعل للبائع الرجوع إلى عين ماله في المواضع التي لا يتمكنون من الوصول إلى كمال حقوقهم، وهذا يتمكن من أخذ جميع ماله، فلم يكن له الرجوع إلى عين ماله.

[فرع: يفسخ البيع للمفلس من غير إذن الحاكم]
وهل يصح فسخ البائع من غير إذن الحاكم؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: لا يصح إلا بإذن الحاكم؛ لأنه فسخ مختلف فيه، فلم يصح إلا بالحاكم، كفسخ النكاح بالإعسار بالنفقة.
والثاني: يصح بغير إذن الحاكم؛ لأنه فسخ ثبت بنص السنة، فهو كفسخ نكاح المعتقة تحت عبد. فإن حكم حاكم بالمنع من الفسخ.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح حكمه؛ لأنه مختلف فيه.
والثاني: لا يصح؛ لأنه حكم مخالف لنص السنة.
وهل يشترط أن يكون الفسخ على الفور، أو يجوز على التراخي؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز على التراخي؛ لأنه خيار لا يسقط إلى بدل، فجاز على التراخي، كرجوع الأب فيما وهب لابنه، وفيه احتراز من الرد بالعيب؛ لأنه قد سقط إلى بدل، وهو الأرش.

(6/162)


والثاني: يشترط أن يكون على الفور؛ لأنه خيار لنقص في العوض، فكان على الفور، كالرد بالعيب، وفيه احتراز من رجوع الأب في هبته لابنه.

[فرع: رهن المبيع بيد المفلس]
وإذا رهن البائع المبيع في يد المفلس عند ثبوت الرجوع له.. فهل يجعل رهنه فسخا للبيع؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ في الرهن.
وإن وطئ البائع الجارية المبيعة.. فهل يجعل وطؤه فسخا للبيع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يكون فسخا، كما لو باع جارية، ثم وطئها في مدة الخيار.
والثاني: لا يكون فسخا؛ لأن الملك مستقر للمشتري، فلا يجوز رفعه إلا بالقول.

[فرع: لا يجبر البائع على ترك العين]
] : وإذا بذل الغرماء للبائع جميع ثمنه على أن لا يرجع بالعين المبيعة.. لم يجبر على ذلك، وجاز له الرجوع إلى عين ماله.
وقال مالك: (لا يجوز له الرجوع إلى عين ماله) .
دليلنا: الخبر، ولم يفرق، ولأنه تبرع بالحق غير من عليه الحق، فلم يلزم من ثبت له الفسخ إسقاط حقه من الفسخ، كالزوج إذا أعسر بالنفقة، فجاء أجنبي، فبذل لها النفقة لتترك الفسخ.. فإنه لا يلزمها ذلك.

[مسألة: شراء المفلس وقت الحجر]
وإن باعه بعد الإفلاس، وهو إذا اشترى عينا بعد أن حجر عليه بثمن في ذمته، فقد ذكرنا أن شراءه صحيح، وهل يثبت للبائع الرجوع إلى عين ماله؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يثبت له الرجوع إلى عين ماله؛ لأنه باعه مع العلم بخراب ذمته، فلم يثبت له الفسخ، كما لو اشترى سلعة معيبة مع العلم بعيبها.

(6/163)


والثاني: يثبت له الفسخ، كما لو تزوجت امرأة بفقير مع العلم بحاله.. فإن لها أن تفسخ النكاح إذا أعسر بالنفقة.

[مسألة: باع عينا لمفلس وأخذ جزء ثمنها]
وإن باع من رجل عينا بمائة، أو عينين بمائة، فقبض البائع من الثمن خمسين، والعين المبيعة باقية، أو العينان باقيتان، سواء كانت قيمتهما مختلفة أو متساوية.. فهل للبائع أن يرجع من المبيع بقدر ما بقي من الثمن؟ حكى ابن الصباغ فيه قولين:
قال في القديم: (يسقط حق البائع من الرجوع إلى العين، ويضرب مع الغرماء بالثمن) .
وحكى الشيخ أبو حامد: أن هذا مذهب مالك رحمة الله عليه، ولم يحكه عن القديم.
وقال ابن الصباغ: مذهب مالك: أن البائع إذا قبض شيئا من الثمن، والعين باقية.. كان بالخيار: بين أن يرد ما قبض من الثمن، ويرجع في العين المبيعة، وبين أن لا يرجع في العين، ويضارب مع الغرماء فيما بقي.
ووجه القول القديم: ما روى أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما رجل باع بيعا، فأفلس المشتري، فإن كان البائع لم يقبض من ثمنه شيئا.. فهو أحق به، وإن قبض من ثمنه شيئا.. فهو أسوة الغرماء» .
ولأن في رجوعه في بعض العين تبعيضا للصفقة على المشتري، وإضرارا به، فلم يكن ذلك للبائع.
وقال في الجديد: (يثبت له الرجوع بحصة ما بقي من الثمن) . وهو الصحيح؛ لأنه سبب يرجع به العاقد إلى جميع العين، فجاز أن يرجع به إلى بعضها، كالفرقة قبل الدخول، وذلك: أن الزوج يرجع تارة بجميع الصداق، وهو إذا ارتدت الزوجة، أو وجد أحدهما بالآخر عيبا، وتارة بالنصف، وهو إذا طلقها قبل الدخول.

(6/164)


وأما الخبر: فهو مرسل؛ لأن أبا بكر بن عبد الرحمن ليس بصحابي، وإن صح.. فمعنى قوله: «فهو أسوة الغرماء» : إذا رضي بذلك.
وإن باعه عبدين متساويي القيمة بمائة، فقبض البائع من الثمن خمسين، وتلف أحد العبدين، وأفلس المشتري، فإن اختار البائع أن يضرب مع الغرماء بالثمن الذي بقي له.. فلا كلام، وإن اختار الرجوع إلى عين ماله على القول الجديد.. فبكم يرجع؟ قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هاهنا: (يرجع في العبد الباقي بما بقي من الثمن) . وقال في (الصداق) : (إذا أصدقها عبدين، فتلف أحدهما، وطلقها قبل الدخول.. أنها على قولين:
أحدهما: يأخذ نصف الموجود ونصف قيمة التالف.
والثاني: أنه بالخيار: بين أن يأخذ نصف الموجود، ونصف قيمة التالف، وبين أن يترك الموجود، ويأخذ نصف قيمتهما) .
وقال في (الزكاة) : (إذا أصدقها خمسا من الإبل، فحال عليها الحول، فباعت منها بقدر شاة، وأخرجتها، ثم طلقها قبل الدخول.. كان له أن يأخذ بعيرين ونصفا، فحصل في الصداق ثلاثة أقوال:
أحدها: يأخذ نصف الصداق من الباقي - وهذا موافق لما قاله في المفلس -.
والثاني: يأخذ نصف الموجود ونصف قيمة التالف.
والثالث: أنه بالخيار: بين أن يأخذ الموجود بنصف الصداق، وبين أن يترك الموجود، ويأخذ نصف قيمتهما) .
واختلف أصحابنا في مسألة المفلس:
فمنهم من قال: في المفلس أيضا قولان:
أحدهما: يأخذ الباقي من العبدين بما بقي له من الثمن، ويكون النصف الذي أخذ حصة التالف؛ لأنه لما جاز للبائع أخذ جميع المبيع إذا وجده كله.. جاز له أخذ بعضه إذا تعذر الكل، كما قلنا في الشفيع.

(6/165)


والثاني: يأخذ نصف الموجود بنصف ما بقي له، ويضرب مع الغرماء بنصفه؛ لأنه إذا باع عبدين متساويي القيمة بمائة.. فقد باع كل واحد منهما بخمسين، فإذا قبض خمسين من مائة.. فقد قبضها من ثمنها، بدليل: أنهما لو كانا قائمين. لرجع في نصفهما، فإذا تلف أحدهما.. رجع في نصف الباقي بنصف ما بقي، وضرب مع الغرماء بحصة ما تلف من الذي لم يقبضه.
قال هذا القائل: ولا يجيء هاهنا القول الثالث في الصداق، وهو أن يترك الموجود، ويأخذ نصف قيمتهما؛ لأن ذمة الزوجة مليئة، وذمة المفلس خربة، فلا يمكن ترك الشيء كله، والرجوع إلى القيمة؛ لأنه لا يصل إليها.
ومن أصحابنا من حمل المسألتين على ظاهرهما، فقال: في الصداق ثلاثة أقوال، وفي المفلس يأخذ البائع العبد الباقي بما بقي له من الثمن، قولا واحدا، والفرق بينهما: أنا إذا قلنا في الصداق: يأخذ الزوج نصف الموجود ونصف قيمة التالف.. فلا ضرر عليه؛ لأنه يصل إلى حقه؛ لأن ذمة الزوجة مليئة، وفي المفلس لو قلنا: يأخذ البائع نصف الباقي بنصف ما بقي، ويضرب مع الغرماء بنصف ما بقي له.. لم يأمن أن لا يصل إلى كمال حقه؛ لأن ذمة المفلس خربة.

[مسألة: وجود ماله مرهونا]
وإن وجد البائع عين ماله مرهونة عند آخر.. لم يكن له أن يرجع فيها؛ لأن المشتري قد عقد على ما اشتراه عقدا منع نفسه من التصرف فيه، فلم يكن لبائعه الرجوع فيه، كما لو باعها المشتري أو وهبها.
إذا ثبت هذا: فإن حق المرتهن مقدم على حق البائع؛ لأنه أسبق، فإن كان الدين المرهون به مثل قيمة الرهن أو أكثر.. بيعت العين في حق المرتهن، ولا كلام. وإن كان الدين المرهون به أقل من قيمة الرهن بيع من الرهن بقدر دين المرتهن، وكان للبائع أن يرجع في الباقي منها؛ لأنه لا حق لأحد فيما بقي منها، وإن لم يمكن بيع بعض الرهن بحق المرتهن إلا ببيع جميع الرهن، فبيع جميع الرهن وقضي حق المرتهن من ثمن الرهن، وبقي من الثمن بعضه.. فالذي يقتضي المذهب: أن البائع لا يكون

(6/166)


أحق بالباقي من الثمن، بل يصرف ذلك إلى جميع الغرماء؛ لأن حقه يختص بالعين دون ثمنها.

[مسألة: إفلاس مشتري الشفعة]
وإذا اشترى رجل من رجل شقصا من دار أو أرض، فثبتت فيه الشفعة، فأفلس المشتري، وحجر عليه قبل أن يأخذ الشفيع.. فهل البائع أحق بالشقص، أم الشفيع؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الشفيع أحق، ويكون الثمن بين الغرماء؛ لأن حق الشفيع أسبق؛ لأن حقه ثبت بالبيع، وحق البائع ثبت بالحجر، فقدم السابق.
والثاني: أن البائع أحق بالشقص؛ لأنه إذا رجع في الشقص.. زال الضرر عنه وعن الشفيع؛ لأنه عاد كما كان قبل البيع، ولم تتجدد شركة غيره.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا مدخول؛ لأن من باع شقصا، فثبتت له فيه الشفعة، ثم استقاله البائع، فأقاله قبل أن يأخذ الشفيع.. فإن البائع عاد للشفيع شريكا كما كان، ومع ذلك له الأخذ بالشفعة.
والوجه الثالث: أن الشفيع أولى بالشقص، ويؤخذ منه الثمن، ثم يسلم إلى البائع دون سائر الغرماء؛ لأن في ذلك جمعا بين الحقين، وإزالة الضرر عنهما.

[فرع: بيع الصيد من المحرم]
وإن باعه صيدا، فأحرم البائع، وأفلس المشتري.. لم يكن للبائع أن يرجع في الصيد، كما لا يجوز أن يبتاعه.

[مسألة: الدين المؤجل لا يحل بالحجر]
] : وإن اشترى رجل أعيانا بأثمان مؤجلة، فحجر على المشتري لديون حالة عليه، وكانت الأعيان التي اشتراها بالمؤجل باقية في يده لم يتعلق بها حق غيره، فإن قلنا:

(6/167)


إن الدين المؤجل لا يحل بالحجر.. فما الحكم في الأعيان التي اشتراها بالأثمان المؤجلة؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو المنصوص، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره -: (أنها تباع، وتفرق أثمانها على أصحاب الديون الحالة) ؛ لأنها حقوق حالة، فقدمت على الديون المؤجلة، وتبقى الديون المؤجلة في ذمته إلى الأجل، فإذا أيسر.. طالبوه بها، وإلا كانت في ذمته إلى أن يوسر.
والوجه الثاني - حكاه في " المهذب " -: أنها لا تباع، بل توقف إلى أن تحل الديون المؤجلة، فيخير بائعوها بين فسخ البيع فيها، أو الترك.
قال: وإليه أشار في " الإملاء "؛ لأن بالحجر تعلقت الديون بماله، فصار المبيع كالمرهون في حقه بدين مؤجل، فلم يبع في الديون الحالة.
وأما إذا قلنا: إن الديون المؤجلة تحل بالحجر.. فما الحكم في الأعيان المشتراة بها؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها صاحب " التعليق ":
أحدها - وهو قول أبي إسحاق -: إن تلك الأعيان لا تباع في حق أصحاب الديون المعجلة، ولا تسلم إلى بائعها أيضا، بل توقف، فإذا قسم ماله.. فك عنه الحجر إلا في تلك الأعيان، فإن الحجر باق عليه فيها إلى أن يحل الأجل، فإن قضى أصحاب الديون المؤجلة حقوقهم، وإلا أخذوها.
والوجه الثاني: أن أصحاب الديون المعجلة يضربون بديونهم مع أصحاب الديون المؤجلة، فما يخص أصحاب الديون المؤجلة من المال يعزل لهم، ويفك الحجر عن المفلس، ويتصرف فيه، وفي الأعيان المبيعة بالأثمان المؤجلة.. يتصرف فيها أيضا إلى أن يحل الأجل، فإن قضاهم ديونهم، وإلا أعيد عليه الحجر.
والثالث - وهو قول الشيخ أبي حامد -: إن أصحاب الديون المؤجلة يساوون أصحاب الديون المعجلة، فمن كان له عين مال.. رجع في عين ماله، وأخذها،

(6/168)


ومن لم يكن له عين مال باقية.. ضارب الغرماء بحصته، فما خصه من المال.. أخذه، وتصرف فيه، كما لو مات وعليه ديون مؤجلة.

[مسألة: اشترى بدين وباع ثم أفلس]
وإن اشترى عينا بثمن في ذمته، فباعها من غيره، أو وهبها منه، وأقبضها، ثم أفلس المشتري.. لم يكن للبائع إلا الضرب مع الغرماء؛ لأنها خارجة عن ملك المشتري، فهو كما لو تلف. وإن رجعت إلى ملك المشتري بإرث، أو هبة، أو وصية، ثم أفلس.. فهل يرجع البائع بها؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يرجع؛ لأن هذا الملك انتقل إليه من غير البائع.
والثاني: للبائع أن يرجع فيها؛ لأنه وجد عين ماله خاليا عن حق غيره، فهو كما لو لم يخرج عن ملك المشتري.
فإذا قلنا بهذا الوجه، وكان المشتري قد اشتراها ممن هي في يده بثمن في ذمته، فأفلس الثمنين، وحجر عليه.. فأي البائعين أحق بالعين؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها المسعودي [في " الإبانة " ق \ 271] :
أحدها: البائع الأول أحق بها؛ لأن حقه أسبق.
والثاني: أن البائع الثاني أحق بها؛ لأنه أقرب.
والثالث: أنهما سواء؛ لأنهما متساويان في سبب الاستحقاق.

[مسألة: وجود المبيع أو بعضه عند المفلس]
] : هذا الذي ذكرناه إذا وجد البائع العين المبيعة بحالها لم تنقص ولم تزد، فأما إذا وجدها ناقصة: فلا يخلو: إما أن يكون نقصان جزء ينقسم عليه الثمن ويصح إفراده بالبيع، أو نقصان جزء لا ينقسم عليه الثمن ولا يصح إفراده بالبيع.

(6/169)


فإن كان نقصان جزء ينقسم عليه الثمن، بأن باعه عبدين بثمن، فقبضهما المشتري، فتلف أحدهما، وأفلس قبل أن يقبض البائع الثمن.. أو كان ثوبا فتلف بعضه أو نخلة مثمرة مؤبرة فتلفت الثمرة قبل أن يقبض البائع الثمن فالبائع بالخيار: بين أن يترك ما بقي من المبيع، ويضرب بجميع الثمن مع الغرماء، وبين أن يرجع فيما بقي من المبيع بحصته من الثمن، ويضرب مع الغرماء بحصة ما تلف من المبيع من الثمن، سواء تلف بآفة سماوية، أو بفعل المشتري، أو بفعل أجنبي، فالحكم واحد في رجوع البائع، وإنما كان كذلك؛ لأن البائع يستحق المبيع في يد المفلس بالثمن، كما يستحق المشتري المبيع في يد البائع بالثمن، ثم المشتري إذا وجد بعض المبيع في يد البائع.. كان له أن يأخذه بحصته من الثمن، فكذلك هذا مثله. فإن كان المبيع عبدين أو ثوبين، وتلف أحدهما، وأراد تقسيط الثمن عليهما.. قوم كل واحد منهما بانفراده، وقسم الثمن المسمى على قيمتهما، فما قابل التالف.. ضرب به مع الغرماء، وما قابل الباقي.. رجع في الباقي منهما بما قابله. وإن باعه نخلة عليها ثمرة مؤبرة، واشترط المشتري دخول الثمرة في البيع، ثم أتلف المشتري الثمرة، أو تلفت، وأفلس، واختار البائع الرجوع في النخلة.. فإنه يرجع فيها بحصتها من الثمن، ويضرب مع الغرماء بما يقابل الثمرة من الثمن.
وحكى المحاملي عن بعض أصحابنا: أنه يرجع في النخلة بجميع الثمن. وليس بشيء. فإذا أراد أن يرجع في النخلة بحصتها من الثمن.. قال صاحب " المهذب ": فكيفية ذلك: أن يقوم النخلة مع الثمرة، ثم يقوم النخلة من غير ثمرة، ويرجع بما بينهما من الثمن.
وأما الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ فقالا: تقوم النخلة منفردة. فإن قيل: قيمتها تسعون.. قومت الثمرة منفردة، فإن قيل: قيمتها عشرة.. علمنا أن قيمة الثمرة العشر، فيعلم أن الذي يقابل الثمرة عشر الثمن المسمى، فيضرب به مع الغرماء، ويأخذ النخلة بتسعة أعشار الثمن.

(6/170)


قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وتقوم يوم قبضها) .
قال أصحابنا: وليس هذا على إطلاقه، وإنما تقوم بأقل الأمرين من يوم العقد، أو يوم القبض؛ لأن القيمة إن كانت يوم العقد أقل.. قومت وقت العقد؛ لأن الزيادة حدثت في ملك المفلس، فلا يكون للبائع فيها حق. وإن كانت القيمة يوم القبض أقل.. قومت يوم القبض؛ لأن ما نقص في يد البائع كان مضمونا عليه، فلا يرجع البائع على المفلس بما نقص في يده.
وإن اشتري منه نخلة عليها طلع غير مؤبر.. فإن الطلع يدخل في البيع، فإن أتلف المشتري الثمرة أو تلفت في يده، وأفلس، فأختار البائع الرجوع في النخلة.. فهل يضرب مع الغرماء بحصة الثمرة من الثمن، أو يرجع في النخلة بجميع الثمن؟ فيه وجهان:
أحدهما: يضرب مع الغرماء بحصة الثمرة من الثمن؛ لأنها ثمرة يجوز إفرادها بالعقد، فرجع بحصتها من الثمن، كما لو كانت مؤبرة.
فعلى هذا: كيفية التقسيط على ما مضى في المؤبرة.
والثاني: لا يضرب بحصة الثمرة، مع الغرماء، بل يأخذ النخلة بجميع الثمن، أو يضرب به مع الغرماء؛ لأن الطلع غير المؤبر يجري مجرى جزء من أجزاء النخلة، بدليل: أنها تدخل في العقد بالإطلاق، فصارت كالسعف. ولو أفلس، وقد تلف شيء من السعف.. لم يضرب بحصتها من الثمن، فكذلك هذا مثله.
وأصل هذا: هل للطلع قبل التأبير نماء متميز، أو غير متميز؟ فيه وجهان. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد.
وإن كان النقصان مما لا ينقسم عليه الثمن، بأن كان المبيع عبدا صحيحا، فصار أعور العين أو مقطوع اليد، أو ثوبا صحيحا، فوجده البائع مخروقا، أو دارا ذهب تأليفها في يد المشتري فإن اختار البائع أن يضرب مع الغرماء بالثمن ... فلا كلام، وإن اختار أن يرجع بعين ماله..نظرت:

(6/171)


فإن لم يجب في مقابلة ما ذهب أرش، بأن ذهب ذلك بآفة سماوية، أو بفعل المشتري.. فإن البائع يرجع في المبيع ناقصا بجميع الثمن، كما قلنا فيمن أشترى عبدا، فذهبت عينه أو يده بآفة سماوية في يد البائع، فإن المشتري إذا اختار إجازة البيع.. أخذه بجميع الثمن.
وإن وجب للنقصان أرش، بأن ذهب ذلك بفعل أجنبي.. فإن البائع يرجع في العين بحصتها من الثمن، فيضرب مع الغرماء بحصة ما تلف من العين المبيعة من الثمن ويرجع المشتري على الأجنبي بالأرش، وإنما كان كذلك؛ لأن الأرش الذي يأخذه المشتري من الأجنبي بدل عن الجزء الفائت من المبيع، ولو كان ذلك الجزء موجودا.. لرجع به البائع، فإذا كان معدوما.. رجع بما قابله من الثمن.
فإن قيل: هلا قلتم: إن البائع يأخذ ذلك الأرش؟ قلنا: لا نقول ذلك؛ لأن البائع لا يستحق الأرش، وإنما يستحق ما قابل ذلك الجزء من الثمن، كما أن الأجنبي لو أتلف جميع المبيع.. لم يرجع البائع بما وجب على الجاني من القيمة، وإنما يرجع بالثمن. وبيان ما يرجع به، أن يقال: كم قيمة هذه العين قبل الجناية عليها؟ فإن قيل: مائة.. قيل: فكم قيمتها بعد الجناية عليها؟ فإن قيل: تسعون.. علمنا أن النقص عشر القيمة، فيضرب البائع مع الغرماء بعشر الثمن. فأما المفلس: فيرجع على الجاني بالأرش، فإن كان المبيع من غير الرقيق.. رجع بما نقص من قيمته بالجناية، وإن كان من الرقيق.. نظر إلى ما أتلفه منه، فإن كان مضمونا من الحر بالدية.. كان مضمونا من العبد بالقيمة، وإن كان مضمونا من الحر بالحكومة.. كان مضمونا من العبد بما نقص من القيمة، ويكون ذلك للغرماء، سواء كان أكثر مما رجع به البائع أو أقل منه.

[فرع: وجد البائع المفلس قد أجر المباع]
) وإن وجد البائع المبيع وقد أجره المشتري، ولم تنقض مدة الإجارة، واختار البائع الرجوع في العين.. كان له ذلك، واستوفى المستأجر مدة إجارته، ولا يأخذ البائع الأجرة ولا شيئا منها؛ لأن المبتاع ملك ذلك بالعقد، فصار ذلك كالعيب، وهكذا:

(6/172)


إذا كان المبيع عبدا أو جارية، فزوجها المبتاع، واختار الرجوع في عين ماله.. كان له ذلك، والنكاح بحاله، ولا شيء له من مهر الأمة. وإن دبره المبتاع، أو أوصى بعتقه، أو علق عتقه بصفة.. كان للبائع الرجوع، وانفسخت هذه التصرفات. وإن كاتبه المبتاع.. لم يكن للبائع الرجوع فيه؛ لأنه عقد لازم من جهة المشتري، فإن عجز العبد نفسه.. كان للبائع أن يرجع فيه، كما إذا رهن المبتاع العين المبيعة، ثم زال حق المرتهن عنها.

[مسألة: وجد البائع عين ماله ناميا]
) وإن وجد البائع عين ماله زائدة.. نظرت: فإن كانت الزيادة غير متميزة، كالسمن والكبر وما أشبههما، فاختار البائع الرجوع في العين.. رجع فيها مع زيادتها؛ لأنها زيادة لا تتميز، فتبعت الأصل في الرجوع بها، كالرد بالعيب.

[فرع: بيع النخل مؤبرة وغير مؤبرة]
) : فإن باعه نخلا عليها طلع مؤبر، واشترط المشتري دخول الثمرة في البيع، فأدركت الثمرة في يد المشتري وجدها وجففها، ثم أفلس، والجميع في ملكه، لم يتعلق به حق غيره.. فإن للبائع أن يرجع في النخل والثمرة وإن كان مجففا؛ لأن هذه الزيادة غير متميزة، فهي كسمن الجارية.
وإن باعة نخلا عليها طلع غير مؤبر، فأبرها المشتري، ثم أفلس.. فهل للبائع الرجوع فيها؟ قال المسعودي (في (الإبانة) ق \ 272) : فعلى قولين، بناء على أن الثمرة هل تعلم قبل التأبير؟ وفيه قولان.
قلت: ويشبه أن تكون على طريقة أصحابنا البغداديين على وجهين، بناء على أن الثمرة قبل التأبير نماء متميز، أو غير متميز، وقد مضى ذكرهما.
وإن باعه أرضا، وفيها بذر مودع فيها، واشترط دخول البذر في البيع.. فهل

(6/173)


يصح بيع البذر؟ قال الشيخ أبو حامد: فيه قولان. وغيره من أصحابنا قال: هما وجهان، وقد مضى ذلك في البيوع.
فإذا قلنا: يصح البيع في البذر، فأفلس المشتري، فإن كان قبل أن يخرج البذر عن الأرض.. رجع البائع في الأرض وفي البذر، ولا كلام، وإن أفلس بعد أن صار البذر زرعا.. فإنه يرجع في الأرض، وهل يرجع في الزرع، أو يضرب بحصة البذر من الثمن مع الغرماء؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: يرجع في الأرض وحدها، ويضرب مع الغرماء بثمن البذر؛ لأن البائع إنما يرجع بعين ماله إذا كانت باقية بحالها، وهذا الزرع خلقه الله تعالى، ولم يكن موجودا حال البيع.
والثاني: يرجع في الزرع مع الأرض، وهو المنصوص؛ لأن هذا الزرع عين البذر، وإنما حوله الله تعالى من حالة إلى حالة، فرجع به، كالودي إذا صار نخلا.
وإن اشترى منه أرضا فيها زرع أخضر، واشترط دخول الزرع في البيع.. صح البيع، قولا واحدا، فإن أفلس المشتري بعد ما استحصد الزرع، واشتد حبه، أو كان قد حصده وذراه ونقاه.. فهل للبائع أن يرجع في الأرض مع هذا الزرع؟
قال عامة أصحابنا: فيه وجهان، كالتي قبلها.
وقال الشيخ أبو حامد: إن قلنا بالمنصوص في التي قبلها.. فللبائع أن يرجع هاهنا فيهما، وإن قلنا بالوجه الثاني لبعض أصحابنا فيها.. فهاهنا وجهان:
أحدهما: لا يرجع؛ لما مضى.

(6/174)


والثاني: يرجع؛ لأنه عين ماله، وإنما تغيرت صفتها، فزادت.
قال: وهكذا لو تغير الزرع من خضرة إلى صفرة.
وإن باعة أرضا فيها نوى مدفونة، واشترط دخول النوى في البيع.. ففيه وجهان، المذهب: أنه يدخل. فإن أفلس المشتري، وقد صار النوى نخلا.. فهل يرجع البائع فيها مع النخل؟ فيه وجهان، كالبذر إذا صار زرعا.
وإن اشترى منه بيضا، فحضنه تحت دجاجة حتى صار فرخا، ثم أفلس المشتري.. فهل يرجع البائع في الفراخ؟ فيه وجهان، كالبذر إذ صار زرعا، وتعليلهما ما ذكرناه.

[فرع: الزيادة المتميزة في يد المفلس]
) : وإن كانت الزيادة متميزة، كاللبن، وولد البهيمة. رجع البائع في العين المبيعة دون الزيادة؛ لأنها زيادة متميزة، فلم تتبع الأصل في الرد، كما قلنا في الرد بالعيب. وإن كان المبيع أرضا فارغة، فزرعها المشتري، أو نخلا لا ثمرة عليها، فأثمرت في يد المشتري وأبرت، ثم أفلس المشتري، واختار البائع الرجوع في عين ماله.. فإنه يرجع في الأرض دون الزرع، وفي النخل دون الثمرة؛ لأنها زيادة متميزة حدثت في ملك المشتري، فلم يكن للبائع فيها حق.
إذا ثبت هذا: فليس للبائع أن يطالب المشتري والغرماء بحصاد الزرع، ولا بجذاذ الثمرة قبل وقتها؛ لأن المشتري زرع في أرضه، فليس بظالم، والثمرة أطلعت في ملكه، فهو كما لو باع أرضا وفيها زرع، أو نخلا وعليها طلع.. فإنه لا يجبر على قطع ذلك قبل أوانه، ولا تجب للبائع أجرة الأرض ولا النخل إلى أوان الحصاد والجذاذ، كما لا يجب ذلك للمشتري على البائع إذا اشترى أرضا وفيها زرع، أو نخلا عليها طلع، ثم ينظر في المفلس والغرماء: فإن اتفقوا على قطع الثمرة والزرع قبل أوان

(6/175)


قطعهما.. جاز؛ لأن الحق لهم، وإن اتفقوا على تركه إلى وقت الحصاد والجذاذ.. جاز، وإن دعا بعضهم إلى القطع قبل أوانه، ودعا بعضهم إلى تركه.. ففيه وجهان:
أحدهما - وبه قال عامة أصحابنا، وهو المذهب -: أنه يجاب قول من دعا إلى القطع؛ لأن الغرماء إن كانوا هم الطالبين للقطع.. أجيبوا؛ لأنهم يقولون: حقوقنا معجلة، فلا يجب علينا التأخير. وإن كان المفلس هو الطالب للقطع.. أجيب؛ لأنه يستفيد بذلك إبراء ذمته، ولأن في التبقية غررا؛ لأنه قد يتلف، فأجيب من دعا إلى القطع.
والوجه الثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أنه يفعل ما فيه الحظ من القطع، أو التبقية.
قال ابن الصباغ: وهذا لا بأس به؛ لأنه قد يكون من الثمرة والزرع ماله قيمة تافهة، أو ما لا قيمة له، والظاهر سلامته، ولهذا يجوز أن يزرع للصغير المولى عليه.

[فرع: باعه نخلا لم يطلع وأفلس]
) : وإن باعه نخلا لا ثمرة عليها، فأطلعت في يد المشتري، وأفلس قبل التأبير.. فهل للبائع أن يرجع في الثمرة مع النخل؟ فيه قولان:
أحدهما - رواه المزني -: (أنه يرجع في الثمرة مع النخل) ؛ لأنه لو باعه نخلة؛ عليها طلع غير مؤبرة.. تبعت الثمرة النخلة في البيع، فتبعتها أيضا في الفسخ، كالسمن في الجارية.
والثاني - رواه الربيع - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لا يرجع في الثمرة) ؛ لأنه يصح إفرادها بالبيع، فلم يتبع النخلة في الفسخ، كالطلع المؤبر، ويفارق البيع؛ لأنه زال ملكه عن النخلة باختياره، وهاهنا زال بغير اختياره.

(6/176)


قال أصحابنا: فكل موضع زال ملك المالك عن أصل النخلة، وعليها طلع غير مؤبر باختيار المالك، وكان زوال ملكه عنها بعوض.. فإن الثمرة تتبع الأصل، وذلك كالبيع، والصلح، والأجرة في الإجارة، والصداق، والخلع، وما أشبه ذلك. وكل موضع زال ملكه عن أصل النخلة بغير اختياره، فهل تتبع الثمرة الأصل؟ فيه قولان، وذلك مثل مسألتنا هذه في المفلس، ومثل: أن يشتري نخلة لا ثمرة عليها بثمن معين، فتطلع النخلة في يد المشتري، ثم يجد البائع في الثمن عيبا، فيرده قبل التأبير، فهل يرجع البائع في الثمرة مع النخلة؟ على قولين.
وكذلك: إذا اشترى شقصا في أرض فيها نخل، وأطلعت النخل في يد المشتري، ثم علم الشفيع قبل التأبير، فشفع.. فهل يأخذ الثمرة مع النخل؟ على هذين القولين.
وكذلك: كل موضوع زال ملكه عن الأصل إلى غيره باختياره بغير عوض، فهل يتبع الطلع الذي ليس بمؤبر الأصل؟ فيه قولان أيضا، وذلك مثل: أن يهب الرجل لغيره نخلة عليها طلع غير مؤبر.
وكذلك: إذا زال ملكه عن الأصل بغير عوض بغير اختياره أيضا، مثل: أن يهب الأب لابنه نخلة، فأطلعت في يد الابن، ورجع الأب فيها قبل التأبير، فهل تتبع الثمرة الأصل؟ فيه قولان.
إذا ثبت هذا: فإن باعه نخلة لا ثمرة عليها، فأطلعت في يد المشتري، وأفلس قبل أن تؤبر الثمرة، فرجع البائع في عين ماله:
فإن قلنا: إن الثمرة لا تتبع النخلة في الفسخ.. كانت الثمرة للمفلس، فإن اتفق المفلس والغرماء على تبقيتها إلى أوان جذاذها.. كان لهم ذلك، وليس لبائع النخلة أن يطالبهم بقطعها قبل ذلك، ولا بأجرة نخلته؛ لأنها حدثت في ملك مالكها، وإن اتفقوا على قطعها.. جاز، وإن دعا بعضهم إلى قطعها، وبعضهم إلى تبقيتها؟ ففيه وجهان:

(6/177)


(أحدهما) : قال عامة أصحابنا: يجاب من دعا إلى قطعها.
و (الثاني) : قال أبو إسحاق: يفعل ما فيه الأحوط، وقد مضى دليل الوجهين.
وإن قلنا: إن الثمرة تكون لبائع النخل، فلم يرجع البائع حتى أبرت النخل.. كانت الثمرة للمفلس والغرماء، قولا واحدا؛ لأنها قد صارت بمنزلة نماء متميز، والحكم في قطعها وتبقيتها على ما مضى.
فإن قال بائع النخل: قد كنت رجعت فيها قبل التأبير، فإن صدقه المفلس والغرماء على ذلك، أو كذبوه وأقام على ذلك بينة.. حكم له بالثمرة، وإن كذبه المفلس والغرماء ولا بينة.. فالقول قول المفلس مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الرجوع، فإذا حلف المفلس.. كانت الثمرة ملكا له، وقسمت على الغرماء، وإن نكل عن اليمين.. فهل يحلف الغرماء؟ فيه قولان، مضى ذكرهما.
فإذا قلنا: يحلفون، فحلفوا.. قسمت الثمرة بينهم، وإن نكلوا، أو قلنا: لا يحلفون.. عرضت اليمين على البائع، فإن حلف.. ثبت ملك الطلع له، وإن نكل ... قال ابن الصباغ: سقط حقه، وكانت الثمرة للمفلس، وقسمت بين الغرماء.
وإن صدق الغرماء البائع، وكذبوا المفلس.. نظرت في الغرماء:
فإن كان فيهم عدلان، فشهدا للبائع: أنه رجع قبل التأبير.. قبلت شهادتهما له، وحكم بالثمرة للبائع؛ لأنهما لا يجران إلى أنفسهما بهذه الشهادة نفعا، ولا يدفعان بها ضررا، وكذلك إن كان فيهم عدل واحد، وحلف معه البائع.. حكم له بالثمرة.
وإن كانوا فساقا، أو لم تقبل شهادتهم للبائع لسبب من الأسباب المانعة.. فالقول قول المفلس مع يمينه.
قلت: والذي يقتضيه المذهب: أنه يحلف ما يعلم أن البائع رجع فيها قبل التأبير، وكذلك الغرماء إذا حلفوا؛ لأنه يحلف على نفي فعل الغير، فإن حلف المفلس.. ملك الثمرة، فإن لم يختر دفع الثمرة إلى الغرماء، ولا بيعها لهم.. لم يجبر على

(6/178)


ذلك، ولا لهم أن يطالبوه بذلك، لأنهم يقرون أنها ملك للبائع دون المفلس، ولكن يصرف إليهم سائر أمواله، ويفك عنه الحجر، ويتصرف في الثمرة كيف شاء، وإن اختار المفلس دفع الثمرة إلى الغرماء.. فهل يجبر الغرماء على قبولها؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو المذهب، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره -: أنهم يجبرون، فيقال لهم: إما أن تقبلوها، أو تبرئوه من قدرها من دينكم، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في (المكاتب) إذا حمل إلى سيده مالا عن كتابته، فقال للسيد: هو حرام: (إنه يلزمه أن يأخذه، أو يبرئه من قدره مما له عليه) .
والثاني: لا يلزمهم ذلك، وذلك لأنهم يقرون أن المفلس لا يملك ذلك، ويفارق سيد المكاتب؛ لأنه يريد الإضرار بالعبد، ورده إلى الرق، فلم يقبل منه، ولا ضرر على المفلس في ذلك.
فإذا قلنا بالأول، وقال الغرماء: نحن لا نأخذ الثمرة، ولكنا نفك الحجر عنه، وتؤخر حقوقنا.. فهل للمفلس الامتناع؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في (الإبانة) ق \ 272] .
فإن اختار الغرماء أن يبرئوا المفلس من قدر الثمرة من الدين، فأبرؤوه من ذلك.. فلا كلام. وإن لم يختاروا أن يبرئوه، فإن كان دينهم من جنس الثمرة.. وجب عليهم أخذها، وكذلك إذا لم يكن دينهم من جنس الثمرة، واختاروا أخذ الثمرة عن دينهم، فإن كان دينهم من غير السلم.. جاز، وبرئت ذمة المفلس من ذلك، فإذا أخذوا ذلك.. لم يملكوه، ولكن يلزمهم رد ذلك إلى البائع؛ لأنهم قد أقروا أنها ملكه، وإنما لم يقبل إقرارهم لحق المفلس، فإذا زال حقه.. لزمهم حكم إقرارهم الأول، كما لو شهد رجلان على رجل: أنه أعتق عبده، فلم تقبل شهادتهما عليه، ثم انتقل العبد إليهما، أو إلى أحدهما بإرث أو بيع.. فإنه يعتق عليهما بالإقرار السابق. وإن كانت حقوقهم من غير جنس الثمرة.. فإنه لا يلزمهم قبول الثمرة بعينها، ولكن تباع الثمرة، ويدفع إليهم الثمن.
قال ابن الصباغ: ولا حق للبائع في الثمن.

(6/179)


وإن صدق بعض الغرماء البائع، وكذبه بعضهم مع المفلس، فإن كان فيمن صدق البائع عدلان، فشهدا له، أو عدل، وحلف مع شهادته له.. حكم للبائع بالثمرة، ولا كلام، وإن لم يكن فيهم من تقبل شهادته له.. فإن القول قول المفلس مع يمينه؛ لما ذكرناه، فإذا حلف.. ملك الثمرة، فإن أراد قسمة الثمرة على من صدقة دون من كذبه.. جاز، وإن اختار قسمتها على الجميع.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يدفعها إلى الذين صدقوه، دون الذين كذبوه) . واختلف أصحابنا فيها على وجهين:
فـ (الوجه الأول) : قال أبو إسحاق: هي كالأولى، وإن للمفلس أن يفرق ذلك على الجميع، أو يبرئه من كذبه على ما يخصه من الثمرة من الدين؛ لما ذكرناه في التي قبلها، وما ذكره الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.. فمعناه: إذا رضي المفلس أن يفرقه فيمن صدقة، دون من كذبه.
و (الوجه الثاني) : منهم من قال: لا يجبر من كذبه على قبض شيء من الثمرة، ولا الإبراء عن شيء من دينه، وجها واحدا، بخلاف الأولى؛ لأن مع تكذيب جماعتهم له به حاجة إلى قضاء دينه، فأجبروا على أخذه، وفي مسألتنا يمكنه دفعه إلى المصدقين له دون المكذبين له.
فإذا قلنا بالأول: لزم المصدقين للبائع أن يدفعوا ما خصهم من الثمرة إليه، ولا يلزم المكذبين له، والذي يقتضي المذهب: أن البائع لو سأل من كذبه من الغرماء أن يحلف له: أنه ما يعلم أنه رجع قبل التأبير.. لزم المكذب أن يحلف؛ لأنه لو خاف من اليمين، فأقر.. لزمه إقراره، هذا إذا كان المفلس مكذبا للبائع،.. فأما إذا كان المفلس مصدقا للبائع أنه رجع قبل التأبير.. وقال الغرماء: بل رجع بعد التأبير.. فهل يقبل إقرار المفلس؟ فيه قولان، كالقولين فيه إذا قال: هذه العين غصبتها من فلان، أو ابتعتها منه بثمن في ذمتي.. فهل يقبل في العين؟ قولان.
فإذا قلنا: يقبل.. كانت الثمرة للبائع، ولا كلام.
وإذا قلنا: لا يقبل فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يحلف الغرماء للبائع: أنه ما رجع قبل التأبير) .

(6/180)


فمن أصحابنا من قال: فيها قولان، كما إذا ادعى المفلس مالا، وأقام شاهدا، ولم يحلف معه.. فهل يحلف غرماؤه؟ فيه قولان، وما ذكره الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هاهنا.. فهو أحدهما. و [الثاني] : منهم من قال: يحلفون هاهنا، قولا واحدا، وهناك على قولين؛ لأن هناك توجهت اليمين على غيرهم، ثم نقلت إليهم، وهاهنا توجهت عليهم ابتداء.

[مسألة: باع جارية حائلا فحبلت فردها]
وإن باع من رجل جارية حائلا، فحبلت في يد المشتري من زوج أو زنا، فأفلس المشتري بعد أن وضعت الجارية.. فللبائع أن يرجع في الجارية؛ لأنها عين ماله، ولا حق له في الولد؛ لأنه نماء متميز، ولكن لا يجوز التفريق بينها وبين ولدها إذا كان صغيرا، فإن قال بائع الجارية: أنا أدفع قيمة الولد وأتملكه مع الأم. كان له ذلك، وإن قال: لا أدفع قيمة الولد.. بيعت الجارية والولد، وقسم الثمن عليهما، فما قابل الجارية من الثمن.. كان لبائعها، وما قابل الولد من الثمن.. كان لسائر الغرماء.
قال الشيخ أبو حامد: وكيفية التقسيط: أن تقوم الجارية ذات ولد، ثم يقوم الولد، ويضم قيمة أحدهما إلى الآخر، ويقسم الثمن عليهما، فإن قيل مثلا: قيمة الجارية تسعون، وقيمة الولد عشرة.. كان لبائع الجارية تسعة أعشار الثمن، وللغرماء عشر الثمن، وإنما قومت الجارية ذات ولد؛ لأنها ناقصة لأجل الولد، وقد استحق الرجوع فيها في حال نقصها. هذا هو المذهب.
ومن أصحابنا من قال: يقال للبائع: إما أن تدفع قيمة الولد.. فتتملكه مع الأم، وإلا فلا رجوع لك في الأم، بل تضرب مع الغرماء في الثمن.. وليس بشيء؛ لأنه قد وجد عين ماله خاليا عن حق غيره.
وإن أفلس المشتري قبل أن تضع الجارية:
فإن قلنا: لا حكم للحمل.. كان لبائع الجارية أن يرجع فيها وفي حملها؛ لأنه زيادة متصلة.
وإن قلنا: للحمل حكم.. قال الشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق: له أن يرجع

(6/181)


في الجارية دون الحمل، فإذا وضعت الجارية.. فالحكم في البيع والتقسيط على ما مضى. وقال ابن الصباغ: ليس له أن يرجع في الأم؛ لأن الحمل كالزيادة المنفصلة، ولا يمكن الرجوع في الأم دون الحمل.
وأما إذا باعها حاملا، فأفلس المشتري وهي حامل.. فللبائع أن يرجع فيها وفي حملها.
وإن أفلس بعد الوضع، فإن قلنا: للحمل حكم.. رجع في الجارية وفي الولد. وإن قلنا: لا حكم للحمل.. رجع في الأم دون الولد، ولا يفرق بينهما، فإن دفع قيمة الولد ليتملكه.. جاز، وإن لم يدفع قيمته.. بيعت الجارية والولد، وقسم الثمن بينهما على قدر قيمتهما، والتقسيط على ما مضى.
والحكم في الحيوان الحائل والحامل حكم الجارية إلا في شيء واحد، وهو أن البهيمة يجوز التفريق بينها وبين ولدها الصغير.

[فرع: باع حاملا فأسقطت وأفلس المشتري]
وإن باع من رجل جارية حاملا، فقبضها المشتري، وأسقطت جنينا في يده، ثم أفلس.. فللبائع أن يرجع في الجارية.
فإن قلنا: لا حكم للحمل.. رجع في الجارية، ولا شيء له لأجل السقط.
وإن قلنا: للحمل حكم.. رجع في الجارية، وضرب مع الغرماء بما يقابل السقط من الثمن، كما لو باع شيئين بثمن، ثم تلف أحدهما في يد المشتري، ثم أفلس، فللبائع الرجوع في الموجود، والضرب مع الغرماء بثمن المفقود.

[مسألة: التصرف بالمشتري كاستعماله]
إذا اشترى منه حنطة فطحنها، أو ثوبا خاما فقصره، أو خاطه بخيوط من الثوب، أو غزلا فنسجه، فأفلس المشتري.. فللبائع أن يرجع في الدقيق، والثوب المقصور، والمخيط، والغزل المنسوج، بلا خلاف على المذهب؛ لأنه وجد عين ماله خاليا عن

(6/182)


حق غيره، فإن لم تزد قيمة الحنطة والثوب بذلك.. فلا شيء للمفلس؛ لأن العمل قد استهلك، فإن كان المفلس قد عمل ذلك بنفسه.. سقط عمله، وإن استأجر من عمل ذلك، ولم يدفع الأجرة.. لم يكن للأجير أن يشارك بائع الثوب بشيء، وإنما يضرب مع باقي الغرماء فيما عدا الثوب من مال المفلس؛ لأن عمله لم يظهر له قيمة، وهكذا الحكم إذا نقصت قيمة الحنطة والثوب بذلك، واختار البائع الرجوع فيه.. فلا شيء له لأجل النقصان؛ لأن المفلس نقص ماله بيده، فإذا اختار البائع الرجوع.. لم يكن له شيء لأجل النقصان، كما لو وجد العبد مريضا.. فلا شيء للمفلس، ولا يشارك الأجير بائع الثوب بشيء؛ لأن عمله قد استهلك، ولكن يضرب مع الغرماء بأجرته.
فأما إذا زادت قيمة الحنطة والثوب بذلك: ففيه قولان:
أحدهما: يرجع البائع بالثوب والدقيق، ولا يشاركه المفلس بشيء، وهو اختيار المزني - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن المشتري لم يضف إلى المبيع عينا، وإنما فرق بالطحن أجزاء مجتمعة، وأزال بالقصارة وسخ الثوب، فلم يشارك البائع بذلك، كما لو اشترى حيوانا مهزولا، فسمن في يده.
والثاني: أن هذه الآثار تجري مجرى الأعيان، فيشارك المفلس البائع بقدر الزيادة، وهو الصحيح؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (وبه أقول؛ لأنها زيادة من فعل المشتري حصلت في المبيع، فكان له أن يشاركه، كما لو صبغ الثوب) ، ولأن الطحن والقصارة أجريت مجرى الأعيان، بدليل: أن للطحان والقصار والخياط والنساج أن يمسك هذه الأعيان المعمول فيها، إلى أن يستوفي الأجرة، فأجريت مجرى الأعيان فيما ذكرناه.
إذا ثبت هذا: فإن قلنا بالقول الأول، واختار البائع الرجوع في عين ماله.. رجع فيها بزيادتها، فإن كان المفلس قد استأجر من عمل ذلك، ولم يستوف الأجير أجرته.. لم يكن للأجير أن يشارك بائع العين بشيء، بل يضرب مع الغرماء بقدر أجرته.
وإن قلنا بما اختاره الشافعي، وأن هذه الآثار تجري مجرى الأعيان، فإن كان المفلس تولى العمل بنفسه، أو استعان من عمل ذلك بغير أجرة، أو استأجر من عمل

(6/183)


ذلك بأجرة، وقد وفى الأجير أجرته.. فإنه يشارك البائع بقدر ما زادت العين بالعمل، مثل: أن كان الثوب يساوي قبل القصارة عشرة، فصار مقصورا يساوي خمسة عشر، فللمفلس في الثوب خمسة.
قال ابن الصباغ: فإن اختار بائع الثوب أن يدفع الخمسة.. أجبر المفلس والغرماء على قبولها، كما إذا غرس المشتري في الأرض المبيعة، أو بنى.. فلبائع الأرض أن يدفع قيمة الغراس أو البناء، ويتملكه مع الأرض، وإن لم يختر بائع الثوب أن يدفع ذلك.. بيع الثوب وكان ثلثا الثمن للبائع، والثلث للمفلس، وإن كان المفلس قد استأجر من عمل ذلك، ولم يدفع إليه شيئا من الأجرة.. تعلق حق الأجير بالزيادة؛ لأنا قد جعلناها كالعين، فإن كانت الزيادة قدر أجرته، بأن كان قد استأجره بخمسة دراهم.. اختص الأجير بالزيادة، ويشارك البائع بها، وإن كانت الزيادة أكثر من أجرته، بأن كانت أجرته خمسة، والزيادة عشرة.. كانت الزيادة على قدر الأجرة للمفلس، تصرف إلى باقي الغرماء، وإن كانت الزيادة أقل من الأجرة، بأن كانت قيمة الثوب قبل القصارة عشرة، فصارت قيمته مقصورا اثني عشر، وأجرة القصار خمسة.. فإن الأجير يشارك بائع الثوب بدرهمين، ويضرب مع الغرماء بثلاثة دراهم.

[فرع: باعه غلاما فتعلم علما أو صنعة]
وإن اشترى غلاما، فعلمه صنعة مباحة، أو علمه القرآن، ثم أفلس المشتري، وقد زادت قيمة العبد بذلك.. فاختلف أصحابنا في ذلك:
فقال صاحب " التلخيص ": هي على قولين، كالقصارة؛ لأنه يجوز الاستئجار على ذلك، فهو كالقصارة، والنساجة.
وقال الشيخ أبو حامد، وعامة أصحابنا: ليس كالقصارة، ولا يشارك المفلس البائع للزيادة قولا واحدا؛ لأنه لا يحصل بفعله، وإنما إليه التلقين، وليس إليه الحفظ، وإنما هو إلى الله تعالى؛ لأنه قد يلقنه، فلا يتلقن، فهو كالسمن في

(6/184)


البهيمة؛ لأنه قد يعلفها لتسمن، فلا تسمن، بخلاف القصارة والنساجة والطحن؛ لأنها حدثت بفعل مضاف إلى المبتاع؛ لأنه لا يوجد منه هذه الأفعال، إلا وتحدث هذه الآثار، ولا تنفك منها.

[مسألة: باع ثوبا فصبغه المشتري]
وإن اشترى ثوبا من رجل بعشرة دراهم في ذمته، ومن آخر صبغا بخمسة دراهم في ذمته، وصبغ به الثوب، وأفلس المشتري قبل أن يدفع الثمنين، واختار البائعان الرجوع في عين مالهما، فإن لم تزد قيمتهما، ولم تنقص، بأن صار الثوب مصبوغا يساوي خمسة عشر.. صارا شريكين على قدر مالهما.
قال أبو علي السنجي: واختلف أصحابنا في تنزيله:
فمنهم من قال: يكون ثلثا الثوب وثلثا الصبغ لبائع الثوب، وثلثهما لبائع الصبغ؛ لأن مال كل واحد منهما لا يتميز عن مال صاحبه، فيصيران شريكين، كما لو اشترى زيتا، فخلطه بمثله، فلو تلف نصف الثوب.. كان النصف الباقي بينهما.
منهم من قال: جميع الثوب لبائعه، وجميع الصبغ لبائعه، كما لو اشترى أرضا من رجل، وغرسا من آخر، وغرسه فيها، وكره بائع الغرس القلع.
فإن نقصت قيمتها، فصارت قيمة الثوب مصبوغا اثني عشر.. فإن النقص يضاف إلى جنبه الصبغ؛ لأن أجزاءه تتفرق وتنقص، والثوب بحاله، ولأن الصبغ هو الوارد على الثوب، فالظاهر أنه نقص بالورود.
فعلي هذا: لصاحب الثوب أن يرجع في ثوبه، فإذا بيع.. دفع إليه من ثمنه عشرة، وأما صاحب الصبغ - إذا اختار الرجوع إليه - ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول الشيخ أبي إسحاق في " المهذب "، وابن الصباغ -: أنه يشارك بائع الثوب بدرهمين، ويضرب مع الغرماء بثلاثة دراهم؛ لأنه نقص بفعل المفلس
والثاني - وهو قول الشيخ أبي حامد، وصاحب " الفروع "، والصيدلاني -: إنه

(6/185)


يقال له: قد وجدت عين مالك ناقصة، فأنت بالخيار: بين أن ترجع فيها ناقصة القيمة، ولا شيء لك.. فيكون له سدس قيمة الثوب لا غير، وبين أن تضرب مع الغرماء بثمن صبغك، وهو خمسة، كما قلنا فيمن باع ثوبا، فلبسه المشتري، فوجده البائع ناقصا بالاستعمال.. فإنه يرجع فيه، ولا شيء له.
فإن زادت قيمتهما، فصار الثوب يساوي عشرين، فإن قلنا: إن الزيادة بالصنعة كالآثار، ولا حكم لها.. لم يكن المفلس شريكا لبائع الثوب وبائع الصبغ بشيء، بل الزيادة لهما، لصاحب الثوب ثلثاها، ولصاحب الصبغ ثلثها.
وإن قلنا: الزيادة بالصنعة كالزيادة بالعين، وهو الصحيح.. كانت الزيادة للمفلس، فيكون المفلس شريكا لهما في الربع، فإذا بيع الثوب بعشرين.. كان لبائع الثوب عشرة، ولبائع الصبغ خمسة، وللمفلس خمسة تصرف إلى باقي الغرماء.
فإن زادت قيمة الثوب بعد ذلك فصار يساوي مصبوغا أربعين، بعد أن كان يساوي مصبوغا عشرين.. قال ابن الحداد: أضعف لكل واحد منهما ماله، فيكون لبائع الثوب عشرون، ولبائع الصبغ عشرة، وللمفلس عشرة.
وإن بلغت قيمة الثوب لما صبغ أربعين.. فإن لصاحب الثوب ربع الثمن، عشرة، ولصاحب الصبغ ثمن الثمن، خمسة، وللمفلس خمسة أثمانه، وهو خمسة وعشرون.

وإن اشترى الثوب من رجل بعشرة، واشترى منه صبغا بخمسة، وصبغ به الثوب، فأفلس المشتري، فإن لم تنقص قيمتهما بعد الصبغ ولم تزد، بأن صار الثوب بعد الصبغ يساوي خمسة عشر، واختار البائع الرجوع فيهما.. رجع فيهما ولا كلام، وإن نقصت قيمتهما، فصار الثوب بعد الصبغ يساوي اثني عشر، واختار الرجوع فيهما.. فهل يضرب مع الغرماء بثلثه؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: لا يضرب معهم بشيء، بل يأخذ الثوب ناقصا، إن اختاره بغير شيء.
و [الثاني] : قال ابن الصباغ: يضرب مع الغرماء بثلثه. وهو قياس قول صاحب " المهذب " في الأولى.

(6/186)


فإن زادت قيمتهما، فصار الثوب مصبوغا يساوي عشرين، فإن قلنا: إن الزيادة بالعمل لا حكم لها.. رجع البائع في الثوب بزيادته، ولا شيء للمفلس، وإن قلنا: إن الزيادة بالعمل كالعين.. كان للبائع خمسة عشر، وللمفلس خمسة.
وإن اشترى من رجل ثوبا بعشرة، وصبغه بصبغ من عنده يساوي خمسة، فإن لم تنقص قيمتهما ولم تزد، بأن صار الثوب مصبوغا يساوي خمسة عشر.. فإن المشتري يصير شريكا للبائع بالثلث، وفي كيفية اشتراكهما، الوجهان المحكيان في المسألة الأولى عن أبي علي السنجي.
وإن نقصت قيمتهما، فصار الثوب مصبوغا يساوي اثني عشر.. فإن النقصان ينصرف إلى الصبغ؛ لأن الظاهر أنه حصل بوروده، فيشاركه المفلس بسدس الثمن، ولبائع الثوب خمسة أسداسه.
وإن زادت قيمتهما، فصار يساوي عشرين، فإن قلنا: إن الزيادة بالعمل لا حكم لها.. فإن الزيادة بينهما على قدر مالهما، لبائع الثوب ثلثاها، وللمفلس ثلثها، وإن قلنا: إن الزيادة بالعمل كالعين.. فإن الزيادة كلها للمفلس، فيكون لبائع الثوب نصف الثمن، وللمفلس النصف.
وإن اشترى من رجل صبغا بخمسة، وصبغ به ثوبا لنفسه يساوي عشرة.. فلبائع الصبغ أن يرجع في صبغه، فإن رجع.. نظرت:
فإن لم تنقص قيمتهما ولم تزد، بأن كان الثوب بعد الصبغ يساوي خمسة عشر.. فإن البائع يكون شريكا للمفلس بالثلث، وفي كيفية اشتراكهما، الوجهان المحكيان عن السنجي.
وإن نقصت قيمتهما، فصار الثوب يساوي اثني عشر بعد الصبغ.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: يشارك البائع المفلس بدرهمين، وهو سدس ثمن الثوب، ولا شيء له غير ذلك.

(6/187)


و [الثاني] : قال ابن الصباغ: يشارك البائع المفلس بسدس ثمن الثوب، ويضرب مع الغرماء بثلاثة دراهم.
وإن زادت قيمتهما، فصار الثوب مصبوغا يساوي عشرين، فإن قلنا: إن الزيادة بالعمل لا حكم لها.. كانت الزيادة بينهما على قدر مالهما، للبائع ثلثها، وللمفلس ثلثاها، وإن قلنا: إنها كالعين.. كانت الزيادة جميعها للمفلس، فيكون الثمن بينهما، للبائع، وللمفلس خمسة عشر.

[مسألة: اشترى أرضا بثمن مؤجل وغرسها ثم أفلس]
إذا اشترى رجل من رجل أرضا بثمن في ذمته، فغرسها بغراس من عنده، أو بنى فيها بناء بآلة من عنده، ثم أفلس قبل دفع الثمن، وأراد البائع الرجوع في أرضه، فإن اتفق المفلس والغرماء على قلع الغراس، أو البناء من الأرض.. جاز لهم ذلك؛ لأن الحق لهم، ولبائع الأرض أن يرجع فيها؛ لأنها عين ماله لم يتعلق بها حق غيره، فإذا رجع البائع فيها، ثم قلعوا البناء والغراس.. لزمهم تسوية الأرض، وأرش ما نقص إن حصل بها لأجل القلع؛ لأن ذلك حصل لتخليص ملكهم، فهو كما لو دخل فصيل إلى دار رجل، ولم يخرج إلا بنقض الباب.. فلرب الفصيل نقض الباب، وإخراج فصيله، وعليه إصلاح الباب، ويكون ذلك مقدما على حق سائر الغرماء.
فإن قيل: أليس قد قلتم: إن البائع إذا وجد عين ماله ناقصة، فرجع فيها.. فإنه لا شيء له؟
قلنا: الفرق بينهما: أن النقص هناك حصل في ملك المشتري، فلم يضمنه إلا

(6/188)


فيما يتقسط عليه الثمن، وهاهنا حدث النقص بعد رجوع البائع في أرضه، والنقص حصل لتخليص ملكهم، فضمنوه.
وإن لم يرض المفلس والغرماء بقلع الغراس والبناء.. لم يكن لبائع الأرض إجبارهم على ذلك؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس لعرق ظالم حق» . وهذا ليس بظالم؛ لأنه غرسه في ملكه.
وإذا ثبت: أنهم لا يجبرون.. فإن بذل البائع قيمة الغراس والبناء ليتملكه مع الأرض، أو قال: أنا أقلع ذلك، وأضمن أرش ما دخل بالقلع من النقص.. أجبر المفلس والغرماء على قبول ذلك، وكان لبائع الأرض الرجوع فيها؛ لأن الضرر يزول عن الجميع بذلك.
وإن قال بائع الأرض: أرجع فيها، وأقر الغراس والبناء، وآخذ أجرة الأرض.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 272] : كان له ذلك.
وإن امتنع المفلس والغرماء من القلع، وامتنع بائع الأرض من بذل قيمة الغراس والبناء وأرش ما حصل بالقلع.. فهل له أن يرجع في أرضه؟

(6/189)


قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع: (له أن يرجع فيها) . وقال في موضع: (يسقط حقه من الرجوع فيها) . واختلف أصحابنا فيها:
فمنهم من قال: فيها قولان:
أحدهما: للبائع أن يرجع في أرضه وإن لم يدفع قيمة الغراس والبناء؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فصاحب المتاع أحق بمتاعه، إذا وجده بعينه» . ولم يفرق، ولأن أكثر ما فيه أنه وجد ملكه مشغولا بملك غيره، وذلك لا يسقط حقه من الرجوع، كما لو باع ثوبا، فصبغه المشتري بصبغ من عنده.
والثاني: ليس له الرجوع في أرضه؛ لأن الأرض قد صارت مشغولة بملك غيره، فسقط حقه من الرجوع فيها، كما لو اشترى من رجل مسامير، وسمر فيها بابا، ثم أفلس.. فإنه ليس لبائع المسامير أن يرجع فيها، ولأن رجوع البائع في عين ماله إنما جعل له لإزالة الضرر عنه، فلو جوزنا له الرجوع هاهنا.. لأزلنا عنه الضرر، وألحقناه بالمفلس والغرماء؛ لأنه لا يبقى لهم طريق إلى غراسهم وبنائهم.
ومنهم من قال: ليست على قولين، وإنما هي على حالين:
فالموضع الذي قال: (يرجع في أرضه، ولا يدفع قيمة الغراس والبناء) إذا كانت قيمة الأرض أكثر من قيمة الغراس والبناء؛ لأن الغراس والبناء تابع للأرض.
والموضع الذي قال فيه: (لا يرجع في الأرض) إذا كانت قيمة الغراس والبناء أكثر من قيمة الأرض؛ لأن الأرض تكون تابعة للغراس والبناء.
والصحيح: أنها على قولين؛ لأن بائع الأرض لو بذل قيمة الغراس والبناء.. لكان له الرجوع في أرضه، سواء كانت قيمة الأرض أكثر من قيمة الغراس والبناء أو أقل.
فإذا قلنا: ليس له الرجوع في أرضه.. فلا كلام، وإن قلنا: له الرجوع في أرضه وإن لم يدفع قيمة الغراس والبناء، فرجع فيها.. نظرت:

(6/190)


فإن اتفق الغرماء والمفلس والبائع على بيع الأرض والغراس والبناء.. بيعا، وقسم الثمن عليهما على قدر قيمتهما، وكيفية ذلك: أن يقال: كم قيمة الأرض مفردة ذات غراس وبناء؟ فإن قيل: خمسون.. قيل: وكم قيمة الغراس والبناء مفردا؟ فإن قيل: خمسون.. كان الثمن نصفين، لبائع الأرض النصف، وللغرماء وللمفلس النصف، وإنما قومت الأرض ذات بناء وغراس، لأن قيمتها أنقص، وقد استحق الرجوع فيها ناقصة.
وإن امتنع البائع من بيع الأرض.. ففيه قولان:
أحدهما: يجبر على بيعها مع الغراس والبناء، ويقسم الثمن عليهما على قدر قيمتهما، على ما ذكرناه من التقسيط؛ لأن الحاجة تدعو إلى البيع لقضاء الدين، فبيع الجميع، كما لو كان المبيع ثوبا، فصبغه المفلس بصبغ من عنده، فرجع بائع الثوب فيه، وامتنع من دفع قيمة الصبغ.. فإن الثوب يباع مع الصبغ، وكذلك إذا كان المبيع جارية، فولدت في يد المشتري، ورجع بائع الجارية فيها.. فإنها تباع مع الولد.
والثاني: لا يجبر البائع على بيع أرضه، وهو المشهور؛ لأنه يمكن إفراد الغراس والبناء بالبيع، فلم يجبر البائع على بيع أرضه، بخلاف الصبغ، فإنه لا يمكن إفراده بالبيع، وكذلك ولد الجارية إنما وجب بيعه؛ لأنه لا يجوز التفريق بينها وبين ولدها الصغير.
وحكى الشيخ أبو حامد: أن من أصحابنا من قال: تؤجر الأرض والغراس، ثم يكون ما قابل الأرض من الأجرة لبائعها، وما قابل الشجر من الأجرة للمفلس والغرماء.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا خطأ؛ لأن إجارة الشجر لا تجوز، ولهذا لو غصب شجرة، وأقامت في يده.. لم يجب عليه أجرتها.

(6/191)


[فرع: اشترى أرضا ثم غراسا في ذمته فأفلس]
] : وإن اشترى من رجل أرضا بثمن في ذمته، ومن آخر غراسا في ذمته، فغرسه في الأرض، ثم أفلس قبل تسليم الثمنين.. فلكل واحد من البائعين الرجوع في عين ماله، فإذا رجعا.. نظرت: فإن أراد صاحب الغراس قلع غراسه.. كان له ذلك، ولم يكن لبائع الأرض، منعه منه، فإذا قلعه.. كان عليه تسوية الأرض، وأرش ما نقص إن حصل بها؛ لأن ذلك حصل لتخليص ملكه. وإن أراد صاحب الأرض قلع الغراس، ويضمن أرش النقص، أو بذل قيمة الغراس ليتملكه مع الأرض.. كان له ذلك؛ لأنه متصل بملكه، فكان له إسقاط حقه منه بدفع قيمته. وإن أراد صاحب الأرض قلع الغراس من غير ضمان.. فهل يجبر بائع الغراس على ذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه ليس بعرق ظالم، ولأنه لو كان باقيا على ملك المفلس.. لم يكن لصاحب الأرض أن يطالبه بقلعه من غير ضمان، فكذلك من انتقل إليه منه.
والثاني: له ذلك؛ لأنه إنما ابتاع منه الغراس مقلوعا، فكان عليه أن يأخذه مقلوعا، ويفارق المفلس؛ لأنه غرسه في ملكه، فثبت حقه في ذلك.

[فرع: استلف حبا فزرعه، ثم ماء فسقاه فأفلس]
قال ابن الصباغ: إذا اشترى من رجل حبا، فزرعه في أرضه، ومن آخر ماء، فسقاه به، فنبت، وأفلس.. فإنهما يضربان بثمن الماء والحب مع الغرماء، ولا يرجعان بالزرع؛ لأن عين مالهما غير موجودة فيه، فهو كما لو اشترى طعاما، فأطعمه عبده حتى كبر.. فإنه لا حق له في العبد، ولأن نصيب الماء غير معلوم لأحد من الخلق.
قلت: وقد مضى في البذر وجه آخر: أنه يرجع فيه، فيحتمل أن يكون ابن الصباغ اختار أحدهما.

(6/192)


[مسألة: استدان زيتا وخلطه بزيته وأفلس]
وإذا ابتاع شيئا من ذوات الأمثال، فخلطه بجنسه، ولم يتميز.. ففيه ثلاث مسائل:
إحداهن: أن يخلطه بمثله، مثل: أن يشتري صاعا من زيت يساوي أربعة دراهم، فخلطه بصاع من زيته يساوي أربعة دراهم، وأفلس المشتري قبل دفع الثمن.. فللبائع أن يرجع في عين ماله؛ لأن عين ماله موجودة من جهة الحكم، فإن طلب البائع قسمة الزيت.. أجبر المفلس والغرماء على القسمة، كما لو ورث جماعة زيتا، وطلب واحد منهم قسمته.. فإنه يقسم، ويجبر الممتنع منهم. وإن طلب البائع بيع الزيت، وقسمة ثمنه.. فهل يجبر المفلس على ذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجبر على البيع؛ لأن البائع يمكنه الوصول إلى حقه من جهة القسمة، فلم يكن له المطالبة بالبيع، كما لو ورث جماعة زيتا، وطلب واحد منهم البيع، فإن شركاءه لا يجبرون على البيع.
والثاني: يجبر المفلس على البيع؛ لأن بالقسمة لا يصل إلى عين ماله، وربما كان له غرض في أن لا يأكل من زيت المشتري.
المسألة الثانية: إذا خلطه بزيت أجود من زيته، بأن اشترى صاعا من زيت يساوي درهمين، فخلطه بصاع من زيته يساوي أربعة دراهم.. فهل للبائع أن يرجع في عين ماله؟ فيه قولان:
أحدهما: له أن يرجع، وهو اختيار المزني؛ لأنه ليس له فيه أكثر من أنه وجد عين ماله مختلطة بمال المفلس، وذلك لا يمنع الرجوع، كما لو اشترى ثوبا، فصبغه بصبغ من عنده.. فإن لبائع الثوب أن يرجع فيه.
والثاني: ليس له أن يرجع في عين ماله.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وهو أصح، وبه أقول) ؛ لأنه لا يجوز له الرجوع بمثل

(6/193)


مكيلته؛ لأن ذلك أكثر قيمة من عين ماله، ولا بقيمة صاعه؛ لأن ذلك أنقص من حقه.
فإذا قلنا بهذا: ضرب مع الغرماء بالثمن.
وإذا قلنا بالأول: فكيف يرجع؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ. وأما الشيخ أبو حامد: فحكاهما وجهين:
أحدهما - وهو قول أبي إسحاق، واختيار ابن الصباغ -: أنه يباع الزيتان، ويأخذ قيمة ثلثي صاع، وهو درهمان؛ لأنا لو قلنا: له الرجوع في ثلثي صاع.. لكان ذلك ربا.
والثاني - وهو اختيار الشيخ أبي حامد، قال: وهو المنصوص -: (أنه يرجع في ثلثي صاع) ؛ لأنه ليس ببيع، وإنما وضع ذلك عن مكيله زيتا.
المسألة الثالثة: إذا خلطه بأردأ من زيته، بأن اشترى صاعا من زيت يساوي أربعة دراهم، فخلطه بصاع من زيته يساوي درهمين.. فللبائع أن يرجع في عين ماله، قولا واحدا؛ لأن عين ماله موجودة من طريق الحكم، فإن رضي البائع بأخذ صاع منه.. أجبر المفلس على ذلك؛ لأنه أنقص من حقه، وإن لم يرض البائع بذلك.. ففيه ثلاثة أوجه، حكاها الشيخ أبو حامد:
أحدها: ليس له إلا صاع منه؛ لأنه وجد عين ماله ناقصة، فإذا اختار الرجوع فيه.. لم يكن له غيره، كما لو كان المبيع ثوبا، فلبسه المشتري ونقص.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق، ولم يذكر ابن الصباغ غيره -: أن الصاعين يباعان، وتدفع إلى البائع قيمة صاعه، وهو أربعة دراهم، كما قال في المسألة قبلها؛ لأنه إن أخذ مثل كيل زيته.. كان أنقص من حقه، وإن أخذ أكثر من مكيلة زيته.. كان ربا.
والثالث - حكاه ابن المرزبان -: أن له أن يأخذ منه صاعا وثلث صاع بقيمة صاع من زيته، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المسألة قبلها: (أنه يأخذ ثلثي صاع) . والأول أصح.

(6/194)


[فرع: استدان عنبا أو رطبا فخلطه بمثله ثم أفلس]
] : وإن اشترى عنبا، فخلطه بعنب له، أو رطبا، فخلطه برطب له، ثم أفلس.. فهل للبائع أن يرجع في عين ماله؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه لا يمكن إفراده إلا بالقسمة، وقسمة ذلك بيع، وبيع بعضه ببعض لا يجوز.
والثاني: يجوز؛ لأنه يمكنه إفراز حق ذلك بالوزن والكيل.
قال الشيخ أبو حامد: وعندي: أن هذين القولين مأخوذان من القسمة، هل هي بيع، أو إفراز حق؟
فإن قلنا: إنها بيع.. لم يجز له الرجوع.
فعلى هذا: يضرب مع الغرماء بالثمن.
وإن قلنا: إنها إفراز حق.. فله الرجوع، وكيفية الرجوع على ما مضى في المسائل الثلاث: إذا خلطه بمثله، أو بأجود منه، أو بأردأ منه.

[مسألة: إفلاس المسلِم قبل قبض المسلَم]
إذا أسلم رجل إلى غيره في شيء على صفة، ثم أفلس المسلم قبل أن يأخذ المسلم فيه، فإن أراد المسلم أن يأخذ المسلَم فيه بدون الصفة التي أسلَمَ فيها.. لم يجز من غير رضا الغرماء؛ لأن حقوقهم تعلقت بماله، وإن رضي المفلس والغرماء بذلك.. جاز؛ لأن الحق لهم، ولا يخرج عنهم إلا برضاهم.
فإن قيل: ما الفرق بين هذا، وبين المكاتب إذا أذن له سيده في أن يبرأ عن الدين.. أنه لا يصح إبراؤه في أحد القولين؟
قلنا: الفرق بينهما على هذا القول: أن المفلس كامل الملك إلا أنه منع من

(6/195)


التصرف في ماله لتعلق حق الغير في ماله، فإذا أذن له ذلك الغير في التصرف بماله.. صح تصرفه، كالمرتهن إذا أذن للراهن، وليس كذلك المكاتب، فإن المنع لنقصان ملكه، فإذا أذن له سيده.. لم يتكامل ملكه بذلك.
وإن كان المفلس هو المسلم إليه، فحجر عليه قبل أن يقبض المسلم المسلم فيه، فإن كان رأس المال باقيا.. كان للمسلم أن يفسخ عقد السلم، ويرجع في رأس ماله، كما قلنا فيمن باع عينا من رجل، فأفلس المشتري. وإن كان رأس المال تالفا.. فللمسلم أن يضرب مع الغرماء بالمسلم فيه، فإن كان المسلم فيه موجودا في مال المسلم إليه.. أخذ ما يخصه من ماله منه، وإن كان معدوما.. اشترى له بما يخصه من ماله من جنس المسلم فيه؛ لأن أخذ العوض عن المسلم فيه لا يجوز.
وقال أبو إسحاق: المسلم بالخيار: بين أن يقيم على العقد، ويضرب مع الغرماء بقدر المسلم فيه، وبين أن يفسخ العقد، ويضرب مع الغرماء برأس مال السلم، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيمن أسلم في شيء، فانقطع -: (فله أن يفسخ العقد، ويرجع إلى رأس مال السلم) . والمنصوص: (أنه لا يملك فسخ العقد، بل يضرب بقدر المسلم فيه، كما أن البائع إذا وجد المبيع تالفا.. ليس له أن يفسخ البيع، ويضرب مع الغرماء بقيمة العين المبيعة) . ويفارق إذا انقطع المسلم فيه؛ لأن له غرضا في الفسخ، وهو: أنه يرجع برأس ماله في الحال، وعليه مشقة في التأخير إلى وجود المسلم فيه.
إذا ثبت هذا: فضرب مع الغرماء بقيمة المسلم فيه، وعزل له ما يخصه ليشتري له المسلم فيه، بأن أسلم في مائة ذهب ذرة، وكانت قيمة ذلك عند القسمة عشرين دينارا، فعزل له ذلك، فرخص السعر، حتى صارت المائة قبل الابتياع له تساوي عشرة.. اشترى له مائة ذهب بعشرة، وقسمت العشرة الباقية على باقي الغرماء إن بقي لهم من دينهم شيء، أو ردت على المفلس إن استوفى أصحاب الديون ديونهم. وإن غلا الطعام عند الابتياع، فصارت المائة تساوي أربعين دينارا.. اشترى له بالعشرين المعزولة خمسين ذهبا.

(6/196)


قال الشيخ أبو حامد: ويكون الباقي في ذمة المسلم إليه.
وقال ابن الصباغ: يرجع على الغرماء بما يخصهم من ذلك؛ لأنه قد بان أن حقه ضعف ما حاص به؛ لأن حقه في المسلم فيه دون القيمة.

[مسألة: اكترى بذمته أرضا فأفلس]
وإن اكترى من رجل أرضا بأجرة في ذمته، فأفلس المتكري بالأجرة قبل دفعها، فإن كان بعد استيفاء مدة الإجارة.. ضرب المكري بالأجرة مع الغرماء. وإن كان قبل أن يمضي شيء من مدة الإجارة.. فالمكري بالخيار: بين أن يضرب مع الغرماء بالأجرة، ويقر العقد، وبين أن يفسخ عقد الإجارة، ويرجع إلى منفعة أرضه، لأن المنفعة كالعين المبيعة، فجاز له الرجوع إليها. وإن كان بعد مضي شيء من مدة الإجارة.. فالمكري بالخيار: بين أن يقر العقد، ويضرب مع الغرماء بالأجرة، وبين أن يفسخ عقد الإجارة فيما بقي من المدة، ويضرب مع الغرماء بأجرة ما مضى، كما نقول فيمن باع عبدين بثمن، فتلف أحدهما في يد المشتري، وبقي الآخر.
إذا ثبت هذا: فإن اختار فسخ عقد الإجارة، وفي الأرض زرع، فإن كان قد استحصد.. فله أن يطالب المفلس والغرماء بحصاده، وتفريغ الأرض. وإن كان الزرع لم يستحصد، فإن اتفق المفلس والغرماء على قطعه.. جاز، سواء كانت له قيمة أو لم تكن، ولا يعترض عليهم الحاكم؛ لأن الحق لهم، وإن اتفقوا على تركه، وبذلوا للمكري أجرة مثل الأرض إلى الحصاد.. لزمه قبول ذلك، ولم تكن له مطالبتهم بقلعه، لأنه ليس بعرق ظالم.
وإن امتنع المفلس والغرماء من بذل الأجرة.. كان للمكري مطالبتهم بقلعه؛ لأنا قد جوزنا له الرجوع إلى عين ماله، وعين ماله هو المنفعة، فلا يجوز تفويتها عليه بغير عوض، بخلاف ما لو باع أرضا وزرعها المشتري، وأفلس، ثم رجع بائع الأرض

(6/197)


فيها.. فإنه يلزمه تبقية الزرع فيها إلى الحصاد بغير أجرة؛ لأن المعقود عليه في البيع هو العين، والمنفعة تابعة لا يقابلها عوض، وإنما دخل المشتري في العقد على أن تكون له بغير عوض، وفي الإجارة: المعقود عليه هو المنفعة، فلا يجوز استيفاؤها بغير عوض.
وإن اختلف المفلس والغرماء: فقال بعضهم: يقلع. وقال بعضهم: بل يبقى إلى الحصاد، فإن كان الزرع لا قيمة له، كالزرع أول ما يخرج.. قدم قول من دعا إلى التبقية؛ لأن من دعا إلى القلع.. دعا إلى الإتلاف، فلم يجب إلى ذلك، وإن كان للزرع قيمة، كالقصيل.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: يفعل ما فيه الأحظ؛ لأن الحجر يقتضي طلب الحظ.
و [الثاني] : قال أكثر أصحابنا: إنه يجاب قول من دعا إلى القلع، وقد مضى دليلهما.
فإن قيل: فما الفرق بين هذا، وبين من ابتاع أرضا وغرسها، ثم أفلس المبتاع، وأخذ البائع عين ماله، وهو الأرض، وصار الغراس للمفلس والغرماء، فقال بعضهم: يقلع، وقال بعضهم: يبقى، فإنه يقدم قول من قال: يبقى؟.
قلنا: الفرق بينهما على هذا الوجه: أن من دعا إلى قلع الغراس.. يريد الإضرار بغيره؛ لأن بيع الغراس في الأرض أكثر لثمنه، فلم يجب قول من دعا إلى قلعه، وليس كذلك في الزرع، فإن من دعا إلى القلع.. فيه منفعة من غير ضرر؛ لأن الزرع إذا بقي قد يسلم، وقد لا يسلم.
إذا ثبت هذا: فإن اتفقوا على تبقية الزرع إلى الحصاد، واحتاج إلى سقي ومؤنة، فإن اتفق الغرماء والمفلس على أن ينفقوا عليه من مال المفلس الذي لم يقسم.. ففيه وجهان:

(6/198)


أحدهما: لا ينفق منه؛ لأن حصول هذا الزرع مظنون، فلا يتلف عليه مال موجود.
والثاني - وهو المذهب -: أنه ينفق عليه منه؛ لأن ذلك من مصلحة المال، ويقصد به تنمية المال في العادة.
وإن دعا الغرماء المفلس إلى أن ينفق عليه، وأبى المفلس ذلك.. لم يجبر عليه؛ لأنه لا يجب عليه تنمية المال للغرماء. فإن تطوع الغرماء أو بعضهم بالإنفاق عليه من غير إذن المفلس والحاكم.. لم يرجعوا بما أنفقوا عليه، لأنهم متطوعون به. وإن أنفق بعضهم بإذن المفلس والحاكم على أن يرجع على المفلس بما أنفق.. جاز ذلك، وكان له ذلك دينا في ذمة المفلس لا يشارك به الغرماء؛ لأنه وجب عليه بعد الحجر.
وإن أنفق عليه بعض الغرماء، بإذن باقي الغرماء، على أن يرجع عليهم.. رجع عليهم بما أنفق من مالهم.

[فرع: اكترى مركبا لينقل بضاعة فأفلس]
قال في " الأم " [3/183] : (ولو اكترى ظهرا ليحمل له طعاما إلى بلد من البلدان، فحمله، وأفلس المكتري قبل دفع الأجرة.. ضرب المكري مع الغرماء بالأجرة، فإن أفلس قبل أن يصل إلى البلد.. نظرت: فإن كان الموضع الذي بلغ إليه آمنا.. كان له فسخ الإجارة فيما بقي من المسافة، ويضع الطعام عند الحاكم) .
قال ابن الصباغ: وإن وضعه على يد عدل بغير إذن الحاكم.. ففيه وجهان، كالمودع إذا أراد السفر، فأودع الوديعة بغير إذن الحاكم.. فهل يضمن؟ فيه وجهان.
وإن كان الموضع مخوفا.. لزمه حمل الطعام إلى الموضع الذي أكراه لحمله إليه، أو إلى موضع دونه يأمن عليه فيه.
قال في " الأم ": (وإن اكترى من رجل ظهرا بعينه ليركبه إلى بلد، فأفلس المكري.. كان المكتري أحق بالظهر؛ لأنه استحق منفعته بعقد الإجارة قبل الحجر) .

(6/199)


وإن اكترى منه ظهرا في ذمته، فأفلس المكري.. فإن المكتري يضرب مع الغرماء بقيمة المنفعة إن كان لم يستوف شيئا منها، أو بقيمة ما بقي منها إن استوفى بعضها؛ لأن حقه متعلق بذمته، فهو كما لو باعه عينا بثمن في ذمته.
فإن كان ما يخصه من مال المفلس لا يبلغ ما اكترى به، وكانت الأجرة باقية.. فللمكتري أن يفسخ الإجارة، ويرجع إلى عين ماله إن كان لم يستوف شيئا من المنفعة، أو إلى بعضها إن كان قد استوفى شيئا من المنفعة؛ لأن الأجرة كالعين المبيعة.

[مسألة: بعد قسم مال المفلس يحجر عليه]
إذا قسم مال المفلس بين غرمائه.. ففي حجره وجهان:
أحدهما: يزول عنه من غير حكم الحاكم؛ لأن الحجر عليه كان لأجل المال، وقد زال المال، فزال الحجر بزواله، كما أن المجنون محجور عليه بالجنون، فإن زال الجنون.. زال الحجر.
والثاني: لا يزول الحجر إلا بحكم الحاكم؛ لأنه حجر ثبت بالحاكم، فلم يزل إلا بحكمه، كالحجر على السفيه.

[مسألة: مات وعليه ديون]
] : ومن مات وعليه ديون.. تعلقت ديون الغرماء بماله، وبه قال عثمان، وعلي، وأبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا تتعلق بماله) .
دليلنا عليهما: ما ذكرناه في المفلس.
فإن مات وله على غيره دين إلى أجل، وعليه دين إلى أجل.. فإن الدين الذي له إلى أجل لا يحل بموته، وأما الدين الذي عليه إلى أجل.. فإنه يحل عليه بموته، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وعامة أهل العلم.

(6/200)


وذهب الحسن البصري، وعمرو بن دينار إلى: أنه لا يحل ما عليه بموته.
دليلنا: ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا مات الرجل وله دين إلى أجل، وعليه دين إلى أجل.. فالذي عليه حال، والذي له إلى أجله» .
ولأنه لا وجه لبقاء تأجيله؛ لأنه لا يخلو: إما أن يبقى في ذمة الميت، أو في ذمة الورثة، أو متعلقا بأعيان المال، فبطل أن يبقى مؤجلا في ذمة الميت؛ لأن ذمته خربة، وبطل أن يقال: يبقى في ذمة الورثة؛ لأن صاحب الدين لم يرض بذممهم.
ولأنه لو تعلق بذممهم إذا كان للميت مال.. لتعلق بذممهم وإن لم يكن للميت مال، وبطل أن يقال: يبقى مؤجلا متعلقا بأعيان ماله؛ لأن ذلك إضرار بصاحب الدين؛ لأن أعيان المال ربما تلفت، وإضرار بالميت؛ لأن ذمته لا تبرأ حتى يقضى عنه؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «نفس المؤمن مرتهنة بدينه، حتى يقضى عنه» . فإذا بطلت هذه الأقسام.. لم يبق إلا القول بحلوله.

[فرع: تصرف الوارث قبل قضاء الدين]
فإن تصرف الوارث في التركة أو بعضها قبل قضاء الدين.. فهل يصح تصرفه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح، سواء بقي من التركة ما يفي بالدين أو لا يفي؛ لأن مال الميت تعلق به ما عليه من الدين، فلم يصح تصرف الوارث فيه، كالراهن إذا تصرف في عين الرهن قبل قضاء الدين.
والثاني: يصح تصرفه؛ لأنه حق تعلق بالمال من غير رضا المالك، فلم يمنع صحة التصرف، كتصرف المريض في ماله.

(6/201)


فإذا قلنا بهذا: فإن قضى الدين.. نفذ تصرفه، وإن لم يقض الدين.. لم ينفذ تصرفه؛ لأنا إنما صححنا التصرف تصحيحا موقوفا على قضاء الدين، كما صححنا تصرف المريض بماله تصرفا موقوفا.
فإن باع عبدا، ثم مات البائع، ووجد المشتري بالعبد الذي اشتراه عيبا، فرده، فإن كان الثمن باقيا بعينه. استرجعه، وإن كان تالفا.. رجع المشتري بالثمن في تركة الميت، فإن كان الوارث قد تصرف بالتركة قبل ذلك، أو كان حفر الرجل بئرا في طريق المسلمين ومات، وتصرف وارثه بتركته، ثم وقع في تلك البئر بهيمة أو رجل.. وجب ضمان ذلك في تركة الميت، وهل يصح تصرف الوارث قبل ذلك؟
إن قلنا في المسألة قبلها: إنه يصح تصرفه.. فهاهنا أولى، وإن قلنا هناك: لا يصح.. ففي هذه وجهان:
أحدهما: يصح تصرفه؛ لأنه تصرف في مال له، لم يتعلق به حق أحد.
والثاني: لا يصح؛ لأنا تبينا أنه تصرف والدين متعلق بالتركة.

[فرع: وجد أحد غرماء الميت ماله بعينه]
] : وإن كان في غرماء الميت من باع منه عينا، ووجد عين ماله، ولم يقبض ثمنها، فإن كانت التركة لا تفي بالدين.. فللبائع أن يرجع في عين ماله.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا يرجع فيها، بل يضرب مع الغرماء بدينه) .
دليلنا: ما «روى عمر بن خلدة الزرقي قاضي المدينة، قال: أتينا أبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في صاحب لنا أفلس، فقال: هذا الذي قضى فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أيما رجل مات، أو أفلس.. فصاحب المتاع أحق بمتاعه، إذا وجده بعينه» وهذا نص في موضع الخلاف.
وإن كان ماله يفي بالدين.. ففيه وجهان:

(6/202)


[أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: للبائع أن يرجع بعين ماله؛ لحديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإنه لم يفرق.
والثاني: ليس له أن يرجع بعين ماله، وهو المذهب؛ لأن ماله يفي بدينه، فلم يكن للبائع الرجوع بعين ماله، كما لو كان حيا، وأما الخبر: فمحمول عليه إذا مات مفلسا، مع أنه قد روى فيه أبو بكر النيسابوري بإسناده عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «وإن خلف وفاء.. فهو أسوة الغرماء» . فيكون حجة لنا.

[مسألة: وجد غريم بعد قسم مال الميت أو المفلس]
] : إذا قسم مال الميت، أو مال المفلس بين غرمائه، ثم ظهر له غريم آخر له دين كان مستحقا دينه قبل الحجر.. رجع الغريم على سائر الغرماء بما يخصه.
وقال مالك: (يرجع غريم الميت، ولا يرجع غريم المفلس) .
دليلنا: أن الحاكم إنما فرق في غرمائه، وعنده أنه لا غريم له سواهم، فإذا ظهر غيرهم.. نقض الحكم، كالحاكم إذا حكم بحكم، ثم وجد النص بخلافه.
ولأنه لما كان لغريم الميت أن يرجع على الباقين.. كان لغريم المفلس مثله.

[فرع: فك الحجر عنه وادعى آخرون كسبه مالا بعد الحجر]
] : وإن فك الحجر عن المفلس، وبقي عليه دين، فادعى غرماؤه أنه قد استفاد مالا بعد الحجر.. سأله الحاكم عن ذلك، فإن أنكر، ولا بينة لهم.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء العسرة. فإن ثبت له مال إما بالبينة أو بإقراره وطلب الغرماء الحجر عليه.. نظر الحاكم فيه وفيما عليه من الدين، فإن كان يفي بالدين.. لم يحجر عليه، بل يأمره بقضاء الدين، وإن كان أقل.. حجر عليه، وقسم ماله بين الغرماء.

(6/203)


وإن تجدد عليه دين بعد الحجر الأول، ثم ظهر له مال، فإن بان أن المال كان موجودا قبل فك الحجر الأول عنه.. قال الجويني: اختص به الغرماء الأولون دون الآخرين؛ لأن المال كان موجودا تحت الحجر الأول، وإن اكتسب هذا المال بعد فك الحجر الأول.. اشترك به الغرماء الأولون والآخرون على قدر ديونهم.
وقال مالك: (يختص به الغرماء الآخرون) .
دليلنا: أن حقوقهم مستوية في الثبوت في الذمة حال الحجر، فأشبه غرماء الحجر الأول

[مسألة: المكتري أحق الغرماء بالمنفعة]
وإن أكرى داره أو عبده من رجل مدة، ثم أفلس المكري قبل انقضاء المدة.. فإن المكتري أحق بالمنفعة من الغرماء؛ لأنه قد ملك المنفعة بعقد الإجارة قبل الحجر، فكان أحق بها، كما لو باع شيئا من ماله، ثم أفلس، فإن أراد المكتري فسخ الإجارة.. لم يكن له ذلك؛ لأن الفسخ إنما يكون في الموضع الذي يدخل عليه الضرر ولا يصل إلى كمال حقه، وهاهنا يصل إلى كمال حقه، فلم يكن له الفسخ.
فإن انهدمت الدار، أو مات العبد قبل انقضاء مدة الإجارة.. انفسخت الإجارة فيما بقي من المدة، فإن كانت الأجرة لم تقبض.. سقط منها بقسط ما بقي من المدة، وإن كانت قد قبضت، فإن كانت باقية.. رجع منها بما يخص ما بقي من المدة، وإن كانت تالفة.. تعلق ذلك بذمة المفلس، ثم ينظر فيه:
فإن كان ذلك قبل قسمة مال المفلس.. شاركهم المكتري، وضرب معهم بأجرة ما بقي.
وإن كان ذلك بعد القسمة.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يشاركهم؛ لأن حق المكتري كان متعلقا بالمنفعة، فلما تلفت العين المكراة.. عاد حقه إلى ذمة المفلس بعد القسمة، فلم يشارك الغرماء، كما لو استدان بعد الحجر.

(6/204)


والثاني: يشاركهم، وهو الصحيح؛ لأن سبب وجوبه كان قبل الحجر، فشاركهم، كما لو انهدمت الدار، ومات العبد قبل القسمة، ويخالف إذا استدان بعد الحجر، فإن ذلك لم يستند إلى سبب قبل الحجر، فلذلك لم يشاركهم.
والله أعلم

(6/205)


[باب الحجر]
الحجر - في اللغة -: المنع والحظر والتضييق.
قال الله تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 22] [الفرقان: 22] ، أي: حراما محرما. وقَوْله تَعَالَى {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر: 5] [الفجر: 5] ، أي: لذي عقل، وسمى العقل: حجرا؛ لأنه يمنع صاحبه من فعل القبيح، وسمي حجر البيت: حجرا؛ لأنه يمنع من الطواف فيه.
وكذلك هو في الشرع، وإنما سمي: المحجور عليه؛ لأنه ممنوع من التصرف بماله، والمحجور عليهم ثمانية: خمسة حجر عليهم لحق غيرهم، وثلاثة حجر عليهم لحق أنفسهم:
فأما الخمسة المحجور عليهم لحق غيرهم: فالمفلس حجر عليه لحق الغرماء، والمريض لحق الورثة، والعبد القن، والمكاتب لحق السيد، والمرتد لحق المسلمين.
وأما الثلاثة المحجور عليهم لحق أنفسهم: فالصبي، والمجنون، والسفيه، وهذا موضع ذكرهم.
والأصل في ثبوت الحجر على الصبي: قَوْله تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] [النساء: 6] . و (الابتلاء) : الاختبار.
قال الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [الملك: 2] [الملك: 2] ، أي:

(6/206)


ليختبركم. و (اليتيم) : من مات أبوه، وهو دون البلوغ.
قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يتم بعد الحلم» .
وقَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6] [النساء: 6] ، أراد به: البلوغ، فعبر عنه به؛ لأنه يشتهي عند البلوغ. وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] [النساء: 6] . أي: علمتم منهم رشدا، فوضع الإيناس موضع العلم، كما وضع الإيناس موضع الرؤية في قَوْله تَعَالَى: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص: 29] [القصص: 29] ، أي: رأى.
قال الشافعي: (فلما علق الله تعالى دفع المال إلى اليتيم بالبلوغ وإيناس الرشد.. علمنا أنه قبل البلوغ ممنوع من ماله، محجور عليه فيه) .
والدليل على ثبوت الحجر على السفيه والصبي والمجنون أيضا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] [البقرة: 282] . والسفيه يجمع المبذر بماله، والمحجور عليه لصغر. والضعيف يجمع الشيخ الكبير الفاني، والصغير والمجنون، فأخبر الله تعالى: أن هؤلاء ينوب عنهم أولياؤهم فيما لهم وعليهم، فدل على ثبوت الحجر عليهم.

[مسألة: الولاية للأب إن كان عدلا]
إذا ملك الصبي مالا.. فإن الذي ينظر في ماله أبوه إذا كان عدلا، فإن عدم الأب، أو كان ممن لا يصلح للنظر.. كان النظر إلى الجد أب الأب إذا كان عدلا؛ لأنها ولاية في حق الصغير، فقدم الأب والجد فيها على غيرهما، كولاية النكاح، فإن مات الأب وأوصى إلى رجل بالنظر في مال الابن، وهناك جد يصلح للنظر.. ففيه وجهان:
المذهب: أنه لا تصح الوصية إليه، بل النظر إلى الجد.
والثاني - حكاه في " الإبانة " [ق \ 275] ، وبه قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن النظر

(6/207)


إلى الوصي؛ لأنه قائم مقام الأب) . وليس بشيء؛ لأن الجد يستحق الولاية بالشرع، فكان أحق من الوصي.
فإن لم يكن أب ولا جد. نظر الوصي من قبلهما، فإن لم يكونا ولا وصيهما.. فهل تستحق الأم النظر؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: تستحق النظر في مال ولدها؛ لأنها أحد الأبوين، فاستحقت النظر في مال الولد، كالأب.
والثاني - وهو المذهب -: أنه لا ولاية لها، بل النظر إلى السلطان؛ لأنها ولاية بالشرع، فلم تستحقها الأم، كولاية النكاح، ولأن قرابة الأم لا تتضمن تعصيبا، فلم تتضمن ولاية، كقرابة الخال.
فإذا قلنا بقول الإصطخري.. فهل يستحق أبوها وأمها الولاية عند عدمها؟ فيه وجهان، حكاهما الصيمري.

[مسألة: لا يحق للناظرالتصرف بمال القاصر]
مسألة: [لا يحق للناظر التصرف بمال القاصر] : ولا يجوز للناظر في مال الصبي أن يعتق منه عليه، ولا أن يكاتب، ولا أن يهب، ولا أن يحابي في البيع؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] [الأنعام: 152] . وليس في شيء من هذه الأشياء أحسن.

[فرع: الاتجار بمال اليتيم ونحوه]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وأحب أن يتجر الوصي بأموال من يلي عليه، ولا ضمان عليه) .
وجملة ذلك: أنه يجوز للناظر في مال الصبي أن يتجر في ماله، سواء كان الناظر له أبا، أو جدا، أو وصيا، أو أمينا من قبل الحاكم؛ لما روى عبد الله بن عمرو

(6/208)


- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ولي يتيما، وله مال.. فليتجر له، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة» ، ولأن ذلك أحظ للمولى عليه؛ لتكون نفقته من الربح، كما يفعل البالغون؛ هكذا قال عامة أصحابنا، إلا الصيمري، فإنه قال: لا يتجر له في هذا الزمان؛ لفساده وجور السلطان على التجار، بل يشتري له الأرض، أو ما فيه منفعة، فإن اتجر له.. لم يتجر له إلا في طريق مأمون، ولا يتجر له في البحر؛ لأنه مخوف.
فإن قيل: فقد روي: (أن عائشة أم المؤمنين أبضعت أموال بني محمد بن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في البحر) .
قلنا: يحتمل أن يكون ذلك في موضع مأمون قريب من الساحل، أو يحتمل أنها فعلت ذلك وجعلت ضمانه على نفسها إن هلك.
قال الصيمري: ولا يبيع له إلا بالحال، أو بالدين على ملي ثقة.

[مسألة: جواز شراء العقار للقاصر]
ويجوز أن يبتاع له العقار؛ لأنه أقل غررا من التجارة، ولأنه ينتفع بغلته مع بقاء أصله.
قال أبو علي في " الإفصاح ": ولا يشتريه إلا من ثقة أمين يؤمن جحوده في

(6/209)


التالي، وحيلته في إفساد البيع، ولا يبتاعه في موضع قد أشرف على الهلاك بزيادة ماء، أو فتنة بين طائفتين؛ لأن في ذلك تغريرا بماله، ويجوز له أن يبنى له العقار إن احتاج إليه، إلا أن يكون الشراء أحظ له، فيشتري له ذلك.
وإذا احتاج إلى البناء.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (بنى له بالآجر والطين، ولا يبني له باللبن والجص؛ لأن اللبن يهلك، والآجر يبقى، والجص يلتزق بالآجر، فربما احتيج إلى نقض شيء من الآجر فلا يتخلص من الجص، ولأن الجص يجحف به، والطين لا يجحف به) .
قلت: وهذا في البلاد التي يعز فيها وجود الحجارة، فإن كان في بلد يوجد فيها الأحجار.. كانت أولى من الآجر؛ لأنها أكثر بقاء، وأقل مونة.

[فرع: ما يباع فيه عقار الصبي]
وإن ملك الصبي عقارا.. لم يبع عليه إلا في موضعين:
أحدهما: أن يكون به حاجة إليه، للنفقة والكسوة، وليس له غيره، ولا تفي غلته بذلك، ولا يجد من يقرضه، فيجوز بيعه.
والثاني: أن يكون له في بيعه غبطة، وهو أن تكون له شركة مع غيره، أو بجوار غيره، فيبذل له الغير بذلك أكثر من قيمته، ويؤخذ له مثل ذلك بأقل مما باع به،

(6/210)


فيجوز له بيع العقار عليه لذلك، إذا كان له عقار قد أشرف على الهلاك بالغرق، أو بالخراب، أو بالفتنة.. فيجوز له بيعه عليه؛ لأن النظر له في ذلك البيع.
فإذا باع الأب أو الجد عليه عقارا، فرفع ذلك إلى الحاكم، وسأله إمضاءه، والإسجال له عليه.. أمضاه وأسجل له عليه؛ لأن الظاهر من حالهما أنهما لا يبيعان له إلا فيما له فيه حظ، وهل يحتاج الحاكم إلى ثبوت عدالتهما عنده؟
قال ابن الصباغ: سمعت القاضي أبا الطيب يقول: فيه وجهان:
أحدهما: لا يحتاج إلى ذلك، بل يكتفى بالعدالة الظاهرة، كما قلنا في شهود النكاح.
والثاني: يحتاج إلى ذلك لثبوت ولايتهما عنده، كما يحتاج إلى ثبوت عدالة الشهود عنده.
وأما إذا رفع الوصي، أو أمين الحاكم البيع إليه، وسأل الإسجال على بيعه وإمضاءه.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو المشهور -: أنه لا يمضى ذلك حتى تقوم عنده البينة على الحظ أن الغبطة له؛ لأن غير الأب والجد تلحقه التهمة، فلم يقبل قوله من غير بينة، بخلاف الأب والجد.
والثاني - ذكره القاضي أبو الطيب في " المجرد " -: أنه يقبل قولهما من غير بينة، كالأب والجد.
قال ابن الصباغ: وهذا له عندي وجه؛ لأنه إذا جاز لهما التجارة في ماله، فيبيعان ويشتريان، ولا يعترض الحاكم عليهما.. جاز أيضا في العقار.
فإن بلغ الصبي وادعى أن الأب أو الجد باع عليه عقاره من غير غبطة ولا حاجة، فإن أقام بينة على ما ادعاه.. حكم له به، وإن لم يقم بينة.. فالقول قول الأب أو الجد مع يمينه.

(6/211)


وإن باع غير الأب أو الجد عليه، كالوصي وأمين الحاكم، فلما بلغ الصبي، ادعى أنه باع عليه من غير غبطة ولا ضرورة، فإن أقام بينة.. حكم له، وإن لم يقم بينة.. لم يقبل قول الوصي والأمين من غير بينة؛ لأن التهمة تلحقه، ولهذا لا يجوز له أن يشتري مال المولى عليه من نفسه، فلم يقبل قوله من غير بينة، بخلاف الأب والجد.

[فرع: يع شقص الصبي]
فرع: [بيع شقص الصبي] :
وإن بيع شقص في شركة الصبي، فإن كان للصبي حظ في الأخذ، بأن كان له مال يريد أن يشتري له به عقارا.. أخذ له بالشفعة، وإن كان الحظ له بالترك، بأن كان لا مال له يريد أن يشتري له به، أو كان ذلك في موضع قد أشرف على الهلاك، أو بيع بأكثر من قيمته.. لم يأخذه له بالشفعة. فإن أخذ له الولي في موضع يرى له الحظ في الأخذ، فبلغ الصبي، وأراد أن يرد ما أخذ له الولي.. لم يملك ذلك؛ لأن ما فعله الولي مما فيه الحظ.. لا يملك الصبي بعد بلوغه رده.
وإن ترك الولي الأخذ له في موضع رأى الحظ له في الترك، فأراد الصبي بعد بلوغه أن يأخذه.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: له ذلك؛ لأنه بعد بلوغه يملك التصرف فيما له فيه حظ، وفيما لا حظ له فيه.
و [الثاني]- المنصوص -: (أنه ليس له ذلك) ؛ لأن الولي قد اختار الترك بحسن نظره، فلم يكن له نقض ذلك، كما لو أخذ له، والحظ في الأخذ.. فإنه لا يملك الصبي بعد البلوغ الرد.
فإن ادعى بعد البلوغ أن الولي أخذ، والحظ في الترك، أو ترك، والحظ في الأخذ، فإن أقام بينة على ذلك.. حكم له به، وإن لم يقم بينة، فإن كان الولي أبا أو جدا.. فالقول قولهما مع يمينهما، وإن كان غيرهما من الأولياء.. لم يقبل قوله من غير بينة؛ لما ذكرناه من الفرق قبل هذا.

(6/212)


[مسألة: يبع مال المحجور نسيئة]
مسألة: [لا يبع مال المحجور نسيئة] :
ولا يبيع ماله بنسيئة من غير غبطة، فإن كانت له سلعة يريد بيعها، وهي تساوي مائة نقدا، ومائة وعشرين نسيئة، فإن باعها بمائة نسيئة.. لم يصح بيعها، سواء أخذ بها رهنا أو لم يأخذ؛ لأن ذلك دون ثمن المثل، وإن باعها بمائة نقدا، وبعشرين نسيئة، وأخذ بالعشرين رهنا.. جاز؛ لأنه قد زاده خيرا، وإن باعها بمائة وعشرين نسيئة، ولم يأخذ بها رهنا.. لم يجز له؛ لأنه غرر بماله، وإن باعها بمائة وعشرين نسيئة، وأخذ بالجميع رهنا.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن في ذلك تغريرا بالمال، وقد يتلف الرهن.
والثاني: يصح، وهو قول أبي إسحاق، وأكثر أصحابنا؛ لأنه مأمور بالتجارة، وطلب الربح، ولا يمكنه إلا بذلك.
فعلى هذا: يشترط أن يكون المشتري ثقة مليئا؛ لأنه إذا لم يكن ثقة.. ربما رهنه ما لا يملكه، وإذا لم يكن مليئا.. فربما تلف الرهن، فلا يمكن استيفاء الحق منه، ويشترط أن يكون الرهن يفي بالدين، أو أكثر منه؛ لأنه ربما أفلس، أو تلف ما في يده، فإذا لم يمكن استيفاء الحق من الرهن.. كان وجود الرهن كعدمه. وهل يشترط الإشهاد مع ذلك؟ فيه وجهان، حكاهما الصيمري.

[فرع: لا يرهن مال الصبي]
قال الصيمري: ولا يجوز أن يشتري له متاعا بالدين، ويرهن من ماله؛ لأن الدين مضمون، والرهن أمانة، فإن فعل.. كان ضامنا.

[مسألة: يسافر بمال الصغير]
مسألة: [لا يسافر بمال الصغير] :
ولا يجوز أن يسافر بماله من غير ضرورة؛ لأن في ذلك تغريرا بالمال، وقد روي: (أن المسافر ومتاعه وماله على قلة) . قلت: أي: على هلاك، فإن دعت

(6/213)


إليه ضرورة، بأن خاف من نهب، أو غرق، أو حريق.. جاز أن يسافر به إلى حيث يأمن عليه؛ لأن ذلك موضع ضرورة.

[مسألة: إيداع مال الصغير عند الضرورة]
مسألة: [جواز إيداع مال الصغير عند الضرورة] . فإن خاف على ماله من نهب، أو غرق، أو حريق، ولم يقدر الولي على المسافرة به، أو أراد الولي السفر إلى موضع لا يمكنه نقل المال إليه، أو يحتاج في نقله إلى مؤنة مجحفة.. جاز أن يودعه، أو يقرضه في هذه الأحوال، فإن قدر على الإيداع دون الإقراض.. أودعه ثقة، وإن قدر على الإقراض دون الإيداع.. أقرضه ثقة مليئا، وأشهد عليه؛ لأن غير الثقة يجحد، وغير المليء لا يمكن أخذ الحق منه، فإن رأى الحظ في أخذ الرهن.. أخذه، وإن رأى الحظ في ترك الرهن.. لم يأخذه، بأن يكون الموضع مخوفا، أو كان الولي ممن يرى سقوط الحق بتلف الرهن؛ لأنه لا حظ له في أخذ الرهن مع ذلك، وإن قدر على الإقراض والإيداع.. فالإقراض أولى؛ لأنه مضمون ببدل، والوديعة غير مضمونة، فإن أودع مع القدرة على الإقراض.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأن كل واحد منهما يجوز، فخير بينهما.
والثاني: لا يجوز؛ لأن الإقراض أحظ له، فإذا ترك الأحظ.. ضمن.

[فرع: الاقتراض لليتيم عند الحاجة]
فأما الاقتراض له.. فيجوز إذا دعت إلى ذلك حاجة للنفقة عليه، أو الكسوة، أو النفقة على عقاره المستهدم، إذا كان له مال غائب يتوقع وروده، أو ثمرة ينتظرها تفي بذلك، وإن لم يكن له شيء ينتظر.. فلا حظ له في الاقتراض، بل يبيع عليه شيئا من أصوله ويصرفه في نفقته.
قال ابن الصباغ: وينبغي إذا لم يجد من يقرضه، ووجد من يبيعه شيئا بنسيئة،

(6/214)


وكان أحظ له من بيع أصوله.. أن يجوز له أن يشتريه له، ويرهن شيئا من ماله، وكذلك إذا اقترض له، ورهن شيئا من ماله.. جاز، ولكن لا يرهن إلا عند ثقة.

[مسألة: الإنفاق على القاصر]
] : وينفق عليه ويكسوه من غير إسراف، ولا إقتار؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] [الفرقان: 67] .
وإن كان الصبي مكتسبا.. قال أبو إسحاق المروزي: أجبره الولي على الاكتساب لنفقته، وحفظ عليه ماله؛ لأن ذلك أحظ له.

[فرع: خلط نفقة الوصي والموصى له]
فإن رأى الولي أن الحظ للمولى عليه بخلط نفقته مع نفقته، بأن كان إذا خلط دقيقه بدقيقه.. كان أرفق به في المؤنة، وأكثر له في الخبز.. جاز له الخلط؛ لما روي: أنه لما نزل قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] [النساء: 10] .. تجنب أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليتامى، وأفردوهم عنهم، فنزل قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ} [البقرة: 220] [البقرة: 220] ، أي لضيق عليكم؛ لأن (العنت) : الضيق.

(6/215)


وإن كان الحظ له في إفراده.. لم تجز الخلطة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] [الأنعام: 152] .

[فرع: اختلاف الوصي والموصى له عند الرشد]
فإن بلغ الصبي، واختلف هو والولي في قدر نفقته، فإن كان الولي أبا أو جدا، فإن ادعى أنه أنفق زيادة على النفقة بالمعروف.. لزمهما ضمان تلك الزيادة؛ لأنه مفرط، وإن ادعيا النفقة بالمعروف.. فالقول قولهما مع أيمانهما؛ لأنهما غير متهمين. وأما إذا كان الولي غيرهما، كالوصي، وأمين الحاكم، وادعيا النفقة بالمعروف.. فهل يقبل قولهما من غير بينة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يقبل قولهما من غير بينة، كما لا يقبل ذلك منهما في دعوى بيع العقار.
والثاني: يقبل قولهما مع أيمانهما.
قال ابن الصباغ: وهو الأصح؛ لأن إقامة البينة على ذلك تتعذر، بخلاف البيع، فإنه لا يتعذر عليه إقامة البينة.

[مسألة: بيع الوصي متاعا للموصى له]
ويجوز للأب والجد أن يبيعا مالهما من الصبي، ويشتريا ماله بأنفسهما إذا رأيا الحظ له في ذلك؛ لأنهما لا يتهمان في ذلك.
قال الصيمري: فيحتاج أن يقول: قد اشتريت هذا لنفسي من ابني بكذا، وبعت ذلك عليه، فيجمع بين لفظ البيع والشراء. قال: وغلط بعض أصحابنا، فقال: تكفيه النية في ذلك من غير قول؛ لأنه لا يخاطب نفسه. وليس بشيء؛ لأنا قد أقمناه مقام المشتري في لفظ الشراء، ومقام البائع في لفظ البيع.
ولو احتاج إلى قرض، فأقرضه أبوه أو جده، وأخذ من ماله رهنا.. قال الصيمري: ففيه وجهان:

(6/216)


الأصح: أنه يجوز، إلا أن يكون أقرضه متطوعا، ثم أحب أن يأخذ بعد ذلك منه رهنا، فلا يكون له.
وأما غير الأب والجد من الأولياء، كالوصي، وأمين الحاكم.. فلا يجوز أن يبيع ماله من الصبي ويتولى طرفي العقد، ولا يجوز أن يشتري ماله بنفسه؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يشتر الوصي من مال اليتيم» ، ولأن غير الأب والجد يتهم في ذلك، فلم يجز.

[مسألة: أكل الولي من مال اليتيم]
وإن أراد الولي أن يأكل من مال المولى عليه، فإن كان الولي غنيا.. لم يجز له أن يأكل منه، وإن كان فقيرا ويقطعه العمل على مال المولى عليه من الكسب لنفسه.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فله أن يأخذ من ماله أقل الأمرين من كفايته، أو أجرة عمله) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] [النساء: 6] . فمعني قَوْله تَعَالَى: {وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6] ، أي: لا تأكلوا أموال اليتامى مبادرة لئلا يكبروا، فيأخذوها، ولأنه يستحق ذلك بالعمل والحاجة. هكذا ذكر عامة أصحابنا.
وذكر في " المهذب ": أنه إذا كان فقيرا.. جاز له الأكل من غير تفصيل. ولعله أراد بإطلاقه ما ذكر غيره. وهل يضمن الولي ما أكله بالبدل؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب عليه ضمانه في ذمته؛ لأنه استباحه للحاجة من مال غيره، فوجب عليه قضاؤه، كمن اضطر إلى طعام غيره.

(6/217)


والثاني: لا يجب عليه ضمانه؛ لأن الله تعالى أباح له الأكل، ولم يوجب الضمان، ولأن ذلك استحقه بعمله في ماله، فلم يلزمه رد بدله، كالمستأجر.

[مسألة: متى يفك الحجر عن الصبي]
ولا يفك الحجر عن الصبي حتى يبلغ، ويؤنس منه الرشد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] [النساء: 6] . فأمر بدفع أموالهم إليهم بشرطين:
أحدهما: البلوغ، وعبر عنه ببلوغهم النكاح؛ لأنه يشتهي بالبلوغ.
والثاني: إيناس الرشد، والمراد بالإيناس: العلم بالرشد، كما قال تعالى: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص: 29] [القصص: 29] وأراد به: الرؤية
إذا ثبت هذا: فإن البلوغ يحصل بأحد خمسة أشياء، ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء، وهي الإنزال، والسن، والإنبات، واثنتان تختص بهما النساء دون الرجال، وهما: الحيض والحمل.
فأما الإنزال: فمتى خرج منه المني، وهو الماء الأبيض الدافق الذي يخلق منه الولد في الجماع، أو في النوم، أو اليقظة.. فهو بلوغ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59] [النور: 59] . فلما أمر الأطفال بالاستئذان إذا احتلموا.. دل على أنهم قد بلغوا؛ لأن قبل ذلك لم يكونوا يستأذنون.
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم» .
وروي «عن عطية القرظي: أنه قال: عرضنا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمن كان محتلما، أو نبتت عانته.. قتل» فلو لم يكن بالغا.. لما قتل.

(6/218)


قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 276] : وهل يكون الاحتلام من الصبية بلوغا؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يكون بلوغا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وعن الصبي حتى يحتلم» . فخص الصبي بالاحتلام.
والثاني - وهو طريقة أصحابنا البغداديين -: أنه بلوغ؛ لما «روت أم سليم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل، فقالت أم المؤمنين عائشة: فضحت النساء، أويكون ذلك؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فيم الشبه؟ إذا رأت ذلك.. فلتغتسل» فأمرها بالاغتسال، فثبت أنها مكلفة.
وأما السن: فهو أن يستكمل الرجل أو المرأة خمس عشرة سنة.
وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق \ 276] وجها لبعض أصحابنا: أن البلوغ يحصل بالطعن في أول سنه الخمس عشرة سنة.
والأول أصح، وبه قال أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا يبلغ الغلام إلا لتسع عشرة سنة) . وهي رواية محمد عنه، وهو الصحيح. وفي رواية الحسن اللؤلؤي عنه: (إذا بلغ ثماني عشرة سنة، وأما الجارية: فتبلغ إذا بلغت سبع عشرة سنة) .

(6/219)


وقال مالك، وداود: (ليس للسن حد في البلوغ) .
دليلنا: ما «روى ابن عمر قال: (عرضت على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام بدر، وأنا ابن ثلاث عشرة سنة، فردني، وعرضت عليه عام أحد، وأنا ابن أربع عشر سنة، فردني، وعرضت عليه عام الخندق، وأنا ابن خمس عشر سنة، فأجازني في المقاتلة» ولا يجاز في المقاتلة إلا بالغ، فدل على ما قلناه.
وروى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا استكمل الغلام خمس عشرة سنة.. كتب ما له وما عليه، وأخذت منه الحدود» .
وأما الإنبات: فهو نبات الشعر القوي الذي يحتاج إلى الموسى، لا الزغب الأصفر حول الذكر، وحول الفرج، ولا يختلف المذهب: أنه إذا نبت ذلك للكافر..

(6/220)


حكم ببلوغه، وهل هو بلوغ فيه، أو دلالة على البلوغ؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه بلوغ في نفسه؛ لأن ما حكم به بالبلوغ.. كان بلوغا في نفسه، كالاحتلام.
والثاني: أنه ليس ببلوغ في نفسه، وإنما هو دلالة على البلوغ؛ لأن العادة جرت أنه لا يظهر إلا في وقت البلوغ.
فإذا قلنا: إنه بلوغ في حق الكافر.. كان بلوغا في حق المسلم؛ لأن ما كان بلوغا في حق الكافر.. كان بلوغا في حق المسلم، كالاحتلام.
وإذا قلنا: إنه ليس ببلوغ في حق الكافر، وإنما هو دلالة على البلوغ.. فهل يجعل ذلك دلالة في حق المسلم؟
منهم من قال: فيه وجهان، ومنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: أنه دلالة على بلوغه؛ لأن ما كان دلالة على البلوغ في حق الكافر.. كان دلالة وعلما على البلوغ في حق المسلم، كالحمل.
والثاني: أنه لا يكون دلالة على بلوغ المسلم؛ لأنه يمكن الرجوع إلى معرفة سن المسلم؛ لأنه مولود بين المسلمين، ولا يمكن ذلك في سن الكافر، فلذلك جعل الإنبات علما على بلوغه، ولأن الإنبات قد يستدعى بالدواء قبل أوانه، فالمسلم قد يتهم بأنه قد يعالج نفسه للإنبات؛ لأنه يستفيد بذلك زوال الحجر عنه، وكمال تصرفه، وقبول شهادته، والكافر لا يتهم بذلك؛ لأنه لا يستفيد بذلك إلا وجوب القتل، وضرب الجزية. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (الإنبات لا يكون بلوغا، ولا دلالة على البلوغ في حق المسلم والكافر) .
دليلنا: ما «روى عطية القرظي: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم سعد بن معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في بني قريظة، فحكم بسبي ذراريهم، ونسائهم، وقسم أموالهم، وقتل من جرت عليه الموسى، فأمر أن يكشف عن مؤتزريهم، فمن أنبت منهم.. فهو من المقاتلة، ومن لم ينبت.. فهو من الذراري، فبلغ ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لقد حكمت

(6/221)


فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» ، يعني سبع سماوات، الواحدة منها: رقيع.
قال الصيمري: وكيف يعرف الإنبات؟ قيل: يدفع إليهم شمع أو طين رطب يلزقونه على الموضع. وقيل: يلمس ذلك من فوق ثوب ناعم. وقيل: يكشف حالا بعد حال، وهو الصحيح؛ لأن سعدا أمر بكشف بني قريظة.
وأما خضرة الشارب، ونزول العارضين، ونبات اللحية، وخشونة الحلق، وقوة الكلام، وانفراج مقدم الأنف، ونهود الثديين.. فليس شيء من ذلك بلوغا؛ لأنه قد يتقدم على البلوغ، وقد يتأخر عنه.
وأما الحيض: فهو بلوغ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة امرأة تحيض إلا بخمار» . فجعلها مكلفة بوجود الحيض، فدل على أنه بلوغ.
وأما الحمل: فإنه ليس ببلوغ في نفسه، وإنما هو دلالة على البلوغ، فإذا حملت المرأة.. علمنا أنها قد خرج منها المني؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 7] [الطارق: 6-7] . قيل في التفسير: يخرج ماء الرجل من صلبه، وماء المرأة من صدرها، ولقوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان: 2] [الإنسان: 2] ، يعني: أخلاطا، فإذا وضعت المرأة الحمل.. حكمنا بأنها قد بلغت قبل الوضع بستة

(6/222)


أشهر إن كانت ذات زوج، أو سيد؛ لأن ذلك أقل مدة الحمل، وإن كانت مطلقة فأتت بولد، يلحق الزوج.. حكمنا أنها كانت بالغة قبل الطلاق.

[فرع: بلوغ الخنثى]
وأما الخنثى المشكل: فإذا استكمل خمس عشرة سنة، أو نبت له الشعر الخشن على عانته.. حكم ببلوغه؛ لأنه يستوي في ذلك الرجل والمرأة، وإن حمل زال إشكاله وبان أنه امرأة، وحكم بأنه بالغ قبل الوضع بستة أشهر، وإن خرج المني منه من أحد الفرجين.. لم يحكم ببلوغه؛ لجواز أن يكون خرج من الفرج الزائد، وإن خرج منه الدم من فرج النساء.. لم يحكم ببلوغه؛ لجواز أن يكون رجلا، وهذا عضو زائد، وإن خرج منه المني من الفرجين.. حكم ببلوغه؛ لأن خروج المني من فروج الرجال والنساء بلوغ.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن حاض وأمنى.. لم يبلغ) . واختلف أصحابنا فيه:
فقال الصيمري: إذا حاض من فرج النساء، وأمنى من فرج الرجال.. لم يحكم ببلوغه.
وقال الشيخ أبو حامد، وعامة أصحابنا: يحكم ببلوغه؛ لأنه إن كان رجلا.. فقد احتلم، وإن كانت امرأة.. فقد حاضت، وما ذكره الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فله تأويلان:
أحدهما: أنه أراد: إذا أمنى وحاض من فرج واحد.
والثاني: أنه أراد: حاض أو أمنى.
فإن قيل: هلا جعلتم خروج المني منه من أحد الفرجين دليلا على بلوغه، كما جعلتم خروج البول دليلا على ذكوريته، أو أنوثيته؟

(6/223)


فالجواب: أن البول لا يخرج إلا من الفرج المعتاد، والمني قد يخرج من المعتاد وغيره.

[مسألة: الإيناس بالرشد]
وأما إيناس الرشد: فهو إصلاح الدين والمال. (فإصلاح الدين) : أن لا يرتكب من المعاصي ما ترد به شهادته. وأما (إصلاح المال) : أن لا يكون مبذرا.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (إذا بلغ الرجل مصلحا لماله.. دفع إليه ماله وإن كان مفسدا لدينه) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] [النساء: 6] .
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (الرشد: العقل، والحلم، والوقار) . والحلم والوقار لا يكون إلا لمن كان مصلحا لماله ودينه، وكذا روي عن الحسن في تفسيرها: أنه قال: وإصلاح في ماله، إصلاح في دينه، ولأن إفساده لدينه يمنع رشده، والثقة في حفظ ماله، كما أن الفسق في الدين يمنع من قبول قوله وإن عرف منه الصدق في القول.
إذا ثبت هذا: فبلغ غير مصلح لماله ولدينه.. فإنه يستدام عليه الحجر وإن صار شيخا. وبه قال مالك، وأبو يوسف، ومحمد رحمة الله عليهم.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا بلغ غير مصلح لماله.. لم يدفع إليه ماله، لكن إن تصرف فيه ببيع أو عتق أو غيره.. نفذ تصرفه، فإذا بلغ خمسا وعشرين سنة.. انفك عنه الحجر، ودفع إليه ماله وإن كان مفسدا لدينه وماله؛ لأنه قد آن له أن يصير جَدا؛ لأنه قد يبلغ باثنتي عشرة سنة، فيتزوج، ويولد له، ويبلغ ولده باثنتي عشرة سنة، ويولد له. قال: وأنا أستحيي أن أمنع الجد ماله) .

(6/224)


دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] [النساء: 6] . فأمر بدفع المال إليهم بالبلوغ، وبإيناس الرشد، وقد بينا الرشد ما هو. وهذا لم يؤنس منه الرشد، فلم يفك عنه الحجر، ولم يدفع إليه ماله، كما لو كان ابن أربع وعشرين سنة.
وأما قوله: (إنه قد آن له أن يصير جدا) فلا اعتبار لكونه جدا، ألا ترى أن المجنون يستدام عليه الحجر ما دام مجنونا وإن كان جدا؟
إذا ثبت هذا: فإنه ينظر بماله من كان ينظر فيه قبل البلوغ؛ لأنه حجر ثبت عليه من غير حاكم، فكان إلى الناظر فيه قبل البلوغ، كالنظر في مال الصغير.

[فرع: اختبار البائع]
وأما إصلاح المال: فلا يعلم إلا بالاختبار، وفي وقت الاختبار وجهان:
أحدهما: لا يصح إلا بعد البلوغ؛ لأن الاختبار: أن يدفع إليه المال ليبيع ويشتري فيه وينفقه، وهذا لا يصح إلا بعد البلوغ، وأما قبل ذلك: فهو محجور عليه للصغر.
والثاني: يصح قبل البلوغ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] [النساء: 6] . وهذا يقتضي أن يكون الاختبار قبل بلوغ الاختبار، ولأن تأخير النكاح إلى البلوغ يؤدي إلى الحجر على رشيد؛ لأنه قد يبلغ مصلحا لماله ودينه، فلو قلنا: إن الاختبار لا يجوز إلا بعد البلوغ.. لاستديم الحجر على رشيد، ومنع من ماله؛ لأنه لا يدفع إليه، إلا بعد الاختبار.
فإذا قلنا بهذا: فكيف يختبر بالبيع والشراء؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يأمره الولي أن يساوم في السلع، ويقرر الثمن، ولا يتولى العقد؛ لأن عقد الصبي لا يصح، ولكن يعقد الولي.
و [الثاني] : منهم من قال: يشتري الولي سلعة، ويدعها بيد البائع، ويواطئه على بيعها من الصبي، فإن اشتراها منه بثمنها.. عرف رشده.

(6/225)


و [الثالث] : منهم من قال: يجوز عقد الصبي؛ لأنه موضع ضرورة، وأما كيفية الاختبار:
فإن كان من أولاد التجار والسوقة الذين يخرجون إلى السوق.. فاختباره: أن يدفع إليه شيء من ماله ليبيع ويشتري في السوق، فإن كان ضابطا حازما في البيع والشراء.. علم رشده، وإن كان يغبن بما لا يتغابن الناس بمثله.. فهو غير رشيد.
وإن كان من أولاد الملوك والكبار والنبلاء والتناء الذين يصانون عن الأسواق.. قال الشيخ أبو حامد: واختبارهم أصعب من الأول، واختبار الواحد منهم: أن يدفع إليه شيء من المال، ويجعل إليه نفقة الدار مدة شهر، وما أشبهه، للخبز والماء والملح واللحم، فإن كان ضابطا حافظا يحسن إنفاق ذلك.. علم رشده، وإن كان غير ضابط.. لم يعلم رشده.
قال الصيدلاني: وولد التناء يختبر بالزراعة، هذا إذا كان المختبر غلاما، فإن كان امرأة.. قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: لا تختبر بالبيع ولا الشراء؛ لأن العادة جرت أنها لا تباشر ذلك، وإنما تختبر البنت بأن يدفع إليها شيئا من المال، ويجعل نساء ثقات يشرفن على فعلها، وتؤمر بإنفاق ذلك في الخبز والماء والملح واللحم، كما يختبر من يصان عن الأسواق من الرجال، ويضاف إلى هذا شراء القطن والغزل؛ لأن هذا من عمل النساء.
وقال الصيمري: إن كانت متبذلة تعامل التجار والصناع.. اختبرت بالبيع والشراء أيضا. قال الصيمري: ولا يعلم رشده حتى يتكرر ذلك منه التكرر الذي يؤمن أن يكون ذلك اتفاقا.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 277] : ولا يضمن الولي المال الذي يدفعه إليه للاختبار؛ لأن ذلك موضع حاجة إليه.

(6/226)


[فرع: بلغت راشدة]
إذا بلغت المرأة مصلحة لمالها ودينها.. فك عنها الحجر، ودفع إليها مالها، سواء تزوجت أو لم تتزوج، وكان لها التصرف بجميع مالها بغير إذن زوجها، وبه قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال مالك: (لا ينفك عنها الحجر حتى تتزوج، ويدخل بها، وإذا تزوجت.. لم يجز لها أن تتصرف بأكثر من ثلث مالها بغير معاوضة إلا بإذن زوجها) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب في العيد، فلما فرغ من خطبته.. أتى النساء، فوعظهن، وقال: تصدقن ولو من حليكن» ، فتصدقن بحليهن. فلو كان لا ينفذ تصرفهن بغير إذن أزواجهن.. لما أمرهن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالصدقة، ولا محالة أنه كان فيهن من لها زوج، ومن لا زوج لها.
ولأنها حرة بالغة رشيدة، فلم تمنع من مالها، كما لو تزوجت.

[مسألة: الرشد يفك الحجر]
وإذا بلغ مصلحا لماله ودينه.. فك عنه الحجر، وهل يفتقر فكه إلى الحاكم؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يفتقر إلى الحاكم؛ لأنه حجر لم يفتقر ثبوته إلى الحاكم، فلم يفتقر فكه إلى الحاكم، كالحجر على المجنون، وفيه احتراز من الحجر على السفيه.
والثاني: لا ينفك إلا بحكم الحاكم؛ لأنه يفتقر إلى نظر واجتهاد، فافتقر إلى الحاكم، كالحجر على السفيه. هذا هو المشهور.

(6/227)


وقال الصيمري: إن كان الناظر في ماله هو الأب أو الجد.. لم يفتقر إلى الحاكم، وإن كان الناظر فيه أمين الحاكم.. لم ينفك إلا بالحاكم، وإن كان الناظر فيه هو الحاكم.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يفتقر فكه إلى الحاكم، كما لو كان الناظر في ماله هو الأب أو الجد.
والثاني: يفتقر إلى الحاكم، كما لو كان الناظر فيه أمين الحاكم.

[مسألة: رشد فرفع الحجر ثم فسد]
] : إذا بلغ الصبي مصلحا لماله ودينه، ففك عنه الحجر، ودفع إليه ماله، ثم صار مفسدا لدينه وماله، أو لماله.. فإنه يعاد عليه الحجر بلا خلاف على المذهب.
أما إفساد الدين: فمعروف، وأما إفساد المال: قال الشيخ أبو حامد: فيكون بأحد أمرين:
[أحدهما] : إما بأن ينفقه في المعاصي، مثل: الزنا، وشرب الخمر، وغير ذلك.
والثاني: أن ينفقه في ما لا مصلحة له فيه، ولا غرض، مثل: أن يشتري ما يساوي درهما بمائة درهم، فأما إذا أكل الطيبات، أو لبس الناعم من الثياب، أو أنفق على الفقهاء والفقراء والصوفية.. فهذا ليس فيه إفساد المال.
وأما إذا عاد مفسدا لدينه، وهو مصلح لماله.. فهل يعاد عليه الحجر؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو العباس: يعاد عليه الحجر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] [البقرة: 282] . فأثبت

(6/228)


الولاية على السفيه، وهذا سفيه، ولأنه معنى لو قارن البلوغ.. لمنع من فك الحجر عنه، فإذا طرأ بعد فك الحجر عنه.. اقتضى إعادة الحجر عليه، كالتبذير.
و [الثاني] : قال أبو إسحاق: لا يعاد عليه الحجر؛ لأن الحجر يراد لحفظ ماله، فإن كان مصلحا لماله.. لم يعد عليه الحجر، ويخالف إذا قارن إفساد الدين البلوغ؛ لأن الحجر إذا ثبت.. لم يزل عنه إلا بأمر قوي، فكذلك إذا فك عنه الحجر.. لم يعد عليه إلا بأمر قوي. هذا مذهبنا.
وأما إذا عاد مفسدا لماله ودينه: أعيد عليه الحجر، وبه قال عثمان، وعلي، والزبير، وابن الزبير، وعبد الله بن جعفر، وعائشة أم المؤمنين رضي الله

(6/229)


عنهم، وفي التابعين: شريح، وعطاء، وفي الفقهاء: مالك، وأهل المدينة، وأهل الشام، وأبو يوسف، ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا يعاد عليه الحجر إذا سلم إليه ماله بعد خمس وعشرين سنة، سواء وجد منه إفساد المال والدين أو أحدهما) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] [البقرة: 282] .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والسفيه: هو المفسد لماله ودينه، والضعيف: هو الصبي والشيخ الفاني، والذي لا يستطيع أن يمل: هو المجنون، والسفيه: اسم ذم يتناول المبذر. فأما قَوْله تَعَالَى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} [البقرة: 142] [البقرة: 142] .. فأراد: اليهود والنصارى، وقيل أراد المنافقين. وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] [النساء: 5] . قيل: أراد به النساء، وقيل: أراد به المبذرين. وقوله جل وعز: {أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] ، أي: أموالهم، كقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] [البقرة: 188] ، أي: أموال بعضكم) . ويدل على ما ذكرناه: ما روي: «أن حبان بن منقذ أصابه في عقدته ضعف، فأتي أهله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسألوه أن يحجر عليه، فقال له

(6/230)


النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تبع"، فقال: إني لا أصبر، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من بايعته.. فقل: لا خلابة، ولي الخيار ثلاثا»
فلو كان الحجر لا يجوز على البالغ، لأنكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهم سؤالهم، وإنما لم يجبهم إلى الحجر عليه؛ لأنه يحتمل أن الذي كان يغبن به مما يتغابن الناس بمثله.
ويدل على ما ذكرناه: إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، وهو ما روى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر: (أنه اشترى أرضا سبخة بستين ألف درهم، وغبن فيها، فلقي عثمان عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فقال له: لم لا تحجر على ابن أخيك - وفي بعض الأخبار: أن عثمان قال: ما يسرني أن تكون لي بنعلي - ففزع عبد الله بن جعفر من ذلك، ومضى إلى الزبير، فأعلمه بذلك، فقال الزبير: أنا شريكك فيها، فأتى علي عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وقال له: احجر على عبد الله بن جعفر، فقال: كيف أحجر على من شريكه الزبير؟ !) . وإنما قال هذا في الزبير؛ لأنه كان معروفا بجودة التجارة والتبصر فيها، فدل على: أن الحجر جائز عندهم.
وروي: (أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كانت تنفق نفقة كثيرة، فقال ابن الزبير: لتنتهين عائشة، أو لأحجرن عليها، فبلغها ذلك، فحلفت أن لا تكلمه، فأتاها ابن الزبير، فاعتذر إليها، فكفرت عن يمينها وكلمته) . فلم ينكر عليه أحد. ونقول:

(6/231)


عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بالغة رشيدة، فكيف يحجر عليها؟!
ولأن كل معنى لو قارن البلوغ.. منع من تسليم المال إليه، فإذا طرأ بعد البلوغ اقتضى إعادة الحجر عليه، كالمجنون.

[فرع: لا حجر على شحيح]
وأما الشحيح على نفسه جدا مع يساره: فهل يحجر عليه؟ فيه وجهان، حكاهما الصيمري، الصحيح: أنه لا يحجر عليه.

[فرع: يعاد الحجر على السفيه بأمر الحاكم]
وإذا صار مبذرا بعد فك الحجر عنه.. فإنه لا يعيد الحجر عليه إلا الحاكم، وبه قال أبو يوسف. وقال محمد: يصير بذلك محجورا عليه. وهو وجه لبعض أصحابنا الخراسانيين.
دليلنا: (أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه سأل عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أن يحجر على عبد الله بن جعفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) ، فدل على: أنه لا يصير محجورا عليه إلا بالحاكم.
ولأن الحجر بالتبذير مختلف فيه، فافتقر إلى الحاكم، كمدة العنة لا تثبت إلا بالحاكم؛ لموضع الاختلاف فيه.
وإذا حجر عليه.. لم ينظر في ماله إلا الحاكم؛ لأنه حجر ثبت بالحاكم، فكان هو الناظر، كالحجر على المفلس، ويستحب أن يشهد الحاكم على ذلك، ويأمر مناديا: ألا إن الحاكم حجر على فلان؛ لئلا يغتر الناس بمعاملته.

(6/232)


[فرع: بطلان البيع والشراء وقت الحجر]
] : وإذا باع أو اشترى بعد الحجر.. كان ذلك باطلا، فإن حصل له في يد غيره مال.. استرجعه الحاكم إن كان باقيا، أو استرجع بدله إن كان تالفا، وإن حصل في يده مال لغيره ببيع أو غيره.. استرده الحاكم منه، ورده على مالكه، وإن باعه غيره شيئا، أو أقرضه إياه، ثم تلف في يده، أو أتلفه.. فإنه لا يجب عليه ضمانه، سواء علم بحجره أو لم يعلم؛ لأنه إن علم بحجره.. فقد دخل على بصيرة، وإن لم يعلم فيه.. فقد فرط حيث بايع من لا يعلم حاله. ولا يلزمه ذلك إذا فك عنه الحجر؛ لأن الحجر عليه لحفظ ماله، فلو ألزمناه ذلك بعد الحجر.. لبطل معنى الحجر، وهذا في ظاهر الحكم. وهل يلزمه ضمانه فيما بينه وبين الله تعالى؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإفصاح ":
أحدهما: يلزمه ذلك، وبه قال الصيدلاني، والعثماني؛ لأن الحجر لا يبيح له مال غيره.
والثاني: لا يلزمه. قال في " الإفصاح ": وهو الأصح.
وإن غصب من غيره عينا، فتلفت في يده، أو أتلفها في يده أو في يد مالكها.. وجب عليه ضمانها؛ لأن السفيه أحسن حالا من الصبي والمجنون؛ لأنه مكلف، ثم ثبت أن الصبي والمجنون إذا أتلفا على غيرهما مالا.. وجب عليهما الضمان، فكذلك هذا مثله.
وإن أودعه رجل عينا، فأتلفها.. فهل يجب عليه الضمان؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه ضمانها؛ لأن صاحبها عرضها للإتلاف بتسليمها إليه.
والثاني: يجب عليه الضمان؛ لأن مالكها لم يرض بإتلافها؛ فأشبه إذا غصبه إياها، أو أتلفها.
وإن تلفت في يده بغير تفريط.. لم يلزمه ضمانها؛ لأن غير المحجور عليه لا يلزمه ذلك، فالمحجور عليه أولى.

(6/233)


وإن أقر لغيره بعين في يده أو دين في ذمته.. لم يلزمه ذلك في الحال، ولا بعد فك الحجر؛ لأنا لو قبلنا إقراره.. لبطلت فائدة الحجر، والحجر يقتضي حفظ ماله.

[فرع: صحة طلاق ومخالعة السفيه]
وإن طلق السفيه، أو خالع.. صح طلاقه، وخلعه، إلا أن المرأة لا تسلم المال إليه، بل تسلمه إلى وليه، فإن سلمته إليه، فتلف في يده، أو أتلفه.. وجب عليها ضمانه، كما قلنا في البيع. ولو أذن ولي السفيه للمرأة بتسليم المال إلى السفيه، فسلمته إليه.. فهل تبرأ؟ فيه وجهان:
أحدهما: تبرأ، كما لو سلمت المرأة المال إلى العبد بإذن سيده.
والثاني: لا تبرأ؛ لأنه ليس من أهل القبض. هذا مذهبنا، وبه قال عامة أهل العلم.
وقال ابن أبي ليلى، والنخعي، وأبو يوسف: لا يصح طلاقه وخلعه.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] [البقرة: 229] .
ولم يفرق بين السفيه وغيره، ولأنه يستفيد بالطلاق، فإنه إن كان قبل الدخول.. رجع إليه نصف المهر، وإن كان بعد الدخول.. سقطت عنه النفقة والكسوة والمصالح، ويحصل ذلك له بالخلع وما بذلت له.

[فرع: نكاح المحجور عليه]
ولا يصح نكاحه بغير إذن الولي؛ لأن النكاح يتضمن وجوب المال، فلم يصح بغير إذن الولي. وإن احتاج إلى النكاح.. فالولي بالخيار: إن شاء.. زوجه بنفسه، وتولى العقد، وإن شاء.. أذن له ليعقد بنفسه؛ لأنه عاقل مكلف، وإنما حجرنا عليه لحفظ ماله، بخلاف الصبي. وهل له أن يأذن له في النكاح مطلقا، أو يفتقر إلى تعيين المرأة، أو تقدير المهر؟ فيه وجهان:

(6/234)


أحدهما: يجوز له أن يأذن له مطلقا، كما يجوز للسيد أن يطلق الإذن لعبده في ذلك.
والثاني: لا يجوز حتى يعين له الولي المرأة، أو القبيلة والمهر؛ لأنه ربما تزوج بامرأة شريفة يستغرق مهرها ماله، بخلاف العبد، فإنه لا يزوج الشريفة، وأيضا فإن المهر في كسبه، فلا يؤدي إلى إخراج شيء من مال السيد.
وإن تزوج السفيه بغير إذن الولي، ودخل بها.. فما الذي يلزمه؟
قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 275] : فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: لا يلزمه شيء، كما لو اشترى شيئا بغير إذن وليه وأتلفه.
والثاني: يلزمه مهر المثل، كما لو جنى على غيره.
والثالث: يلزمه أقل شيء يستباح به البضع؛ لأنه لا يستباح بالإباحة.
وأما البغداديون من أصحابنا: فقالوا: هي على وجهين:
أحدهما: لا يلزمه شيء.
والثاني: يلزمه مهر المثل.

[فرع: إذن الولي للسفيه]
وإن أذن له الولي في البيع والشراء، فباع أو اشترى.. فهل يصح؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح، كما يصح النكاح إذا أذن له فيه.
والثاني: لا يصح؛ لأن البيع والشراء يختلف حكمه ساعة، فساعة؛ لأنه قد يزيد سعر الأسواق وينقص، فافتقر إلى عقد الولي، ولأن البيع والشراء يتضمن المال لا غير، وهو محجور عليه في المال، بخلاف النكاح.

(6/235)


[فرع: حلف وحج المحجور عليه]
وإن حلف.. انعقدت يمينه، فإن حنث كفر بالصوم، ولا يكفر بالمال؛ لأنه محجور عليه في المال. وإن أحرم بالحج.. صح إحرامه؛ لأنه من أهل التكليف، فإن كان فرضا.. لم يمنع من إتمامه، وأنفق عليه من ماله ما يحتاج إليه، وإن كان تطوعا، فإن كانت نفقته على إتمامه لا تزيد على نفقة الحضر.. لم يجز تحليله، وإن كانت تزيد على نفقة الحضر، فإن كان له كسب، وقال: أنا أتمم النفقة بالكسب.. لم يحلل، وإن لم يكن له كسب.. حلله الولي، ويصير كالمحصر، فيتحلل بالصوم دون الهدي؛ لأنه محجور عليه في المال.

[فرع: قبول استلحاق المحجور عليه]
وإن أقر بنسب يلحقه في الظاهر.. ثبت النسب؛ لأن ذلك لا يتضمن إتلاف مال، وإن أقر بنسب من تلزمه نفقته.. لم ينفق عليه من ماله، بل ينفق عليه من بيت المال.
وإن وجب له القصاص.. فله أن يقتص؛ لأن القصد منه التشفي، وإن عفا عنه على مال.. كان له، وإن عفا عنه مطلقا، أو على غير مال، فإن قلنا: إن الواجب القصاص لا غير.. صح عفوه. وإن قلنا: إن الواجب أحد الأمرين.. لم يصح عفوه عن المال.
وإن أقر بجانية العمد.. صح إقراره؛ لأنه غير متهم في ذلك، فإن أراد المقر له العفو على المال.. قال الطبري: فإن قلنا: إن موجب العمد القود.. ثبت المال؛ لأن الذي ثبت بإقراره هو القتل أو القطع دون المال، وإن قلنا: إن موجبه أحد الأمرين.. فهل يثبت المال؟ اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان، كالعبد إذا أقر بالسرقة.. فإنه يقبل في القطع، وهل يقبل في المال؟ فيه قولان.
ومنهم من قال: له أخذ المال، قولا واحدا؛ لأن الواجب أحدهما لا بعينه،
وكل واحد منهما بدل عن الآخر، وتعلقهما بسبب واحد، وأما السرقة: ففيها حكمان:

(6/236)


أحدهما: القطع لله تعالى. والآخر: للآدمي، فجاز ثبوت أحدهما دون الآخر، ولهذا: لو شهد رجل وامرأتان على السرقة.. ثبت المال دون القطع، ولو شهدا على القتل لم يثبت.
وإن دبر السفيه، أو أوصى.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان، كالصبي.
ومنهم من قال: يصح، قولا واحدا.
قال الطبري: وهو الصحيح؛ لأن الصغير لا حكم لقوله، ولا يصح شيء من إقراره، بخلاف السفيه، فإنه يصح إقراره بالنسب.

[فرع: الحجر على المرتد]
المرتد إذا قلنا: إن ملكه باق على حاله.. فإنه محجور عليه فيه.. وهل يفتقر إلى حجر الحاكم؟ فيه قولان.
فإذا زالت الردة.. فإنه لا ينفك الحجر عنه إلا بحكم الحاكم؛ لأنه حجر ثبت بالحاكم، فلم يزل من غير حكمه.
والله أعلم

(6/237)