البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب الصداق]

(9/363)


كتاب الصداق (الصداق) هو: ما تستحقه المرأة بدلا في النكاح، وله سبعة أسماء: الصداق، والنحلة والأجر، والفريضة، والمهر، والعليقة، والعقر؛ لأن الله تعالى سماه: الصداق، والنحلة، والأجر، والفريضة. وسماه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: المهر، والعليقة.

(9/365)


وسماه عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: العقر.
يقال: أصدقت المرأة ومهرتها، ولا يقال: أمهرتها.
والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] [النساء: 4] ، وقَوْله تَعَالَى {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24] [النساء: 24] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 237] [البقرة: 237] .
وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن مسها.. فلها المهر بما استحل من فرجها» .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أدوا العلائق " قيل: وما العلائق؟ قال: " ما تراضى عليه الأهلون» .

(9/366)


وقال أمير المؤمنين عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: (لها عقر نسائها) .
فإن قيل: لم سماه الله تعالى نحلة، و (النحلة) : العطية بغير عوض، والمهر ليس بعطية، وإنما هو عوض عن الاستمتاع؟ ففيه ثلاث تأويلات:
أحدها: أنه لم يرد بالنحلة العطية؛ وإنما أراد بالنحلة: من الانتحال، وهو: التدين؛ لأنه يقال: انتحل فلان مذهب كذا، أي: تدين به. فكأنه تعالى قال: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] أي: تدينا.
والثاني: أن المهر يشبه العطية؛ لأنه يحصل للمرأة من اللذة في الاستمتاع ما يحصل للزوج وأكثر؛ لأنها أغلب شهوة، والزوج ينفرد ببذل المهر، فكأنها تأخذه بغير عوض.
والثالث: أنه عطية من الله تعالى في شرعنا للنساء؛ لأن في شرع من قبلنا كان المهر للأولياء، ولهذا قال الله تعالى ـ في قصة شعيب وموسى صلى الله على نبينا وعليهما وسلم ـ {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] الآية [القصص: 27] .
إذا ثبت هذا: فالمستحب: أن يسمى الصداق في عقد النكاح؛ لما روي:

(9/367)


(أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يتزوج أحدا من نسائه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ -، ولا زوج أحدا من بناته - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ - إلا بصداق سماه في العقد) .
وروي: «أن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله، قد وهبت نفسي لك، فصعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصره إليها، ثم صوبه، ثم قال: " ما لي اليوم في النساء من حاجة "، فقام رجل من القوم، فقال: زوجنيها يا رسول الله، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما تصدقها؟ "، قال: إزاري. قال: " إن أصدقتها إزارك.. جلست ولا إزار لك "، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " التمس شيئا "، فالتمس فلم يجد. فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " التمس ولو خاتما من حديد "، فالتمس فلم يجد، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أمعك شيء من القرآن؟ "، قال: نعم، سورة كذا وسورة كذا. فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " زوجتكها بما معك من القرآن» . ولأنه إذا زوجه بالمهر.. كان أقطع للخصومة.
فإن عقد النكاح بغير صداق.. انعقد النكاح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] الآية [البقرة: 236] ، فأثبت الطلاق من غير فرض، والطلاق لا يقع إلا في نكاح صحيح.
وروى عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زوج رجلا امرأة، ولم يفرض لها صداقا، فلما حضرته الوفاة قال: إني تزوجتها بغير صداق، وإني قد أعطيتها عن صداقها سهمي بخيبر، فباعته بمائة ألف» .

(9/368)


ولأن المقصود في النكاح أعيان الزوجين دون المهر، ولهذا يجب ذكر الزوجين في العقد، وإنما العوض فيه تبع. بخلاف البيع؛ فإن المقصود فيه العوض، ولهذا لا يجب ذكر البائع والمشتري في العقد إذا وقع بين وكيليهما.

[مسألة مقدار الصداق والقنطار]
وليس لأقل الصداق حد ـ عندنا ـ بل كل ما يجوز أن يتمول، أو جاز أن يكون ثمنا لشيء، أو أجرة.. جاز أن يكون صداقا.
وبه قال عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وابن المسيب، والحسن، وربيعة، والأوزاعي، والثوري، وأحمد، وإسحاق رحمة الله عليهم.
قال القاضي أبو القاسم الصيمري: ولا يصح أن يكون الصداق نواة أو قشرة بصلة أو قمع باذنجانة أو ليطة أو حصاة، هذا مذهبنا.
وقال مالك، وأبو حنيفة رحمة الله عليهما: (أقل الصداق: ما تقطع به يد السارق) . إلا أن عند مالك رحمة الله عليه: ما تقطع به يد السارق ربع دينار، أو ثلاثة دراهم. وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: دينار، أو عشرة دراهم.
فإن أصدقها دون عشرة دراهم.. قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: (كملت العشرة) .
وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يسقط المسمى، ويجب مهر المثل.
وقال ابن شبرمة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أقله خمسة دراهم.
وقال النخعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أقله أربعون درهما.

(9/369)


وقال سعيد بن جبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أقله خمسون درهما.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] [البقرة: 237] . وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أدوا العلائق» ، ثم قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والعلائق: ما تراضى عليه الأهلون» . وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التمس شيئا» . «التمس ولو خاتما من حديد» . وهذه عمومات تقع على القليل والكثير.
وروي: «أن عبد الرحمن بن عوف أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعليه وضرة ـ أي: صفرة ـ فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مهيم؟ " ـ وهي كلمة استفهام ـ فقال: يا رسول الله، تزوجت امرأة من الأنصار. فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما سقت إليها؟ "، قال: نواة من ذهب. فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أولم ولو بشاة» . و (النواة) : خمسة دراهم. وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من استحل بدرهمين.. فقد استحل» . وروى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعطى في صداق امرأة ملء كف سويقا أو تمرا. فقد استحل» .
ولأن كل ما جاز أن يكون ثمنا.. جاز أن يكون مهرا، كالمجمع عليه.
وأما أكثر الصداق: فليس له حد، وهو إجماع؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20] الآية [النساء: 20] ، فأخبر: أن القنطار يجوز أن يكون صداقا.

(9/370)


قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (القنطار: سبعون ألف مثقال) .
وقال أبو صالح - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مائة أوقية.
وقال معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (ألف ومائتا أوقية) .
وقال أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (القنطار: ملء مسك ثور ذهبا) . و (مسك الثور) : جلده.
وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه خطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: يا معشر الناس، لا تغالوا في صدقات النساء، فوالله: لا يبلغني أحد زاد على مهر أزواج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا جعلت الفضل في بيت المال، فعرضت له امرأة من قريش، فقالت: كتاب الله أولى أن يتبع، إن الله تعالى يعطينا، وتمنعنا يا ابن الخطاب! فقال: أين؟ قالت: قال الله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20] الآية [النساء: 20] ، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: فليضع الرجل ماله حيث شاء) . وفي رواية أخرى: أنه قال: (كل الناس أفقه من عمر، فرجع عن ذلك) .

(9/371)


وروي: (أنه تزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، فأصدقها أربعين ألف درهم) .
وروي: (أن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما كان يزوج بنات أخيه عبيد الله على صداق عشرة آلاف درهم) .
و: (تزوج أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - امرأة وأصدقها عشرة آلاف) .
و: (تزوج الحسن بن على - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - امرأة وبعث إليها مائة جارية، ومع كل جارية ألف درهم، ثم طلقها) ، وتزوجها رجل من بني تميم، فأصدقها مائة ألف درهم.
وتزوج مصعب بن الزبير بعائشة بنت طلحة، وأصدقها مائة ألف دينار.
قال الشافعي: (والاقتصاد في المهر أحب إلي من المغالاة فيه) ؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أعظم النكاح بركة أخفه مؤنة» .
وروى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خيرهن أيسرهن مهرا» .

(9/372)


وروى صهيب بن سنان: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما رجل أصدق صداقا ونوى أن لا يؤديه.. لقي الله تعالى وهو زان، وأيما رجل ادان دينا ونوى أن لا يؤديه.. لقي الله تعالى وهو سارق» .
والمستحب: أن لا يزيد على خمسمائة درهم، وهو صداق أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبناته؛ لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «كان صداق أزواج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبناته اثنتي عشرة أوقية ونشا، أتدرون ما النش؟ نصف أوقية» . و (الأوقية) : أربعون درهما؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الأوقية: أربعون درهما» و (النش) : عشرون درهما.

[فرع الصداق ما اتفقوا عليه أولا ومهر المثل إذا لم يتفقوا]
لو تواعدوا في السر على أن الصداق مائة، وعلى أنهم يظهرون للناس أنه ألف.. فقد قال الشافعي في موضع: (المهر مهر السر) . وقال في موضع: (المهر مهر العلانية) .
قال أصحابنا البغداديون: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فالموضع الذي قال: (المهر مهر السر) أراد: إذا عقدوا النكاح أولا بمائة، ثم عقدوا النكاح ثانيا في العلانية بألف.
وحيث قال: (المهر مهر العلانية) أراد: إذا عقدوا النكاح أولا في العلانية بألف، ثم عقدوه ثانيا في السر بمائة.
ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: في المهر قولان. والأول هو المشهور.

(9/373)


فإن قال الولي: زوجتك ابنتي بألف، فقال الزوج: قبلت نكاحها بخمسمائة.. وجب لها مهر مثلها؛ لأن الإيجاب والقبول لم يتفقا على مهر واحد.

[مسألة الصداق عين أو دين أو منفعة]
ويصح أن يكون الصداق عينا أو دينا. وإذا كان دينا.. صح أن يكون حالا ومؤجلا، فإن أطلق.. كان حالا، كما قلنا في الثمن.
ويصح أن يكون الصداق منفعة يصح عقد الإجارة عليها، كمنفعة العبيد والبهائم والأرض والدور؛ لأنه عقد على المنفعة فجاز بما ذكرناه، كالإجارة.

[فرع منفعة الحر عندنا تكون صداقا]
ويصح أن تكون منفعة الحر صداقا، كالخياطة والبناء وتعليم القرآن وما أشبه ذلك مما يصح استئجاره عليه. وبه قال مالك، إلا أنه قال: (يكره ذلك) .
وقال أبو حنيفة: (لا يصح) .
دليلنا ـ عليه ـ: قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] [القصص: 27] . فذكر: أن الرعي صداق في شرع من قبلنا، ولم يعقبه بنكير.
و: «زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المرأة التي وهبته نفسها من الرجل الذي خطبها بما معه من القرآن» . وتقديره: على تعليم ما معه من القرآن؛ لأن القرآن لا يجوز أن يكون صداقا.
ولأن كل منفعة جاز أن تستحق بعقد الإجارة.. جاز أن تستحق بعقد النكاح، كمنفعة العبيد والأرض.

[فرع فساد المهر أو كونه ثوبا أو عبدا موصوفا بالذمة]
وما لا يصح بيعه كالخمر، والكلب، والخنزير، والسرجين، والمجهول، والمعدوم، وما لم يتم ملكه عليه، والمنافع التي لا يصح الاستئجار عليها.. لا يصح

(9/374)


أن يكون شيء من ذلك صداقا؛ لأنه عوض في عقد فلم يصح فيما ذكرناه، كالبيع والإجارة.
إذا ثبت هذا: فإن عقد النكاح بمهر باطل أو مجهول.. لم يبطل النكاح. وبه قال أبو حنيفة، وأكثر أهل العلم.
وقال مالك: (لا يصح النكاح) .
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] : أنه قول للشافعي في القديم وليس بمشهور.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل» ، ولم يفصل بين أن يكون المهر صحيحا أو فاسدا. ولأنه عقد نكاح فلم يبطل بفساد المهر، كما لو تزوجها على دراهم مغصوبة ـ فإن مالكا وافقنا على هذا ـ ولأن النكاح إذا انعقد مع عدم ذكر المهر.. فلأن ينعقد مع فساده أولى.
وإذا عقد النكاح بمهر باطل.. وجب لها مهر مثلها، بالغا ما بلغ. وبه قال زفر.
وقال أبو حنيفة وصاحباه: (لها الأقل: من مهر المثل، أو المسمى) .
دليلنا: أنها دخلت في العقد على أن يكون لها المسمى، فإذا لم يسم وتعذر رجوعها إلى بضعها.. رجعت إلى قيمته، كما لو اشترى عبدا شراء فاسدا وقبضه وتلف في يده.
وإن تزوجها على عبد أو ثوب موصوف في ذمته.. لزمه تسليم ذلك على ما وصف.
وقال أبو حنيفة وأحمد: (إن شاء.. سلم العبد بصفته، وإن شاء.. دفع قيمته) . وعن أبي حنيفة في الثوب روايتان: إحداهما: كقولنا. والثانية: هو كالعبد عنده.
دليلنا: أن هذه تسمية صحيحة، فلم يخير بين دفع المسمى وبين دفع قيمته، كالمكيل والموزون.

(9/375)


[فرع التزويج بلا مهر أو بأقل من مهر المثل أو غير ذلك]
إذا قالت المرأة لوليها: زوجني بلا مهر، فزوجها بلا مهر.. صح النكاح بلا خلاف.
وإن قالت له: زوجني وأطلقت فزوجها بلا مهر، أو أذنت له أن يزوجها بمهر فزوجها بأقل منه أو بغير جنس ما أذنت فيه، أو زوج الأب أو الجد الصغيرة أو الكبيرة البكر بلا مهر أو بأقل من مهر مثلها، أو وكل رجلا ليزوجها فزوجها بلا مهر أو بأقل من مهر مثلها.. فنقل أصحابنا البغداديون: أن النكاح صحيح في جميع هذه المسائل، ولها مهر مثلها.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] هل ينعقد النكاح في جميع هذه المسائل؟ فيه قولان.
قال ومن أصحابنا من قال: لا ينعقد النكاح من الوكيل قولا واحدا؛ لأنه يزوج بالنيابة عن الولي.
والأصح الطريق الأول؛ لأن النكاح الأول لا يفسد ـ عندنا ـ بفساد المهر. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (إذا زوج ابنته الصغيرة بأقل من مهر مثلها، وكان ذلك مهرا لا ينقص عن أقل المهر وهو عشرة دراهم.. صح المهر) .
دليلنا: أن البنت إذا أذنت لعمها بالعقد فزوجها بأقل من مهر مثلها بغير إذنها.. استحقت مهر مثلها، فكذلك الأب والجد. ولأن الأب والجد لا يجوز لهما أن يبيعا مال الصغيرة بأقل من ثمن مثله، فكذلك لا يجوز لهما تزويجها بأقل من مهر مثلها.
وإن زوج الرجل وليته بأرض أو عرض أو بغير نقد البلد.. فهل يصح المهر؟ لا أعلم فيها نصا، والذي يقتضي القياس: إن كان الولي أبا أو جدا وكانت المنكوحة

(9/376)


صغيرة أو مجنونة.. صح المهر إذا كان قيمة ذلك مثل مهر مثلها، كما يجوز أن يبتاع لها ذلك بمالها.
وإن كان الولي غيرهما من العصبات، أو كان الولي أبا أو جدا والمنكوحة بالغة عاقلة.. لم يصح ذلك المهر إلا إن كان بإذنها ونطقها؛ لأنه لا ولاية له على مالها، وإنما ولايته على عقد النكاح بنقد البلد.
وإن كانت المنكوحة مجنونة وكان وليها الحاكم، ورأى أن يزوجها بشيء من العروض وقيمته قدر مهر مثلها.. صح ذلك؛ لأنه يجوز له التصرف في مالها.

[مسألة تزوج على تعليم القرآن أو بعضه]
إذا تزوج وأصدقها تعليم القرآن مدة معلومة.. صح ذلك إذا كانت المدة متصلة بالعقد، وتطالبه بالتعليم في تلك المدة على حسب عادة التعليم، ولها أن تطالبه بتعليم ما شاءت من القرآن. وإن كان الصداق تعليم شيء من القرآن.. فيشترط أن يذكر السورة التي يعلمها. فإن أصدقها تعليم عشرين آية من سورة كذا ولم يبين الأعشار.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للرجل الذي خطب الواهبة: " ما معك من القرآن؟ "، قال: سورة البقرة والتي تليها، قال: " زوجتكها على أن تعلمها عشرين آية» ، ولم يفصل.
والثاني: لا يصح، وهو الأصح؛ لأن الأعشار تختلف. وأما الخبر: فإنما نقل الراوي جواز تعليم القرآن في الصداق، ولم ينقل عين الصداق، ولا يجوز في صفة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعقد الصداق على مجهول.
وهل من شرطه أن يبين الحرف الذي يعلمها به، كحرف نافع أو ابن كثير أو غيرهما؟ فيه وجهان، مضى بيانهما في الإجارة.

(9/377)


وإن أصدقها تعليم سورة وهو لا يحفظها، فإن كان على أن يحصل لها تعليمها.. صح ذلك، ويستأجر محرما لها أو امرأة تعلمها، أو يتعلمها هو بنفسه ثم يعلمها. وإن كان على أن يعلمها بنفسه.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح، كما لو أصدقها ألف درهم في ذمته وهو لا يملك شيئا.
والثاني: لا يصح، كما لو أصدقها خدمة عبد لا يملكه.
وإن أصدقها تعليم سورة، فأتت بامرأة غيرها ليعلمها مكانها.. فهل يلزمه تعليمها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه، كما لو أكترت منه دابة لتركتها إلى بلد فأرادت أن تركبها مثلها.
والثاني: لا يلزمه؛ لأن له غرضا في تعليمها؛ لأنه أطيب له؛ لأنه يلتذ بكلام زوجته ولا يلتذ بكلام غيرها. ولأنه أصدقها إيقاع منفعة في عين، فلا يلزمه إيقاعها في غيرها، كما لو أصدقها خياطة ثوب بعينه فأتت بثوب غيره ليخيطه.. فلا يلزمه ذلك.
وإن لقنها فحفظت، ثم نسيت.. قال الشيخ أبو حامد: فينظر فيها: فإن علمها دون آية فنسيتها.. لم يعتد له بذلك، وكم القدر الذي إذا علمها إياه خرج من عهدة التعليم؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن أقله آية؛ لأنه يطلق عليه اسم التعليم.
فعلى هذا: إذا علمها آية فنسيها.. لم يلزمه تعليمها إياها ثانيا.
والثاني: أقله سورة؛ لأن ما دونها ليس بتعليم في العادة.
وذكر ابن الصباغ: أنه إذا علمها ثلاث آيات.. سقطت عنه عهدة التعليم وجها واحدا. وهل تسقط عنه بتعليم آية أو آيتين؟ فيه وجهان.

[فرع أصدقها تعليم شعر أو شيئا من التوراة أو الإنجيل لو كانت كتابية]
وإن أصدقها تعليم شعر مباح.. صح. قال المزني: وذلك كقول الشاعر:
يقول المرء فائدتي ومالي ... وتقوى الله أفضل ما استفادا

(9/378)


وإن أصدقها تعليم شعر فيه هجو أو فحش.. كان كما لو أصدقها خمرا أو خنزيرا.
وإن تزوج كتابية على أن يعلمها شيئا من القرآن.. فقال الشيخان ـ أبو حامد وأبو إسحاق ـ وأكثر أصحابنا: إن كانت ممن يطمع في إسلامها بذلك.. صح الصداق؛ لأن المشرك إذا جاء مسترشدا وطلب أن يعلم شيئا من القرآن.. جاز تعليمه. وإن كانت تريده للمباهاة.. لم يصح الصداق؛ لأن فيه ابتذالا للقرآن.
وقال ابن الصباغ: يصح بكل حال؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] [التوبة: 6] ، ولم يفرق. ولأنها قد تريد ذلك للمباهاة، فإذا تعلمته.. انتفعت به وأسلمت.
وإن تزوج الكتابي كتابية على أن يعلمها شيئا من التوراة أو الإنجيل.. لم يصح الصداق؛ لأنه محرف مبدل. فإن ترافعا إلينا بعد التعليم.. فقد سقط عنه المهر. وإن ترافعا إلينا قبل التعليم.. حكمنا بفساد المهر المسمى، ولزمه مهر مثلها. وإن تزوج حر مسلمة كتابية على أن يعلمها شيئا من التوراة أو من الإنجيل.. لم يصح؛ لما ذكرناه.
فإن ترافعا إلينا.. حكمنا لها بمهر مثلها، سواء ترافعا قبل التعليم أو بعده؛ لأن المسلم لا يقر على المعصية؛ لأنه يعتقد تحريمها، بخلاف أهل الكتاب، فإنهم يقرون على ذلك؛ لأنهم يعتقدون إباحته.

[مسألة ترافع الذميان إلى حاكم مسلم في شأن العقد أو الصداق أو غيره]
إذا ترافع ذميان إلى حاكم المسلمين ليحكم بينهما في ابتداء عقد النكاح.. لم يحكم بينهما إلا على الوجه الذي يحكم به بين المسلمين. فإن كان لها ولي مناسب عدل في دينه.. زوجها بشهادة مسلمين، ويكون ترتيب الولاة كترتيب ولاة المسلمة. فإن كانت المنكوحة بكرا.. أجبرها الأب أو الجد. وإن كانت ثيبا.. لم يصح تزويجها إلا بإذنها. وإن عضلها الولي.. زوجها حاكم المسلمين؛ لأنه يلي عليها بالحكم.

(9/379)


وإن تحاكما في استدامته.. فإنه لا اعتبار بحال انعقاده على أي وجه كان، ولكن ينظر فيها: فإن كانت ممن لا يجوز له ابتداء نكاحها في هذه الحال.. فرق بينهما. وإن كانت ممن يجوز له ابتداء نكاحها.. أقرهما على نكاحهما وإن كان قد عقد بها بولي غير مرشد أو بغير شهود؛ لأنه عقد قد مضى في الشرك فلا يجوز تتبعه ومراعاته؛ لأن في ذلك إلحاق مشقة وتنفيرا لهم عن الدخول في الطاعة. وفي هذا المعنى نزل قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278] [البقرة: 278] ، فأمر بترك ما بقي في أيديهم من الربا وعفا عما قبض في الشرك.
وإن تحاكما في الصداق، أو أسلما وتحاكما، فإن كان قد أصدقها صداقا صحيحا.. حكم بصحته. وإن أصدقها صداقا فاسدا، كالخمر والخنزير، فإن كانت قد قبضت جميعه في الشرك.. فقد سقط عنه جميعه، وبرئت ذمته من الصداق؛ لأن ما قبض في الشرك لا يجوز نقضه؛ لما ذكرناه من الآية، ولقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] [الأنفال: 38] . وإن كانت لم تقبض منه شيئا.. حكم الحاكم بفساد المسمى، وأوجب لها مهر مثلها من نقد البلد.
وقال أبو حنيفة: (لا يحكم لها إلا بما سمي لها) .
دليلنا: أنه لا يمكن أن يحكم عليه بتسليم المسمى؛ لفساده، فحكم لها بمهر صحيح.
وإن قبضت بعضه في حال الشرك وبقي البعض من المهر.. سقط من المهر بقسط ما قبضته من المسمى، ووجب لها من مهر المثل بقسط ما لم تقبضه من المسمى؛ لأنها لو قبضت الجميع.. لم يحكم لها بشيء، ولو لم تقبض شيئا.. لحكم لها بمهر مثلها، فإذا قبضت البعض وبقي البعض.. قسط مهر المثل على المقبوض وعلى ما لم يقبض.
إذا ثبت هذا: فإن كان أصدقها عشرة أزقاق خمرا، فقبضت منها بعضها.. نظرت: فإن كانت متساوية لا يفضل بعضها على بعض.. قسم المهر على أعدادها، فإن قبضت خمسة.. سقط عنه نصف المهر، ووجب لها نصف مهر مثلها. وإن كانت مختلفة.. ففيه وجهان:

(9/380)


أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق ـ: أن المهر يقسط على أعدادها؛ لأنه لا قيمة للخمر، فاستوى الصغير والكبير.
والثاني: يقسط على كيلها. قال ابن الصباغ: وهو الأقيس؛ لأنه يمكن اعتبار كيلها.
وإن أصدقها عشرة خنازير، أو عشرة كلاب وقبضت منه خمسة.. ففيه ثلاثة أوجه:
والأول: قال أبو إسحاق: يعتبر بالعدد، سواء في ذلك الصغير والكبير، فيسقط نصف المهر، ويجب لها نصف مهر مثلها؛ لأن الجميع لا قيمة له، فكان الجميع واحدا.
والثاني: يعتبر التفاوت فيها، فيضم صغيران ويجعلان بإزاء كبير، أو صغير وكبير ويجعلان بإزاء أوسطهن، ويقسط المهر على ذلك.
والثالث ـ وهو قول أبي العباس: ـ أنه يقال: لو كانت هذه الخنازير أو الكلاب مما يجوز بيعها.. كم كانت قيمتها؟ فيقسط المهر على ذلك؛ لأنه لا يمكن اعتبارها بأنفسها فاعتبرت بغيرها، كما قلنا في الجناية على الحر التي لا أرش لها مقدر: فإنها تعتبر بالجناية على العبد.
قال القاضي أبو الطيب، والشيخ أبو إسحاق: فعلى هذا: تقدر لو كانت غنما؛ لأنها أقرب إليها.
قال ابن الصباغ: وهذا ليس بصحيح؛ لأن الغنم ليست من جنس الخنازير والكلاب فتعتبر بها، بخلاف الحر والعبد.
وينبغي على هذا: أن تقوم بما يتبايعونها بينهم؛ لتقدر بذلك ـ لا أن لها قيمة في الشرع ـ كما تقدر أن لو جاز بيعها.

(9/381)


وإن أصدقها عشرة خنازير وخمسة كلاب وزق خمر، فقبضت بعض ذلك.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يقسم المهر على عدد الأجناس، فيجعل كل جنس بإزاء ثلث المهر، ثم يقسط الثلث على كل جنس على ما مضى.
والثاني: يقسط المهر على العدد، فيخص الخنازير عشرة أجزاء من ستة عشر جزءا من المهر، ويخص الكلاب خمسة أجزاء، ويخص الخمر جزء.
والثالث: يعتبر كل جنس بما يجوز بيعه من الأعيان، فيقسط المهر على قيمة ذلك.
وعلى قول ابن الصباغ: يعتبر كل جنس بما يتبايعونه بينهم في العادة.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : فإن تبايع مشركان ألف درهم بألفي درهم، فإن أسلما قبل التقابض.. سقط الربح دون رأس المال. وإن أسلما بعد التقابض.. لم يتعرض لهما.
وإن قبض منه ألفا ثم أسلما.. سئل المقبض، فإن قال: أقبضت بنية أصل المال.. سقط الربح. وإن قال: لم تكن لي نية.. ففيه وجهان:
أحدهما: يوزع عليهما، ويجب عليه خمسمائة درهم.
والثاني: يقال له: اصرف الألف المقبوضة إلى أيهما شئت.
وإن تقابض المشركان في ذلك بحكم حاكمهم.. ففيه وجهان:
أحدهما: حكمه حكم ما لو تقابضاه بغير حكم حاكمهم؛ لأنه قد وجد القبض في الشرك، فهو كما لو تقابضاه بأنفسهما.
والثاني: لا يصح القبض؛ لأنه إذا قبضه بحكم حاكمهم.. صار كأنه أكره على القبض، فلم يتعلق به حكم.

(9/382)


[مسألة يستحب أن يعتق الجارية ثم يتزوجها]
يستحب للرجل إذا ملك جارية ذات جمال أن يعتقها ثم يتزوجها؛ لما روى أبو موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " ثلاثة يؤتون أجورهم مرتين: عبد أدى حق الله تعالى وحق مواليه، ورجل كانت عنده جارية وضيئة، فأدبها فأحسن أدبها، ثم أعتقها، ثم تزوجها يبتغي بذلك وجه الله تعالى، ورجل آمن بالكتاب الأول، ثم جاء الكتاب الآخر فآمن به» .
إذا ثبت هذا: فإن قالت الأمة لسيدها: أعتقني على أن أتزوجك ويكون عتقي صداقي فأعتقها، أو قال الرجل لأمته: أعتقتك على أن تتزوجي بي ويكون عتقك صداقك، فقالت: قبلت.. عتقت ولا يلزمها أن تتزوج به.
وقال الأوزاعي: (يلزمها أن تتزوج به، فإن لم تفعل.. يجبرها الحاكم) .
وقال أحمد رحمة الله عليه: (إذا كان ذلك بحضرة شاهدين.. انعقد النكاح بذلك؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعتق صفية وجعل عتقها صداقها» ، ولم ينقل أكثر من ذلك، وقد كانت صفية زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
دليلنا ـ على الأوزاعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ـ: أنه سلم في عقد فلم يصح، كما لو قال: أسلفتك هذه الألف على أن تتزوجي بي. ولأن ما يثبت في الذمة فعل أو عين، فـ (الفعل) : كالخياطة والبناء وما أشبهه من الأفعال.
و (العين) : أن يسلم إليه في ثوب موصوف أو غيره. وأما العقود: فلا تثبت في الذمة بحال، ألا ترى أنه لو قال: خذ هذه الدراهم على أن تبيعني دارك.. لم يصح؟

(9/383)


ودليلنا ـ على أحمد رحمة الله عليه ـ: أن العتق يزيل ملك السيد عن الاستمتاع بأمته، فلا يجوز أن يزول ملكه عن استمتاعها بحق الملك، ويملك استمتاعها بحق النكاح، كما لا يستبيح استمتاعها ببيعها. وأما خبر صفية: فقد روي: «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعتق صفية، وتزوجها» وهذا أزيد، فكان الأخذ به أولى. وإن ثبت الرواية أنه أعتق صفية وجعل عتقها صداقها.. فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ مخصوص بذلك دون غيره.
واختلف أصحابنا في موضع تخصيص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من هذا:
فقال أبو إسحاق: موضع التخصيص منه: أن غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أعتق جارية بشرط أن تتزوج به، أو أعتقها مطلقا.. لم يجز له أن يتزوجها إلا بمهر، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أعتق جارية بشرط أن تتزوج به، أو أعتقها مطلقا.. جاز له أن يتزوجها بغير مهر؛ لأن نكاح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجوز أن يخلو عن المهر، فموضع تخصيصه: خلو نكاحه عن المهر. فقول الراوي: «أعتق صفية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وجعل عتقها صداقها» ، يعني: لم يجعل لها شيئا غير العتق.
ومن أصحابنا من قال: موضع تخصيصه من هذا: أن غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أعتق أمة بشرط أن تتزوج به.. لم يلزمها أن تتزوج به وإذا أعتق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمة بشرط أن تتزوج به.. لزمها أن تتزوج به.
ومنهم من قال: موضع التخصيص: أن غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أعتق أمة بشرط أن تتزوج به، ثم أراد أن يتزوج بها على قيمتها.. فلا بد أن يكونا عالمين بقدر قيمتها؛ لأن المهر المجهول لا يصح. والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أعتق أمة بشرط أن تتزوج به.. جاز له أن يتزوج بها على قيمتها وإن كانا لا يعلمان قدرها؛ لأن الجهل بالمهر ليس بأكثر من عدمه.
إذا ثبت هذا: وأنه لا يلزمها أن تتزوج به، فرضيت بأن تتزوج به.. لم يجبر السيد عليه؛ لأنه إذا لم يلزمها ذلك.. لم يجبر السيد على قبوله، كما لو أعتقها على خمر أو خنزير، ويلزمها قيمتها لسيدها.

(9/384)


وحكي عن مالك وزفر - رحمة الله عليهما -: أنهما قالا: (لا يلزمها) .
دليلنا: أنه أزال ملكه عن رقبتها ببدل، ولم يسلم له ذلك البدل، ولا يمكنه الرجوع إلى رقبتها، فرجع إلى قيمتها - كما لو ابتاع عبدًا بعوض محرم وتلف العبد في يده - وتعتبر قيمتها يوم العتق؛ لأنه وقت زوال ملكه عنها.
فإن لم يتراضيا على تزويجها.. طالبها بقيمتها إن كانت موسرة بها، وإن كانت معسرة.. أنظرها إلى يسارها.
وإن تراضيا على تزويجها بغير قيمتها، فتزوجها به.. صح، واستحقت عليه المهر، واستحق عليها القيمة. فإن كانا من نقد واحد في الذمة.. فهل يسقط ما استويا فيه من ذلك؟ على الأربعة الأقوال في المقاصة.
وإن تزوجها على قيمتها وهما يعلمان قدر قيمتها.. صح النكاح والصداق، كما لو تزوج رجل امرأة على دين له في ذمتها، فإذا انعقد النكاح.. سقطت القيمة من ذمتها، ولم تستحق عليه مهرًا. وإن كانا لا يعلمان قدر القيمة.. فهل يصح الصداق؟ فيه وجهان:
(أحدهما) : قال أبو علي بن خيران: يصح، كما لو تزوجها على عبد لا يعرفان قدر قيمته.
و (الثاني) : قال أكثر أصحابنا: لا يصح الصداق، وهو الصحيح؛ لأن الصداق غير القيمة، والقيمة مجهولة عندهما فلم يصح، كما لو تزوجها على ثوب مجهول. ويخالف العبد؛ فإن عينه معلومة عندهما، فلا يضر الجهل بقيمته، كما لو اشترى عبدًا عرف عينه ولم يعرف قيمته.

[فرع علق عتق أمته على الزواج بها وعكسه]
) : قال ابن الصباغ: إذا قال لأمته: أنا أعتقك على أن أتزوج بك، أو تزوجيني نفسك، فقبلت.. عتقت، ووجب له عليها قيمتها؛ لأنه شرط عليها النكاح في مقابلة العتق.

(9/385)


وإذا أراد حيلة يعتق بها أمته ويلزمها أن تتزوج به، فقال: أعتقك على أنه إن كان في معلوم الله - تعالى - أني أتزوجك بعد عتقك، أو قال لها: إن كان في معلوم الله - تعالى - أني إذا أعتقتك تزوجت بك، فأنت حرة، ثم تزوجها.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو علي بن خيران: يصح النكاح وتعتق؛ لأنه إذا تزوجها بعد هذا القول.. تبينا أنها كانت في معلوم الله حرة حين عقد النكاح، فصح النكاح.
وقال أكثر أصحابنا: لا يصح النكاح ولا تعتق؛ لأنه حالما يعقد عليها النكاح يشك: أنها مملوكة له أو ليست بمملوكة له، وعقد النكاح لا يصح على من يشك في صحة نكاحها، وإذا لم يصح عقد النكاح.. لم يوجد شرط العتق.

[فرع علقت عتق العبد على الزواج به وعكسه]
) : وإن قالت امرأة لعبدها: أعتقك على أن تتزوج بي فقبل العبد، أو قال لها: أعتقيني بشرط أن أتزوج بك، فأعتقته.. عتق، ولا يلزمه أن يتزوج بها؛ لما ذكرناه في الأمة، ولا يلزم العبد لمولاته قيمته؛ لأنها لم تشرط عليه في مقابلة العتق شيئًا تملكه عليه، وإنما شرطت له أن تملكه مع رقبته شيئا، فهو كما لو قالت له: أعتقتك على أن أزيدك مائة درهم.

[فرع قال له أعتق عبدك عني أو عن نفسك أزوجك ابنتي]
إذا قال رجل لآخر: أعتق عبدك عني على أن أزوجك ابنتي، فأعتقه عنه.. عتق عن السائل، وله ولاؤه، ولا يلزمه تزويجه ابنته؛ لأنه سلف في عقد، ويلزم السائل لمالك العبد قيمة العبد؛ لأنه لم يسلم له ما شرط له.
وإن قال له: أعتق عبدك عن نفسك على أن أزوجك ابنتي، فأعتقه.. عتق العبد على سيده، وله ولاؤه، ولا يلزم السائل تزويج ابنته مولى العبد؛ لأنه سلف في عقد. وهل يلزم السائل قيمة العبد لسيده؟ فيه وجهان، مأخوذان من القولين فيمن قال لآخر: أعتق عبدك عن نفسك على أن أدفع لك مائة درهم، فأعتقه.. فهل تلزمه المائة؟ فيه قولان:

(9/386)


أحدهما: تلزمه المائة؛ لأنه أعتقه بعوض بذل له، فلزم الباذل ما بذله، كما لو قال له: أعتق عبدك عني على مائة، وكما لو قال لآخر: طلق امرأتك ولك مائة درهم.
فعلى هذا: يلزم الطالب هاهنا قيمة العبد.
والثاني: لا تلزمه المائة، وهو الصحيح؛ لأنه بذل له العوض على ما لا منفعة له فيه، فلم يلزمه العوض، كما لو اشترى ما لا منفعة فيه. ويخالف إذا قال: أعتق عبدك عني؛ فإنه يحصل له الثواب والولاء، وفي الزوجة قد يكون له غرض في أن يتزوجها أو يعلمها على نكاح باطل، فيريد تخليصها.
فعلى هذا: لا يلزم الطالب هاهنا قيمة العبد.

[مسألة عقد على أن لها ألفًا، وألفًا لأبيها أو لأبيها وأمها]
) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإذا عقد النكاح بألف على أن لأبيها ألفًا.. فالمهر فاسد) .
وجملة ذلك: أنه إذا تزوج امرأة بألف على أن لأبيها أو لعمها ألفًا أخرى.. فالنكاح صحيح، والمهر فاسد، وله مهر مثلها. وإنما صح النكاح؛ لأنه لا تفتقر صحته إلى صحة المهر. وإنما فسد المهر؛ لأن قوله: (على أن لأبيها ألفًا) ، إن أراد: أن ذلك هبة منه لأبيها.. فهذا شرط غير لازم له. وإن أراد أن جميع الألفين صداق لها - والصداق لا يستحقه غير الزوجة - فإذا فسد الشرط.. سقط المهر وقد نقصت المرأة من صداقها جزءًا لأجل الشرط، وإذا سقط الشرط.. وجب أن يرد إلى المهر الجزء الذي نقصته لأجل الشرط وذلك مجهول، والمجهول إذا أضيف إلى معلوم.. صار الجميع مجهولًا. ولو أصدقها صداقًا مجهولًا.. لم يصح، ووجب لها مهر مثلها بالغًا ما بلغ.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم: (إذا تزوجها على ألف على أن لأبيها ألفًا ولأمها ألفًا.. صح النكاح، واستحقت الثلاثة الآلاف، ولا شيء للأم والأب) ، وبه قال مالك.

(9/387)


قال أبو علي بن أبي هريرة: ويجيء على هذا: أن الألفين في الأولى للزوجة، وهذا مخالف لما نقله المزني وذكره الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " في التي قبلها.
والأول أصح؛ لأنه إنما أصدقها ألفا لا غير، وما شرطه لأبيها وأمها لا يستحقانه ولا تستحقه الزوجة؛ لما قدمناه في التي قبلها.
إذا ثبت هذا، فقد ذكر المزني بعد الأولى: ولو نكح امرأة على ألف وعلى أن يعطي أباها ألفًا.. كان جائزًا، ولها منعه وأخذها منه؛ لأنها هبة لم تقبض أو وكالة.
قال أصحابنا: أخطأ المزني في النقل؛ ولا فرق بين هذه والأولى، ويكون المهر فاسدًا، وإنما نقل المزني جواب مسألة ثالثة ذكرها الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " (5/65) : (وهو: إذا تزوجها بألفين على أن تعطي أباها منهما ألفًا.. فيكون المهر جائزًا؛ لأنها قد ملكت الألفين بالعقد، وما شرطه عليها من دفعها لأبيها ألفًا لا يلزمها؛ لأنه إن كان هبة منها.. فلا تلزم عليها قبل القبض، أو على سبيل الوكالة منها لأبيها في القبض وذلك لا يلزم عليها، وإذا لم يلزمها.. سقط، ولا يؤثر ذلك في المهر؛ لأن المرأة لم تنقص من مهرها شيئًا لأجل هذا الشرط، ولأن الزوج زاد في مهرها لكي تعطي أباها؛ لأنه لا منفعة له في ذلك) .
قال الشيخ أبو حامد: وكذلك إذا أصدقها ألفين على أن يعطي الزوج منهما ألفًا لأبيها.. لم يؤثر ذلك؛ لأن ذلك هبة منها أو توكيل في قبضها، والتصرف لها، لا حق للزوج في ذلك.
قال الشيخ أبو حامد: ومعنى هذا عندي: أنه لم يرد به الشرط، وإنما أراد به: أنه تزوجها على ألفين على أن لها أن تعطي أباها ألفًا.. أو يعطي هو أباها ألفًا، فالحكم ما ذكرناه.
وأما إذا خرج ذلك مخرج الشرط: فينبغي أن يفسد المهر؛ لأنه لم يملكها المهر ملكًا تامًا؛ لأنه إذا شرط أن يعطي بعضه لغيرها.. فلم يملكها ملكًا تامًا، فبطل.
وقد حكى الصيمري هذا عن بعض أصحابنا، ثم قال الصيمري: وهذا هو قياس

(9/388)


التحقيق: أن لو كان من عقود المعاوضات وما الغرض فيه الغبن، فأما ما هو خلاف ذلك.. فلا.

[فرع لا يضر شرط من مقتضى العقد]
) : إذا تزوج امرأة بألف على أن يطأها ليلًا ونهارًا، أو على أن ينفق عليها ويكسوها ويسافر بها، أو على أن لا تخرج من بيته إلا بإذنه.. صح ذلك، ولم يؤثر في الصداق؛ لأن ذلك من مقتضى العقد. وإن شرط على أن له أن يتزوج عليها، أو يتسرى عليها.. صح ولم يؤثر؛ لأنه لا ينافي مقتضاه.
وإن تزوجها بمائة على أن لا يتزوج عليها، أو لا يتسرى عليها، أو على أن لا يسافر بها، أو على أن لا تكلم أباها أو أمها، أو على أن لا يكسوها، أو على أن لا ينفق عليها، أو على أن لها أن تخرج من بيتها متى شاءت.. فالنكاح صحيح، والشرط والمهر فاسدان. وبه قال مالك وأبو حنيفة رحمة الله عليهما.
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (الشرط صحيح، ومتى لم يف لها به.. ثبت لها الخيار في فسخ النكاح) .
وروى ذلك عن عمر، ومعاوية، وعمر بن عبد العزيز، وشريح، وأبي الشعثاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل شرط ليس في كتاب الله تعالى.. فهو باطل» وهذا الشرط ليس في كتاب الله.
ويجب لها مهر مثلها؛ لأنها تركت لأجل الشرط جزءًا من المهر، فإذا سقط الشرط.. وجب رد الجزء وهو مجهول، وإذا صار الصداق مجهولًا.. وجب لها مهر المثل.
وقال أبو علي بن خيران: يجب لها أقل الأمرين: من المسمى، أو مهر المثل.
والمذهب الأول؛ لأن المسمى قد سقط اعتباره، وإنما الاعتبار بمهر المثل.
وإن تزوجها على ألف إن لم يخرجها من بلدها، وعلى ألفين إن أخرجها.. فالمهر فاسد، ويجب لها مهر مثلها.

(9/389)


وقال أبو حنيفة: (إن وفى لها بالشرط الأول.. كان لها الألف، وإن لم يف لها.. كان لها مهر مثلها) .
وقال أبو يوسف ومحمد: الشرطان جائزان.
دليلنا: أنه دخل في العقد على التخيير بين عوضين، فكان العوض فاسداَ، كما لو قال: بعتك بألف نقدًا وبألفين نسيئة.

[فرع الشرط المنافي لعقد النكاح يبطله]
) : إذا اشترطت المرأة على الزوج حال العقد أن لا يطأها، أو على أن يطأها في الليل دون النهار، أو على أن لا يدخل عليها سنة.. بطل النكاح؛ لأن ذلك شرط ينافي مقتضى العقد.
وإن شرط الزوج ذلك عليها في العقد.. لم يبطل النكاح؛ لأن ذلك حق له يجوز له تركه، فلم يؤثر شرطه، ولا يلزمه الوفاء بالشرط؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل شرط ليس في كتاب الله تعالى.. فهو باطل» . وهذا ليس في كتاب الله، فكان باطلًا.

[فرع شرط الخيار في عقد النكاح أو في الصداق]
) : إذا تزوج امرأة بمهر وشرط خيار المجلس، أو خيار الثلاث في عقد النكاح.. فسد النكاح؛ لأن النكاح لا يقع إلا لازمًا، فإذا شرط فيه الخيار.. نافى ذلك مقتضاه، فأبطله.
وإن شرط الخيار في الصداق.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المختصر ": (كان المهر فاسدًا) . وظاهر هذا: أن النكاح صحيح. وقال في " الإملاء ": (إن المهر والنكاح باطلان) .
واختلف أصحابنا فيهما:
فمنهم من قال: هي على حالين:
فحيث قال: يبطلان.. أراد إذا شرط الخيار في النكاح والمهر، أو في النكاح وحده.

(9/390)


وحيث قال: لا يبطل النكاح.. أراد إذا شرط الخيار في المهر وحده.
ومنهم من قال: إذا شرط الخيار في المهر وحده.. فهل يصح النكاح؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنه أحد عوضي النكاح، فبطل النكاح بشرط الخيار فيه، كما لو شرطه في البضع.
والثاني: يصح النكاح، وهو الصحيح؛ لأنه لو جعل الصداق خمرًا أو خنزيرًا.. لم يفسد النكاح، فلأن لا يفسد إذا شرط الخيار في المهر أولى.
فإذا قلنا بهذا: ففي المهر والخيار.. ثلاثة أوجه حكاها الشيخ أبو حامد:
أحدها: أن المهر والخيار صحيحان؛ لأن المهر كالثمن في البيع، فلما ثبت جواز الخيار في الثمن.. ثبت جوازه في المهر.
والثاني: أن المهر صحيح والخيار باطل؛ لأن المقصود هو الصداق، والخيار تابع، فثبت المقصود وبطل التابع.
والثالث: أن المهر والخيار باطلان، وهو المنصوص؛ لأن الخيار لما لم يثبت في المعوض، وهو البضع.. لم يثبت في العوض، وإذا سقط الخيار.. فقد ترك لأجله جزء من المهر، فيجب رده وذلك مجهول، وإذا كان المهر مجهولًا.. وجب مهر المثل.
قال الشيخ أبو حامد: والوجهان الأولان يساويان استمتاعهما.

[فرع عيب المهر يثبت خيار الرد]
) : ويثبت في الصداق خيار الرد بالعيب المتفاحش، واليسير مما يعد عيبًا في مثله.
وقال أبو حنيفة، وصاحباه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: (يرد بالمتفاحش دون اليسير) .
دليلنا: أن إطلاق العقد يقتضي سلامة المهر من العيب، فإذا رد بالمتفاحش.. رد باليسير، كالمبيع.

(9/391)


[مسألة تملك المهر الصحيح عندنا بنفس العقد وحكم قبض وليها له]
) : وتملك المرأة جميع المهر المسمى لها بنفس العقد إن كان ما سماه صحيحًا، وإن كان باطلًا.. ملكت مهر المثل. وبه قال أبو حنيفة، وأحمد.
وقال مالك: (تملك نصف المسمى بالعقد، والنصف الباقي أمانة في يدها للزوج، فإن دخل بها.. استقر ملكها على الجميع) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] [النساء: 4] ، فلولا أنهن ملكنه.. لما أمر بتسليمه إليهن. ولأنه عوض في مقابلة معوض، فملك في الوقت الذي يملك به المعوض، كالأثمان في البيع.
وإن كانت المنكوحة صغيرة، أو كبيرة مجنونة، أو سفيهة.. فللأب أو الجد أن يقبض صداقها؛ لأن له ولاية على مالها.
وإن كانت بالغة عاقلة رشيدة.. سلم المهر إليها أو إلى وكيلها، وليس لوليها قبضه بغير إذنها.
ومن أصحابنا من قال: إذا قلنا: إن الذي بيده عقدة النكاح هو الأب أو الجد.. جاز له أن يقبض المهر بغير إذنها؛ لأنه إذا جاز له العفو عنه.. فلأن يجوز له قبضه أولى.
والأول أصح؛ لأنه إنما يجوز له العفو على هذا القول عن مهر الصغيرة أو المجنونة، فأما الكبيرة العاقلة: فليس له العفو عن مهرها بلا خلاف. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (إن كانت المنكوحة ثيبًا.. لم يكن للأب أو الجد قبض صداقها بغير إذنها. وإن كانت بكرًا.. فله قبض صداقها بغير إذنها إلا أن تنهاه عن قبضه) .
دليلنا: أنها بالغة رشيدة، فلم يكن له قبض صداقها بغير إذنها، كالثيب.

(9/392)


[فرع متى تجبر الزوجة على تسليم نفسها باعتبار المهر حالًا أو مؤجلًا]
؟) : إذا كان الصداق حالًا فطالبته الزوجة بتسليمه، فقال الزوج: لا أجده، وطلب الزوج إمهاله إلى أن يجمعه، وطالب بتسليم الزوجة إليه.. لم تجبر الزوجة على تسليم نفسها إليه، إلا أن يجمع صداقها ويسلمه إليها؛ لأن المهر في مقابلة البضع وعوض عنه، فإذا امتنع الزوج من تسليم العوض.. لم تجبر المرأة على تسليم المعوض، كما لا يجبر البائع على تسليم المبيع إذا امتنع المشتري من تسليم الثمن.
فإن قال الزوج: لا أسلم الصداق حتى تسلم الزوجة نفسها. وقالت الزوجة: لا أسلم نفسي حتى يسلم إليَّ الصداق.. فقد ذكرنا فيمن اشترى سلعة بثمن في ذمته، فقال البائع: لا أسلم السلعة حتى أقبض الثمن، وقال المشتري: لا أسلم الثمن حتى أقبض السلعة ثلاثة أقوال مشهورة:
أحدها: لا يجبر واحد منهما على التسليم، بل أيهما تطوع بالتسليم.. أجبر الآخر.
والثاني: أنهما يجبران معًا، فيجبر البائع على تسليم السلعة إلى عدل، ويجبر المشتري على تسليم الثمن إلى عدل، ثم تسلم السلعة إلى المشتري، والثمن إلى البائع، وبأيهما بدأ.. جاز.
والثالث: أن البائع يجبر على تسليم السلعة إلى المشتري، ثم يجبر المشتري على تسليم الثمن إلى البائع.
وأما الصداق: فلا يجيء فيه إلا القولان الأولان:
أحدهما: لا يجبر واحد منهما على التسليم، بل يقال لهما: أيكما تطوع بالتسليم.. أجبرنا الآخر على التسليم.
والثاني: يجبر الزوج على تسليم الصداق إلى عدل، فإذا حصل الصداق في يد عدل.. أجبرت الزوجة على تسليم نفسها إلى الزوج.

(9/393)


ولا يجيء في هذا القول: أن تسلم المرأة نفسها إلى عدل، كما قلنا في البائع؛ لأن معنى قولنا: (تسلم نفسها) نعني به: ليطأها الزوج، وهذا لا يحصل بتسليمها نفسها إلى العدل.
وسقط هاهنا القول الثالث في البيع، وهو قولنا: يجبر البائع أولًا على تسليم السلعة إلى المشتري؛ لأنا إذا أجبرنا البائع على تسليم السلعة.. أخذ الثمن من المشتري إن كان حاضرًا، وإن كان غائبًا.. حجر على المشتري في السلعة وفي جميع أمواله إلى أن يسلم الثمن. والزوجة هاهنا بمعنى البائع، فلو أجبرناها على تسليم نفسها - وهو: تمكينها الزوج من وطئها - ربما أتلف ماله بعد وطئها، أو أفلس وقد أتلف بُضعَها؛ لأنه لا يتأتى فيها ما ذكرناه في السلعة. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي (في " الإبانة ") : بل في الصداق ثلاثة أقوال أيضًا:
أحدها: لا يجبران.
والثاني: يجبران؛ بأن يوضع الصداق على يد عدل، وتجبر المرأة على التمكين.
والثالث: يجبر الزوج.
والأول هو المشهور.
فإذا قلنا لا يجبران.. لم تجب لها عليه نفقه في حال امتناعها؛ لأن الزوج لا يختص بالامتناع.
وإن قلنا: يجبر الزوج أولًا.. فلها النفقة في حال امتناعها قبل تسليم الزوج المهر؛ لأن المنع من جهته.
فإن تبرعت المرأة وسلمت نفسها إليه ووطئها الزوج.. لم يكن لها أن تمتنع بعد

(9/394)


ذلك، بل يجبر الزوج على تسليم الصداق إن كان موسرًا. وبه قال أبو يوسف ومحمد.
وقال أبو حنيفة: (لها أن تمتنع بعد ذلك حتى تقبض صداقها) .
دليلنا: أن التسليم الأول تسليم استقر به المسمى برضاها، فلم يكن لها الامتناع بعد ذلك، كما لو سلم البائع السلعة قبل قبض الثمن ثم أراد أخذها.
وإن أكرهها الزوج فوطئها.. فهل لها أن تمتنع بعد ذلك إلى أن تقبض المهر؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة ":
أحدهما: لها أن تمتنع؛ كما لو قبض المشتري العين المبيعة وأكره البائع على ذلك قبل قبض الثمن.
والثاني: ليس لها أن تمتنع؛ لأن المهر قد تقرر بذلك، والبائع إذا استرد المبيع.. ارتفع التقرير.
وإن كان الصداق مؤجلًا، فطلب الزوج تسليمها إليه قبل حلول الأجل.. لم يكن لها أن تمتنع. فإن امتنعت.. أجبرت؛ لأنها رضيت بتأخير حقها إلى الأجل، فلم يكن لها الامتناع من التسليم، كما لو باع سلعة بثمن مؤجل.. فليس له الامتناع من تسليمها قبل حلول الأجل.
فإن تأخر تسليمها لنفسها حتى حل الأجل.. فهل لها الامتناع إلى أن تقبض الصداق؟ فيه وجهان:
(أحدهما) : قال الشيخ أبو حامد: ليس لها أن تمتنع؛ لأن التسليم مستحق عليها قبل المحل، فلم يسقط ما وجب عليها بحلول دينها.
و (الثاني) : قال القاضي أبو الطيب: لها أن تمتنع. قال: وقد ذكر المزني في " المنثور ": أنه إذا باع سلعة بثمن مؤجل، فلم يقبض السلعة حتى حل الأجل.. فإن للبائع الامتناع من تسليم السلعة حتى يقبض الثمن.

(9/395)


ووجهه: أن لها المطالبة بالمهر، فكان لها الامتناع، كما لو كان حالًا.
وإن كان بعض الصداق مؤجلًا وبعضه حالًا.. فلها أن تمتنع من تسليم نفسها حتى تقبض الحال منه، كما لو كان جميعه حالًا. فإذا قبضت الحال منه.. لم يكن لها أن تمتنع من تسليم نفسها حتى تقبض المؤجل، كما لو كان جميعه مؤجلًا.

[مسألة تصرف الزوجة بالصداق قبل قبضه]
) : إذا كان الصداق عينا فأرادت الزوجة أن تتصرف فيها بالبيع أو الهبة وما أشبههما قبل القبض.. لم يصح.
وقال بعض الناس: يصح.
دليلنا: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع ما لم يقبض» . وهذا لم يقبض.
وإن كان الصداق دينًا في الذمة.. فهل يصح لها أن تبيعه قبل قبضه؟ فيه قولان، كالثمن في الذمة. وهذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي (في " الإبانة ") : إذا أرادت بيع الصداق قبل أن تقبضه.. فهل يصح بيعها له؟ فيه قولان:
إن قلنا: إنه مضمون في يد الزوج ضمان العقد.. لم يصح.
وإن قلنا: ضمان اليد.. صح، وأراد بذلك إذا كان الصداق عينًا.

[مسألة الصداق العين مضمون على الزوج حتى يدفعه]
) : وإذا أصدق الرجل امرأته عينا معينة، إما عبدًا أو ثوبًا.. فإنها تكون مضمونة على الزوج ما لم تقبضها الزوجة؛ لأنها مضمونة عليه بعقد معارضة فكانت مضمونة، كالمبيع.
فإن قبضتها الزوجة.. سقط الضمان عنه، وصار ضمانها على الزوجة.

(9/396)


وإن هلكت العين في يد الزوج قبل أن تقبضها الزوجة.. سقط حقها من العين؛ لأنها قد تلفت ولا يبطل النكاح؛ لأن النكاح ينعقد بغير مهر، فلا يبطل بتلف الصداق، ويجب على الزوج ضمان الصداق للزوجة؛ لأنا قد تبينا أنه مضمون عليه إلا أن تقبضه الزوجة. وفيما يضمنه به قولان:
(أحدهما) : قال في الجديد: (ترجع عليه بمهر مثلها) - وهو اختيار المزني، وأبي إسحاق المروزي، والقاضي أبي الطيب - لأنه عوض معين تلف قبل القبض، وتعذر الرجوع إلى المعوض، فوجب الرجوع إلى بدل المعوض، لا إلى بدل العوض، كما لو اشترى عبدًا بثوب، وقبض العبد وتلف العبد، والثوب عنده.. فإنه يجب عليه قيمة العبد لا قيمة الثوب.
فقولنا: (عوض معين) احتراز من العوض في الذمة.
وقولنا: (تعذر الرجوع إلى المعوض به) ؛ لأن الشرع قد منع الزوجة من الرجوع إلى بُضعِها بتلف الصداق، فرجعت إلى بدله. وفيه احتراز من المبيع إذا تلف قبل القبض والثمن باق.
و (الثاني) : قال في القديم: (ترجع عليه ببدل العين التالفة) - وهو قول أبي حنيفة، وأحمد رحمة الله عليهما، واختيار الشيخ أبي حامد، وابن الصباغ - لأن كل عين يجب تسليمها.. لا يسقط ضمانها بتلفها، فإذا تلفت.. ضمنت ببدلها، كالعين المغصوبة.
فقولنا: (عين يجب تسليمها) احتراز مما لم يجب تسليمه، كالعين المبيعة والثمن قبل البيع.
وقولنا: (لا يسقط ضمانها بتلفها) احتراز من العين المبيعة والثمن إذا تلفا قبل القبض.

(9/397)


فإذا قلنا بقوله الجديد فإن تلفت العين بآفة سماوية أو بفعل الزوج.. وجب لها مهر مثلها، سواء سلمت نفسها إلى الزوج وطالبته بها فمنعها، أو لم تطالبه بها ولم يمنعها. وإن أتلفتها الزوجة.. كان ذلك قبضًا لها.
وإن أتلفها أجنبي.. فظاهر قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنها بالخيار: بين أن ترجع على الزوج بمهر المثل ويرجع الزوج على الأجنبي ببدل الصداق الذي أتلف، وبين أن ترجع الزوجة على الأجنبي ببدل ما أتلف.
وإن نقص الصداق في يد الزوج بآفة سماوية أو بفعل الزوج.. فهي بالخيار: بين أن تأخذ الصداق ناقصًا ولا شيء لها، وبين أن ترجع على الزوج بمهر مثلها.
فإن كان النقص بفعل أجنبي.. فهي بالخيار: بين أن ترجع على الزوج بمهر مثلها ويأخذ الزوج من الأجنبي الأرش، وبين أن تأخذ الصداق والأرش من الأجنبي.
وإن نقص الصداق بفعل الزوجة.. أخذته ناقصًا ولا شيء لها.
وإن قلنا بقوله القديم.. فحكمه في يد الزوج حكم المغصوب، إلا أنه لا يأثم إذا لم يمنعها من أخذه. فإذا تلف في يد الزوج بآفة سماوية أو بفعل الزوج.. رجعت عليه بمثله إن كان له مثل، أو بقيمته إن لم يكن له مثل. ومتى تعتبر قيمته؟ من أصحابنا من قال: فيه قولان، ومنهم من قال: هما وجهان:
المنصوص: (أنه تعتبر قيمته أكثر ما كانت من حين العقد إلى حين التلف) ؛ لأنه مضمون على الزوج في جميع هذه الأحوال، فهو كالمغصوب 0 والثاني: ترجع عليه بقيمته يوم التلف. والأول أصح. وإن نقص في يد الزوج.. نظرت: فإن كان بآفة سماوية.. كانت بالخيار: بين أن ترد الصداق لأجل النقص وترجع ببدله عليه، وبين أن تأخذه ناقصًا وتأخذ منه أرش النقص؛ لأنه كالغاصب. وإن نقص بفعل الزوج، فإن اختارت رده وأخذ بدله.. كان لها. وإن اختارت أخذه، فإن لم يكن للجناية أرش مقدر.. أخذت الصداق وما نقص من قيمته.
وإن كان لها أرش مقدر، بأن كان عبدًا فقطع يده.. رجعت عليه مع العبد بأكثر

(9/398)


الأمرين: من نصف قيمته، أو ما نقص من قيمته بذلك؛ لأنه اجتمع فيه ضمان اليد والجناية.
وإن نقص بفعل أجنبي، فإن اختارت رده على الزوج وأخذ بدل منه.. كان لها ذلك لأجل النقص، ورجع الزوج على الأجنبي بالأرش. وإن اختارت أخذه.. أخذته، فإن كان الأرش غير مقدر.. رجعت به إن شاءت.. على الزوج، وإن شاءت على الأجنبي. وإن كان الأرش مقدرًا، فإن كان مثل أرش النقص، أو أكثر من أرش النقص00رجعت به على من شاءت منهما. وإن كان الأرش المقدر أقل من أرش النقص.. كانت بالخيار: بين أن ترجع بأرش النقص على الزوج، وبين أن ترجع على الأجنبي بالأرش المقدر وترجع على الزوج بتمام أرش النقص.

[فرع اختلال صفة المهر من جائز إلى محرم أو غيره]
) : إذا أصدقها عبدًا فخرج حرًا أو مستحقًا، أو شاة فخرجت خنزيرًا، أو خلا فخرج خمرًا.. فهو كما لو تلف الصداق قبل القبض، فيكون على قولين:
أحدهما: ترجع عليه بمهر مثلها.
والثاني: ترجع عليه بقيمته.
ومن أصحابنا من قال: إذا قال: تزوجتك على هذه الجرة الخل فخرج خمرًا.. رجعت عليه بمهر مثله قولًا واحدًا؛ لأن الخل مجهول لا تعلم قيمته. وإن قال: تزوجتك على هذا الجرو، أو الخنزير، أو الخمر، أو هذا المغصوب.. وجب لها مهر المثل قولًا واحدًا؛ لأنه لم يسم لها شيئًا له بدل، بخلاف الأولى؛ فإنه قد سمى لها شيئاٍ له بدل.
وإن قبضت الصداق فوجدت به عيبًا فردته، أو كان الصداق تعليم سورة فلم تحفظ لها، أو تعلمتها من غير الزوج.. فهو كما لو تلف الصداق قبل القبض. فعلى قوله الجديد: ترجع إلى مهر مثلها. وعلى قوله القديم: ترجع إلى بدل المردود بالعيب، وإلى أجرة التعليم.

(9/399)


[مسألة ثبوت المهر بالوطء في مكان الحرث]
) : ويستقر المهر المسسمى للزوجة بالوطء في الفرج؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] (البقرة: 237) ، فلما أثبت للزوج الرجوع بنصف الصداق بالطلاق قبل المسيس.. دل على: أنه لا يرجع عليها بشيء منه بعد المسيس.
وقال في آية أخرى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21] [النساء: 21] ، وفسر (الإفضاء) : بالجماع:
وإن وطئها في دبرها.. فهل يستقر به المسمى؟ فيه وجهان:
(أحدهما) : من أصحابنا من قال: لا يستقر لها به المسمى؛ لأن المهر في مقابلة ما يملكه بالعقد، والوطء في الدبر غير مملوك في العقد، فلم يستقر به المهر.
والثاني - وهو المذهب ـ: أنه يستقر به المسمى؛ لأنه موضع يجب بالإيلاج فيه الحد، فاستقر به المهر، كالفرج.
قال أصحابنا: وجميع الأحكام التي تتعلق بالوطء في القبل.. تتعلق بالوطء في الدبر، إلا خمسة أحكام: الإحلال للزوج الأول، والإحصان، وإيفاء المولي، والخروج من العنة، وتغير إذن المنكوحة.
فإن وطئ أجنبية في دبرها بشبهة.. وجب لها مهر المثل. وإن حلف أن لا يطأ امرأة فوطئها في دبرها.. حنث في يمينه.
قال الصيمري: فإن آلى من امرأته أكثر من أربعة أشهر فوطئها في دبرها.. لم يسقط بذلك حقها، وينبغي أن يحنث في يمينه.
وإن أتت امرأته بولد يلحقه بالإمكان ولم يقر بوطئها.. فهل يستقر عليه المهر المسمى؟ فيه قولان: أحدهما: يستقر عليه؛ لأن إلحاق النسب به يقتضي وجود الوطء.

(9/400)


والثاني: لا يستقر عليه؛ لأن الولد يلحق بالإمكان، والمهر لا يستقر إلا بالوطء، والأصل عدم الوطء.

[فرع موت أحد الزوجين يثبت الصداق]
) : وإن مات أحد الزوجين قبل الدخول.. استقر لها المهر.
وقال أبو سعيد الإصطخري: إن كانت أمة فماتت قبل الدخول.. لم يستقر لها المهر.
والمذهب الأول؛ لأن النكاح إلى الموت، فاستقر به المهر، كالإجارة إذا انقضت مدتها.

[فرع لا اعتبار للخلوة في الجديد إلا مع الوطء]
) : وإن خلا الزوج بها ولم يجامعها.. فهل حكم الخلوة حكم الوطء في تقرير المهر ووجوب العدة؟ اختلف العلماء فيها:
فذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجديد إلى: (أنه لا تأثير للخلوة في تقرير المهر، ولا في وجوب العدة) . وبه قال ابن عباس، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ومن التابعين: الشعبي، وابن سيرين، وطاوس. ومن الفقهاء: أبو ثور.
وذهبت طائفة إلى: أن الخلوة كالوطء في تقرير المهر ووجوب العدة. وذهب إليه

(9/401)


عمر، وعلي بن أبي طالب - وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم -. وبه قال الزهري، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن خلا بها خلوة تامة، بأن يخلو بها في بيته دون بيت أبيها أو أمها.. رجح بها قول من يدعي الإصابة منهما عند اختلافهما فيها، ولا تكون الخلوة كالوطء في تقرير المهر ووجوب العدة) .
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديمِ: (للخلوة تأثير) .
فمن أصحابنا من قال: مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم في الخلوة كقول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أنه: يرجح بها قول من ادعى الإصابة لا غير، إلا أنه لا فرق - عندنا - على هذا بين أن يخلو بها في بيته، أو في بيت أبيها أو أمها.
ومنهم من قال: مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم كقول أبي حنيفة، وهو المنصوص في القديم.

(9/402)


فإذا قلنا بهذا.. فوجهه: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كشف عن قناع امرأة.. فقد وجب عليه المهر» .
وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه -: أنه قال: إذا أغلق الباب وأرخي الستر.. فقد وجب المهر؛ ما ذنبهن إن جاء العجز من قِبَلِكُمْ؟.
ولأنه عقد على المنفعة، فكان التمكين منها كالاستيفاء في تقرير البدل، كالإجارة.
وإذا قلنا بقوله الجديد، وهو الأصح.. فوجهه: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] [البقرة: 237] ، ولم يفرق بين أن يخلو بها، أو لا يخلو بها. ولأن الخلوة لو كانت كالإصابة في استقرار المهر ووجوب العدة.. لكانت كالإصابة في وجوب مهر المثل في الشبهة. وأما الخبر: فمحمول على أنه كنى عن الجماع بكشف القناع. وما روي عن أمير المؤمنين عمر.. فقد روينا عن ابن عباس وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - خلاف ذلك.
فإذا قلنا بقوله الجديد، فوطئها فيما دون الفرج فسبق الماء إلى فرجها.. وجبت عليها العدة وجهًا واحدًا؛ لأن رحمها قد صار مشغولًا بمائه. وإن أتت من ذلك بولد.. لحقه نسبه، وهل يستقر بذلك صداقها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يستقر؛ لأن رحمها قد صار مشغولًا بمائه، فهو كما لو وطئها.

(9/403)


والثاني: لا يستقر به المهر؛ لأنه لم يوجد الجماع التام، فهو كما لو لم يسبق ماؤه إلى فرجها.
ولو استدخلت المرأة ماء غير ماء زوجها وظنته ماء زوجها.. لم يثبت له حكم من الأحكام؛ لأن الشبهة تعتبر في الرجل.

[مسألة الفرقة بعد الدخول أو قبله باعتبار المهر]
وإن تزوج رجل امرأة ودخل بها ثم افترقا.. لم ترجع إلى الزوج بشيء من المهر، سواء كانت الفرقة من جهة الزوج، أو من جهة الزوجة، أو من جهتهما، أو من جهة أجنبي؛ لأن المهر قد استقر بالدخول، فلم تؤثر الفرقة، وهذا لا خلاف فيه.
وإن أصدقها تعليم سورة من القرآن ودخل بها، ثم طلقها قبل أن يعلمها، فإن كان الصداق تحصيل التعليم.. لم يتعذر ذلك بالطلاق، بل يستأجر لها امرأة أو محرما لها ليعلمها. وإن كان الصداق على أن يعلمها بنفسه.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن التعليم لا يتعذر بذلك، بل يعلمها من وراء حجاب، كما يجوز أن يسمع مها أخبار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وراء حجاب.
والثاني: أن تعليمه لها قد تعذر؛ لأنه يخاف عليهما الافتتان، ويخالف سماع الأخبار؛ لأنا لو لم نجوز ذلك.. لضاع ما عندها من الأخبار.
فإذا قلنا بهذا.. كان كما لو تلف الصداق قبل القبض، فترجع في قوله الجديد إلى مهر مثلها، وفي قوله القديم إلى أجرة التعليم.
وإن وقعت الفرقة بينهما قبل الدخول.. نظرت: فإن بسبب من جهتها، بأن أسلمت، أو ارتدت، أو أرضعته، أو أرضعت زوجة له صغيرة، أو وجد أحدهما بالآخر عيبًا ففسخ النكاح.. سقط جميع المهر؛ لأن البضع تلف قبل الدخول بسبب من جهتها، فسقط ما يقابله، كالمبيع إذا تلف قبل القبض.

(9/404)


وإن كانت بسبب من جهة الزوج، بأن طلقها.. سقط عنه نصف المسمى إن كانت لم تقبضه، ووجب عليها رد نصفه إن كانت قد قبضته؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] [البقرة: 237] .
وهكذا: إن أسلم أو ارتد.. فحكمه حكم الطلاق؛ لأن الفرقة من جهته، فهي كالطلاق.
وإن كانت الفرقة بسبب منهما.. نظرت: فإن كانت بخلع.. فحكمه حكم الطلاق؛ لأن المغلب فيه: جهة الزوج؛ بدليل: أنه يصح خلعه مع الأجنبي. وإن كانت بردة منهما، بأن ارتدا معًا في حالة واحدة.. ففيه وجهان:
أحدهما: حكمه حكم الطلاق؛ لأن حال الزوج في النكاح أقوى، فهو كما لو ارتد وحده.
والثاني: يسقط جميع المهر؛ لأن المغلب في المهر: جهة المرأة؛ لأنها صاحبة الحق وقد أقدمت على ما هو سبب الفرقة، فيسقط حقها.
وإن اشترت المرأة زوجها قبل الدخول.. ففيه وجهان:
أحدهما: حكمه حكم الطلاق؛ لأن البيع تم بالزوجة وسيد العبد، وهو قائم مقام العبد، فهو كالخلع.
والثاني: يسقط جميع المهر، وهو المنصوص؛ لأنه لا صنع للزوج في البيع، فهو كما لو أرضعته وكان صغيرًا.
فإذا قلنا بالأول، فإن كانت الزوجة قد قبضت جميع صداقها من كسب العبدِ.. رجع عليها سيده بنصفه. وإن كان الصداق في ذمة العبد.. فهل يبقى لها نصفه في الذمة؟ فيه وجهان يأتي بيانهما.
وإن قلنا بالثاني، وكانت قد قبضته.. رجع سيده بجميعه عليها. وإن كان في ذمة العبد.. سقط جميعه عن ذمته.

(9/405)


[مسألة قتل الزوجة نفسها أو بغيرها وسقوط المهر]
) : وإن كانت المنكوحة أمة فقتلت نفسها، أو قتل السيد قبل الدخول.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (سقط جميع المهر) . وقال في الحرة إذا قتلت نفسها، أو قتلها وليها قبل الدخول: (إنه لا يسقط شيء من المهر) . واختلف أصحابنا فيهما:
فذهب أبو العباس، وبعض أصحابنا إلى: أن فيهما قولين:
أحدهما: يسقط مهرها؛ لأن النكاح انفسخ بسبب من جهتها، فهو كما لو ارتدت.
والثاني: لا يسقط، وهو الأصح؛ لأنها فرقة حصلت بانقضاء أجلها، فهو كما لو ماتت.
وذهب أبو إسحاق، وبعض أصحابنا إلى: أنهما على ظاهرهما، ففي الأمة يسقط، وفي الحرة لا يسقط؛ لأن الحرة مسلمة لنفسها بالعقد، ولهذا: لا يجوز لها السفر بغير إذن الزوج، والأمة غير مسلمة لنفسها، ولهذا: يجوز لسيدها السفر بها بغير إذن زوجها؛ لأن زوج الحرة يغنم ميراثها فجاز أن يغرم مهرها، وزوج الأمة لا يغنم ميراثها فلم يغرم مهرها.
فإذا قلنا: يسقط المهر بذلك.. فإن الحرة لا يسقط مهرها إلا إذا قتلت نفسها قبل الدخول، وإن قتلها وليها أو زوجها أو أجنبي.. لم يسقط مهرها.
وأما الأمة: فإن قتلت نفسها قبل الدخول.. سقط مهرها؛ لأنها هي الزوجة، وإن قتلها سيدها.. سقط مهرها؛ لأن المهر له. وإن قتل الأمة زوجها أو الأجنبي قبل الدخول.. لم يسقط مهرها.
وقال أبو سعيد الإصطخري: يسقط مهرها إذا قتلها أجنبي؛ لأنها كالسلعة المبيعة، والسلع المبيعة إذا أتلفها أجنبي قبل القبض.. انفسخ البيع وسقط الثمن.
والمذهب الأول؛ لأنها إنما تكون كالسلعة إذا بيعت، فأما في النكاح: فهي كالحرة.

(9/406)


قال الشيخ أبو حامد وأبو سعيد الإصطخري: إنما تخالف في الأمة إذا قتلها الأجنبي لا غير.
قال ابن الصباغ: وحكى بعض أصحابنا: أنها إن ماتت قبل الدخول.. كان كما لو قتلها أجنبي - وهي طريقة صاحب " المهذب " وقد مضى ذكرها - قال ابن الصباغ: وهذا ليس بصحيح؛ لأن الأمة في النكاح كالحرة يصح طلاقها وظهارها والإيلاء منها، فلا تجري مجرى السلعة.

[مسألة زوج أمته ثم باعها واعتبار النفقة والمهر]
) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن باعها حيث لا يقدر عليها.. فلا مهر لها حتى يدفعها إليه) .
وجملة ذلك: أنه إذا زوج أمته ثم باعها من آخر.. فقد ذكرنا: أنه يصح البيع ولا يكون طلاقًا، وقد مضى.
فإن كان المشتري يريد السفر بها، أو كان بدويًا وأراد الخروج بها إلى البادية.. كان له ذلك؛ لأن حق المالك للرقبة آكد من حق المالك للمنفعة. فإن كان الزوج قد دخل بها.. فقد استقر عليه المهر، فيجب عليه دفعه إلى البائع، وإن كان قد دفعه.. لم يسترجعه 0وإن كان ذلك قبل الدخول.. لم يجب على الزوج دفع المهر، وإن كان قد دفعه 00استرجعه؛ لأن المهر إنما يجب بالتمكين من الاستمتاع ولم يوجد ذلك 0 لأن المهر إنما يجب بالتمكين من الاستمتاع ولم يوجد ذلك.
وإن لم يرد المشتري السفر بها وسلمها إلى الزوج ليلًا ونهارًا.. وجب على الزوج جميع نفقتها، ولزمه تسليم مهرها إلى البائع إن لم تكن مفوضة.
وإن قال المشتري: لا أسلمها إلا ليلًا، ولا أسلمها نهارًا.. كان له ذلك؛ لأنه عقد على إحدى منفعتيها وهو الاستماع، فلم يلزمه تسليمها في غير زمان الاستمتاع، كما لو أجرها للخدمة ليلًا.

(9/407)


قال أبو إسحاق: إلا أن تكون صانعة تنسج التِّكَكَ، أو تغزل.. فيلزمه إرسالها إلى الزوج ليلًا ونهارًا، وتعمل ذلك في بيت زوجها.
قال الشيخ أبو حامد: وفي هذا نظر؛ لأنه لا يتعين على السيد استعمالها في تلك الصنعة وحدها.
فإذا سلمها السيد بالليل دون النهار.. فهل يجب على الزوج شيء من النفقة؟ فيه وجهان:
(أحدهما) : قال أبو علي بن أبي هريرة: يجب على الزوج نصف نفقتها اعتبارًا بما سلمت إليه من الزمان.
والمذهب: أنه لا يلزمه شيء من النفقة؛ لأنه لم يمكن من الاستمتاع التام بها.
وأما المهر: فحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال: إذا لم يسلمها تسليمًا تامًا ليلا ونهارًا.. لم يلزمه تسليم المهر.
وقال غيره من أصحابنا: يلزمه، وهو الصحيح؛ لأنه يتمكن من وطئها ليلًا، فإذا وطئها.. استقر عليه المهر.

[مسألة الطلاق قبل الدخول وطروّ الزيادة أو النقصان على الصداق]
وإذا طلق الزوج امرأته قبل الدخول وقد قبضت الصداق.. فقد ذكرنا: أن الزوج يرجع عليها بنصفه.
فإن كان الصداق قد تلف بيدها، فإن كان له مثل.. رجع عليها بنصف مثله؛ لأنه أقرب. وإن كان لا مثل له.. رجع عليها بنصف قيمته؛ لأن ما لا مثل له يضمن بالقيمة. فإن اختلفت قيمته من حين العقد إلى حين قبضه.. رجع عليها بنصف قيمته أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض؛ لأن قيمته إن كانت حين العقد أقل ثم

(9/408)


ازدادت.. فإن الزيادة حدثت في ملكها، فلا يلزمها ضمانها. وإن كانت قيمته وقت العقد أكثر ثم نقصت.. فإن النقص مضمون على الزوج لها، فلا تضمنه الزوجة له.
وإن كان الصداق باقيًا في يدها.. فلا يخلو من أربعة أحوال:
إما أن يكون باقيًا على حالته من حين القبض إلى حين الطلاق، أو يكون ناقصًا من جميع الوجوه عن حالته التي قبضته عليها، أو يكون زائدًا على حالته التي قبضته عليها من جميع الوجوه، أو يكون زائدًا من وجه ناقصًا من وجه.
فإن كان باقيًا على حالته.. رجع بنصفه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]
[البقرة 237] وإن كان ناقصًا من جميع الوجوه، بأن كانت جارية سمينة فهزلت أو مرضت أو ما أشبه ذلك.. فالزوج بالخيار: بين أن يرجع بنصف الصداق ناقصًا ولا شيء له غير ذلك، وبين أن يرجع عليها بنصف قيمته أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض؛ لأن الله تعالى قال: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] [البقرة: 237] وإذا كان ناقصًا.. فليس هو المفروض.
وإن كان الصداق زائدًا من جميع الوجوه.. فلا تخلو الزيادة: إما أن تكون متميزة، أو غير متميزة:
فإن كانت متميزة، بأن أصدقها بهيمة حائلًا فحملت وولدت ثم طلقها، أو شجرة لا ثمرة عليها فأثمرت وجذت ثم طلقها.. رجع عليها بنصف الصداق دون النماء؛ لأنه نماء حدث في ملكها وتميز، فلم يكن له فيه حق، كما قلنا في المشتري إذا حدث في ملكه نماء متميز ثم وجد بالمبيع عيبًا فرده.
وإن كانت الزيادة غير متميزة، كالسمن، وتعلم القرآن، والعلم، والصنعة، فإن اختارت الزوجة تسليم نصفه.. أجبر الزوج على أخذه؛ لأنه يرجع إليه أكمل مما دفع إليها. وإن لم تختر تسليم نصفه.. لم تجبر عليه. وبه قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال محمد بن الحسن: تجبر الزوجة على تسليم نصفه مع زيادته المتصلة.
دليلنا: أن هذه زيادة حدثت في ملكها، فلم يلزمها تسليمها، كما لو كانت الزيادة

(9/409)


متميزة، ويلزمها نصف قيمته أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض.
وإن كان على الزوجة ديون فأفلست وحجر عليها.. فهل للزوج أن يرجع عليها في نصف الصداق مع زيادته المتصلة به؟ فيه وجهان:
(أحدهما) : قال أبو إسحاق: يرجع بنصف الصداق مع زيادته المتصلة؛ لأنا إنما لا نوجب الرجوع إلى نصف الصداق مع زيادته إذا كانت غير مفلسة؛ لأن ذمتها عامرة فيتوصل الزوج إلى استيفاء حقه من القيمة، وإذا كانت مفلسة.. فذمتها خربة، فلا يمكنه الوصول إلى استيفاء حقه بالقيمة، فثبت له الرجوع إلى نصفها.
و (الثاني) : قال أكثر أصحابنا: لا يرجع الزوج إلى نصف الصداق مع زيادته المتصلة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى؛ {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] [البقرة: 237] ، والزائد غير المفروض، ولم يفرق بين المفلسة وغير المفلسة.
وإن كان الصداق زائدًا من وجه ناقصًا من وجه، بأن كان عبدًا فتعلم صنعة ومرض، فإن اتفقا على أن يأخذ الزوج نصفه.. جاز؛ لأن الحق لهما. وإن طلب الزوج نصفه فامتنعت الزوجة من ذلك.. لم تجبر على ذلك؛ لزيادته. وإن بذلت المرأة نصفه وامتنع الزوج من أخذه 00لم يجبر على ذلك؛ لنقصانه، ويرجع إلى نصف قيمته أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض.
وإن طلقها قبل الدخول والصداق في يده، فإن كان الصداق بحاله لم يزد ولم ينقص.. كان لها النصف.
وإن كان ناقصًا من جميع الوجوه، بأن مرض في يده أو عمي.. فالزوجة بالخيار: بين أن تأخذ نصفه ناقصًا ولا شيء لها - كالمبيع إذا نقص في يد البائع - وبين أن تفسخ الصداق لأجل نقصه. فإذا فسخت الصداق.. لم ينفسخ النكاح، وإلى ماذا يرجع؟ فيه قولان، كما لو تلف قبل القبض:
(أحدهما) : قوله الجديد: (يرجع إلى نصف مهر المثل) .
و (الثاني) : قوله القديم: (يرجع إلى بدل نصف الصداق) .

(9/410)


وإن كان الصداق زائدًا.. نظرت: فإن كانت زيادة متميزة، كالولد، واللبن، والثمرة.. كان لها نصف أصل الصداق وجميع الزيادة.
وحكى المسعودي (في " الإبانة ") : أن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (للزوج نصف الزيادة المنفصلة الحادثة في يده) .
دليلنا: أنها زيادة حدثت في ملكها، فلم يكن للزوج فيها حق، كما لو حدثت في يدها.
وإن كانت الزيادة غير متميزة، كالسِّمَن، وتعليم الصنعة.. فالمرأة بالخيار: بين أن تأخذ نصف الصداق وتدفع إلى الزوج نصفه مع زيادته فيجبر الزوج على قبوله، وبين أن تأخذ جميع الصداق وتدفع إلى الزوج نصف قيمته أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض.
وإن كان الصداق زائدًا من وجه ناقصا من وجه، بأن كانت جارية تعلمت صنعة ونسيت أخرى.. فهي بالخيار: بين أن تأخذ نصفه وتسلم إلى الزوج نصفه فيجبر الزوج على ذلك؛ لأن النقص في يده مضمون عليه، وبين أن تفسخ الصداق لأجل النقص. فإذا فسخت.. رجعت عليه في قوله الجديد إلى نصف مهر مثلها، وفي قوله القديم إلى نصف بدل الصداق.

[فرع وقت تملك الزوج نصف الصداق إذا طلق قبل الدخول]
) : كل موضع قلنا: يرجع الزوج إلى نصف الصداق بالطلاق قبل الدخول.. فمتى يملك الزوج ذلك النصف؟ فيه وجهان:
(أحدهما) : قال أبو إسحاق: لا يملكه إلا بالطلاق واختيار التملك - وهو قول أبي حنيفة - لأن الملك من غير اختيار لا يقع إلا بالإرث، وهذا ليس بإرث.
والثاني - وبه قال زفر، وهو المنصوص ـ: أنه يملكه بنفس الطلاق وإن لم يختر

(9/411)


التملك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] [البقرة: 237] ، ولم يفرق بين أن يختار التملك أو لا يختار.
وما ذكره الأول: أن الإنسان لا يملك شيئاَ غير الميراث إلا باختيار التملك.. غير مسلم؛ فإن الإنسان لو أخذ صيدًا لينظر إليه لا ليتملكه.. لملكه بالأخذ من غير اختيار التملك.
فإن زاد الصداق بعد الطلاق وقبل اختيار التملك، فإن قلنا بقول أبي إسحاق.. كانت الزيادة للزوجة وحدها. وإن قلنا بالمنصوص.. كانت الزيادة بينهما.
وإن نقص الصداق في يدها بعد الطلاق وقبل الاختيار، فإن قلنا بقول أبي إسحاق.. لم يلزمها ضمان النقص. وإن قلنا بالمنصوص.. لزمها ضمان النقص.
إذا ثبت هذا: فإن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (وهذا كله ما لم يقض القاضي بنصفه، فتكون هي حينئذ ضامنة لما أصابه في يدها) .
وقال الصيمري: هل يشترط قضاء القاضي في تملك الزوج نصف الصداق؟ فيه وجهان:
(أحدهما) : ظاهر كلام الشافعي: أن ذلك شرط.
والثاني - وهو الأصح ـ: أن ذلك ليس بشرط.
وسائر أصحابنا قالوا: لا خلاف أن قضاء القاضي ليس بشرط؛ لأن الرجوع بنصف الصداق ثبت له بنص الكتاب والإجماع، فلم يشترط قضاء القاضي فيه.
فعلى هذا: اختلف أصحابنا في تأويل كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
فمنهم من قال: أراد بقضاء القاضي: إذا اختلفا في وقت ملك الزوج، بأن قال الزوج: ملكته من شهرين ثم نقص بعد ما ملكته، فعليك ضمان النقص. وقالت: بل ملكته من شهر ونقص قبل أن تملكه، فلا يلزمني ضمان النقص.. فإنهما يترافعان إلى القاضي، فإذا قضى له القاضي بملكه من وقت.. كانت ضامنة لما حدث بعده من النقص.
وقال أبو إسحاق، وأكثر أصحابنا: عطف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بهذا الكلام عليه إذا

(9/412)


طلقها قبل الدخول وقد نقص الصداق في يدها من جميع الوجوه.. فإن الزوج بالخيار: بين أن يرجع في نصفه ناقصًا ولا أرش له، وبين أن يرجع بقيمة نصفه. ومتى يملك نصفه؟
على قول أبي إسحاق: يملكه بالطلاق واختيار التملك.
وعلى المنصوص: يملكه بالطلاق، ولا يفتقر إلى قضاء القاضي، وإنما عبر الشافعي عن وقت الملك بقضاء القاضي؛ لأنه أوضح ما يعلم به عود نصف الصداق، فمتى علم وقت عوده إليه ثم نقص بعد ذلك.. وجب عليها ضمان النقص؛ لأنها قبضت الصداق بعقد المعاوضة وقد انفسخت المعاوضة، فكان عليها ضمان ما نقص في يدها، كما لو اشترى سلعة فوجد بها عيبًا ففسخ البيع ثم نقصت في يده.. فإنه يجب عليه ضمان النقص.
وقد نص الشافعي في " الأم " (5/54) على: (أنه إذا طلقها قبل الدخول، والصداق في يدها فمنعته إياه.. كان عليها ضمان ما يحدث فيه من النقص) .
فمن أصحابنا من قال بظاهر هذا: وأنها إذا لم تمنعه.. لم يلزمها ضمان النقص، بل هو أمانة في يدها؛ لأنه حصل في يدها من غير تفريط.
ومنهم من قال: يجب عليها ضمان ما نقص في يدها، سواء منعته أم لم تمنعه، وهو الأصح، كما قلنا فيمن اشترى عينًا فوجد بها عيبًا ففسخ البيع، ثم نقصت في يده.. فإن عليه ضمان النقص بكل حال. وتأولوا كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " على أنه أراد: ضمان الغصب؛ لأن ضمان الغصب يطرأ على ما هو مضمون بالقيمة، كالعارية إذا منعها صاحبها. وقال أبو العباس: بل عطف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بهذا إذا زاد الصداق في يد الزوجة من جميع الوجوه.. فقد قلنا: إن الزيادة كلها لها، فقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ما لم يقض القاضي بنصفه) يعني: ما لم يقض له قاض مالكي بنصفه مع زيادته؛ لأن

(9/413)


مالكًا يقول: (نصف الصداق باق على ملك الزوج إلى أن يدخل بها) . فإذا قضى له قاض مالكيٌ بنصفه مع زيادته.. كان بينهما، ولا ينقض حكمه؛ لأنه موضع اجتهاد.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا تأويل حسن، إلا أن الشافعي قال بعده: (فتكون حينئذ ضامنة لما أصابه في يدها) ، ولا يمكن حمل هذا على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه يقول: (هو أمانة في يدها، لا يلزمها ضمان النصف ولا زيادته) .

[مسألة أصدقها نخلًا، ثم طلقها قبل الدخول]
) : وإن أصدقها نخلا لا ثمرة عليها، فأثمرت في يدها، ثم طلقها قبل الدخول.. ففيها ست مسائل:
الأولى: إذا أراد الزوج أن يرجع في نصف النخل بنصف ثمرتها فامتنعت الزوجة من ذلك.. فإنها لا تجبر على ذلك؛ لأن الثمرة إن كانت غير مؤبرة.. فهي زيادة متصلة بالنخل، وإن كانت مؤبرة.. فهي كالزيادة المنفصلة، وقد بينا أن الجميع لها.
الثانية: إذا بذلت له المرأة نصف النخل مع نصف الثمرة.. فهل يجبر على قبوله؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجبر على قبوله؛ لأن هذه الزيادة ملك لها، فلا يجبر على قبولها، كما لو وهبت له شيئًا.. فإنه لا يجبر على قبوله.
والثاني - وهو المذهب ـ: أنه يجبر على قبوله؛ لأنها زيادة متصلة بالصداق، فأجبر الزوج على قبولها، كالجارية إذا سمنت.
قال الشيخ أبو حامد في " التعليق ": والوجهان إنما هما في الثمرة المؤبرة، فأما غير المؤبرة: فيجبر الزوج على قبولها وجهًا واحدًا.
وذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": أن الوجهين في غير المؤبرة، ولم يذكر المؤبرة 0 فإذا قلنا: يجبر على القبول.. فإنه يجبر إلا أن يطول النخل طولا يكون عيبا فيها

(9/414)


من الكبر، ويصير قحامًا - وهو: النخل الذي قل سعفه ودق أصله - فلا يجبر الزوج على قبولها؛ لما فيها من النقص بذلك.
الثالثة: إذا قال الزوج لها: اقطعي الثمرة لأرجع في نصف النخل بلا ثمرة.. فلا تجبر المرأة على ذلك؛ لأن في قطع الثمرة قبل أوان قطعها إضرارًا بها، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس لعرق ظالم حق» ، وهذه ليست بظالمة.
الرابعة: أن تقول المرأة للزوج: اصبر عن الرجوع حتى تدرك الثمرة فتجذ، ثم ترجع في نصف النخل.. فلا يجبر الزوج على ذلك؛ لأن حقه متعجل فلا يجبر على التأخير، ولأنه لا يؤمن أن يتلف النخل فلا يمكنه الرجوع فيها. فإن صبر باختياره إلى أن جذت الثمرة أو قطعت المرأة الثمرة قبل أوان جذاذها.. لم يكن للزوج إلا نصف النخل، إلا أن يحدث بها نقص.. فلا يجبر على نصفها.
الخامسة: أن يقول الزوج: أنا أصبر إلى أن تدرك الثمرة فتجذ، ثم أرجع في نصف النخل.. فإن المرأة لا تجبر على ذلك؛ لأن النخل بعد أن يرجع إليه نصفها يكون من ضمانها، فيلزمها الضرر بدخولها في ضمانها، ولأن النخل يزيد فإذا رجع في نصفها بعد ذلك.. رجع في نصفها وفي نصف زيادتها المتصلة الحادثة في يدها، ولأن حقه قد تعلق بالقيمة، فلا ينتقل عنها إلى النخل إلا برضا المرأة.
السادسة: إذا قال الزوج: أنا أرجع في نصف النخل في الحال مشاعًا، وأترك الثمرة لها إلى أن تجذها.. ففيه وجهان:
(أحدهما) : قال أبو إسحاق: له ذلك، وتجبر المرأة على ذلك؛ لأنه لا ضرر على المرأة بذلك.
و (الثاني) : من أصحابنا من قال: لا تجبر المرأة على ذلك؛ لأن حقه قد صار في القيمة، فلا تجبر على تسليم نصف النخل.

(9/415)


[فرع أصدقها أرضًا فحرثتها ثم طلقها قبل الدخول]
وإن أصدقها أرضًا فحرثتها ثم طلقها قبل الدخول، فإن بذلت له نصفها.. أجبر على قبولها؛ لأن الحرث زيادة من غير نقصان. وإن امتنعت من بذل نصفها.. لم تجبر على ذلك، وكان له نصف قيمتها؛ لأنها قد زادت في يدها.
فإن زرعتها أو غرستها وطلقها قبل الدخول والزرع والغرس فيها، فإن بذلت له نصف الأرض ونصف الزرع ونصف الغرس، وكانت قيمة الأرض قبل الزرع والغرس كقيمتها بعد الزرع والغرس.. قال الشيخ أبو حامد: أجبر على قبول ذلك على المذهب، كما قلنا فيه إذا بذلت له نصف النخل ونصف الثمرة.
وقال ابن الصباغ: لا يجبر الزوج على قبول ذلك؛ لأن الثمرة لا ينقص بها النخل، والزرع تنقص به الأرض وتضعف، ولأن الثمرة متولدة من النخل، فهي تابعة لها، والزرع والغرس ملك لها أودعته في الأرض، فلا يجبر على قبوله.
وإن نقصت قيمة الأرض بالزرع والغراس 00لم يجبر الزوج على قبول نصفها. فإن طلقها وقد استحصد الزرع ولم تحصده بعد، فقالت: أنا أحصده وأسلم نصف الأرض فارغة.. أجبر على قبول ذلك إلا أن يحدث بالأرض نقص.
وإن حصدت الزرع ثم طلقها، أو طلقها ثم حصدت الزرع.. كان له الرجوع في نصف الأرض إلا أن تكون قد نقصت بالزرع.. فلا يجبر على قبولها؛ لأن المانع من الرجوع.. الزرع، وقد زال.

[مسألة أصدقها جارية حائلًا فحملت ثم طلقها قبل الدخول]
) : وإن أصدقها جارية حائلًا فحملت في يدها، ثم طلقها قبل الدخول وهي حامل.. فإن الحمل زيادة فيها من وجه ونقصان من وجه؛ لأنه يخاف عليها منه.
فإن تراضيا على أن يأخذ نصفها حاملًا.. جاز. وإن طلب الزوج أن يرجع بنصفها، وامتنعت الزوجة.. لم تجبر الزوجة؛ لزيادة الحمل.

(9/416)


وإن بذلت المرأة له نصفها وامتنع الزوج.. لم يجبر؛ لما يخاف عليها منه.
وإن أصدقها شاة حائلًا فحملت في يدها، ثم طلقها قبل الدخول.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو المذهب ـ: أن حكمها حكم الجارية؛ لأنه يخاف عليها منه، كما يخاف على الجارية.
والثاني: أنه زيادة من كل وجه.
فإن بذلت له المرأة نصفها.. أجبر الزوج على قبوله؛ لأنه لا يخاف عليها منه بحال. والأول أصح.

[مسألة أصدقها شاة حائلًا فولدت في يده وطلقها قبل الدخول]
إذا أصدقها شاة حائلًا فولدت في يده.. فإن الولد ملك لها؛ لأنه متولد من ملكها.
فإن طلقها قبل الدخول، فإن كانا باقيين في يده لم ينقصا.. فإن الزوج يرجع بنصف الأم، وتأخذ الزوجة نصف الأم وجميع الولد.
وإن كانت الأم سالمة، وقد تلف الولد في يد الزوج.. رجع الزوج في نصف الأم، وهل يلزمه ضان الولد؟ ينظر فيه:
فإن طالبته بتسليمه فمنعها.. لزمه ضمانه؛ لأنه صار بالمنع لها كالغصب.
وإن لم تطالبه بتسليمه فهل يلزمه ضمانه؟ فيه قولان، نص عليهما في القديم - ومن أصحابنا من يحكيهما وجهين ـ:
أحدهما: (يلزمه ضمانه) ؛ لأنه متولد من عين مضمونة، فهو كولد المغصوبة 0 والثاني (لا يلزمه ضمانه) لأنه حصل في يده بغير تعد، لا على وجه المعاوضة، فكان أمانة، كما لو ألقت الريح إلى بيته ثوبا 0 وإن كان الولد باقيًا في يده إلا أنه قد نقص، فإن كانت قد طالبته بتسليمه فمنعها منه.. لزمه أرش النقص. وإن لم تطالبه بتسليمه.. فهل يلزمه أرش النقص؟ على هذين الوجهين 0

(9/417)


وإن كانت الأم باقية في يده إلا أنها قد نقصت، فإن كانت قد طالبته بتسليمها فامتنع.. كانت بالخيار: بين أن تطالبه بنصفها ونصف أرش نقصها قولًا واحدًا، وبين أن تفسخ الصداق للنقص. فإذا فسخت.. كان كما لو تلفت، ولو تلفت قبل القبض.. رجعت عليه بنصف مهر مثلها في قوله الجديد، وبنصف قيمتها في قوله القديم. وإن لم تطالبه بتسليمها أو عرضها عليها فأقرتها في يده.. ففيه قولان نص عليهما في " لأم ":
أحدهما: (لا يجب عليه أرش النقص) ؛ لأنه غير متعد في إمساكها.
فعلى هذا: تكون المرأة بالخيار: بين أن تأخذ نصف الأم ناقصة ولا شيء لها غير ذلك، وبين أن تفسخ الصداق للنقص. فإذا فسخت.. رجعت عليه بنصف مهر مثلها في قوله الجديد، وبنصف بدل العين في قوله القديم. والقول الثاني: (أنها تأخذ نصف العين ناقصة، ونصف أرش النقص) ؛ لأنه ضامن للعين بعقد المعاوضة، فضمن أرش نقصها في يده.
قال ابن الصباغ: وعندي أن هذا لا يستقيم إلا على القول القديم الذي يقول: (إذا تلف الصداق قبل القبض.. كان مضمونًا عليه بالقيمة) . وأما إذا قلنا بالجديد و: (أنه مضمون ضمان العقد) .. فلا فرق بين أن تطالب به أو لا تطالب به، ألا ترى أن البائع إذا نقص المبيع في يده.. فليس للمشتري مطالبته بالأرش، سواء كان قد طالب بتسليمه أو لم يطالب؟.
وكل موضع قلنا: تأخذ نصف الأم ونصف الأرش، أو قلنا: تفسخ ففسخت وقلنا: تأخذ نصف قيمتها.. فإن الولد لها؛ لأنه نماء ملكها.

(9/418)


وكل موضع قلنا: لها فسخ الصداق والرجوع بنصف مهرها، ففسخت.. ففي الولد وجهان:
أحدهما: أن الولد لها؛ لأنه انفصل في ملكها، فهو كما لو اشترى بهيمة حائلًا فولدت في يده، ثم وجد بها عيبًا فردها.
والثاني - وهو المنصوص ـ: (أنه لا شيء لها في الولد) ؛ لأنها إذا فسخت الصداق.. ارتفع من أصله، فكأن الولد حدث في غير ملكها.
وإن كانت الأم تالفة والولد باقيًا، وقد تلفت الأم قبل القبض.. فترجع عليه - على قوله الجديد - بنصف مهر مثلها، وعلى قوله القديم بصف قيمتها.
وأما الولد: فإن قلنا بقوله القديم و: (أنها ترجع بنصف قيمتها) .. كان الولد لها؛ لأن الأم هلكت على ملكها، والولد نماء ملكها. وإن قلنا بقوله الجديد و: (أنها ترجع إلى نصف مهر مثلها) .. ففي الولد وجهان:
(أحدهما) : من أصحابنا من قال: يكون الولد لها؛ لأنه حدث في ملكها، فكانت أحق به، كما لو اشترت بهيمة حاملًا فولدت في يد البائع ثم ماتت قبل القبض.
والثاني - وهو المنصوص ـ: (أنه لا شيء لها في الولد) ؛ لأن العقد ارتفع من أصله، فكأن الولد حدث في ملك الزوج.
وإن كانت الأم والولد تالفين، فأما الأم: فإنها ترجع عليه بنصف قيمتها في قوله القديم، وبنصف مهر مثلها في قوله الجديد. وأما الولد: فإن قلنا بقوله القديم.. فإنه يكون لها، فإن طالبته به فمنعها.. فعليه ضمانه، وإن لم يمنعها منه.. فهل يجب عليه ضمانه؟ على القولين أو الوجهين في التي قبلها. وإن قلنا بقوله الجديد: و: (أنها ترجع إلى نصف مهر مثلها) ، فإن قلنا بالمنصوص، وهو: أنه لا حق لها في الولد.. فلا كلام، وإن قلنا بقول بعض

(9/419)


أصحابنا: إن الولد لها، فإن طالبته به فمنعها.. فعليه ضمانه، وإن لم يمنعها منه.. فهل يضمنه؟ فعلى القولين أو الوجهين.

[مسألة أصدقها جارية حائلًا فحملت في يده وطلقها قبل الدخول]
) : وإن أصدقها جارية حائلًا فحملت في يد الزوج من زوج أو زنا، ثم طلقها قبل الدخول وقبل أن تضع الجارية.. فهذا الحمل زيادة من وجه ونقصان من وجه، فتخير المرأة بين ثلاثة أشياء: بين أن ترضى بالنقص وتعطي الزوج نصفها ونصف حملها ويكون لها نصفهما، وبين أن تأخذ الكل لأجل الزيادة ويكون للزوج نصف قيمتها أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض، وبين أن تفسخ الصداق لأجل النقص، فإذا فسخت.. رجعت عليه بنصف مهر مثلها في قوله الجديد، وبنصف قيمتها أكثر ما كانت من حين العقد إلى حين الطلاق.
فأما إذا ولدت الجارية في يد الزوج ثم طلقها.. فالحكم فيها حكم البهيمة إذا ولدت في يده - وقد بيناه في التي قبلها - إلا في شيء واحد، وهو: أن الزوج هاهنا لا يرجع في نصف الأم إذا كان الولد صغيرًا؛ لأنه يكون تفرقة بينها وبين الولد، فيرجع الزوج في نصف قيمة الأم؛ لأن التفرقة إذا لم تجز بين الولد وبين جميعها.. فكذلك بين الولد وبين نصفها؛ لأنه يؤدي إلى التفرقة بينه وبينها في بعض الزمان.
وحكى الشيخ أبو حامد: أن البويطي قال: وفيه قول آخر: أنهما يباعان فيكون لها ثمن الولد ونصف ثمن الأم، وللزوج نصف ثمن الأم. والأول هو المشهور.
فرع: (أصدقها جارية حاملًا فولدت في يده وطلقها قبل الدخول) :
وإن أصدقها جارية حاملًا من زوج أو زنا فولدت في يده، ثم طلقها قبل الدخول، فإن لم تنقص بالولادة عما كانت عليه.. كانت الأم بينهما. وإن نقصت، فإن كانت قد

(9/420)


طالبته بها قبل الولادة فمنعها من أخذها.. كان عليه أرش النقص، وإن لم يمنعها.. ففيه قولان:
أحدهما: أنها بالخيار: بين أن تأخذ نصفها ناقصة ولا شيء لها، وبين أن تفسخ الصداق وترجع إلى نصف قيمتها في القديم، وبنصف مهر مثلها في الجديد. والقول الثاني: أنها تأخذ نصفها ونصف أرش النقص.
فإن قيل: أليس الرجل إذا باع سلعة فنقصت في يد البائع قبل القبض.. لم يكن للمشتري أرش النقص، بل له الخيار: بين أن يفسخ البيع، أو يجيزه ولا شيء له؟
قلنا: الفرق بينهما: أن في البيع إذا فسخ.. رجع المشتري إلى الثمن، فلا معنى لأن يعطى الأرش، وهاهنا إذا فسخ الصداق.. لا ينفسخ النكاح، فكان لها أخذ الأرش.
وأما الولد: فإن قلنا: إن الحمل لا حكم له.. قال الشيخ أبو حامد: كان الولد للمرأة ولا حق للزوج فيه؛ لأنه حدث في ملكها.
قلت: وينبغي على هذا أن لا يثبت للزوج الرجوع في نصف الأم، وإنما يرجع في القيمة؛ لئلا يؤدي ذلك إلى التفرقة بينهما، كما قلنا فيه إذا أصدقها جارية حاملًا فولدت في يد الزوج ثم طلقها قبل الدخول.
وإن قلنا: للحمل حكم.. فقد تناول العقد الجارية وولدها، إلا أن الولد قد زاد بالولادة، فإن رضيت الزوجة بأن يرجع الزوج في نصف الأم ونصف الولد.. أجبر الزوج على ذلك، وإن لم ترض بذلك.. لم يكن له أن يرجع في نصف الأم؛ لأنه تفرقه بينها وبين ولدها الصغير، ويكون له نصف قيمة الأم. وهل يلزمها نصف قيمة الولد؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمها نصف قيمة الولد؛ لأن حال العقد لا يمكن تقويمه، وحال

(9/421)


الانفصال قد زاد في ملكها فلا يجوز تقويمه عليها.
والثاني: يلزمها نصف قيمته يوم الوضع؛ لأن العقد تناوله ولا يمكن تقويمه حال العقد، فقوم حال الانفصال؛ لأنه أول حالة إمكانه، كما قلنا في ولد المغرور.

[فرع أصدقها خشبًا أو فضة أو ذهبًا فصنعته ثم طلقها قبل الدخول]
) : وإن أصدقها خشبًا، فشقتها أبوابًا، فزادت قيمتها بذلك، ثم طلقها قبل الدخول.. لم تجبر المرأة على تسليم نصفها؛ لزيادة قيمتها. وإن بذلت له نصفها بزيادته 00لم يجبر الزوج على قبوله؛ لأنها كانت تصلح وهي خشب لما لا تصلح له الآن0 وإن أصدقها فضة أو ذهبا، فصاغتها آنية، فزادت قيمتها بذلك، ثم طلقها قبل الدخول.. لم تجبر المرأة على تسليم نصفها؛ لزيادتها. وإن بذلت النصف بزيادته.. أجبر الزوج على القبول؛ لأنه يصلح وهو مصوغ لجميع ما كان يصلح له قبل ذلك.
هكذا ذكر الطبري في " العدة ".
وعندي: أنا إذا قلنا: لا يجوز اتخاذ آنية الذهب والفضة.. أن المرأة تجبر على تسليم نصفها وإن كانت قيمتها زائدة؛ لأن صنعتها لا قيمة لها.

[فرع أصدقها حليًا أو قدحًا زجاجًا فكسرته ثم أعادته ثم طلقها قبل الدخول]
) : وإن أصدقها حليًا فكسرته، ثم أعادت صياغته كالأولى، ثم طلقها قبل الدخول.. فقد قال ابن الحداد: لا تجبر المرأة على تسليم نصف، بل يرجع الزوج إلى نصف قيمته؛ لأن هذه زيادة حدثت في ملكها لم تدخل في عقد الصداق، فلم يجب عليها تسليم نصفها، كما لو أصدقها ذهبًا غير مصوغ فصاغته.
ومن أصحابنا من خالفه وقال: تجبر المرأة على تسليم نصفه؛ لأن الرجوع بنصف القيمة للإضرار بها، فالإضرار به إذا كان ناقصًا، والإضرار بها إذا كان زائدًا، وهذه الزيادة هي مثل ما أخذته عليه، فلم يكن عليها ضرر.

(9/422)


وهكذا: إذا أصدقها قدحًا من زجاج فكسرته ثم أعادته مثل صنعته الأولى، أو أصدقها جارية سمينة فهزلت في يدها ثم سمنت ورجعت إلى حالتها الأولى، ثم طلقها قبل الدخول.. فهل تجبر المرأة على تسليم نصف العين؟ على هذين الوجهين.
وإن صاغت الحلي أو القدح على غير هيئته الأولى.. رجع الزوج بنصف قيمته وجهًا واحدًا؛ لأنه يجوز أن يكون لها غرض في الصياغة الأخرى. فإن رضي الزوج بأخذ نصفه.. قال القاضي أبو الطيب: فالذي يقتضيه مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أن لها أن تمتنع؛ لأن هذا زيادة من وجه ونقصان من وجه - قال - وبهذا يفسد قول من خالف ابن الحداد؛ لأنه قد لا يكون عليها إضرار مع اختلاف الصياغتين إذا كانت الأجرة واحدة والقيمة واحدة، ومع ذلك فلا يجب عليها تسليم نصف العين.
فإن قلنا: يرجع بنصف قيمته، وكانت قيمته تزيد على وزنه، ونقد البلد من جنسه.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه يقوم بجنس آخر؛ لئلا يؤدي إلى الربا.
والثاني: يقوم بجنسه؛ لأن الزيادة لأجل الصنعة.

[فرع ذمي أصدق ذمية خمرًا أو جلد ميتة ثم طلقها قبل الدخول]
) : وإن أصدق ذمي ذمية خمرًا فقبضتها، ثم طلقها قبل الدخول، فتحاكما إلينا قبل الإسلام، أو أسلما، أو أسلم أحدهما، فإن كانت الخمر باقية.. لم يرجع أحدهما على الآخر بشيء؛ لأن العقد والقبض في حال الكفر لا ينقض، ولا يرجع عليها الزوج بشيء؛ لأن الخمر لا تملك بحكم الإسلام ولا قيمة لها. فإن أسلمت الزوجة.. أريقت الخمر، وإن لم تسلم.. لم يتعرض لها. وهكذا الحكم لو استهلكت الخمر.
وإن صارت الخمر خلا في يدها بغير علاج، ثم طلقها قبل الدخول والخل في يدها.. قال ابن الحداد: رجع عليها بنصفه.

(9/423)


فمن أصحابنا من خالفه وقال: لا يرجع عليها بشيء؛ لأن الصداق زاد في يدها، والصداق إذا زاد في يدها.. سقط حقه من العين إلى القيمة، والقيمة تعتبر أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض، والصداق كان ذلك الوقت خمرًا، والخمر لا قيمة لها.
ومنهم من نصر ابن الحداد وقال: إنما يسقط حقه من العين إلى القيمة إذا أمكنه الرجوع إلى القيمة، وهاهنا لا يمكنه الرجوع إلى القيمة، فلم يسقط حقه من الرجوع بالعين لأجل زيادته، كما لو وهب لولده عينًا، فزادت في يد الولد، ورجع الأب فيها.. فإنه يرجع في العين وفي زيادتها.
فإن استهلكت المرأة الخل، ثم طلقها قبل الدخول.. لم يرجع الزوج عليها بشيء وجهًا واحدًا؛ لأن العين إذا هلكت.. سقط حقه إلى القيمة أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض، ولا قيمة للصداق في ذلك الوقت.
وإن صارت الخمر خلًا في يده قبل التسليم، ثم طلقها قبل الدخول.. قال ابن الحداد: يكون الخل بينهما نصفين.
وخالفه هاهنا من خالفه في الأولى وقال: يكون الخل له، وترجع عليه بنصف مهر مثلها؛ لأن القبض لم يحصل.
وإن ترافعا قبل القبض وكان فاسدًا.. أفسدناه وأوجبنا مهر المثل.
وهكذا: إذا أصدقها جلد ميتة فدبغته، ثم طلقها قبل الدخول.. فالحكم فيه كالحكم في الخمر إذا تخللت.

[فرع أصدقها تعليم سورة ثم طلقها قبل الدخول]
وإن أصدقها تعليم سورة، فعلمها السورة ثم طلقها قبل الدخول.. رجع عليها بنصف أجرة التعليم.
وإن طلقها قبل الدخول وقبل التعليم.. فقد سقط عنه نصف التعليم وبقى عليه

(9/424)


النصف، فإن قلنا: إنه يجوز أن يعلمها من وراء حجاب.. علمها نصف السورة.
وإن قلنا: لا يجوز أن يعلمها من وراء حجاب.. رجعت عليه بنصف مهر مثلها في القول الجديد، وبنصف أجرة التعليم في القول القديم.

[فرع أصدقها خياطة ثوب معين ثم طلقها قبل الدخول]
) : إذا تزوج امرأة وأصدقها خياطة ثوب بعينه، فهلك الثوب قبل الخياطة.. فهل لها أن تأتيه بثوب مثله ليخيطه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لها ذلك، كما لو اكترى دابة ليركبها إلى مكان، فمات قبل أن يركبها.. فلوارثه أن يركبها إن كان مثل مورثه، أو يركبها مثله.
فعلى هذا: لو أتته بثوب مثله ليخيطه مع بقاء الثوب.. لزمه ذلك.
والثاني: لا يلزمه أن يخيطه؛ لأنه جعل صداقها إيقاع منفعة في عين بعينها، فإذا تلفت تلك العين.. بطل العقد ولا يقوم غيرها مقامها، كما لو استأجرته ليحصد لها زرعًا بعينه، فتلف الزرع قبل الحصاد.. فإن الإجارة تبطل، ولا يجوز أن يقال: يحصد لها زرعًا مثله.
فعلى هذا: ترجع عليه بمهر مثلها في قوله الجديد، وبأجرة الخياطة في قوله القديم. وإن كان الثوب باقيًا، فطلقها قبل الدخول وبعد الخياطة.. رجع عليها بنصف أجرة الخياطة.
وإن طلقها قبل الخياطة وقبل الدخول، فإن كان يمكنه أن يخيط نصفه وينضبط ذلك.. لزمه أن يخيط نصفه. وإن لم تنضبط خياطة نصفه.. كان كما لو تلف الصداق قبل القبض، فترجع عليه بنصف مهر مثلها في القول الجديد، وبنصف أجرة الخياطة في القول القديم. وهكذا ذكره أكثر أصحابنا.
قال ابن الصباغ: وعندي: أن الزوج إذا اختار خياطة جميعه.. لا يكون لها المطالبة بغير ذلك.

(9/425)


[مسألة أصدقها عينًا فتصرفت بها ثم طلقها قبل الدخول]
) : وإن أصدقها عينًا، فقبضتها، ثم باعتها أو وهبتها وأقبضتها، ثم طلقها قبل الدخول.. رجع عليها بنصف بدلها؛ لأن ملكها قد زال عنها، فهو كما لو تلفت في يدها.
فإن رجع إليها ما باعته أو وهبته ببيع أو هبة أو إرث، ثم طلقها قبل الدخول.. فإن المسعودي قال (في " الإبانة ") : هل يرجع إلى نصف العين أو إلى نصف القيمة؟ فيه وجهان، كالوجهين فيمن وهب لولده عينًا، فخرجت عن ملك الولد ثم رجعت إليه.
وقال أصحابنا البغداديون: يرجع الزوج إلى نصف العين وجهًا واحدًا. والفرق بين الزوج والأب على الصحيح من الوجهين: أن الصداق لو تلف في يد الزوجة.. لرجع الزوج عليها بنصف بدله، فكان له الرجوع بنصف العين إذا وجدت في ملكها، والعين لو تلفت في يد الولد.. لم يرجع الأب عليه ببدلها، فلم يرجع عليه بها إذا خرجت من ملكه ثم عادت إليه، على الصحيح.

[فرع أصدقها عبدًا فدبرته أو تصرفت بالصداق بما لا يلزمها ثم طلقها قبل الدخول]
) : إذا أصدقها عبدًا فدبرته، ثم طلقها قبل الدخول وقبل أن ترجع في التدبير.. فقد روى المزني: أنه لا يرجع في نصفه؛ لأن الرجوع لا يكون إلا بإخراجها إياه عن ملكها. واختلف أصحابنا فيه على ثلاث طرق:
فـ (الطريق الأول) : منهم من قال: فيه قولان:
إن قلنا: إن التدبير وصية00رجع إلى نصفه؛ لأنه باق على ملكها، فهو كما لو وصت به.

(9/426)


وإن قلنا: إنه عتق بصفة.. لم يكن له الرجوع بنصفه؛ لأنه لا يمكن الرجوع فيه إلا بإزالة الملك. وحمل النص على هذا القول.
و (الطريق الثاني) : منهم من قال: لا يرجع بنصفه، وإنما يرجع بنصف قيمته قولًا واحدًا، وهو ظاهر النص؛ لأن العبد قد ثبت له حق الحرية، وفي الرجوع إلى نصف القيمة جمع بين الحقين، فكان أولى، كما لو وهبته وأقبضته.
و (الطريق الثالث) : منهم من قال: له أن يرجع بنصف العبد قولًا واحدًا؛ لأن على القول الذي يقول: (التدبير وصية) .. فهو تصرف غير لازم، فلا يمنع الرجوع. وعلى القول الذي يقول: (هو عتق بصفة) .. يصح الرجوع فيه بما يزيل الملك، ودفعها لنصفه إلى الزوج يزيل ملكها عنه، فهو كالبيع.
إذا ثبت هذا - وقلنا: له أن يرجع إلى نصفه ـ: فإن الشيخ أبا حامد قال في " التعليق ": تجبر المرأة على الرجوع بنصفه بالقول، إذا قلنا: (إن التدبير وصية) .
قال ابن الصباغ: فإذا قلنا: يرجع الزوج إلى نصفه.. كان الزوج مخيرًا: بين أن يرجع إلى نصفه، وبين أن يرجع إلى قيمة نصفه؛ لأن العبد إذا كان نصفه مدبرًا.. نقصت قيمة النصف الثاني؛ لأنه لا يأمن أن يرافعه إلى حاكم حنفي، فيحكم بتدبير جميعه، فيسقط حقه.
وإن دبرته ثم رجعت في التدبير بالقول - إذا قلنا: (إنه وصية) - أو بإزالة الملك، ثم رجع إليها، ثم طلقها قبل الدخول.. ثبت له الرجوع بنصفه.
وإن طلقها وهو مدبر، وقلنا: لا يكون له الرجوع بنصفه، فقبل أن يأخذ نصف قيمته رجعت في التدبير بالقول والفعل، ورجع إلى ملكها.. فقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " (5/60) : ليس له الرجوع بنصفه؛ لأنه رجع إلى ملكها، وقد تعلق حقه بنصف قيمته) .

(9/427)


ومن أصحابنا من قال: يرجع إلى نصفه؛ لأن المانع من رجوعه إلى نصفه هو التدبير وقد زال، وقد نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على مثل هذا في النخل حيث قال: (ولو طلقها وقد أثمرت، فلم يرجع في القيمة حتى جذت.. كان حقه في نصف النخل) .
وإن وهبت الصداق لرجل ولم تقبضه، أو وصت به ثم طلقها الزوج قبل الدخول.. رجع الزوج بنصفه؛ لأن ذلك تصرف غير لازم، وإنما هو بمنزلة الوعد. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ".
وقال القاضي أبو حامد: إذا وهبته ولم تقبضه.. ففيه قولان:
أحدهما: لا تجبر الزوجة على الرجوع عن الهبة؛ لأنه عقد عقدته في ملكها في وقت لم يكن للزوج فيه حق.
والثاني: تجبر؛ لأن الهبة قبل القبض ليست بلازمة لها، ولو أرادت أن تسلم إلى الزوج نصفه.. كان لها، وإذا امتنعت من ذلك.. أجبرت عليه.
قال القاضي أبو حامد: وهكذا إذا باعته بشرط الخيار، ثم طلقها الزوج قبل الدخول وقبل انقضاء الخيار.. فعلى هذين القولين.

[فرع أصدقها جارية فزوجتها أو تصرفت بالصداق بما يلزمها ثم طلقها قبل الدخول]
) : وإن أصدقها جارية فزوجتها، ثم طلقت المولاة قبل الدخول.. كان زوجها بالخيار: بين أن يرجع بنصف الأمة، وبين أن يرجع بنصف قيمتها؛ لأنها قد نقصت بالتزويج.
وإن أجرت الزوجة الصداق مدة، ثم طلقها الزوج قبل انقضاء المدة.. كان للزوج أن يرجع بنصف قيمته؛ لنقصانه بالإجارة، فإن قالت الزوجة: اصبر حتى تنقضي مدة الإجارة، ثم ترجع في نصفه.. لم يلزمه ذلك؛ لأن حقه تعجل فلا يلزمه تأخيره.

(9/428)


فإن قال الزوج: أنا أصبر حتى تنقضي مدة الإجارة، ثم أرجع في نصف العين.. لم تجبر المرأة على ذلك؛ لأن الصداق يكون في ضمانها ولا تدري: هل يهلك أو يبقى؟
وإن قال الزوج: أنا أرجع في نصف العين في الحال وأقبضه، وأصبر حتى تنقضي مدة الإجارة وآخذها.. لم يكن لها أن تمتنع من ذلك؛ لأنه لا ضرر عليها في ذلك.
وقد ذكرنا: أنه إذا أصدقها نخلًا فأثمرت في يدها، فقال الزوج: أرجع في نصفها في الحال، وأتركها إلى أن تجذ الثمرة وجهين:
أحدهما: له ذلك.
والثاني: ليس له ذلك.
والفرق بينهما على هذا: أن في النخل يؤدي إلى اشتراك الأيدي في الثمرة التي لها، ولا يوجد ذلك هاهنا.
وإن رهنت الصداق وأقبضته، ثم طلقها قبل الدخول.. رجع الزوج بنصف قيمته؛ لأن حق المرتهن متعلق برقبة الرهن.

[مسألة أصدقها نخلًا مثمرًا أو غير مثمر ثم اجتناها ودبسها]
إذا أصدقها نخلًا مثمرًا وشرط أن الثمرة للمرأة، أو نخلًا عليه طلع مؤبر، فلما بدا الصلاح في الثمرة.. اجتنى الزوج الثمرة وجعلها في قوارير - يعني: براني - وجعل عليها شيئًا من الذي يسيل من الرطب - ويسمى: الرُّبَّ والدبس بعد الطبخ، يفعل ذلك ليحفظ رطوبة الثمرة - فقد خلط الصداق بعضه ببعض، فإن لم تنقص قيمتهما بذلك في الحال ولا في الثاني، أو زادت قيمتهما بذلك.. فإن الزوجة تأخذ الثمرة وما جعل

(9/429)


عليها مما سال منها، ولا شيء على الزوج، وإن نقصت قيمتهما في الحال أو في الثاني.. فقد نقص الصداق في يد الزوج.
فإن قلنا بقوله الجديد: (إنه إذا تلف في يد الزوج قبل القبض ورجعت إلى مهر المثل) .. كانت المرأة بالخيار: بين أن تأخذهما ناقصين ولا شيء لها على الزوج، وبين أن تردهما على الزوج وتأخذ مهر مثلها. وإن قلنا بقوله القديم.. كانت بالخيار: بين أن تأخذهما ناقصين وأرش نقصهما، وبين أن ترجع بمثل الثمر إن كان قد شمسه؛ لأن له مِثلًا، وإن جعله قبل التشميس.. رجعت بقيمته.
وأما ما سال من الثمرة، فإن كان قد أغلاه.. رجعت عليه بقيمته؛ لأنه لا مثل له، وإن لم يغله.. رجعت عليه بمثله؛ لأنه من ذوات الأمثال.
وإن قالت الزوجة: أنا آخذ النخل، وأرد الثمرة وما سال منها، وأرجع عليه ببدله.. فهل لها ذلك؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة.
وإن جعل عليها الزوج الدبس من نخله.. فهي كالأولى إلا في شيء واحد وهو: أنه لا يعتبر النقص في الدبس؛ لأنه ملكه.
وإن أصدقها نخلًا لا ثمرة عليها، فأثمرت في يده، فلما بدا صلاحها اجتناها الزوج وجعلها في قوارير وجعل عليها شيئًا مما سال من ثمرتها أو ثمرته.. فهو بمنزلة من غصب من غيره ثمرة ودبَّسها وخلطهما؛ لأن عقد الصداق لم يتناولهما.

[فرع أصدقها جارية فوطئها]
وإن أصدقها جارية فوطئها وأحبلها، فإن أقر: بأنه يعلم بتحريمه، أو ادعى الجهالة ومثله لا يخفى عليه ذلك 00فهو زنًا، فيجب عليه الحد، ولا يلحقه نسب الولد، ويكون الولد مملوكًا لها. فإن أكره الجارية على الوطء.. وجب عليه المهر، وإن طاوعته.. فوجهان، المنصوص: أنه لا يجب عليه المهر.
وإن كان جاهلًا بتحريم الوطء؛ بأن نشأ في بادية لا معرفة له في الأحكام، أو قريب العهد بالإسلام، أو كان يعتقد مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أن المرأة لا تملك

(9/430)


جميع الصداق إلا بالدخول) .. فهو وطء شبهة، فلا يجب عليه الحد، ويكون الولد حرًا، ويلحقه نسبه، ويلزمه قيمته يوم الوضع، ويجب عليه المهر، ولا تصير الجارية أم ولد له في الحال. فإذا ملكها.. فهل تصير أم ولد له؟ فيه قولان.

[مسألة ارتداد المرأة قبل الدخول أو طلقها وكان صداقها صيدًا ثم أحرم]
) : وإن ارتدت المرأة قبل الدخول.. فقد ذكرنا: أن جميع الصداق يعود إلى الزوج؛ لأن الفرقة جاءت من قبلها، والحكم فيه في الزيادة والنقصان حكم النصف الذي يعود إليه بالطلاق على ما مضى.
إذا ثبت هذا: فقال ابن الحداد: إذا أصدقها صيدًا بريًا وهما حلالان، ثم ارتدت المرأة قبل الدخول والزوج محرم.. رجع الزوج بالصيد؛ لأنه دخل في ملكه بغير اختياره.
قال القاضي أبو الطيب: هذا على القول الذي يقول: إن الحلال إذا اصطاد صيدًا وأحرم.. لا يزول ملكه عنه، فأما إذا قلنا: يزول ملكه عنه.. فلا يرجع في الصيد وإنما يرجع في قيمته؛ لأنه كالمعدوم.
فإذا قلنا: يرجع إلى الصيد.. قال ابن الحداد: دخل في ملكه ويلزمه إرساله.
قال القاضي أبو الطيب: وهذا الذي ذكره ابن الحداد مخالف لما ذكره أصحابنا بالعراق؛ فإنهم قالوا: إذا قلنا: لا يزول ملكه عنه.. يجوز له التصرف فيه بالبيع والهبة والإمساك، وإنما لا يجوز له ذبحه.
وأما إذا طلقها قبل الدخول، فإن قلنا بقول أبي إسحاق: إن نصف الصداق لا يدخل في ملك الزوج إلا بالطلاق واختيار التملك.. لم يجز له هاهنا أن يختار تملك نصف الصيد، وإنما يرجع إلى نصف قيمته.
وإذا قلنا بالمنصوص من: (أنه يدخل في ملكه بالطلاق) ، فإن قلنا: يزول ملكه عنه بالإحرام.. لم يكن له أن يرجع في نصفه، وإنما يرجع في نصف قيمته. وإن قلنا: لا يزول ملكه عنه.. رجع بنصفه.

(9/431)


قال القاضي أبو الطيب: ويقال لابن الحداد: إذا كان الصيد واحدًا، ورجع إليه نصفه، وأنت توجب عليه الإرسال.. فكيف يرسل نصفه ولا سبيل إلى إرسال نصيب الشريك؟
وكذلك: إذا كان صيد بين رجلين، فأحرم أحدهما، وقلنا: يزول ملك المحرم عن الصيد.. فإنه يجب عليه إرساله إذا كان منفردًا به.. وأما إذا كان مشتركًا بينه وبين غيره.. لم يجز إرسال نصيب الحلال، وقد قال بعض أصحابنا: سقط الإرسال هاهنا للضرورة، ولكن تزال يد المحرم عنه.
قال القاضي أبو الطيب: وهذا لا بأس به عندي.

[مسألة زوج ابنه أو تزوج بنفسه ثم ارتدت الزوجة أو طلقت قبل الدخول]
وإذا زوج ابنه الصغير وكان الابن موسرًا.. فإن الصداق يجب على الابن؛ لأن النكاح حصل له، فلا يجب على الأب إلا إن ضمنه عن ابنه الصغير.
وإن كان الابن معسرًا.. قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: فلا خلاف: أن الصداق يجب للزوجة في ذمة الابن؛ لأن النكاح له، ولكن هل يجب الصداق على الأب بالضمان؟ فيه قولان: (أحدهما) : قال في القديم: (يجب عليه) ؛ لأنه لما زوجه مع العلم بإعساره.. كان رضًا منه بوجوب ضمانه عليه.
و (الثاني) : قال في الجديد: (لا يجب عليه) ، لأن النكاح للصغير، فلا يجب على الأب المهر، كما لو كان الابن موسرًا، ولو أن رجلًا معسرًا وكل رجلًا موسرًا ليتزوج له، فتزوج له.. لم يجب على الوكيل ضمان المهر، فكذلك هذا مثله.
فإن قلنا: يجب على الأب بالإطلاق أو ضمنه.. فللمرأة مطالبة الأب به.
فإن ارتدت المرأة قبل الدخول، أو بلغ الابن وطلقها قبل الدخول، فإن كان الأب لم يدفع الصداق إليها، بل هو في ذمته.. سقط جميعه بردة الزوجة، وسقط نصفه بالطلاق قبل الدخول، وكان لها مطالبته بالنصف. وإن كان الأب قد دفعه إليها من ماله، أو كان الابن الصغير موسرًا فتطوع الأب بدفع الصداق عنه.. فإن ذمة الابن تبرأ بذلك، كما لو قضى عن رجل دينًا بغير إذنه، ويكون ذلك هبة منه لابنه. فإذا

(9/432)


ارتدت، أو طلقها الابن قبل الدخول.. فإن جميع الصداق يعود إلى الابن بردتها قبل الدخول، ونصفه بالطلاق قبل الدخول. وهل للأب أن يرجع بذلك على الابن؟ ينظر فيه: فإن رجع إلى الابن بدل الصداق.. لم يرجع به الأب عليه، كما لو وهب لابنه شيئًا فأتلفه، أو أتلفه متلف.. لم يرجع الأب عليه ببدله.
وإن رجع إلى الابن الصداق بعينه.. فهل للأب أن يرجع به عليه؟ فيه وجهان، كالوجهين فيما إذا وهب له عينا فخرجت من ملكه ثم رجعت إليه.
وإن كان الأب أصدقها عينا من ماله، فطلقها الابن قبل الدخول والعين في يد الأب.. فللابن أن ينزع نصفها من الأب؛ لأنه قد عاد إليه بالطلاق، ولأن ملك المرأة كان ثابتًا عليه. فإذا انتزعه الابن.. فهل للأب أن يرجع به عليه؟ على الوجهين في التي قبلها.
وإن تزوج الابن البالغ الرشيد بنفسه، وأصدقها صداقًا في ذمته، فدفع الأب عنه الصداق إليها من ماله.. برئت ذمة الابن، كما لو قضى عن غيره دينًا. فإن طلقها الابن قبل الدخول.. رجع إليه نصف الصداق. فإن كان أخذ بدل الصداق.. لم يرجع به الأب عليه، كما قلنا في الذي دفعه عن الصغير. وإن رجع إلى الابن الذي دفعه الأب بعينه.. فهل للأب أن يرجع به عليه؟
من أصحابنا من قال: فيه وجهان، كما قلنا فيما دفعه عن الصغير.
ومنهم من قال: لا يرجع به الأب وجها واحد، والفرق بينهما: أن للأب أن يهب للصغير ويقبل الهبة له من نفسه، فيكون دفعه للصداق عنه هبة له. ولا يملك أن يقبل الهبة للبالغ الرشيد، فيكون دفعه للصداق عنه إسقاط حق عنه، فهو كما لو قضى عن الأجنبي دينًا.

[فرع تزوج بصداق في ذمته فأدى عنه آخر ثم طلقها قبل الدخول]
) : وإن تزوج امرأة بصداق في ذمته، فأدى عنه أجنبي الصداق.. برئ الزوج، سواء كان بإذنه أو بغير إذنه. فإن طلقها الزوج قبل الدخول.. فهل يرجع نصفه إلى الزوج أو إلى الأجنبي؟ فيه وجهان:

(9/433)


أحدهما: يعود إلى الزوج؛ لأن الأجنبي ملك الزوج إياه بقضائه عنه.
والثاني: يعود إلى الأجنبي؛ لأن الأجنبي لم يملكه إياه؛ لأنه لا يملكه إلا باختيار تملكه، ولم يختر ذلك، وإنما أسقط عنه الحق، فإذا سقط عنه نصف الحق بالطلاق.. رجع النصف إلى الذي دفعه القضاء.

[مسألة وهبت له الصداق أو نصفه أو أبرأته فطلقها قبل الدخول]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو وهبت له صداقها قبل القبض أو بعده، ثم طلقها قبل أن يمسها.. ففيه قولان) .
وجملة ذلك: أنه إذا أصدقها عينًا، ثم وهبتها من الزوج وأقبضته إياها، ثم طلقها قبل الدخول.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يرجع عليها بشيء، لأنه قد تعجل له ما كان يستحقه بالطلاق قبل محله، فلا يستحقه عند محله، كما لو تعجل دينه المؤجل قبل محله ثم جاء وقت محله.
والثاني: يرجع عليها بنصف مثله إن كان له مثل، أو بنصف قيمته إن لم يكن له مثل، وهو الأصح؛ لأنه عاد إليه بعقد، فلا يمنع ذلك رجوعه عليها ببدل نصفه، كما لو اشتراه منها، أو وهبته لأجنبي ثم وهبه الأجنبي منه.
قال المحاملي وابن الصباغ: وسواء قبضت الصداق، أو لم تقبضه.
وإن كان الصداق دينا، فإن عينه الزوج في شيء وأقبضه إياها، ثم وهبته منه.. فهي كالأولى.
وإن أبرأته منه ثم طلقها قبل الدخول، فإن قلنا: لا يرجع عليها إذا كان عينًا فوهبتها منه.. فهاهنا أولى أن لا يرجع عليها. وإن قلنا: يرجع عليها في العين..

(9/434)


فهل يرجع عليها في الدين؟ فيه قولان، ومنهم من يقول: هما وجهان:
أحدهما: يرجع عليها بنصفه؛ لأنها قد ملكت الصداق بالعقد، فهو كالعين.
والثاني: لا يرجع عليها بشيء، وهو الصحيح، والفرق بينهما: أن الصداق إذا كان عينا.. فقد ضمنته بالقبض، وفي الدين لم تضمنه بالقبض، فلم يرجع عليها بشيء، ألا ترى أن الصداق لو نقص في يده ثم طلقها قبل الدخول.. لم برجع بالنقص؛ لأنها لم تضمنه؟ هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي (في " الإبانة ") : إن قلنا في العين: يرجع عليها.. ففي الدين أولى أن يرجع عليها. وإن قلنا: لا يرجع عليها في العين.. ففي الدين قولان، والفرق بينهما: أن هناك عاد إليه بعقد جديد، بخلاف هذا.
وإن قبضت نصف الصداق، ثم وهبته النصف الباقي منه، ثم طلقها قبل الدخول، فإن قلنا: يرجع عليها إذا وهبت جميع الصداق له.. رجع عليها هاهنا بالنصف أيضًا. وإن قلنا هناك: لا يرجع عليها بشيء.. فهاهنا قولان:
(أحدهما) : قال في " الأم ": (لا يرجع عليها بشيء؛ لأنه إنما يرجع عليها بالنصف، وقد تعجل له ذلك النصف، فلم يرجع عليها بشيء) .
و (الثاني) : قال في " الإملاء ": (يرجع عليها بنصف الباقي؛ لأنها لو وهبته جميعه.. لم يرجع عليها بشيء، فإذا وهبته نصفه.. كان ذلك من حقها وحقه؛ لأن حقهما شائع في الجميع) .
فإذا قلنا بهذا.. ففي كيفية رجوعه ثلاثة أقوال:
أحدها: يرجع عليها بالنصف الباقي؛ لأنه يستحق عليها النصف، وقد وجده.
والثاني: يرجع عليها بنصف النصف الباقي وقيمة نصف الموهوب؛ لأن حقهما شائع في الجميع، فصار الموهوب كالتالف.

(9/435)


والثالث: أنه بالخيار: بين أن يرجع بالنصف الباقي، وبين أن يرجع بنصف النصف الباقي ونصف قيمة الموهوب؛ لأنه تبعض عليه حقه.

[فرع وهبته الصداق أو أبرأته ثم ارتدت قبل الدخول]
وإن وهبته امرأته الصداق أو أبرأته منه، ثم ارتدت قبل الدخول.. فحكم الرجوع عليها بجميع الصداق كالحكم في رجوعه عليها بالنصف عند الطلاق؛ لأنه يستحق عليها الرجوع بالجميع عند ردتها، كما يستحق عليها الرجوع بالنصف عند الطلاق.

[فرع هبة البائع ثمن العبد للمشتري أو السيد نجوم المكاتب]
) : وإن اشترى رجل من رجل عبدا بثمن، ثم وهب البائع المشتري الثمن، ثم وجد المشتري بالعبد عيبًا فرده.. فهل يرجع على البائع بالثمن؟ فيه وجهان بناء على القولين في الصداق.
وإن وجد بالعبد عيبًا وقد حدث به عنده عيب آخر.. فهل يرجع عليه بالأرش؟ فيه وجهان.
قال الشيخ أبو حامد: وإن كاتب عبده على نجوم، ثم وهبها السيد منه.. عتق المكاتب. وهل للمكاتب أن يطالب سيده بالإيتاء؟ على الوجهين.
وإن باع من رجل عبدا بثمن في الذمة، ثم إن المشتري وهب العبد من البائع وأفلس المشتري بالثمن.. فللبائع أن يضرب بالثمن مع الغرماء قولا واحدا؛ لأنه حق تعلق بالثمن دون العبد.

(9/436)


[مسألة خالعته على شيء من مهرها قبل الدخول]
) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو خالعته على شيء مما عليه من المهر، فما بقي.. فعليه نصفه) .
وجملة ذلك: أنه إذا خالعها على نصف مهرها قبل الدخول.. نظرت: فإن كان الصداق عينًا، فخالعها على نصفها، فإن قلنا: إن الزوج يملك نصف الصداق بالطلاق.. لم يصح الخلع على نصف ما سماه في الخلع؛ لأن الخلع بمنزلة الطلاق الذي يوقعه ابتداء، فلم يصح خلعها على النصف الذي يملكه الزوج، وهل يصح في نصف ما سماه في الخلع؟ فيه قولان بناء على القولين في تفريق الصفقة.
وما فسد من المسمى في الخلع.. فهل يرجع الزوج عليها ببدله أو بمهر المثل؟ فيه قولان، كما قلنا فيه إذا تلف الصداق قبل القبض.
وإن قلنا: إن الزوج لا يملك النصف إلا بالطلاق واختار التملك.. صح الخلع على النصف المسمى في الخلع، ويرجع عليها بالنصف. وهل يرجع عليها بجميع النصف الباقي في يدها، أو بنصفه وبنصف قيمته؟ على الأقوال الثلاثة التي مضت في التي قبلها.
وإن كان الصداق ألفًا في ذمة الزوج فخالعها على خمسمائة قبل الدخول.. قال ابن الصباغ: فإن قلنا: إنه يملك نصف الصداق.. فسدت التسمية في الخلع في نصف الخمسمائة، ولا ينصرف ذلك إلى نصيبها من الألف بعد الطلاق؛ لأن وقت التسمية هي مالكة لجميعه، فكان ما سمته من الجملة. وهل تفسد التسمية في نصفها الباقي؟ على القولين. وهل يرجع عليها ببدلها أو بمهر مثلها؟ على القولين.
وإن قلنا: إنه لا يملك النصف إلا بالطلاق واختيار التملك.. صح الخلع على ما سمى فيه ويسقط الباقي عن ذمته باختيار التملك.

(9/437)


إذا ثبت هذا: فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فما بقي.. فعليه نصفه) .
وظاهر هذا: أن الخلع يصح بخمسمائة، ويسقط عن ذمته من الخمسمائة الباقية مئتان وخمسون. واختلف أصحابنا في تأويل هذا:
فقال أبو علي بن خيران: أراد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إذا تخالعا علي خمسمائة من الألف وهما يعلمان أن الخلع لا يصح إلا على مائتين وخمسين منها؛ لأن نصفها يسقط عنه بالطلاق قبل الدخول، فإذا علما بذلك.. فقد رضيا أن يكون عوض الخلع مائتين وخمسين لا غير، فإذا بقي على الزوج خمسمائة، سقط عنه نصفها بالطلاق قبل الدخول.
وحكي: أن ابن خيران ألزم، إذا باع عبده وعبد غيره بألف وهما يعلمان أن بيع عبد الغير لا يصح، وأن البيع يصح في عبده بالألف، فالتزمه.
ومن أصحابنا من قال: بل أراد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إذا قال: اخلعيني بما يخصني من خمسمائة مصرحا بذلك.
وقال أبو إسحاق: تأويلها: أن العقد وقع على جميع الخمسمائة؛ لأنها كانت ملكا للزوجة، وإنما يعود نصفها إلى الزوج بعد الطلاق. فإذا تم الخلع..رجع إلى الزوج نصفها، فيكون هذا النصف كالتالف قبل القبض، فيرجع الزوج إلى بدل هذا النصف في القول القديم، وبدل الدراهم دراهم، فيستحق عليها في ذمتها بدل المائتين والخمسين التي كان يستحقها بالطلاق، ويبقى لها عليه خمسمائة، فيسقط عنه نصفها بالطلاق، ويبقى لها عليه مئتان وخمسون، فيتقاصان، فيكون معنى قوله: (فما بقي.. فعليه نصفه) يعني: الخمسمائة التي لم يقع بها الخلع، فذكر ما بقي لها عليه، ولم يذكر ما له عليها، ولا ذكر المقاصة أيضًا.
قال الشيخ أبو حامد: وهذه طريقة صالحة.
وقال القاضي أبو الطيب: إن الذي قاله الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنما قاله على أن الزوج لا يملك بالطلاق، وإنما يملك بالطلاق والاختيار، فقد صح الخلع بالخمسمائة ويرجع عليها بنصف الباقي وبقيمة نصف ما خالعها به، وإنما لم يذكر نصف ما خالعها به.

(9/438)


وقال الشيخ أبو حامد: لا يمكن حمل كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على هذا؛ لأنه قال: (فما بقي.. فعليه نصفه) ، ولو أراد: أنه لا يملك إلا بالاختيار.. لقال: فعليه كل ما بقي إلا أن يختار تملك نصيبه.
قال أصحابنا: فإن أرادت الخلاص.. خالعته على خمسمائة في ذمتها، ويسقط عنه خمسمائة من الألف، ويبقى لها عليه خمسمائة فيتقاصان، أو تقول: اخلعني على ما تسلم لي من الألف أو على أن لا يبقى بيننا علقة ولا تبعة.

[مسألة العفو عن المهر قبل الدخول ومن بيده عقدة النكاح]
) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (قال الله تعالى: {إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] [البقرة 237] وجملة ذلك: أنه إذا طلق امرأته قبل الدخول.. جاز لها أن تعفو عن نصف المهر الذي وجب لها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] البقرة [237] ، ولا خلاف: أن المراد به النساء. وجاز للزوج أن يعفو عن النصف الذي له الرجوع فيه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] [البقرة: 237] ، ولا خلاف: أن المراد بذلك الأزواج. وفي الذي بيده عقدة النكاح قولان:
(أحدهما) : قال في القديم: (المراد به ولي المرأة) . وبه قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، والحسن البصري، والزهري، وطاوس، وربيعة، ومالك، وأحمد رحمة الله عليهم.
فيكون تقدير الآية- على هذا -: إلا أن تعفو الزوجات عن النصف الذي وجب لهن

(9/439)


فيكون جميع الصداق للزوج، أو يعفو الولي عن نصيب الزوجة فيكون الجميع للزوج {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] ، يعني: الأزواج. فيكون الجميع للزوجة، لأن الله تعالى قال: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] ، وهذا ورد فيما بعد الطلاق، والذي بيده عقدة النكاح عليها: هو الولي دون الزوج. ولأن الكناية ترجع إلى أقرب مذكور قبله، وأقرب مذكور قبل هذا: هو النصف الذي للمرأة. ولأن الله تعالى ذكر العفو في الآية في ثلاثة مواضع، فإذا حمل هذا على الولي.. حصل لكل عفو فائدة، وإذا حمل على غيره.. جعل أحدهما مكررًا.
و (الثاني) : قال في الجديد: (الذي بيده عقدة النكاح: هو الزوج) . وبه قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، وجبير بن مطعم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وابن المسيب، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وشريح - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وأهل الكوفة: الثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه.
فيكون تقدير الآية: {إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] ؛ يعني به: الزوجات. {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] ، يعني به: الأزواج.
{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] ، يعني أن عفو الأزواج أفضل من عفو الزوجات، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] ، وعقدة النكاح: عبارة عن معقوده، ومعقود النكاح بيد الزوج دون الولي؛ لأن الله تعالى قال: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] ، وهذه مفاضلة بين عفوين تقدم ذكرهما، ولا يصح ذلك إلا إذا كان المراد بالذي بيده عقدة النكاح هو: الزوج. ولأن المهر مال للصغيرة، فلا يصح للولي إسقاطه، كسائر أموالها.
فإذا قلنا: إن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي.. لم يصح العفو إلا بخمسة شروط:
أحدها: أن يكون الولي أبا أو جدًا؛ لأنهما لا يتهمان فيما يريان من الحظ.

(9/440)


الثاني: أن تكون المنكوحة صغيرة أو مجنونة، أو سفيهة، فإما البالغة العاقلة الرشيدة: فلا يملكان التصرف في مالها بغير إذنها.
الثالث: أن تكون بكرًا، فأما إذا كانت ثيبًا: فلا يملكان العفو عن مهرها؛ لأن الزوج إن كان قد دخل بها.. فقد استهلك بعضها. وإن لم يدخل بها.. فقد لحقها ابتذال، فلا يعفوان عن صداقها.
الرابع: أن يكون ذلك بعد الطلاق، فأما قبل الطلاق: فلا يجوز؛ لأن بضعها معرض للتلف. الخامس: أن يكون ذلك قبل الدخول، فأما بعد الدخول: فلا يجوز للولي العفو عن مهرها؛ لأن بضعها قد استهلك.
فأما إذا زوج ابنه الصغير، فرجع إليه المهر بانفساخ النكاح: برضاع أو بردتها قبل الدخول، أو زوج ابنه الكبير السفيه، فرجع إليه المهر بردتها قبل الدخول، أو نصفه بطلاقه.. فلا يجوز للأب والجد العفو عنه قولا واحدا؛ لأنه أخرجه من مالهما وقد عاد إليهما بخلاف الصغيرة؛ فإن الأب أكسبه إياها بالتزويج. ولأنه قد يرى لها الحظ في ذلك؛ لأن الناس يرغبون في نكاحها إذا علموا مسامحة الأب وحسن معاملته، بخلاف الابن.

[فرع كون الصداق في ذمة أو يد أحدهما ثم طلق قبل الدخول]
) : وإن كان الصداق دينا في ذمة الزوج وطلقها قبل الدخول، وأرادت المرأة العفو عن النصف الذي لها.. صح عفوها بأحد ستة ألفاظ: بأن تقول: أبرأتك عن كذا، أو وهبت لك، أو ملكتك، أو تركت لك، أو أسقطت عنك، أو عفوت عما لي في ذمتك. وهل يفتقر إلى قبول الزوج؟ فيه وجهان مضى ذكرهما، المنصوص: (أنه لا يفتقر) .
وإن أراد الزوج أن يعفو عن النصف الذي رجع إليه بالطلاق، فإن قلنا: إنه لا يملك ذلك إلا بالطلاق واختيار التملك ولم يختر بعد.. فله أن يسقط حقه، بأن

(9/441)


يقول: عفوت عنك، أو تركت، أو أسقطت حقي، أو تركت حقي من الاختيار وما أشبه ذلك. وإن قلنا: إنه يملك النصف بالطلاق.. لم يصح عفوه؛ لأن ذمته قد برئت من نصفه بالطلاق.
وإن كان الصداق في ذمتها، بأن سلم إليها الصداق وأتلفته، أو تلف ثم طلقها قبل الدخول، فإن أرادت أن تعفو عن النصف الذي لها.. لم يصح عفوها عنه؛ لأنه قد هلك على ملكها وفي يدها.
وإن أراد الزوج أن يعفو عنها، فإن قلنا: إنه لا يملك النصف إلا بالطلاق والاختيار.. صح عفوه قبل الاختيار بكل لفظ يتضمن إسقاط حقه، كالعفو، والإسقاط، والترك، كما قلنا فيمن له شفعة فأسقطها، ولا يفتقر إلى قبولها وجها واحدًا.
وإن قلنا بالمنصوص، و: (أنه يملك نصفه بالطلاق) .. صح عفوه عنها بأحد الألفاظ الستة من الهبة، والتمليك، والإسقاط، والإبراء، والعفو، والترك. وهل يفتقر إلى قبولها؟ على الوجهين.
وإن كان الصداق عينًا في يد الزوج، وأرادت أن تعفو عن النصف الذي لها.. صح بلفظ الهبة، أو التمليك. ولا بد من قبول الزوج، ولا بد من مضي مدة القبض. وهل يفتقر إلى إذنها بالقبض؟ فيه طريقان، مضى ذكرهما في (الرهن) . ولا يصح عفوها بلفظ: الإبراء والإسقاط؛ لأن ذلك إنما يصح عما في الذمم. وهل يصح بلفظ العفو؟ فيه وجهان، حكاهما في " التعليق "، الصحيح: أنه لا يصح.
وإن أراد الزوج أن يعفو عن النصف الذي له، فإن قلنا بقول أبي إسحاق: إنه لا يملك إلا بالطلاق والاختيار، ولم يختر بعد.. صح عفوه بكل لفظ يتضمن إسقاط الخيار. وإن قلنا بالمذهب: (إنه يملك بنفس الطلاق) .. احتاج إلى شرائط الهبة من الإيجاب، والقبول، والإذن بالقبض، والقبض.
وإن كان الصداق عينًا في يد الزوجة، فأرادت الزوجة أن تعفو عن نصفها.. افتقر إلى شروط الهبة.

(9/442)


وإن أراد الزوج أن يعفو عنها، فإن قلنا: إنه لا يملك إلا بالطلاق والاختيار، ولم يختر بعد.. سقط حقه بما يتضمن إسقاط حقه من الخيار. وإن قلنا: (إنه يملك بنفس الطلاق) .. فهو يهبها شيئًا في يدها، فلا بد فيه من الإيجاب، والقبول، ومضي مدة القبض. وهل يفتقر إلى إذنه بالقبض؟ فيه طريقان، مضى ذكرهما.

[فرع تزوج بمهر حرام أو مجهول]
) : إذا تزوج امرأة بمهر حرام أو مجهول.. وجب لها مهر مثلها. فإن أبرأته عنه وكانت تعلم قدره.. صحت البراءة. وإن كانت لا تعلم قدره وأبرأته عنه.. لم تصح البراءة.
وقال أبو حنيفة: (تصح) .
دليلنا: أنه إزالة ملك بلفظ لا يسري، فلم يصح مع الجهل به، كالبيع. وفيه احتراز من العتق.
وإذا ثبت أن الإبراء في الكل لا يصح.. فهل يصح في قدر ما يتحققه؟
قال الشيخ أبو حامد: المعروف أنه لا يصح. وقال أبو إسحاق: يصح؛ لأنا إنما منعنا صحة البراءة في الكل لأجل الغرر، وهذا لا يوجد فيما يتحقق أنه لها.
وإن كانت تعلم أن المهر يزيد على مائة ولا يبلغ ألفا، فقالت: أبرأتك من مائة إلى ألف.. صح؛ لأن الغرر قد زال.

[مسألة نكاح المفوضة]
التفويض- في اللغة-: أن يكل الرجل أمره إلى غيره. ومنه قول الشاعر:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا

(9/443)


يعني: إذا لم يكن لهم رأس، وإنما يكل بعضهم الأمور إلى بعض.
وأما التفويض - في الشرع-: فهو تفويض المرأة البضع في النكاح. يقال: امرأة مفوضة- بكسر الواو-: إذا أضفت التفويض إليها. ومفوضة - بفتح الواو-: إذا أضفت التفويض إلى غيرها.
والتفويض على ضربين: تفويض مهر، وتفويض بضع.
فأما (تفويض المهر) : فمثل أن يقول: تزوجتك على أي مهر شئت أو شئت أو شئنا.. فالنكاح صحيح، ويجب لها مهر مثلها في العقد.
وأما (تفويض البضع) : فبأن يقول الولي: زوجتكها ويسكت عن المهر، أو زوجتكها بلا مهر في الحال، وكان ذلك بإذن المرأة لوليها وهي من أهل الإذن.. فإن النكاح ينعقد.
وأما المهر: فقد قال الشيخ أبو حامد: لا يجب لها مهر في العقد قولًا واحدًا، ولكنها قد ملكت بالعقد أن تملك مهرا ما؛ لأن لها المطالبة بفرضه، فهي كالشفيع ملك أن يملك الشقص. وأي مهر ملكت أن تملكه؟ فيه قولان:
أحدهما: مهر المثل، والمفروض بدل عنه.
والثاني: ما يتفقان عليه.
وقال أبو حنيفة: (يجب لها مهر المثل بالعقد) .
وحكى الشيخ أبو إسحاق: أنه أحد قولينا؛ لأنه لو لم يجب بالعقد.. لما استحقت المطالبة به، ولما استقر بالدخول.

(9/444)


ودليلنا - على أنه لا يجب بالعقد -: أنه لو وجب المهر لها بالعقد.. لتنصف بالطلاق، كالمسمى في العقد.
فإذا قلنا: إنها ملكت أن تملك مهر المثل، ويكون المفروض بدلا عنه؛ فلأنه إذا عقد عليها النكاح.. فقد استهلك بضعها، فوجب أن يكون لها بدله، وبدله هو مهر المثل.
وإذا قلنا: ملكت أن تملك مهرا ما، وإنما يتقدر ذلك بالفرض- قال أبو إسحاق: وهو أقواهما - ولأن المهر الذي تملكه المرأة بعقد النكاح مهران: مهر تملكه بالتسمية، ومهر تملكه بالفرض، ثم ثبت: أن المهر الذي تملكه بالتسمية لا يتقدر إلا بالتسمية، فكذلك المهر الذي تملكه بالفرض لا يتقدر إلا بالفرض. ولأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - نص: (على أنهما إذا فرضا لها أكثر من مهر المثل.. لزم لها الجميع) ، ولو كانت الزيادة على مهر المثل هبة.. لم يلزم بالفرض، وإنما يلزم بالقبض.

[فرع المفوضة تطالب بفرض المهر]
) : وللمفوضة أن تطالب بفرض المهر؛ لأن إخلاء العقد عن المهر خالص للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فإن ترافعا إلى الحاكم.. فرض لها مهر مثلها؛ لأن زيادته على ذلك.. ميل على الزوج، ونقصانه عنه.. ميل عليها.
ولا يصح فرضه إلا بعد معرفته بقدر مهر مثلها؛ لأنه لا يمكنه الفرض إلا بذلك.
وإن تراضى الزوجان ففرضاه بينهما، فإن كانا عالمين بقدر مهر مثلها.. صح فرضهما، فإن فرضا لها مهر مثلها.. صح، وإن فرضا أكثر من ذلك.. صح، ولزم وقد سمح الزوج، وإن فرضا أقل منه.. صح، ولم يلزم الزوج أكثر منه؛ لأنها سمحت.

(9/445)


وإن كانا جاهلين بقدر مهر مثلها أو أحدهما، فإن قلنا: إنها ملكت بالعقد أن تملك مهر المثل.. لم يصح فرضهما؛ لأن المفروض بدل عن مهر المثل، فلا بد أن يكون المبدل معلومًا عندهما. وإن قلنا: ملكت بالعقد أن تملك مهرا ما.. صح فرضهما.
وإذا فرض لها الحاكم.. لم يفرض لها إلا من نقد البلد؛ لأنه بدل بضعها التالف، فهو كما لو أتلف عليها عينًا من مالها.
وإن فرضه الزوجان بينهما.. جاز أن يفرضا نقدًا أو عرضًا مما يجوز تسميته في العقد، ولا يلزم إلا ما اتفقا عليه من ذلك.
وإذا فرض لها مهر صحيح.. فكان ذلك كالمسمى لها في العقد يستقر بالدخول أو بالموت، ويتنصف بالطلاق قبل الدخول.
وقال أبو حنيفة: (إذا طلقها قبل الدخول.. سقط المفروض ووجبت لها المتعة) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] . [البقرة 237] ولأنه مهر واجب قبل الطلاق فينصف بالطلاق، كالمسمى لها في العقد.

[فرع استحباب فرض المهر للمفوضة قبل الدخول وحصول طلاق أو موت]
ويستحب أن لا يدخل بها حتى يفرض لها لئلا تشتبه بالموهوبة. فإن لم يفرض لها حتى وطئها.. استقر عليه مهر المثل؛ لأن الوطء في النكاح من غير مهر خالص لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فإن طلقها قبل الفرض والمسيس.. لم يجب لها المهر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] ، وهذا لم يفرض.
وإن مات أحدهما قبل الفرض والمسيس.. توارثا، ووجب عليها عدة الوفاة إن مات الزوج قبلها بلا خلاف؛ لأن الزوجية ثابتة بينهما إلى الموت، وهل يجب لها مهر المثل؟ فيه قولان:

(9/446)


أحدهما: يجب لها مهر مثلها. وبه قال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وابن شبرمة، وابن أبي ليلى، وأبو حنيفة، وأصحابه، وأحمد، وإسحاق - رحمة الله عليهم -، إلا أن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: (يجب لها مهر مثلها بالعقد) .
ووجه هذا القول: ما روى عبد الله بن عتبة بن مسعود: (أن ابن مسعود- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يسمِّ لها مهرا، فمات عنها قبل الدخول، فردد السائل شهرًا، ثم قال: أقول فيها برأيي، فإن أصبت.. فمن الله تعالى، وإن أخطأت.. فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان: لها الميراث، وعليها العدة، ولها مهر مثلها لا وكس ولا شطط. فقام إليه معقل بن سنان الأشجعي وقال: أشهد، لقد قضيت مثل ما قضى به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بروع بنت واشق، ففرح ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بذلك) .

(9/447)


ولأن الموت سبب يستقر به المسمى، فاستقر به مهر المفوضة، كالدخول.
والثاني: لا يجب لها المهر. وبه قال علي بن أبي طالب، وابن عمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم -، وأهل المدينة: الزهري وربيعة ومالك، والأوزاعي من أهل الشام. ولأنها فرقة وردت على المفوضة قبل الفرض والمسيس، فلم يجب لها المهر، كالطلاق. وأما خبر ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فهو مضطرب، فروي: (أنه قام إليه ناس من أشجع) ، وروي: (أنه قام إليه رجل من أشجع) ، وروي (أنه قام إليه معقل بن سنان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ، وروي: (أنه قام إليه معقل بن يسار) ، وروي: (أنه قام إليه أبو سنان) . ويجوز أن تكون بروع مفوضة المهر لا مفوضة البضع.

[فرع تزويج الولي وليته بدون مهر]
وإن زوج الولي وليته بإذنها وهي من أهل الإذن على أن لا مهر لها في الحال، ولا فيما بعد.. فهل يصح النكاح؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح النكاح؛ لأنها في معنى الموهوبة، وذلك لا يصح إلا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والثاني: يصح النكاح ويبطل الشرط؛ لأن النكاح لا يخلو من مهر، فإذا شرط أن

(9/448)


لا مهر لها بحال.. ألغي الشرط؛ لبطلانه، ولا يبطل النكاح؛ لأنه لا يبطل لبطلان المهر.
فعلى هذا: تكون مفوضة البضع، وقد مضى حكمها.
فإن زوج الأب أو الجد الصغيرة، أو الكبيرة المجنونة، أو البكر البالغة العاقلة بغير إذنها، وفوض بضعها، أو أذنت المرأة لوليها في تزويجها ففوض بضعها بغير إذنها.. لم تكن مفوضة، بل يجب لها مهر المثل؛ لأن التفويض إنما يتقرر بإذنها إذا كانت من أهل الإذن. هذا هو: المشهور من المذهب. وقال أبو علي بن أبي هريرة: إذا قلنا: إن الذي بيده عقدة النكاح هو الأب أو الجد.. صح تفويضه لبضع الصغيرة والمجنونة، كما يصح عفوه.
والأول أصح؛ لأنه إنما يصح عفوه على أحد القولين بعد الطلاق، فأما مع بقاء النكاح.. فلا يصح.

[فرع تفويض السيد بضع أمته]
) : وإن فوض السيد بضع أمته.. كانت مفوضة، وللسيد أن يطالب بفرض المهر، كما قلنا في الحرة. فإن أعتقها أو باعها قبل الفرض والمسيس، فإن قلنا: إن الحرة المفوضة ملكت بالعقد أن تملك مهر المثل.. كان المهر هاهنا للبائع أو المعتق. وإن قلنا: ملكت أن تملك مهرًا ما.. كان المهر لها إن أعتقت، أو لمشتريها.

[فرع وطء الزوج المفوضة بعد سنين أو امرأة بنكاح فاسد واعتبار المهر]
قال ابن الصباغ: إذا وطئ الزوج المفوضة بعد سنين وقد تغيرت صفتها.. فإنه يجب لها مهر المثل معتبرًا بحال العقد؛ لأن سبب وجوب ذلك إنما هو بالعقد، فاعتبر به.

(9/449)


وقال القاضي أبو الطيب: يعتبر مهرها أكثر ما كان من حين العقد إلى حين الوطء؛ لأن لها أن تطالبه بفرض المهر في كل وقت من ذلك.
وإن نكح امرأة نكاحًا فاسدًا ووطئها.. اعتبر مهرها حال وطئها. فإن أبرأته من مهرها قبل الفرض.. لم تصح البراءة؛ لأن المهر لم يجب، والبراءة من الدين قبل وجوبه لا تصح. وإن أسقطت حقها من المطالبة بالمهر.. قال ابن الصباغ: لم يصح إسقاطه عندي؛ لأن إثبات المهر ابتداء حق لها يتعلق به حق الله تعالى؛ لأن الشرع منعها من هبة بضعها، وإنما خص به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولهذا لا يصح أن يطأها بغير عوض.

[مسألة اعتبار العصبات في مهر المثل ومواضعه]
) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ومتى قلت: لها مهر نسائها.. فإنما أعني: نساء عصباتها، وليس أمها من نسائها) .
وجملة ذلك: أن أصحابنا قالوا: يجب لها مهر المثل في سبعة مواضع:
أحدها: مفوضة المهر.
الثاني: مفوضة البضع إذا دخل بها الزوج قبل الفرض، أو مات عنها في أحد القولين.
الثالث: إذا فوض الولي بضعها بغير إذنها.
الرابع: إذا نكحت المرأة بمهر فاسد أو مجهول.
الخامس: إذا نكحها نكاحا فاسدًا ووطئها.
السادس: إذا وطئ امرأة بشبهة.
السابع: إذا أكره امرأة على الزنا.
وكل موضع وجب للمرأة مهر مثلها.. فإنها تعتبر بنساء عصباتها، كالأخوات وبنات الإخوة والعمات وبنات الأعمام.
ولا تعتبر بنساء ذوي أرحامها، كأمهاتها وخالاتها، ولا بنساء بلدها من غير عصباتها مع وجود نساء عصباتها.

(9/450)


وقال مالك: (تعتبر بنساء بلدها) .
وقال ابن أبي ليلى، وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى: (تعتبر بنساء عصباتها، وبنساء ذوي أرحامها) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في بروع بنت واشق: أن لها مهر نساء قومها» وهذا يقتضي قومها الذين تنسب إليهم. ولأنه إذا لم يكن بد من اعتبارها بغيرها من النساء.. فاعتبارها بنساء عصباتها أولى؛ لأنها تساويهن في النسب.
وتعتبر بمن هي في مثل حالها في الجمال، والعقل، والأدب، والسن، والبكارة، والثيوبة، والدين، وصراحة النسب.
وإنما اعتبر الجمال؛ لأن له تأثيرا في الاستمتاع، وهو المقصود في النكاح.
واعتبر العقل والأدب؛ لأن مهر العاقلة الأديبة أكثر من مهر من لا عقل لها ولا أدب.
وكذلك مهر الشابة والبكر أكثر من مهر العجوز والثيب. ومهر العفيفة أكثر من مهر الفاسقة.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وصراحتها) .
فمن أصحابنا من قال: أراد الفصاحة في اللسان.
وقال أكثرهم: أراد صراحة النسب؛ لأن العرب أكمل من العجم. فإن كانت بين عربيين.. لم تعتبر بمن هي بين عربي وعجمية؛ لأن الولد بين عربي وعجمية هجين، والولد بين عربية وعجمي مقرف ومذرع. قال الشاعر في المقرف:
وما هند إلا مهرة عربية ... سليلة أفراس تجللها بغل
فإن نتجت مهرًا كريمًا فبالحرى ... وإن يك إقرافًا فما أنجب الفحل

(9/451)


وقال في المذرع:
إن المذرع لا تغني ضؤولته ... كالبغل يعجز عن شوط المحاضير
ويعتبر بالأقرب فالأقرب، فإن لم يكن في أخواتها مثلها.. صعد إلى بنات أخيها، ثم إلى عماتها، ثم إلى بنات عمها.
فإن كان لها نساء عصبات في بلاد متفرقة، ومهور أهل تلك البلاد تختلف.. اعتبرت بنساء عصباتها من أهل بلدها؛ لأنها أقرب إليهن.
فإن لم يكن لها نساء عصبة، أو كان لها نساء عصبة ولم يوجد فيهن مثلها.. اعتبرت بأقرب النساء إليها من ذوي أرحامها، كأمهاتها وخالاتها.
فإن لم يكن لها من يشبهها منهن.. اعتبرت بنساء بلدها، ثم بنساء أقرب بلد إلى بلدها.

[فرع عادات الآباء في المهور]
) : فإن كان من عادتهم إذا زوجوا من عشيرتهم خففوا المهر، وإذا زوجوا من الأجانب ثقلوا المهر.. حمل الأمر على ذلك.
فإن كان زوجها من عشيرتها.. خفف المهر، وإن كان من الأجانب.. ثقل؛ لأن المهر يختلف بذلك.

(9/452)


قال ابن الصباغ: وينبغي على هذا: إذا كان الزوج شريفًا، والعادة جارية أن يخفف المهر لشرف الزوج.. أن يعتبر ذلك.

[فرع وجوب مهر المثل حالًا من نقد البلد]
) : ويجب مهر المثل حالًا من نقد البلد.
وقال الصيمري: إن جرت عادتهم في ناحية بالثياب وغير ذلك.. قضي لها بذلك.
والمنصوص: هو الأول؛ لأنه بدل متلف، فأشبه سائر المتلفات.
قال الطبري: وإن كان عادة نساء عصباتها التأجيل في المهر.. فإنه لا يجب لها المهر مؤجلًا، بل يجب حالًا، وينقص منه لأجل التأجيل؛ لأن القيم لا تكون مؤجلة.

[مسألة إعسار الزوج بالصداق]
) : وإذا أعسر الرجل بالصداق.. فهل يثبت لها الخيار في فسخ النكاح؟ فيه ثلاثة طرق، حكاها ابن الصباغ.
ومن أصحابنا من قال: إن كان بعد الدخول.. لم يثبت لها الخيار قولًا واحدًا، وإن كان قبل الدخول.. ففيه قولان:
أحدهما: يثبت لها الخيار؛ لأنه تعذر عليها تسليم العوض والمعوض باق بحاله، فكان لها الرجوع إلى المعوض، كما لو أفلس المشتري بالثمن والمبيع باق بحاله.
والثاني: لا يثبت لها الخيار؛ لأن تأخير المهر ليس فيه ضرر متحقق، فهو بمنزلة الخادم في النفقة إذا أعسر بها الزوج.
ومنهم من قال: إن كان قبل الدخول.. ثبت لها الخيار قولًا واحدًا، وإن كان بعد الدخول.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يثبت لها الخيار؛ لأن المعقود عليه قد تلف، فهو كما لو تلف المبيع في يد المشتري ثم أفلس.

(9/453)


والثاني: يثبت لها الخيار، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق؛ لأن المرأة يجب عليها التمكين من الوطء، وجميعه في مقابلة الصداق وإن سلمت بعضه فكان لها الفسخ في الباقي، فهو كما لو وجد البائع بعض المبيع في يد المفلس.
ومنهم من قال: إن كان قبل الدخول.. ثبت لها الخيار قولًا واحدًا، وإن كان بعد الدخول.. لم يثبت لها الخيار قولًا واحدًا؛ لأن قبل الدخول لم يتلف البضع، وبعد الدخول قد تلف البضع؛ لأن المسمى يستقر بالوطأة الأولى، كما يستقر الثمن بتسليم جميع المبيع، وباقي الوطآت تبع للأولى.
فإذا تزوجت امرأة رجلًا مع العلم بإعساره بالمهر، وقلنا: يثبت لها الخيار إذ لم تعلم به.. فهل يثبت لها الخيار هاهنا؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: لا يثبت لها الخيار؛ لأنها رضيت بتأخيره، بخلاف النفقة؛ فإن النفقة لا تجب بالعقد، ولأنه قد يتمكن المعسر من النفقة بالكسب والاجتهاد، بخلاف الصداق.
والثاني: يثبت لها الخيار؛ لأنه يجوز أن يقدر عليه بعد العقد، فلا يكون علمها بإعساره.. رضًا بتأخير الصداق، كالنفقة.
وإن أعسر بالصداق، فرضيت بالمقام معه.. لم يكن لها الخيار بعد ذلك؛ لأن حق الصداق لم يتجدد، بخلاف النفقة، هذا ترتيب البغداديين.
وقال المسعودي (في " الإبانة ") : إذا رضيت بإعساره بالمهر ثم رجعت، فإن كان قبل الدخول.. كان لها الامتناع، وإن كان بعد الدخول.. لم يكن لها الامتناع.
وإن رضيت بالمقام معه بعد ما أعسر بالصداق.. سقط حقها من الفسخ، ولا يلزمها أن تسلم نفسها، بل لها أن تمتنع حتى يسلم صداقها؛ لأن رضاها إنما يؤثر في إسقاط الفسخ دون الامتناع، ولا يصح الفسخ للإعسار بالصداق إلا بالحاكم؛ لأنه مجتهد فيه، فهو كفسخ النكاح بالعيب.

(9/454)


[مسألة إذن السيد بالنكاح لعبده وتعلق المهر والنفقة]
) : وإن أذن السيد لعبده في النكاح.. فإن إطلاق إذنه يقتضي نكاحه بمهر المثل؛ لأنه محجور عليه، فلم يكن له الزيادة على مهر المثل، كالسفيه. فإن نكح بمهر المثل أو دونه نكاحًا صحيحًا.. لزمه المهر بالعقد، ولزمه نفقتها إذا أمكنته من الاستمتاع بها، كما قلنا في الحرة.
إذا ثبت هذا: فلا يخلو العبد: إما أن يكون مكتسبًا غير مأذون له في التجارة، أو مأذونًا له في التجارة، أو غير مكتسب ولا مأذون له في التجارة.
فإن كان مكتسبًا غير مأذون له في التجارة.. تعلق المهر والنفقة في كسبه؛ لأنه لا يخلو: إما أن يتعلق ذلك بذمة السيد، أو برقبة العبد، أو بذمته إلى أن يعتق، أو بكسبه، فبطل أن يقال: يتعلق بذمة السيد؛ لأنه لم يضمن ذلك، وإنما أذن في النكاح، وذلك ليس بضمان.
وبطل أن يقال: يتعلق ذلك برقبة العبد؛ لأنه حق وجب برضا من له الحق، وإنما يتعلق برقبته ما وجب بغير رضا من له الحق.
وبطل أن يقال يتعلق بذمته إلى أن يعتق؛ لأنه يجب في مقابلة ما يستحقه من الاستمتاع حالًا. فإذا بطلت هذه الأقسام.. لم يبق إلا تعلقه بكسبه.
فإن قيل: ما الفرق بين هذا وبين الدين الذي يلزم المأذون له في التجارة، حيث قلنا: لا يقضى من كسبه، وإنما يتعلق بذمته إلى أن يعتق؟
قلنا الفرق بينهما: أن هذا الدين لزمه بغير إذن السيد؛ لأنه إن دفع إليه مالا وقال: اتجر به، فما لزمه من غيره.. لم يلزمه بإذنه، وإن قال: اتجر بجاهك.. فقد أمره أن يأخذ ويعطي، فإذا أخذ ولم يعط حتى ركبه الدين.. كان لازمًا له بغير إذنه، فصار كما لو استدان بغير إذنه، والمهر والنفقة لزماه بإذنه. ولأن المقصود بالنكاح

(9/455)


الاستمتاع، وذلك لا يحصل إلا بالمهر والنفقة، والمقصود من التجارة حصول الربح للسيد، وفي المنع من قضاء الدين من كسبه توفير على السيد.
إذا ثبت هذا: وأن المهر والنفقة في كسبه.. فعلى السيد تخليته بالنهار للاكتساب، وبالليل للاستمتاع؛ لأن إذنه بالنكاح يتضمن ذلك، إلا أن يختار السيد أن يستخدمه نهارًا.. فإنه يلزمه نفقته ونفقة زوجته. هكذا ذكر ابن الصباغ.
وذكر الشيخ أبو حامد: أنه لا يجوز له استخدامه بالنهار إلا أن يضمن عنه المهر والنفقة.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الأم ": (ولا يتعلق المهر والنفقة إلا في الكسب الحادث بعد النكاح) . فأما ما اكتسبه قبل النكاح.. فلا يتعلقان به؛ لأنهما إنما يجبان بالنكاح، فتعلقا بالكسب الحادث بعده دون ما قبله.
قال أصحابنا: وهكذا لو كان المهر مؤجلًا.. فإنه يتعلق بالكسب الحادث بعد حلوله دون ما اكتسبه قبل حلوله.
وإن كان العبد مأذونًا له في التجارة.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الأم " ونقله المزني - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إنه يعطي مما في يده) . واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: يدفع المهر والنفقة من أصل المال الذي في يده للتجارة؛ لأنه يجوز أن يقضي منه دين التجارة، والمهر والنفقة دين عليه لزمه برضا السيد، فهو كدين التجارة.
ومنهم من قال: لا يجوز له أن يدفع المهر والنفقة من المال الذي بيده للتجارة، وإنما يدفعهما من فضل المال الذي بيده للتجارة، كما لا يجوز أن يدفعهما من المال الذي اكتسبه قبل النكاح؛ لأن ذلك مال السيد، وحمل النص على فضل المال.
وإن كان العبد غير مكتسب ولا مأذون له في التجارة.. فمن أين يستوفى المهر والنفقة؟

(9/456)


حكى الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق ـ: فيهما قولين، وحكاهما القاضي أبو الطيب وجهين:
أحدهما: يتعلقان بذمة العبد إلى أن يعتق؛ لأنه حق وجب برضا من له الحق فتعلق بذمته، كما لو استدان شيئًا.
فعلى هذا: يثبت لها الخيار في فسخ النكاح.
والثاني: يجبان في ذمة السيد؛ لأنه لما أذن له في النكاح مع علمه بوجوب المهر والنفقة، وعلمه بحاله.. كان ذلك رضًا منه بضمانهما.

[فرع يصح تزوج العبد بأكثر من مهر المثل]
وإن أذن السيد لعبده في النكاح، فتزوج بأكثر من مهر المثل.. صح النكاح والمهر، إلا أن قدر مهر المثل يتعلق بكسبه، وما زاد عليه يتعلق بذمته إلى أن يعتق؛ لأنه لا ضرر على المولى بذلك.

[فرع النكاح بغير إذن السيد أو أذن له فنكح نكاحًا فاسدًا]
) : وإن نكح العبد بغير إذن سيده.. لم يصح النكاح.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (يصح، وللسيد فسخه) .
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (يكون النكاح موقوفًا على إجازة السيد) ، بناء على أصله.
دليلنا: ما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه.. فهو عاهر» و (العاهر) : الزاني، ولم يرد أنه زان في الحقيقة، وإنما أراد: أنه فعل فعلًا محرمًا كالزاني.
وروى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا نكح العبد بغير إذن سيده.. فنكاحه باطل»

(9/457)


إذا ثبت هذا: فإنه يفرق بينهما؛ لأن النكاح الفاسد لا يقر عليه. فإن كان لم يدخل بها.. فلا شيء عليه. وإن كان دخل بها.. وجب عليه لها المهر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها.. فنكاحها باطل " إلى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فإن مسها.. فلها المهر بما استحل من فرجها» ومن أين يستوفى؟ فيه قولان:
(أحدهما) : قال في القديم: (يتعلق برقبته فيباع فيه، إلا أن يختار السيد أن يفديه) ؛ لأنه كجنايته، وجنايته في رقبته.
و (الثاني) : قال في الجديد: (يتعلق في ذمته إلى أن يعتق) ؛ لأنه حق وجب برضا من له الحق، فهو كما لو استدان دينًا.
وإن أذن السيد لعبده بالنكاح فنكح نكاحًا فاسدًا.. فإنه يفرق بينهما. فإن كان لم يدخل بها.. فلا شيء عليه. وإن كان قد دخل بها.. وجب عليه المهر؛ لما ذكرناه في التي قبلها. وهل يتضمن إذن السيد النكاح الصحيح والفاسد؟ فيه قولان:
أحدهما: أن إذنه يتضمنهما؛ لأن النكاح الفاسد لما كان حكمه حكم الصحيح في وجوب المهر والعدة ولحوق النسب.. جاز أن يكون الإذن متضمنًا له كالصحيح.
فعلى هذا: يستوفى المهر هاهنا من حيث يستوفى المهر في النكاح الصحيح.
والثاني: أنه يتضمن الصحيح دون الفاسد، وهو الصحيح؛ لأن إطلاق الإذن يقتضي نكاحًا شرعيًا، والشرعي هو الصحيح دون الفاسد، كما لو وكل وكيلًا يبيع له شيئًا أو يبتاعه.. فإن إذنه لا يتضمن الفاسد. وأما وجوب المهر والعدة ولحوق النسب.. فإن ذلك من أحكام الوطء في النكاح لا من أحكام النكاح.

(9/458)


فعلى هذا: في محل استيفاء المهر هاهنا قولان، كما لو نكح بغير إذن سيده:
أحدهما: في ذمته.
والثاني: في رقبته.

[فرع الإذن للعبد بالنكاح وإرادة السفر به]
) : وإن أذن لعبده بالنكاح فنكح، ثم أراد أن يسافر بعبده، فإن لم يضمن المهر والنفقة عنه.. لم يكن له ذلك؛ لأنه ينقطع بالسفر عن الاكتساب لهما. وإن ضمن عنه المهر والنفقة.. كان له أن يسافر به، كما يجوز له أن يسافر بالأمة المزوجة.

[فرع مطالبة المرأة السيد أو العبد المكتسب بالمهر]
) : وإن أذن لعبده أن يتزوج امرأة بألف، فتزوجها بألف، ثم ضمن السيد عنه الألف.. صح ضمانه؛ لأنه دين ثابت في ذمة العبد، فصح ضمانه. فإن كان العبد مكتسبًا.. فلها أن تطالب به السيد، ولها أن تطالب به من كسب العبد. وإن كان غير مكتسب.. طالبت به السيد لا غير.
فإن طلقها العبد.. نظرت: فإن كان بعد الدخول.. فقد استقر صداقها، فإن كانت قد استوفته.. فلا كلام. وإن لم تستوفه.. طالبت به.
وإن كان قبل الدخول، فإن كانتا لم تقبض الصداق.. سقط عن الزوج نصفه، وبرئت ذمة السيد عن ذلك النصف؛ لأن ذمة الضامن فرع لذمة المضمون عنه، ولها أن تطالب بالنصف الباقي كما كانت تطالب به قبل الطلاق. وإن كانت قد قبضت الصداق.. وجب عليها أن ترد النصف.
فإن كان العبد مملوكًا حال ما طلق.. وجب عليها رد ذلك النصف إلى السيد، سواء قبضته من السيد أو من كسب العبد؛ لأنه مال له. وإن كان معتقًا حال الطلاق.. قال الشيخ أبو حامد: ردت ذلك النصف إلى الزوج، سواء قبضته من السيد أو من كسب العبد؛ لأنه كسب للزوج بالطلاق وهو حر حال الطلاق فكان له، كما لو زوج

(9/459)


ابنه الصغير ثم بلغ الابن وطلق قبل الدخول وقد قبضت الصداق.. فإنها ترد نصف الصداق إلى الابن، سواء قبضته من ماله أو تطوع أبوه بالدفع عنه.

[فرع تزوج حرة بإذن سيده ثم باع زوجها لها]
) : وإن تزوج العبد حرة بإذن سيده بألف، وضمن السيد عنه الألف، ثم باعها السيد زوجها بألف في ذمتها.. صح البيع، وانفسخ النكاح.
فإن كان ذلك قبل الدخول.. فهل المغلب فيه جهة الزوج أو جهة الزوجة؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما.
فإن قلنا: المغلب فيه جهة الزوج.. سقط عن الزوج نصف المهر، وسقط عن السيد ذلك، وبقي النصف لها في ذمتهما، وينبغي أن يكون في بقاء هذا النصف لها وجهان يأتي ذكرهما.
وإن قلنا: المغلب في الشراء جهة المرأة، وهو المنصوص.. سقط جميع المهر عن ذمتهما.
وإن كان الشراء بعد الدخول.. فقد استقر المسمى، ولكنها قد ملكت العبد، وهل يكون حدوث ملكها عليه موجبًا لسقوط مهرها عن ذمته؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: يسقط؛ لأن السيد لا يثبت له في ذمة عبده دين.
والثاني: لا يسقط، وهو المنصوص؛ لأن الملك إنما ينافي أن يتجدد للسيد في ذمة عبده دين، فأما الدين الثابت في ذمته قبل الملك: فإن حدوث الملك له عليه لا ينافيه.
فإذا قلنا بالأول.. سقط عن ذمة السيد؛ لأنه فرع لذمة العبد، فإذا سقط عن الأصل.. سقط عن الفرع.

(9/460)


وإذا قلنا بالثاني.. فإن للسيد عليها الثمن، ولها على السيد المهر، وهل يتقاصان؟ على الأقوال في المقاصة.
وأما إذا باعها السيد زوجها بالألف التي هي المهر، فإن كان ذلك قبل الدخول.. فقد نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على: (أن البيع لا يصح) ، وهذا يدل على: أن المغلب في الشراء جهة المرأة؛ لأنه إذا كان فسخ النكاح من جهتها.. سقط جميع المهر، وإذا سقط جميع المهر.. لم يصح البيع، وكل سبب إذا ثبت جر بثبوته سقوط غيره.. فإنه يسقط ولا يثبت.
وإن كان بعد الدخول.. فقد قال المسعودي (في " الإبانة ") : إن قلنا بسقوط مهرها عنه إذا ملكته.. لم يصح البيع. وإن قلنا: لا يسقط.. صح البيع.
وقال الشيخ أبو حامد وعامة أصحابنا: يصح البيع، ويبطل النكاح، وتكون مستوفية لمهرها؛ لأن الفسخ بعد الدخول لا يوجب سقوط المهر، وقد وقع البيع بنفس الصداق، فصارت مستوفية. ويفارق إذا اشترته بغير الصداق؛ لأن هناك تم ملكها وفي ذمته لها دين، فسقط في أحد الوجهين، وهاهنا تم ملكها عليه ولا شيء في ذمته لها، فلم يسقط تملكها إياه.

[فرع لا مهر على سيد زوج عبده بأمته]
إذا زوج الرجل عبده بأمته.. لم يجب المهر.
وحكى أصحاب أبي حنيفة: أنه يجب ويسقط؛ لأنه لا يخلو النكاح عن المهر.
وهذا ليس بصحيح؛ لأن المهر لو وجب.. لوجب للسيد على عبده، والسيد لا يثبت له على عبده المال ابتداء.
إذا ثبت هذا: فقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في القديم: (يستحب أن يذكر المهر في العقد؛ لأنه من سنة النكاح) .

(9/461)


وقال في الجديد: (إن شاء.. ذكره، وإن شاء.. لم يذكره؛ لأنه لا فائدة في ذكره) ، وهذا أصح.

[فرع زوج عبده بأمة غيره وجعله صداقها]
) : وإن زوج الرجل عبده بأمة غيره، وجعل العبد الذي هو زوجها صداقها.. صح النكاح والصداق؛ لأن الزوجة لا تملك زوجها وإنما يملكه سيدها.
ويجوز للسيد أن يزوج عبده بأمته، فإن طلقها العبد قبل الدخول.. رجع إلى مولى العبد نصفه، ولمولى الأمة نصفه.
وإن أعتقت الأمة ففسخت النكاح قبل الدخول، أو وجدت به عيبًا، أو وجد بها عيبًا ففسخ النكاح قبل الدخول.. رجع جميع العبد إلى مولاه.
وإن أعتق مولى الأمة العبد.. نفذ عتقه؛ لأنه ملكه، فإن طلق العبد الأمة قبل الدخول.. رجع مولى العبد على مولى الجارية بنصف قيمته. وكذلك إن وجد أحدهما بالآخر عيبًا ففسخ النكاح قبل الدخول.. رجع مولى العبد على مولى الأمة بجميع قيمة العبد؛ لأنه أتلفه بالعتق، بخلاف ما لو أصدق عن ابنه الصغير من مال نفسه، ثم بلغ الصبي وطلقها قبل الدخول.. فإن نصف الصداق يرجع إلى الابن دون الأب؛ لأن ذلك هبة من الأب للابن، وهاهنا خرج العبد من مولاه إلى مولى الأمة فرجع ما خرج منه إليه.

[فرع زوج عبده بحرة وجعله صداقها]
وإن زوج الرجل عبده بحرة وأصدقها إياه.. قال القاضي أبو الطيب: لم يصح النكاح؛ لأنها لا تملك زوجها، ولأن ملك الصداق والبضع يقعان في حالة واحدة، فإذا لم تملك الصداق.. لم يملك البضع.

(9/462)


[فرع زواج السفيه بغير إذن الولي]
) : وإن تزوج السفيه بغير إذن الولي.. فالنكاح باطل، ويفرق بينهما. فإن كان لم يدخل بها.. فلا شيء عليه. وإن دخل بها.. فهل يجب عليه المهر؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب عليه المهر؛ لأنه بمنزلة جنايته.
والثاني: لا يجب عليه، وهو الأصح؛ لأنه إتلاف برضا من له الحق، فهو كما لو ابتاع منها سلعة فأتلفها.
وبالله التوفيق

(9/463)


[باب اختلاف الزوجين في الصداق]
إذا اختلف الزوجان في قدر المهر، بأن قال: تزوجتك بمائة، فقالت: بل بمائتين، أو في جنسه، بأن قال: تزوجتك على دراهم، فقالت: بل على دنانير، أو في عينه، بأن قال: تزوجتك بهذا العبد، فقالت: بل بهذه الجارية، أو في أجله، بأن قال: تزوجتك بمهر مؤجل، فقالت بل بمهر حال، ولا بينة لهما ولا لأحدهما.. تحالفا. وسواء كان اختلافهما قبل الدخول أو بعده، وسواء كان قبل الطلاق أو بعده. وبه قال الثوري.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إن كان الاختلاف قبل الدخول.. تحالفا وفسخ النكاح، وإن كان بعد الدخول.. فالقول قول الزوج) .
وقال النخعي، وابن شبرمة، وابن أبي ليلى، وأبو يوسف: القول قول الزوج بكل حال، إلا أن أبا يوسف قال: إلا أن يدعي الزوج مهرًا مستنكرًا لا يزوج بمثله في العادة.. فلا يقبل.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد: (إن كان اختلافهما بعد الطلاق.. فالقول قول الزوج، وإن كان اختلافهما قبل الطلاق.. فالقول قول الزوجة، إلا أن تدعي أكثر من مهر مثلها.. فيكون القول قولها في قدر مهر مثلها، وفي الزيادة.. القول قول الزوج مع يمينه) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه» ، وكل واحد من الزوجين مدعى عليه، فكان عليه اليمين، كالذي أجمع عليه كل مخالف فيها.
إذا ثبت هذا: فالكلام في البادئ باليمين منهما، وفي صفة التحالف قد تقدم ذكره في التحالف في البيع، وإذا تحالفا.. لم ينفسخ النكاح.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ينفسخ) .

(9/464)


دليلنا: أن أكثر ما فيه أن المهر يصير مجهولًا، والجهل بالمهر لا يفسد النكاح عندنا، وقد مضى الدليل عليه.. ويسقط المسمى؛ لأن كل واحد منهما قد حقق بيمينه ما حلف عليه، وليس أحدهما بأولى من الآخر فسقطا. وهل يسقط ظاهرًا وباطنًا، أو يسقط في الظاهر دون الباطن؟ على الأوجه الثلاثة في البيع. وهل ينفسخ بنفس التحالف، أو بالفسخ؟ على ما مضى في البيع.
وترجع المرأة إلى مهر مثلها، سواء كان ذلك أكثر مما تدعيه أو أقل.
وقال أبو علي بن خيران: إن كان مهر المثل أكثر مما تدعيه.. لم تستحق الزيادة على ما تدعيه؛ لأنها لا تستحق ما لا تدعيه.
وقال ابن الصباغ: ينبغي أن يقال - إذا قلنا: ينفسخ في الظاهر دون الباطن ـ: لا تستحق إلا أقل الأمرين: من مهر المثل، أو ما تدعيه.
والمشهور: هو الأول، ولأن بالتحالف سقط اعتبار المسمى، فصار الاعتبار بمهر المثل.
ويبطل ما قالاه بما لو كان مهر المثل أقل مما اعترف الزوج أنه تزوجها به.. فإنها لا تستحق أكثر من مهر مثلها، ولا يلزم الزوج ما اعترف به من الزيادة.

[مسألة تزوج حرة لها أبوان مملوكان له واختلفا فيهما]
وإن تزوج رجل حرة لها أبوان مملوكان له، فاختلف الزوجان، فقال الزوج: أصدقتك أباك، وقالت: بل أصدقتني أمي.. تحالفا، ووجب لها مهر مثلها وعتق الأب؛ لأن الزوج يقر: أنها قد ملكته وعتق عليها، فهو كما لو ادعى على رجل: أنه باعه عبده وأنه أعتقه، وأنكره المدعى عليه.. فإنه يحلف ويعتق العبد. وأما الأم: فلا تعتق؛ لأنها في ملك الزوج، فلا يقبل إقرار الزوجة عليه، ويكون ولاء الأب موقوفًا بينهما؛ لأن كل واحد منهما لا يدعيه. فإن رجع الزوج وصدق الزوجة: أنه أصدقها أمها.. عتقت عليها وكان ولاؤها لها، ولا يقبل قول الزوج بعد ذلك: أنه لم يصدقها أباها؛ لأنا قد حكمنا بعتقه عليه بإقراره، ويكون ولاؤه للزوج.

(9/465)


وإن قالت الزوجة: بل كان أصدقني أبي، ولم يصدقها على أنه أصدقها أمها.. لم تعتق الأم، وكان ولاء الأب للزوجة، ووجب عليها أن ترد ما أخذته منه من المهر.
وإن قال الزوج: أصدقتك أباك ونصف أمك، وقالت الزوجة: بل أصدقتني أبي وأمي.. تحالفا، ووجب لها مهر مثلها.
قال ابن الحداد: ويعتق الأب عليها بإقرارهما، ويجب عليها قيمته للزوج.
وأما الأم: فإن كانت الزوجة موسرة.. عتقت عليها ولزمها قيمتها للزوج. وإن كانت معسرة.. عتق عليها نصفها، وعليها نصف قيمتها لزوجها، ويكون نصف الأم مملوكًا للزوج، وما عتق على الزوجة منها.. كان ولاؤه لها.

[فرع اختلاف الورثة في الصداق]
) : وإن مات الزوجان واختلف ورثتهما في الصداق، أو مات أحدهما واختلف وارثه هو والباقي.. فهو كالمتبايعين إذا ماتا، أو مات أحدهما، وقد مضى ذلك، إلا أن أيمان الزوجين، يحلف كل واحد منهما على القطع، سواء حلف على الإثبات أو على النفي؛ لأنه يحلف على فعل نفسه. وأما أيمان الورثة: فإن كانت على الإثبات.. حلفوا على البت والقطع. وإن كانت على النفي.. حلفوا على نفي العلم.

[مسألة اختلاف الولي والزوج في قدر المهر]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وهكذا الزوج وأبو الصبية) .
وجملة ذلك: أن الأب أو الجد إذا زوج الصغيرة أو المجنونة، واختلف الأب أو الجد والزوج في قدر المهر.. فهل يتحالفان؟ اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: يحلف الزوج وتوقف يمين الزوجة إلى أن تبلغ الزوجة أو تفيق،

(9/466)


ولا يحلف الولي؛ لأن النيابة لا تدخل في اليمين، وحمل النص على أنه أراد به العطف على قوله: (وبدأت بيمين الزوج مع الكبيرة، ثم مع أبي الصغيرة) .
وذهب أبو العباس، وأبو إسحاق، وأكثر أصحابنا: إلى أن الأب والجد يتحالفان مع الزوج، على ظاهر قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وهو الصحيح؛ لأنه عاقد فحلف، كما لو وكل رجلًا ببيع سلعة فاختلف هو والمشتري.. فإنه يحلف.
إذا ثبت هذا: فإن التحالف بينهما إنما يتصور بشرطين:
أحدهما: إذا ادعى الأب أو الجد: أنه زوجها بأكثر من مهر المثل، وادعى الزوج: أنه إنما تزوجها بمهر المثل. فأما إذا اختلفا في مهر المثل أو أقل منه.. فلا تحالف بينهما؛ لأنه إذا زوجها بأقل من مهر المثل.. ثبت لها مهر المثل.
الثاني: إذا كانت المنكوحة عند الاختلاف صغيرة أو مجنونة، فأما إذا بلغت أو أفاقت قبل التحالف.. فإن عامة أصحابنا قالوا: لا يحلف الولي؛ لأنه لو أقر عنها بما يدعي الزوج.. لم يقبل في هذه الحالة، بخلاف ما قبل البلوغ والإفاقة؛ فإنه لو أقرها بما يدعي الزوج من مهر المثل.. قبل إقراره.
وقال القاضي أبو الطيب، والشيخ أبو إسحاق: يحلف الولي؛ لأن الوكيل يحلف وإن لم يقبل إقراره، فكذلك الولي هاهنا.

[فرع ادعاء المرأة عقدين ومهرين]
) : إذا ادعت المرأة: أنه عقد عليها النكاح يوم الخميس بعشرين، ثم عقد عليها يوم الجمعة بثلاثين، وأقامت على ذلك بينة وطلبت المهرين.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فهما لها؛ لأنه يجوز أن يكون تزوجها يوم الخميس بعشرين، ثم خالعها

(9/467)


قبل الدخول أو بعده ثم تزوجها، أو طلقها بعد الدخول ثم تزوجها.. فيلزمه المهران) .
فإن قال الزوج: إنما عقدت يوم الجمعة تكرارًا وتأكيدًا.. فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الظاهر لزومهما.
قال المزني: للزوج أن يقول: كان الفراق قبل النكاح الثاني قبل الدخول، فلا يلزمه إلا نصف الأول وجميع الثاني؛ لأن القول قوله أنه: لم يدخل بها في الأول.
قال أصحابنا: إنما قصد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن المهرين واجبان، فإن ادعى سقوط نصف الأول بالطلاق قبل الدخول.. كان القول قوله؛ لأن الأصل عدم الدخول.
قال أصحابنا: وهكذا لو أقام بينة: أنه باع من رجل هذا الثوب يوم الخميس بعشرة، وأنه باعه منه يوم الجمعة بعشرين.. لزمه الثمنان؛ لجواز أن يرجع إليه بعد البيع الأول ببيع أو هبة.

[مسألة ادعى دفع الصداق وأنكرت]
إذا ادعى الزوج: أنه دفع الصداق إلى زوجته، وأنكرت، ولا بينة له.. فالقول قول الزوجة مع يمينها. وبه قال الشعبي، وسعيد بن جبير، وأهل الكوفة، وابن شبرمة، وابن أبي ليلى، وأبو حنيفة، وأصحابه.
وقال مالك والأوزاعي رحمهما الله تعالى: (إن كان الاختلاف قبل الدخول.. فالقول قول الزوجة، وإن كان بعد الدخول.. فالقول قول الزوج) .
وقال الفقهاء السبعة من أهل المدينة: إن كان الاختلاف قبل الزفاف.. فالقول قولها، وإن كان بعد الزفاف.. فالقول قول الزوج.

(9/468)


دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه» ، والزوجة مدعى عليها في جميع الحالات، فكان القول قولها.

[فرع أصدقها تعليمًا فأنكرت]
) : وإن أصدقها تعليم سورة وادعى: أنه قد علمها إياها، وأنكرت، فإن كانت لا تحفظها.. فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الأصل عدم التعليم. وإن كانت تحفظها.. ففيه وجهان:
أحدهما: القول قولها؛ لما ذكرناه.
والثاني: القول قوله؛ لأن الظاهر أنه قد علمها.

[فرع اختلفا فيما دفعه صداقًا أو هدية]
) : وإن أصدقها ألف درهم، فدفع إليها ألف درهم، فقال: دفعتها عن الصداق، وقالت: بل دفعتها هدية أو هبة، فإن اتفقا: أنه لم يتلفظ بشيء.. فالقول قوله من غير يمين؛ لأن الهدية والهبة لا تصح بغير قول. وإن اختلفا في قوله، فقال: قلت هذا عن الصداق، وقالت: بل قلت: هذا هدية أو هبة.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أعلم بقوله.

[مسألة ادعاؤها بالخلوة والإصابة]
وإن ادعت الزوجة: أنه خلا بها وأصابها، أو أصابها من غير خلوة، فأنكر الزوج ذلك.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الخلوة والإصابة.
وإن صادقها على الخلوة والتمكن فيها من الإصابة وأنكر الإصابة، فإن قلنا: إن

(9/469)


الخلوة كالإصابة في تقدير المسمى ووجوب العدة.. فلا كلام. وإن قلنا: إنها ليست كالإصابة.. فهل القول قوله، أو قولها؟ فيه قولان:
(أحدهما) : قال في القديم: (القول قولها) ؛ لأن الظاهر معها.
و (الثاني) : قال في الجديد: (القول قوله) ، وهو الأصح؛ لأن الأصل عدم الإصابة.

[مسألة أصدقها عينًا ثم سرحها ووجد نقصًا في العين]
) : وإن أصدقها عينًا وقبضتها، ثم طلقها قبل الدخول، ووجد في العين نقص.. فقد ذكرنا أن هذا النقص إن حدث قبل الطلاق.. لا يلزمها أرشه، وإن حدث بعد الطلاق.. فعليها أرشه.
فإن اختلف الزوجان في وقت حدوثه، فقال الزوج: حدث في يدك بعد عود النصف إلي - إما بالطلاق على المنصوص، أو بالطلاق واختيار التملك على قول أبي إسحاق - وقالت الزوجة: بل حدث قبل ذلك.. فالقول قول الزوجة مع يمينها؛ لأن الزوج يدعي وقوع الطلاق قبل حدوث النقص وهي تنكر ذلك، والأصل عدم الطلاق، والزوجة تدعي حدوث النقص قبل الطلاق، والأصل عدم حدوث النقص، فتعارض هذان الأصلان فسقطا، وبقي أصل براءة ذمتها من الضمان، فكذلك كان القول قولها.
وبالله التوفيق

(9/470)


[باب المتعة]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في القديم: (لا متعة للمطلقات إلا لواحدة، وهي: التي تزوجها ولم يفرض لها مهرًا، ثم طلقها قبل الدخول.. فلها المتعة) .
وقال في الجديد: (لكل مطلقة متعة إلا لواحدة وهي: التي تزوجها وسمى لها مهرًا، أو تزوجها مفوضة وفرض لها المهر، ثم طلقها قبل الدخول.. فلا متعة لها) .
وجملة ذلك: أن المطلقات ثلاثة: مطلقة لها المتعة قولًا واحدًا، ومطلقة لا متعة لها قولًا واحدًا، ومطلقة هل لها المتعة؟ على قولين.
فأما (المطلقة التي لها المتعة قولًا واحدًا) : فهي التي تزوجها مفوضة ولم يفرض لها مهرًا، ثم طلقها قبل الفرض والمسيس؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] [البقرة: 236] . ولأنه قد لحقها بالعقد والطلاق قبل الدخول ابتذال، فكان لها المتعة بدلًا عن الابتذال.

(9/471)


وأما (التي لا متعة لها قولًا واحدًا) : فهي التي تزوجها وسمى لها مهرًا في العقد، أو تزوجها مفوضة وفرض لها مهرًا، ثم طلقها قبل الدخول؛ لأن الله - تعالى - علق وجوب المتعة بشرطين وهما: أن يكون الطلاق قبل الفرض والمسيس، وهاهنا أحد الشرطين غير موجود. ولأنا إنما جعلنا لها المتعة لكي لا يعرى العقد عن بدل، وهاهنا قد حصل لها نصف المهر.
وأما (المطلقة التي في المتعة لها قولان) : فهي التي تزوجها وسمى لها مهرًا في العقد ودخل بها، أو تزوجها مفوضة ثم فرض لها مهرًا ودخل بها، أو لم يفرض لها مهرًا ودخل بها، ففي هذه الثلاثة قولان:
(أحدهما) قال في القديم: (لا متعة لها) - وبه قال أبو حنيفة، وإحدى الروايتين عن أحمد - رحمة الله عليهما - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] [البقرة:236] ، فعلق المتعة بشرطين وهو: أن يكون الطلاق قبل الفرض والمسيس، ولم يوجد الشرطان هاهنا.
وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] [الأحزاب: 49] ، فجعل لهن المتعة قبل المسيس، وقد وجد المسيس هاهنا. ولأنها مطلقة من نكاح لم يخل نكاحها عن بدل، فلم يكن لها المتعة، كما لو سمى لها مهرًا ثم طلقها قبل الدخول.
و (الثاني) : قال في الجديد: (لها المتعة) . وبه قال عمر، وعلي، والحسن بن علي، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، ولا مخالف لهم من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.

(9/472)


قال المحاملي: وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] [البقرة:241] ، فجعل الله سبحانه وتعالى المتعة لكل مطلقة، إلا ما خصه الدليل، ولقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 28] [الأحزاب:28] ، وهذا في نساء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللاتي دخل بهن وقد كان سمى لهن المهر؛ بدليل: حديث عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كان صداق نساء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اثنتي عشرة أوقية ونشًَّا» ولأن المتعة إنما جعلت لما لحقها من الابتذال بالعقد والطلاق، والمهر في مقابلة الوطء، والابتذال موجود، فكان لها المتعة.
إذا ثبت هذا: فإن المتعة واجبة عندنا. وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (هي مستحبة غير واجبة) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] [البقرة236] ، وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب.
وقَوْله تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] [البقرة:241] ، وقَوْله تَعَالَى: {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] يدل على الوجوب.

[مسألة لا فرق في وجوب المتعة بين الحرية والملكية]
وكل موضع قلنا: تجب المتعة.. فلا فرق بين أن يكون الزوجان حرين، أو مملوكين، أو أحدهما حرًا والآخر مملوكًا.
وقال الأوزاعي: (لا تجب المتعة إلا إذا كانا حرين، فإن كانا مملوكين أو أحدهما.. لم تجب) .

(9/473)


دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] (البقرة: 241) ، وهذا عام.

[فرع الفرقة بغير طلاق]
) : وإن وقعت الفرقة بغير طلاق في المواضع التي تجب فيها المتعة.. نظرت: فإن كانت بالموت.. لم تجب المتعة؛ لأن النكاح قد بلغ منتهاه، ولم يلحقها بذلك ابتذال. وإن وقعت بغير الموت.. نظرت: فإن كانت بسبب من جهة أجنبي.. فهي كالطلاق؛ لأنها كالطلاق؛ لأنها كالطلاق في تنصيف المهر قبل الدخول، فكذلك في المتعة. وإن كانت من جهة الزوج، كالإسلام قبل الدخول، والردة، واللعان.. فحكمه حكم الطلاق - قال القاضي أبو الطيب: وكذلك إذا أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة، وأسلمن معه، واختار أربعًا منهن.. وجب للباقي منهن المتعة - وإن كانت الفرقة من جهتها، كالإسلام، والردة، والرضاع، أو الفسخ للإعسار بالمهر والنفقة، أو فسخ أحدهما النكاح بعيب.. فلا متعة لها؛ لأن الفرقة جاءت من جهتها، ولهذا: إذا وقع ذلك قبل الدخول.. سقط جميع مهرها. وإن كانت بسبب منهما، فإن كانت بالخلع.. فهو كالطلاق. هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي (في " الإبانة ") : لا متعة لها.
وإن كانت بردة منهما في حالة واحدة.. ففيه وجهان، مضى بيانهما في الصداق.
وإن كان الزوج عبدًا فاشترته زوجته.. انفسخ النكاح، وينبغي أن لا تجب لها متعة قولًا واحدًا؛ لأنه لا يجوز أن يجب للسيد في ذمة عبده حق ابتداء.
وإن كانت الزوجة أمة فاشتراها الزوج.. انفسخ النكاح.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في موضع: (لا متعة لها) . وقال في موضع: (لها المتعة) . واختلف أصحابنا فيها على أربع طرق:
فـ[أحدهما] : منهم من قال: لا تجب لها المتعة قولًا واحدًا؛ لأن البيع تم بالزوج

(9/474)


والسيد، والمغلب حكم السيد؛ لأنه يملك بيعها من غير الزوج، والمتعة حق له، فلم يجب له المتعة، كالخلع.
و (الثاني) : منهم من قال: تجب المتعة قولًا واحدًا؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر، فسقطا، وصارت كالفرقة من جهة الأجنبي.
و (الثالث) : منهم من قال: فيه قولان، ووجههما ما ذكرناه.
و (الرابع) : قال أبو إسحاق: هي على حالين:
فإن كان الزوج هو الذي استدعى البيع.. فعليه المتعة؛ لأن السبب في الفرقة من جهته. وإن كان السيد هو الذي دعا إليه.. فلا متعة؛ لأن الفرقة من قبله. وهذا ليس بشيء؛ لأن هذا يبطل بالخلع، وكان يلزمه أن يقول في الخلع مثله.

[فرع المتعة لامرأة العنين إذا فارقته]
فرع: (لا تجب المتعة لامرأة العنين إذا فارقته) : روى المزني: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (وأما امرأة العنين: فلو شاءت.. أقامت معه، ولها المتعة عندي) .
قال المزني: هذا غلط عندي، وقياس قوله: (لا متعة لها) ؛ لأن الفرقة من قبلها.
قال أصحابنا: اعتراض المزني صحيح، إلا أنه اخطأ في النقل، وقد ذكرها الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الأم " وقال: (ليس لها المتعة؛ لأنها لو شاءت.. أقامت معه) ، وإنما أسقط المزني: (ليس) .

[مسألة الواجب والمستحب في قدر المتعة ووقتها]
) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا وقت فيها، واستحسن تقدير ثلاثين درهمًا) .

(9/475)


وجملة ذلك: أن الكلام في القدر المستحب في المتعة، وفي القدر الواجب.
فأما (المستحب) : فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " المختصر ": (أستحسن قدر ثلاثين درهمًا) . وقال في القديم: (يمتعها ثيابًا بقدر ثلاثين درهمًا) . وقال في بعض كتبه: (أستحسن أن يمتعها خادمًا، فإن لم يكن.. فمقنعة، فإن لم يكن.. فثلاثين درهمًا) .
قال أصحابنا: أراد المِقْنَعةَ التي قيمتها أكثر من ثلاثين درهمًا.
وأقل المستحب في المتعة ثلاثون درهمًا؛ لما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: (يمتعها بثلاثين درهمًا) .
وروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: (أكثر المتعة خادم، وأقلها ثياب) . يعني: كسوة. وروي عنه: (أقله مقنعة) .
وأما القدر الذي هو واجب: ففيه وجهان:
(أحدهما) : من أصحابنا من قال: ما يقع عليه اسم المال، كما يجزئ ذلك في الصداق.
والثاني - وهو المذهب ـ: أنه لا يجزئ ما يقع عليه الاسم، بل ذلك إلى رأي الحاكم، وتقديره باجتهاده؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236]

(9/476)


[البقرة: 236] ، فلو كان الواجب ما يقع عليه اسم المال.. لما خالف بينهما. ويخالف الصداق، فإن ذلك يثبت بتراضيهما.
وهل الاعتبار بحال الزوج أو بحال الزوجة؟ فيه وجهان:
أحدهما: الاعتبار بحال الزوجة؛ لأن المتعة بدل عن المهر؛ بدليل: أنه لو كان هناك مهر.. لم يجب لها متعة، والمهر معتبر بحالها، فكذلك المتعة.
والثاني: الاعتبار بحال الزوج؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] [البقرة: 236] ، فاعتبر فيه حاله دون حالها. هذا مذهبنًا. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (يمتعها درعًا وخمارًا وملحفة، إلا أن يكون نصف مهر مثلها أقل من ذلك.. فينقصها ما لم ينقص عن خمسة دراهم) .
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في إحدى الروايتين عنه: (يتقدر بما تجزئ فيه الصلاة من الثياب) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] [البقرة: 236] ، ولم يفرق. وما روي عن أحد من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم ما ذكروه.

[فرع تزوج امرأة مفوضة ثم فرض لها أجنبي ثم طلقت قبل الدخول]
) : إذا تزوج رجل امرأة مفوضة البضع، فجاء أجنبي وفرض معها المهر ودفعه إليها من ماله، ثم طلقها الزوج قبل الدخول.. قال أبو العباس: فيه وجهان:
أحدهما: أن الفرض لا يصح؛ لأنه يوجب على الزوج مالًا من غير ولاية له عليه ولا وكالة، فصار وجود هذا الفرض كعدمه.
فعلى هذا: يرد على الأجنبي ما دفعه، وتجب المتعة على الزوج.
والثاني: يصح الفرض؛ لأنه لما صح أن يتطوع عنه بدفع المهر المسمى.. صح فرضه لمهر المفوضة.

(9/477)


فعلى هذا: لا تجب المتعة على الزوج. وإلى من يرجع نصف المدفوع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يرجع إلى الزوج؛ لأن الأجنبي ملكه إياه، كما لو قضى به دينًا عليه عنه.
والثاني: يرجع إلى الأجنبي؛ لأنه دفعه ليقضي به ما وجب لها عليه، فإذا طلقها قبل الدخول.. سقط عنه وجوب النصف، فوجب أن يرجع إلى من دفعه.
فعلى هذا: إذا تزوج امرأة بمهر مسمى، ودفعه عنه أجنبي من ماله، ثم طلقها الزوج قبل الدخول.. فإلى من يرجع نصف الصداق؟ على وجهين:
أحدهما: إلى الزوج.
والثاني: إلى الأجنبي، وقد مضى ذلك.
وبالله التوفيق

(9/478)


[باب الوليمة والنثر]
الوليمة: تقع على كل طعام يتخذ عند حادث سرور من إملاك، أو نفاس، أو ختان، أو بناء، أو قدوم غائب، إلا أن استعمالها في طعام العرس أظهر. ويختص طعام كل واحد من هذه الأسباب باسم، فالطعام الذي يتخذ عند الولادة: الخرس والخرص - بالسين والصاد - والطعام الذي يتخذ عند الختان: الإعذار، والطعام الذي يتخذ عند البناء: الوكيرة، والطعام الذي يتخذ عند قدوم الغائب: النقيعة. قال الشاعر:
كل الطعام تشتهي ربيعة ... الخرس والإعذار والنقيعة
وقال آخر:
إنا لنضرب بالسيوف رؤوسهم ... ضرب القدار نقيعة القدام

(9/479)


(القدار) : الجرار.
والطعام الذي يتخذ يوم سابع الولادة: يسمى العقيقة. ويسمى الطعام الذي يتخذ لسبب وغير سبب: مأدبة بضم الدال، وبفتحها: التأديب، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الجوع مأدبة الله في أرضه»
وإنما سمي الطعام الذي يدعى إليه ف العرس وليمة من ولم الزوجين وهو اجتماعهما؛ لأن الولم الجمع، ومنه سمي القيد الولم؛ لأنه يجمع الرجلين.
إذا ثبت هذا: فإن وليمة ما عدا العرس لا تجب؛ للإجماع، ولكن تستحب.
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (لا تستحب) ؛ لما روي: أن عثمان بن أبي العاص دعي إلى ختان، فلم يجب إليه وقال: (إنا كنا ندعى إلى الختان في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا نجيب) .
ودليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قال: لو دعيت إلى كراع.. لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع أو كراع.. لقبلت»
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أجيبوا الداعي؛ فإنه ملهوف»

(9/480)


ولأن فيه ألفة للقلوب وإظهار لنعم الله سبحانه وتعالى، فكان مستحبًا. وأما الخبر: فما نقل فيه عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قول ولا فعل، فلا يكون حجة فيه.
وأما وليمة العرس: فهل تجب أم لا؟
حكى الشيخ أبو حامد في " التعليق " فيها قولين، وأكثر أصحابنا يحكيهما وجهين:
أحدهما: أنها واجبة؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعبد الرحمن بن عوف: أولِم ولو بشاة» . وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَمَ على صفية بسويق وتمر»
ولأنه لما كانت الإجابة إليها واجبة.. كان فعلها واجبًا.
والثاني: أنها تستحب ولا تجب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس في المال حق سوى الزكاة»
ولأنه طعام عند حادث سرور، فلم يكن واجبًا، كسائر الأطعمة.
وأما الخبر وفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فمحمول على الاستحباب. وأما ما ذكروه من الإجابة: فيبطل بالسلام؛ فإنه لا يجب، وإجابته واجبة.
وحكى الصيمري وجهًا ثالثًا: أن الوليمة فرض على الكفاية، فإذا فعلها واحد أو اثنان في الناحية أو القبيلة، وشاع في الناس وظهر.. سقط الفرض عن الباقين.
وظاهر النص: هو الأول.
وأقل المستحب في الوليمة للمتمكن شاة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد الرحمن بن عوف

(9/481)


- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: «أَوْلِمْ ولو بشاة» . فإن نقص عن ذلك.. جاز؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أولم على صفية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بسويق وتمر» ، وهذا أقل من شاة في العادة.

[مسألة تلبية دعوة العرس وغيرها]
) : ومن دعي إلى وليمة العرس.. فهل يجب عليه الإجابة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه الإجابة - وبه قال مالك وأحمد رحمهما الله تعالى - لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (ولو أن رجلًا أتى رجلًا، وقال: إن فلانًا اتخذ دعوة، وأمرني أن أدعو من شئت، وقد شئت أن أدعوك.. لا يلزمه أن يجيب) .
والثاني - وهو المذهب ـ: أنه يلزمه أن يجيب؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "
«من دعي إلى وليمة فلم يجب.. فقد عصى أبا القاسم» ، وروي: «فقد عصى الله ورسوله» .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أجيبوا الداعي، فإنه ملهوف» .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من دعي إلى وليمة.. فليأتها» ، وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب. وما احتج به القائل من كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.. فلا حجة فيه؛ لأن صاحب الطعام لم يعينه.

(9/482)


إذا ثبت هذا وأن الإجابة واجبة.. فهل تجب على كل من دعي، أو هي فرض على الكفاية؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها فرض على الكفاية، فإذا أجابه بعض الناس.. سقط الفرض عن الباقين؛ لأن القصد أن يعلم ذلك ويظهر، وذلك يحصل بإجابة البعض.
والثاني: يجب على كل من دعي؛ لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من دعي فلم يجب.. فقد عصى أبا القاسم» ، وكذلك عموم سائر الأخبار.
وأما إذا دعي إلى وليمة غير العرس.. فقد ذكر ابن الصباغ: أن الإجابة لا تجب عليه قولا واحدا؛ لأن وليمة العرس آكد، ولهذا اختلف في وجوبها فوجبت الإجابة إليها، وغيرها لا تجب بالإجماع، فلم تجب الإجابة إليها.
وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، والمحاملي: أنها كوليمة العرس في الإجابة إليها، وهو الأظهر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من دعي فلم يجب.. فقد عصى أبا القاسم» ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أجيبوا الداعي؛ فإنه ملهوف» ، ولم يفرق. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي (في " الإبانة ") : إن دعي نقرى.. لم تجب الإجابة. وإن دعي جفلى، بأن فتح الباب لكل من يدخل.. فلا يلزمه أيضًا. وإن خصه بالدعوة مع أهل حرفته.. فيلزمه. ولو لم يجب.. فهل يعصي؟ فيه وجهان.
و (النقرى) : أن ينتقر قومًا دون قوم. قال الشاعر:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى ... لا ترى الآدب فينا ينتقر
(الآدب) : الداعي.

(9/483)


[فرع الدعوة لوليمة كتابي]
) : وإن دعي إلى وليمة كتابي - وقلنا: تجب عليه الإجابة إلى وليمة المسلم - فهل تجب عليه الإجابة إلى وليمة الكتابي؟ فيه وجهان:
أحدهما: تجب الإجابة عليه؛ لعموم الأخبار.
والثاني: لا تجب عليه الإجابة؛ لأن النفس تعاف من أكل طعامهم، ولأنهم يستحلون الربا، ولأن الإجابة إنما جعلت لتتأكد الأخوة والموالاة، وهذا لا يوجد في أهل الذمة.

[فرع الدعوة بواسطة الغير وأعذار عدم الإجابة]
) : إذا جاءه الداعي وقال: أمرني فلان أن أدعوك فأجب.. لزمته الإجابة.
وإن قال: أمرني فلان أن أدعو من شئت أو من لقيت فاحضُر، أو إن خف عليك فاحضُر.. لم تلزمه الإجابة.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (بل أستحب له أن لا يجب؛ لأنه لم يعينه) .
قال الصيمري: وإن قال له صاحب الوليمة: إن رأيت أن تجملني.. لزمه أن يحضر إلا من عذر.
والأعذار التي يسقط معها فرض الإجابة: أن يكون مريضًا، أو قيمًا بمريض، أو بميت، أو بإطفاء حريق، أو بطلب ماله، أو يخاف ضياع ماله، أو له في طريقه من يؤذيه؛ لأن هذه الأسباب أعذار في حضور الجماعة وفي صلاة الجمعة، ففي هذا أولى.

(9/484)


[فرع دعوة الوليمة يومان]
وإذا كانت الوليمة ثلاثة أيام، فدعي في اليوم الأول.. وجب عليه الإجابة. وإن دعي في اليوم الثاني.. لم تجب عليه الإجابة، ولكن يستحب له أن يجيب. فإن دعي في اليوم الثالث.. لم يستحب له أن يجيب، بل يكره له؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الوليمة في اليوم الأول حق، وفي اليوم الثاني معروف، وفي اليوم الثالث رياء وسمعة» وروي: أن سعيد بن المسيب دعي مرتين فأجاب، ودعي في اليوم الثالث فحصب الرسول.

[فرع دعي إلى وليمتين]
) : إذا دعاه اثنان إلى وليمتين، فإن سبق أحدهما.. قدم إجابته، وإن لم يسبق أحدهما.. قدم أقربهما إليه دارًا؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا اجتمع داعيان.. فأجب أقربهما إليك بابًا؛ فإن أقربهما بابًا أقربهما جوارًا، فإن سبق

(9/485)


أحدهما.. فأجب الذي سبق» هكذا ذكر المحاملي وابن الصباغ.
وذكر الشيخ أبو إسحاق: أنهما إذا تساويا في السبق.. أجاب أقربهما رحما، فإن استويا في الرحم.. أجاب أقربهما دارًا.
وإن ثبت الخبر.. فأقربهما دارًا أولى؛ لأنه لم يفرق بين أن يكون أقربهما رحمًا أو أبعد. فإن استويا في ذلك.. أقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر.

[مسألة ضرب الدف في العرس أو وجود منكر كخمر]
في الوليمة) : يجوز ضرب الدف في العرس؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فصل بين الحلال والحرام الدف» .
«وروي عن أم نبيط: أنها قالت: هدينا فتاة من بني النجار إلى زوجها، فمضيت ومعي الدف مع نسوة من بني النجار، فكنت أضرب بالدف وأقول:
أتيناكم أتيناكم ... فحيونا نحييكم
ولولا الذهب الأحم ... ر ما حلت بواديكم
فاستقبلنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "ما هذا يا أم نبيط؟ " فقلت: هدينا فتاة من بني النجار إلى زوجها، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما الذي كنتم تقولون؟ "، فأعدته عليه.» وهذا

(9/486)


يدل على جوازه. فإن دعي إلى وليمة عرس فيها ضرب الدف.. أجاب.
وإن دعي إلى وليمة فيها منكر من خمر أو مزامير وطنابير ومعازف وما أشبه ذلك، فإن علم بذلك قبل الحضور، فإن كان قادرًا على إزالته.. لزمه أن يحضر؛ لوجوب الإجابة وإزالة المنكر، وإن كان غير قادر على إزالته.. لم تلزمه الإجابة ولم يستحب له الحضور، بل ترك الحضور أولى، فإن حضر ولم يشارك في المنكر.. لم يأثم.
وإن لم يعلم به حتى حضر فوجده، فإن قدر على إزالته.. وجب عليه تغييره وإزالته؛ لأنه أمر بمعروف ونهي عن منكر، وإن لم يقدر على إزالته.. فالأولى له أن ينصرف؛ لما روي: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى أن يجلس على مائدة يدار عليها الخمر» .

(9/487)


فإن لم ينصرف؟ فإن قصد إلى استماع المنكر.. أثم بذلك. وإن لم يقصد إلى استماعه، بل سمعه من غير قصد.. لم يأثم بذلك؛ لما روى نافع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (كنت أسير مع ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما -، فسمع زمارة راع، فوضع إصبعيه في أذنيه، ثم عدل عن الطريق، فلم يزل يقول: أتسمع يا نافع؟ حتى قلت: لا، فأخرج إصبعيه من أذنيه، ثم رجع إلى الطريق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صنع) .
فموضع الدليل: أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما - لم ينكر على نافع سماعه. ولأن رجلًا لو كان له جار وفي داره منكر ولا يقدر على إزالته.. فإنه لا يلزمه التحول من داره لأجل المنكر.
وإن دعي إلى موضع فيه تصاوير، فإن كانت صور ما لا روح فيه، كالشمس والقمر والأشجار.. جلس، سواء كانت معلقة أو مبسوطة؛ لأن ذلك يجري مجرى النقوش.
وإن كانت صور حيوان، فإن كان على بساط أو مخاد توطأ أو يتكأ عليها.. فلا بأس أن يحضر؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رأى سترًا معلقًا في بيت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عليه صور حيوان، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اقطعيه مخاد» ولأنه يبتذل ويهان. وإن كان على ستور معلقة.. فقد قال عامة أصحابنا: لا يجوز له الدخول إليها؛ لما روى «علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: اتخذت طعامًا فدعوت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما أتى الباب.. رجع ولم يدخل، وقال: لا أدخل بيتًا فيه صور؛ فإن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صور» وقيل: إن أصل

(9/488)


عبادة الأوثان كانت الصور؛ وذلك لأن آدم - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - لما مات.. جعل في تابوت، فكان بنوه يعظمونه، ثم افترقوا، فحصل قوم منهم على ذروة جبل، وقوم منهم في أسفله، وحصل التابوت مع أهل ذروة الجبل، فلم يقدر من في أسفله على الصعود إليهم، فاشتد عليهم ذلك، فصوروا مثاله من حجارة وعظموه، فلما طال الزمان ونشأ من بعدهم.. رأوا آباءهم يعظمون تلك الصور، فظنوا أنهم كانوا يعبدونها من دون الله فعبدوها. فإذا كان هذا هو السبب.. وجب أن يكون محرمًا.
وقال ابن الصباغ: هذا عندي لا يكون أكثر من المنكر، مثل الخمر والميسر والملاهي، وقد جوزوا له الدخول إلى المواضع التي هي فيه، سواء قدر على إزالتها أو لم يقدر، وما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.. فلا يدل على التحريم، بل يدل على الكراهية، وما روي عن الملائكة.. يحتمل أن يكون في ذلك الزمان؛ لأن الأصنام كانت تعظم فيه التماثيل، فأما الزمان الذي لا يعتقد فيه تعظيم شيء من ذلك.. فلا يجري مجراه.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الأم ": (فإن كانت المنازل مسترة.. فلا بأس أن يدخلها، وليس فيه شيء أكرهه سوى السرف) ؛ لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: (لا تستر الجدر) ، ولأن في ذلك سرفًا، فكره لمن فعله دون من يدخل إليه.

[مسألة الحاضر للوليمة وهو صائم أو مفطر]
) : وإذا حضر المدعو إلى طعام.. فلا يخلو: إما أن يكون صائمًا، أو مفطرًا.
فإن كان صائمًا.. نظرت: فإن كان الصوم فرضًا.. فإنه يجب عليه الإجابة، ولا يجب عليه الأكل؛ لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من دعي إلى وليمة.. فليأتها،

(9/489)


فإن كان مفطرًا.. فليأكل، وإن كان صائمًا.. فليدع "، وروي: " فليصل " - و (الصلاة) : الدعاء - و: " ليَقُل: إني صائم»
ولما روي: (أن ابن عمر دعي وهو صائم، فلما حضر الطعام.. مد يده، فلما مد الناس أيديهم.. قال: باسم الله كلوا؛ إني صائم) . وإن كان صوم تطوع.. استحب له أن يفطر؛ لأنه مخير بين الأكل والإتمام، وفي الإفطار إدخال المسرة على صاحب الوليمة. فإن لم يفطر.. جاز؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإن كان صائمًا.. فليدع» ، ولم يفرق.
وإن كان المدعو مفطرًا.. فهل يلزمه أن يأكل؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه أن يأكل؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا دعي أحدكم إلى طعام.. فليجب، فإن كان مفطرًا.. فليأكل، وإن كان صائمًا.. فليصل» ولأن الإجابة واجبة، والمقصود منها الأكل، فكان واجبًا.

(9/490)


والثاني: لا يجب عليه الأكل؛ لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا دعي أحدكم إلى طعام.. فليجب، فإن شاء.. فليأكل، وإن شاء.. ترك» ولأنه لو كان واجبًا.. لوجب عليه ترك صوم التطوع؛ لأنه ليس بواجب. ولأن التكثير والتبرك يحصل بحضوره، وقد حضر.

[فرع آداب الطعام]
) : في آداب الطعام روي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «بركة الطعام الوضوء قبله، والوضوء بعده» يريد بذلك: غسل اليد.
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا حضر الأكل إلى أحدكم..فليذكر اسم الله، فإن نسي أن يذكر اسم الله في أوله.. فليقل إذا ذكر: باْسم الله في أوله وآخره» .
وروى أبو جحيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أكل أحدكم.. فلا يأكل من أعلى القصعة، إنما يأكل من أسفلها؛ فإن البركة تنزل في أعلاها»

(9/491)


وروى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يأكل أحدكم بشماله ولا يشرب بشماله؛ فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله»
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «- ما عاب طعامًا قط، إن اشتهاه.. أكله، وإن كرهه.. تركه»
وروى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله تعالى ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة أو يشرب الشربة.. فيحمد الله عليها» ويستحب أن يدعو لصاحب الطعام؛ لما روى ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفطر عند سعد بن معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال: أفطر عندكم الصائمون، وصلت عليكم الملائكة، وأكل طعامكم الأبرار»

(9/492)


[مسألة نثر الحلوى والنقود]
) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في نثر السكر واللوز والجوز: (لو ترك.. كان أحب إلي؛ لأنه يؤخذ بخلسة ونهبة، ولا يتبين لي: أنه حرام) .
وجملة ذلك: أن نثر السكر واللوز والجوز والزبيب والدراهم والدنانير وغير ذلك لا يستحب، بل يكره. وروي: (أن أبا مسعود الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان إذا نثر للصبيان.. يمنع صبيانه عن التقاطه، واشترى لهم) . وبه قال عطاء وعكرمة وابن سيرين وابن أبي ليلى ومالك.
وقال أبو حنيفة، والحسن البصري، وأبو عبيد، وابن المنذر: (لا يكره) .
وقال القاضي أبو القاسم الصيمري: يكره التقاطه، وأما النثر نفسه: فمستحب، وقد جرت العادة للسلف به. وروي (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «- لما زوج عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وأرضاها - نثر عليهما» والأول هو المشهور، والدليل عليه: أن النثار يؤخذ نهبة ويزاحم عليه، وربما أخذه من يكرهه صاحبه، وفي ذلك دناءة وسقوط مروءة. وما ذكره الصيمري غير

(9/493)


صحيح؛ لأنه لا فائدة في نثر إذا كان يكره التقاطه. فإن خالف ونثر، فالتقطه رجل.. فهل للذي نثره أن يسترجعه؟ فيه وجهان، حكاهما الداركي:
أحدهما: له أن يسترجعه؛ لأنه لم يوجد منه لفظ يملك به.
والثاني: ليس له أن يسترجعه، وهو اختيار المسعودي (في " الإبانة ") ؛ لأنه نثر للتملك بحكم العادة.
قال المسعودي (في " الإبانة ") : لو وقع في حجر رجل.. كان أحق به. فلو التقطه آخر من حجره.. أو قام فسقط من حجره، فهل يملكه الملتقط؟ الصحيح: أنه لا يملكه.
قال الشيخ أبو حامد: وحكي أن أعربيًا تزوج امرأة فنثر على رأسه زبيبًا، وأنشد يقول:
ولما رأيت السكر العام قد غلا ... وأيقنت أني لا محالة ناكح
نثرت على رأسي الزبيب لصحبتي ... وقلت كلوا, أكل الحلاوة صالح
قال أبو العباس: ولا يكره للمسافرين أن يخلطوا أزوادهم ويأكلوا، وإن أكل بعضهم أكثر من بعض، بخلاف النثار؛ لأن النثار يؤخذ بقتال وازدحام، بخلاف الزاد.
قال القاضي أبو الطيب: الكتب التي يكتبها الناس بعضهم إلى بعض قال بعض أصحابنا: لا يملكها المحمولة إليهم، ولكن لهم الانتفاع بها بحكم العادة؛ لأن العادة إباحة ذلك.
وبالله التوفيق

(9/494)


[باب عشرة النساء والقسم]
إذا تزوج الرجل امرأة كبيرة أو صغيرة يجامع مثلها، بأن تكون ابنة ثمان سنين أو تسع، وسلم مهرها وطلب تسليمها.. وجب تسليمها إليه؛ لما روي عن عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «تزوجني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا ابنة سبع سنين، وبنى بي وأنا ابنة تسع سنين» .
فإن طلبت المرأة أو ولي الصغيرة من الزوج الإمهال لإصلاح حال المرأة.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (يؤخر يومًا ونحوه، ولا يجاوز بها الثلاث) .
وحكى القاضي الشيخ أبو حامد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في " الإملاء ": (إذا دفع مهرها ومثلها يجامع.. فله أن يدخل بها ساعة دفع إليها المهر، أحبوا أو كرهوا) .
واختلف أصحابنا فيها:
فقال الشيخ أبو حامد: يجب على الزوج الإمهال قولًا واحدًا، وما قاله في " الإملاء ".. أراد به بعد الثلاث.
وقال القاضي أبو حامد: هل يجب عليه الإمهال؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجب عليه الإمهال؛ لأنه قد سلم العوض، فوجب تسليم المعوض، كالمتبايعين.
والثاني: يجب عليه الإمهال؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تطرقوا النساء

(9/495)


ليلًا لكي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة» ، فإذا منع الرجل أن يطرق امرأته التي قد تقدمت صحبتها وألف بعضهما بعضًا ليلًا لكي تصلح شأنها.. فلأن يكون ذلك في التي لم يصحبها أولى. ولا يجب عليه الإمهال أكثر من ثلاثة أيام؛ لأنها كثيرة.
وإن عرضت الزوجة التي يجامع مثلها على الزوج.. وجب عليه تسلمها.
وإن كانت المنكوحة صغيرة لا يجامع مثلها، أو مريضة مرضًا يرجى زواله وطالب الزوج بها.. لم يجب تسليمها إليه؛ لأن المعقود عليه هو المنفعة، وذلك لا يوجد في حقها؛ وذلك لأنه لا يؤمن أن يحمله فرط الشهوة على جماعها فيوقع بذلك جناية بها. وإن عرضت على الزوج.. لم يجب عليه تسلمها؛ لما ذكرناه إذا طالب بها، ولأنها تحتاج إلى حضانة، والزوج لا يجب عليه حضانة زوجته.
وإن كانت المرأة نضوة من أصل الخلق - بأن خلقت دقيقة العظام قليلة اللحم - وطلب الزوج تسليمها إليه.. وجب تسليمها إليه. فإن كان يمكن جماعها من غير ضرر بها.. كان له ذلك. وإن كان لا يمكن جماعها إلا بالإضرار بها.. لم يجز له جماعها، بل يستمتع بها فيما دون فرجها، ولا يثبت له الخيار في فسخ النكاح. والفرق بينها وبين القرناء والرتقاء: أن تعذر الجماع في الرتقاء والقرناء من جهتها؛

(9/496)


ولهذا لا يتمكن أحد من جماعها، وهاهنا العذر من جهته وهو كبر خلقه؛ ولهذا: لو كان مثلها.. أمكنه جماعها. وهكذا: إن كانت مريضة مرضًا لا يرجى زواله.. فحكمه حكم نضوة الخلقة.
فإن أقضها.. منع من وطئها حتى يلتئم الجرح. فإن اختلفا، فادعى الزوج: أنه قد التأم الجرح التئامًا لا يخاف تخريقه، وادعت الزوجة: أنه لم يلتئم.. فالقول قولها مع يمينها؛ لأنها أعلم بذلك.

[مسألة إجبار الزوجة على الغسل]
) : وللزوج أن يجبر زوجته الذمية والمسلمة على الاغتسال من الحيض والنفاس.
وقال أبو حنيفة: (ليس له إجبار الذمية) .
دليلنا: أن الوطء يقف عليه، فأجبرها عليه، كما يجبرها على الوقوف في بيته.
وهل له أن يجبرها على الاغتسال من الجنابة؟ فيه قولان:
أحدهما: ليس له إجبارها؛ لأنه يجوز وطء الجنب.
والثاني: له أن يجبرها؛ لأن النفس تعاف من وطء الجنب. هذا نقل الشيخ أبي حامد.
وقال القفال: إن طالت مدتها، بحيث يقذرها الزوج.. فله أن يجبرها، وإلا.. فلا.
وهذا إنما يأتي في الذمية أو المسلمة الصغيرة، فأما المسلمة الكبيرة: فلا يتأتى فيها طول المدة على الجناية؛ لأنه يجب عليها الغسل للصلاة، وتجبر عليه قولًا واحدًا.

(9/497)


[فرع إجبار الزوجة على قص الأظفار وحلق الشعور وغير ذلك]
) : وهل له أن يجبرها على قص الأظفار وحلق العانة؟ ينظر فيه:
فإن كان ذلك قد طال وصار قبيحًا في المنظر.. فله أن يجبرها عليه قولًا واحدًا؛ لأن ذلك يمنع من الاستمتاع بها.
وأما إذا صار بحيث يوجد في العادة.. فهل له إجبارها على إزالته، وعلى إزالة الدرن الوسخ من البدن؟ قال الشيخ أبو إسحاق: فيه وجهان، وحكماهما الشيخ أبو حامد وغيره قولين:
أحدهما: ليس له إجبارها عليه؛ لأنه لا يمنع الاستمتاع بها.
والثاني: له إجبارها؛ لأنه يمنع كمال الاستمتاع.
وهل له أن يمنعها من أكل ما يتأذى برائحته، كالبصل والثوم والكراث؟
قال الشيخ أبو حامد: فيه قولان، وحكاهما الشيخ أبو إسحاق وجهين، وتعليلهما ما مضى.
وقال القاضي أبو الطيب: له أن يمنعها منه قولًا واحدًا؛ لأنه يتأذى برائحته، إلا أن تميته طبخًا؛ لأن رائحته تذهب.

[فرع يمنع زوجته من تعاطي ما يسكر أو أكل لحم الخنزير]
وإن كانت ذمية فأرادت أن تشرب الخمر.. فله أن يمنعها من السكر؛ لأنه يمنعه من الاستمتاع، ولا يؤمن أن تجني عليه. وهل له أن يمنعها من القدر الذي لا تسكر منه؟
حكى الشيخ أبو إسحاق فيه وجهين، وسائر أصحابنا حكوهما قولين:
أحدهما: ليس له أن يمنعها منه؛ لأنها مقرة عليه، ولا يمنعه من الاستمتاع.
والثاني: له منعها منه؛ لأنه لا يتميز القدر الذي تسكر منه عن القدر الذي لا تسكر منه مع اختلاف الطباع، فمنعت الجميع، ولأنه يتأذى برائحته، ويمنعه كمال الاستمتاع.

(9/498)


وإن كانت الزوجة مسلمة.. فله منعها من شرب الخمر؛ لأنه محرم عليها. فإن أرادت أن تشرب ما يسكر من النبيذ.. فله منعها منه؛ لأنه محرم بالإجماع. وإن أرادت أن تشرب منه ما لا يسكر، فإن كانا شافعيَّيْن.. فله منعها منه؛ لأنهما يعتقدان تحريمه. وإن كانا حنفيَّيْن أو هي حنفية.. فهل له منعها منه؟ فيه قولان، كما قلنا في الذمية إذا أرادت أن تشرب القليل من الخمر.
وهل له أن يمنع الذمية من أكل لحم الخنزير؟
قال الشيخ أبو حامد: فيه قولان، كشرب القليل من الخمر. وحكاهما الشيخ أبو إسحاق وجهين، وتعليلهما ما مضى.
قال ابن الصباغ: وظاهر كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إن كان يتقذره وتعافه نفسه.. فله منعها منه. وإن لم تعفه نفسه.. لم يكن له منعها منه.
إذا ثبت هذا: فإن شربت الخمر، أو أكلت لحم الخنزير، أو شربت الحنفية النبيذ.. فله أن يجبرها على غسل فيها؛ لأنه نجس وإذا قبلها.. نجس فمه.

[فرع لا يمنعها لبس الحرير ونحوه ويمنعها من جلد الميتة ونحوه]
) : وليس له أن يمنع زوجته من لبس الحرير والديباج ولا الحلي؛ لأن ذلك مباح لها. وله أن يمنعها من لبس جلد الميتة الذي لم يدبغ؛ لأنه نجس، وربما نجسه إذا التصق به. وله أن يمنعها من لبس الثوب المنتن؛ لأنه يمنع القرب إليها والاستمتاع بها.

[مسألة للزوج منع المرأة من الخروج إلى المسجد وغيره]
وللزوج أن يمنع زوجته من الخروج إلى المسجد وغيره؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل لامرأة أن تخرج من بيت زوجها وهو كاره.
»

(9/499)


وروى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما -: «أن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: ما حق الزوج على زوجته؟ فقال: (أن لا تخرج من بيته إلا بإذنه، فإن فعلت.. لعنها الله وملائكة الرحمة وملائكة الغضب حتى تؤوب أو ترجع) ، قالت: يا رسول الله وإن كان لها ظالمًا؟ قال: وإن كان لها ظالمًا» .
وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مثل الرافلة في الزينة في غير أهلها كمثل ظلمة يوم القيامة؛ لا نور لها» وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المرأة عورة، فإذا خرجت.. استشرفها الشيطان» ولأنها تفوت بالخروج من يملك عليها من الاستمتاع.
فإن قيل: فقد روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله»
وروي: «لا تمنعوا نساءكم المساجد» ؟! قيل: له ثلاثة تأويلات:
أحدها: أنه أراد به الاستحباب في غير ذوات الهيئات.
والثاني: أنه أراد به الاستحباب في الجمع والأعياد.
والثالث: أنه أراد به المسجد الحرام إذا أرادت الحج. وهذا التأويل ضعيف؛ لأنه قال: (مساجد الله) ، وذلك جمع.
ٍ

[مسألة للزوج منعها من شهود الجنائز وعيادة المرضى]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وله منعها من شهود جنازة أبيها وأمها وولدها) .
وجملة ذلك: أن للزوج أن يمنع زوجته من عيادة أبيها وأمها إذا مرضا، ومن

(9/500)


حضور موتهما وتشييعهما إذا ماتا؛ لما روى ثابت البناني عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «-: أن رجلًا سافر فنهى امرأته من الخروج، فمرض أبوها، فاستأذنت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عيادته، فقال لها: (يا هذه اتقي الله ولا تخالفي زوجك) - قال- فمات أبوها، فاستأذنت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تشييع جنازته، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يا هذه اتقي الله ولا تخالفي زوجك "، فأوحى الله عز وجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الله قد غفر لأبيها بطاعتها لزوجها» .
ولأن عيادة أبيها وأمها وحضور مواراتهما ليس بواجب عليها، فلا تترك له واجبًا عليها.
ويستحب للزوج أن لا يمنعها من ذلك؛ لأن ذلك ربما أدى إلى العداوة بينهما.

[مسألة معاشرة الأزواج بالمعروف]
ويجب على كل واحد من الزوجين معاشرة صاحبه بالمعروف؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: 50] [الأحزاب:50] ، ولقوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] [النساء:34] يعني: بالإنفاق عليهن وكسوتهن، ولقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] [البقرة:228] والمماثلة هاهنا بالتأدية لا في نفس الحق؛ لأن حق الزوجات النفقة والكسوة وما أشبه ذلك، وحق الأزواج على الزوجات التمكين من الاستمتاع، وقال الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] [النساء:19] .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وجماع المعروف بين الزوجين: كف المكروه، وإعفاء صاحب الحق من المؤنة في طلبه، لا بإظهار الكراهية في تأديته، فأيهما مطل بتأخيره.. فمطل الغني ظلم بتأخيره) .
قال أصحابنا: و (كف المكروه) هاهنا هو: أن لا يؤذي أحدهما الآخر بقول ولا فعل، ولا يأكل أحدهما، ولا يشرب ولا يلبس ما يؤذي الآخر.
وقوله: (وإعفاء صاحب الحق من المؤونة في طلبه) : إذا وجب لها على الزوج نفقة أو كسوة.. بذله لها، ولا يحوجها إلى أن ترفعه إلى الحاكم، فيلزمها في ذلك

(9/501)


مؤونة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مطل الغني ظلم» وكذلك: إذا دعاها إلى الاستمتاع.. لم تمتنع، ولم تحوجه إلى أن يرفع ذلك إلى الحاكم، فيلزمه في ذلك مؤنة؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وأرضاه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا دعا أحدكم امرأته إلى فراشه فأبت عليه، فبات وهو عليها ساخط.. لعنتها الملائكة حتى تصبح» .
وقوله: (لا بإظهار الكراهية في تأديته) : إذا طلبت الزوجة حقها منه أو طلب الزوج حقه منها.. بذل كل واحد منهما ما وجب عليه لصاحبه وهو باش الوجه ضاحك السن؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صلى الله عيه وسلم - قال: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم»
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد.. لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها» .

(9/502)


[فرع حق الاستمتاع وترك الزوج له وجمعه بين زوجتيه بمسكن]
ولا يجب على الزوج الاستمتاع بها.
وحكى الصيمري: أن مالكًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (إذا ترك جماع زوجته المدة الطويلة.. أمر بالوطء، فإن أبى.. فلها فسخ النكاح) .
وقال آخرون: يجبر على أن يطأ في كل أربع ليالٍ ليلة.
وهذا غير صحيح؛ لأنه حق له فجاز له تركه. ولأن الداعي إليه الشهوة، وذك ليس إليه.
والمستحب: أن لا يخليها من الجماع؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأمس النساء، فمن رغب عن سنتي.. فليس مني» ولأنه إذا لم يجامعها.. لم يؤمن منها الفساد، وربما كان سببًا للعداوة والشقاق بينهما.
وإن كان له زوجتان.. لم يجمع بينهن في مسكن واحد إلا برضاهما؛ لأن ذلك يؤدي إلى خصومتهما. ولا يطأ إحداهما بحضرة الأخرى؛ لأن ذلك قلة أدب وسوء عشرة.

[مسألة ما يقوله أول ما يرى زوجته أو عند إرادته الجماع]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في القديم: (وإذا تزوج رجل امرأة.. فأحب له أول ما يراها أن يأخذ بناصيتها ويدعو باليمن والبركة، فيقول: بارك الله لكل واحد منا في

(9/503)


صاحبه؛ لأن هذا بدء الوصلة بينهما، فأستحب له أن يدعو بالبركة) . ويستحب له إذا أراد أن يجامعها أن يقول: (باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا) ؛ لما روي: أن الني - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أراد أحدكم أن يجامع امرأته، فقال ذلك، فإن رزقا ولدًا.. لم يقربه الشيطان» .

[مسألة إتيان المحاش من النساء]
قال المزني: قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ذهب بعض أصحابنا في إتيان النساء في أدبارهن إلى إحلاله، وآخرون إلى تحريمه، ولا أرخص فيه، بل أنهى عنه) .
وروى محمد بن عبد الحكم: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ما صح فيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيء في تحريمه، ولا في تحليله شيء، والقياس أنه حلال) .
قال الربيع: كذب ابن عبد الحكم والذي لا إله إلا هو، فقد نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على تحريمه في ستة كتب، فلا يختلف مذهبنا: في أنه محرم. وبه قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه -، وابن عباس، وابن مسعود، وأبو الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ومجاهد، والحسن البصري، وعكرمة، وقتادة، وأبو حنيفة، وأصحابه، وأبو ثور، وأحمد، وعامة أهل العلم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وحكى العراقيون من أصحاب مالك عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مثل مذهبنا.
وحكى المصريون وأهل الغرب عنه: أنه مباح، ونص عليه في (كتاب السير) .

(9/504)


وحكي: أن مالكًا سئل عن ذلك، فقال: (الآن اغتلست منه) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] [البقرة:222] ، فأمر باعتزال النساء في المحيض للأذى، وأذى الحيض أخف من أذى الموضع المكروه.
وروي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ملعون من أتى امرأته في دبرها» وروى خزيمة بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله لا يستحيي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن» .
وروي: «أن أعرابيًا أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، الرجل يكون في الفلاة وتكون معه الزوجة ويكون في الماء قلة؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا فسا أحدكم فليتوضأ، ولا تأتوا النساء في أعجازهن، إن الله لا يستحيي من الحق» وسئل قتادة عن ذلك، فقال: سمعت عمرو بن شعيب يحدث عن أبيه عن جده - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن إتيان النساء في أدبارهن، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هي اللوطية الصغرى» .

[فرع جواز التلذذ بين الأليتين مقبلة مدبرة]
ويجوز التلذذ بما بين الأليتين من الزوجة من غير إيلاج في الدبر؛ لأنه إنما نهي عن الإيلاج في الدبر لما فيه من الأذى، وذلك لا يوجد فيما بين الأليتين.

(9/505)


ويجوز الوطء في الفرج مقبلة ومدبرة؛ لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قالت اليهود: إذا جامع الرجل امرأته من ورائها.. جاء ولده أحول، فأنزل الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] الآية [البقرة:223] .

[فرع حرمة الاستمناء]
ويحرم الاستمناء، وهو: إخراج الماء الدافق بيده. وبه قال أكثر أهل العلم.
وقال ابن العباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (نكاح الأمة خير منه، وهو خير من الزنا) .
وروي: أن عمرو بن دينار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رخص فيه عند الاضطرار وخوف الهلكة. وبه قال أحمد ابن حنبل - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] * {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] [المؤمنون 5-6] ، فمنها دليلان:
أحدهما: أنه أباح الاستمتاع بالفرج بالزوجة أو ملك اليمين، وهذا ليس بواحد منهما.
والثاني: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] [المؤمنون:7] ، والاستمناء وراء ذلك.
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ملعون ناكح كفه» ولأن فيه قطع النسل والامتناع من التزويج، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تناكحوا تكْثُرُوا» .

(9/506)


[مسألة كراهية العزل]
ويكره العزل، وهو: أن يولج، فإذا قارب الإنزال.. نزع وأنزل خارج الفرج؛ لما روى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «ذكرنا العزل عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: لم يفعل ذلك أحدكم؟» .
وروت جدامة بنت وهب قالت: «حضرت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألوه عن العزل فقال: ذلك الوأد الخفي» .
و (الوأد) هو: أن أهل الجاهلية كانوا إذا ولدت لهم ابنة.. قتلوها، فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير: 8] {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 9] [التكوير:8-9] .
وهل يحرم عليه ذلك؟ ينظر فيه:
فإن كان في وطء أمته.. لم يحرم عليه؛ لأن الاستمتاع حق له.
وإن كان في وطء زوجته: فإن كانت زوجته أمة.. جاز له العزل بغير إذنها وغير

(9/507)


إذن سيدها؛ لأن له غرضًا في ذلك، وهو: أن لا يكون ولده منها مملوكًا. وإن كانت حرة: فإن أذنت له في ذلك.. جاز؛ لأن الحق لهما، وإن لم تأذن له.. ففيه وجهان:
أحدهما: يحرم عليه ذلك؛ لما روي: عن ابن عباس وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنهما قالا: (تستأذن الحرة، ولا تستأذن الأمة) ولأنه لا غرض له في ذلك.
والثاني: لا يحرم عليه؛ لما روى أبو سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سئل عن ذلك فقال: (أو تفعلون ذلك؟) فقيل له: نعم، فقال: ولا عليكم أن تفعلوا، إن الله لم يقض لنفس أن يخلقها إلا وهي كائنة» ولأن حقها في الإيلاج دون الإنزال؛ بدليل: أن العنين والمولى إذا أولج فيها ولم ينزل.. سقط حقها، فلا معنى لاعتبار إذنها.

[فرع استحباب خدمة الزوجة]
] : ولا يجب على الزوجة الخدمة للزوج في الخبز والطبخ والغزل وغير ذلك؛ لأن المعقود عليه هو الاستمتاع دون هذه الأشياء.

[مسألة القسم للزوجات]
وإذا كان له زوجتان أو أكثر.. لم يجب عليه القسم ابتداء، بل يجوز له أن ينفرد عنهن في بيت؛ لأن المقصود بالقسم هو الاستمتاع، وهو حق له.. فجاز له تركه.
وإن أراد أن يقسم بينهن.. جاز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقسم بين نسائه.
ولا يجوز له أن يبدأ بواحدة منهن من غير رضا الباقيات إلا بالقرعة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:

(9/508)


{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] [النساء:129] .
وروي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كانت له امرأتان يميل إلى إحداهما دون الأخرى.. جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط» وفي البداءة بإحداهن من غير قرعة ميل.
فإن كان له زوجتان.. أقرع بينهما مرة واحدة، وإن كان ثلاثًا.. أقرع مرتين، وإن كن أربعًا.. أقرع ثلاث مرات؛ لأنهن إذا كن ثلاثًا فخرجت القرعة لواحدة.. قسم لها، ثم أقرع بين الباقيتين. وهكذا في الأربع.
وإن قام عند واحدة منهن من غير قرعة.. لزمه القضاء للباقيات؛ لأنه إذا لم يقض.. صار مائلًا.

[مسألة القسم للمريضة والحائض والمحرمة وغيرهن]
ويقسم للمريضة، والرتقاء، والقرناء، والحائض، والنفساء، والمحرمة، والتي آلى منها أو ظاهر؛ لأن المقصود الإيواء والسكن، وذلك موجود في حقهن.
وأما المجنونة: فإن كان يخاف منها.. سقط حقها من القسم؛ لأن الإيواء والألفة لا تحصل معها. وإن لم يخف منها.. وجب لها القسم؛ لأن الإيواء يحصل معها.
وإن دعاها إلى منزل له فامتنعت.. سقط حقها من القسم، كالعاقلة.

(9/509)


[فرع القسم على المريض والمحرم ونحوه]
ويقسم المريض والمجبوب والعنين والمحرم؛ لأن الأنس يحصل به.
وإن كان مجنونا يخاف منه.. لم يقسم له الولي؛ لأنه لا يحصل به الأنس. وإن كان لا يخاف منه.. نظرت: فإن كان قد قسم لواحدة في حال عقله، ثم جن قبل أن يقضي.. لزم الولي أن يقضي للباقيات قسمهن منه، كما لو كان عليه دين.
وإن جن قبل أن يقسم لواحدة منهن، فإن لم ير الولي أن له مصلحة في القسم.. لم يقسم لهن، وإن رأى الولي المصلحة له في القسم.. قسم لهن؛ لأنه قائم مقامه.
وهل يجب على الولي ذلك أم لا؟ على قولين، وحكاهما بعض الأصحاب وجهين:
أحدهما: لا يجب عليه، كما يجب على العاقل.
والثاني: يجب عليه ذلك؛ لأن العاقل له اختيار في ترك حقه، والمجنون لا اختيار له، فلزم الولي أن يستوفي له حقه بذلك.
فإن حمله إلى واحدة.. حمله ليلة أخرى، وكان بالخيار: بين أن يطوف على نسائه، وبين أن يتركه في منزله ويستدعيهن واحدة واحدة إليه. وإن طاف به على البعض واستدعى البعض.. جاز. فإن قسم الولي لبعضهن ولم يقسم للباقيات.. أثم الولي. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في (الإبانة) ] : هل يقسم الولي للمجنون؟ فيه وجهان- قال- فإن كان يجن يومًا، ويفيق يومًا فأقام ليلة جنونه عند واحدة، وليلة عقله عند الأخرى.. لم تحتسب بليلة جنونه عندها حتى يقضي لها.
ولو أقر الولي أنه ظلم إحداهن.. لم يسمع إقراره حتى تقر المقسومة لها للمظلومة.

[مسألة النفقة والقسم للمسافرة]
وإن سافرت المرأة مع زوجها.. فلها النفقة والقسم؛ لأنها في مقابلة الاستمتاع، وذلك موجود. وهكذا: إذا أشخصها من بلد إلى بلد للنقلة أو لحاجة له.. فلها النفقة والقسم وإن لم يكن معها.

(9/510)


وإن سافرت من بلد إلى بلد وحدها لحاجة لها بغير إذنه.. فلا نفقة لها ولا قسم؛ لأنها ناشزة عنه. وإن سافرت لحاجة لها وحدها بإذنه.. ففيه قولان:
أحدهما: لا نفقة لها ولا قسم، لأنها في مقابلة الاستمتاع. وذلك متعذر منها.
والثاني: لها النفقة والقسم، لأنها غير ناشزة، فهو كما لو أشخصها لحاجة له.
والأول أصح.

[مسألة التسوية في القسم بين المسلمة والذمية]
] : وإن كان عنده مسلمة وذمية.. سوى بينهما في القسم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وعاشروهن بالمعروف) [النساء:19] ، ولم يفرق. ولعموم الوعيد في الخبر.

[مسألة القسم للحرة والأمة]
وإن اجتمع عنده حرة وأمة.. قسم للحرة ليلتين وللأمة ليلة. وبه قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه -، وأبو حنيفة، وهي إحدى الروايتين عن أحمد.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (يسوي بينهما) .
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تنكح الأمة على الحرة؛ للحرة الثلثان من القسم، وللأمة الثلث» .
وللأمة أن تحلل الزوج من قسمها أو تهبه لبعض ضرائرها بغير إذن سيدها؛ لأن الحق لها فيه دون سيدها.

[فرع القسم للحرة والأمة إذا عتقت]
وإن كانت عنده حرة وأمة، فقسم للحرة ليلتين، ثم انتقل إلى الأمة فأعتقت، فإن أعتقت بعد أن أقام عندها ليلة ويومًا.. فلا شيء عليه لها غير ذلك. وإن أعتقت قبل

(9/511)


استكمال الليلة واليوم.. تمم لها ليلتين ويومين، لأنه لم يوفها حقها حتى صارت مساوية للحرة.
وإن قسم للأمة أولًا ليلة ويومًا، ثم دار إلى الحرة، فأعتقت الأمة، فإن أعتقت في الليلة الأولى ويومها.. لم يزد الحرة على ذلك، لأنها صارت مساوية لها. وإن أعتقت بعد انقضاء الليلتين.. لم يلزمه أن يقضي للأمة لليلة، لأنه قسم للحرة ليلتين وهي مستحقة لهما. ويستأنف القسم لهما من الآن متساويًا.

[مسألة القسم في الليل إن كان معاشه بالنهار]
وإذا كان طلب معاش الرجل بالنهار.. فعماد قسمته الليل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} [الأنعام: 96] [الأنعام:96] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} [النبأ: 10] {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 11] [النبأ 10-11]
وإن كان طلب معاشه بالليل.. فعماد قسمته النهار.
والمستحب: أن يقسم مياومة، وهو: أن يقيم عند واحدة يومًا ثم عند الأخرى يومًا، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هكذا كان يقسم، ولأنه أقرب إلى إيفاء الحق.
وإن أراد أن يقسم لكل واحدة ليلتين أو ثلاثًا.. جاز، لأن ذلك قريب.
وإن أراد أن يقيم عند كل واحدة أكثر من الثلاث..فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الإملاء ": إن أراد أن يقسم لهن مياومة، أو مشاهرة، أو مساناة.. كرهت له، وأجزأه) .
قال أصحابنا: يجوز له ما زاد على الثلاث برضاهن، وأما بغير رضاهن: فلا يجوز، لأنه كثير.
ويدخل النهار في القسم، لما روي عن عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقسم لنسائه، ولكل واحدة يومها وليلتها، غير أن سودة

(9/512)


وهبت ليلتها لعائشة) ، وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: (توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري» ، فأضافت اليوم إليها، لأنه كان يوم نوبتها. و (السحر) : الرئة، لأنه كان متكئا على صدرها.
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل إلى بيت حفصة فلم يصادفها، فقعد عند مارية جاريته - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فقالت: يا رسول الله، أفي بيتي، وفي يومي!» ، فأضافت اليوم إليها.
والأولى: أن يجعل اليوم تابعًا لليلة التي مضت قبله، لأن الشهر هلالي. وإن جعل النهار تابعًا لليلة التي بعده.. جاز.

[مسألة من ترك القسم مدة قضاه]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الأم ": (وإذا كان له أربع زوجات، فترك إحداهن من القسم أربعين ليلة.. قضى لها عشر ليال) . واختلف أصحابنا في تأويله:
فقال أكثرهم: أراد أنه أقام عند كل واحدة من الثلاث عشرًا، ثم أقام عشرًا وحده في بيت، فيقضي للرابعة عشرًا.. فأما لو أقام عند الثلاث أربعين ليلة.. قضى للرابعة ثلاث عشرة ليلة وثلثًا.
وقال ابن الصباغ: ظاهر كلامه أنه أقام عندهن أربعين ليلة.. وما قال.. له وجه جيد عندي، لأن الذي تستحقه بالقضاء عشر وثلاث ليال وثلث تستحقها أداء، لأن زمان القضاء، لها فيه قسم.

(9/513)


[فرع يقسم للناشزة من حين طاعتها ويخص البكر بسبع والثيب بثلاث]
قال في " الأم ": وإن كان له أربع نسوة، فسافرت واحدة منهن بغير إذنه، وأقام عند اثنتين ثلاثين يومًا، عند كل واحدة خمسة عشر يومًا، فلما أراد أن يقيم عند الثالثة رجعت الناشزة وصارت في طاعته.. فلا حق لها فيما مضى من القسم، لأنها كانت عاصية، ولا يمكن أن يقسم للثالثة خمس عشرة ليلة، لأن القادمة تستحق الربع، فيجعل الليالي أربعًا، ويقيم عند القادمة ليلة وهو حقها، ويجعل للثالثة ثلاث ليال: ليلة هي حقها، وليلتين من حق الأولتين. فإذا دار بين القادمة والثالثة خمسة أدوار كذلك.. استوفت الثالثة خمس عشرة ليلة، والقادمة خمسا، واستأنف القسم بين الأربع.
ولو كان بدل المسافرة زوجة جديدة تزوجها قبل أن يوفي الثالثة.. خص الجديدة إن كانت بكرًا بسبع، وإن كانت ثيبًا بثلاث، ثم يقسم ثلاثًا للثالثة الأولى وليلة للجديدة حتى يدور خمسة أدوار، واستأنف القسم للأربع) .

[فرع سقوط حق الناشزة ويقضي لمن وجب لها قبل طلاقها لو راجعها]
قال في " الأم ": (وإن كان له أربع زوجات فقسم لثلاث ليلة ليلة، فلما كان ليلة الرابعة نشزت عنه وأغلقت دونه بابها، وادعت عليه الطلاق.. فقد سقط حقها. فإن عادت إليه وأطاعته.. استأنف لهن القسم ولم يقض لها، لأن حقها قد سقط.
ولو قسم للثلاث، ثم طلق الرابعة قبل أن يوفيها حقها.. أثم بذلك، لأنه أسقط حقها بعد وجوبه. فإن راجعها أو بانت منه فتزوجها.. قضى لها تلك الليلة، لأنها كانت واجبة لها) .

[مسألة الطواف على النساء في منازلهن أو باستدعائهن]
والمستحب: أن يطوف على نسائه في منازلهن؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعل ذلك، ولأن ذلك أصون لهن.

(9/514)


وإن قعد في منزل واستدعى كل واحدة إليه في ليلتها.. كان له ذلك؛ لأن ذلك ليس بأكثر من السفر بهن.
وإن طاف على بعض نسائه في منازلهن واستدعى البعض إلى منزله.. كان له ذلك، فإن لم تأته واحدة منهن إلى حيث استدعاها.. سقط حقها من القسم، لأنها ناشزة.
وإن كان محبوسًا في مكان يصلن إليه ويصلح للسكنى، وأراد أن يقسم بينهن ويستدعيهن إليه.. كان له ذلك؛ لأنه كالمنزل.
وإن كان له امرأتان في بلدين فأقام في بلد إحداهما، فإن أقام معها.. قضى للأخرى. وإن لم يقم معها.. لم يقض للأخرى، لأن إقامته في البلد التي هي بها من غير أن يقيم معها ليس بقسم.

[مسألة لا يشترط الوطء في القسم]
وليس من شرط القسم الوطء، غير أن المستحب: أن يساوي بينهن في الوطء، لأنه هو المقصود.
فإن وطئ بعضهن دون بعض.. لم يأثم بذلك؛ لأن الوطء طريقه الشهوة، وقد تميل شهوته إلى بعضهن دون بعض، ولهذا قال الله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] [النساء: 129] ، قيل في التفسير: في الحب والجماع.
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقسم بين نسائه ويقول: «اللهم، إن هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» ، يعني: قلبه.

(9/515)


[مسألة دخوله ليلًا على ضرة المقسم لها]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا يدخل في الليل على التي لم يقسم لها) .
وجملة ذلك: أنه إذا قسم بين نسائه.. فلا يجوز أن يخرج من عند المقسوم لها في ليلتها لغير ضرورة من غير إذنها؛ لأن عماد القسم الليل. فإن دعت ضرورة إلى ذلك، بأن مرض غيرها وأشرفت على الموت، فاحتاج إلى أن يخرج إليها لتوصي إليه، أو تكون تحتاج إلى قيم ولا قيم لها، أو ماتت واحتاج إلى الخروج لتجهيزها.. جاز له الخروج؛ لأن هذا موضع عذر. فإن برئت المريضة التي خرج إليها.. قضى للتي خرج من ليلتها من قسم ليلة المريضة مثل الذي أقام عندها. وإن ماتت.. لم يقض، بل يستأنف القسم للباقيات.
إذا ثبت هذا: فنقل المزني: (ويعودها في ليلة غيرها) .
قال أصحابنا: هذا سهو في النقل أيضًا، إنما هو في يوم غيرها.
فإن خالف وخرج عنها في ليلتها لغير عذر إلى غيرها، وأقام عندها قليلًا.. فقد أساء، ولا يقضي ذلك؛ لأن ذلك يسير لا يضبط.
وإن أقام عندها مدة طويلة من الليل.. قضى للأخرى من ليلة التي أقام عندها مثل ذلك في وقته من الليل. وإن قضى مثله في غير وقته من الليل.. جاز؛ لأن المقصود الإيواء، وجميع الليل وقت للإيواء.
وإن دخل إلى غيرها في ليلتها، وجامعها وخرج سريعًا.. فما الذي يجب عليه؟ فيه ثلاثة أوجه:

(9/516)


أحدها: لا يجب عليه القضاء؛ لأن القصد الإيواء، ولم يفوت عليها بجماع غيرها الإيواء؛ لأن قدر مدته يسير.
والثاني: يجب عليه أن يقضيها بليلة من حق الموطوءة؛ لأن المقصود بالإيواء هو الجماع، فإن وقع ذلك لغيرها في ليلتها.. وجب عليه أن يقضيها بليلة الموطوءة.
والثالث: أنه يدخل عليها في ليلة الموطوءة فيطؤها؛ لأنه أعدل.

[فرع حبس أو فوت نصف ليلتها]
فرع: [إن حبس أو فوت نصف ليلتها قضاه] :
فإن أخرجه السلطان عنها في ليلتها وحبسه نصف ليلتها، أو خرج عنها إلى بيت وقعد فيه نصف الليل.. وجب عليه أن يقضيها مثل الذي فوت عليها.
فإن فوت عليها النصف الأول من الليل.. فإنه يأوي إليها النصف الأول من الليل، ثم يخرج منها إلى منزل له أو لغيره، وينفرد عنها وعن سائر نسائه النصف الأخير.
وقال ابن الصباغ: قال بعض أصحابنا: إلا أن يخاف العسس، أو يخاف اللصوص.. فيقيم عندها في باقي الليل ولا يخرج للعذر، ولا يقضي للباقيات.
وإن فوت عليها النصف الأخير من الليل.. فالمستحب: أن يقضيها في النصف الأخير، وينفرد عنها وعن سائر نسائه النصف الأول من الليل، ويأوي إليها النصف الأخير. وإن أوى إليها النصف الأول وانفرد في النصف الأخير.. جاز.

[فرع خروجه للحاجة ودخوله على ضرة المقسم لها نهارًا]
ويجوز أن يخرج في نهار المقسوم لها؛ لطلب المعيشة إلى السوق ولقضاء الحاجات.

(9/517)


وإن دخل إلى غيرها في يومها، فإن كان لحاجة، مثل: أن يحمل إليها نفقتها، أو كانت مريضة فدخل عليها يعودها، أو دخل لزيارتها لبعد عهده بها، أو يكلمها بشيء، أو تكلمه، أو يدخل إلى بيتها شيئًا، أو يأخذ منه شيئًا، ولم يطل الإقامة عندها.. جاز، ولا يلزمه القضاء لذلك؛ لأن المقصود بالقسم الإيواء، وذلك يحصل بالليل دون النهار. ولا يجامعها؛ لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: «ما كان يوم إلا كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يطوف علينا جميعًا، فيقبل ويلمس، فإذا جاء إلى التي هي يومها.. أقام عندها» .
وهل له أن يستمتع بالتي يدخل إليها في غير يومها بغير جماع؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن ذلك مما يحصل به السكن فأشبه الجماع.
والثاني - وهو المشهور -: أنه يجوز؛ لحديث عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.
فإن دخل إليها في يوم غيرها وأطال المقام عندها.. لزمه القضاء، كما قلنا في الليل.
وإن أراد الدخول إليها في غير يومها لغير حاجة.. لم يجز؛ لأن الحق لغيرها.
وإن دخل إليها في يوم غيرها، ووطئها وانصرف سريعًا.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: لا يلزمه القضاء؛ لأنه غير مستحق، ووقته لا ينضبط.
والثاني: يلزمه أن يدخل إليها في يوم الموطوءة فيطأها؛ لأنه أعدل.

(9/518)


[مسألة زواجه بجديدة يقطع الدور سبعًا للبكر وثلاثًا للثيب]
إذا كان تحته زوجة أو زوجتان فتزوج بأخرى.. قطع الدور للجديدة. فإن كانت بكرًا.. أقام عندها سبعًا، ولا يقضي. وإن كانت ثيبا.. كان بالخيار: بين أن يقيم عندها ثلاثا ولا يقضي، وبين أن يقيم عندها سبعًا ويقضي ما زاد على الثلاث.
ومن أصحابنا من قال: يقضي السبع كلها. والأول هو المشهور.
هذا مذهبنا، وبه قال أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والشعبي، والنخعي، ومالك، وأحمد، وإسحاق رحمة الله عليهم.
وقال ابن المسيب والحسن البصري: يقيم عندها إذا كانت بكرًا ليلتين، وعند الثيب ليلة.
وقال الحكم وحماد وأبو حنيفة وأصحابه: (يقيم عند البكر سبعًا، وعند الثيب ثلاثًا، ويقضي مثل ذلك للباقيات) .
دليلنا: ما روي عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «للبكر سبع، وللثيب ثلاث» وما روي عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: «دخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: (ما بك على أهلك هوان! فإن شئت.. سبعت عندك وقضيت لهن، وإن شئت.. ثلثت عندك ودرت) ، فقلت: ثلث. وروي: " إن شئت.. سبعت عندك، وسبعت عندهن» .

(9/519)


فإن قلنا: يجب عليه قضاء السبع إذا أقامها عند الثيب.. فوجهه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سبعت عندك، وسبعت عندهن» .
وإذا قلنا: يقضي ما زاد على الثلاث.. فوجهه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلثت عندك ودرت» فلو كان يجب قضاء الثلاث كما كان يجب قضاء ما زاد.. لما كان للتخيير معنى. ولأن الثلاثة مستحقة لها، بدليل: أنها لو اختارت أن يقيم عندها الثلاث لا غير.. لم يجب عليه قضاؤها، فكذلك لا يجب قضاؤها إذا أقامها مع الأربع.

[فرع زفاف اثنتين بليلة]
فرع: [كراهة زفاف اثنتين بليلة] :
ويكره أن تزف إليه امرأتان في ليلة واحدة؛ لأنه لا يمكنه أن يوفيهما حق العقد معًا، وإذا أقام عند إحداهما.. استوحشت الأخرى.
فإن زفتا إليه، فإن كانت إحداهما قبل الأخرى.. أوفى الأولى حق العقد ثم الثانية؛ لأن الأولى لها مزية بالسبق. وإن زفتا إليه في حالة واحدة.. أقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى.
وإن كان عنده امرأتان فبات عند إحداهما ليلة، فزفت إليه زوجة جديدة قبل أن يوفي الثانية حقها.. قضى للجديدة حق العقد؛ لأن حقها آكد؛ لأنه متعلق بالعقد، وحق الأولى متعلق بفعله، فإذا قضى حق العقد؛.. فقد بقي للثانية من الأوليين ليلة: نصفها من حقها ونصفها من حق الأولى، فيوفيها إياها. ويجب للجديدة بحق القسم نصف ليلة؛ لأجل هذه الليلة، ثم يستأنف القسم بينهن.

[فرع زفت أمة إلى عبد وعنده زوجة]
وإن زفت إلى عبد أمة وعنده امرأة أخرى، سواء كانت حرة أو أمة.. ففي الذي تستحقه الأمة بحق العقد ثلاثة أوجه، حكاها ابن الصباغ:

(9/520)


أحدها: أنها كالحرة، فإن كانت بكرًا.. أقام عندها سبعًا. وإن كانت ثيبًا، فإن شاءت.. أقام عندها ثلاثًا ولا يقضي، وإن شاءت.. أقام عندها سبعًا ويقضي؛ لأن هذا يراد للأنس وزوال الوحشة، والأمة كالحرة في ذلك.
والثاني: أن الأمة على النصف من الحرة، كما قلنا في القسم الدائم، إلا أن الليالي والأيام تكمل.
فعلى هذا: إن كانت بكرًا.. أقام عندها أربع ليال. وإن كانت ثيبًا، فإن شاءت.. أقام عندها ليلتين ولا يقضي، وإن شاءت.. أقام عندها أربع ليال ويقضي، كما قلنا في الأقراء.
والثالث: أنها على النصف، ولا تكمل الليالي والأيام، فيقيم عند البكر ثلاث ليال ونصفًا، وعند الثيب إن شاءت.. ليلة ونصفًا ولا يقضي، وإن شاءت.. ثلاث ليال ونصفًا ويقضي؛ لأنها تتبعض، بخلاف الأقراء.

[فرع ملازمة صلاة الجماعة ونحوها نهارًا إذا أقام عند الجديدة]
فرع: [استحباب ملازمة صلاة الجماعة ونحوها نهارًا إذا أقام عند الجديدة] :
قال في (الأم) : (ولا أحب له أن يتخلف عن صلاة الجماعة، ولا يمنعه ذلك من عيادة مريض، ولا شهود جنازة، ولا إجابة وليمة) .
وجملة ذلك: أنه إذا أقام عند الجديدة بحق العقد.. فهو كالقسم الدائم، فعماده الليل. وأما بالنهار: فله أن ينصرف في طلب معاشه، ويصلي مع الجماعة، ويشهد الجنازة، ويعود المريض، ويجيب الولائم؛ لأن الإيواء عندها بالنهار مباح، وهذه الأشياء طاعات، فلا يترك الطاعات للمباح.
قال ابن الصباغ: فأما بالليل: فقال أصحابنا: لا يخرج فيه لشيء من ذلك؛ لأن حق الزوجة فيه واجب، وما يخرج له.. فليس بواجب، بخلاف الكون عندها بالنهار.. فإنه ليس بواجب.

(9/521)


[مسألة المعدد إذا أراد السفر وتخييره]
وإذا كان لرجل زوجتان أو أكثر، وأراد السفر.. كان بالخيار: بين أن يسافر وحده ويتركهن في البلد؛ لأن عليه النفقة والكسوة والسكنى دون المقام معهن، كما لو كان بالحضر وانفرد عنهن.
وإن أراد أن يسافر بهن جميعهن.. لزمهن ذلك، كما يجوز أن ينتقل بهن من بلد إلى بلد.
وإن أراد أن يسافر ببعضهن.. جاز؛ لـ «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سافر ببعض نسائه» . وإذا أراد أن يسافر ببعض نسائه.. أقرع بينهن؛ لما روت عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرع بين نسائه إذا أراد السفر، فأيتهن خرج سهمها.. خرج بها» وهو بالخيار: بين أن يكتب الأسماء ويخرج على السفر والإقامة، وبين أن يكتب السفر والإقامة ويخرج على الأسماء. فإذا خرج السفر على واحدة.. لم يلزمه المسافرة بها، بل لو أراد أن يدعها ويسافر وحده.. كان له ذلك. وإن أراد أن يسافر بغيرها.. لم يجز؛ لأن ذلك يبطل فائدة القرعة.
وإن اختار أن يسافر باثنتين، وعنده أكثر.. أقرع بينهن. فإن خرجت قرعة السفر على اثنتين.. سافر بهما، ويسوي بينهما في القسم في السفر، كما لو كان في الحضر.
وإذا سافر بها بالقرعة، فإن كان السفر طويلًا.. لم يلزمه القضاء للمقيمات. وإن كان السفر قصيرًا.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه القضاء للمقيمات، كالسفر الطويل.
والثاني: يلزمه؛ لأنه في حكم الحضر.
هذا مذهبنا. وقال داود: (يلزمه القضاء للمقيمات في الطويل والقصير) .

(9/522)


دليلنا: حديث عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها ذكرت السفر ولم تذكر القضاء. ولأن المسافرة اختصت بمشقة السفر، فاختصت بالقسم.

[فرع السفر بإحداهن بلا قرعة]
وإن سافر بواحدة منهن من غير قرعة.. لزمه القضاء للمقيمات. وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
وقال مالك وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى: (لا يقضي) .
دليلنا: أنه خص بعض نسائه بمدة على وجه تلحقه فيه التهمة، فلزمه القضاء، كما لو كان حاضرًا.
وقال المسعودي [في (الإبانة) ] : فلو قصد الرجوع إليهن.. فهل تحتسب عليه المدة من وقت القصد؟ فيه وجهان:

[فرع سافر بقرعة ثم أقام أو غير جهة السفر]
وإن سافر بواحدة منهن بالقرعة، ثم نوى الإقامة في بعض البلاد وأقام بها معه، أو لم ينو الإقامة إلا أنه أقام بها أربعة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج.. قضى ذلك للباقيات؛ لأنه إنما لم يجب عليه أن يقضي مدة السفر، وهذا ليس بسفر.
وإن سافر بها إلى بلد، فلما بلغه.. عنَّ له أن يسافر بها إلى بلد آخر فسافر بها.. لم يقض للمقيمات؛ لأنه سفر واحد وقد أقرع له.

[فرع انتقل بواحدة فيقضي للبواقي]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو أراد النقلة.. لم يكن له أن ينتقل بواحدة إلا أوفى البواقي مثل مقامه معها) . واختلف أصحابنا في تأويلها:

(9/523)


فمنهم من قال: تأويلها إذا كان له نساء، فأراد النقلة إلى بلد، فنقل واحدة منهن معه، ونقل الباقيات مع وكيله إلى ذلك البلد، فلما وصل إلى ذلك البلد أقام مع التي نقلها.. فعليه أن يقضي للباقيات مدة إقامته مع التي نقلها بعد السفر دون مدة السفر؛ لأن مدة السفر لا تقضى.
وقال أبو إسحاق: تقضى مدة السفر ومدة الإقامة بعده؛ لأنه متى أراد نقل جميعهن.. فقد تساوت حقوقهن، فمتى خص واحدة بالكون معه.. لزمه أن يقضي للباقيات مدة الإقامة معها، كما لو أقام في الحضر معها، بخلاف السفر بإحداهن.
فعلى قول الأول.. يحتاج إلى القرعة. وعلى قول أبي إسحاق.. لا يحتاج إلى قرعة.

[فرع عنده اثنتان وزف إليه اثنتان معًا وأراد السفر أو سافر بإحداهما ثم تزوج]
] : إذا كان عنده امرأتان، فتزوج باثنتين وزفتا إليه في وقت واحد، وأراد السفر بإحداهن قبل أن يقضي حق العقد.. أقرع بينهن، فإن خرج السفر لإحدى الجديدتين.. سافر بها، ويدخل حق العقد في قسم السفر؛ لأن الأنس يحصل به.
فإذا قدم.. فهل يلزمه أن يقضي للجديدة الأخرى حق العقد؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه، كما لو كانتا قديمتين، فسافر بإحداهما بالقرعة.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أنه يلزمه أن يقضيها حق العقد، وهو الصحيح؛ لأنه سافر بالأخرى بعدما استحقت الجديدة حق العقد، فيلزمه قضاؤها، كما لو كان تحته أربع نسوة، فقسم لثلاث منهن، ثم سافر بغير الرابعة بالقرعة قبل أن يقضي للرابعة حقها.
وإن خرجت قرعة السفر لإحدى القديمتين.. سافر بها.
قال الشيخ أبو إسحاق: فإذا قدم.. قضى حق العقد للجديدتين. وينبغي أن يكون في ذلك وجهان كالأولى، ولعله أجاب على الأصح.
قال في (الأم) : (وإن كان له امرأتان، فسافر بإحداهما بالقرعة، فلما كان في

(9/524)


بعض الطريق تزوج بأخرى، فإن سافر بهما.. قضى للجديدة حق العقد، ثم قسم بينها وبين القديمة. وإن أراد أن يسافر بإحداهما.. أقرع بينهما، فإذا خرج السفر للجديدة.. سافر بها وترك الأخرى، ودخل حق العقد في قسم السفر. وإن خرج السفر للقديمة.. سافر بها، فإذا رجع..قضى للجديدة حق العقد؛ لأنه سافر بها بعد وجوبه عليه) . وهذا يدل: على صحة قول أبي إسحاق في التي قبلها.

[مسألة هبة المرأة قسمها]
] : ويجوز للمرأة أن تهب ليلتها لبعض ضرائرها؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج سودة بنت زمعة بعد موت خديجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وكان يقسم لها، فلما كبرت وأسنت.. هم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بطلاقها، فقالت: يا رسول الله، لا تطلقني ودعني حتى أحشر في جملة أزواجك، وقد وهبت ليلتي لأختي عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فتركها، فكان يقسم لكل واحدة ليلة ليلة ولعائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ليلتين» .
إذا ثبت هذا: فإن القبول فيه إلى الزوج؛ لأن الحق له، ولا يصح ذلك إلا برضاه؛ لأن الاستمتاع حق له عليها، ولا يعتبر فيه رضا الموهوبة؛ لأن ذلك زيادة في حقها.
فإن كانت ليلة الواهبة توالي ليلة الموهوبة.. والاهما لها. وإن كانتا غير متواليتين.. فهل للزوج أن يواليهما من غير رضا الباقيات؟ فيه وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لأن لها ليلتين، فلا فائدة في تفريقهما.
والثاني: ليس له ذلك، وهو المذهب، ولم يذكر غيره؛ لأنها قائمة مقام الواهبة.
وإن وهبتها لزوجها.. جاز له أن يجعلها لمن شاء من نسائه؛ لأن الحق له. فإن جعلها لواحدة تلي ليلتها ليلة الواهبة، إما قبلها أو بعدها.. والاهما لها. وإن جعلها لمن لا تلي ليلتها.. فهل له أن يواليهما لها؟ على الوجهين. هكذا نقل البغداديون.

(9/525)


وقال المسعودي [في (الإبانة) ] : هل للزوج أن يخص بها بعض نسائه؟ فيه وجهان.
وإن وهبتها لجميع ضرائرها.. صح ذلك، وسقط قسمها، وصارت كأن لم تكن.
فإن رجعت الواهبة في هبة ليلتها.. لم تصح رجعتها فيما مضى؛ لأنها هبة اتصل بها القبض. ويصح رجعتها في المستقبل؛ لأنها هبة لم يتصل بها القبض.
فإن لم يعلم الزوج برجعتها حتى قسم ليلتها لغيرها.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (لم يكن لها بدلها. فإن أخذت عن ليلتها عوضًا من الزوج.. لم يصح؛ لأنه ليس بعين ولا منفعة لها. فترد العوض، ويقضيها الزوج حقها؛ لأنها تركت حقها بعوض ولم يسلم لها العوض) .

[مسألة القسم للإماء]
مسألة: [لا يجب القسم للإماء] : وإن كان له جماعة إماء.. لم يجب عليه القسم لهن ابتداء ولا انتهاء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا} [النساء: 3] [النساء:3] ، فدل على: أنه لا يجب عليه العدل فيما ملكت يمينه. ولأنه لا حق لها في الاستمتاع، بدليل: أنه لو آلى منها أو ظاهر.. لم يصح، ولو وجدته عنينًا أو مجبوبًا.. لم يثبت لها الخيار.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا يعضلهن؛ لئلا يفجرن. وله أن يفصل بعضهن عن بعض. والمستحب أن يساوي بينهن) .
وإن كان تحته إماء وزوجات، فبات عند بعض إمائه.. لم يجب عليه القضاء؛ لأن قسم الإماء غير مستحق، فهو كما لو بات في المسجد.

(9/526)


وله أن يطوف على إمائه بغسلٍ واحد،، وهو: أن يجامع واحدة بعد واحدة، ثم يغتسل.
وإن كان تحته زوجات.. فله أن يطوف عليهن بغسل واحد إذا حللنه عن ذلك في القسم؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يطوف على نسائه بغسل واحد» .
وبالله التوفيق

(9/527)


[باب النشوز]
إذا ظهر من المرأة أمارات النشوز، بقول أو فعل.. وعظها.
فـ (أمارته بالقول) : هو أن يكون من عادته إذا دعاها.. أجابته بالتلبية، وإذا خاطبها.. أجابت خطابه بكلام جميل حسن، ثم صارت بعد ذلك إذا دعاها.. لا تجيب بالتلبية، وإذا خاطبها أو كلمها.. لا تجيبه بكلام جميل.
و (ظهور أمارته بالفعل) : هو أن يكون من عادته إذا دعاها إلى الفراش.. أجابته باشة طلقة الوجه، ثم صارت بعد ذلك تأتيه متكرهة. أو كان من عادتها إذا دخل إليها.. قامت له وخدمته، ثم صارت لا تقوم له ولا تخدمه.
فإذا ظهر له ذلك منها.. فإنه يعظها، ولا يهجرها ولا يضربها. هذا قول عامة أصحابنا.
وقال الصيمري: إذا ظهرت منها أمارات النشوز.. فله أن يجمع بين العظة والهجران.
والأول هو المشهور؛ لأنه يحتمل أن يكون هذا النشوز بفعله فيما بعد، ويحتمل أن يكون لضيق صدرٍ من غير جهة الزوج، أو لشغل قلبٍ.
وإن نشزت منه، بأن دعاها إلى فراشه فامتنعت منه، فإن تكرر ذلك الامتناع منها.. فله أن يهجرها، وله أن يضربها.
والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] [النساء: 34] .

(9/528)


وإن نشزت منه مرة واحدة.. فله أن يهجرها، وهل له أن يضربها؟ فيه قولان:
أحدهما: ليس له أن يضربها- وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لأنها تستحق العقوبة على قدر جرمها؛ بدليل: أنها لا تستحق الهجران لخوف النشوز، فكذلك لا تستحق الضرب بالنشوز مرة واحدة.
فعلى هذا: يكون ترتيب الآية: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ} [النساء: 34] : إذا نشزن، و: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] : إذا أصررن على النشوز.
والثاني: له أن يضربها، وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] .
فظاهر الآية: أن له أن يفعل الثلاثة الأشياء لخوف النشوز، فدل الدليل على: أنه لا يهجرها ولا يضربها عند خوف النشوز، وبقيت الآية على ظاهرها إذا نشزت.
ولأنها معصية يحل هجرانها، فأحلت ضربها، كما لو تكرر منها النشوز.
إذا ثبت هذا: فـ (الموعظة) : أن يقول لها: ما الذي منعك عما كنت آلفه من برك، وما الذي غيرك، اتقي الله وارجعي إلى طاعتي؛ فإن حقي واجب عليك، وما أشبه ذلك.
و (الهجران) : هو أن لا يضاجعها في فراش واحد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] ..
ولا يهجر بالكلام، فإن فعل.. لم يزد على ثلاثة أيام. فإن زاد عليها.. أثم؛ لما روي: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى أن يهجر الرجل أخاه فوق ثلاثة أيام»

(9/529)


وأما (الضرب) : فقال الشافعي: (لا يضربها ضربًا مبرحًا، ولا مدميًا، ولا مزمنًا، ويتقي الوجه) .
فـ (المبرح) : الفادح الذي يخشى تلف النفس منه، أو تلف عضو.
و (المدمي) : الذي يجرح، فيخرج الدم.
و (المزمن) : أن يوالي الضرب على موضع واحد؛ لأن القصد منه التأديب.
ويتوقى الوجه؛ لأنه موضع مجمع المحاسن. ويتوقى المواضع المخوفة.
قال الشافعي: (ولا يبلغ به حدّا) . ومن أصحابنا من قال: لا يبلغ به الأربعين؛ لأنها كحد الخمر أقل حدود الحد.
ومنهم من قال: لا يبلغ به العشرين؛ لأن العشرين حد في العبد؛ لأنه تعزير.
وليس للزوج أن يضرب زوجته على غير النشوز، بقذفها له أو لغيره؛ لأن ذلك إلى الحاكم. والفرق بينهما: أن النشوز لا يمكنه إقامة البينة عليه، بخلاف سائر جناياتها.
إذا ثبت هذا: فروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تضربوا إماء الله» .
وروي «عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: كنا معشر قريش يغلب رجالنا نساءنا، فقدمنا المدينة، فوجدنا نساءهم تغلب رجالهم، فخالط نساؤنا نساءهم، فذئرن

(9/530)


على أزواجهن، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقلت: ذئر النساء على أزواجهن! فأذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بضربهن، فأطاف بآل رسول الله نساء كثير كلهن يشتكين أزواجهن، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لقد طاف بآل محمد سبعون امرأة، كلهن يشتكين أزواجهن، وما تجدون أولئك بخياركم» .
فإذا قلنا: يجوز نسخ السنة بالكتاب.. فيحتمل أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ضربهن، ثم نسخ الكتاب السنة يقوله: وَاضْرِبُوهُنَّ، ثم أذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ضربهن موافقًا للكتاب، غير أنه بين أن تركه أولى بقوله: "وما تجدون أولئك بخياركم ".
وإن قلنا: إن نسخ السنة لا يجوز بالكتاب.. احتمل أن يكون النهي عن ضربهن متقدمًا، ثم نسخه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأذن في ضربهن، ثم ورد الكتاب موافقًا للسنة في ضربهن.
ومعنى قوله: (ذئر النساء على أزواجهن) أي: اجترأن على أزواجهنِ.
قال الصيمري: وقيل في قَوْله تَعَالَى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] : سبع تأويلات.
إحداها: أن حل العقدة إليه دونها.
والثاني: أن له ضربها عند نشوزها.
والثالث: أن عليها الإجابة إذا دعاها إلى فراشه، وليس عليه ذلك.
الرابع: أن له منعها من الخروج، وليس لها ذلك.
الخامس: أن ميراثه منها على الضعف من ميراثها منه.
السادس: أنه لو قذفها.. كان له إسقاط حقها باللعان، وليس لها ذلك.
السابع: موضع الدرجة اشتراكهما في لذة الوطء، واختص الزوج بتحمل مؤونة الصداق والنفقة والكسوة وغير ذلك.

(9/531)


[مسألة نشوز الزوج]
وأما إذا ظهر من الزوج أمارات النشوز، بأن يكلمها بكلام غير لين، أو لا يستدعيها إلى الفراش كما كان يفعل وغير ذلك.. فلا بأس أن تترك له بعض حقها من النفقة والكسوة والقسم؛ تطيب بذلك نفسه، وبذلك ورد قَوْله تَعَالَى:
{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] [النساء: 28] .
قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: (نزلت هذه الآية في امرأة إذا دخلت في السن.. جعلت يومها لامرأة أخرى) .
وإن ظهر من الزوج النشوز، بأن منعها ما يجب لها من نفقة وكسوة وقسم وغير ذلك.. أسكنها الحاكم إلى جنب ثقة عدل؛ ليستوفي لها حقها.
وإن ادعى كل واحد منهما على صاحبه النشوز بمنع ما يجب عليه.. أسكنهما الحاكم إلى جنب ثقة عدل؛ لكي يشرف عليهما، فإذا عرف الظالم منهما.. منعه من الظلم. وإن بلغ ما بينهما إلى الشتم أو إلى الضرب وتخريق الثياب.. بعث الحاكم حكمين ليجمعا بينهما أو يفرقا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: 35] الآية [النساء: 35] .
وهل هما وكيلان من قبل الزوجين، أو حكمان من قبل الحاكم؟ فيه قولان:
أحدهما: أنهما وكيلان من قبل الزوجين - وبه قال أبو حنيفة وأحمد - لما روى

(9/532)


عبيدة السلماني قال: جاء إلى علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رجل وامرأة، ومع كل واحد منهما فئام من الناس - يعني: جماعة - فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (ابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) ، ثم قال للحكمين: (أتدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا.. جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا.. فرقتما) ، فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله لي وعلي، وقال الرجل: أما الجمع: فنعم، وأما الفرقة: فلا، فقال علي: (كذبت: لا والله، لا تبرح حتى ترضى بكتاب الله لك وعليك) ، فاعتبر رضاه.
ولأن الطلاق بيد الزوج، وبدل العوض بيد المرأة، فافتقر إلى رضاهما.
فعلى هذا: لا بد أن يوكل كل واحد منهما الحكم من قبله على الجمع أو التفريق.
والثاني: أنهما حكمان من قبل الحاكم. وبه قال مالك والأوزاعي وإسحاق، وهو الأشبه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] [النساء: 35] ، وهذا خطاب لغير الزوجين، وسماهما الله تعالى حكمين.
فعلى هذا: لا يفتقر إلى رضا الزوجين.
إذا ثبت هذا: فإن الحكمين يخلو كل واحد منهما بأحد الزوجين وينظر ما عنده، ثم يجتمعان ويتشاوران. فإن رأيا الجمع بينهما.. لم يتم إلا برضاهما.
وإن رأيا التفريق بينهما، فإن رأيا أن يفرقا فرقة بلا عوض.. أوقعها الحاكم من قبل الزوج. وإن رأيا أنهما يفرقان بينهما بعوض.. بذل الحاكم من قبلها العوض عليها، وأوقع الحاكم من قبل الزوج الفرقة.

(9/533)


والمستحب: أن يكونا من أهلهما؛ للآية. ولأنهما أعلم بباطن أمرهما. وإن كان من غير أهلهما.. جاز؛ لأن الحاكم والوكيل يصح أن يكون أجنبيًا.
ولا بد أن يكونا من حرين مسلمين ذكرين عدلين؛ لأنا إن قلنا: إنهما حكمان.
فلا بد أن يكون الحكم بهذه الشرائط. وإن قلنا: إنهما وكيلان، إلا أنه توكيل من قبل الحاكم.. فلا بد أن يكونا كاملين.
قال الشيخ أبو إسحاق: فإن قلنا: إنهما حكمان.. فلا بد أن يكونا فقيهين. وإن قلنا: إنهما وكيلان.. جاز أن يكونا من العامة.
وإن غاب الزوجان أو أحدهما، فإن قلنا: إنهما وكيلان.. صح فعلهما؛ لأن تصرف الوكيل يصح بغيبة الموكل. وإن قلنا: إنهما حاكمان.. لم يصح فعلهما؛ لأن الحكم لا يصح للغائب وإن صح الحكم عليه؛ لأن كل واحد منهما محكوم له وعليه.
وإن جنا أو أحدهما.. لم يصح فعلهما؛ لأنا إن قلنا: إنهما وكيلان.. بطلت وكالة من جن موكله. وإن قلنا: إنهما حاكمان.. فإنهما يحكمان للشقاق، وبالجنون زال الشقاق.
وإن لم يرضيا أو أحدهما، فإن قلنا: إنهما حاكمان.. لم يعتبر رضاهما، وإن قلنا: إنهما وكيلان.. لم يجبرا على الوكالة، فينظر الحاكم فيما يدعيه كل واحد منهما، فإذا ثبت عنده.. استوفاه له من الآخر.
وإن كان لهما أو لأحدهما حق على الآخر من مهر أو دين.. لم يصح للحكمين المطالبة به إلا بالوكالة قولا واحدًا، كالحاكم.
وبالله التوفيق

(9/534)