البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب النكاح]

(9/103)


كتاب النكاح النكاح جائز، والأصل في جوازه: الكتاب، والسنة، والإجماع.
فأما الكتاب: فقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] الآية [النساء: 3] . وقَوْله تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] [النور: 32] .
وأما السنة: فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تناكحوا تكثروا، فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة حتى بالسقط» .

(9/105)


وفي السقط ثلاث لغات: بفتح السين، وضمها، وكسرها.
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحب فطرتي.. فليستن بسنتي، ومن سنتي النكاح» .
وتزوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهذا يدل إلى الجواز.
وأجمعت الأمة: على جواز النكاح.
إذا ثبت هذا: فروي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: (كانت مناكح أهل الجاهلية على أربعة أقسام:
أحدها: مناكح الرايات، وهو أن المرأة العاهرة كانت تنصب على بابها راية لتعرف أنها عاهرة، فيأتيها الناس.
والثاني: أن الرهط من القبيلة أو الناحية كانوا يجتمعون على وطء امرأة،

(9/106)


لا يخالطهم غيرهم، فإذا جاءت بولد.. ألحق بأشبههم به.
والثالث: نكاح الاستنجاب، وهو: أن المرأة كانت إذا أرادت أن يكون ولدها كريماً.. بذلت نفسها لعدة من فحول رجال القبائل، ليكون ولدها كأحدهم.
والرابع: النكاح الصحيح، وهو: الذي قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولدت من نكاح لا من سفاح» .

(9/107)


وتزوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خديجة بنت خويلد قبل النبوة من ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان الذي خطبها له عمه أبو طالب، فخطب وقال: (الحمد لله الذي جعله بلداً حراماً، وبيتا محجوجاً، وجعلنا سدنته، وهذا محمد قد علمتم مكانه من العقل والنبل، وإن كان في المال قل، إلا أن المال ظل زائل، وعارية مسترجعة، وما أردتم من المال.. فعلي، وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك) فزوجها منه عمها.

[مسألة أهلية النكاح]
ولا يصح النكاح إلا من حر، بالغ، عاقل، مطلق التصرف.
فأما العبد: فلا يصح نكاحه بغير إذن المولى، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه.. فهو عاهر ". وروي: فنكاحه باطل»

(9/108)


و (العاهر) : الزاني. ويصح منه بإذن مولاه، للخبر.
وأما الصبي والمجنون: فلا يصح نكاحهما، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» . ولأنه عقد معاوضة، فلم يصح من الصبي والمجنون، كالبيع.
وأما السفيه: فلا يصح نكاحه بغير إذن الولي، لأنه حجر عليه لحفظ ماله، وفي النكاح يستحق عليه المال. ويصح منه بإذن الولي، لأنه لا يأذن له إلا فيما له فيه مصلحة من ذلك.

[مسألة حكم النكاح]
] : النكاح مستحب غير واجب عندنا، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأكثر أهل العلم.
وقال داود: (هو واجب على الرجل والمرأة، فإن كان الرجل واجداً لمهر حرة.. وجب عليه الترويج بحرة أو التسري بأمة، وإن كان عادماً لمهر حرة.. وجب عليه التزويج بأمة) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] الآية [النساء: 3] . فعلقه بالاستطابة، وما كان واجباً.. لا يتعلق بالاستطابة.
وروى أبو أيوب الأنصاري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أربع من سنن المرسلين: الحياء، والتعطر، والسواك، والنكاح» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحب فطرتي..

(9/109)


فليستن بسنتي، ومن سنتي النكاح» . فعلقه على المحبة، وسماه سنة، وإذا أطلقت السنة.. اقتضت المندوب إليه.
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير الناس بعد المائتين، خفيف الحاذ " قيل: يا رسول الله، ومن خفيف الحاذ؟ قال: " الذي لا أهل له ولا ولد» ، ويقال: رجل خفيف الحاذ: إذا كان قليل لحم الفخذين.
وروي: «أن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: يا رسول الله، ما حق الزوج على المرأة؟ فبين لها ذلك، فقالت: لا والله! لا تزوجت أبدا» . فلو كان النكاح واجباً.. لأنكر عليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وروي: أن جماعة من الصحابة ماتوا ولم يتزوجوا، ولم ينكر عليهم.
إذا ثبت هذا: فالناس في النكاح على أربعة أضرب:
ضرب: تتوق نفسه إليه، ويجد أهبته- وهو المهر والنفقة وما يحتاج إليه. فيستحب له أن يتزوج، لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة.. فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع.. فعليه بالصوم، فإنه له وجاء» .

(9/110)


وقال أبو عبيد: (الباءة) : ممدود، وأصل الباءة الجماع، والمراد بالباءة المذكورة في الخبر: المال الذي يملك به الجماع- وهو المهر، والنفقة - فسماه باسم سببه.
وأراد: من استطاع منكم المال الذي يتوصل به إلى الباءة.. فليتزوج، لأنه قال: «ومن لم يستطع.. فعليه بالصوم» أي: ومن لم يستطع المال، ونفسه تتوق إلى الجماع.. فعليه بالصوم، ليكون له وجاء. يقال للفحل إذا رضت أنثياه: قد وجئ وجاء، يعني: أنه قطع النكاح، لأن الموجوء لا يضرب، فلو كان المراد بالباءة المذكورة في الخبر الجماع.. لم يأمر بالصوم من لا يستطيعه ليكون له وجاء، لأنه لا يحتاج إلى ذلك.
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج بنساء كثيرة، ومات عن تسع» .

(9/111)


وسأل رجل ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النكاح، فقال: (كان خيرنا أكثرنا

(9/112)


نكاحاً يعني: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن التبتل» و (التبتل) : ترك النكاح.
وقال سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «رد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن لنا.. لاختصينا» . وروي: أن معاذا لما مرض.. قال: (زوجوني زوجوني، لا ألقى الله عزبا) . ولأنه إذا لم يتزوج.. لم يأمن مواقعة الفجور.
والضرب الثاني: من تتوق نفسه إلى الجماع، ولا يقدر على المهر والنفقة.. فالمستحب له: أن لا يتزوج، بل يتعاهد نفسه بالصوم، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ومن لم يستطع.. فعليه بالصوم، فإنه له وجاء» ، ولأنه يشغل ذمته بالمهر والنفقة.
والضرب الثالث: من لا تتوق نفسه إلى الجماع، ويريد التخلي لعبادة الله.. فيستحب له أن لا يتزوج، لأنه يلزم ذمته حقوقاً هو مستغن عن التزامها، ويشتغل عن عبادة الله تعالى.
والضرب الرابع: من لا تتوق نفسه إلى الجماع، وهو قادر على المهر والنفقة، ولا يريد العبادة.. فهل يستحب له أن يتزوج؟ فيه قولان، حكاهما في " الفروع ":

(9/113)


أحدهما: لا يستحب له أن يتزوج، لما روي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لأبي الزوائد: (نكحت؟ قال: لا، فقال: ما يمنعك منه إلا عجز، أو فجور) . وروي: (إلا شح، أو فجور) ، ولأنه يشغل ذمته بما لا حاجة به إليه.
والثاني: يستحب له أن يتزوج، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحب فطرتي.. فليستن بسنتي، ومن سنتي النكاح» .
وقال أبو حنيفة: (النكاح مستحب بكل حال) ، وبه قال بعض أصحابنا، والأول أصح، لما ذكرناه.

[فرع استحباب ذات الدين وغير ذلك من الصفات المرضية]
] : ويستحب له أن لا يتزوج إلا ذات دين، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تنكح المرأة لميسمها، ولمالها، ولحسبها، فعليك بذات الدين، تربت يداك» .

(9/114)


وفي رواية: «تنكح النساء لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين، تربت يداك» .
و (الميسم) : الحسن، ويقال: رجل وسيم، وامرأة وسيمة، وهو الجمال في الخبر الثاني، و (الحسب) : الشرف الثابت في الآباء.
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عليك بذات الدين، تربت يداك» : يقال للرجل إذا قل ماله: ترب، أي: افتقر حتى لصق بالتراب. قال الله تعالى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] [البلد: 16] . ولم يتعمد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدعاء عليه بالفقر، ولكنها كلمة جارية على ألسنة العرب، يقولونها وهم لا يريدون وقوع الأمر، «كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لصفية بنت حيي، حين قيل له يوم النفر: إنها حائض، فقال: " عقرى، حلقى» أي: عقر الله جسدها، وأصابها بوجع في حلقها، ولم يرد الدعاء عليها.
وقال بعضهم: بل أراد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله: " تربت يداك " نزول الفقر به عقوبة له، لتعديه ذات الدين إلى ذات الجمال، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهم، إنما أنا بشر، فمن دعوت عليه بدعوة.. فاجعل دعوتي له رحمة» .
وقال بعضهم: معنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تربت يداك ": يريد به استغنت يداك. وهذا خطأ، لأنه لو أراد ذلك.. لقال: أتربت يداك، يقال: أترب الرجل: إذا استغنى، وترب: إذا افتقر.
ويستحب له أن يتزوج ذات العقل، لأن القصد بالنكاح طيب العيش معها، ولا يحصل ذلك مع من لا عقل لها.

(9/115)


ويستحب له أن يتزوج بكراً، لما «روى جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: تزوجت امرأة، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: " أتزوجت يا جابر؟ " فقلت: نعم فقال: " أبكراً أم ثيباً؟ "، فقلت: بل ثيبا، فقال: " فهلاً جارية بكراً، تلاعبها وتلاعبك» ؟ وروي: «تداعبها وتداعبك "، فقلت: يا رسول الله، إن عبد الله مات - يعني: أباه - وترك تسع بنات - أو سبعاً- فجئت بمن تقوم بهن» .
ويستحب أن لا يتزوج إلا من يستحسنها، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما النساء لعب، فإذا اتخذ أحدكم لعبة.. فليستحسنها» .
ويستحب له أن يتزوج ذات نسب، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تنكح المرأة لأربع"، فقال: "لحسبها» . و (الحسب) : الشرف الثابت في الآباء. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تخيروا لنطفكم» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إياكم وخضراء الدمن " قيل: وما خضراء الدمن،

(9/116)


يا رسول الله؟ قال: "المرأة الحسناء في المنبت السوء» .
وقال أبو عبيد [في" غريب الحديث " (3/99) ] : أراد: فساد النسب، وهو: أن تكون لغير رشدة، أي: من الزنا، شبهها بالشجرة الناضرة في دمنة البعر، فمنظرها حسن، ومنبتها فاسد.
والأولى: أن يتزوج من غير عشيرته، لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (إذا تزوج الرجل من عشيرته.. فالغالب على ولده الحمق) .

(9/117)


ويستحب له أن يتزوج الولود الودود، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تناكحوا، تكثروا» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تزوجوا الودود الولود "، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سوداء ولود خير من حسناء عقيم» .
ويستحب له أن يتزوج في شوال، لما «روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت (تزوجني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شوال، وبنى بي في شوال» . فكانت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تستحب أن يبنى بنسائها في شوال.

[مسألة ما يحق للحر جمعه من النساء]
] : ويجوز للحر أن يجمع بين أربع زوجات حرائر، ولا يجوز أن يجمع بين أكثر من ذلك.
قال الصيمري: إلا أن المستحب له: أن لا يزيد على واحدة، لا سيما في زماننا هذا.
وقال القاسم بن إبراهيم وشيعته القاسمية: يجوز له أن يجمع بين تسع حرائر، ولا يجوز له أن يجمع بين أكثر من ذلك، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] [النساء: 3] ، والاثنتان والثلاث والأربع: تسع، ومات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن تسع زوجات.
وذهبت طائفة من الرافضة إلى: أنه يجوز له أن يتزوج أي عدد شاء.
دليلنا: ما روي: «أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له

(9/118)


النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أمسك منهن أربعاً، وفارق سائرهن» .
«وروي عن نوفل بن معاوية، قال: أسلمت وتحتي خمس نسوة، فقال لي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أمسك أربعا منهن، وفارق واحدة منهن» .

(9/119)


وأما الآية: فالمراد بها التخيير بين الاثنتين والثلاث والأربع، ولم يرد به الجمع، كقوله تعالى في صفة الملائكة: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1] [فاطر: 1] .
وكقول الرجل: جاءني القوم مثنى وثلاث ورباع.
وأما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فإنه كان مخصوصاً بذلك. وقد روي: أنه جمع بين أربع عشرة

(9/120)


زوجة، وما روي أن أحداً من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - جمع بين أكثر من أربع زوجات.

[فرع ما يجوز للعبد جمعه من النساء]
] : وأما العبد: فلا يجوز له أن يجمع بين أكثر من امرأتين، وبه قال من الصحابة: عمر، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ومن التابعين: الحسن، وعطاء.
ومن الفقهاء أهل الكوفة: ابن شبرمة، وابن أبي ليلي، وأبو حنيفة وأصحابه، وبه قال الليث وأحمد وإسحاق.
وقال أهل المدينة - الزهري، وربيعة، ومالك رحمة الله عليهم-: (يجوز له أن يجمع بين أربع، كالحر) . وبه قال الأوزاعي، وداود، وأبو ثور.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} [الروم: 28] [الروم: 28] . فظاهر الآية يقتضي: أن العبيد لا يساوون الأحرار في حكم من الأحكام إلا ما خصه الدليل.
وروي عن الحكم بن عتيبة: أنه قال: أجمع أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أن العبد لا ينكح أكثر من امرأتين.

[مسألة ما يجوز للخاطب من النظر]
] : وإذا أراد الرجل خطبة امرأة.. جاز له النظر منها إلى ما ليس بعورة منها - وهو

(9/121)


وجهها وكفاها - بإذنها وبغير إذنها. ولا يجوز له أن ينظر إلى ما هو عورة منها، وبه قال مالك، وأبو حنيفة.
وحكي عن مالك: أنه قال: (لا يجوز له ذلك إلا بإذنها) .
وقال المغربي: لا يجوز له أن ينظر إلى شيء منها.
وقال داود: (يجوز له أن ينظر إلى جميع بدنها، إلا إلى فرجها) .
دليلنا - على المغربي -: ما رواه أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن رجلا ذكر للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه أراد تزويج امرأة من الأنصار، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "انظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئا» . وروي: " سوءا ". «وروي عن المغيرة بن شعبة: أنه قال: أردت أن أنكح امرأة من الأنصار، فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "اذهب، فانظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما". قال: فذهبت، فأخبرت أباها بذلك، فذكر أبوها ذلك لها، فرفعت الخدر، وقالت: إن كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن لك أن تنظر.. فانظر، وإلا.. فإني أحرج عليك إن كنت تؤمن بالله ورسوله» . وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يؤدم بينكما " أي " يصلح.

(9/122)


وأما الدليل: - على داود -: فقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] [النور: 31] .
قيل في التفسير: الوجه والكفان. فظاهر الآية يقتضي: أنه لا يجوز للمرأة أن تبدي إلا وجهها وكفيها.
وروى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أراد أحدكم أن يتزوج امرأة.. فلينظر إلى وجهها وكفيها» ، فدل على: أنه لا يجوز له النظر إلى غير ذلك. ولأن ذلك يدل على سائر بدنها.
إذا ثبت هذا: فله أن يكرر النظر إلى وجهها وكفيها، لما روى أبو الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قذف الله في قلب امرئ خطبة امرأة.. فلا بأس أن يتأمل محاسن وجهها» . ولا يمكنه تأمل ذلك إلا بأن يكرر النظر إليها.
قال الصيمري: وإذا نظر إليها ولم توافقه.. فالمستحب له: أن يسكت، ولا يقول: لا أريدها.

(9/123)


قال الصيمري: وقد جرت عادة الرجال في وقتنا هذا أن يبعثوا امرأة ثقة، لتنظر إلى المرأة التي يريدون خطبتها، وهو خلاف السنة.
وذكر في " الإفصاح ": «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لتنظر إلى وجه امرأة أراد أن يتزوجها، فرجعت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وقالت: لم تمرض قط، فلم يرغب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها» .
فإذا ثبت هذا الخبر.. كان مبطلاً لقول الصيمري.

[فرع نظر المرأة المخطوبة للخاطب]
فرع: [جواز نظر المرأة المخطوبة للخاطب] : قال الشيخ أبو إسحاق - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويجوز للمرأة إذا أرادت أن تتزوج برجل أن تنظر إليه، لأنه يعجبها منه ما يعجبه منها، ولهذا قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (لا تزوجوا بناتكم من الرجل الدميم، فإنه يعجبهن منهم ما يعجبهم منهن) .

(9/124)


[فرع الأمر بغض البصر عن الأجنبيات وعكسه]
] : وإذا أراد الرجل أن ينظر إلى امرأة أجنبية منه من غير سبب.. فلا يجوز له ذلك، لا إلى العورة، ولا إلى غير العورة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] [النور: 30ٍ] .
وروى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أردف الفضل بن العباس خلفه في حجة الوادع، فأتت امرأة من خثعم إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، فلوى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنق الفضل، فقال العباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لويت عنق ابن عمك، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " رجل شاب، وامرأة شابة، خشيت أن يدخل الشيطان بينهما» .
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " يا علي، لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليس لك الأخرى "، أو قال: وعليك الأخرى»

(9/125)


وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نظر الرجل إلى محاسن امرأة لا تحل له سهم من سهام الشيطان مسموم، من تركها خوفا من الله، ورجاء ما عنده.. أثابه الله بها» .
قال ابن الصباغ، والمسعودي [في " الإبانة "] ، والطبري: إذا لم يخف الافتتان بها.. فله أن ينظر منها إلى الوجه والكفين بغير شهوة، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا علي، لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليس لك الأخرى» .
ولا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجل الأجنبي، لا إلى العورة منه، ولا إلى غير العورة من غير سبب، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31] [النور: 31] .

(9/126)


وروي: «أن ابن أم مكتوم دخل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعنده أم سلمة، وميمونة - وقيل: عائشة، وحفصة - فقال: " احتجبا عنه " فقالا: إنه أعمى لا يبصرنا! فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أفعمياوان أنتما؟! أليس تبصرانه؟» .
ولأن المعنى الذي منع الرجل من النظر لأجله، هو خوف الافتتان، وهذا موجود في المرأة، لأنها أسرع إلى الافتتان، لغلبة شهوتها، فحرم عليها ذلك.

[فرع بروز المسلمة أمام الكتابية أو غيرها من الكافرات]
] : وهل يجوز للمرأة المسلمة أن تبرز للمرأة الكتابية، أو غيرها من الكافرات؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز، لأنه لا يخاف عليها الافتتان بذلك.
والثاني: لا يجوز، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31] [النور: 31] ، وهذه ليست من نسائهن.
وهل يجوز للرجل أن ينظر إلى الطفلة الصغيرة الأجنبية؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] . ولا خلاف: أنه لا يجوز له النظر إلى فرجها.

(9/127)


[فرع نظر المراهق والخصي والمتخنث إلى الأجنبية]
فرع: [حكم نظر المراهق والخصي والمتخنث إلى الأجنبية] : واختلف أصحابنا في الصبي المراهق مع المرأة الأجنبية:
فمنهم من قال: هو كالرجل البالغ الأجنبي معها، فلا يحل لها أن تبرز له، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31] [النور: 31] . ومعناه: لم يقووا على الجماع، والمراهق يقوى على الجماع، فهو كالبالغ.
ومنهم من قال: هو معها كالبالغ من ذوي محارمها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59] [النور: 59] . فأمر بالاستئذان إذا بلغوا الحلم، فدل على: أنه قبل أن يبلغوا الحلم يجوز دخولهم من غير استئذان.
ولا يجوز للرجل الخصي أن ينظر إلى بدن المرأة الأجنبية، وقال ابن الصباغ: إلا أن يكبر، ويهرم، وتذهب منه شهوته.
قال: وكذلك المخنث، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} [النور: 31] [النور: 31] .
وروي: «أن مخنثا كان يدخل على أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال لعبد الله بن أبي أمية - أخي أم سلمة -: إن فتح الله علينا الطائف غداً.. دللتك على ابنة غيلان، فإنها تقبل بأربع، وتدبر بثمان، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا أراك تعقل هذا، لا يدخل هذا عليكن» . وإنما لم يمنع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من دخوله قبل هذا، لأنه كان يظن أنه من غير أولي الإربة من الرجال، فلما وصف من المرأة ما وصف.. علم أنه ليس من أولئك، فمنع من دخوله.

(9/128)


وقوله (تقبل بأربع) يعني: أربع عكن في مقدم بطنها. قوله: (تدبر بثمان) : لأن الأربع محيطة ببطنها وجنبيها، فلها من خلفها ثمانية أطراف، من كل جانب أربعة أطراف.

[فرع النظر لأجل الشهادة والمداواة وإلى الأمرد]
ويجوز للرجل أن ينظر إلى وجه المرأة الأجنبية عند الشهادة، وعند البيع منها والشراء، ويجوز لها أن تنظر إلى وجهه كذلك، لأن هذا يحتاج إليه، فجاز النظر لأجله. ويجوز لكل واحد منهما أن ينظر إلى بدن الآخر إذا كان طبيباً وأراد مداواته، لأنه موضع ضرورة، فزال تحريم النظر لذلك.
وأما أمة غيره: فإذا لم يكن هناك سبب.. فهي كالحرة الأجنبية مع الأجنبي. فإن أراد أن يشتريها.. فيجوز له أن ينظر إلى ما ليس بعورة منها، وقد مضى بيان عورتها في الصلاة.
قال الشيخ أبو حامد: وحكى الداركي: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (لا يجوز النظر إلى وجه الأمرد، لأنه يفتن) . قال: ولا أعرفه للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
والأول اختيار الشيخ أبي إسحاق.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : ويحل للرجل النظر إلى الخنثى.

[مسألة النظر إلى المحارم والرجل للرجل والمرأة للمرأة]
ويجوز للرجل أن ينظر إلى المرأة من ذوات محارمه، وكذلك يجوز لها النظر إليه من غير سبب ولا ضرورة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] [النور: 31] الآية.
وفي الموضع الذي يجوز له النظر إليه منها وجهان، حكاهما المسعودي [في "الإبانة "] :

(9/129)


أحدهما - وهو قول البغداديين من أصحابنا- أنه يجوز له النظر إلى جميع بدنها، إلا ما بين السرة والركبة، لأنه لا يحل له نكاحها بحال، فجاز له النظر إلى ذلك، كالرجل مع الرجل.
والثاني - وهو اختيار القفال -: أنه يجوز له النظر إلى ما يبدو منها عند المهنة، لأنه لا ضرورة به إلى النظر إلى ما زاد على ذلك.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : وهكذا الوجهان في النظر إلى أمة غيره، إذا لم يرد شراءها، وهذا خلاف نقل البغداديين من أصحابنا فيها، وقد مضى.
ويجوز للرجل أن ينظر إلى جميع بدن الرجل، إلا ما بين السرة والركبة، من غير سبب ولا ضرورة. ويجوز للمرأة أن تنظر إلى جميع بدن المرأة، إلا ما بين السرة والركبة، من غير سبب ولا ضرورة، لأنه لا يخاف الافتتان بذلك.

[فرع نظر العبد لمولاته والخلوة بها]
وإذا ملكت المرأة عبداً.. فهل يكون كالمحرم لها في جواز النظر والخلوة به؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يصير محرماً لها في ذلك. قال في " المهذب ": وهو المنصوص، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31] [النور: 31] فعده مع ذوي المحارم.
وروت أم سلمة: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ قال: «إذا كان مع مكاتب إحداكن وفاء.. فلتحتجب منه» ، فلولا أن الاحتجاب لم يكن واجباً عليهن قبل ذلك.. لما أمرهن به.

(9/130)


وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - غلاماًَ، فأراد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يدخل عليها، ومعه علي والغلام، وهي أفضل - أي: ليس عليها إلا ثوب واحد- فأرادت أن تغطي به رأسها ورجليها فلم يبلغ، فقال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا بأس عليك إنما هو أبوك وزوجك وخادمك» .
ولأن الملك سبب تحريم الزوجية بينهما فوجب أن يكون محرماً لها، كالنسب والرضاع.
والثاني: لا يكون محرماً لها. قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح عند أصحابنا، لأن الحرمة إنما تثبت بين شخصين لم تخلق بينهما شهوة، كالأخ والأخت، والعبد وسيدته شخصان خلقت بينهما الشهوة، فهو كالأجنبي. وأما الآية: فقال أهل التفسير: المراد بها الإماء، دون العبيد. وأما الخبر: فيحتمل أن يكون الغلام صغيراً.

[مسألة النظر للزوجة وملك اليمين]
] : وإذا تزوج الرجل امرأة، أو ملك أمة يحل له الاستمتاع بها.. جاز لكل واحد منهما النظر إلى جميع بدن الآخر، لأنه يملك الاستمتاع به، فجاز له النظر إليه.
وهل يجوز له النظر إلى الفرج؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز، لأنه موضع يجوز له الاستمتاع به، فجاز له النظر إليه، كالفخذ.
والثاني: لا يجوز، لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «النظر على الفرج يورث الطمس» . ولأن فيه دناءة وسخفاً. قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: يعني

(9/131)


بـ: (الطمس) : العمى، أي: في الناظر. وقال الطبري في" العدة ": أي: أن الولد بينهما يولد أعمى.
وإذا زوج الرجل أمته.. كانت كذوات محارمه، فلا يجوز له أن ينظر منها إلى ما بين السرة والركبة، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا زوج أحدكم أمته.. فلا ينظر منها إلى ما بين السرة والركبة» . ولأنه إذا زوجها.. فحكم الملك ثابت بينهما، وإنما حرم عليه الاستمتاع بها، فصارت كذوات المحارم.

[مسألة ما خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إن الله عز وجل لما خص به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وحيه، وأبان بينه وبين خلقه بما فرض عليهم من طاعته.. افترض عليه أشياء خففها على خلقه، ليزيده بها- إن شاء الله- قربة، وأباح له أشياء حظرها على غيره، زيادة في كرامته، وتبييناً لفضيلته) .
وجملة ذلك: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خص بأحكام في النكاح وغيره، ولم يشاركه غيره فيها.
فأما ما خص به في غير النكاح: فأوجب الله تعالى عليه أشياء لم يوجبها على غيره، ليكون ذلك أكثر لثوابه، فأوجب عليه السواك، والوتر، والأضحية، والدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاث كتبهن الله تعالى علي، ولم تكتب عليكم: السواك والوتر، والأضحية» .

(9/132)


وكان يجب عليه إذا لبس لأمة حربه أن لا ينزعها.. حتى يلقى العدو. والدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما كان لنبي إذا لبس لأمة حربه أن ينزعها.. حتى يلقى العدو» .
وأما قيام الليل: فمن أصحابنا من قال: كان واجباً عليه إلى أن مات، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1] {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} [المزمل: 2] [المزمل: 1-2] .
والمنصوص: (أنه كان واجباً عليه، ثم نسخ بقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] [الإسراء: 79] .
وكان يجب عليه إذا رأى منكراً.. أنكره وأظهره، لأن إقراره لغيره على ذلك يدل على جوازه، وقد ضمن الله تعالى له النصر.
وحرم الله عليه أشياء لم يحرمها على غيره، تنزيهاً له وتطهيراً، فحرم عليه الكتابة، وقول الشعر وتعليمه، تأكيداً لحجته، وبياناً لمعجزته.
قال الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48] [العنكبوت: 48] .
وذكر النقاش: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما مات حتى كتب) . والأول هو المشهور.
وحرمت عليه الصدقة المفروضة قولاً واحداً. وفي صدقة التطوع قولان، وقد مضى ذكرهما في الزكاة.
وحرم عليه خائنة الأعين- وهو الرمز بالعين- لما روي: «أن رجلا دخل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأراد قتله، فلما خرج عنه.. قال: " هلا قتلتموه؟ ! " فقالوا: هلا رمزت إلينا؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين»

(9/133)


وحرم عليه أن يمد عينيه إلى ما متع به الناس. والدليل عليه: ما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرت به إبل، وقد عنست بأبوالها وأبعارها، فغطى عينيه، فقيل له في ذلك، فقال: قال الله تبارك وتعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} [طه: 131] [طه: 131] الآية.
وأوعده الله أن يحبط عمله بنفس الردة، وأوعد غيره أن لا يحبط عمله إلا بالردة والموت عليها. والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] [الزمر: 65] الآية. وقال في غيره: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [البقرة: 217] [البقرة: 217] .
وأباح الله تعالى لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشياء لم يبحها لغيره، تفضيلا له واختصاصاً:
منها: أنه أباح له الوصال في الصوم، والدليل عليه: «أنه نهى عن الوصال، فقيل له: يا رسول الله، إنك تواصل، فقال: " إني لست مثلكم، إني أطعم وأسقى» ، وفي رواية: «إني أبيت عند ربي، يطعمني، ويسقيني» .
وأبيح له أخذ الطعام والشراب من الجائع والعطشان، وإن كان من هو معه يخاف على نفسه الهلاك، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] [الأحزاب: 6] وعلى كل واحد من المسلمين أن يقي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنفسه.
وأبيح له أن يحمي لنفسه، وأبيح له أربعة أخماس الفيء وخمس الخمس من الفيء والغنيمة.

(9/134)


وأبيح له أن يصطفي من الغنيمة ما شاء، وهو: أن يختار منها ما شاء، وقد اصطفى صفية من سبي خيبر، فلذلك سميت صفية. وقيل: بل كان ذلك اسمها. وأكرمه الله تعالى بأشياء:
منها: أنه أحل له الغنائم ولأمته، وكانت لا تحل لمن قبله من الأنبياء، بل كانوا يحرقونها. والدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد من قبلي» .
وجعلت الأرض له ولأمته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسجداً وطهوراً، وكان من قبله من الأنبياء لا تصح صلاتهم إلا في المساجد. والدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فضلنا على الناس بثلاث: جعلت الأرض لنا مسجداً، وترابها لنا طهوراً، وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة» .
وجعلت له معجزات كمعجزات الأنبياء قبله، وزيادة، فكانت معجزة موسى - صلى الله على نبينا وعليه وسلم- العصا، وانفجار الماء من الصخر، وقد انشق القمر للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وخرج الماء من بين أصابعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وكانت معجزة عيسى صلى الله

(9/135)


عليه وعلى نبينا وسلم إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وقد سبحت الحصى في كف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وحن الجذع إليه، وهذا أبلغ.
وفضله الله تعالى عليهم، بأن جعل القرآن معجزته، وجعل معجزته فيه باقية إلى يوم القيامة، ولهذا جعلت نبوته مؤبدة، لا تنسخ إلى يوم القيامة، لأن معجزته باقية. ونصر بالرعب، فكان يخافه العدو من مسيرة شهر. وبعث إلى كافة الخلق، وقد كان من قبله من الأنبياء يبعث الواحد إلى بعض الناس دون بعض. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تنام عيناي، ولا ينام قلبي» . وكان يرى من خلفه، كما يرى من بين يديه.
وأما ما خص به النبي صلى عليه وسلم من الأحكام في النكاح: فاختلف أصحابنا في المنع من الكلام فيه:
فحكى الصيمري: أن أبا علي بن خيران منع من الكلام فيه، وفي الإمامة، لأن ذلك قد انقضى، فلا معنى للكلام فيه.
وقال سائر أصحابنا: لا بأس بالكلام في ذلك، وهو المشهور، لما فيه من زيادة العلم، وقد تكلم العلماء فيما لا يكون، كما بسط الفرضيون مسائل الوصايا، وقالوا: إذا ترك أربعمائة جدة وأكثر.
إذا ثبت هذا: فإنه أبيح للنبي صلى الله وعليه وسلم أن ينكح من النساء أي عدد شاء.
وحكى الطبري في " العدة " وجها آخر: أنه لم يبح له أن يجمع بين أكثر من تسع.

(9/136)


والأول هو المشهور، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا} [النساء: 3] [النساء: 3] .
قيل في التفسير: أن لا تجوروا في حقوقهن، فحرم الزيادة على الأربع، وندب إلى الاقتصار على واحدة، خوفاً من الجور وترك العدل، وهذا مأمون من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج ثماني عشرة امرأة، وقيل: بل خمس عشرة. وجمع بين أربع عشرة، وقيل: بل بين إحدى عشرة. ومات عن تسع: عائشة بنت أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وحفصة بنت عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وأم سلمة بنت أبي أمية، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وميمونة بنت الحارث، وجويرية بنت الحارث، وصفية بنت حيي بن أخطب، وزينب بنت جحش - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ - وأرضاهن.
فهؤلاء ثمان نسوة كان يقسم لهن إلى أن مات - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والتاسعة سودة بنت زمعة: (كانت وهبت ليلتها لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -) .
وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رغب في نكاح امرأة مزوجة، وعلم زوجها بذلك.. وجب عليه أن يطلقها! كامرأة زيد بن حارثة، كما أنه إذا احتاج إلى طعام، ومع إنسان طعام،

(9/137)


لو لم يأكله مات جوعاً.. وجب عليه أن يبذله له.
وأبيح له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتزوج من غير مهر، لا ابتداء، ولا انتهاء، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50] [الأحزاب: 50] الآية، والهبة إنما تكون بغير عوض.

[فرع نكاح النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الهبة]
] : وهل كان يحل له النكاح بلفظ الهبة؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه كان يحل له، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50] [الأحزاب: 50] الآية.
وروي: «أن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: قد وهبت نفسي منك يا رسول الله، فقال: ما لي اليوم في النساء من حاجة» ، ولم ينكر عليها قولها: (قد وهبت نفسي منك) .
ولأن غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما لا يصح نكاحه بلفظ الهبة، لأنه لا يعرو عن عوض، والهبة لا تتضمن عوضا، ونكاح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصح أن يعرو عن العوض، فلذلك صح بلفظ الهبة.

(9/138)


والثاني: لا يحل له. قال الشيخ أبو حامد: وهو الأصح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} [الأحزاب: 50] [الأحزاب: 50] الآية. فأجاز له العقد بالاستنكاح- وهو لفظ التزويج، أو الإنكاح - فدل على: أن ذلك يشترط في نكاحه.
ولأن لفظ الهبة، ولفظ الإباحة واحد، لأنهما لا يتضمنان عوضاً، فلما لم يصح نكاحه بلفظ الإباحة.. لم يصح بلفظ الهبة.
وإذا قلنا بالأول: فهل يصح قبوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله: (اتهبت) ، أو لا يصح حتى يقول: (نكحت) ، أو: (تزوجت) ، وما أشبهها؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في" الإبانه "] .

[فرع نكاح النبي صلى الله عليه وسلم بلا ولي ولا شهود]
وهل كان يصح نكاحه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغير ولي ولا شهود؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح، لما روي ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا نكاح إلا بولي وشاهدين» ، ولم يفرق. ولأن كل ما كان شرطاً في نكاح غيره.. كان شرطاً في نكاحه، كالإيجاب والقبول.

(9/139)


والثاني: يصح. قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح، لما روي: «أن النبي صلى عليه وسلم لما خطب أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.. اعتذرت إليه بأشياء، منها: أن قالت: ليس لي ولي حاضر فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ليس لك ولي حاضر ولا غائب، إلا وهو يرضاني "، فقالت أم سلمة: قم يا عمر - تعني: ابنها - فزوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
قال الشيخ أبو حامد: وأصحابنا يروون: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا غلام، قم فزوج أمك» . والذي أعرفه هو الأول.
فتزوجها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير ولي، لأن الابن ليس بولي عندنا، لأن ابنها كان يومئذ صغيراً. ولأن الولي إنما اشترط في النكاح، لئلا تضع المرأة نفسها في غير كفء، واشترط حضور الشهود عند العقد، ليثبتوا الفراش، فيلحق النسب به، إن جحد الزوج، وذلك لا يوجد في النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

[فرع زواجه صلى الله عليه وسلم في الإحرام]
وهل كان يصح نكاحه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حال الإحرام؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ينكح المحرم، ولا ينكح» . 50

(9/140)


والثاني: يصح، لما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج ميمونة وهو- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محرم» . ولأن المحرم إنما منع من العقد في الإحرام، لئلا يدعوه ذلك على مواقعتها في حال الإحرام، وهذا مأمون منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

[فرع زواجه صلى الله عليه وسلم من الكتابيات]
وهل كان يجوز نكاحه الحرائر الكتابيات؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز له، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] [المائدة: 5] ولم يفرق. ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبيح في النكاح ما لم يبح لغيره، فلا يجوز أن يحرم عليه منه ما أبيح لغيره.
والثاني- وهو قول أكثر أصحابنا - أنه لا يجوز له نكاحها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] [الأحزاب: 6] ، ولا يجوز أن تكون الكافرة أما للمؤمنين.
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «زوجاتي في الدنيا زوجاتي في الآخرة» ، والكافرة لا تدخل الجنة، فلا تكون زوجة له.

(9/141)


[فرع زواجه صلى الله عليه وسلم من الأمة المسلمة ووطؤه لملك اليمين]
وأما تزويج الأمة المسلمة: فالمشهور من المذهب: أنه لا يحل له ذلك، لأن تزويجها للحر إنما يكون بشرطين: عدم طول الحرة، والخوف من العنت، وهذان، معدومان في حقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجها آخر: أنه كان يحل له ذلك، لما ذكرناه في نكاحه للذمية.
فإذا قلنا بهذا: فما كان حكم ولده منها إذا قلنا: إن ولد العربي من الأمة مملوك؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه رقيق، كولدها من غيره.
والثاني: ليس برقيق، وهو الأصلح، لأنه يستحيل أن يسترق من هو جزء من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وأما وطء الأمة المسلمة بملك اليمين: فكان يحل له، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 52] [الأحزاب: 52] الآية.
ولأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وطيء مارية القبطية بملك اليمين، وأولد منها إبراهيم عليه والسلام.
وكان يحل له وطء الأمة الكتابية بملك اليمين، لأنه اصطفى صفية بنت حيي من سبي خيبر، وكان يطؤها قبل أن تسلم، فلما أسلمت أعتقها، وجعل عتقها صداقها - وهذا مما خص به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيضا- فتزوجها.

[مسألة تخيير النساء خاص به صلى الله عليه وسلم]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فمن ذلك: أن من ملك زوجة.. فليس عليه تخييرها، وأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يخير نساءه، فاخترنه) .
وجملة ذلك: أن الله تعالى خير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بين أن يكون نبيا ملكاً وعرض عليه مفاتيح خزائن الدنيا، وبين أن يكون نبياً مسكيناً، فشاور - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -،

(9/142)


فأشار عليه بالمسكنة، فاختارها، فلما اختارها وهي أعلى المنزلتين.. أمره الله تعالى أن يخير زوجاته، فربما كان فيهن من تكره المقام معه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الشدة، تنزيها له.
وقيل: إن السبب الذي وجب التخيير لأجله: أن امرأة من زوجاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سألته أن يصوغ لها حلقة من ذهب، فصاغ لها حلقة من فضة، وطلاها بالذهب- وقيل: بالزعفران- فأبت إلا أن تكون من ذهب، فنزلت آية التخيير، وهي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [الأحزاب: 28] الآية [الأحزاب: 28] .
وقيل: إنما أمر بتخييرهن امتحانا لقلوبهن، وابتلاء لهن، وإلا.. فلا يختار له إلا الصالحات من النساء، ولكن يعلم بذلك أحكام، فبدأ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعائشة، وقال: «إني مخيرك، ولا عليك أن لا تحدثي أمرا حتى تستأمري أبويك "، ثم قال: " إن الله أنزل علي: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [الأحزاب: 28] [الأحزاب: 28] ، قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أفيك أشاور أبوي؟! إني اخترت الله ورسوله. قالت عائشة: لا تخبر بما صنعت أحداً من أزواجك، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنما بعثت ميسراً، ولم أبعث معسراً"، ثم دخل على باقي أزواجه، فخيرهن، فكن يقلن: ما قالت عائشة، فيقول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اختارت الله ورسوله" فيقلن: اخترن الله ورسوله» .
وقيل: إن واحدة منهن اختارت الفراق.
وإنما أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن تشاور أبويها، لأنه كان يحبها، وكان يخاف أن يحملها فرط الشباب على أن تختار فراقه، ويعلم من أبويها أنهما لا يشيران عليها بفراقه.

(9/143)


إذا ثبت هذا: فإن التخيير كناية في الطلاق، فلا يقع به طلاق حتى يقول الرجل لامرأته: اختاري نفسك، وينوي بذلك: أنه جعل طلاقها إليها، وتقول المرأة، اخترت نفسي، وتنوي بذلك الطلاق.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (هو صريح في الطلاق) .
دليلنا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خير عائشة، وأمرها أن تشاور أبويها، فلو كان الطلاق قد وقع، وبانت منه.. لم يمكنها مشاورتهما، ولأنها لو بانت منه.. لما أفاد اختيارها له.
إذا تقرر هذا: فإن غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خير زوجته.. فلا خلاف على المذهب: أن قبولها يجب أن يكون على الفور، بحيث يصلح أن يكون جواباً لكلامه.
وأما تخيير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لزوجاته.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: إنه على التراخي، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خير عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فقال لها: «لا تحدثي أمرا حتى تشاوري أبويك» فأجاز لها تأخير الجواب إلى مشاورتهما، فدل على: أن الجواب لا يقتضي الفور.
و [الثاني] : منهم من قال: إنه على الفور، وهو الصحيح، لأن التخيير يجري مجرى البيع والهبة، فلما كان قبول بيع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهبته على الفور.. فكذلك تخييره وأما تخيير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: فكان تخييراً موسعا إلى مشاورة أبويها، ولو أطلق التخيير.. لاقتضى الجواب على الفور. هذا نقل الشيخ أبي حامد. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا اختارت واحدة منهن الدنيا.. وقعت الفرقة، وهل كان ذلك طلاقا أو فسخاً؟ فيه وجهان.
فإن قلنا: كان طلاقاً.. فهو على الفور، وإن قلنا: كان فسخاً.. فهو على التراخي. وقال القفال: إن اختارت واحدة منهن الدنيا.. فهل تبين منه بذلك، أو يلزمه أن يطلقها؟ فيه وجهان:

(9/144)


أحدهما: تبين منه، كما لو خير أحدنا زوجته، فاختارت فراقه.
والثاني: لا تبين منه حتى يطلقها. قال: وهو الأصح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 28] [الأحزاب: 28] الآية. ولأن الرجل منا لو خير زوجته بين الدنيا والآخرة، فاختارت الدنيا.. لم تبن منه، فكذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

[فرع خير نساءه صلى الله عليه وسلم فاخترنه فحظر عليه نكاح غيرهن]
وحكم طلاقهن بعد تخييرهن] :
لما خير رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نساءه، فاخترنه.. حرم الله عليه التزويج بغيرهن، والاستبدال بهن، مكافأة لهن على فعلهن. والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 52] [الأحزاب: 52] .
وهل كان يحل له أن يطلق واحدة منهن بعد ذلك؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في" الإبانة "] :
أحدهما - وهو اختيار المسعودي [في" الإبانة "] ، لم يذكر ابن الصباغ غيره-: أنه كان لا يحل له ذلك، جزاء لهن على اختيارهن له.
والثاني - ولم يذكر في " التعليق " غيره-: أنه كان يحل له ذلك، كغيره من الناس، ولكن لا يتزوج بدلها، ثم نسخ هذا التحريم، وأباح له أن يتزوج بمن شاء عليهن من النساء. والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب: 50] [الأحزاب: 50] الآية. والإحلال يقتضي تقدم حظر، وزوجاته اللاتي في حياته لم يكن محرمات عليه، وإنما كان حرم عليه التزويج بالأجنبيات، فانصرف الإحلال إليهن، ولأنه قال في سياق الآية: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} [الأحزاب: 50] . [الأحزاب: 50] ولم يكن تحته أحد من بنات عمه، ولا من بنات عماته، ولا من بنات خاله، ولا من بنات خالاته، فثبت: أنه أحل له التزويج بهن ابتداء، وهذه الآية وإن كانت متقدمة في التلاوة.. فهي متأخرة النزول عن الآية المنسوخة بها، كالآية في قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] [البقرة: 234] نسخت

(9/145)


الآية المتأخرة عنها في التلاوة، وهي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} [البقرة: 240] الآية [البقرة: 240] .
والذي يدل على أن التحريم نسخ: ما روي عن أبي وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنهما قالا: «ما مات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أحل الله له النساء» ، يعني: اللاتي حظرن عليه.

[فرع أزواجه صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين]
ومما خص به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن جعل الله أزواجه أمهات المؤمنين. والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] [الأحزاب: 6] .
قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (قَوْله تَعَالَى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] في معنى دون معنى) ، وأراد به: أن أزواجه اللاتي مات عنهن لا يحل لأحد نكاحهن، ومن استحل ذلك.. كان كافراً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب: 53] [الأحزاب: 53] . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «زوجاتي في الدنيا زوجاتي في الآخرة» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل نسب وسبب ينقطع إلا سببي ونسبي.. فإنه باق إلى يوم القيامة» ، و (السبب) : القران والنكاح، ولا يكون حكمهن حكم الأمهات من

(9/146)


النسب في التوارث، ولا حكم الأمهات من النسب والرضاع في: أنه لا يحل نكاح بناتهن وأخواتهن وأمهاتهن، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زوج بناته من المسلمين.
ونقل المزني: (وقد زوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بناته وهن أخوات المؤمنين، وليس هذا على ظاهره، لأنهن لو كن أخواتهم.. ما جاز لهم تزويجهن) ، ولما نقله تأويلان:
أحدهما: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أراد: وهن غير أخوات المؤمنين، فأسقط المزني: (غير) .
والثاني: أنه أخرجه مخرج الإنكار، وتقدير الكلام: أترى زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بناته، وهن أخوات المؤمنين؟

[فرع نكاح المفارقات من نسائه صلى الله عليه وسلم]
وأما زوجات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللاتي فارقهن في حياته، مثل الكلبية، والتي قالت له: أعوذ بالله منك، فقال: «استعذت بمعاذ! الحقي بأهلك» ، و: " (المرأة التي رأى في كشحها بياضاً، ففارقها) : فهل كان يحل لغيره نكاحهن؟ فيه ثلاثة أوجه:

(9/147)


أحدها: أنه كان يحل لغيره نكاحهن، سواء من دخل بها منهن ومن لم يدخل بها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 28] [الأحزاب:28] .، فلو كان لا يحل لغيره نكاحهن إذا اخترن فراقه.. لم يحصل لهن من زينة الدنيا شيء؛ لأن الأيم لا زينة لها ولا لذة.
والثاني: لا يحل لأحد نكاحهن، سواء دخل بهن أو لم يدخل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] [الأحزاب: 6] ، وحرمة الأمومة تثبت بالعقد.
والثالث- وهو الصحيح - أن من فارقها بعد أن دخل بها.. لا يحل لأحد نكاحها، ومن فارقها قبل أن يدخل بها.. يحل نكاحها، لما روي: أن المرأة الكلبية التي فارقها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوجها عكرمة بن أبي جهل، فرفع ذلك إلى أبي بكر الصديق - وقيل: إلى عمر رضي الله عنهما - فهم برجمها، فقيل له: إنه لم يدخل بها، فخلى عنها. وقيل: إن الذي تزوجها الأشعث بن قيس الكندي.

(9/148)


وقال القاضي أبو الطيب: إن الذي تزوجها مهاجر بن أبي أمية، ولم ينكر أحد ذلك، فدل على: أنه إجماع.

[فرع فضل زوجاته صلى الله عليه وسلم]
ومما خص الله به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن فضل الله زوجاته على سائر نساء العالمين، فقال: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31] [الأحزاب:30-31] . فجعل حدهن مثلي حد غيرهن، لكمالهن وفضيلتهن، كما جعل حد الحر مثلي حد العبد، فأخبر: إن حسناتهن تضاعفن تفضيلاً لحالهن. ثم قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 32] الآية [الأحزاب:32] : وذلك، لموضعهن من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقربهن منه.

[فرع القسم في الزوجات]
ومما خص الله تعالى به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن الواحد منا إذا كان له أكثر من زوجة.. فإنه لا يجب عليه القسم ابتداء، بل له أن ينفرد عنهن، ولكن يجب عليه القسم انتهاء، وهو: أنه إذا بات عند واحدة منهن.. لزمه القضاء للباقيات.
وأما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فكان لا يجب عليه القسم ابتداء، وهل كان يجب عليه القسم انتهاء، وهو: أنه إذا بات عند واحدة منهن.. لزمه القضاء للباقيات؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه كان لا يجب عليه، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51] [الأحزاب:51] .
والثاني: أنه كان يجب عليه ذلك، وهو المذهب، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقسم لنسائه ويقول: «اللهم إن هذا قسمي فيما أملك، وأنت أعلم بما لا أملك» يعني: قلبه.

(9/149)


و: (لما مرض.. كان يطاف به على أزواجه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما ثقل وعلم أزواجه أنه قد شق عليه.. قلن: قد رضينا أن تكون عند عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فكان عندها إلى أن مات - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، فلو لم يكن واجباً عليه.. لما تكلف المشقة فيه.
ولـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هم بطلاق سودة بنت زمعة لما كبرت، فأحست بذلك، فقالت: لا تطلقني يا رسول الله، ودعني أحشر في جملة أزواجك، وقد وهبت ليلتي لعائشة، فلم يطلقها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان يقسم لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ليلتين» .
وأما الآية: فإنها وردت في التي وهبت نفسها له، ومعناها: تقبل من الموهبات من شئت، وترد منهن من شئت.

[فرع تأويل كلام المزني]
وأما تأويل كلام المزني لقوله: (إن الله تعالى لما خص به رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : قيل: (لما) بكسر اللام وتخفيف الميم، فيكون المراد: أن الله تعالى افترض على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه الأشياء، لأجل ما خصه به من وحيه.
وقيل: (لما) بفتح اللام وتشديد الميم، فيكون المراد: لما وجه إليه الوحي وخصه به.. افترض عليه هذه الأشياء.

(9/150)


وأما قول المزني: (وأبان بينه وبين خلقه بما فرض عليهم) ، فالمراد به: أنه فرق بينه وبين أمته، وأظهر فضله عليهم. ولا يقال في: (الفرق) : أبان، وإنما يقال: باين، وقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " أحكام القرآن " [1/29 و 2/121] : (وأبان من فضله - من المباينة بينه وبين خلقه-: فرض عليهم طاعته في غير آية من كتابه، فقال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] [النساء:59] ، وافترض عليه أشياء خففها عن خلقه) . وهذا أوضح معنى مما نقله المزني.
وبالله التوفيق

(9/151)


[باب ما يصح به النكاح]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (قد دل كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على: أن حتماً على الأولياء أن يزوجوا الحرائر البوالغ إذا أردن النكاح) .
وجملة ذلك: أن عقد النكاح - عندنا - لا ينعقد إلا بولي ذكر، سواء كانت المرأة صغيرة أو كبيرة، بكراً أو ثيبا، نسيبة أو غير نسيبة.
فإن زوجت المرأة نفسها، أو وكلت رجلاً أو امرأة حتى زوجها.. لم يصح، سواء أذن لها وليها في ذلك أم لم يأذن لها. وبه قال من الصحابة: عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وأبو هريرة وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ومن التابعين: الحسن البصري وابن المسيب. ومن الفقهاء: ابن أبي ليلى وابن شبرمة وأحمد وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال أبو حنيفة: (إذا كانت المرأة بالغة عاقلة: زالت عنها الولاية في بضعها، كما يزول في مالها، ولها أن تزوج نفسها بغير إذن الولي، فإن زوجت نفسها من كفء.. فلا اعتراض للولي عليها، وإن زوجت نفسها من غير كفء.. كان للولي أن يفسخ النكاح) .
وقال أبو يوسف ومحمد: عقد النكاح يفتقر إلى الولي، ولكنه ليس بشرط فيه، فإن عقدت المرأة النكاح على نفسها بغير إذن وليها، فإن وضعت نفسها في غير كفء.. كان للولي فسخه، وإن وضعت نفسها في كفء.. فعليه إجازته، فإن لم يجزه.. أجازه الحاكم.

(9/152)


وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن كانت المرأة نسيبة موسرة.. لم يصح نكاحها إلا بولي - كقولنا - وإن كانت فقيرة دنيئة لا أبوة لها.. جاز لها أن تزوج نفسها بغير ولي) .
وقال داود: (إن كانت بكراً.. لم يصح نكاحها إلا بولي، وإن كانت ثيباً.. جاز أن تزوج نفسها بغير ولي) .
وقال أبو ثور: (إذا أذن لها الولي فزوجت نفسها.. صح، وإن زوجت نفسها بغير إذن وليها.. لم يصح) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] [البقرة:232] .
قال معقل بن يسار: هذه الآية نزلت في شأني، وذلك أنه: زوج أخته من رجل، فدخل بها، ثم طلقها فلم يراجعها حتى انقضت عدتها، ثم خطبها فرضيت به، فامتنع معقل من تزويجها منه، وقال: زوجتك أختي وأكرمتك بها فطلقتها؟ والله لا نكحتها أبداً، فنزلت هذه الآية، فقال معقل: سمعاً وطاعة، فزوجها منه وكفر عنه يمينه.

(9/153)


وموضع الدليل منها: أن الله سبحانه وتعالى نهى الأولياء عن عضلهن عن النكاح- و (العضل) : المنع- فلو لم يكن للأولياء صنع في النكاح.. لما كان للنهي معنى.
وروى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» .
وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تنكح المرأة المرأة، ولا تنكح المرأة نفسها» .
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها.. فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن مسها.. فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا- وروي: فإن اختلفوا- فالسلطان ولي من لا ولي له» .

(9/154)


وهذا الخبر دليل على جميع من خالفنا إلا أبا ثور، فإنه يقول: لما أبطل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نكاحها بغير إذن وليها.. دل على أنه يصح بإذن وليها.
ودليلنا عليه: أن المراد هاهنا الإذن لغيرها من الرجال، بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تنكح المرأة المرأة، ولا تنكح المرأة نفسها" ولم يفرق: بين أن يكون ذلك بإذن الولي، أو بغير إذنه» .
إذا ثبت هذا: فذكر أصحابنا في حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فوائد:
الأولى: أن للولي شركاً في بضعها، لأنه أبطل نكاحها بغير إذنه.
الثانية: أن الولاية ثابتة على جميع النساء، لأن لفظة: (أي) من حروف العموم.
الثالثة: أن الصلة جائزة في الكلام، لقوله: (أيما) ومعناه: أي امرأة.
الرابعة: أن للولي أن يوكل في عقد النكاح.
الخامسة: أن مطلق النكاح في الشريعة ينصرف إلى العقد، لأن المعنى: أيما امرأة عقدت.
السادسة: جواز إضافة النكاح إليها.
السابعة: أن اسم النكاح يقع على الصحيح والفاسد.
الثامنة: أن النكاح الموقوف لا يصح، لأنه لو كان صحيحا.. لما أبطله.

(9/155)


التاسعة: أن الشيء إذا كان بينا في نفسه.. جاز أن يؤكد بغيره، لأنه لو اقتصر على قوله: «فنكاحها باطل» .. لكان بينا، فأكده بالتكرار، وهو: كقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] [البقرة:196] ، وكقوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142] [الأعراف:142] .
العاشرة: أن وطء الشبهة يوجب المهر.
الحادية عشرة: أن المس كناية عن الوطء.
الثانية عشرة: أنه إذا مس سائر بدنها- غير الفرج- فلا مهر عليه.
الثالثة عشرة: قال الصيمري: إن القبل والدبر سواء، لأن كله فرج.
الرابعة عشرة: أنه لا فرق: بين الخصي والفحل.
الخامسة عشرة: أنه لا فرق: بين قوي الجماع، وضعيفه.
السادسة عشرة: أنه لا فرق: بين أن ينزل، أو لا ينزل.
السابعة عشرة: أنه لا فرق: بين أن يجامعها مرة، أو مراراً.
الثامنة عشرة: أنه يجوز أن يثبت له وعليه حق يجهل قدره.
التاسعة عشرة: أن النكاح الفاسد إذا لم يكن فيه جماع.. فلا مهر فيه.
العشرون: أن مهر المثل يتوصل إلى العلم به.
الحادية والعشرون: أن المهر يجب مع العلم بتحريم الوطء، ومع الجهل به؛ لأنه يفرق.
الثانية والعشرون: أن المكره يجب عليه المهر؛ لأن المكره مستحل لفرج المكرهة.
الثالثة والعشرون: أن المهر لا يجب بالخلوة، لأنه شرط المس في الفرج.
الرابعة والعشرون: أنه لا حد في وطء الشبهة.
الخامسة والعشرون: قال الشيخ أبو حامد: إن النسب يثبت بالوطء في الشبهة.
السادسة والعشرون: أن تحريم المصاهرة يثبت بوطء الشبهة.

(9/156)


السابعة والعشرون: أن العدة تجب على الموطوءة بالشبهة، لأن النسب إذا لحق به.. أوجب العدة.
الثامنة والعشرون: أن المرأة يجوز أن يكون لها جماعة أولياء، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن اشتجروا» ، وهذا إخبار عن جمع.
التاسعة والعشرون: أن السلطان ولي من لا ولي لها.
الثلاثون: أن الأولياء إذا عضلوا المرأة عن النكاح.. انتقلت الولاية إلى السلطان، لأن الاختلاف المراد في الخبر: أن يقول كل واحد منهم: لا أزوجها أنا، بل زوجها أنت.
فأما إذا قال كل واحد منهم: أنا أزوجها دونك.. فلا ينتقل إلى السلطان، بل يقرع بينهم، كما سيأتي بعد.

[فرع: حكم الحنفي في التزويج]
فرع: [يقبل حكم الحنفي في التزويج] :
وإذا تزوج رجل امرأة من نفسها، ثم ترافعا إلى حاكم شافعي، فإن كانا لم يترافعا إلى حاكم حنفي قبله.. حكم الشافعي بفساده وفرق بينهما، لأنه يعتقد بطلانه.
وإن كانا قد ترافعا قبله إلى حاكم حنفي فحكم بصحته.. فهل ينقض الشافعي حكمه؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: ينقض حكمه، ويحكم بفساده، لأن حكمه مخالف لنص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فنكاحها باطل» .
والثاني- وهو الأصح -: أنه لا يصح حكمه بفساده، لأن حكم الأول وقع فيما يسوغ فيه الاجتهاد، فهو كالحكم بالشفعة للجار.

[فرع: الحد بالجهل أو بتقليد مجتهد]
فرع: [سقوط الحد بالجهل أو بتقليد مجتهد] :
وإن تزوج رجل امرأة من نفسها فوطئها، فإن لم يعلم بتحريم الوطء، بأن كان جاهلا لا يعلم تحريمه، أو عاميا فقلد مجتهدا يرى تحليله، أو كان الواطئ حنفيا

(9/157)


يرى تحليله.. فلا حد عليه، لأنه موضع شبهة. وإن كان الواطئ شافعياً يعتقد تحريمه.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو بكر الصيرفي: يجب عليه الحد، لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «البغي: من أنكحت نفسها بغير ولي ولا بينة» . و (البغي) : الزانية.
ولما روي: (أن الطريق جمعت رفقة فيهم امرأة، فولت أمرها رجلاً منهم، فزوجها من رجل آخر، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ففرق بينهما، وجلد الناكح والمنكح) ولا مخالف له. ولأن أكثر ما فيه: حصول الاختلاف في إباحته، وذلك لا يوجب إسقاط الحد فيه، كشرب النبيذ.
والثاني- وهو قول أكثر أصحابنا، وهو المذهب - أنه لا حد عليه، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ادرؤوا الحدود بالشبهات» ، وحصول الاختلاف في إباحته من أعظم الشبهة. ولأن

(9/158)


النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يوجب عليه الحد في حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. وأما قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البغي: من أنكحت نفسها» فسماها بغيا على جهة المجاز، لتعلق بعض حكم البغي عليها، وهو: تحريم الوطء. وأما حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فإنما جلدهما على جهة التعزير، لا على جهة الحد، بدليل، أنه جلد المنكح، وبالإجماع: أنه لا حد عليه. وأما النبيذ: فالفرق بينهما: أن هذا الوطء يتردد بين الزنا والوطء في النكاح الصحيح، وشبهه في الوطء بالنكاح الصحيح أكثر، بدليل: أنه يجب فيه المهر والعدة، ويلحق به النسب، وإنما يشبه الزنا بتحريم الوطء لا غير، فكان إلحاقه بالوطء في النكاح الصحيح في إسقاط الحد أولى. والنبيذ ليس له إلا أصل واحد يشبهه، وهو: الخمر، لأنه شراب فيه شدة مطربة، وليس في الأشربة ما يشبه الخمر غيره، فألحقناه به.

[فرع النكاح المختلف فيه يتبعه الطلاق]
] : وإن تزوج رجل امرأة من نفسها وطلقها.. فهل يقع الطلاق عليها؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: يقع عليها طلاقه، لأنه نكاح مختلف في صحته، فوقع فيه الطلاق، كما لو تزوج امرأة ودخل بها وطلقها طلاقا بائنا، ثم تزوج أختها أو عمتها- قبل انقضاء عدة الأولى - وطلقها.. فإن نكاح الثانية مختلف في صحته، لأن مذهبنا: أنه يصح، ومذهب أبي حنيفة وأصحابه: أنه لا يصح. ولو طلق الثانية.. لوقع عليها الطلاق، وإن كان مختلفاً في نكاحها، فكذلك هذه مثلها.
والوجه الثاني - وهو المنصوص -: (أنه لا يقع عليها طلاقه) ، لأن الطلاق قطع الملك، فإذا لم يقع هناك ملك.. لم يقع الطلاق، كما لو اشترى عبداً شراء فاسداً ثم

(9/159)


أعتقه. ويخالف إذا تزوج امرأة ودخل بها في عدة أختها.. فإن النكاح هناك- عندنا- صحيح، فلذلك وقع عليها الطلاق، وهاهنا النكاح- عندنا- غير صحيح، فلم يقع عليها الطلاق.

[فرع النكاح الموقوف على الإجازة]
النكاح الموقوف على الإجازة لا يصح- عندنا - سواء كان موقوفاً على إجازة الولي، أو الزوج، أو الزوجة.
فالموقوف على إجازة الولي: أن يتزوج الرجل امرأة من رجل ليس بولي لها، ويكون موقوفاً على إجازة وليها، أو تزوج الأمة نفسها أو العبد نفسه بغير إذن السيد، ويكون موقوفاً على إجازة السيد.
وأما الموقوف على إجازة الزوج: فإن يزوج الرجل امرأة بغير إذنه، ويكون ذلك موقوفاً على إجازته.
وأما الموقوف على إجازة الزوجة: فأن يزوج الولي امرأة - يشترط إذنها في النكاح - بغير إذنها، ويكون موقوفاً على إجارتها.. فجميع هذه الأنكحة لا تصح- عندنا - وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال أبو حنيفة: (تصح هذه الأنكحة، فإن أجاز ذلك الموقوف على رضاه.. لزم، وإن رده.. بطل) .
وقال مالك: (يجوز أن يقف النكاح مدة قريبة، فإن تطاول الزمان.. بطل) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها.. فنكاحها باطل» . وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما عبد تزوج بغير إذن سيده.. فهو عاهر» . و: «أيما أمة نكحت بغير إذن وليها.. فنكاحها باطل» .

(9/160)


[فرع لا توجب المرأة النكاح بالوكالة]
المرأة لا تتوكل في قبول النكاح، ولا في إيجابه.
قال أبو حنيفة: (إذا وكل الولي امرأة في إيجاب النكاح، أو وكلها الزوج في القبول.. صح) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تنكح المرأة المرأة، ولا تنكح المرأة نفسها» . وهذا عام.
وروي عن ابن عمر، وابن عباس، وأبي موسى الأشعري، وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنهم قالوا: (المرأة لا تلي عقد النكاح) ، ولا مخالف لهم.
وروي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها حضرت نكاحاً، فخطبت، ثم قالت: (اعقدوا، فإن النساء لا يعقدن النكاح) فدل على: أنه إجماع.

[مسألة تزويج الأمة]
إذا ثبت: أن النكاح لا يصح إلا بالولي.. فلا تخلو المنكوحة: إما أن تكون حرة أو أمة. فإن كانت أمة.. نظرت: فإن كانت أمة لرجل يلي ماله.. زوجها. وإن كانت

(9/161)


لجماعة.. لم يصح نكاحها إلا باجتماعهم، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها.. فنكاحها باطل» . ولأنه عقد على منفعتها، فكان إلى الموالي، كالإجارة.
وإن كانت الأمة لامرأة.. فإنها لا تملك عقد النكاح عليها، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تنكح المرأة المرأة» . ولأنها إذا لم تملك عقد النكاح على نفسها.. فلأن لا تملك عقده على غيرها أولى، ومن الذي يعقد النكاح عليها؟
المشهور من المذهب: أنه يعقد النكاح عليها ولي مولاتها الذي يملك تزويجها وحكى صاحب" الفروع " وجهين آخرين:
أحدهما: أنه لا يزوجها إلا الحاكم.
والثاني: لا يصح تزويجها إلا باجتماع الحاكم وولي المولاة.
والأول أصح، لأنه لا ولاية للحاكم على مالها ولا في نكاحها مع وجود الولي، فلم يكن له ولاية في إنكاح أمتها.
إذا تقرر هذا: فإن كانت المولاة بالغة رشيدة.. لم يزوج وليها أمتها إلا بإذنها، سواء كانت المولاة بكراً أو ثيباً، لأنه تصرف في مالها، فلم يصح إلا بإذنها. وإن كانت المولاة صغيرة أو غير رشيدة وكان وليها أباها أو جدها، أو كانت الأمة للابن الصغير والناظر في ماله أباه أو جده.. فهل يملك تزويج أمتهما؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا يملك لأن في ذلك تغريراً بها، لأنه قد تحبل فتموت منه.
و [الثاني] : منهم من قال: يملك، وهو الصحيح، لأن في ذلك حظا لهما: لأنهما يستفيدان به ملك المهر وملك الولد. وما ذكره الأول من خوف الموت على الأمة.. فنادر، ألا ترى أن الأب يزوج ابنته بغير إذنها، وإن جاز أن تحبل فتموت من الولادة؟.

(9/162)


وإن كان ولي الصغيرة غير الأب والجد من العصبات.. لم يجز له أن يزوج أمتها، لأنه لا ولاية له على مالها.
فإن أعتقت المرأة أمتها، فإن كان للأمة المعتقة ولي من جهة النسب.. زوجها، ولا يفتقر إلى إذن المولاة المعتقة. وإن كان لا ولي للأمة المعتقة من جهة النسب.. زوجها ولي مولاتها، ولا يصح إنكاحها إلا بإذن الأمة المعتقة إن كانت من أهل الإذن، وهل يفتقر إلى إذن المولاة؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في" الإبانة "] .
وإن كانت الأمة المعتقة صغيرة أو مجنونة.. لم يصح نكاحها، لأن إذنها معتبر، وليست من أهل الإذن.
وإن أعتقت المولاة أمتها وماتت وخلفت أباها وابنها.. ففيمن يلي عقد النكاح على الأمة المعتقة؟ وجهان:
أحدهما: يزوجها ابنها، لأن الولاء قد صار له.
والثاني - وهو اختيار أبي علي الطبري -: أنه يزوجها الأب، لأن الولاء كان للمولاة فانتقل ذلك إلى أبيها، وعقد النكاح لم يكن للمولاة، وإنما كان لوليها، فلم ينتقل ذلك عن الولي إلى الابن.

[فرع شراء العبد المأذون له في التجارة جارية]
وإن دفع إلي عبده مالاً، وأذن له في التجارة فيه، فاشترى العبد جارية، فإن كان على المأذون له دين.. لم يزل ملك السيد عن المال والجارية التي في يد العبد.
وقال أبو حنيفة: (إذا كان الدين يستغرق ما في يده.. زال ملك السيد عما في يد العبد) .
دليلنا: أن قبل ثبوت الدين على العبد ملك السيد ثابت على الجارية وعلى ما في يد العبد، فلا يزول ملك السيد بتعلق حق الغرماء به، كما لو جنى العبد.. فإن ملك السيد لا يزول عنه.

(9/163)


إذا ثبت هذا: فإن أراد السيد أن يطأ هذه الأمة أو يزوجها.. لم يجز له ذلك، لتعلق حق الغرماء بها، لأنها ربما حبلت من وطء السيد أو نقصت قيمتها بالنكاح، فلم يملك ذلك، كالمرهونة. فإذا أبرأ الغرماء العبد من الدين أو قضى الدين.. فهل للسيد وطء الأمة أو تزويجها؟ ينظر فيه:
فإن حجر السيد على العبد ومنعه من التصرف.. كان له ذلك. وإن لم يقطع تصرفه ولا حجر عليه.. ففيه وجهان:
أحدهما: له ذلك، وهو الأقيس، لأنها ملكه لا حق فيها لغيره، فهو كما لو حجر عليه.
والثاني: ليس له ذلك، وهو ظاهر النص، لأن في ذلك تعزيراً بالناس، لأنهم يعاملونه ويداينونه ظنا منهم أن حقهم يتعلق بما في يده، وربما تلفت بذلك.

[مسألة ترتيب أولياء المرأة]
وإن كانت المنكوحة حرة.. فأولى الولاة بتزويجها الأب، لأن سائر الأولياء يدلون به، ولأن القصد بالولي طلب الحظ لها، والأب أشفق عليها وأطلب للحظ لها من غيره.
فإن لم يكن أب، وهناك جد أبو أب، أو جد من أجداد الأب الوارثين وإن علا.. فهو أولى من الأخ.
وحكي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه قال: (الأخ أولى من الجد) .
دليلنا: أن الجد له ولاية وتعصيب، فكان مقدماً على الأخ، كالأب. فإن قيل: هلا قلتم: إن الجد يساوي الأخ في الولاية، كما قلتم في الميراث؟
قلنا: الفرق بينهما: أن الميراث يستحق بالتعصيب المحض، ولهذا قدم الابن على الأب في الميراث، والأخ يساوي الجد في التعصيب، أو هو أقوى من الجد في

(9/164)


التعصيب، بدليل: أنه يعصب أخواته، وإنما لم يقدم عليه في الميراث، للإجماع، فلذلك سوينا بينهما في الإرث. والولاية في النكاح تستحق بالشفقة وطلب الحظ، بدليل: أن الابن لا ولاية له على أمه، لذلك، والجد أكثر شفقة عليها من الأخ، فكان أولى.
فإن عدم الأجداد من قبل الأب.. انتقلت الولاية إلى الإخوة للأب والأم، أو للأب، ثم إلى بنيهم.. ويقدمون على الأعمام وبنيهم، لأنهم يدلون بالأب، والأعمام يدلون بالجد، والأب أقرب من الجد.
فإن عدم الإخوة وبنوهم.. انتقلت الولاية إلى الأعمام، ثم إلى بنيهم. ويقدمون على أعمام الأب وبنيهم، لأن الأعمام يدلون بالجد، وأعمام الأب يدلون بأبي الجد.
وعلى هذا: يقدم الأقرب فالأقرب، كما قلنا في الميراث.

[فرع اجتماع الوليين للمرأة]
وإن اجتمع وليان أحدهما: يدلي بالأب والأم، والآخر: يدلي بالأب، كأخوين أو عمين أو ابني عم، أحدهما لأب وأم والآخر لأب.. ففيه قولان:
قال في القديم: (هما سواء) - وبه قال مالك وأحمد وأبو ثور - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لأن ولاية النكاح تستفاد بالانتساب إلى الأب، بدليل: أن الأخ للأم لا ولاية له في النكاح، وهما في الانتساب إلى الأب سواء، فاستويا في الولاية.
وقال في الجديد: (إن المدلي بالأب والأم أولى) . وبه قال أبو حنيفة، وهو الصحيح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] [الإسراء:33] ولو قتل رجل وله أخ لأب وأم، وأخ لأب.. لكان القصاص للأخ للأب والأم دون الأخ للأب، فثبت: أنه لا ولاية له معه. ولأنه حق يستحق بالتعصيب، فقدم المدلي بالأبوين على المدلي بأحدهما، كالإرث.
وهكذا القولان في التقدم في الصلاة على الميت، وفي العقل.
وأما الإرث والولاء والوصية للأقرب: فإن المدلي بالأب والأم أولى قولاً واحداً.

(9/165)


وإن اجتمع ابنا عم، أحدهما معتق أو أخ لأم.. فهل يقدم في ولاية النكاح، والصلاة على الميت، والعقل؟ فيه قولان، كأخوين أحدهما لأب وأم والآخر لأب، وإن اجتمع ابنا عم، أحدهما خال.. لم يقدم قولاً واحداً، لأنه لا مدخل للخؤولة في الميراث.

[فرع اجتماع أكثر من ولي للمرأة في درجة واحدة]
وإن اجتمع للمرأة أولياء في درجة واحدة، كالإخوة أو بنيهم، أو الأعمام أو بنيهم.. فالمستحب: أن يقدم أكبرهم سنا وأعلمهم وأورعهم، لما روي: أن حويصة ومحيصة دخلا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبدأ محيصة بالكلام، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كبر، كبر» يعني: قدم أخاك في الكلام، لأنه أكبر سنا منك. ولأن الأكبر أخبر بالناس، فكان أولى، والأعلم أعرف بشروط العقد، والأورع أحرص على طلب الحظ لها.
فإن زوجها أحدهم بإذنها من غير إذن الباقين.. صح وإن كان أصغرهم سنا، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أنكح الوليان.. فالأول أحق» . ولأن كل واحد منهم ولي.

(9/166)


فإن تشاحوا، وقال كل واحد منهم: أنا أزوج، ولم يقدموا الأكبر الأعلم الأورع.. أقرع بينهم لاستواء استحقاقهم في الولاية، لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أراد أن يسافر بإحدى نسائه.. أقرع بينهن» .
فإن خرجت القرعة لأحدهم فزوج، أو أذن لغيره من الأولياء الباقين أو غيرهم.. صح. وإن زوج واحد ممن لم تخرج عليه القرعة بإذن المرأة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح، لأن خروج القرعة لأحدهم لا يبطل ولاية الباقين، كما لو زوجها أحدهم قبل القرعة.
والثاني: لا يصح، لأن الفائدة في خروج القرعة أن تتعين الولاية بمن خرجت له القرعة، فلو صححنا عقد غيره بغير إذنه.. لبطلت فائدة القرعة.

[فرع تزويج المعتقة]
فإن كانت المنكوحة معتقة.. زوجها وليها من النسب، ويقدم على المولى. فإن لم يكن لها ولي من النسب.. زوجها المولى المعتق، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لحمة، كلحمة النسب» . وقد ثبت أن النسب يستحق به ولاية النكاح، فكذلك الولاء.
فإن أعتقها جماعة.. لم يصح نكاحها إلا باجتماعهم، بخلاف ما لو كان للمرأة أولياء من جهة النسب في درجة واحدة.. فإن النكاح يصح من واحد منهم بغير إذن الباقين. والفرق بينهما: أن الولاية من جهة الولاء مستحقة بالإعتاق، وكل واحد منهم أعتق بعضها، فلم يثبت له الولاء على جميعها. والولاية من جهة النسب مستحقة بالنسب، وكل واحد من أولياء النسب مناسب لها.
فإن أعتق رجل جارية ومات، وخلف ابنين، فزوجها أحدهما بإذنها.. صح، لأنهما يتلقيان الولاية من أبيهما، فهما كالوليين من النسب، بخلاف ما لو أعتقاها.
فإن عدم المولى المعتق.. زوجها عصباته، الأقرب فالأقرب منهم. فإن

(9/167)


عدموا.. زوجها مولى المولى، ثم عصبة مولى المولى، كما قلنا في الميراث. فإن لم يكن للمرأة ولي من جهة النسب ولا من جهة الولاء.. زوجها السلطان، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «السلطان ولي من لا ولي له» .

[مسألة تزويج الولد أمه]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا يزوج المرأة ابنها إلا أن يكون عصبة) .
وجملة ذلك: أن الابن لا ولاية له على أمه في النكاح من جهة البنوة..
وقال مالك، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وأحمد، وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: (يثبت له عليها ولاية النكاح بالبنوة) . واختلفوا في ترتيب ولايته:
فذهب مالك وأبو يوسف وإسحاق إلى (أنه مقدم على الأب) .
وذهب محمد وأحمد إلى: (أن الأب مقدم عليه) .
وذهب أبو حنيفة إلى: (أنهما سواء) .
دليلنا - على أنه لا ولاية له-: أن بين الابن وأمه قرابة، لا ينتسب أحدهما إلى الآخر ولا ينتسبان إلى من هو أعلى منهما، فلم يكن له عليها ولاية، كابن الأخت.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولأن ولاية النكاح إنما وضعت طلبا لحظ المرأة والإشفاق عليها، والابن يعتقد أن تزويج أمه. عار عليه، فلا يطلب لها الحظ ولا يشفق عليها، فلم يستحق الولاية عليها) .
فإن كان ابنها من عصبتها، بأن كان ابن ابن عمها.. كان وليا لها في النكاح، لأنهما ينتسبان إلى من هو أعلى منهما، فجاز له تزويجها، كتزويج الأخ لأخته للأب.
وإن كان لها ابنا ابن عم، أحدهما ابنها.. ففيه قولان:
أحدهما: أنهما سواء.

(9/168)


والثاني: أن ابنها أولى: كالقولين في الأخوين أحدهما لأب وأم والآخر لأب.
وهكذا: إذا كان ابنها مولاها أو كان حاكماً.. فله عليها ولاية من جهة الولاء والحكم لا من جهة البنوة.

[فرع لا يزوج الأخ لأم]
وإن كانت له أخت لأم لا قرابة بينهما غير ذلك.. لم يملك تزويجها.
وقال أبو حنيفة في إحدى الروايتين: (له تزويجها) .
دليلنا: أنه لا تعصيب بينهما، فلم يملك تزويجها، كالأجنبي.

[مسألة ولاية العبد والصغير والمحجور عليه]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا ولاية للعبد بحال) . وهذا صحيح، فلا ولاية للعبد على مناسيبه في النكاح، لأنه ناقص بالرق، بدليل: أنه لا يرث ولا يشهد، وولاية النكاح مبنية على الكمال، فلم تثبت مع وجود النقص.
وكذلك لا ولاية للصغير، لأن الولي يراد لطلب الحظ للمرأة، والصبي لا معرفة له في طلب الحظ، ولهذا لا يلي التصرف في ماله.
وفي المحجور عليه للسفه وجهان:
أحدهما: أنه ليس بولي في النكاح، لأنه لا يملك التصرف في ماله، فلم يكن وليا في النكاح، كالصبي.
والثاني: أنه ولي في النكاح، لأنه إنما حجر عليه في ماله خوفاً عليه من إضاعته، وقد أمن ذلك في تزويج وليته.

(9/169)


[مسألة كون الولي مرشداً]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في" البويطي ": (لا يكون الولي إلا مرشداً) . وقال في موضع: (وولي الكافرة كافر) ، وهذا يقتضي ثبوت الولاية لفاسق.
واختلف أصحابنا في الفاسق: هل هو ولي في النكاح أم لا، على خمسة طرق:
فـ[الأول] : قال الشيخ أبو حامد: الفاسق ليس بولي في النكاح قولاً واحداً.
و [الثاني] : قال القفال: الفاسق ولي في النكاح قولاً واحداً.
و [الثالث] : قال أبو إسحاق المروزي: إن كان الولي ممن يجبر على النكاح، كالأب والجد في تزويج البكر.. لم يصح أن يكون فاسقاً، لأنه يزوج بالولاية، والولاية لا تثبت مع الفسق، كفسق الحاكم والوصي. وإن كان ممن لا يجبر على النكاح، كمن عدا الأب والجد من الأولياء، وكتزويج الأب والجد للثيب.. صح تزويجه وإن كان فاسقاً، لأنه يزوج بإذنها، فهو كالوكيل.
و [الرابع] : من أصحابنا من قال: إن كان الفاسق مبذرا في ماله.. لم يجز أن يكون وليا في النكاح. وإن كان رشيداً في أمر دنياه.. كان وليا في النكاح.
و [الخامس] : من أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: أن الفاسق ولي في النكاح بكل حال- وهو قول مالك وأبي حنيفة رحمهما الله- لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] [النور: 32] : وهذا خطاب للأولياء، ولم يفرق: بين العدل، والفاسق: ولأن الكافر لما ملك تزويج ابنته الكافرة، والمسلم الفاسق أعلى منه.. فلأن يملك تزويج وليته أولى.
والثاني: لا يصح أن يكون وليا بحال، وهو المشهور من المذهب، لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «لا نكاح إلا بولي مرشد، وشاهدي عدل» ، وفي رواية: «لا نكاح إلا بولي مرشد، أو سلطان» . وروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: (لا نكاح إلا بولي مرشد، وشاهدي عدل) . ولا مخالف له. والمرشد: من

(9/170)


أسماء المدح، والفاسق: ليس بممدوح. ولأنه تزويج في حق الغير، فنافاه الفسق في دينه، كفسق الحاكم. فقولنا: (تزويج) احتراز من ولاية القصاص. وقولنا: (في حق الغير) احتراز من تزويج الفاسق لأمته، فإنه تزويج في حقه، بدليل: أنه يجب له المهر. وقولنا: (في دينه) احتراز من تزويج الكافر لابنته الكافرة، لأنه ليس بفسق في دينه.
ولأن الولي إنما اشترط في العقد لئلا تحمل المرأة شهوتها على أن تضع نفسها في غير كفء، أو تزوج نفسها في العدة، فيلحق العار بأهلها، وهذا المعنى موجود في الفاسق، لأنه لا يؤمن أن يحمله فسقه على أن يضع المرأة في أحضان غير كفء، أو يزوجها في العدة، فيلحق العار بأهلها، فلم يجز أن يكون وليا. وأما الآية: فلا نسلم له أنها تنصرف إلى الفاسق، لأنه ليس بولي عندنا، وإن سلمنا.. فإنها مخصوصة بالخبر.. وأما الكافر: فإنما يصح أن يزوج ابنته الكافرة إذا كان رشيداً في دينه، لأنه مقر عليه، بخلاف الفاسق.
إذا ثبت هذا: وقلنا الفاسق ليس بولي.. فقد قال المسعودي [في" الإبانة "] : واختلف أصحابنا في الفسق الذي يخرجه عن ولاية النكاح:
فمنهم من قال: شرب الخمر فحسب، لأنه إذا كان يشربها.. فإنه يميل إلى من هو في مثل حاله.
ومنهم من قال: جميع الفسق بمثابته.

[فرع تأثير السفه والضعف على الولاية]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن كان الولي سفيها، أوضعيفا، غير عالم بموضع الحظ، أو سقيماً مؤلماً، أو به علة تخرجه عن الولاية.. فهو كمن مات، فإذا صلح.. صار وليا) .
قال أصحابنا: أما (السفيه) : ففيه تأويلان:
أحدهما: أنه أراد المبذر المفسد لماله، فحجر عليه لذلك.

(9/171)


و [الثاني] : قيل: بل أراد الذي حجر عليه بجنونه.
وأما (الضعيف) : فله تأويلان أيضاً:
أحدهما: أنه أراد الصغير.
والثاني: أنه أراد به الشيخ الذي قد ضعف نظره عن معرفة موضع الحظ لها.
وأما (السقيم) : فمن كان به سقم شديد قد نقص نظره وأخرجه عن طلب الحظ لها.
وأما (المؤلم) : فهو صفة للسقيم، وهو السقيم الذي اشتد به الألم إلى أن أخرجه عن النظر. وروي: (أو سقيما موليا) فيكون معناه: السقيم الذي صار موليا عليه من قلة تمييزه.
وأما الذي (به علة) : فالمراد به إذا قطعت يده، أو رجله، أو أصابه جرح عظيم أخرجه عن حد التمييز، فلأن ولايته تزول.
فإن زالت هذه الأسباب.. عادت ولايته، لأن المانع وجود هذه الأسباب، فزال المنع بزوالها.

[فرع فقدان الأهلية في وقت دون آخر وولاية السكران والأخرس]
قال الطبري: إذا كان الولي يجن يوماً، ويفيق يوماً، أو يغمى عليه يوماً، ويفيق يوماً.. فهل يخرجه ذلك عن الولاية؟ فيه وجهان.
وأما السكران: فإن قلنا: إن الفاسق ليس بولي.. فهذا فاسق. وإن قلنا الفاسق ولي.. فهل يخرج السكران عن الولاية؟ فيه وجهان كالمجنون غير المطبق.

(9/172)


والإحرام بالحج، هل يخرجه من الولاية؟ فيه وجهان أيضاً.
فإن قلنا: يخرجه.. زوج من دونه من الأولياء. وإن قلنا: لا يخرجه.. زوجها السلطان.
وأما الأخرس: إذا كانت له إشارة مفهومة.. كان وليا في النكاح. وإن لم تكن له إشارة مفهومة.. فليس بولي في النكاح.

[فرع ولاية الأعمى في النكاح]
وهل يصح أن يكون الأعمى وليا في النكاح؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح، لأنه قد يحتاج إلى النظر في اختيار الزوج لها، لئلا يزوجها بمعيب، أو دميم.
والثاني: يصح، وهو الصحيح، لأن شعيباً - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان أعمى، وزوج ابنته من موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.

[مسألة ولي الكافرة كافر]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وولي الكافرة كافر، ولا يكون المسلم وليا لكافرة إلا على أمته) .
وجملة ذلك: أنه إذا كان للكافر ابنة مسلمة.. فإنه لا ولاية له عليها، فإن كان لها ولي مسلم.. زوجها، وإلا.. زوجها الحاكم، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] الآية [التوبة: 71] :
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أراد أن يتزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وكانت مسلمة، وأبو سفيان كافراً.. وكل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عمرو بن أمية الضمري، فتزوجها له من ابن عمها خالد بن سعيد بن العاص، وكان مسلماً» .

(9/173)


وإن كان للمسلم ابنة كافرة.. فلا ولاية له عليها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] [الأنفال:73] :، فدل على: أنه لا ولاية للمسلم عليها.. فإن كان لها ولي كافر.. زوجها، للآية. وإن لم يكن لها ولي كافر.. زوجها الحاكم لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فالسلطان ولي من لا ولي له» ، ولم يفرق. ولأن ولايته عامة، فدخلت فيها المسلمة والكافرة.
وإن كان للمسلم أمة كافرة.. فهل له عليها ولاية في النكاح؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: له عليها ولاية، وهو المنصوص، لأنها ولاية مستفادة بالملك، فلم يمنع اختلاف الدين منها، كالفسق لما لم يؤثر في منع تزويج أمته، فكذلك كفرها.
و [الثاني] : منهم من قال: ليس بولي لها، لأنه إذا لم يملك تزويج ابنته الكافرة.. فلأن لا يملك تزويج أمته الكافرة أولى. وحمل النص على الولاية في عقد البيع والإجارة.. والأول أصح.
وإن كان للكافر أمة مسلمة.. فهل له أن يزوجها؟ قال ابن الصباغ: فيه وجهان، كما قلنا في تزويج المسلم لأمته الكافرة.

[مسألة تقديم الأولى في الولاية]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا ولاية لأحد، وثم أولى منه) .
وجملة ذلك: أنه إذا كان للمرأة وليان، أحدهما أقرب من الآخر.. فإن الولاية للأقرب، فإن زوجها من بعد..لم يصح.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يصح) .

(9/174)


دليلنا: أنه حق مستحق بالتعصيب، فلم يثبت للأبعد مع الأقرب، كالميراث.
فإن خرج الولي الأقرب عن أن يكون وليا، باختلاف الدين، أو الفسق، أو الجنون، أو الصغر.. انتقلت الولاية إلى الولي الأبعد، لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج أم حبيبة من ابن عمها مع وجود أبيها، لكون أبيها كافراً) ، فإذا ثبت ذلك في الكفر.. كان في الفسق والجنون والصغر مثله، لأن الجميع يمنع ثبوت ولاية النكاح.
وإن أعتق رجل أمة ومات، وخلف ابنا صغيراً، وأخا لأب كبيراً، وأرادت الجارية النكاح، ولا مناسب لها،.. فلا أعلم فيها نصاً، والذي يقتضي المذهب: أن ولاية نكاحها لأخ المعتق، لأن الولاية في الولاء فرع على ولاية النسب، وولاية ابنة الميت لأخيه ما دام الابن صغيراً، وكذلك ولاية المعتقة.

[فرع تعود الولاية بزوال سبب قطعها]
وإن زال السبب الذي أوجب قطع الولاية في الأقرب.. عادت ولايته، لأن المانع قد زال. فإن كان الولي الأبعد قد زوجها قبل زوال المانع.. صح النكاح. وإن كان زوجها الأبعد بعد زوال المانع، وبعد علمه بزوال المانع.. لم يصح، كما لو باع الوكيل ما وكل في بيعه بعد العزل، وبعد علمه بالعزل. وإن زوج بعد زوال المانع، وقبل علمه بزواله.. ففيه وجهان، بناء على القولين في الوكيل إذا باع بعد العزل وقبل علمه بالعزل.

[فرع يزوج الحاكم عند امتناع الولي من الكفء]
فإن دعت المرأة أن تزوج بكفء، فامتنع الولي.. زوجها الحاكم، ولا تنتقل الولاية إلى من بعد العاضل من الأولياء، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن اشتجروا.. فالسلطان ولي من لا ولي له»
ولأن النكاح حق لها، فإذا تعذر ذلك من جهة وليها.. كان على الحاكم استيفاؤه، كما لو كان لها على رجل دين، فامتنع من بذله.. فإن الحاكم ينوب عنه في الدفع من مال الممتنع.

(9/175)


[مسألة تزويج السلطان عند مغيب الولي]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإن كان أولاهم بها مفقوداً، أو غائبا غيبة بعيدة كانت أو قريبة.. زوجها السلطان) .
وجملة ذلك: أنه إذا كان للمرأة أب وجد، فغاب الأب، وحضر الجد ودعت المرأة إلى تزويجها لكفء.. نظرت:
فإن كان الأب مفقوداً، بأن انقطع خبره، ولا يعلم أنه حي أو ميت.. فإن الولاية لا تنتقل إلى الجد، وإنما يزوجها السلطان، لأن ولاية الأب باقية عليها، بدليل: أنه لو زوجها في مكانه.. لصح، وإنما تعذر ذلك لغيبته، فناب عنه الحاكم، كما لو غاب وعليه دين.. فإن الحاكم ينوب عنه في الدفع من ماله دون الأب.
وإن غاب الأب غيبة غير منقطعة، بأن يعلم أنه حي.. نظرت:
فإن كان على مسافة تقصر إليها الصلاة.. جاز للسلطان تزويجها، لأن في استئذانه مشقة، فصار كالمفقود. وإن كان على مسافة لا تقصر فيها الصلاة.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: يجوز للحاكم تزويجها، وهو المذهب، لأن في استئذانه إلحاق مشقة، فهو كما لو كان على مسافة القصر.
ومنهم من قال: لا يجوز له تزويجها، لأنه في حكم الحاضر، بدليل: أنه لا يجوز له القصر والفطر، فهو كما لو كان في البلد.
هذا مذهبنا، وبه قال زفر.
وحكى ابن القاص قولا آخر: أن الولاية تنتقل إلى من بعده من الأولياء.. وليس بمشهور.
وقال أبو حنيفة، ومحمد، وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: (إن غاب الأب غيبة منقطعة.. جاز للجد تزويجها، وإن كانت غيبته غير منقطعة.. لم يجز للجد تزويجها) .
واختلف أصحاب أبي حنيفة في حد المنقطعة:

(9/176)


فمنهم من قال: من الرقة إلى البصرة.
ومنهم من قال: من بغداد إلى الري.
وقال محمد: إذا سافر من إقليم إلى إقليم، كمن يسافر من الكوفة إلى بغداد.. فهي منقطعة، وإذا كان في إقليم واحد.. فهي غير منقطعة.
ومنهم من قال: (المنقطعة) : التي لا تجيء منها القافلة في السنة إلا مرة واحدة.
دليلنا: أن كل ولاية لم تنقطع بالغيبة القريبة.. لم تنقطع بالغيبة البعيدة، كولاية المال.
إذا ثبت هذا: فإن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (وإذا غاب الولي، وأراد الحاكم تزويجها.. استحب له أن يستدعي عصباتها، وإن لم يكونوا أولياء، فإن لم يكن لها عصبات.. فذوي الأرحام والقرابات لها، فيسألهم عن حال الزوج، ويستشيرهم في أمره، لتستطيب بذلك نفوسهم) ، لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر نعيماً أن يشاور أم ابنته في تزويجها» ، وإن لم يكن لها ولاية. فإن قالوا: إنه كفء.. زوجها.
قال الشيخ أبو إسحاق: ويستحب له أن يأذن لمن تنتقل الولاية إليه ليزوجها، ليخرج من الخلاف.
فإن زوجها الحاكم بنفسه، أو أذن لأجنبي أن يزوجها، ولم يشاورهم.. صح ذلك لأن الولاية له.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا يزوجها ما لم يشهد شاهدان: أنه ليس لها ولي حاضر، وليست في نكاح أحد ولا عدته) .

(9/177)


قال المسعودي [في: " الإبانة "] : فمن أصحابنا من قال: هذا واجب.
ومنهم من قال: هذا مستحب.

[مسألة إجبار الولي على النكاح]
وأما الإجبار على النكاح: فلا تخلو المنكوحة: إما أن تكون حرة، أو أمة.
فإن كانت حرة.. نظرت:
فإن كانت عاقلة، فلا تخلو: إما أن تكون بكراً، أو تكون ثيباً.
فإن كانت بكراً، فلا تخلو: إما أن تكون صغيرة، أو كبيرة، فإن كانت صغيرة.. جاز للأب تزويجها بغير إذنها، بلا خلاف، والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] .
وتقديره: وكذلك عدة اللائي لم يحضن، وإنما يجب على الزوجة الاعتداد من الطلاق بعد الوطء، فدل على: أن الصغيرة التي لم تحض يصح نكاحها، ولا جهة يصح نكاحها معها إلا أن يزوجها أبوها.
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «تزوجني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا ابنة سبع سنين، ودخل بي وأنا ابنة تسع سنين» ، ومعلوم أنه لم يكن لإذنها حكم في تلك الحال، فعلم أن أباها زوجها بغير إذنها.
ويجوز للأب والجد إجبارها على النكاح، ولا يجوز لغيرهما من الأولياء تزويجها قبل أن تبلغ.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا يجوز للجد) .
وقال أبو حنيفة: (يجوز للأب، والجد، وسائر العصبات، والحاكم إجبارها

(9/178)


على النكاح، إلا أنها إذا زوجها غير الأب والجد. ثبت لها الخيار في فسخ النكاح إذا بلغت) .
دليلنا على مالك - رحمة الله عليه: - أن للجد ولاية وتعصيباً، فجاز له إجبار البكر، كالأب.
وعلى أبي حنيفة: «ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: زوجني خالي قدامة بن مظعون ابنة أخيه عثمان بن مظعون، فجاء المغيرة بن شعبة إلى أمها، فأرغبها في المال، فمالت إليه، وزهدت في، فقالت أمها: يا رسول الله بنتي تكره ذلك، فقال قدامة: يا رسول الله أنا عمها، ووصي أبيها، وقد زوجتها من عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وقد عرفت فضله وقرابته، وما نقموا منه إلا أنه لا مال له، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنها يتيمة، وإنها لا تنكح إلا بإذنها» . ولأن غير الأب والجد لا يلي مالها بنفسه، فلم يملك إجبارها على النكاح، كالأجنبي.
إذا ثبت هذا: فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في القديم: (أستحب للأب أن لا يزوجها حتى تبلغ، لتكون من أهل الإذن، لأنه يلزمها بالنكاح حقوق) .
قال الصيمري: وإذا قاربت البلوغ، وأراد تزويجها.. فالمستحب أن يرسل إليها نساء ثقات وينظرن ما عندها.
وإن كانت البكر بالغا.. فللأب والجد إجبارها على النكاح، وإن أظهرت الكراهية. وبه قال ابن أبي ليلى، وأحمد، وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى.

(9/179)


وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (للأب إجبارها دون الجد) .
وقال أبو حنيفة، وأصحابه، والثوري، والأوزاعي: (لا يجوز لأحد إجبارها) .
دليلنا- على مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أن الجد له تعصيب وولاية، فملك إجبار البكر على النكاح، كالأب.
وعلى أبي حنيفة: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها» ، فلما جعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثيب أحق بنفسها من وليها.. دل على: أن الولي أحق بالبكر. والمراد بالولي هاهنا الأب والجد، بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اليتيمة تستأمر في نفسها، فإن صمتت.. فهو إذنها، وإن أبت.. فلا جواز عليها» وأراد باليتيمة: التي لا أب لها، وسماها يتيمة بعد البلوغ استصحاباً لاسمها

(9/180)


قبل البلوغ، فلما أوجب استئذان اليتيمة.. دل على: أن غير اليتيمة لا تستأذن، ومن لها أب أو جد.. فليست بيتيمة.
إذا ثبت هذا: فإن زوج الأب أو الجد البكر البالغ.. فالمستحب لهما: استئذانها، وإذنها صماتها، للخبر، ولأنها تستحيي أن تأذن بالنطق. فإن لم يستأذناها.. جاز، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن» فقصد بذلك التفرقة بينهما، فلو قلنا: إن استئذان البكر واجب.. لما كان بينهما فرق.
وإن زوج البكر البالغ غير الأب والجد من الأولياء.. لم يصح حتى تستأذن، وهو إجماع لا خلاف فيه.. وفي إذنها وجهان:
أحدهما: لا يحصل إلا بنطقها، لأن كل من يفتقر نكاحها إلى إذنها.. افتقر إلى نطقها مع قدرتها على النطق، كالثيب.
والثاني- وهو المذهب -: أنها إذا استؤذنت، فصمتت.. كان ذلك إذنا منها في النكاح، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اليتيمة تستأمر في نفسها، فإن صمتت.. فهو إذنها» . ولأنها تستحيي أن تأذن بالنطق، بخلاف الثيب.
قال أصحابنا المتأخرون: فإن استأذنها وليها في أن يزوجها بأقل من مهر مثلها، أو بغير نقد البلد، فصمتت.. لم يكن ذلك إذنا منها في ذلك، لأن ذلك مال، فلا يكون صموتها إذنا فيه.. كما لو استأذنها في بيع مالها فصمتت، بخلاف النكاح.
وإن كانت المنكوحة ثيباً، نظرت:

(9/181)


فإن ذهبت بكارتها بالوطء في نكاح أو ملك أو شبهة، فإن كانت بالغة.. لم يجز لأحد من الأولياء إجبارها على النكاح، سواء كان الولي أبا أو جداً أو غيرهما، لما روي: «أن خنساء بنت خدام الأنصارية زوجها أبوها وهي ثيب، فكرهت ذلك، فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نكاحها» . وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ليس للولي مع الثيب أمر» . قال الشيخ أبو حامد: وهو إجماع لا خلاف فيه.
ولا يصح نكاحها إلا بإذنها، ولا يصح إذنها بنطقها مع قدرتها على النطق، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها» ، فلما جعل إذن البكر الصمت.. دل على: أن إذن الثيب النطق. فإن كانت خرساء، وأشارت إلى الإذن بما يفهم منها.. صح تزويجها.
وإن كانت الثيب صغيرة.. لم يجز لأحد من الأولياء تزويجها قبل البلوغ، سواء كان الولي أبا، أو جداً، أو غيرهما.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: (يجوز للأب والجد وغيرهما من الأولياء إجبارها على النكاح) .، و (الإجبار) : عندهم يختلف بصغر المنكوحة وكبرها، وعندنا: يختلف ببكارتها وثيوبتها.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس للولي مع الثيب أمر» . ولم يفرق. ولأنها حرة سليمة

(9/182)


ذهبت بكارتها بجماع، فلم تجبر على النكاح، كالثيب الكبيرة.
وقولنا: (حرة) احتراز من الأمة. وقولنا: (سليمة) احتراز من المجنونة.
وقولنا: (بجماع) احتراز ممن ذهبت بكارتها بوثبة أو تعنيس.

[فرع ذهاب عذرة المرأة واعتبار إذنها]
وإن ذهبت بكارتها بالزنا.. فهو كما لو ذهبت بكارتها بالجماع في النكاح، فيكون حكمها حكم الثيب في الإذن.
وقال أبو حنيفة: (حكمها حكم البكر) .
دليلنا: أنها حرة سليمة، ذهبت بكارتها بجماع، فهو كما لو ذهبت بكارتها بنكاح.
وإن ذهبت بكارتها بوثبة أو تعنيس.. ففيه وجهان:
أحدهما: حكمها حكم الموطوءة بالنكاح، لأنها ثيب.
والثاني: حكمها حكم البكر في الإذن، وهو المذهب، لأن الثيب إنما اعتبر إذنها بالنطق، لذهاب الحياء بالوطء، وهذا الحياء لا يذهب بغير الوطء، بخلاف الزانية، فإنها إذا لم تستح من مباضعة الرجال على الزنا والإقدام عليه.. لم تستح من النطق بالإذن.
قال الصيمري: وإن خلقت المرأة لا بكارة لها.. فهي كالبكر.
وإن ادعت المرأة البكارة، أو الثيوبة.. قال الصيمري ": فالقول قولها، ولا يكشف عن الحال، لأنها أعلم بحالها.

(9/183)


[فرع ادعاء المزوجة وجود مانع كالرضاع]
قال ابن الحداد: إذا زوج الرجل ابنته البكر البالغ بغير إذنها، فلما بلغها ذلك.. قالت: أنا أخته من الرضاع - تعني: الزوج - أو تزوجني أبوه قبله، أو غير ذلك من الأسباب المحرمة.. فالقول قولها مع يمينها، ويبطل النكاح. وإن كانت ثيبا فزوجها وليها بإذنها، أو زوجها أبوها وهي بكر بغير إذنها فمكنت الزوج من وطئها، ثم ذكرت سببا يوجب التحريم.. لم يقبل قولها، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فيمن ضل له عبد، فأخذه الحاكم، ورأى المصلحة في بيعه فباعه، أو باعه الحاكم بدين عليه وهو غائب، ثم قدم وادعى: أنه كان قد أعتقه قبل ذلك.. قبل قوله فيه مع يمينه، ولو باعه المالك بنفسه، أو باعه الحاكم عليه- وهو حاضر -لدين عليه امتنع منه، ثم ادعى بعد البيع: أنه كان أعتقه أو أوقفه.. لم يقبل قوله في ذلك.
فمن أصحابنا من صوب ابن الحداد، ومنهم من خطأه وقال: لا يقبل قولها بحال، لأن لها غرضا في أعيان الأزواج، وربما كرهت زوجها وطلبت غيره، فلا تصدق على ما يوجب بطلان نكاحها، كما إذا أقر العبد بجناية خطأ، أو إتلاف مال.. فإنه لا يقبل.

[فرع يثبت النكاح بتصادق الزوجين فحسب]
قال ابن الحداد: وإن قالت امرأة وهي بالغة عاقلة: زوجني أبي زيدا بشهادة شاهدين، وصادقها زيد على ذلك، فأنكر الأب أو الشاهدان ذلك.. لم يلتفت إلى إنكار الأب والشاهدين، لأن الحق للزوجين، ولا حق للأب ولا للشاهدين في ذلك فهو كما لو قال رجل: باع وكيلي داري من فلان، وادعاه المشتري، فأنكر الوكيل.. لم يلتفت إلى إنكاره، فكذلك هذا مثله.
قال القاضي أبو الطيب: هذا على قول الشافعي الجديد: (إن النكاح يثبت

(9/184)


بتصادق الزوجين) . وهو المشهور. وأما على القول القديم: (فإنه لا يثبت بتصادقهما إلا إن كانا غريبين) .

[فرع إنكاح المجنونة]
وإن كانت المنكوحة مجنونة، فإن كان وليها أباها أو جدها.. زوجها على أية صفة كانت، صغيرة كانت أو كبيرة، بكرا كانت أو ثيبا، لأنهما يملكان إجبارها على النكاح، وإنما لم يجز لهما تزويج الثيب الصغيرة العاقلة، لأنه يرجى لها أن تبلغ وتأذن، ولم يجز لهما تزويج الثيب البالغة إلا بإذنها، لأنها من أهل الإذن، والمجنونة ليست من أهل الإذن، ولا يرجى لها حال تصير فيه من أهل الإذن.
وإن كان وليها غير الأب والجد من العصبات.. لم يملك تزويجها، لأن تزويجها إجبار، وهم لا يملكون إجبارها على النكاح.
وإن كان وليها الحاكم.. قال الشيخ أبو حامد: بأن لا يكون لها ولي مناسب، أو كان لها ولي مناسب غير الأب والجد.. فإنهم لا ولاية لهم عليها في هذه الحالة، وتنتقل الولاية إلى الحاكم. فإن كانت صغيرة.. لم يجز للحاكم تزويجها، لأنه لا حاجة بها إلى التزويج في هذه الحال. وإن كانت كبيرة.. جاز له تزويجها، لأن لها في ذلك حظا، لأنها تحتاج إليه للعفة، ويكسبها غناء، وربما كان لها فيه شفاء. والفرق بين الحاكم وبين غير الأب والجد من العصبات: أن الحاكم يزوجها حكما، ولهذا يجوز له التصرف في مالها، والعصبات غير الأب والجد يزوجونها بالولاية، ولا ولاية لهم عليها، هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال الخراسانيون: المجنونة المطبقة إن كانت بكرا.. فللأب والجد تزويجها صغيرة كانت أو كبيرة. وإن كانت ثيبا، فإن بلغت مجنونة.. فلهما ذلك، وإن بلغت عاقلة ثم جنت.. فهل لهما تزويجها؟ فيه وجهان، بناء على أنه: هل تعود ولاية المال لهما؟ وفيه وجهان. وإن كانت صغيرة ثيبا.. فوجهان.

(9/185)


وإن كان جنونها غير مطبق وهي ثيب.. فهل لهما تزويجها في يوم الجنون؟ على وجهين.
فأما غير الأب والجد من العصبات.. فليس له تزويجها بحال، وللحاكم أن يزوجها إذا كانت بالغة، وهل يستأذن الحاكم غيره من العصبات؟ فيه وجهان.

[فرع إنكاح الأمة]
وإن كانت المنكوحة أمة.. فللمولى أن يزوجها بغير إذنها، صغيرة كانت أو كبيرة، عاقلة كانت أو مجنونة، ثيبا كانت أو بكرا، لأنه يملك ذلك عليها بحق الملك، فملكه عليها بكل حال، كالإجارة.
فإن دعت الأمة المولى إلى إنكاحها وامتنع، فإن كان يملك وطأها.. لم يجبر على إنكاحها، لأن عليه ضررا في ذلك، وهو زوال استمتاعه بها. وإن كانت لا يحل له وطؤها، كأخته من النسب أو الرضاع.. فهل يجبر على إنكاحها؟ فيه وجهان.
أحدهما: لا يجبر، لأنها تنقص قيمتها بالنكاح.
والثاني: يجبر، لأنه لا يملك الاستمتاع بها، ولا ضرر عليه في إنكاحها، بل يحصل له المهر وملك الولد.
وإن كانت الجارية لامرأة، فطلبت الأمة الإنكاح، فامتنعت مولاتها.. فينبغي أن يكون في إجبارها وجهان، كما لو كانت لرجل لا يملك استمتاعها.
وحكم المدبرة والمعتقة بصفة حكم الأمة القنة في ذلك.

[فرع إنكاح المبعضة]
وإن كانت له أمة نصفها حر، ونصفها مملوك.. فلا يملك المولى إجبارها على النكاح لما فيها من الحرية، ولا يجوز لها أن تتزوج بغير إذن مالك نصفها، لما فيها من الرق.. فإن دعت إلى الإنكاح، وامتنع مالك نصفها.. فهل يجبر؟
قال ابن الصباغ: ينبغي أن تكون على وجهين، كالتي لا تحل له.

(9/186)


ومن الذي يتولى عقد النكاح عليها؟
قال ابن الحداد: يزوجها مالك نصفها برضا وليها من النسب، فإن كان وليها من النسب أباها أو جدها وكانت بكرا.. زوجها مالك نصفها برضا أبيها أو جدها، ولا يفتقر إلى رضاها. وإن كانت ثيبا، أو كان وليها من النسب غير الأب والجد من العصبات.. لم يزوجها مالك نصفها إلا برضا وليها من النسب ورضاها، وإن لم يكن لها ولي من النسب.. لم يزوجها مالك نصفها إلا برضاها ورضا معتقها، لأن المالك لا حق له إلا في نصفها المملوك.
وقال أصحابنا: هذا على القول الذي يقول: إن من نصفها حر، ونصفها مملوك يرث عنها عصبتها ما ملكته بنصفها الحر. فأما على القول الذي يقول: إن ما ملكته بنصفها الحر إذا ماتت، كان لمالك نصفها.. فمن ذا الذي يزوجها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يزوجها مالك نصفها وحده، لأنه لما ملك جميع ميراثها.. ملك تزويجها، كعصبتها.
والثاني: أنه لا يزوجها إلا برضاها وبرضا وليها من النسب، أو برضاها وبرضا معتقها، كالقول الأول، لأن وليها ومعتقها، وإن لم يرثا فإنما لم يرثا لما فيها من الرق، وأما النسب والولاء: فهو ثابت بينهما، فوجب أن يكون الإنكاح إليه.

[فرع إنكاح المكاتبة]
وأما المكاتبة: فإن أراد المولى إجبارها على النكاح.. لم يكن له ذلك، لأن تصرفه قد انقطع عنها بالكتابة.
وإن طلبت النكاح وامتنع السيد.. فهل يجبر؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجبر، لأن لها في ذلك منفعة، لأنه يحصل لها المهر والنفقة، فتستعين بالمهر على أداء الكتابة.
والثاني: لا يجبر، لأن له في الامتناع فائدة، وهو أنها: ربما عادت إليه بالتعجيز، فيكون لا يملك الاستمتاع بها.

(9/187)


[مسألة تزويج الولي نفسه من وليته]
إذا أراد الرجل أن يتزوج امرأة يلي عليها النكاح من نفسه، كابنة العم والمعتقة، أو وكل الولي رجلا يزوج وليته، فتزوجها الوكيل من نفسه.. لم يصح.
وقال ربيعة، ومالك، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه: (يصح) .
دليلنا: ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل نكاح لم يحضره أربعة.. فهو سفاح: خاطب، وولي، وشاهدان» ، وهذا لم يحضره إلا ثلاثة، وشرط أن يكون ولي وخاطب، ولم يوجد ذلك. ولأنه لو وكل وكيلا ليبيع له سلعة.. لم يجز للوكيل أن يبتاعها من نفسه، فكذلك هذا مثله. وقد وافقنا أبو حنيفة على البيع، وخالفنا مالك رحمهما الله فيه، وقد مضى.
إذا ثبت هذا: فأراد ابن العم أن يتزوجها، فإن كان هناك ولي لها في درجته.. تزوجها منه. وإن لم يكن هناك ولي في درجته، بل كان أبعد منه أو لا ولي لها.. تزوجها من السلطان، لأنها تصير في حقه بمنزلة من لا ولي لها، فيتزوجها من السلطان.

(9/188)


[فرع أعتق مستولدته وأراد أن يتزوجها]
وإن أعتق رجل جارية وله ابنان، أحدهما منها، والآخر من غيرها، وأراد المعتق أن يتزوجها.. فقال ابن الحداد: يتزوجها من ابنه منها.
فمن أصحابنا من وافقه في ذلك، لأن المعتق لا ولاية له عليها في تزويجها من نفسه، فيكون بمنزلة الفاسق إذا أراد أن يتزوج وليته.
قال القاضي أبو الطيب: ويأتي على قول ابن الحداد: إذا أراد ابن العم أن يتزوج ابنة عمه.. فإنه يتزوجها ممن دونه من الأولياء. وقوله: (يتزوجها من ابنه منها) أراد على أشهر القولين في الأخوين، أحدهما لأب وأم، والآخر لأب.
وخالفه أكثر أصحابنا، وقالوا: لا يصح أن يتزوجها من ابنه منها ولا من غيره، وإنما يتزوجها من الحاكم، لأن الولاية له عليها ثابتة، فلا تبطل ولايته بإرادته تزويجها، كما لو غاب الولي أو عضل. ولأن هذا يؤدي إلى أن يكون المعتق وابنه وليين لها في حالة واحدة، وأن لكل واحد منهما أن يزوجها من صاحبه، وهذا لا يصح، لأن الابن يتلقى الولاية عليها من جهة أبيه، فلا يجتمع معه في الولاية.

[فرع زواج الحاكم أو الإمام ممن لا ولي لها]
إذا أراد الحاكم أن يتزوج امرأة لا ولي لها.. فإنه يتزوجها من الإمام. قال ابن الصباغ: أو يرد ذلك إلى من يزوجه إياها، ولا يتولى طرفي العقد.
وإن أراد الإمام أن يتزوج امرأة لا ولي لها.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح أن يتزوجها من نفسه ويتولى طرفي العقد؛ لأنه إذا تزوجها من جهة الحاكم.. فهو قائم من جهته، فصح أن يتولى ذلك من نفسه.
والثاني: لا يصح أن يتولى العقد بنفسه، بل يتزوجها من الحاكم، لأن الحاكم ليس بوكيل له، وإنما هو نائب عن المسلمين، ولهذا: لا يملك الإمام عزله من غير سبب.

(9/189)


[فرع تزويج الجد أحفاده من بعضهم]
وإن أراد الجد أن يزوج ابن ابنه الصغير بابنة ابن له آخر.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح، وهو اختيار ابن القاص، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل نكاح لم يحضره أربعة.. فهو سفاح: خاطب وولي وشاهدان» .
والثاني: يصح، وهو اختيار ابن الحداد والقاضي أبي الطيب، لأنه يملك طرفي العقد بغير تولية، فجاز أن يتولاه هاهنا، كبيع مال الصغير من نفسه. وأما الخبر.. فمحمول على أنه إذا كان الولي غير الخاطب.
فعلى هذا: لا تصح الولاية إلا بثلاثة شروط:
أحدها: إذا كان أبواهما ميتين، أو فاسقين، أو أحدهما ميتا والآخر فاسقا، لأنه لا ولاية للجد الرشيد عليهما مع ثبوت ولاية الأبوين عليهما.
الشرط الثاني: أن يكون ابن الابن صغيرا أو مجنونا.
الشرط الثالث: أن تكون الابنة بكرا، فأما إذا كانت ثيبا، فلا يملك تزويجها بحال إلا بإذنها.
وقد اشترط ابن الحداد أن يكون صغيرة. وليس بصحيح، لأن الجد يملك إجبارها على النكاح إذا كانت بكرا بكل حال، إلا أن تكون الابنة مجنونة.. فيملك الجد إجبارها على النكاح بكل حال.
إذا ثبت هذا: فإن الجد يقول: زوجت فلانة بفلان، أو فلانا بفلانة. وهل يفتقر إلى لفظ القبول، وهو: أن يقول: وقبلت نكاح فلانة لفلان؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا يفتقر إلى ذلك، لأن الإيجاب يتضمن القبول، فلم يفتقر إليه، كما لو قال: زوجني بنتك، فقال: زوجتك.. لا يحتاج أن يقول: قبلت. ولأنه لما قام شخص واحد مقام شخصين.. قام لفظ واحد مقام لفظين.

(9/190)


والثاني: يفتقر إلى القبول، وهو قول ابن الحداد، وهو المشهور، لأن كل عقد افتقر إلى الإيجاب.. افتقر إلى القبول، كما لو كان بين شخصين.

[فرع تزويج الولي وليته من ابنه]
وإن زوج الولي وليته من ابنه الكبير.. صح، لأنه يقبل لنفسه. وإن زوجها من ابنه الصغير.. فذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: أنه لا يصح، لأنه هو الذي أوجب النكاح عن المرأة ويقبله لابنه، والشخص الواحد لا يجوز أن يكون قابلا موجبا في النكاح.

[مسألة وكيل الولي يقوم مقامه بشروط]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ووكيل الولي يقوم مقامه) .
وجملة ذلك: أن الولي إذا كان ممن يملك إجبار المرأة على النكاح.. فله أن يوكل من يزوجها بغير إذنها، كما يجوز أن يعقد عليها بنفسه بغير إذنها. فإن وكل في تزويجها من رجل بعينه.. صح، وإن قال للوكيل: وكلتك في تزويجها وأطلق.. فهل يصح؟
حكى الشيخان- أبو حامد وأبو إسحاق -: فيها قولين، وحكاهما ابن الصباغ والمسعودي [في" الإبانة "] وجهين:
أحدهما: يصح، لأن من جاز أن يوكل وكالة معينة.. جاز أن يوكل وكالة مطلقة، كالوكالة في البيع.
والثاني: لا يصح هذا التوكيل، لأن الولي إنما فوض إليه اختيار الزوج، لكمال شفقته، وهذا لا يوجد في الوكيل.
وإن كان الولي لا يملك التزويج إلا بإذنها، فإن أذنت له في التزويج والتوكيل.. صح توكيله، وإن أذنت له في التزويج لا غير.. فهل يملك التوكيل؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما في (الوكالة) .

(9/191)


[فرع إذنها لوليها في العقد عليها]
] : إذا كان الولي لا يملك أن يعقد على المرأة إلا بإذنها، فإن أذنت له أن يزوجها من رجل معين.. صح ذلك. وإن أذنت له أن يزوجها مطلقا.. قال الشيخ أبو حامد: يصح ذلك قولا واحدا، لكمال شفقته.
وقال الطبري في " العدة ": هو كالوكيل إذا وكله الولي في التزويج وأطلق، على ما مضى.
ويجوز للمرأة أن تأذن لوليها بلفظ الإذن، ويجوز بلفظ الوكالة، نص عليه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، لأن المعني فيهما واحد. وإن أذنت لوليها أن يزوجها، ثم رجعت.. لم يصح تزويجها، كالموكل إذا عزل وكيله. فإن زوجها الولي بعد العزل وقبل أن يعلم به.. فهل يصح؟ فيه وجهان مأخوذان من القولين في الوكيل إذا باع بعد العزل وقبل العلم به.

[مسألة توكيل الزوج في تزويجه]
قد ذكرنا: أن للزوج أن يوكل من يتزوج له، لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكل عمرو بن أمية الضمري أن يتزوج له أم حبيبة بنت أبي سفيان من ابن عمها في أرض الحبشة» و: «وكل أبا رافع في تزويج ميمونة» .
فإن وكله: أن يتزوج له امرأة بعينها.. صح، وإن وكله: أن يتزوج له ممن شاء.. ففيه وجهان، مضى ذكرهما في (الوكالة) :

(9/192)


[أحدهما] : قال أبو العباس وأبو عبد الله الزبيري: لا يجوز، لأن الأغراض تختلف في ذلك.
و [الثاني] : قال القاضي أبو حامد: يجوز. وإليه أشار الصيمري، فإنه قال: لو وكله أن يزوجه امرأة من العرب، فزوجه امرأة من قريش.. جاز. ولو وكله أن يزوجه امرأة من قريش، فزوجه امرأة من العرب غير قريش.. لم يصح. ولو وكله أن يزوجه امرأة من الأنصار، فزوجه امرأة من الأوس أو الخزرج من بنات الأنصار.. جاز. ولو وكله أن يزوجه امرأة من الأوس، فزوجه من الخزرج.. لم يجز. ولو وكله أن يزوجه امرأة بعينها، فتزوجها الموكل لنفسه، ثم طلقها قبل الدخول أو بعد الدخول وانقضت عدتها، ثم تزوجها الوكيل للموكل.. قال الصيمري: لم يصح، لأن وكالته قد بطلت لما تزوجها الموكل لنفسه. فإن وكله أن يتزوج له امرأة بمائة، فتزوجها له بخمسين.. صح، وإن تزوجها له بأكثر من مائة.. قال الصيمري: فقد قال شيخ من أصحابنا: يبطل النكاح. والصحيح: أنه يصح النكاح، ولها مهر مثلها.

[فرع ادعاء التوكيل للتزوج أو استئنافه وضمان المهر]
فإن جاء رجل وادعى أن فلانا وكله أن يتزوج له امرأة، فتزوجها له وضمن عنه المهر، ثم أنكر الموكل الوكالة، ولا بينة.. فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف له.. لم يلزمه النكاح، ولا يقع النكاح للوكيل، بخلاف وكيل الشراء، لأن الغرض من النكاح أعيان الزوجين، فلا يقع لغير من عقد له، وترجع الزوجة على الوكيل بنصف المهر- وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف - لأنها تدعي وجوبه على الزوج، والوكيل ضامن به وهو مقر به.
وقال محمد بن الحسن: ترجع على الوكيل بجميع الصداق، لأن الفرقة لم تقع في الباطن بإنكاره. وهذا ليس بشيء، لأنه يملك الطلاق، فإذا أنكر النكاح.. فقد أقر بتحريمها عليه، فصار بمنزلة إيقاعه للطلاق.

(9/193)


ولو مات الزوج قبل المصادقة على النكاح.. لم ترث هذه الزوجة إلا أن يصدقها سائر ورثته على التوكيل، أو تقوم لها بينة على ذلك.
ولو غاب رجل عن امرأته، فجاءها رجل وذكر: أن زوجها طلقها طلاقا بانت به منه بدون الثلاث، وأنه وكله في استئناف عقد النكاح عليها بألف، فعقد عليها النكاح بألف، وضمن لها الوكيل الألف، ثم قدم الزوج فأنكر ذلك.. فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف.. فهل للزوجة أن ترجع على الوكيل بالألف؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال الساجي والقاضي أبو الطيب: لا ترجع عليه بشيء- وبه قال أبو حنيفة - لأن الضامن فرع على المضمون عنه، فإذا لم يلزم المضمون عنه شيء.. لم يلزم الضامن.
والثاني: ترجع عليه بالألف. وقال الشيخ أبو حامد: وقد نص عليه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الإملاء "، وهو الأصح، لأن الوكيل مقر بوجوبها عليه، كما قلنا في التي قبلها.

[مسألة تزويج المرأة من الكفء وغيره]
وليس للولي أن يزوج المرأة من غير كفء إلا برضاها ورضا سائر الأولياء، لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تخيروا لنطفكم، وأنكحوا الأكفاء، وانكحوا إليهم» . ولأن في ذلك إلحاق عار بها وبسائر الأولياء، فلم يجز من غير رضاهم.
قال الشيخ أبو حامد: والأولياء الذين يعتبر رضاهم في نكاح المرأة من غير كفء هم: كل من كان وليا للعقد حال التزويج، فأما من يجوز أن ينتقل إليه الولاية.. فلا يعتبر رضاه.
فإن دعت المرأة أولياءها أن يزوجوها من غير كفء، فامتنعوا.. لم يجبروا على

(9/194)


ذلك، ولا ينوب الحاكم منابهم في تزويجها، لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، ولما روى علي كرم الله وجهه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاثة لا يؤخرن: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت كفؤا» فدل على: أنها إذا وجدت غير كفء.. جاز أن تؤخر.
وإن دعت المرأة الولي إلى أن يزوجها من كفء بأقل من مهر مثلها.. وجب عليه إجابتها، فإن زوجها، وإلا.. زوجها الحاكم. فإن كان لها أولياء، فزوجها أحدهم بأقل من مهر مثلها بإذنها دون رضا سائر أوليائها.. صح.
وقال أبو حنيفة: (لا يلزمهم إجابتها إلى ذلك، فإن زوجت نفسها بأقل من مهر مثلها، أو زوجها واحد منهم بذلك.. ألزموا الزوج مهر مثلها، ولم يكن لهم فسخ النكاح) .
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من استحل بدرهمين.. فقد استحل» .
ولأن كل من لا يملك الاعتراض عليها في جنس المهر.. لم يملك الاعتراض عليها في قدره، كأباعد الأولياء والأجانب. ولأن المهر حق لها، ولا عار عليهم بذلك.. فلم يكن لهم الاعتراض عليها.

[فرع التزويج برضاها وأوليائها من غير كفء]
فإن زوجت المرأة من غير كفء برضاها ورضا سائر الأولياء.. صح النكاح. وبه قال مالك وأبو حنيفة رحمة الله عليهما، وأكثر أهل العلم.

(9/195)


وقال سفيان وأحمد وعبد الملك ابن الماجشون: (لا يصح)
دليلنا: ما روي: «أن فاطمة بنت قيس أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: يا رسول الله، إن معاوية وأبا جهم خطباني، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أما معاوية: فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم: فلا يضع عصاه عن عاتقه، فانكحي أسامة بن زيد» وفي رواية أخرى: " أدلك على من هو خير لك منهما؟ ". قلت: من؟ قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أسامة بن زيد "، قالت: فتزوجت أسامة، فبورك لأبي زيد في، وبورك لي في أبي زيد. وفاطمة قرشية، وأسامة مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سلم.
وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: حجم أبو هند - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في اليافوخ، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأنصار: «يا بني بياضة، زوجوا أبا هند، وتزوجوا إليه» فندبهم إلى التزويج بحجام وليس بكفء لهم.
وروي: (أن بلالا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تزوج بهالة بنت عوف أخت عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) . قيل: بل هو حذيفة.
وروي: (أن سلمان الفارسي خطب إلى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ابنته، فأنعم له عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وكره ذلك عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فلقي عمرو بن العاص، فأخبره بذلك، فقال: أنا أكفيك هذا، فلقي سلمان، فقال له

(9/196)


عمرو: هنيئا لك، قال: بماذا؟ فقال: تواضع لك أمير المؤمنين، فقال سلمان: أَلِمِثْلِي يتواضع؟ والله لا تزوجتها أبدا) .

[فرع تزويج البكر برضاها من غير كفء]
فإن زوج الأب أو الجد البكر من غير كفء بغير رضاها، أو زوجها أحد الأولياء بغير كفء برضاها من غير رضا سائر الأولياء.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في موضع: (النكاح باطل) . وقال في موضع: (كان للباقين الرد) ، وهذا يدل على: أنه وقع صحيحا. واختلف أصحابنا فيها على ثلاثة طرق:
فـ[الطريق الأول] : منهم من قال: فيها قولان: وهو اختيار الشيخ أبي حامد:
أحدهما: أن النكاح صحيح، ويثبت لها الخيار، ولسائر الأولياء الخيار في فسخه، لأن النقص دخل عليهم، وحصول النقص لا يمنع صحة العقد، وإنما يثبت الخيار في فسخه، كما لو اشترى لموكله شيئا معيبا.
والثاني: أن العقد لا يصح، لأن العاقد قد تصرف في حق غيره، فإذا فرط.. بطل العقد، كما لو باع الوكيل بأقل من ثمن المثل.
و [الطريق الثاني] : منهم من قال: العقد باطل قولا واحدا، وحيث قال: (كان للباقين الرد) أي: المنع من العقد.
و [الطريق الثالث] : منهم من قال: هي على حالين:
فحيث قال: (يبطل العقد) أراد: إذا عقد وهو يعلم أنه ليس بكفء.
وحيث قال: (لا يبطل العقد) أراد: إذا عقد ولم يعلم أنه غير كفء، كما قلنا في

(9/197)


الوكيل إذا اشترى شيئا معيبا يعلم بعيبه.. لم يصح في حق الموكل، وإن اشتراه وهو لا يعلم بعيبه.. صح في حق موكله.
هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (إذا زوجها أحد الأولياء بغير كفء برضاها.. لم يكن للباقين في ذلك اعتراض) .
دليلنا: أن رضا جميعهم معتبر، فلم يسقط برضا بعضهم.

[فرع رجوع المرأة والولي عند الاختلاف في الكفاءة إلى الحاكم]
إذا دعت المرأة وليها إلى تزويجها برجل، وزعمت: أنه كفء لها، فقال الولي، ليس بكفء لها.. رفع ذلك إلى الحاكم، ونظر الحاكم فيه: فإن كان كفؤا لها.. لزمه تزويجها به، فإن امتنع.. زوجها الحاكم منه. وإن كان ليس بكفء لها.. لم يلزم الولي إجابتها إليه.

[مسألة مقومات الكفاءة]
ستة] : الكفاءة معتبرة في ستة أشياء: النسب، والدين، والحرية، والصنعة، واليسار، والسلامة من العيوب.
فأما (النسب) : فإن العجمي ليس بكفء للعربية.
وأما العجم: فهم أكفاء، لا فضل لبعضهم على بعض، لما روى نافع، عن ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «العرب بعضهم أكفاء بعض، حي لحي، وقبيلة لقبيلة، ورجل لرجل، إلا الحائك والحجام» فدل على: أن العجم ليست بأكفاء للعرب.

(9/198)


وروي عن سلمان الفارسي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: «يا معشر العرب، إنما نفضلكم، لفضل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لا ننكح نساءكم، ولا نتقدمكم في الصلاة» .
وأما العرب. فإن غير القرشي.. ليس بكفء للقرشية.
وقال أبو حنيفة: (بل هم أكفاء لهم) .
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله عز وجل اختار العرب من سائر الأمم، واختار من العرب قريشا، واختار من قريش بني هاشم وبني عبد المطلب» .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «نحن قريش خير العرب، وموالينا خير الموالي» .

(9/199)


وأما قريش: فإن بني هاشم وبني عبد المطلب أكفاء، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن بني هاشم، وبني عبد المطلب شيء واحد، وشبك بين أصابعه» .
وهل تكون سائر قبائل قريش أكفاء لبني هاشم وبني المطلب؟ فيه وجهان حكاهما في " المهذب ":
أحدهما: أنهم أكفاء، كما أنهم في الخلافة أكفاء.
والثاني: أنهم ليسوا بأكفاء لهم- ولم يذكر الشيخ أبو حامد وابن الصباغ غيره - لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «قال لي جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إني قلبت مشارق الأرض ومغاربها.. فلم أجد أفضل من بني هاشم» .
وأما سائر قبائل العرب: فلا فضل لبعضهم على بعض، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «العرب بعضهم أكفاء بعض، حي لحي، وقبيلة لقبيلة، ورجل لرجل، إلا الحائك والحجام» .
وقال الصيمري: وموالي قريش أكفاء لقريش، وكذلك موالي كل قبيلة أكفاء لهم، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «موالي القوم من أنفسهم» .
قلت: وهذا الذي ذكره مخالف لظاهر قول سائر أصحابنا، لأنهم يحتجون- على جواز إنكاح المرأة ممن ليس بكفء لها- بتزويج أسامة بن زيد لفاطمة بنت قيس، وأسامة مولى لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قرشية. ولو قيل: فيها وجهان، كالوجهين في أنه: هل تحل الصدقة المفروضة لموالي بني هاشم وبني المطلب.. لكان محتملا. فأما إذا وطئ الرجل أمته، فأولدها ولدا.. فإنه كفء لمن

(9/200)


أمه عربية، لأن الولد يتبع الأب في النسب دون الأم، بدليل: أن الهاشمي لو تزوج أعجمية.. فإن ولده منها هاشمي، ولو تزوج العجمي هاشمية.. فإن ولده منها عجمي.
وأما (الدين) : فهو معتبر، فالفاسق الذي يشرب الخمر ويزني، أو لا يصلي.. ليس بكفء للحرة العفيفة.
وقال محمد بن الحسن: هو كفء لها، إلا أن يكون يسكر، ويخرج مظاهرا به ويولع به الصبيان.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] [السجدة:18] ،
فنفى المساواة بينهما من جميع الوجوه.
ولما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه.. فزوجوه، إلا تفعلوا.. تكن فتنة في الأرض، وفساد كبير» .
ولأن الفاسق لا يؤمن أن يحمله فسقه على أنه يجني على المرأة، فثبت لها الخيار في فسخ نكاحه.
وأما (الحرية) : فهي معتبرة، فالحرة ليست بكفء للعبد، والحر لا يكافئ الأمة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا} [النحل: 75] إلى قَوْله تَعَالَى: {هَلْ يَسْتَوُونَ} [النحل: 75] [النحل:75] . فنفى المساواة بينهما.

(9/201)


ولـ: «أن بريرة أعتقت تحت عبد، فخيرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ، فإذا ثبت لها الخيار إذا طرأت عليها الحرية وهي تحت عبد.. فلأن يثبت لها الخيار إذا كانت حرة عند ابتداء النكاح أولى.
ولأن عليها ضررا في النفقة، لأنه لا ينفق عليها نفقة الموسر، ولا ينفق على أولاده منها.
وأما (الصنعة) : فهي معتبرة، فمن كان من أهل الصنعة الدنية، كالحائك، والحمامي، والحجام، وما أشبههم.. ليس بكفء للمرأة التي أبوها من أهل الصنائع الرفيعة، مثل: البزاز والعطار، لما روى عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «العرب بعضهم أكفاء بعض، حي لحي، وقبيلة لقبيلة، ورجل لرجل، إلا الحائك والحجام» ، فلما استثنى الحائك والحجام من جملتهم.. دل على: أن للصنعة تأثيرا في الكفاءة. ولأن هذه الصنع نقص في العادة، فاعتبرت.
وأما (اليسار) : فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: إنه معتبر، فالمعسر ليس بكفء للموسرة، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحسب المال» . ولأنه لما ثبت: أن العبد لا يكافئ الحرة، لأنه لا ينفق عليها نفقة الموسر، ولا ينفق على أولاده منها.. فكذلك المعسر.
فعلى هذا: لا يعتبر أن يكون الرجل مثل المرأة في اليسار في جميع الوجوه، بل إذا كان كل واحد منهما موسرا يسارا ما.. تكافئا وإن اختلفا في المال.
ومنهم من قال: اليسار غير معتبر في الكفاءة، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا» . ولأن ذلك ليس بنقص في العادة، لأن المال يغدو

(9/202)


ويروح، ولهذا: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لابني خالد: «لا تيأسا من رزق الله ما تهززت رؤوسكما، فإن ابن آدم خلق ليس عليه شيء إلا قشرتان، ثم يرزق الله سبحانه وتعالى» .
وأما (السلامة من العيوب) : فهي معتبرة في الكفاءة.
فالعيوب في الرجال: الجنون، والجذام، والبرص، والجب، والعنة.
والعيوب في النساء: الجنون، والجذام، والبرص، والرتق، والقرن.
ولها أحكام تأتي في بابها إن شاء الله تعالى.
قال الصيمري: واعتبر قوم البلدان، فقالوا: ساكنو مكة والمدينة والبصرة والكوفة ليسوا بأكفاء لمن يسكن الجبال. وهذا ليس بشيء.
وليس للحسن والقبح، والطول والقصر، والسخاء والبخل، ونحو ذلك مدخل في الكفاءة، لأن ذلك ليس بنقص في العادة، ولا عار فيه ولا ضرر.

[مسألة إذن المرأة لأكثر من ولي في تزويجها]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو قالت: قد أذنت في فلان، وأي أوليائي زوجني.. فهو جائز) .

(9/203)


وجملة ذلك: أنه إذا كان للمرأة وليان في درجة واحدة، فأذنت لكل واحد منهما: أن يزوجها برجل غير الذي أذنت به للآخر، أو أذنت لكل واحد منهما: أن يزوجها لرجل ولم تعين- وقلنا: يجوز - فزوجها كل واحد منهما برجل.. ففيه خمس مسائل:
إحداهن: أن يعلم أن العقدين وقعا معا في حالة واحدة.. فهما باطلان، لأنه لا يمكن الجمع بينهما، إذ المرأة لا يجوز أن يكون لها زوجان، لاختلاط النسب وفساده، وليس أحدهما بأولى من الآخر في التقديم، فبطلا، كما لو تزوج أختين في عقد واحد.
الثانية: أن لا يعلم: هل وقع العقدان في حالة واحدة، أو سبق أحدهما الآخر؟
قال أصحابنا البغداديون: بطل العقدان، لأنه لا يمكن الجمع بينهما، ولا مزية لأحدهما على الآخر في التقديم.
وقال الخراسانيون: بطل العقدان في الظاهر، وهل يبطلان في الباطن؟ فيه وجهان.
الثالثة: أن يعلم أن أحدهما سبق الآخر، إلا أنه أشكل عين السابق منهما، فقال أصحابنا البغداديون: بطل العقدان، لما ذكرناه في التي قبلها. ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: فيها قولان:
أحدهما: أنهما باطلان.
والثاني: يتوقف فيهما، بناء على القولين في الجمعتتين إذا وقعتا معا في بلدة وعلم بسبق إحداهما، ولم تتعين السابقة. وهذا اختيار المزني.
الرابعة: أن يعلم أن أحد العقدين سبق الآخر ونسي السابق منهما.. فيوقفان إلى أن يتذكر السابق، لأن الظاهر مما علم ثم نسي: أنه يتذكر.

(9/204)


الخامسة: أن يعلم السابق منهما ويتعين ويذكر.. فإن النكاح الصحيح هو الأول، والثاني باطل، سواء دخلا بها أو لم يدخلا بها، أو دخل بها أحدهما. وبه قال من الصحابة: علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ومن التابعين: شريح، والحسن البصري رحمة الله عليهما، ومن الفقهاء: الأوزاعي، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق.
وذهبت طائفة إلى: أنه إن لم يطأها أحدهما، أو وطئاها معا، أو وطئها الأول دون الثاني.. فهي للأول - كقولنا - وإن وطئها الثاني دون الأول.. فالنكاح للثاني دون الأول، وبه قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعطاء والزهري، ومالك رحمة الله عليهم.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 24] [النساء:23-24] ، والمراد به الزوجات، ولم يفرق.
وروى سمرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أنكح المرأة الوليان.. فهي للأول منهما» . ولم يفرق.
ولأنه نكاح لو عري عن الوطء.. لم يصح، فإذا كان فيه الوطء.. لم يصح، كنكاح المعتدة والمحرمة بالحج.

[فرع زوجها وليان ولا يعلم السابق منهما]
إذا زوج المرأة وليان من رجلين، ولم يعلم السابق منهما، وادعى كل واحد من الزوجين: أنه هو السابق منهما: نظرت:
فإن ادعى أحد الزوجين على الآخر.. قال المسعودي [في" الإبانة "] : لم تسمع دعواه، لأنه لا شيء في يده.

(9/205)


وإن ادعيا على الولي، فإن كان غير مستبد بنفسه، بأن لا يصح إنكاحه إلا بإذنها.. لم تسمع دعواهما عليه. وإن كان مستبدا بنفسه، كالأب والجد في تزويج البكر.. فهل تسمع الدعوى عليه؟ فيه قولان.
وإن ادعيا على المرأة، فإن لم يدعيا علمها بذلك.. لم تسمع الدعوى عليها، لأنه لا فائدة في ذلك. وإن ادعيا علمها بالسابق منهما.. قال المسعودي [في " الإبانة "] : فهل تسمع الدعوى عليها؟ فيه قولان، بناء على القولين في إقرارها لأحدهما بالسبق: هل يقبل؟
[أحدهما] : قال في القديم: (يقبل إقرارها) .
فعلى هذا: تسمع الدعوى عليها.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يقبل إقرارها) .
فعلى هذا: لا تسمع الدعوى عليها.
وأما الشيخ أبو حامد، والبغداديون من أصحابنا: فقالوا: تسمع الدعوى عليها من غير تفصيل.
فإذا قلنا: تسمع الدعوى عليها.. نظرت:
فإن أنكرت: أنها لا تعرف السابق منهما.. فالقول قولها مع يمينها: أنها لا تعرف السابق منهما، فإذا حلفت.. سقطت دعواهما، وبطل النكاحان، وإن نكلت عن اليمين.. ردت اليمين عليهما، فيحلف كل واحد منهما: أنه هو السابق بالعقد، فإذا حلفا.. بطل النكاحان، لأن كل واحد منهما قد أثبت بيمينه: أنه هو السابق، ولا مزية لأحدهما على الآخر، فبطلا. وإن حلف أحدهما ونكل الآخر.. ثبت نكاح الحالف، وبطل نكاح الناكل. وإن نكلا جميعا.. بطل النكاحان أيضا، لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر.
وإن أقرت: أنها تعلم السابق منهما.. نظرت:

(9/206)


فإن أقرت لكل واحد منهما: أنه هو السابق، وكان إقرارها لهما في وقت واحد.. فلا حكم لهذا الإقرار، لاستحالة أن يكون كل واحد منهما سابقا لصاحبه، فتكون دعواهما عليها باقية، فتطالب بالجواب. وإن أقرت لأحدهما: أنه هو السابق.. حكم بالنكاح له، لأنه لم يثبت عليها نكاح غير المقر له حال الإقرار، فقبل إقرارها على نفسها.
فإن أراد الثاني أن يحلفها-بعد إقرارها للأول- أنها لا تعلم أنه هو السابق.. فهل يلزمها أن تحلف له؟ فيه قولان- بناء على أنها لو أقرت للثاني: هل يلزمها غرم؟ وفيه قولان، كالقولين فيمن أقر بدار لزيد، ثم أقر بها لعمرو.. فهل يلزمه الغرم لعمرو؟ وفيه قولان-:
أحدهما: لا يلزمها أن تحلف للثاني، لأنها لو أقرت له.. لم يقبل إقرارها له، فلا معنى لعرض اليمين عليها.
والثاني: يلزمها أن تحلف للثاني، لجواز أن تخاف من اليمين فتقر له، فيلزمها الغرم.
فإن قلنا: لا يلزمها أن تحلف للثاني..ثبت النكاح للأول، وانصرف الثاني.
وإن قلنا: يلزمها أن تحلف للثاني.. نظرت:
فإن حلفت له.. انصرف. وإن أقرت للثاني: بأنه هو السابق.. لم يقبل قولها في النكاح، لأن في ذلك إسقاط حق الأول الذي قد ثبت، ولأنها قد أقرت أنها حالت بين الثاني وبين بضعها بإقرارها للأول، وهل يلزمها أن تغرم له؟
قال الشيخ أبو حامد: فيه قولان، كما لو أقرت بدار لزيد، ثم أقرت بها لعمرو.
وقال المحاملي، وابن الصباغ: يلزمها أن تغرم له قولا واحدا، لأنا إنما عرضنا عليها اليمين على القول الذي يقول: يلزمها الغرم، فإذا أقرت له.. لزمها أن

(9/207)


تغرم له عوض ما حلت بينه وبينه، وكم يلزمها من الغرم؟
قال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: يلزمها أن تغرم جميع مهر مثلها.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] ، والجويني: فيه قولان:
أحدهما: جميع مهر مثلها.
والثاني: نصف مهر مثلها، كالقولين في المرأة إذا أرضعت زوجة لرجل، وانفسخ نكاحها بذلك.
وإن لم تقر للثاني، ولا حلفت له، بل نكلت عن اليمين، وردت اليمين عليه، فإن نكل.. سقطت دعواه، وإن حلف: أنه هو السابق.. فقد حصل مع الأول إقرار، ومع الثاني يمين ونكول المدعى عليه. فإن قلنا: إن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه تحل محل البينة.. ثبت النكاح للثاني، وانفسخ نكاح الأول. قال الشيخ أبو حامد: وهذا القول ضعيف جدا. وإن قلنا: إن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه تحل محل إقرار المدعى عليه - وهو الصحيح - ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال الشيخ أبو إسحاق: يبطل النكاحان، لأن مع الأول إقرار، ومع الثاني ما يقوم مقام الإقرار، وليس أحدهما بأولى من الآخر، فبطلا.
و [الثاني] : ومن أصحابنا من قال: يثبت نكاح الأول، لأن إقرارها له أسبق.
قال الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ، والمحاملي: ويلزمها على هذا: أن تغرم مهر مثلها للثاني.
وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ": هل يلزمها الغرم للثاني على هذا؟ فيه قولان.
وقال ابن الصباغ: فعلى قول أبي إسحاق.. لا تعرض عليها اليمين، لأنه لا فائدة فيها.
هذا ترتيب البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا نكلت وحلف الثاني.. فهل ينفسخ نكاح الأول؟ فيه وجهان.

(9/208)


فإذا قلنا: ينفسخ.. قال القفال: فإنه لا يثبت نكاح الثاني. والأول هو المشهور.

[فرع تزوج واحدة واثنتين وثلاثا كلا في عقد]
إذا تزوج رجل امرأة في عقد، وامرأتين في عقد، وثلاثا في عقد، وأشكل: أي العقود كان أولا؟ قال ابن الحداد: صح نكاح الواحدة المنفردة، ولا يصح نكاح الاثنتين ولا الثلاث، لأن العقد على الواحدة إن كان أولا.. فهو صحيح، وإن كان آخرا.. فقد تقدمه العقد على اثنتين، والعقد على ثلاث، فإن كان العقد على اثنتين أولا.. صح، وبطل العقد على الثلاث، لأنهن تمام الخمس، وصح بعده العقد على واحدة، لأنها تمام الثلاث. وإن كان العقد على الثلاث أولا.. فهو صحيح، ولم يصح بعده العقد على الاثنتين، لأنهما تمام الخمس، وصح بعده العقد على واحدة، لأنها تمام الأربع.
وإن كان العقد على الواحدة بين الاثنتين والثلاث.. فهو صحيح، لأنها إما تمام الثلاث، أو تمام الأربع، فصحت بكل حال.
وأما نكاح الاثنتين والثلاث: فإنه يحتمل الصحة والفساد، فيحكم بفساده، لأن الأصل عدم صحة العقد عليهن.
وإن كان بدل الثلاث أربعا.. بطل نكاح الجميع، لأن الواحدة يحتمل أن تكون هي الخامسة.

[فرع وكل من يتزوج له ثلاثا وآخر باثنتين أو طلق]
ولو وكل رجلا: أن يزوجه ثلاث نسوة بعقد واحد، ووكل آخر: أن يزوجه امرأتين بعقد، فأي الوكيلين سبق وعقد له ما وكل فيه.. صح، وبطلت وكالة الثاني. وإن عقدا له ولم يعلم السابق منهما.. بطل الجميع، لأنه لا مزية لأحد العقدين على الآخر.

(9/209)


ولو أذن لهما بذلك في عقود أو أطلق، فإن تزوج له صاحب الثلاث ثلاثا أولا، وتزوج له صاحب الاثنتين واحدة.. صح. وإن تزوج له صاحب الاثنتين باثنتين أولا، وتزوج له صاحب الثلاث باثنتين.. صح. وإن تزوج له صاحب الثلاث بثلاث، وصاحب الاثنتين باثنتين، ولم يعلم السابق.. بطل الجميع، لأنه لا مزية لبعض العقود على بعض.

[فرع ادعاء ورثة الزوج أن الزواج بغير رضاها والإقرار بالزوجية]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الإملاء ": (إذا زوج الرجل أخته من رجل، ثم مات الزوج، فادعى ورثته: أن الأخ زوجها بغير إذنها، وصدقتهم.. فالنكاح باطل، ولا ترث. وإذا ادعت المرأة: أنه زوجها بإذنها.. فالقول قولها، وترث) ، لأن هذا اختلاف في إذنها وهي أعلم به. ولأن الأصل في النكاح أنه يقع صحيحا، فإذا ادعى الورثة فساده.. كان القول قولها، لأن الظاهر صحته.
قال في " الإملاء ": (إذا قال رجل: هذه المرأة زوجتي، وصدقته على ذلك.. ثبتت الزوجية بينهما، وأيهما مات.. ورثة الآخر، لأن الزوجية قد ثبتت.
وإن قال رجل: هذه زوجتي، فسكتت، فإن ماتت.. لم يرثها، لأن إقراره عليها لا يقبل. وإن مات.. ورثته، لأن إقراره على نفسه مقبول.
وكذلك إذا أقرت امرأة بالزوجية لرجل، ولم يسمع منه إقرار، فإن مات.. لم ترثه، وإن ماتت.. ورثها) ، لما ذكرناه في التي قبلها.

[مسألة زواج الصغير العاقل]
يجوز للأب والجد أن يزوج ابنه الصغير إذا كان عاقلا، لما روي: (أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - زوج ابنا له صغيرا) . ولأنه يملك التصرف في مصلحته، وفي

(9/210)


النكاح مصلحة له، لأنه إن بلغ وهو محتاج إلى النكاح.. وجد فرجا معدا له للاستمتاع، وانتفع بها أيضا من وجه آخر، وهو أنها تخدمه وتقوم بحوائجه، فتكون سكنا له، وإن بلغ وهو غير محتاج إلى النكاح.. فإن المرأة تكون سكنا له، وتقوم بمنزله. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يزوج الصغير؟ فيه وجهان، الأصح: لا يزوجه، لأنه لا حاجة به إليه.
وكم يجوز للأب والجد أن يزوجا الصغير؟
حكى الشيخ أبو حامد: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (له أن يزوجه واحدة، واثنتين، وثلاثا، وأربعا، كالبالغ) .
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز أن يزوجه بأكثر من واحدة، لأنه لا حاجة به إلى ما زاد عليها.
ولا يجوز للوصي والحاكم أن يزوجا الصغير، كما لا يجوز للوصي والحاكم أن يزوجا الصغيرة.

[فرع زواج المجنون]
ولا يجوز للأب، ولا للجد، ولا للوصي، ولا للحاكم تزويج الصغير المجنون، لأنه لا يحتاج إلى النكاح في الحال، ولا يُدرَى إذا بلغ.. هل يحتاج إلى النكاح أم لا؟ بخلاف الابن الصغير العاقل، لأن الظاهر أنه يحتاج إلى النكاح عند بلوغه.
فإن كان المجنون بالغا.. نظرت:
فإن كان يجن ويفيق.. لم يجز للولي تزويجه، لأن له حالة يمكن استئذانه فيها، وهو حال إفاقته. وإن لم يكن له حال إفاقة، فإن كان خصيا، أو مجبوبا، أو علم أنه

(9/211)


لا يشتهي النكاح.. لم يجز للولي تزويجه، لأنه لا حاجة به إلى النكاح. وإن علم أنه يشتهي النكاح، بأن يراه يتبع نظره النساء، أو علم ذلك بانتشار ذكره، أو غير ذلك.. جاز للأب والجد تزويجه، لأن فيه مصلحة له، وهو ما يحصل له به من العفاف.. فإن لم يكن له أب ولا جد.. زوجه الحاكم.

[فرع زواج المحجور عليه]
وأما المحجور عليه لسفه: فإن كان غير محتاج إلى النكاح، بأن خلق زمنا، أو ممن لا شهوة في النساء.. لم يجز للولي أن يزوجه، لأن عليه فيه مضرة في وجوب المهر والنفقة عليه من غير منفعة.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إلا أن يحتاج إلى امرأة تخدمه.. فيجوز له تزويجه، لأن في ذلك
مصلحة
له، وهو أنهما إذا كان بينهما نكاح.. صارت محرما له يجوز له الخلوة بها، فيكون أحوط) .
وإن كان له حاجة إلى النكاح، وطالب الولي بذلك.. فعلى الولي أن يزوجه، لأن على الولي أن يفعل ما فيه
المصلحة
له، وهذا من مصالحه، فلزمه القيام به، كالإنفاق على طعامه وكسوته. ولأنه إذا لم يزوجه.. ربما زنا، فأقيم عليه الحد، فيؤدي إلى تلفه.
إذا ثبت هذا: فالولي بالخيار: إن شاء زوجه بنفسه وتولى عقد النكاح، لأنه عقد معاوضة، فجاز للولي أن يفعله، كالبيع. وإن اختار أن يأذن له في أن يتزوج بنفسه.. جاز، لأن المحجور عليه من أهل عقد النكاح، ألا ترى أنه يصح منه الطلاق والخلع؟ وإنما منع منه بغير إذن وليه خوفا من تبذير المال، فإذا أذن لها الولي.. زال

(9/212)


هذا المعنى، فجاز. ويخالف الصبي المراهق، فإن الأب أو الجد إذا أذن له في أن يعقد النكاح بنفسه.. لم يصح، لأنه ليس من أهل عقد النكاح، ولهذا لا يصح منه الطلاق والخلع.
فإذا أذن له الولي أن يتزوج امرأة بعينها، أو من قبيلة عينها له.. جاز. وإن أطلق له الإذن.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يجوز، كما يجوز للسيد أن يطلق الإذن للعبد في النكاح.
والثاني: لا يجوز، لأنه ربما تزوج امرأة شريفة يستغرق مهرها ماله. ويخالف العبد، فإن العادة أنه لا يزوج الشريفة، والمهر أيضا في كسبه، فلا يؤدي إطلاق إذنه إلى إتلاف ماله، بخلاف المحجور عليه.
فإذا تزوج المحجور عليه بإذن الولي.. لم يتزوج إلا بمهر المثل، أو بأقل منه، لأن ما زاد عليه محاباة، فلا يصح منه. فإن تزوج بمهر المثل أو بأقل منه.. صح، وإن تزوج بأكثر من مهر المثل.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (رد الفضل منه) . ولا خلاف أن الزيادة على مهر المثل باطلة. وقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (رد الفضل منه) له تأويلان:
أحدهما: أنه أراد أنه لا يثبت ولا يلزم.
والثاني: أنه أراد إن كان الولي قد سلم إليه مهر المثل والزيادة، وسلم الجميع إلى المرأة.. لزمها رد الفضل. وكلا التأويلين صحيح.
قال ابن الصباغ: وظاهره أن الفضل يبطل، ويصح عقده في الباقي. قال: وكان القياس يقتضي: أن تبطل تسميته، ويثبت مهر المثل في ذمته، لأن التسمية إذا كانت صحيحة.. ملكت مما عينه لها مهر مثلها.
وإن طلب المحجور عليه من الولي أن يزوجه، فامتنع الولي، فتزوج المحجور عليه بنفسه.. فهل يصح؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح، لأنه محجور عليه تزوج بغير إذن وليه فلم يصح، كالعبد، أو كما لو تزوج قبل الطلب.

(9/213)


والثاني: يصح؛ لأن هذا حق تعين له، فإذا لم يتمكن من الوصول إليه من جهة من وجب عليه.. كان له أن يستوفيه بنفسه، كما لو كان له على رجل دين، فامتنع من أدائه.. فله أخذه من ماله بغير إذنه.
فإن تزوج المحجور عليه بغير إذن مع إمكان إذنه.. فالنكاح فاسد.. فإن وطئ المرأة.. فهل يجب عليه مهر المثل؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يجب عليه لأنه أتلف بضعها بشبهة، فجرى مجرى إتلاف المال.
والثاني: لا يجب عليه شيء، لأنها بذلته باختيارها، فهو كما لو باعته مالا وأقبضته إياه.. فإنه لا يضمنه بالإتلاف.

[مسألة تزويجه لابنته الصغيرة بغير كفء]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وليس له أن يزوج ابنته الصغيرة عبدا، ولا غير كفء، ولا مجنونا، ولا مخبولا، ولا مجذوما، ولا أبرص) .
وهذا كما قال: لا يجوز للرجل أن يزوج ابنته الصغيرة لغير كفء، والعبد ليس بكفء للحرة، وقد مضى شروط الكفاءة. فلا يجوز أن يزوجها لمجنون ولا مخبول، لأن القصد من النكاح الاستمتاع، وهذا متعذر منه ولأنه لا يؤمن أن يجني عليها فـ (المخبول) هو: الذي تقادم جنونه وسكن، فلا يتأذى الناس به، أو يكون أبله، لا يحصل منه أذية لغيره. و (المجنون) هو: الذي يكون في ابتداء جنونه يتأذى به الناس.
ولا يزوجها بمجذوم ولا أبرص، لأن النفس تعاف ممن به هذه العيوب.
قال الشيخ أبو حامد: ولأنه يقال: إن هذه العيوب تعدي، وربما أعدت إليها أو إلى ولدها منه.

(9/214)


وكذلك لا يزوجها بخصي، ولا مجبوب، لأن المقصود من النكاح الاستمتاع وذلك لا يوجد منه.
فإن خالف الأب وزوج ابنته الصغيرة ممن به أحد هذه العيوب.. فهل يصح النكاح؟ على الطرق الثلاث إذا زوج المرأة من غير كفء من غير رضاها، أو من غير رضا سائر الأولياء.
فإذا قلنا: إن النكاح باطل.. فلا كلام، وإن قلنا: إن النكاح صحيح.. فهل يجب على الأب أن يختار فسخ النكاح، أو يدعه حتى تبلغ فتختار؟
حكى القاضي أبو الطيب فيه قولين، وحكاهما الشيخ أبو حامد وجهين:
أحدهما: يجب عليه ذلك، لأنه قد فرط، فكان عليه أن يتلافى تفريطه، كالوكيل إذا اشترى شيئا معيبا.
والثاني: لا يجب عليه، وليس له ذلك، لأن الشهوات تختلف، وقد تختار المرأة التزويج ممن به هذه العيوب.
فعلى هذا: إذا بلغت.. كانت بالخيار: فإن شاءت.. فسخته، وإن شاءت.. أقرته.
قال ابن الصباغ: هذا إذا كان المزوج هو الولي وحده، وأما إذا كان معه غيره: فلهم الاعتراض على العقد، وفسخه قولا واحدا، لأن العاقد أسقط حقه برضاه، والباقون لم يرضوا.
وإن أراد أن يزوج أمته من عبد.. جاز، لأنه مكافئ لها. وإن أراد أن يزوجها من غير كفء لها.. قال الشيخ أبو حامد: صح، لأن الكفاءة إنما اعتبرت في نكاح الحرة، لما يلحقها بعقده من النقص في نسبها، والأمة لا نسب لها، فيلحقها النقص فيه.. ولكن إن أراد تزويجها بمجنون، أو مخبول، أو مجذوم، أو أبرص، أو مجبوب، أو خصي لم يكن له ذلك، لأن الضرر الذي يلحق الحرة في ذلك يلحق الأمة.. فلم يجز.
فإن قيل: أليس لو باع أمته من مجذوم، أو أبرص، أو مجبوب، أو مخبول ... صح البيع؟

(9/215)


قلنا: الفرق بينهما: أن المقصود من النكاح الاستمتاع، بدليل: أنه لا يصح تزويجها ممن لا يحل له الاستمتاع بها. والمقصود بالبيع: المال، ولهذا: يصح بيعها ممن لا يحل له الاستمتاع بها.
فإن خالف وزوج أمته ممن به أحد هذه العيوب.. فهو كما لو زوج ابنته لغير كفء من غير رضاها، فإن قلنا: لا يصح.. فلا كلام. وإن قلنا: يصح، فإن كانت كبيرة.. كان لها الخيار في فسخ النكاح، وإن كانت صغيرة أو مجنونة.. فهل يجب على السيد أن يفسخ النكاح، أو ليس له ذلك بل تترك إلى أن تبلغ وتختار؟ فيه وجهان، كما قلنا فيه إذا زوج ابنته الصغيرة من أحدهم.

[فرع تزويجه ابنه الصغير امرأة ليست بكفء أو بها عيب]
ولا يزوج ابنه الصغير بامرأة ليست بكفء له، ولا بمجنونة، ولا بمخبولة، ولا مجذومة، ولا برصاء، ولا رتقاء، ولا قرناء، لأنه لا مصلحة له في تزويج إحداهن.
فإن زوجه بأمة.. لم يصح قولا واحدا، لأن تزويج الأمة إنما يصح للحر إذا لم يجد طول حرة، ويخاف العنت، فإن كان الصبي موسرا.. لم يوجد الشرطان في حقه، وإن كان معسرا.. فإنه لا يخاف العنت.
وإن زوجه بحرة ليست بكفء له، أو بها أحد هذه العيوب.. فهل يصح؟ على الطرق الثلاث فيمن زوج ابنته الصغيرة بغير كفء. فإذا قلنا: يصح.. فهل يجب عليه أن يفسخ النكاح، أو ينتظر بلوغه؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما.
وإن زوج ابنه المجنون برتقاء أو قرناء، فإن قلنا: يصح تزويج الصغير العاقل بها.. صح في المجنون. وإن قلنا: لا يصح تزويج الصغير العاقل بها.. ففي المجنون وجهان:

(9/216)


أحدهما: لا يصح، كما لو زوجها من الصغير العاقل.
والثاني: يصح، لأنه لا ضرر عليه في ذلك، لأنه لا يحتاج إلى الوطء.

[فرع أصناف لا تزوج للصغير]
قال الصيمري: ولا يزوج ابنه الصغير بعجوز هرمة، ولا بمقطوعة اليدين أو الرجلين، ولا عمياء، ولا زمنة، ولا بيهودية، ولا نصرانية. ولا يزوج ابنته الصغيرة بشيخ هرم، ولا بمقطوع اليدين أو الرجلين، ولا بأعمى، ولا زمن، ولا بفقير مرمل وهي غنية. فإن فعل ذلك.. فسخ.
وعندي: أنها تحتمل وجها آخر: أنه لا يكون له الفسخ، لأنه ليس بأعظم ممن زوج ابنته الصغيرة بمجذوم أو أبرص.

[مسألة إجبار العبد على النكاح]
وإن دعا السيد عبده البالغ النكاح، فامتنع العبد.. فهل يجبره السيد على النكاح؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (له إجباره على النكاح) - وبه قال مالك، وأبو حنيفة رحمهما الله - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] [النور: 32] . والظاهر: أن للسادة إنكاح العبيد والإماء على كل حال. ولأنه رقيق له، يملك بيعه، فملك إجباره على النكاح، كالأمة.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يملك إجباره) - وبه قال أحمد رحمة الله عليه- لأن النكاح سبب يملك به الاستمتاع، فلم يملك المولى إجبار عبده عليه، كالقسم بين امرأتيه. ولأنه لو كان للعبد زوجة.. لم يملك المولى إجباره على الوطء، فلم يملك إجباره على النكاح.
وإن كان العبد صغيرا أو مجنونا.. فهل يملك المولى إجباره على النكاح؟
من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالكبير العاقل.

(9/217)


ومنهم من قال: له إجباره قولا واحدا، لأن للصغر والجنون تأثيرا في الإجبار على النكاح، بدليل: أنه يجبر ابنه الصغير والمجنون على النكاح، ولا يجبر العاقل البالغ.

[فرع طلب العبد النكاح]
وإن طلب العبد من سيده أن يأذن له في النكاح، فإن أذن له أن يتزوج ممن شاء، أو أذن له مطلقا.. كان له أن يتزوج ممن شاء، حرة كانت أو أمة.
وإن تزوج من بلد غير بلد السيد.. صح النكاح، ولكن للسيد أن يمنعه من الخروج إليها، لأن له أن يمنعه من السفر.
وإن أذن له أن يتزوج امرأة بعينها، حرة أو أمة فتزوج غيرها، أو أذن له أن يتزوج أمة فتزوج حرة، أو أذن له أن يتزوج حرة فتزوج أمة.. لم يصح، لأنه خالف الإذن.
فإن أذن له أن يتزوج من بلد فتزوج من بلد غيرها.. لم يصح، لما ذكرناه.
قال الصيمري: فإن كان للمرأة عبد فسألها التزويج، فأذنت له أن يتزوج وهو بالغ عاقل.. جاز، لأنه بالغ عاقل، وقد رفعت الحجر عنه بالإذن. فإن كان مجنونا أو صغيرا.. جاز أن تأذن لوليها أن يعقد له التزويج.
وإن امتنع السيد من الإذن له.. فهل يجبر؟ فيه قولان:
أحدهما: يجبر - وبه قال أحمد رحمة الله عليه- لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] [النور: 32] ، وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب.. ولأنه مكلف دعا إلى إنكاحه لحاجته إليه، فأجبر وليه على إنكاحه، كالمحجور عليه للسفه إذا طلب النكاح.
والثاني: لا يجبر السيد- وبه قال مالك وأبو حنيفة رحمة الله عليهما- وهو الأصح، لأنه شخص يملك رقه، فلم يجبر على إنكاحه، كالأمة، والآية: المراد بها الندب. ويخالف السفيه، فإن المنع من إنكاحه، لحظه، فإذا كان محتاجا إلى النكاح.. فالحظ له في التزويج، والمنع من تزويج العبد لحظ السيد، فلو أجبرناه

(9/218)


على إنكاحه.. لأسقطنا حظه. هذا ترتيب الشيخ أبي حامد.
وقال المسعودي [في" الإبانة "] : هل يجبر السيد على إنكاح العبد؟
إن قلنا: إن السيد يجبر العبد على النكاح.. لم يجبر السيد على إنكاح العبد.
وإن قلنا: إن السيد لا يجبر العبد على النكاح.. أجبر السيد على إنكاح العبد.
ومن أصحابنا من قال: لا يجبر السيد على إنكاح العبد قولا واحدا، لأنه لا ولاية للعبد على سيده.
فإن قلنا: لا يجبر السيد على إنكاح العبد، فإن كان السيد رشيدا.. استحب له تزويجه، وإن كان السيد محجورا عليه.. لم يجز لوليه تزويج عبده.
وإن قلنا: يجبر السيد على إنكاح العبد، فإن كان السيد بالغا رشيدا.. أمره الحاكم بإنكاحه، فإن امتنع.. زوجه الحاكم. وإن كان السيد محجورا عليه.. جاز لولي المحجور عليه أن يأذن لعبده في النكاح، فإن لم يأذن له.. أذن له الحاكم.

[فرع المدبر والمعلق عتقه بصفة أو المبعض]
وحكم المدبر والمعلق عتقه بصفة حكم العبد في ذلك، لأنه رقيق يملك بيعه.
وأما من نصفه حر ونصفه مملوك: فإن أراد المولى إجباره على النكاح.. لم يكن له ذلك قولا واحدا، لما فيه من الحرية. وإن طلب العبد النكاح، فإن أذن له مالك نصفه في النكاح، فنكح.. صح، وإن امتنع السيد..فهل يجبر؟ على القولين، كما لو كان يملك جميعه.
وإن ملك السيد عبده جارية، وقلنا: إنه لا يملكها.. لم يكن للعبد وطؤها. وإن قلنا: إنه يملكها، فإن أذن له السيد في وطئها.. جاز له وطؤها، وإن لم يأذن له في وطئها.. لم يكن له وطؤها.
وإن كان نصفه حرا ونصفه مملوكا، فملك بنصفه الحر جارية.. فهل له أن يطأها؟
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يتسرى العبد، ولا من لم تكمل فيه الحرية) .
قال الشيخ أبو حامد: يبنى هذا على القولين: أن العبد يملك:

(9/219)


إن قلنا: لا يملك.. لم يكن لهذا أن يطأ وإن أذن له السيد في الوطء، لأن الوطء لا يتبعض. وإن قلنا: إنه يملك.. لم يكن له أن يطأها قبل أن يأذن له السيد في الوطء، لأن الوطء لا يتبعض. فإن أذن له السيد في الوطء.. جاز، لأنه يجوز له أن يأذن لعبده القن في الوطء على هذا القول، فهذا أولى.
قال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر، لأن السيد لا حق له في الأمة الموطوءة. وأما ما في العبد من الرق: فإنه لا يمنعه من استيفاء الوطء بما يملكه بنصفه الحر، كما يجوز له أن يتصرف ويأكل ما ملكه بنصفه الحر وإن كان يأكل ويتصرف في جميع بدنه.

[فرع إجبار المكاتب أو السيد على النكاح]
فأما المكاتب: فإن أراد المولى إجباره على النكاح.. لم يكن له ذلك قولا واحدا، لأنه صار في الكتابة كالخارج عن ملكه، ولأنه يلزمه المهر والنفقة، وفي ذلك إضرار به. وإن دعا المكاتب سيده إلى النكاح، فامتنع السيد.. فهل يجبر؟
إن قلنا: يجبر السيد على إنكاح العبد القن.. أجبر على إنكاح المكاتب.
وإن قلنا: لا يجبر السيد على إنكاح العبد القن.. فهل يجبر على إنكاح المكاتب؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجبر عليه، لأنه لا يفوت على السيد بذلك حقا، لأنه لا يملك كسبه.
والثاني: لا يجبر عليه، لأن حق المولى متعلق بكسبه، بدليل: أن المكاتب لا يملك أن يهب كسبه، ثم لا يحابي به، وفي النكاح يستحق كسبه للمهر والنفقة.

[فرع إجبار أحد المالكين العبد على النكاح أو طلب العبد له]
وأما العبد بين الشريكين: فإن أرادا إجباره على النكاح فامتنع.. فهل لهما إجباره؟ فيه قولان، كالعبد لسيد واحد. وإن أراد أحدهما إجباره على النكاح وامتنع السيد الآخر والعبد.. لم يجبر العبد قولا واحدا، لأنه لا حق للسيد الطالب لإنكاحه في ملك السيد الآخر.

(9/220)


وإن سأل العبد سيديه أن ينكحاه، فامتنعا..فهل يجبران؟ فيه قولان، كما لو كان لسيد واحد. وإن أجاب أحد السيدين العبد إلى النكاح، وامتنع السيد الآخر.. فهل يجبر الممتنع؟
قال الشيخ أبو حامد: إن قلنا: يجبران لو امتنعا معا.. أجبر الممتنع منهما. وإن قلنا: لا يجبران لو امتنعا معا.. فهل يجبر الممتنع منهما؟ فيه وجهان، كالمكاتب إذا امتنع سيده من تزويجه، لأن جنبة العبد قد قويت بانضمام إجابة أحد سيديه له، فكان كالمكاتب.
قال ابن الصباغ: وهذا بعيد، لأنه يملك نصفه ملكا تاما يتعلق حقه بكسبه، بخلاف المكاتب، ويبطل بمن نصفه حر ونصفه مملوك، إذا طلب من سيده النكاح، لأن الحرية فيه أكثر من إجابة مالك نصفه.

[مسألة شرط حضور الشاهدين وصفتهما]
ولا يصح النكاح إلا بحضرة شاهدين ذكرين عدلين، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس، والحسن البصري، وابن المسيب، والنخعي، والشعبي، والأوزاعي، وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وقال ابن عمر، وابن الزبير، وعبد الرحمن بن مهدي، وداود، وأهل الظاهر: (لا يفتقر النكاح إلى الشهادة) . وبه قال مالك، إلا أنه قال: (من شرطه أن لا يتواصوا بكتمانه، فإن تواصوا على كتمانه.. لم يصح النكاح وإن حضره شهود) . وبه قال الزهري.

(9/221)


وقال أبو حنيفة: (من شرطه الشهادة، إلا أنه ينعقد بشهادة رجلين فاسقين، وعدوين، ومحدودين، شاهد وامرأتين) .
دليلنا: ما روى عمران بن الحصين: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا نكاح إلا بولي وشاهدين» .
وروت عائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل نكاح لم يحضره أربعة.. فهو سفاح: خاطب، وولي، وشاهدان» . وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا نكاح إلا بولي مرشد، وشاهدي عدل» . وروى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا نكاح إلا بولي مرشد، وشاهدي عدل» . ولأنه عقد، فلم يكن من شرط صحته ترك التواصي بالكتمان، كالبيع. ولأن كل ما لم يثبت بشهادة عبدين.. لم يثبت بشهادة فاسقين، كالإثبات عند الحاكم.

[فرع عدالة الشهود ظاهرا وباطنا]
] . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والشهود على العدالة، حتى يعلم الجرح يوم وقع النكاح) .
وجملة ذلك: أنه إذا عقد النكاح بحضرة شاهدين، فإن علمت عدالتهما ظاهرا وباطنا.. انعقد النكاح بشهادتهما، وإن عملت عدالتهما في الظاهر، وجهلت في الباطن.. ففيه وجهان، حكاهما في " المهذب ".
[أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: لا يصح، لأن ما افتقر ثبوته إلى الشهادة.. لم يثبت بمجهول الحال، كالإثبات عند الحاكم.
والثاني - وهو المذهب، ولم يحك الشيخ أبو حامد وابن الصباغ غيره-: أن النكاح صحيح، لأن الظاهر العدالة، ولأنا لو اعتبرنا العدالة الباطنة.. لم ينعقد النكاح إلا بحضرة الحاكم؛ لأن العامة لا يعرفون شروط العدالة، وقد أجمع المسلمون: على جواز انعقاده بغير حضور الحاكم.
فإذا قلنا بهذا: فبان أنهما فاسقان، فإن حدث هذا الفسق بعد العقد.. لم يؤثر،

(9/222)


لأن الاعتبار وجود العدالة حال العقد.. وإن بان أنهما فاسقان حال العقد.. لم يصح النكاح، لأن فسقهما ينافي قبول شهادتهما على النكاح.
ومن أصحابنا من قال: فيه قولان، كالقولين في الحاكم إذا حكم بشهادة شاهدين ظاهرهما العدالة، ثم بان فسقهما حال الشهادة. وليس بشيء.
فإن ترافع الزوجان إلى الحاكم، وأقرا بالنكاح، وأنه عقد بشهادة رجلين ظاهرهما العدالة، واختصما في حق من حقوق الزوجية، كالنفقة والكسوة وما أشبههما.. فإن الحاكم يحكم بينهما فيما احتكما فيه، ولا ينظر في حال عدالة الشاهدين في الباطن، إلا أن يعلم أنهما فاسقان.. فلا يحكم بينهما.
فإن جحد أحد الزوجين الآخر، فأتى المدعي منهما بشاهدين، فإن علم الحاكم عدالتهما ظاهرا وباطنا حين عقد النكاح.. حكم بصحة النكاح. وإن علم فسقهما حال الشهادة.. لم يحكم بصحة العقد، بل يحكم بفساده على المذهب. وإن عرف أنهما كانا عدلين في الظاهر، وجهل عدالتهما في الباطن.. فلا يجوز أن يحكم بصحة العقد ولا بفساده، بل يتوقف إلى أن يعلم عدالتهما في الباطن، لأنه لا يجوز أن يحكم بشهادة شاهد إلا بعد المعرفة بحاله ظاهرا وباطنا، بخلاف ما لو أقرا بالنكاح. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ".
وذكر ابن الصباغ: أن الرجل إذا ادعى نكاح امرأة بولي وشاهدي عدل، فأقام شاهدين عند الحاكم.. فإنه يبحث عن حالهما حين الحكم، ولا يبحث عن حالهما حين العقد. والأول أصح.
وهل ينعقد النكاح بشهادة أعميين، أو أعمى وبصير؟ فيه وجهان:
أحدهما: ينعقد، لأن الأعمى من أهل الشهادة.
والثاني: لا يصح، لأنه لا يعرف العاقد، فهو كالأصم الذي لا يسمع لفظ العاقد.

(9/223)


وهل ينعقد بشهادة أخرسين، أو أخرس وناطق؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا ينعقد. قال الشيخ أبو حامد: وهو المذهب، لأن الشهادة تفتقر إلى صريح اللفظ، والأخرس لا يتأتى منه ذلك.
والثاني: ينعقد. قال القاضي أبو الطيب: وهو المذهب، لأن إشارته إذا كانت مفهومة.. تقوم مقام عبارة وغيره.
وهل ينعقد بشهادة أصحاب الصنع الدنية، مثل: الحجام والحائك والكناس وغيرهم؟ فيه وجهان، بناء على جواز قبول شهادتهم في سائر الحقوق، ويأتي بيانهما في موضعهما، إن شاء الله تعالى.
وإن عقد النكاح بشهادة ابني أحد الزوجين، أو بشهادة أبيه وجده، أو بشهادة عدوي أحد الزوجين.. صح النكاح، لأن النكاح يثبت بشهادتهما، وهو: إذا شهد الابنان على والدهما، أو شهد العدوان لعدوهما.
وإن عقد النكاح بشهادة ابني أحد الزوجين، أو ابن لهذا وابن لهذا، أو جد هذا وجد هذا، أو عدوين لهما.. ففيه وجهان:
أحدهما: ينعقد، لأنهما من أهل الشهادة في النكاح في الجملة.
والثاني: لا ينعقد، لأنه لا يثبت بشهادتهما بحال من الأحوال.
ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: ينعقد بشهادة العدوين وجها واحدا، لأن العداوة قد تزول.

[فرع ما يشترط في حضور وسماع الشاهدين]
وليس من شرط الشهادة إحضار الشاهدين، بل لو حضر الشاهدان لأنفسهما، وسمعا الإيجاب والقبول.. صح ذلك. ولو سمعا الإيجاب والقبول، ولم يسمعا

(9/224)


الصداق.. صح النكاح، لأن الصداق ليس بشرط في النكاح. وإن سمع أحد الشاهدين الإيجاب، وسمع الآخر القبول.. لم يصح النكاح، لأنهما شرط في الإيجاب والقبول.

[فرع ما يشترط في ولي الكتابية والشاهدين]
إذا تزوج المسلم كتابية.. فإنه يتزوجها من وليها الكافر، إذا كان عدلا في دينه، ولا يصح إلا بحضرة شاهدين مسلمين عدلين.
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا يصح أن يتزوجها إلا من المسلم) .
وقال أبو حنيفة: (يتزوجها من وليها الكافر، ويصح أن يكون بشهادة كافرين) .
دليلنا - على أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] [التوبة: 71] . فدل على: أنه لا ولاية لهم على الكافرين.
وعلى أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنهما شاهدان لا يثبت بهما نكاح المسلمة، فلم يثبت نكاح الكافرة، كالعبدين. والفرق بين الولي والشاهدين: أن الولي إنما أريد لدفع العار عن النسب، والكافر كالمسلم في دفع العار. والشاهدان يرادان لإثبات الفراش عند جحد أحد الزوجين، وليس الكافر كالمسلم في إثبات الفراش، لأنه لا يثبت بشهادته الفراش. ولأن الولي يتعين في العقد، فتأكد حاله، فجاز أن يكون كافرا، والشاهد لا يتعين، فلم يجز أن يكون كافرا.

[فرع اختلاف حال الشاهدين بين الإيجاب والقبول وشهادة الخثنى]
فإن حضر عقد النكاح عبدان أو كافران، فوقع الإيجاب في حال رقهما أو في حال كفرهما، ووقع القبول في حال عتقهما أو في حال إسلامهما.. لم يصح، لأنه يشترط كمالهما عند الإيجاب والقبول
وإن عقد النكاح بشهادة رجل وخنثى، أو بشهادة خنثيين.. لم يصح، لأنه لا يتيقن كونه رجلا. فلو بان أنه رجل في الأولى، أو بانا رجلين في الثانية.. قال

(9/225)


القاضي: احتمل أن يكون في العقد وجهان، كما لو صلى رجل خلف خنثى، فبان أنه رجل قبل أن يقضي المؤتم به.

[مسألة اختلاف الزوجين بحال الشاهدين]
] : إذا اختلف الزوجان، فقالت الزوجة: عقدنا بشهادة فاسقين، وقال الزوج: عقدنا بشهادة عدلين.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن القول قول الزوج مع يمينه، لأن الظاهر العدالة.
والثاني: القول قول الزوجة مع يمينها، لأن الأصل عدم العدالة وعدم العقد.
إذا ثبت هذا: فالذي يقتضي المذهب: أن الزوج لو مات والزوجة باقية.. فإنها لا ترثه، لأنها تقر: أنها ليست بزوجة له. وأما المهر: فإن مات قبل أن يدخل بها: أو طلقها قبل الدخول.. فإنها لا تستحق عليه مهرا، لأنها لا تدعيه. وإن دخل بها.. فإنها لا تستحق عليه إلا أقل الأمرين: من المسمى، أو مهر المثل، لأنه إن كان المسمى أقل.. لم يجب لها أكثر منه بيمين الزوج، وإن كان مهر المثل أقل.. لم يجب لها أكثر منه، لأنها لا تدعي الزيادة.
وإن قال الزوج: عقدنا بشهادة فاسقين، وقالت المرأة: عقدنا بشهادة عدلين.. فمن القول قوله؟ على الوجهين الأولين. وعلى كلا الوجهين: يحكم عليه بانفساخ النكاح، لأنه أقر بتحريمها عليه.
فإن كان ذلك قبل الدخول، فإن قلنا: القول قوله، فحلف.. فلا شيء عليه. وإن قلنا: القول قولها، أو نكل فرد عليها اليمين فحلفت.. وجب لها نصف المسمى.
وإن كان ذلك بعد الدخول، فإن قلنا: القول قوله، فحلف.. لزمه أقل الأمرين: من المسمى، أو مهر المثل، لأنها لا تدعي أكثر من المسمى. وإن قلنا: القول قولها فحلفت، أو قلنا: القول قوله فنكل، وحلفت.. لزمه المسمى.

(9/226)


وإن ماتت قبله.. لم يرثها، لأنه يقر: أنها ليست له بزوجة. وإن مات قبلها، فإن قلنا: القول قوله، فمات قبل أن يحلف.. انتقلت هذه اليمين إلى سائر ورثته، فيحلفون: أنهم لا يعلمون أنه تزوجها بشهادة عدلين. ولا ترث معهم. وإن قلنا: القول قولها.. حلفت: أنه نكحها بشهادة عدلين. وورثته.

[مسألة تعيين المرأة في النكاح]
مسألة: [لا بد في النكاح من تعيين المرأة] :
إذا أراد عقد النكاح على امرأة.. فلا بد أن تتميز عن غيرها بالمشاهدة، أو بالصفة، أو بالتسمية. فإذا كان له ابنة واحدة وهي حاضرة، فإن قال: زوجتك هذه.. صح، ولم يحتج إلى ذكر اسمها، ولا إلى صفتها. وإن قال: زوجتك ابنتي هذه، وزوجتك هذه عائشة.. صح، لأنها تميزت بالإشارة، وكان ما زاد تأكيدا. وإن كان اسمها عائشة، فقال: زوجتك هذه فاطمة.. فقال البغداديون من أصحابنا: يصح، لأنه لا حكم لتغيير الاسم مع الإشارة.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يصح؟ فيه وجهان، وبناء على الوجهين فيما لو قال: بعتك هذا البغل، وكان حمارا، أو فرسا.
وإن كان له ابنة واحدة اسمها عائشة، وهي غائبة عنهما، فإن قال: زوجتك ابنتي.. صح، لأن قوله ابنتي صفة لازمة لها لا تختلف، وليس له غيرها. وإن قال: زوجتك ابنتي عائشة.. صح، لأن النكاح ينعقد بقوله: ابنتي، فإذا سماها باسمها.. كان تأكيدا. وإن قال: زوجتك ابنتي فاطمة، فغير اسمها.. فقال البغداديون من أصحابنا: يصح، لأن قوله ابنتي صفة لازمة لها لا تختلف ولا تتغير، والاسم يتغير ويختلف، فاعتبر حكم الصفة اللازمة، وألغي الاسم.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : لا يصح، ولم يذكر له وجها.
وإن قال: زوجتك عائشة، وقصد ابنته.. فذكر الشيخ أبو إسحاق، والطبري في

(9/227)


" العدة "، وحكاه ابن الصباغ عن الشيخ أبي حامد: أنه يصح، لأنها تتميز بالنية. وإن لم يقصد ابنته.. لم يصح.
قال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر، لأن هذا العقد يعتبر فيه الشهادة، فلا بد أن يكون العقد مما يصح أداء الشهادة على وجه يثبت به العقد، وهذا متعذر في النية. ولم أجد فيما قرأت من تعليق الشيخ أبي حامد، وفي " المجموع " إلا أنه لا يصح من غير تفصيل، لأن هذا الاسم يقع على ابنته وعلى من اسمها عائشة، فلا تتميز بذلك عن غيرها.
فإن كانت له ابنتان: كبيرة اسمها عائشة، وصغيرة اسمها فاطمة، فإن قال: زوجتك ابنتي، أو إحدى ابنتي.. لم يصح؛ لأن المزوجة غير متميزة. وإن قال: زوجتك ابنتي عائشة، أو ابنتي الكبيرة.. صح، لأنه قد ميزها بالصفة أو بالاسم، وإن قال: زوجتك ابنتي الكبيرة عائشة.. صح، لأن هذا آكد.
وإن قال: زوجتك ابنتي الكبيرة فاطمة، فغير اسمها.. صح العقد على الكبيرة، لأن الاعتبار بالصفة دون الاسم. وهكذا إن قال: زوجتك ابنتي الصغيرة عائشة، فغير اسمها.. صح النكاح على الصغيرة، ولا يضر تغييره للاسم. وعلى قول المسعودي [في" الإبانة "] في التي قبلها: لا يصح هاهنا.
وإن قال: زوجتك ابنتي عائشة، وهو ينوي الصغيرة، واسم الصغيرة فاطمة، فقبل الزوج وهو ينوي الصغيرة أيضا.. قال الشيخ أبو حامد: ينعقد النكاح على الصغيرة، لاتفاق نيتهما، ولا يضر تغيير الاسم.
وإن قال: زوجتك ابنتي عائشة، وهو ينوي الصغيرة، وقبل الزوج وهو ينوي الكبيرة.. انعقد النكاح في الظاهر على الكبيرة، لأنه أوجب نكاحها له فقبله، وفي الباطن هو مفسوخ، لأنه أوجب له النكاح في الصغيرة، فقبل في الكبيرة.
وإن قال: زوجتك ابنتي، فقبل الزوج، ونويا الكبيرة.. فقال الشيخ أبو إسحاق: صح، لأنها تميزت بالنية.
وقال ابن الصباغ: لا يصح، لأنه لا يمكن أداء الشهادة في هذا.

(9/228)


[فرع اختلاف البنتين على العقد بعد وفاة وليهما]
وإن كان لرجل ابنتان، فزوج رجلا إحداهما بعينها، ثم مات الأب، وادعت كل واحدة اثنتين على الزوج أنها هي التي زوجها أبوها منه، فإن أنكرهما.. حلف لكل واحدة منهما يمينا، وإن أقر لإحداهما.. ثبتت زوجيتها. فإن ادعت عليه الأخرى النكاح بعد ذلك.. قال ابن الحداد: لم تسمع دعواها، لأنه قد أقر بتحريمها على نفسه. وإن ادعت عليه نصف المهر.. فالقول قوله مع يمينه، فإن حلف لها.. فلا كلام، وإن نكل.. حلفت، ووجب لها نصف المسمى الذي ادعته.
وإن لم يدعيا عليه، ولكنه ادعى على إحداهما أنها زوجته، فإن أقرت له.. ثبت النكاح بينهما وإن أنكرت.. حلفت له، وسقطت دعواه. وإن نكلت، فحلف.. ثبت نكاحها له. فإن ادعى بعد ذلك على الأخرى.. لم تسمع دعواه. قال ابن الحداد: ووجب عليه لها نصف مهرها.
قلت: وينبغي أنه لا يثبت لها ذلك إلا إذا ادعته، فأما إذا لم تدعه.. لم يثبت لها. قال ابن الحداد: ويكون ذلك إبطالا لنكاح التي أقر بنكاحها أولا، ويجب لها نصف مهرها إن لم يدخل بها، وجميع مهرها إن كان قد دخل بها.

[فرع تزويج الحمل]
فرع [لا يصح تزويج الحمل] : إذا قال زوجتك حمل هذه المرأة إن كان ابنة.. لم يصح النكاح، لأنه قد يكون ريحا فينفش فلا يتحقق وجوده، وقد يكون ذكرا، وقد يكون ابنتين فلا يعلم أيتهما المعقود عليها، وهذا غرر من غير حاجة، فلم يصح.

[فرع الكتابة للولي بطلب التزويج لا تعد وكالة]
إذا كتب رجل إلى الولي: زوجني ابنتك، فقرأه الولي أو غيره بحضرة شاهدين، فقال الولي: زوجته.. لم ينعقد النكاح.

(9/229)


وحكى ابن الصباغ: أن أبا حنيفة وأصحابه قالوا: (يصح) .
دليلنا: أنه لم يوكل القارئ.. فلم يصح، كما لو استدعاه من غائب، فبلغه، فأوجب.

[مسألة ما يقول في خطبة النكاح]
وإذا أراد العقد.. خطب الولي، أو الزوج، أو أجنبي، فيحمد الله تعالى، ويصلي على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويوصي بتقوى الله، ويرغب في النكاح، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه بحمد الله.. فهو أبتر» ، والنكاح من الأمور التي لها بال. ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب لما أراد تزويج فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.
والخطبة مستحبة غير واجبة. وبه قال عامة أهل العلم، إلا داود، فإنه قال: (إنها شرط في النكاح) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نكاح إلا بولي مرشد، وشاهدي عدل» ، ولم يشترط الخطبة. ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «زوج الواهبة ولم يخطب» ، و: «تزوج عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ولم يخطب» .
إذا ثبت هذا: فللنكاح خطبتان:
إحداهما: تتقدم العقد.
والثانية: تتخلله.
فأما التي تتقدم العقد: فيستحب أن يخطب، لما روى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:

(9/230)


أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب، فيقول: «الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله.. فلا مضل له، ومن يضلل.. فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا رسول الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] [النساء:1] : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] [آل عمران:102] : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71] [الأحزاب: 70-71] » .
قال الشيخ أبو حامد: وقد روي في بعض الروايات: أنه قال في الثلاث الآيات: " يا أيها الناس ".
قال: وحكي عن بعض المتأخرين: أنه كان يقول: «المحمود الله، والمصطفى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وخير ما عمل به كتاب الله» .
قال: وزاد بعضهم، فكان يقول: «المحمود الله ذو الجلال والإكرام، والمصطفى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وخير ما عمل به كتاب الله المفرق بين الحلال والحرام» . ويستحب أن يقول في النكاح مما أمر الله به وندب إليه.
وأما الخطبة التي تتخلل العقد: فبأن يقول الولي: باسم الله، والحمد لله، وصلى الله على محمد رسول الله، أوصيكم بتقوى الله. ويقول - كما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (أنكحتك على ما أمر الله به، ومن إمساك بمعروف أو تسريحٍ

(9/231)


بإحسان، ثم يقول الزوج: باسم الله، والحمد لله، وصلى الله على رسول الله، أوصيكم بتقوى الله، قبلت نكاحها. فاختلف أصحابنا في صحة العقد مع ذلك:
فذكر الشيخ أبو حامد والمحاملي وابن الصباغ: أن ذلك يصح، لأن الخطبة متعلقة بالنكاح، فلم يؤثر فصلها بين الإيجاب والقبول، كالتيمم بين صلاتي الجمع.
وحكى الشيخ أبو إسحاق عن بعض أصحابنا: أن الفصل بين الإيجاب والقبول بالخطبة يبطل العقد، كما لو فصل بينهما بغير الخطبة، ويخالف التيمم، فإنه مأمور به بين الصلاتين، والخطبة مأمور بها قبل العقد.
ويكره أن يقال للزوج بعد العقد: بالرفاء والبنين، لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يقال: بالرفاء والبنين» ، ولكن يستحب أن يقال له: بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير، لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا رفأ الإنسان - إذا تزوج - قال له ذلك» .
قال الأصمعي: والرفاء يكون من الاتفاق وحسن الاجتماع، ومنه أخذ رفؤ الثوب، لأنه يضم بعضه إلى بعض ويلأم، ويكون من الهدوء والسكون. قال الشاعر:

(9/232)


رفوني, وقالوا: يا خويلد! لم ترع ... فقلت, وأنكرت الوجوه: هم هم
يقول: سكنوني.

[مسألة لفظ النكاح أو التزويج شرط في عقد النكاح]
ولا ينعقد النكاح- عندنا- إلا بلفظ النكاح أو التزويج، وهما اللفظتان اللتان ورد بهما القرآن، وهو قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] [النساء:22] ، وقَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] [الأحزاب:37] .
فأما لفظ البيع والتمليك والهبة والإجارة وغيرها من الألفاظ.. فلا ينعقد بها النكاح. وبه قال عطاء، وابن المسيب، والزهري، وربيعة، وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال أبو حنيفة: (ينعقد النكاح بكل لفظ يقتضي التمليك، كالبيع، والتمليك، والهبة، والصدقة) . وفي لفظ الإجارة عنه روايتان، (ولا ينعقد بلفظ: الإباحة والتحليل) .
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن ذكر المهر مع الألفاظ التي تقتضي التمليك.. انعقد بها النكاح، وإن لم يذكر المهر.. لم ينعقد بها النكاح) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] [الأحزاب:50] ، فذكر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مخصوص بالنكاح بلفظ الهبة، وأن غيره لا يساويه. ولأنه لفظ ينعقد به غير النكاح، فلم ينعقد به النكاح، كالإجارة والإباحة.

[مسألة ألفاظ الإيجاب والقبول]
مسألة: [صور من ألفاظ الإيجاب والقبول] :
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والفرج محرم قبل العقد، فلا يحل أبداً إلا بأن يقول الولي: قد زوجتكها أو أنكحتكها، ويقول الزوج: قد قبلت تزويجها أو نكاحها) .

(9/233)


وجملة ذلك: أن الولي إذا قال: زوجتك ابنتي، فقال الزوج: قبلت التزويج أو النكاح، أو قال: أنكحتك ابنتي، فقال الزوج: قبلت النكاح أو التزويج.. صح ذلك، لأنه قد وجد الإيجاب والقبول في النكاح أو التزويج.
فإن قال الولي: زوجتك ابنتي، أو أنكحتك، فقال الزوج: قبلت ولم يقل النكاح ولا التزويج.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع: (يصح) ، وقال في موضع: (لا يصح) . واختلف أصحابنا فيها على ثلاثة طرق:
فـ[الطريق الأول] : منهم من قال: لا يصح قولاً واحداً، وحيث قال: (يصح) أراد: إذا قبل الزوج قبولاً تاماً.
و [الثاني] : منهم من قال: يصح قولاً واحداً، وحيث اشترط الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لفظ النكاح أو التزويج في القبول.. أراد على سبيل التأكيد.
وهذا لا يصح، لأنه قال: (لا ينعقد النكاح) .
و [الثالث] : قال أكثر أصحابنا: هي على قولين- وهذا اختيار الشيخ أبي إسحاق وابن الصباغ -:
أحدهما: يصح- وهو قول أبي حنيفة وأحمد رحمة الله عليهما- لأن قوله: (قبلت) إذا ورد على وجه الجواب عن إيجاب متقدم.. كان المراد به قبول ما تقدم فصح، كما لو قال: بعتك داري، أو وهبتكها، فقال: قبلت.. فإنه يصح.
والثاني: لا يصح. قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح، لأن الاعتبار في النكاح أن يحصل الإيجاب والقبول فيه بلفظ النكاح أو التزويج، فإن عري القبول منه.. لم يصح، كما لو قال رجل لآخر: زوجت ابنتك من فلان، فقال الولي: نعم، وقال الزوج: قبلت النكاح.. فإن هذا لا يصح بلا خلاف.
وإن قال الولي: زوجتك ابنتي، فقال الزوج: نعم.. قال الصيمري: هو كما لو قال الزوج: قبلت، على الطرق الثلاث.
وقال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: لا يصح قولاً واحداً.
وإن قال الزوج: زوجني ابنتك، فقال الولي: زوجتك.. صح ذلك، ولا يفتقر

(9/234)


الزوج إلى أن يقول: قبلت نكاحها- وقد وافقنا أبو حنيفة هاهنا، وخالفنا في البيع- لما روي: أن الذي تزوج الواهبة قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: زوجنيها يا رسول الله، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «زوجتكها» ، ولم يأمره بالقبول بعد هذا.
وإن قال الزوج: أتزوجني ابنتك؟ فقال الولي: زوجتك.. لم يصح حتى يقول الزوج: قبلت التزويج أو النكاح، لأن قوله: أتزوجني؟ استفهام وليس باستدعاء.
ولو قال الولي: أتستنكحها؟ فقال الزوج: قد استنكحت، أو قد تزوجت.. لم يكن بد من قول الولي بعد هذا: زوجتك أو أنكحتك، لأن ما تقدم إنما كان استفهاماً ولم يكن عزيمة.

[فرع عقد النكاح بغير العربية]
وإن عقد النكاح بالعجمية: فاختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبو حامد.. إن كانا يحسنان العربية.. لم يصح العقد بالعجمية وجهاً واحداً، وإن كانا لا يحسنان العربية.. فهل يصح العقد بالعجمية؟ فيه وجهان، المذهب: أنه يصح.
وقال القاضي أبو الطيب.. إن كانا لا يحسنان العربية.. صح العقد بالعجمية وجها واحدا، وإن كانا يحسنان بالعربية.. فهل يصح العقد بالعجمية؟ فيه وجهان.
وقال الشيخ أبو إسحاق: فيها ثلاثة أوجه:
أحدها: لا يصح العقد بالعجمية بكل حال، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «استحللتم فروجهن بكلمة الله» ، وكلمة الله إنما هي بالعربية.

(9/235)


والثاني: إن كانا يحسنان العربية.. لم يصح العقد بالعجمية، وإن كانا لا يحسنان العربية.. صح عقده بالعجمية، كما قلنا في تكبيرة الإحرام.
والثالث: يصح العقد بالعجمية بكل حال، لأن لفظ العجمية يأتي على ما تأتي عليه العربية في ذلك.
وإن كان أحدهما يحسن العربية ولا يحسن العجمية، والآخر يحسن العجمية ولا يحسن العربية، وقلنا: يصح العقد بالعجمية.. صح العقد بينهما بشرط أن يفهم القابل أن الولي أوجب له النكاح، لأنه إذا لم يفهم.. لا يصح أن يقبل.
وهكذا: إذا حضر شاهدان أعجميان وعقد بالعربية، أو عربيان وعقد بالعجمية.. فلا يصح إلا إذا فهما أن العاقدين عقدا النكاح، لأن الغرض بالشاهدين معرفتهما بالعقد وتحملهما الشهادة.

[فرع تخلل وقت بين القبول والإيجاب أو طروء جنون ونحوه]
إذا تخلل بين الإيجاب والقبول زمان طويل.. لم يصح، وإن تخلل بينهما زمان يسير يجري مجرى بلع الريق وقطع النفس.. صح، لأن ذلك لا يمكن الاحتراز منه.
قال الصيمري: ولو صبر الزوج بعد الإيجاب بعض ساعة، فقبل.. ففيه وجهان. وإن أوجب الولي، فزال عقله بإغماء أو جنون، ثم قبل الزوج، أو استدعى الزوج النكاح، ثم زال عقله قبل إيجاب الولي، ثم أوجب له الولي.. لم يصح.
وإن أذنت المرأة لوليها في النكاح، ثم أغمي عليها، أو جنت قبل التزويج.. بطل إذنها، لأن العقد جائز قبل إتمامه، وكذلك الإذن، فانفسخ لما ذكرناه، كالوكالة والشركة.

[فرع توكيل من تقبل النكاح]
وإذا وكل الزوج من يقبل له النكاح، أو قبل الأب لابنه الصغير.. فإن النكاح لا يصح حتى يسمى الزوج في الإيجاب والقبول، فيقول الولي: زوجت فلانة فلاناً-

(9/236)


ويسمي الزوج- ويقول القابل من قبل الزوج: قبلت النكاح لفلان- ويسمي الزوج- بخلاف الوكيل في الشراء، فإنه لا يجب ذكر الموكل، لأن النكاح لا يقبل نقل الملك فيه- أي: أن الرجل لا يجوز أن يتزوج امرأة، ثم ينتقل نكاحها منه إلى غيره- والملك في المال يقبل النقل، أي: أنه يجوز أن يتملك الرجل عيناً، ثم ينتقل ملكها منه إلى غيره.
قال الطبري: ولهذا قال أصحابنا: لو قال رجل لآخر: وكلتك أن تزوج ابنتي من زيد، فزوجها من وكيل زيد.. صح، لأنه في الحقيقة زوجها من زيد. ولو قال: وكلتك أن تبيع عبدي هذا من زيد، فباعه من وكيل زيد.. لم يصح لهذا المعنى.

[فرع عقد النكاح ملزم]
وإذا انعقد النكاح.. لزم ولم يثبت فيه خيار المجلس ولا خيار الثلاث، وقد مضى ذلك في البيع.
والله أعلم بالصواب.

(9/237)


[باب ما يحرم من النكاح وما لا يحرم]
لا يصح نكاح المرتد والمرتدة، لأن القصد بالنكاح الاستمتاع، وذلك لا يوجد في حقهما، لأنهما يقتلان، ولأن الردة تقتضي إبطال النكاح قبل الدخول، فلا ينعقد النكاح معها، كالرضاع.
ولا يصح نكاح الخنثى المشكل، لأنه لا يدرى أنه رجل أو امرأة، فإن أخبر الخنثى: أنه يشتهي النساء فزوج بامرأة.. صح النكاح.
وإن حمل هذا الخنثى.. تبينا أنه امرأة، وأن نكاحه كان باطلاً، لأن الحمل دليل على الأنوثية من طريق القطع.

[مسألة المحرمات من النساء بالنسب]
النساء اللاتي نص الله تعالى على تحريمهن في القرآن أربع عشرة امرأة، ثلاث عشرة بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] الآية [النساء:23] ، وواحدة في قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] [النساء:22] .
فسبع منهن حرمن بالنسب، واثنتان بالرضاع، وأربع بالمصاهرة، وواحدة بالجمع. فالسبع المحرمات بالنسب: الأم، والبنت، والأخت، والعمة، والخالة، وبنت الأخ، وبنت الأخت، بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} [النساء: 23] الآية [النساء:23] .
فأما (الأم) : فيحرم عقد النكاح عليها ووطؤها، للآية.
قال الصيمري: ومن أصحابنا من قال: تحريم وطئها علم بالعقل. وليس بشيء. وسواء في التحريم الأم حقيقة- وهي: التي ولدته- والأم مجازاً- وهي: جدته أم أمه وأم أبيه- وكذلك كل جدة من قبل أبيه أو أمه وإن علت.

(9/238)


وأما (البنت) : فيحرم عليه البنت التي يقع عليها اسم البنت حقيقة، وهي: بنته لصلبه، والبنت التي يقع عليها اسم البنت مجازاً، وهي: بنت بنته، وبنت ابنه وإن سفلت.
وأما (الأخت) : فتحرم عليه، سواء كانت لأب وأم، أو لأب، أو لأم، لعموم قَوْله تَعَالَى: {وَأَخَوَاتُكُمْ} [النساء: 23] [النساء:23] .
وأما (العمة) : فيحرم عليه من يقع عليها اسم العمة حقيقة- وهي: أخت أبيه-سواء كانت أخته لأبيه وأمه، أو لأبيه، أولأمه، ويحرم عليه نكاح من يقع عليها اسم العمة مجازاً، وهي: كل أخت لجد من أجداده من قبل أبيه أو من قبل أمه.
وأما (الخالة) : فيحرم عليه نكاح من يقع عليها اسم الخالة حقيقة-وهي: أخت أمه لأبيها وأمها، أو لأبيها، أو لأمها- ويحرم عليه من يقع عليها اسم الخالة مجازاً، وهي: أخت كل جدة له من قبل أمه أو أبيه.
وأما (بنت الأخ) : فيحرم عليه بنت أخيه حقيقة- وهي: بنت أخيه لصلبه- ويحرم عليه بنت أخيه مجازاً، وهي: كل من تنتسب إلى أخيه بالبنوة من قبل أبنائه وبناته وإن سفلت.
وأما (بنت الأخت) : فيحرم عليه بنت أخته حقيقة- وهي: بنت أخته لصلبه- ويحرم عليه بنت أخته مجازاً، وهي: كل من تنتسب إلى أخته بالبنوة من بنات أبنائها وبناتها وإن سفلت. وهل يحرم كل من يقع عليها الاسم مجازاً بالاسم، أو بالقياس على من وقع عليها الاسم حقيقة؟ فيه وجهان، الصحيح: أنه يحرم بوقوع الاسم عليها، بقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26] [الأعراف: 26] ، وقَوْله تَعَالَى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] [الحج: 78] ، بقوله تعالى: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38] [يوسف:38] ، فأطلق عليهم اسم البنوة والأبوة مع البعد.
إذا ثبت هذا: فقد عبر بعض أصحابنا عن المحرمات بالنسب، فقال: يحرم على الرجل أصوله، وفصوله، وفصول لأول أصوله، وأول فصل من كل أصل بعده.
وهي عبارة حسنة، لأن (أصوله) : من ينتسب الرجل إليه بالبنوة من الأمهات،

(9/239)


و (فصوله) : من ينسب إلى الرجل بالبنوة، و (فصول أول أصوله) : الأخوات وأولادهن وبنات الإخوة، و (أول فصل من كل أصل بعده) : العمات والخالات، فاحترز عن بنات العمات وبنات الخالات، بقوله: وأول فصل من كل أصل بعده.

[مسألة المحرمات بالرضاعة]
وأما الاثنتان المنصوص على تحريمهما بالرضاع: فالأم والأخت، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] [النساء:23] .
فمتى كان للرجل زوجة، وثار لها لبن من وطئه، فأرضعت به طفلاً، له دون الحولين خمس رضعات متفرقات.. صار كالولد لهما من النسب، وصارا كالوالدين له من النسب في تحريم النكاح وجواز الخلوة، فيحرم عليهما نكاحه ونكاح أولاده وأولاد أولاده وإن سفلوا، لأنه ولدهما.
ويحرم على الرضيع نكاح الأم من الرضاع الحقيقة والمجاز، والأخت من الرضاع الحقيقة والمجاز، والعمة من الرضاع الحقيقة والمجاز، والخالة من الرضاع الحقيقة منهن والمجاز، وبنت الأخ من الرضاع الحقيقة والمجاز، وبنت الأخت من الرضاع الحقيقة والمجاز، على ما ذكرناه في المحرمات من النسب، لأن الله تعالى نص على السبع المحرمات بالنسب، ونص على الأم والأخت من الرضاع، لينبه بهما على من تقدم ذكرهن من المحرمات بالنسب.
وروت عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» ، وفي رواية: «ما يحرم من الولادة» . ويقال: الرضاع بكسر الراء وفتحها، فإما الرضاعة: فإنها بفتح الراء لا غير.

(9/240)


[مسألة المحرمات بالمصاهرة]
وأما الأربع المنصوص على تحريمهن بالمصاهرة: فأم الزوجة، والربيبة، وحليلة الابن، وحليلة الأب، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] [النساء:22] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ} [النساء: 23] الآية [النساء: 23] .
فأما (أما الزوجة) : فإن الرجل إذا عقد النكاح على امرأة.. حرمت عليه كل أم لها، حقيقة أو مجازاً، من جهة النسب أو من جهة الرضاع، سواء دخل بها أو لم يدخل. وبه قال عامة العلماء، إلا ما روي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أنه قال: (لا يحرم عليه إلا بالدخول بالبنت) ، كالربيبة. وبه قال مجاهد رحمة الله عليه.
وقال زيد: (الموت يقوم مقام الدخول) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] [النساء:23] وبالعقد عليها تدخل في اسم نساء العاقد عليها.
وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من نكح امرأة، ثم طلقها قبل أن يدخل بها.. حرمت عليه أمها، ولم تحرم ابنتها»

(9/241)


وأما (الربيبة) : فهي بنت زوجته، فإذا عقد النكاح على امرأة.. حرمت عليه ابنتها حقيقة ومجازاً، من النسب والرضاع، تحريم جمع، فإن دخل بالأم.. حرمت عليه ابنتها على التأبيد، وإن ماتت الزوجة أو طلقها قبل أن يدخل بها.. جاز له أن يتزوج بابنتها. وسواء كانت الربيبة في حجره وكفالته أو لم تكن.. وبه قال عامة أهل العلم.
وقال داود: (إنما تحرم عليه الربيبة إذا كانت في حجره وكفالته، فإن لم تكن في حجره وكفالته.. لم تحرم عليه وإن دخل بأمها) ، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب.
وقال زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (تحرم عليه إذا دخل بأمها أو ماتت) .
دليلنا: ما روى [ابن] عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من نكح امرأة، ثم طلقها قبل أن يدخل بها.. حرمت عليه أمها، ولم تحرم عليه ابنتها» وأما التربية: فلا تأثير لها في التحريم، كتربية الأجنبية. وأما الآية: فلم يخرج ذلك مخرج الشرط، وإنما وصفها بذلك تعريفاً لها، لأن العادة أن الربيبة. تكون في حجره.
وأما (حليلة الابن) : فإن الرجل إذا عقد النكاح على امرأة.. حرمت على أب الزوج، سواء دخل بها الزوج أو لم يدخل بها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} [النساء: 23] الآية [النساء:23] ، وبالعقد عليها يقع عليها اسم الحليلة. وسواء كان ابنه حقيقة أو مجازاً، وسواء كان ابنه من الرضاع حقيقة أو مجازاً، لما ذكرناه المحرمات من

(9/242)


النسب. فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23] [النساء:23] ، فدليل خطابه يدل على: أنه لا تحرم حلائل الأبناء من الرضاع؟
فالجواب: أن دليل الخطاب إنما يكون حجة إذا لم يعارضه نص، وهاهنا عارضه نص أقوى منه فقدم عليه، وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة» .
وأما (حليلة الأب) : فإن الرجل إذا تزوج امرأة.. حرمت على ابن الزوج، سواء دخل بها الزوج أم لم يدخل بها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] [النساء:22] ، ولا فرق بين الأب حقيقة أو مجازاً، وسواء كان الأب من الرضاع حقيقة أو مجازاً، لما ذكرناه في المحرمات من النسب.

[مسألة الجمع بين الأختين]
فأما المنصوص على تحريمها في القرآن بالجمع: فهي أخت الزوجة، فلا يجوز للرجل أن يجمع بين الأختين في النكاح، سواء كانتا أختين لأب وأم أو لأب أو لأم وسواء كانتا أختين من النسب أو من الرضاع، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] [النساء:23] . ولأن العادة جارية أن الرجل إذا جمع بين ضرتين تباغضتا وتحاسدتا، وتتبعت كل واحدة منهما عيوب الأخرى وعوراتها، فلو جوزنا الجمع بين الأختين.. لأدى ذلك إلى تباغضهما وتحاسدهما، فيكون في ذلك قطع الرحم بينهما ولا سبيل إليه، وهو إجماع لا خلاف فيه.
فإن تزوجهما معاً في عقد واحد.. لم يصح نكاح واحدة منهما، لأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى، فبطل الجمع، كما لو ابتاع درهماً بدرهمين.
وإن تزوج إحداهما، ثم تزوج الثانية.. بطل نكاح الثانية دون الأولى، لأن الجمع اختص بالثانية.

[فرع الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها]
وصور أخرى] : ويحرم عليه الجمع بين المرأة وعمتها الحقيقة والمجاز، من الرضاع أو من النسب.

(9/243)


ويحرم عليه الجمع بين المرأة وخالتها الحقيقة والمجاز، من الرضاع أو من النسب.
وحكي عن الخوارج والروافض: أنهم قالوا: لا يحرم!
دليلنا: ما روى أبو داود في "سننه " عن أبي هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تنكح المرأة على عمتها، ولا العمة على ابنة أخيها، ولا المرأة على خالتها، ولا الخالة على ابنة أختها، لا الكبرى على الصغرى، ولا الصغرى على الكبرى» ولأن كل امرأتين لو قلبت كل واحدة منهما ذكراً.. لم يجز له التزوج بالأخرى بالنسب، فوجب أن لا يجوز الجمع بينهما في النكاح، كالأختين.
ولا يجوز أن يجمع بين المرأة وخالة أمها، أو عمة أمها، لما ذكرناه من العلة.
ويجوز الجمع بين امرأة كانت لرجل وبين ابنة زوجها الأول من غيرها.
وقال ابن أبي ليلى: لا يجوز ذلك، لأنك لو قلبت ابنة الرجل ذكراً.. لم يحل له نكاح امرأة أبيه، فهما كالأختين.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] [النساء:24] . ولأنك لو قلبت امرأة الرجل ذكراً.. لحل له نكاح الأخرى. ويخالف الأختين، فإنك لو قلبت كل واحدة منهما ذكراً.. لم يحل له نكاح الأخرى.

(9/244)


ويجوز أن يجمع بين المرأة وبين زوجة أبيها، لأنه لا قرابة بينهما ولا رضاع.
وكذلك إذا تزوج رجل له ابنة امرأة لها ابنة.. فيجوز لآخر أن يجمع بين ابنة الزوج وابنة الزوجة، لأنه إذا جاز أن يجمع بين بنته وامرأته.. فلأن يجوز أن يجمع بين ابنته وابنة امرأته أولى.
ويجوز أن يجمع بين المرأة وبين ابنة ضرتها، لأنه لا قرابة بينهما ولا رضاع.
وإن تزوج رجل له ابن بامرأة لها ابنة.. جاز لابن الزوج أن يتزوج بابنة الزوجة، لما روي: (أن رجلا له ابن تزوج امرأة لها ابنة، ففجر الغلام بالصبية، فسألهما عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه فاعترفا، فجلدهما وحرص أن يجمع بينهما، فأبى الغلام) .
ولأنه لا نسب بينهما ولا رضاع. فإن قيل: أليس الرجل لو أولد من المرأة ولداً.. كان أخا أو أختا لولديهما، فكيف يجوز له أن يتزوج بأخت أخيه؟
قلنا: إنما لا يجوز له التزوج بأخت نفسه، فأما بأخت أخيه أو أخته: فلا يمنع منه، فإن رزق كل واحد منهما ولداً من امرأته.. كان ولد الأب عم ولد الابن وخاله.
وإن تزوج بامرأة وتزوج ابنه بأمها.. جاز، لأن أمها محرمة على أبيه دونه، فإن رزق كل واحد منهما ولداً.. كان ولد الأب عم ولد الابن، وولد الابن خال ولد الأب.

[فرع طلق امرأة وأراد التزوج مما لا يجوز جمعها معها]
وإن تزوج رجل بامرأة ثم طلقها وأراد أن يتزوج بأختها أو عمتها أو خالتها، أو تزوج بأربع نسوة فطلقهن وأراد أن ينكح أربعاً غيرهن، أو طلق واحدة منهن وأراد أن

(9/245)


يتزوج غيرها، فإن كان الطلاق قبل الدخول.. صح تزويجه بلا خلاف، لأنه لا عدة له على المطلقة.
وإن كان بعد الدخول، فإن كان الطلاق رجعياً.. لم يصح تزويجه قبل انقضاء العدة، لأن المطلقة في حكم الزوجات. وإن كان الطلاق بائناً.. صح تزويجه- عندنا- قبل انقضاء العدة. وبه قال زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ومالك والزهري رحمهما الله.
وقال الثوري وأبو حنيفة رحمة الله عليهما: (لا يصح) . وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم.
دليلنا: أن المطلقة بائن منه، فجاز له عقد النكاح على أختها، كالبائن قبل الدخول.

[فرع قول المرأة في انتهاء عدتها]
فرع: [قبول قول المرأة في انتهاء عدتها] :
قال في " الإملاء ": (فإن تزوج رجل امرأة فطلقها طلاقاً رجعياً، ثم قال الزوج: قد أخبرتني بانقضاء عدتها، فأنكرت.. لم يقبل قوله في إسقاط نفقتها وكسوتها وسائر حقوقها) ، لأنه حق لها، فلا يقبل قوله في إسقاطه.
وإن أراد أن يتزوج بأختها أو عمتها، وصادقته التي يتزوجها على ذلك.. صح تزويجه، لأن الحق لله تعالى وهو مقدر فيما بينه وبينه.

(9/246)


[فرع أسلم زوج الوثنية ثم تزوج أختها أو أربعا في حال عدتها]
وإن تزوج وثني وثنية ودخل بها، ثم أسلم وأقامت على الشرك، فتزوج أختها أو أربعاً سواها في حال عدتها.. لم يصح.
وقال المزني - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكون نكاح أختها أو الأربع موقوفاً، فإن أسلمت قبل انقضاء عدتها.. تبينا أن نكاح أختها أو الأربع سواها لم يصح، وإن لم تسلم حتى انقضت عدتها.. صح نكاح أختها أو الأربع سواها، لأنه لما جاز وقف نكاحها.. جاز وقف نكاح أختها أو الأربع سواها. ولأن عقد النكاح على المرتابة بالحمل يصح وإن كان موقوفاً، فكذلك هذا مثله.
وهذا ليس بصحيح، لأن المشركة جارية إلى بينونة، فلم يصح العقد على أختها ولا على أربع سواها، كالرجعية والمرتدة. ولأنه عقد نكاح على من يمكن الاستمتاع بها، فإذا لم يعقبه استباحة استمتاع.. لم يصح، كنكاح المعتدة والمرتدة- وقولنا: (على من يمكن الاستمتاع بها) احتراز من نكاح الطفلة الصغيرة- ويخالف وقف نكاحها، فإن الموقوف حله، ونكاح الأخت يوقف انعقاده، والنكاح يجوز أن يوقف حله- وهو نكاح المرتدة- ولا يوقف انعقاده، ولهذا: لا يصح نكاح المرتدة. وأما المرتابة: فالأصل عدم الحمل.

[مسألة ملك من لا يصح نكاحها أو الجمع بينهما]
إذا ملك الرجل أمة لا يحل له نكاحها بنسب، أو رضاع، أو مصاهرة.. لم يحل له وطؤها، لأن الشرع ورد بتحريم نكاحهن على ما مضى، واسم النكاح يقع على الوطء.. ولأن المقصود بعقد النكاح هو الوطء، فإذا حرم عقد النكاح عليها.. فلأن يحرم الوطء أولى.
وإن ملك الرجل أمتين يحرم الجمع بينهما في النكاح، كالأختين، وكالمرأة

(9/247)


وعمتها وخالتها.. صح الملك، لأن المقصود بالملك بالمنفعة والنماء دون الاستمتاع، ولهذا: يصح ملكه على ذوات محارمه بخلاف النكاح، فإن أراد أن يجمع بينهما في الوطء.. لم يجز. وبه قال عامة أهل العلم.
وقال داود وأهل الظاهر: (يجوز) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] [النساء:23] ، ولم يفرق.
وروي: أن رجلاً دخل على عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، فسأله عن الجمع بين الأختين بملك اليمين، فقال: (أحلتهما آية- يعني: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] [النساء:3]- وحرمتها آية- يعني: قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] [النساء:23]- والتحريم أولى) .
وكذلك: روي عن أمير المؤمنين عمر، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، وابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم ولا مخالف لهم.
إذا ثبت هذا: فإن وطئ إحداهما.. حل له وطؤها وصارت فراشاً له، ولا يحل له وطء أختها ولا عمتها ولا خالتها، إلا إن حرم الموطوءة ببيع أو هبة أو عتق أو كتابة أو نكاح. فإن رهنها.. لم يحل له وطء الأخرى، لأنه وإن كان ممنوعاً من وطئها فلم يزل ملكه عن استمتاعه بها وإنما منع من، لحق المرتهن، ولهذا: لو أذن له المرتهن.. جاز، بخلاف المزوجة.

(9/248)


وحكي عن قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: إذا استبرأ الموطوءة.. حل له وطء الأخرى.
وهذا ليس بصحيح، لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أنه قال: (لا يطأ الأخرى حتى يخرج الموطوءة عن ملكه) . ولأن ذلك لا يمنع من وطئها، فلا يؤمن أن يعود على وطئها.
فإن باع الموطوءة أو كاتبها، ثم وطئ الأخرى، ثم ردت المبيعة لعيب أو فسخ، أو عجزت المكاتبة فرجعت إلى ملكه.. لم تحل له المردودة حتى يحرم الثانية على ما ذكرناه. فإن وطئ إحداهما، ثم وطئ الثانية قبل تحريم الأولى.. فقد فعل فعلاً يأثم به إذا كان عالماً بالتحريم، ولا يجب عليه الحد للشبهة، ولا يحل له أن يعود إلى وطئها حتى يحرم الأولى على ما ذكرناه. فإن أراد أن يعود إلى وطء الأولى.. جاز؛ لأنها صارت فراشاً له قبل وطء الثانية، إلا أن المستحب له: أن لا يعود إلى وطئها حتى يستبرئ الثانية، لئلا يجتمع ماؤه في رحم أختين.

[فرع وطء السيد إحدى الأخوات المختلفات لعبده]
قال ابن الحداد: ولو ملك رجل عبداً له ثلاث أخوات متفرقات، فإن وطئ أخته لأبيه وأمه.. لم يكن له أن يطأ واحدة من الباقيتين حتى يحرم الموطوءة، لأنها أختها. وإن أراد أن يجمع في الوطء بين أخته لأبيه وأخته لأمه.. جاز له، لأنه لا أخوة بين الموطوأتين.

(9/249)


[فرع تزوج امرأة أو وطئ أمته ثم ملك أختها أو عمتها]
إذا تزوج رجل امرأة ثم ملك أختها أو عمتها أو خالتها.. لم يحل له وطء المملوكة ما لم تبن المنكوحة منه، لأن المنكوحة على فراشه. وهذا لا خلاف فيه.
وإن ملك أمة ووطئها، ثم تزوج أختها أو عمتها أو خالتها.. صح النكاح، وحل له وطء المنكوحة قبل أن تحرم المملوكة، وحرم عليه وطء المملوكة.
وقال مالك رحمة الله عليه- في إحدى الروايتين عنه-: (لا يصح النكاح) . وبه قال أحمد رحمة الله عليه.
وقال أبو حنيفة رحمة الله عليه: (يصح النكاح، ولا يحل له وطؤها حتى يحرم المملوكة) .
دليلنا - على مالك -: أن النكاح أقوى من ملك اليمين، لأن المرأة تصير به فراشاً بنفس العقد، والأمة لا تصير فراشاً إلا بالوطء، والفراش بالنكاح آكد حكماً، بدليل: أنه يملك به الطلاق والخلع والظهار والإيلاء، ويثبت التوارث بالنكاح، فإذا اجتمعا.. ثبت الأقوى وسقط الأضعف، وسواء تقدم الأقوى أو تأخر، كما لو اجتمع النكاح والملك في امرأة واحدة.. فإن النكاح يبطل ويثبت الملك.
وعلى أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه نكاح صحيح في امرأة طاهر غير متلبسة بعبادة، فأبيح له وطؤها، كما لو لم يطأ أختها.

[مسألة التحريم بالوطء أو بالمباشرة بشهوة أو بالنظر للفرج]
وإذا وطئ الرجل امرأة بملك يمين صحيح، أو بشبهة ملك، أو بشبهة عقد نكاح، أو ظنها زوجته أو أمته.. حرمت عليه أمهاتها وبناتها على التأبيد، وتحرم الموطوءة على آباء الواطئ وأبنائه على التأبيد، لأنه وطء يتعلق به لحقوق النسب، فتعلق به تحريم المصاهرة، كالوطء في النكاح. ولأنه معنى تصير به المرأة فراشاً، فتعلق به تحريم المصاهرة، كعقد النكاح. هذا هو المشهور من المذهب.

(9/250)


وحكى المسعودي [في" الإبانة "] قولاً آخر: أنه لا يتعلق تحريم المصاهرة بوطء الشبهة.. وليس بشيء.
فإذا قلنا بالمشهور.. ففيمن تعتبر الشبهة؟ فيه قولان، حكاهما المسعودي [في" الإبانة "] :
الصحيح: أنها تعتبر بالرجل.
والثاني: تعتبر بأيهما كانت. وليس بشيء.
وإن باشر امرأة فيما دون الفرج بشهوة في ملك أو شبهة، بأن قبلها أو لمس شيئا من بدنها.. فهل يتعلق بذلك تحريم المصاهرة، وتحرم به الربيبة على التأبيد؟ فيه قولان:
أحدهما: يتعلق به التحريم- وبه قال أبو حنيفة ومالك رحمة الله عليهما- لأنه روي ذلك عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، ولا مخالف له في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم.. ولأنه تلذذ بمباشرة، فتعلق به تحريم المصاهرة والربيبة، كالوطء.
فقولنا: (تلذذ) احتراز من المباشرة بغير شهوة. وقولنا: (بمباشرة) احتراز عن النظر.
والثاني: لا يتعلق به تحريم المصاهرة ولا الربيبة-وبه قال أحمد رحمة الله عليه- لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] [النساء:23] ، فشرط الدخول، وهذا ليس بدخول، ولأنه لمس لا يوجب الغسل، فلم يتعلق به التحريم، كالمباشرة بغير شهوة.
وإن نظر على فرجها بشهوة.. لم يتعلق به تحريم المصاهرة ولا تحريم الربيبة.
وقال الثوري وأبو حنيفة رحمهما الله: (يتعلق به التحريم) . وحكاه المسعودي [في" الإبانة "] قولا آخر للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وليس بمشهور.
دليلنا: أنه نظر إلى بعض بدنها، فلم يتعلق به التحريم، كما لو نظر إلى وجهها.

(9/251)


[فرع تزوج امرأة ثم وطئ أمها أو بنتها أو زوجة ابنه بشبهة وعكسه]
] : وإن تزوج امرأة ثم وطئ بنتها أو أمها بشبهة، أو وطئ الأب زوجة الابن بشبهة أو وطئ الابن زوجة الأب بشبهة.. انفسخ النكاح، لأنه معنى يوجب تحريما مؤبدا، فإذا طرأ على النكاح.. أبطله، كالرضاع.
إذا ثبت هذا: فإن تزوج رجل امرأة، وتزوج ابنه ابنتها، وزفت إلى كل واحد منهما زوجة صاحبه ووطئها، ولم يعلما، فإن الأول لما وطئ غير زوجته منهما.. لزمه لها مهر مثلها، وانفسخ نكاح الموطوءة من زوجها، لأنها صارت فراشا لأبيه أو ابنه، ويجب عليه الغرم لزوجها، لأنه حال بينه وبين بضع امرأته، وفيما يلزمه له قولان:
أحدهما: جميع مهر المثل.
والثاني: نصفه، كالقولين فيما يلزم المرضعة لزوج الرضيعة إذا انفسخ النكاح بإرضاعها.
وينفسخ نكاح الواطئ الأول من زوجته، لأن أمها أو ابنتها صارت فراشا له، فيجب عليه لامرأته نصف المسمى لها، لأن الفرقة جاءت من جهته.
وأما الواطئ الثاني: فيلزمه مهر المثل للتي وطئها، ولا يجب عليه لزوجها شيء، لأنه لم يحل بينه وبين بضعها، لأن الحيلولة بينهما حصلت بوطء الأول، ولا يجب على الثاني أيضا لزوجته شيء، لأن الفرقة بينهما جاءت من قبلها بتمكينها الأول من نفسها.
فإن عرف الأول منهما والثاني.. تعلق بوطء واحدة منهما ما ذكرناه.. وإن لم يعرف أول منهما من الثاني.. فإنه يجب لكل واحدة منهما مهر مثلها على الذي وطئها، وينفسخ النكاحان، ويجب لكل واحدة منهما على زوجها نصف المسمى لها، لأنا نتيقن وجوبه فلا يسقط بالشك، ولا يرجع أحدهما على الآخر بشيء، لأن ذلك إنما يجب للثاني على الأول ولم يعلم الأول من الثاني، ويجب على كل واحدة منهما العدة.

(9/252)


وإن أتت كل واحدة بولد.. لحق الولد بواطئها، ولا حد على أحدهما.
وهذا، إذا كان الواطئ والموطوءة جاهلين بالتحريم، وإن كانت جاهلة وهو عالم بالتحريم.. ثبت لها المهر، ولا حد عليها، ولا يجب عليها عدة، ولا يلحقه النسب، ولا يثبت بهذا الوطء تحريم المصاهرة، ويجب على الواطئ الحد.
وإن كان الواطئ جاهلا بالتحريم والمرأة عالمة بالتحريم.. وجبت عليها العدة ولحق النسب به، ويثبت به تحريم المصاهرة، ولا حد عليه ولا مهر، ويجب عليها الحد.

[فرع تزوج امرأة ثم أخرى فبان أن إحداهما أم الأخرى]
وإن تزوج رجل امرأة، ثم تزوج امرأة أخرى، فوطئ إحداهما، ثم بان أن إحداهما أم الأخرى.. فإن نكاح الأولى صحيح، لأنه لم يتقدمه ما يمنع صحته، ونكاح الثانية باطل، لأن نكاح الأولى يمنع صحة نكاح الثانية.
فأما الواطئ: فإن كان وطئ الأولى.. فقد صادف وطؤه زوجته، واستقر به المسمى لها، ويفرق بينه وبين الثانية، وتحرم عليه الثانية على التأبيد، لأنها إن كانت هي البنت.. فقد وطئ أمها، وإن كانت هي الأم.. فقد عقد على بنتها ووطئها. وإن كانت الموطوءة هي الثانية.. وجب لها عليه مهر مثلها، وانفسخ نكاح الأولى، وحرمت عليه على التأبيد، لأنها بنت من وطئها بشبهة أو أمها، ووجب عليه للأولى نصف المسمى لها، لأن الفسخ جاء من جهته. وهل يجوز له أن يتزوج الثانية على الانفراد؟
ينظر فيه.. فإن كانت البنت.. جاز له أن يتزوجها، لأنها ربيبة لم يدخل بأمها، وإن كانت الأم.. لم يجز له تزويجها، لأنه قد عقد النكاح على ابنتها.
وإن وطئهما جميعا، ثم بان أن إحداهما أم الأخرى، فإن وطئ المنكوحة أولا.. فقد صادف وطؤه زوجته، فاستقر به عليه مهرها المسمى، فلما وطئ الثانية.. لزمه لها مهر مثلها، وانفسخ نكاح الأولى بوطء الثانية، ولا يسقط من مهر الأولى شيء،

(9/253)


لأن الفسخ وقع بعد الدخول.. وإن وطئ أولا المنكوحة ثانيا، ثم وطئ بعدها المنكوحة أولا، فإنه لما وطئ المنكوحة ثانيا أولا.. لزمه لها مهر مثلها، وانفسخ بهذا الوطء نكاحه من زوجته وهي المنكوحة أولا، ويلزمه لها نصف المسمى لها، فإذا وطئ المنكوحة أولا بعد ذلك.. لزمه لها بهذا الوطء مهر مثلها. وإن أشكل الأمر فلم يعلم المنكوحة أولا من المنكوحة ثانيا، ووطئ إحداهما.. وقف عنهما، لجواز أن يكونا محرمتين عليه على التأبيد. فإن كانت الموطوءة يعلم عينها.. وجب لها أقل الأمرين: من مهر المثل، أو المسمى لها، لأنها تستحق ذلك بيقين، لأنها إن كانت هي المنكوحة أولا.. فلها المسمى، وإن كانت هي المنكوحة ثانيا.. فلها مهر المثل، وتوقف الزيادة حتى يتبين. وإن كانت الموطوءة أيضا مشكلة.. وقف أقل المهرين بينهما حتى يتبين أو يصطلحا.

[مسألة الزنا وتحريم المصاهرة]
إذا زنى الرجل بامرأة لم يثبت بهذا الزنا تحريم المصاهرة.. فلا يحرم على الزاني نكاح المرأة التي زنى بها ولا أمها ولا ابنتها، ولا تحرم الزانية على آباء الزاني ولا على أبنائه.
وكذلك: إذا قبلها بشهوة حراما، أو لمسها، أو نظر إلى فرجها بشهوة حراما. وبه قال من الصحابة: علي بن أبي طالب، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم. ومن التابعين: ابن المسيب، وعروة بن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، والزهري - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ومن الفقهاء: ربيعة، ومالك، وأبو ثور - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى.

(9/254)


وقال الحسن البصري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحرم على الزاني نكاحها على التأبيد.
وقال قتادة، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد رحمة الله عليهم: (لا يجوز له تزويجها ما لم يتوبا) .
وقال أبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق رحمة الله عليهم: (يتعلق بالزنا تحريم المصاهرة) . وروي ذلك عن عمران بن الحصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وانفرد الأوزاعي، وأحمد رحمة الله عليهما أنه: (إذا لاط بغلام.. حرمت عليه بنته وأمه) .
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا قبل امرأة بشهوة حراما، أو لمسها بشهوة، أو كشف عن فرجها فنظر إليه.. تعلق به تحريم المصاهرة. وإن قبل أمن امرأته.. انفسخ نكاح امرأته، وإن قبل رجل امرأة أبيه.. انفسخ نكاح الأب) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] [النساء:24] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54] [الفرقان:54] . فأثبت الله تعالى الصهر في الموضع الذي أثبت فيه النسب، فلما لم يثبت بالزنا النسب لم يثبت به الصهر.
وروت عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن رجل زنى بامرأة، فأراد أن يتزوج بها أو بابنتها، فقال: «لا يحرم الحرام الحلال، وإنما يحرم ما كان بنكاح» .

(9/255)


ودليلنا - على قتادة ومن تابعه-: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحرم الحرام الحلال» ، والعقد قبل الزنا حلال.
وروي: (أن أمير المؤمنين عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه جلد رجلاً وامرأة، وحرص أن يجمع بينهما في النكاح) .
وسئل ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن رجل زنى بامرأة وأراد أن يتزوج بها، فقال (يجوز، أرأيت لو سرق رجل من كرم رجل، ثم ابتاعه.. أكان يجوز؟) .

[فرع نكاح الرجل ابنة من زنى بها]
فإن زنى بامرأة فأتت بابنة يمكن أن تكون منه، بأن تأتي بها لستة أشهر من وقت الزنا، فلا خلاف بين أهل العلم: أنه لا يثبت نسبها من الزاني ولا يتوارثان.
وأما نكاحه لها: فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أكره له أن يتزوجها، فإن تزوجها.. لم أفسخ) . واختلف أصحابنا في العلة التي لأجلها كره للزاني التزويج بها:
فمنهم من قال: إنما كره له ذلك ليخرج من الخلاف، فإن من الناس من قال: لا يجوز له نكاحها.
فعلى هذا: لو تحقق أنها من مائه، بأن أخبره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في زمانه: أنها من مائه..لم يحرم عليه نكاحها، لأن علة الكراهة حصول الاختلاف لا غير.
ومنهم من قال: إنما كره له ذلك لإمكان أن تكون من مائه، لأنه لم يتحقق ذلك،

(9/256)


فلو تحقق أنها من مائه، بأن أخبره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في زمانه: أنها من مائه.. لم يجز تزويجها.
هذا مذهبنا. وبه قال مالك رحمة الله عليه.
وقال أبو حنيفة وأحمد رحمة الله عليهما: (لا يجوز له تزويجها) .
واختلف أصحاب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في علة تحريمها:
فقال المتقدمون من أصحابه: إنما حرم نكاحها لكونها ابنة من زنى بها، لا أنها ابنته من الزنا؛ لأن الزنا عنده يثبت به تحريم المصاهرة على ما مضى.
فعلى هذا: لا تحرم على آبائه وأبنائه.
وقال المتأخرون من أصحابه: إنما يحرم نكاحها لكونها مخلوقة من مائه.
فعلى هذا: تحرم على آبائه وأبنائه، وهذا أصح عندهم
دليلنا: أنها منفية عنه قطعا، بدليل: أنه لا يثبت بينهما التوارث ولا حكم من أحكام الولادة، فلم يحرم عليه نكاحها، كالأجنبية.
فإن أكره رجل امرأة على الزنا، فأتت منه بابنة.. فحكمه حكم ما لو طاوعته على الزنا؛ لأنه زنا في حقه.

[فرع تزويج الرجل من بنت زوجته التي نفاها باللعان]
وإن أتت امرأته بابنة فنفاها باللعان، فإن كان قد دخل بالزوجة.. لم يجز له تزويج ابنتها؛ لأنها بنت امرأة دخل بها، وإن لم يدخل بالأم.. فهل يجوز له نكاح الابنة؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز له تزويجها؛ لأنها منفية عنه، فهي كالابنة من الزنا.
والثاني: لا يجوز له تزويجها؛ لأنها غير منفية عنه قطعا، بدليل: أنه لو أقر بها.. لحقه نسبها، والابنة من الزنا لو عاد الزاني فأقر بنسبها.. لم يلحقه نسبها.

(9/257)


[فرع الزنا بمزوجة وحكم نكاحها]
] : وإن زنا رجل بزوجة رجل.. لم ينفسخ نكاحها. وبه قال عامة أهل العلم.
وقال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: (ينفسخ نكاحها) . وبه قال الحسن البصري.
دليلنا: ما روي: «أن رجلا قال: يا رسول الله، إن امرأتي لا ترد يد لامس؟ قال: " طلقها " قال: إني أحبها، قال: " استمتع بها» ، فكنى الرجل عن الزنا بقوله: «لا ترد يد لامس» ، ولم يحكم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بانفساخ نكاحها.

[فرع من له امرأة في بلدة أو في عدد محصور لا يصح نكاحه منها]
قال ابن الحداد: ولو قال رجل: أنا أحيط علما أن لي في هذه البلدة امرأة يحرم علي نكاحها بنسب أو رضاع أو صهر، ولا أعلم عينها.. جاز له أن يتزوج من تلك البلدة؛ لأن في المنع من ذلك مشقة، كما لو كان في يد رجل صيد، فانفلت واختلط بصيد ناحية ولم يتميز.. فإنه لا يحرم على الناس أن يصطادوا من تلك الناحية.
وإن اختلطت هذه المرأة بعدد محصور من النساء، قل ذلك العدد أو كثر.. حرم عليه أن يتزوج بواحدة منهن؛ لأنه لا مشقة عليه في اجتناب التزويج من العدد المحصور.

[فرع حرمة النكاح على التأبيد تجيز النظر والخلوة]
وإذا حرم عليه نكاح امرأة على التأبيد، بنكاح أو رضاع أو وطء مباح.. صار محرما لها في جواز النظر والخلوة؛ لأنها محرمة عليه على التأبيد بسبب غير محرم، فصار محرما لها كالأم والابنة.

(9/258)


وإن حرم عليه نكاحها بوطء شبهة.. فهل تصير محرما له؟ فيه قولان، حكاهما الصيمري:
المشهور: أنها لا تصير محرما له؛ لأنها حرمت عليه بسبب غير مباح، فلم تلحق بذوات الأنساب.
والثاني: أنها تصير محرما له؛ لأنها لما ساوت من وطئت وطأ مباحا في تحريم النكاح ولحوق النسب من هذا الواطئ.. ساوتها في الخلوة والنظر.

[مسألة يحل نكاح الكتابيات دون غيرهن]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وأهل الكتاب الذين يحل نكاح حرائرهم: اليهود والنصارى دون المجوس) .
وجملة ذلك: أن المشركين على ثلاثة أضرب:
ضرب لهم كتاب، وضرب لا كتاب لهم ولا شبهة كتاب، وضرب لهم شبهة كتاب.
فأما (الضرب الذين لهم كتاب) : فهم اليهود والنصارى، فإن كتاب اليهود: التوراة، وكتاب النصارى: الإنجيل، فيحل للمسلم نكاح حرائرهم، ووطء الإماء منهم بملك اليمين. وبه قال عامة أهل العلم.
وقال القاسم بن إبراهيم والشيعة: لا يحل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] [البقرة: 221] :
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] [المائدة: 4 - 5] .
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (وهذه الآية نسخت قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] [البقرة: 221] ؛ لأن المائدة نزلت بعد البقرة) . وهو إجماع الصحابة، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم.

(9/259)


وروي عن أمير المؤمنين عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أنه قال: (يحل للمسلم أن ينكح نصرانية) .
و: (نكح أمير المؤمنين عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه نصرانية) ، و: (نكح طلحة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه نصرانية) ، و: (نكح حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يهودية) .
وسئل جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن نكاح المسلم اليهودية والنصرانية، فقال: (تزوجناهن بالكوفة عام الفتح - يعني: فتح العراق - إذ لم نجد مسلمة، فلما انصرفنا.. طلقناهن، نساؤهم تحل لنا، ونساؤنا تحرم عليهم) .
وأما (من لا كتاب له ولا شبهة كتاب) : فهم عبدة الأوثان، وهم قوم يعبدون ما يستحسنون من حجر وحيوان وشمس وقمر، فلا يجوز إقرارهم على دينهم، ولا يحل نكاح حرائرهم، وإن ملكت منهم أمة.. لم يحل وطؤها بملك اليمين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] [البقرة: 221] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] [الممتحنة: 10] ،

(9/260)


فيحرم نكاح المشركات حتى يؤمن، ثم نسخ منه نكاح أهل الكتاب، وبقي الباقي منهم على ظاهر التحريم.
وأما (من لهم شبهة كتاب) : وهم المجوس: فلا خلاف: أنهم ليس لهم كتاب موجود، وهل كان لهم كتاب ثم رفع، فيه قولان، يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى:
إذا ثبت هذا: فيجوز إقرارهم على دينهم ببذل الجزية، ولا يحل نكاح حرائرهم، ولا وطء الإماء منهم بملك اليمين.
قال إبراهيم الحربي: روي عن بضعة عشر نفسا من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -: أنهم قالوا: (لا يحل لنا نكاح نسائهم) .
وقال أبو ثور: (يحل النكاح حرائرهم) .
وحكى عن أبي إسحاق المروزي: أنه قال: إذا قلنا: إن لهم كتابا.. حل نكاح حرائرهم. والأول هو المذهب.
ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] الآية [البقرة: 221] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] الآية [الممتحنة: 10] ، وهذا عام في عام في كل مشركة، إلا ما قام عليه الدليل - وهم أهل الكتاب - وهؤلاء غير متمسكين بكتاب، فلم تحل مناكحتهم وأكل ذبائحهم، كعبدة الأوثان
وأما قول أبي إسحاق: فغير صحيح؛ لأنه لو جاز نكاحهم على القول الذي يقول: إن لهم كتابا.. لحل قتلهم على القول الذي يقول: لا كتاب لهم.

[فرع المتمسكون بصحف إبراهيم أو بالزبور]
فأما المتمسكون بالكتب التي أنزلت على سائر الأنبياء - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -، كمن تمسك بـ: " صحف " إبراهيم، و: " زبور " داود وشيث - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -..

(9/261)


فلا يحل نكاح حرائرهم، ولا وطء الإماء منهم بملك اليمين، ولا يحل أكل ذبائحهم.
وعلل الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذلك بعلتين:
إحداهما: أن تلك الكتب ليس فيها أحكام، وإنما هي مواعظ، فلم يثبت لها حرمة.
والثانية: أنها ليست من كلام الله سبحانه، وإنما كانت وحيا منه، وقد يوحي ما ليس بقرآن، كما روي عن النبي صلى الله وعليه وسلم: أنه قال: «أتاني جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فأمرني أن أجهر ببسم الله الرحمن الرحيم» ، ولم يكن ذلك قرآنا أو كلاما من الله تعالى) . هكذا ذكر الشيخ أبو حامد.

[فرع السامرة والصابئون هل هما أهل كتاب؟]
فأما السامرة والصابئون: فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع: (السامرة صنف من اليهود، والصابئون صنف من النصارى) . وتوقف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع آخر في حكمهم.
فقال أبو إسحاق: إنما توقف الشافعي في حكمهم قبل أن يتيقن أمرهم، فلما تيقن أمرهم.. ألحقهم بهم.
وحكي: أن القاهر استفتى في الصابئة، فأفتاه أبو سعيد الإصطخري: أنهم ليسوا من أهل الكتاب؛ لأنهم يقولون: إن الفلك حي ناطق، وإن الأنجم السبعة آلهة، فأفتى بضرب رقابهم، فجمعهم القاهر ليقتلهم فبذلوا له مالا كثيرا، فتركهم.
والمذهب: أنه ينظر فيهم: فإن كانوا يخالفون اليهود والنصارى في أصول

(9/262)


دينهم.. فليسوا منهم، وإن كانوا يوافقونهم في أصول دينهم ويخالفونهم في الفروع.. فهم منهم، كما أن المسلمين ملة واحدة لاتفاقهم في أصول الدين وإن اختلفوا في الفروع.

[فرع المولود بين وثني وكتابية وعكسه]
] : ومن ولد بين وثني وكتابية.. فهو وثني، ولا تحل مناكحته.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (تحل) .
دليلنا: أنه تابع لأبيه في النسب، وأبوه لا تحل مناكحته.
وفيمن ولد بين كتابي ووثنية قولان:
أحدهما: أنه من أهل الكتاب تبعا لأبيه، فيحل نكاحه.
والثاني: لا يحل نكاحه؛ لأنه لم يتمحض من أهل الكتاب، فهو كالمجوسي.

[فرع الداخلون في اليهودية أو النصرانية وحكم مناكحتهم وذبائحهم]
ومن انتقل إلى دين اليهود والنصارى، فإن دخل في دينهم بعد أن بعث النبي محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.. لم يجز نكاح حرائرهم ولا وطء إمائهم؛ لأنه دخل في دين قد جاء الشرع بإبطاله.
وإن دخل قبل بعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقبل التبديل أو النسخ بشريعة بعدها.. حل مناكحتهم؛ لأنه دخل في دين كان أهله على الحق.
وإن دخل فيه بعد أن نسخ بشريعة بعده، كمن دخل دين اليهودية بعد أن بعث عيسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم.. ففيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] .
وإن دخل فيه بعد التبديل والتغيير وقبل النسخ، فإن دخل في دين غير المبدلين.. فحكمه حكمهم. وإن دخل في دين المبدلين.. لم تجز مناكحته. وإن لم يعلم:

(9/263)


هل دخل في دين من بدل، أو في دين من لم يبدل، كنصارى العرب.. لم تجز مناكحتهم، ولا تحل ذبائحهم؛ لأنه لما أشكل أمرهم.. صاروا كالمجوس.

[مسألة نكاح النساء الحربيات والكتابيات]
مسألة: [كراهية نكاح النساء الحربيات والكتابيات] :
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا أكره نساء أهل الحرب إلا لئلا تفتن مسلما عن دينه) .
وجملة ذلك: أن الحربية من أهل الكتاب يجوز نكاحها اعتبارا بالكتاب دون الدار.
إذا ثبت هذا: فإنه يكره للمسلم نكاح الكتابية بكل حال؛ لأنه لا يؤمن أن تفتنه عن دينه، وإن كانت حربية.. فالكراهية أشد؛ لأنها ربما فتنته عن دينه، ولا يؤمن أن تسبى وهي حامل بولد له أو يكون معها فيسبى، ولأنه إذا أقام معها في دار الحرب كثر سوادهم.

[مسألة لا ينكح المسلم أمة كتابية أو وثنية وشرط نكاح المسلمة]
ولا يجوز للحر المسلم نكاح الأمة المشركة، سواء كانت وثنية أو كتابية.
وقال أبو حنيفة: (يجوز له نكاح الأمة الكتابية) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] الآية [النساء: 25] ، فدل على: أنه لا يجوز نكاح الفتيات غير المؤمنات.
ويجوز للحر المسلم أن ينكح الأمة المسلمة بشرطين:
أحدهما: أن يكون عادما للطول، وهو: مهر حرة.
والثاني: أن يكون خائفا من العنت، وهو: أن يخاف إن لم يتزوج بها أن تحمله شهوته للجماع على الزنا. وبه قال ابن عباس وجابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ومن التابعين: الحسن، وعطاء، وطاووس، وعمرو بن دينار، والزهري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ومن الفقهاء: مالك، والأوزاعي رحمة الله عليهما.

(9/264)


وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا لم تكن تحته حرة.. حل له نكاح الأمة وإن لم يخف العنت، سواء كان قادرا على صداق حرة أو غير قادر) .
وقال الثوري، وأبو يوسف رحمهما الله: إذا خاف العنت.. حل له نكاح الأمة وإن لم يعدم الطول.
وقال عثمان البتي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز له أن يتزوج الأمة بكل حال، كالحرة.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] إلى قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25] [النساء: 25] ، فأباح نكاح الأمة بشرط: عدم الطول، وخوف العنت، فلم يجز نكاحها إلا مع وجود هذين الشرطين، فإن وجد مهر حرة مسلمة.. لم يحل له نكاح الأمة؛ للآية. وإن كان مجبوبا.. لم يحل له نكاح الأمة؛ لأنه لا يخاف الزنا.
وإن كان عادما لطول حرة مسلمة وخائفا للعنت، فأقرضه رجل مهر حرة، أو رضيت الحرة بتأخير الصداق.. حل له نكاح الأمة؛ لأن عليه ضررا في تعلق الدين بذمته.
وإن بذل له رجل هبة الصداق.. حل له نكاح الأمة؛ لأن عليه منة في ذلك وإن وجد طول حرة مسلمة إلا أنه لا يزوج لقصور نسبه، أو لم يزوجه أهل البلد إلا بأكثر من مهر المثل.. فله أن يتزوج أمة؛ لأنه غير قادر على حرة مسلمة، ووجود الشيء بأكثر من ثمن مثله بمنزلة عدمه.
وإن رضيت الحرة بدون مهر مثلها وهو واجد له.. فهل له أن يتزوج أمة؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] .
وإن كان تحته حرة صغيرة لا يقدر على وطئها، أو تحته كبيرة قرناء، أو غائبة لا يصل إليها.. فهل له أن يتزوج أمة؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأن تحته حرة.

(9/265)


والثاني: له ذلك، وهو الأصح؛ لأنه يخاف العنت، ووجود الحرة التي تحته بمنزلة عدمها.
وإن وجد ما يشتري به أمة، أو ما يتزوج به حرة كتابية.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز له نكاح الأمة؛ لأن الله تعالى شرط في نكاح الأمة: أن لا يستطيع نكاح المحصنات المؤمنات، والشرط موجود.
والثاني: لا يجوز له، وهو الأصح؛ لأنه لا يخاف العنت.

[فرع تزوج بأمة ثم أيسر ونحوه]
إذا تزوج الأمة عند عدم الطول وخوف العنت، ثم أيسر أو أمن من العنت، أو تزوج حرة.. لم يبطل نكاح الأمة.
وقال المزني: إذا قدر على طول حرة.. انفسخ نكاح الأمة.
وقال أحمد رحمة الله عليه: (إذا تزوج بحرة.. انفسخ نكاح الأمة) .
دليلنا - على المزني -: قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] [النور: 32] ، فندب إلى نكاح الفقراء رجاء الاستغناء، فلو كان الاستغناء إذا طرأ أوجب فسخ النكاح.. لم يندب إلى النكاح رجاء حصوله، ولأنه أحد شرطي جواز نكاح الأمة، فارتفاعه لا يوجب فسخ نكاحها، كما لو أمن من العنت.
وعلى أحمد رحمة الله عليه: ما روي عن علي، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم: أنها قالا: (إذا تزوج حرة على أمة.. لم ينفسخ نكاح الأمة) .

(9/266)


ولا مخالف لهما. ولأن كل امرأة لو تزوج بها على حرة.. لم ينفسخ نكاحها، فإذا تزوج بها على أمة.. لم ينفسخ نكاحها.

[فرع تعدد الإماء والحرائر]
وإن تزوج أمة عند عدم الطول وخوف العنت.. لم يجز أن يتزوج أمة أخرى.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يجوز له التزويج بأربع إماء) .
دليلنا: أنه إذا تزوج أمة.. فإنه لا يخاف العنت معها، فلم يجز له التزويج بأمة غيرها، كما لو كان تحته حرة.
وإن تزوج أمتين، أو ثلاثا، أو أربعا بعقد واحد.. لم يصح نكاح واحدة منهن.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يصح نكاح الجميع) .
دليلنا: أن تزويج الحر للأمة إنما يجوز للحاجة، ولا حاجة به إلى ما زاد على واحدة، فلم يصح.
وإن تزوج من يحل له نكاح الأمة بأمة وحرة، أو حرتين، أو ثلاث بعقد واحد.. بطل نكاح الأمة، وفي نكاح الحرائر قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة.
وإن تزوج بأمة وأربع حرائر بعقد واحد.. قال ابن الحداد: بطل نكاح الجميع قولا واحدا؛ لأن المعسر الخائف للعنت يجوز له نكاح الأمة فإذا تزوج بها وبأربع حرائر.. فقد تزوج بعدد يحرم جمعهن. ويجوز له إفراد كل واحدة بالعقد، فإذا جمع.. فسد الكل؛ لأن لا مزية لإحداهن على الأخرى، كالجمع بين الأختين. ولو كان موسرا.. فسد نكاح الأمة، وفي نكاح الحرائر قولان.
وإن تزوج مجوسية ويهودية.. فسد نكاح المجوسية، وفي اليهودية قولان.

(9/267)


[فرع تزوج الحر الكافر بالأمة مثله]
وهل يجوز للحر الكافر أن يتزوج أمة كافرة؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنها لا تحل للمسلم، فلم تحل للكافر، كالمرتدة.
والثاني: يجوز؛ لأنه مساو لها في الدين.
وكذلك الأمة المجوسية والوثنية: هل يجوز نكاحها لأهل دينها؟ فيه وجهان.

[فرع نكاح الرقيق المسلم الأمة الكتابية أو المسلمة]
وأما العبد المسلم: فهل يحل له نكاح الأمة الكتابية؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما - وهو قول أبي حنيفة -: أنه يحل له نكاحها؛ لأن العبد يساويها في الرق، وإنما نقصت عنه بالدين، فهو بمنزلة الحر مع الحرة الكتابية.
والثاني - وهو المذهب -: أنها لا تحل له. وبه قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] الآية [النساء: 25] ، فشرط فيهن الإيمان، فدل على: أنه لا يجوز نكاح غير المؤمنات. ولأنها امرأة اعتورها نقصانان، لكل واحد منهما تأثير في المنع من النكاح، فوجب أن لا يحل للعبد المسلم نكاحها، كالأمة المجوسية.
وأما الأمة المسلمة: فيجوز للعبد المسلم تزويجها، ولا يشترط فيه عدم الطول ولا خوف العنت؛ لأنه مساو لها، فهو كالحر إذا تزوج الحرة
وإن كان تحت العبد حرة.. جاز له أن يتزوج أمة.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا يجوز) .

(9/268)


دليلنا: أن كل من كان له أن يتزوج بامرأة من غير جنسه.. جاز له أن يتزوج عليها امرأة من جنسه، كالحر له أن يتزوج الحرة على الأمة.

[مسألة نكاح العبد لمولاته أو الرجل لأمته أو أمة ابنه وعكسه]
ولا يصح نكاح العبد لمولاته؛ لتناقض أحكام الملك والنكاح في النفقة والسفر؛ لأن العبد يستحق النفقة على مولاته، والزوجة تستحق النفقة على زوجها، وللمولاة أن تسافر بعبدها إلى أي بلد شاءت، وللزوج أن يسافر بزوجته إلى أي بلد شاء، فلو صححنا نكاحه لمولاته.. لتناقضت أحكامهما في ذلك.
فإن تزوج العبد حرة ثم ملكته.. انفسخ نكاحها منه؛ لأن حكم ملك اليمين أقوى من النكاح، فأسقطه.
ولا يصح نكاح الرجل لأمته؛ لأنه يملك وطأها قبل النكاح، فلا فائدة فيه، ولأن النكاح يوجب للمرأة حقوقا يمنع منها ملك اليمين.
فإن تزوج الرجل أمة ثم ملكها.. انفسخ نكاحها منه؛ لأن ملك اليمين أقوى من النكاح، فأبطله.
ولا يصح أن ينكح الرجل جارية ولده لصلبه، ولا ولد ولده وإن سفل؛ لأن له شبهة في ماله، بدليل: أنه يجب عليه إعفافه، فصارت كجارية نفسه.
وإن تزوج الرجل أمة، ثم ملكها ابنه.. ففيه وجهان:
أحدهما: يبطل نكاح الأب؛ لأن ملكه كملكه في إسقاط الحد وحرمة الاستيلاد، فكان كملكه في إبطال النكاح.
والثاني: لا ينفسخ نكاحه؛ لأنه لا يملكها بملك الابن، فلم يبطل نكاحه بذلك. فإن كان له ابن من الرضاع.. جاز له أن يتزوج بجاريته؛ لأنه لا شبهة له في ماله. ويجوز للرجل أن يتزوج بجارية أبيه وأمه؛ لأنه لا يستحق عليها الإعفاف، فإذا ولدت منه.. كان حرا؛ لأن الإنسان لا يملك ابن ابنه.

(9/269)


[مسألة نكاح المعتدة]
ولا يصح أن ينكح معتدة من غيره؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] الآية [البقرة: 235] .
وإن ارتابت بالحمل، بأن رأت أمارات الحمل وشكت: هل هو حمل أم لا؟ فإن حدثت لها هذه الريبة قبل انقضاء العدة، ثم انقضت عدتها بالأقراء أو بالشهور والريبة باقية.. لم يصح نكاحها؛ لأنها تشك في خروجها من العدة، والأصل بقاؤها.
وإن انقضت عدتها من غير ريبة، فتزوجت، ثم حدثت لها ريبة بالحمل.. لم تؤثر هذه الريبة؛ لأن النكاح قد صح في الظاهر.
وإن انقضت عدتها بالشهور أو بالأقراء، ثم حدثت لها ريبة بالحمل.. فيكره نكاحها، فإن تزوجها رجل.. فهل يصح؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنها مرتابة بالحمل فلم يصح نكاحها، كما لو حدثت بها الريبة قبل انقضاء العدة، ثم انقضت عدتها وهي مرتابة بالحمل.. فإنه لا يصح نكاحها، كذلك هذا مثله.
والثاني: يصح نكاحها، وهو المذهب؛ لأنها ريبة حدثت بعد انقضاء العدة فلم تؤثر، كما لو نكحت بعد انقضاء العدة، ثم حدثت الريبة.

[فرع لا تجب عدة على زانية عندنا]
وإذا زنت المرأة.. لم يجب عليها العدة، سواء كانت حائلا أو حاملا.
فإن كانت حائلا.. جاز للزاني أو لغيره عقد النكاح عليها.. وإن حملت من الزنا.. فيكره نكاحها قبل وضع الحمل، فإن تزوجها الزاني أو غيره قبل وضع الحمل.. صح، وهي إحدى الروايتين عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وذهب ربيعة، ومالك، والثوري، وأحمد، وإسحاق رحمة الله عليهم إلى: (أن الزانية تلزمها العدة كالموطوءة بشبهة، فإن كانت حائلا.. اعتدت بثلاثة أقراء، وإن كانت حاملا.. اعتدت بوضع الحمل، ولا يصح نكاحها قبل وضع الحمل) .

(9/270)


وقال مالك رحمة الله عليه: (إذا تزوج امرأة ولم يعلم أنها زانية، ثم علم أنها حامل من الزنا.. فإنه يفارقها، فإن كان قد وطئها.. لزمه لها مهر المثل) .
وقال ربيعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يفارقها ولا مهر عليه.
وذهب ابن سيرين وأبو يوسف رحمهما الله إلى: أنها إن كانت حائلا.. فلا عدة عليها، فيجوز عقد النكاح عليها، وإن كانت حاملا.. لم يصح عقد النكاح عليها حتى تضع، وهي الرواية الأخرى عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] [النساء: 24] ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحرم الحرام الحلال» ، والعقد على الزانية كان حلالا قبل الزنا وقبل الحمل، فلا يحرمه الزنا.
وروي: (أن رجلا كان له ابن تزوج امرأة لها ابنة، ففجر الغلام بالصبية، فسألهما عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، فاعترفا، فجلدهما وحرص أن يجمع بينهما بالنكاح، فأبى الغلام) ، ولم يراع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه انقضاء العدة، ولم ينكر عليه أحد فدل على: أنه إجماع. ولأنه وطء لا يلحق به النسب، أو حمل لا يلحق بأحد فلم يمنع صحة النكاح، كما لو يوجد.

[مسألة نكاح الشغار]
ولا يصح نكاح الشغار - وهو: أن يقول رجل لآخر: زوجتك ابنتي، أو أختي، أو امرأة يلي عليها، على أن تزوجني ابنتك أو أختك ويكون بضع كل واحدة منهما صداقا للأخرى - وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى.
وقال الزهري، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: (يصح، ويجب مهر المثل) .
دليلنا: ما روى الشافعي، عن مالك رحمة الله عليهما، عن نافع - رَحِمَهُ اللَّهُ -، عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الشغار، والشغار هو:

(9/271)


أن يقول الرجل: زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك ويكون بضع كل واحدة منهما مهرا للأخرى» ، هكذا روي عن ابن عمر.
فإن كان هذا التفسير من ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما.. فهو أعلم بمعنى الخبر، وإن كان من النبي صلى الله وعليه وسلم - وهو الظاهر - لأنه لو كان من ابن عمر.. لحكاه عن نفسه ولم يطلقه، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.
وروى عمران بن الحصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا جلب، ولا جنب، ولا شغار في الإسلام» ولأنه يحصل في البضع تشريك فلم يصح العقد مع ذلك، كما لو زوج ابنته من رجلين.

(9/272)


وبيان التشريك: أنه جعل البضع ملكا للزوج وابنته؛ لأنه إذا قال: زوجتك ابنتي.. فقد ملك الزوج بضعها، فإذا قال: على أن تزوجني ابنتك ويكون بضع كل واحدة منهما مهرا للأخرى.. فقد شرك ابنة الزوج في ملك بضع هذه المزوجة؛ لأن الشيء إذا جعل صداقا.. اقتضى تمليكه لمن جعل صداقا لها، فصار التشريك حاصلا في البضعين، فلم يصح.
إذا ثبت هذا: فإن الشغار مأخوذ من الرفع، يقال: (شغر الكلب) : إذا رفع رجله، فكأن كل واحد منهما رفع رجله لصاحبه عما طلب منه، وقيل: سمي هذا النكاح شغارا؛ لقبحه تشبيها من رفع الكلب رجله ليبول.
وإن قال: زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك، واقتصر على هذا.. فالنكاح صحيح؛ لأنه لم يحصل في البضع تشريك، وإنما حصل الفساد في الصداق، وهو: أنه جعل مهر ابنته أن يزوجه الآخر ابنته، ففسد المهر المسمى، ووجب مهر المثل. هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يصح النكاح؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لما ذكرناه.
والثاني: لا يصح؛ لأنهما لم يسميا صداقا صحيحا، ولكن جعل كل واحد منهما عقد نكاح كل واحدة منهما صداقا للأخرى؛ لأنه أخرج ذلك مخرج الصداق. والأول هو المشهور.
وإن قال: زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك، ويكون مهر كل واحدة منها كذا وكذا.. فيصح النكاحان، ويبطل المهران المسميان، ويجب لهما مهر المثل، سواء اتفق المهران أو اختلفا؛ لأنه لم يحصل في البضعين تشريك، وإنما حصل الفساد في المهر؛ لأنه شرط مع المهر المسمى أن يزوجه ابنته، فهو كما لو قال: زوجتك ابنتي بمائة على أن تبيعني دارك.. فإن النكاح صحيح، والمهر باطل.

(9/273)


وإن قال: زوجتك ابنتي على أن تطلق زوجتك، ويكون ذلك صداقا لابنتي.. صح النكاح، ولا يلزم الآخر أن يطلق زوجته، ويجب للمزوجة مهر مثلها؛ لأنه لم يسم لها صداقا صحيحا.
وإن قال: زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك، ويكون بضع ابنتك صداقا لابنتي.. صح النكاح الأول، ولم يصح النكاح الثاني؛ لأنه ملكه بضع ابنته في الابتداء من غير تشريك، وشرط عليه شرطا فاسدا وهو التزويج، فلم يؤثر في عقد الأولى، والثانية هي التي حصل التشريك في بضعها.
وإن قال: زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك، ويكون بضع ابنتي مهرا لابنتك.. فالعقد على ابنة المخاطب باطل؛ لأن التشريك حصل في بضعها، والعقد على ابنة القابل صحيح؛ لأنه لم يحصل في بضعها تشريك.
وإن قال: زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك، ويكون بضع كل واحدة منهما ومائة درهم صداقا للأخرى.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن النكاحين صحيحان، ويجب لهما مهر المثل؛ لأن الشغار هو الخالي عن المهر، وهاهنا لم يخل عن المهر.
والثاني - وهو الصحيح -: أن النكاحين باطلان؛ لأن التشريك في البضع موجود مع تسمية المهر، والمفسد هو التشريك.
وإن قال: زوجتك ابنتي وهذا الحائط.. فهل يصح النكاح؟ فيه وجهان، حكاهما في " العدة ".

[فرع زوج جاريته أو عبده وجعل رقبتهما صداقا]
إذا قال لرجل: زوجتك جاريتي على أن تزوجني ابنتك، وتكون رقبة جاريتي صداقا لابنتك.. قال ابن الصباغ: صح النكاحان؛ لأن رقبة الجارية يصح نقل الملك

(9/274)


فيها، فلا تكون تشريكا فيما يتناوله عقد النكاح، إلا أن المسمى فاسد فيجب مهر المثل.
وإن زوج عبده من امرأة وجعل رقبته صداقا لها. قال ابن الصباغ: لم يصح الصداق؛ لأن ملك المرأة زوجها يمنع صحة النكاح، ففسد الصداق، وصح النكاح، ووجب لها مهر المثل.

[مسألة نكاح المتعة]
ولا يصح نكاح المتعة، وهو: أن يتزوج رجل امرأة مدة معلومة أو مجهولة، بأن يقول: زوجني ابنتك شهرا أو أيام الموسم. وبه قال جميع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - وأرضاهم، والتابعين والفقهاء رحمة الله عليهم، إلا ابن جريج، فإنه قال: يصح. وإليه ذهبت الشيعة، وأجمعوا: أنه لا يتعلق به حكم من أحكام النكاح، مثل الطلاق والظهار والإيلاء والتوارث.

(9/275)


دليلنا: ما روي: أن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه لقي ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وبلغه: أنه يرخص في متعة النساء، فقال: (إنك امرؤ تائه، إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عنها يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الأهلية) . وقوله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: (تائه) أي: مائل عن الحق في هذا القول، يقال: تاهت السفينة عن بلد كذا: إذا مالت عنه.
«وروى الربيع بن سبرة عن أبيه قال: كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام الفتح، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " استمتعوا بالنساء " قال: فخرجت أنا وابن عم لي لنستمتع وعلى كل واحد منا بردة، فلقينا امرأة فخطبناها، فكانت ترغب في حالي وترد ابن عمي، فتمتعت بها وكان الشرط بيننا عشرين ليلة، فبت معها ليلة واحدة، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوجدته واقفا بين الركن والمقام وهو يقول: " إني كنت أذنت لكم في المتعة، وإن الله تعالى حرمها إلى يوم القيامة، فمن كان عنده شيء منها.. فليخل سبيلها، ولا يأخذ منها شيئا مما آتاها» . ولأنه عقد معاوضة يصح مطلقا، فلم يصح مؤقتا، كالبيع.

(9/276)


فقولنا: (عقد معاوضة) احتراز من العارية والإباحة.. وقولنا: (يصح مطلقا) احتراز من الإجارة.
ولأنه نكاح لا يتعلق به سائرا أحكام النكاح فلم يصح، كنكاح ذوات المحارم.
فإن قيل: فقد روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (أنه كان يبيحه) ؟
قلنا: قد رجع عنه؛ لأنه قد كان يبيحه وانتشر ذلك عنه، فروي عن سعيد بن جبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: قلت لابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: ما صنعت بنفسك؟ أبحت نكاح المتعة، فسارت به الركبان، وقالوا فيه الشعر، فقال: (وما قالوا) ؟ قلت: قال الشاعر فيه:
أقول للشيخ لما طال محبسه ... يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس
يا صاح هل لك في بيضاء بهكنة ... تكون مثواك حتى مصدر الناس
ويروى: يا شيخ. فخرج ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وكشف عن رأسه، وقال: (من عرفني قد عرفني، ومن لم يعرفني، فأنا ابن عباس، فإن المتعة حرام، كالميتة والدم) .

[مسألة نكاح المحلل]
وأما نكاح المحلل: فإن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا.. فإنها لا تحل له إلا بعد زوج وإصابة، فإذا طلق امرأته وانقضت عدتها منه، ثم تزوجت بآخر بعده.. ففيها ثلاث مسائل:

(9/277)


إحداهن: أن يقول: زوجتك ابنتي إلى أن تطأها، أو إلى أن تحلها للأول، فإذا أحللتها فلا نكاح بينكما، فهذا باطل بلا خلاف؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لعن الله المحلل والمحلل له» .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ألا أدلكم على التيس المستعار؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال: " هو المحلل والمحلل له» . ولأن هذا أفسد من نكاح المتعة؛ لأنه يعقد إلى مدة مجهولة.
المسألة الثانية: أن يقول: زوجتك ابنتي على أنك إن وطئتها طلقتها، أو قال: تزوجتك على أني إذا أحللتك للأول طلقتك، وكان هذا الشرط في نفس العقد.. ففيه قولان:

(9/278)


أحدهما: أن النكاح باطل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله المحلل والمحلل له» ، ولم يفرق.
والثاني: أن النكاح صحيح والشرط باطل؛ لأن العقد وقع مطلقا من غير تأقيت، وإنما شرط على نفسه الطلاق، فلم يؤثر في النكاح، وإنما يبطل به المهر، كما لو شرط أن لا يتزوج عليها أو لا يتسرى عليها.
المسألة الثالثة: أن تشترط عليه قبل النكاح أنه إذ أحللها للأول طلقها، أو تزوجها ونوى بنفسه ذلك، فعقد النكاح عقدا مطلقا.. فيكره له ذلك، فإن عقد.. كان العقد صحيحا. وبه قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال مالك، والثوري، والليث، وأحمد، والحسن، والنخعي، وقتادة، رحمة الله عليهم: (لا يصح) .
دليلنا: ما روى الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أن امرأة طلقها زوجها ثلاثا، وكان مسكين أعرابي يقعد بباب المسجد، فجاءته امرأة فقالت: هل لك في امرأة تنكحها وتبيت معها ليلة، فإذا أصبحت فارقتها، فقال: نعم - قال: وكان ذلك - فلما تزوجها، قالت له المرأة: إنك إذا أصبحت فإنهم سيقولون لك: طلقها، فلا تفعل، فإني لك كما ترى، واذهب إلى عمر، فلما أصبح أتوه وأتوها، فقالت لهم: أنتم جئتم به فاسألوه، فقالوا له: طلقها، فأبى وذهب إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه فأخبره، فقال له: الزم زوجتك، فإن رابوك بريب فائتني، وبعث إلى المرأة الواسطة فنكل بها، وكان يغدو بعد ذلك ويروح على عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه في حلة، فقال له عمر: الحمد لله - يا ذا الرقعتين - الذي رزقك حلة تغدو بها وتروح) . ولم ينكر أحد على عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، فدل على: أنه إجماع.

(9/279)


[فرع النكاح بشرط الخيار أو غيره]
وإن تزوج امرأة بشرط الخيار.. بطل العقد؛ لأنه لا مدخل للخيار فيه فأبطله.
فإن شرط في العقد أن لا يطأها ليلا.. بطل الشرط؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمنون على شروطهم، إلا شرطا حرم حلالا» . فإن كان هذا الشرط من قبل الزوج.. لم يبطل العقد؛ لأن ذلك حق له، وإن كان الشرط من جهة المرأة.. بطل العقد؛ لأن ذلك حق عليها.

[مسألة التعريض أو التصريح للمعتدات أو للزوجات]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (قال الله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235] [البقرة: 235] :
وجملة ذلك: أن المعتدات على ثلاثة أضرب: رجعية، وبائن لا تحل لزوجها، وبائن تحل لزوجها.
فأما: (الرجعية) : فلا يجوز لغير زوجها التعريض بخطبتها ولا التصريح؛ لأنها في معنى الزوجات ولا يؤمن أن يحملها بغضها للزوج الأول أن تخبر بانقضاء عدتها قبل انقضائها؛ لتتزوج بغيره.
وأما (المعتدة البائن التي لا تحل لزوجها) ، فهي: التي مات عنها زوجها، أو بانت منه باللعان، أو بالرضاع، أو بالطلاق الثلاث، فيجوز لغير زوجها التعريض بخطبتها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 234] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235] [البقرة: 234 - 235]

(9/280)


، فكان الظاهر: أن النساء اللاتي أجاز التعريض بخطبتهن هن من تقدم ذكرهن.
«وروت فاطمة بنت قيس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قالت، طلقني زوجي أبو حفص بن عمرو بالشام ثلاثا، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته بذلك، فقال: " إذا حللت.. فآذنيني» ، وروي: أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: " لا تفوتينا بنفسك "، وروي: أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرسل إليها: " لا تسبقيني بنفسك ". هذا نقل البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يجوز له التعريض بخطبة البائن بالثلاث؟ فيه قولان.
والمشهور هو الأول؛ لحديث فاطمة بنت قيس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.
ويحرم التصريح بخطبتها؛ لأن الله تعالى لما أباح التعريض بالخطبة.. دل على: أنه لا يجوز التصريح بها. ولأن التعريض يحتمل النكاح وغيره، والتصريح لا يحتمل غير النكاح، فلا يؤمن أن يحملها الحرص على النكاح أن تخبر بانقضاء عدتها قبل انقضائها.
وأما (البائن التي تحل لزوجها) ، فهي: التي طلقها زوجها طلقة أو طلقتين، بعوض أو فسخ أحدهما النكاح بعيب، فيجوز لزوجها التعريض بخطبتها والتصريح؛ لأنها تحل له في العدة. وأما غير زوجها: فلا يحل له التصريح بخطبتها، كالبائن بالثلاث، وهل يجوز له التعريض بخطبتها؟ فيه قولان:
أحدهما: يجوز له التعريض بخطبتها؛ لأنها معتدة بائن عن زوجها، فهي كالبائن بالوفاة أو بالثلاث.
والثاني: لا يجوز له؛ لأنها تحل لزوجها في حال العدة، فهي كالرجعية.

(9/281)


قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وكل معتدة حل للزوج التعريض بخطبتها.. حل لها التعريض بإجابته، وكل من لا يحل له التعريض بخطبتها والتصريح.. لم يحل لها إجابته بتعريض ولا بتصريح؛ لأنه لا يحل له ما يحرم عليها، ولا يحل لها ما يحرم عليه فتساويا) .
إذا ثبت هذا: فـ (التصريح) : ما لا يحتمل غير النكاح، مثل أن يقول: أنا أريد أن أتزوجك، أو: إذا انقضت عدتك تزوجتك.
و (التعريض) : كل كلام احتمل النكاح وغيره، مثل أن يقول: رب راغب فيك، رب حريص عليك، رب متطلع إليك، وأنت جميلة، أنت فائقة، أنت مرغوب فيك، " لا تسبقيني بنفسك "، كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة بنت قيس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. وروي: أن رجلا مات، فتبعت امرأته جنازته، فقال لها رجل: لا تسبقيني بنفسك، فقالت له: سبقك غيرك.
فإن قال: أنا راغب فيك، أو حريص عليك، أو أنا متطلع إليك، أو إذا حللت فآذنيني.. كان ذلك كله تعريضا؛ لأنه يمكن أن يريد به: أنا راغب فيك، أو أنا متطلع إليك، أو إذا حللت فآذنيني لأشير عليك بمن تتزوجين؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يرد بقوله لفاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: " فآذنيني " و: " لا تسبقيني بنفسك ": الخطبة لنفسه، وإنما أراد: فآذنيني لأشير عليك بمن تتزوجين. وكذلك لو قال: رب راغب في نكاحك، وأبهم الخاطب.. كان تعريضا
وكذلك لو قال: إن الله ليسوق إليك خيرا، أو رزقا.. كان ذلك تعريضا. هذا مذهبنا
وقال داود لا تحل له الخطبة سرا، وإنما تحل له علانية؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة: 235] الآية " (البقرة: 235)
وهذا ليس بصحيح؛ لأنه تعالى لم يرد بالسر ضد الجهر، وإنما أراد:

(9/282)


لا يعرض للمعتدة بالجماع ولا يصرح به، مثل أن يقول: عندي جماع يصلح من جومعه، وما أشبهه، وسمي الجماع سرًا؛ لأنه يفعل سرًا. قال امرؤ القيس:
ألا زعمت بسباسة القوم أنني ... كبرت وأن لا يحسن السر أمثالي
كذبت لقد أصبى على المرء عرسه ... وأمنع عرسي أن يزن بها الخالي
ولا يكره للرجل التعريض لزوجته بالجماع ولا التصريح به؛ لأنه لا يكره له جماعها، فلأن لا يكره له ذكره أولى. والآية وردت في المعتدات.
فإن عرض بخطبة امرأة لا يحل له التعريض بخطبتها، أو صرح بخطبتها، ثم انقضت عدتها وتزوجها.. صح نكاحها.
وقال مالك رحمة الله عليه: (يبينها بطلقة واحدة) .
دليلنا: أن النكاح حادث بعد المعصية، فلا تؤثر المعصية فيه، كما لو قال: لا أتزوجها إلا بعد أن أراها متجردة، فتجردت له ثم نكحها، أو قالت: لا أرضى نكاحه حتى يتجرد لي أو حتى يجامعني، فتجرد لها أو جامعها ثم تزوجها.

[مسألة لا يخطب على خطبة أخيه]
وإذا خطب رجل امرأة فصرح له بالإجابة، بأن كان الولي أبا أو جدًا وهي بكر، أو كانت ثيبا فأذنت في تزويجها منه.. لم يجز لغيره أن يخطبها إلا أن يأذن له الخاطب الأول؛ لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن أن يخطب

(9/283)


الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب الأول، أو يأذن له فيخطب» ، ولأن في ذلك إضرارًا بالأول؛ لأنها ربما مالت إلى الثاني وتركت الأول.
قال في " الأم ": (وإن قالت امرأة لوليها: زوجني ممن شئت، أو ممن ترى حل لكل أحد خطبتها) ؛ لأنها لم تأذن في تزويجها من رجل بعينه فتضر به خطبة الثاني.
وإن خطب رجل امرأة فصرحت له بالرد، أو سكتت عنه ولم تصرح برد ولا إجابة.. حل لكل أحد خطبتها؛ لما «روت فاطمة بنت قيس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: طلقني زوجي أبو حفص بن عمر وهو غائب بالشام ثلاثًا، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته بذلك، فأمرني أن أعتد في بيت ابن أم مكتوم وقال: " إذا حللت.. فآذنيني "، فلما انقضت عدتي أتيته فأخبرته وقلت له: إن معاوية وأبا جهم ـ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ـ خطباني، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أما معاوية: فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم: فلا يضع العصا عن عاتقه، ولكن أدلك على من هو خير لك منهما ". قلت: من يا رسول الله؟ قال " أسامة بن زيد "، قلت: أسامة؟ ! قال: " نعم أسامة "، فكرهت نكاحه، فقال: " انكحي أسامة "، فنكحته فكان منه خير كثير واغتبطت به» .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولم تكن فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أذنت في نكاحها من معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولا من أبي الجهم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وإنما كانت تستشير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومعلوم أن الرجلين إذا خطبا امرأة.. خطبها أحدهما بعد الآخر، فلم ينكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الآخر منهما، ثم خطبها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لثالث بعدهما، فدل على جوازه) .
وإن خطب رجل امرأة إلى وليها، وكان ممن يخيرها، فعرض له بالإجابة ولم يصرح، مثل أن يقول: أنا أستشير في ذلك، أو أنت مرغوب فيك، أو يشترط شرائط للعقد، مثل: تقديم المهر وغيره.. فهل يحرم على غيره خطبتها؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (يحرم على غيره خطبتها) . وبه قال مالك، وأبو

(9/284)


حنيفة رحمة الله عليهما لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يخطب الرجل على خطبة أخيه» ولم يفصل. ولأن فيه إفسادًا لما يقارب بينهما.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يحرم على غيره خطبتها) ، وهو الصحيح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب فاطمة بنت قيس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لأسامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعد أن أخبرته: أن معاوية وأبا الجهم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - خطباها، ولم يسألها: هل ركنت إلى أحدهما أو رضيت به أم لا؟ فدل على: أن الحُكم لا يختلف بذلك. ولأن الظاهر من حالها: أنها ما جاءت تستشيره إلا وقد رضيت بذلك وركنت إليه.
قال الصيمري: فإن خطب رجل خمس نسوة جملة واحدة، فأذن في إنكاحه.. لم يحل لأحد غيره خطبة واحدة منهن حتى يترك أو يعقد على أربع، فتحل خطبة الخامسة. وإن خطب كل واحدة وحدها، فأذنت كل واحدة في إنكاحه.. لم يجز لغيره خطبة الأربع الأولات، وتحل خطبة الخامسة لغيره.
إذا ثبت هذا: فإن خطب رجل امرأة في الحال التي قلنا: لا تحل له خطبتها فيه، وتزوجها.. صح ذلك.
وقال داود: (لا يصح) ، وحكاه ابن الصباغ عن مالك رحمة الله عليه.
دليلنا: أن المحرم إنما يفسد العقد إذا قارنه، فأما إذا تقدم عليه.. لم يفسده، كما لو قالت امرأة: لا أتزوج فلانًا حتى أراه متجردًا أو حتى يجامعني، فتجرد لها أو جامعها، ثم تزوج بها.

(9/285)


إذا تقرر هذا: فذكر أصحابنا في حديث فاطمة بنت قيس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فوائد، وقد اختلفت الروايات فيه:
فروي: «أن زوجها طلقها بالشام، فجاءها وكيله بشعير، فسخطت به، فقال لها: ما لك علينا شيء، فأتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تستفتيه، فقال لها: " لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا» .
فإحدى فوائد الخبر: أنه دل على جواز الطلاق.
والثانية: أنه يدل على جواز الطلاق الثلاث.
الثالثة: أن طلاق الغائب يقع.
الرابعة: أنه يجوز للمرأة أن تستفتى؛ لـ (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينكر عليها) .
الخامسة: أن كلامها ليس بعورة.
السادسة: أنه يجوز للمعتدة أن تخرج من منزلها لحاجة.
السابعة: أنه لا نفقة للمبتوتة الحائل، خلافًا لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
الثامنة: أن للحامل المبتوتة النفقة.
التاسعة: أنه يدل على جواز نقل المعتدة عن بيت زوجها. وأختلف لأي معنى نقلها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
فقال ابن المسيب: كانت بذيئة، فكانت تستطيل على أحمائها.
وقالت عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: (كان بيت زوجها وحشًا، فخيف عليها فيه) .
وأي التأويلين صح.. ففي الخبر دليل على جواز النقل لأجله.
العاشرة: يدل على جواز التعريض بخطبة المعتدة.
الحادية عشرة: أنه يجوز للرجل أن يعرض للمعتدة بالخطبة لغيره؛ لـ: (أن

(9/286)


النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عرض لها بالخطبة لأسامة بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، لا لنفسه) .
الثانية عشرة: أنه يجوز للمرأة أن تستشير الرجال؛ لأنها جاءت تستشير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
الثالثة عشرة: يدل على جواز وصف الإنسان بما فيه وإن كان يكره ذلك؛ للحاجة إليه؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصف معاوية وأبا جهم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بما فيهما) ، وإن كانا يكرهان ذلك.
الرابعة عشرة: أنه يجوز أن يعبر بالأغلب على الشيء، ويذكر العموم والمراد به الخصوص؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أما معاوية: فصعلوك لا مال له» . ومعلوم أنه لا يخلو أن يملك شيئًا من المال وإن قل، كثيابه وما أشبهها، وإنما أراد: أنه لا يملك ما يتعارفه الناس مالا. وكذلك: «قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أبي الجهم: " إنه لا يضع عصاه عن عاتقه» . وإن كان لا يخلو أن يضعها في بعض أوقاته.
و (الصعلوك) : الفقير، قال الشاعر:
غنينا زمانا بالتصعلك والغنى ... وكلا سقاياه بكأسيهما الدهر
فما زادنا بغيا على ذي قرابة ... غنانا وما أزرى بأحسابنا الفقر
وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يضع عصاه عن عاتقه» : ففيه تأويلان:
أحدهما: أنه كان كثير الأسفار، قال الشاعر:
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر

(9/287)


فعلى هذا: يكون فيه دليل على جواز السفر بغير إذن زوجته، هذه الخامسة عشرة
والثاني: أنه أراد أنه كان كثير الضرب لزوجته، ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ترفع عصاك عن أهلك» أي: في التأديب بالكلام أو بالضرب، هذه السادسة عشرة.
فعلى هذا: التأويل يدل على جواز ضرب الزوج لزوجته؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يخرجه مخرج النكير.
وقال بعضهم: بل أراد أنه كثير الجماع، وكذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ترفع عصاك عن أهلك» أراد به الكناية عن الجماع، فيكون في هذا دلالة على جواز الكناية بالجماع، هذه السابعة عشرة. وهذا غلط في التأويل لأنه ليس من الكلام ما يدل على أنه أراد هذا؟
قال الصيمري: ولو قيل: إنه أراد بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا: كثرة الجماع، أي: أنه كثير التزويج.. لكان أشبه.
الثامنة عشرة: يدل على جواز خطبة الرجل لغيره؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطبها لأسامة» .
التاسعة عشرة: أنه يجوز للرجل أن يخطب امرأة قد خطبها غيره إذا لم تتقدم إجابة للأول.
العشرون: أنه يجوز للمستشار أن يشير على المستشير بما لم يسأله عنه؛ لأنها لم تستشره في أسامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
الحادية والعشرون: أنه يجوز للمستشار أن يشير بما يرى فيه المصلحة للمستشير وإن كره المستشير.

(9/288)


الثانية والعشرون: أنه لا يجب على المستشير المصير إلى ما أشار به المشير؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقل لها: يجب عليك المصير إلى ما أشرت به، وإنما أعاد ذلك عليها على سبيل المشورة.
الثالثة والعشرون: أن الخير لا يختص بالنسب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " أدلك على من هو خير لك منهما "، ونسبهما خير من نسبه.
الرابعة والعشرون: أن الكفاءة ليست بشرط في النكاح؛ لأنها قرشية وأسامة مولى.
الخامسة والعشرون: أنه يجوز أن تخطب المرأة إلى نفسها وإن كان لها أولياء.
وبالله التوفيق

(9/289)


[باب الخيار في النكاح والرد بالعيب]
إذا وجد أحد الزوجين بالآخر عيبًا.. ثبت له الخيار في فسخ النكاح.
والعيوب التي يثبت لأجلها الخيار في النكاح خمسة، ثلاثة يشترك فيها الزوجان، وينفرد كل واحد منهما باثنين.
فأما الثلاثة التي يشتركان فيها: فالجنون، والجذام، والبرص. وينفرد الرجل بالجب والعنة، وتنفرد المرأة بالرتق والقرن.
فـ (الرتق) : أن يكون فرج المرأة مسدودًا يمنع من دخول الذكر.
و (القرن) : - قيل ـ هو عظم يكون في فرج المرأة يمنع من الوطء. والمحققون يقولون: هو لحم ينبت في الفرج، يمنع من دخول الذكر، وإنما يصيب المرأة ذلك إذا ولدت.
هذا مذهبنا، وبه قال عمر، وابن عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ومالك، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور رحمة الله عليهم.
وقال علي، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (لا ينفسخ النكاح بالعيب) . وإليه صار النخعي، والثوري، وأبو حنيفة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إلا أنه قال: (إذا وجدت المرأة زوجها مجبوبًا أو عنينًا.. كان لها الخيار، فإن اختارت الفراق.. فرق الحاكم بينهما بطلقة) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج امرأة من غفار، فلما خلا بها.. رأى في كشحها بياضًا، فقال لها: " ضمي إليك ثيابك والحقي بأهلك "، وفي رواية أخرى: " ضمي إليك ثيابك والحقي بأهلك؛ فقد لبستم علي "، أو قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " دلستم علي ". وفي

(9/290)


رواية: (فرد نكاحها» . وهذا صريح في الفسخ، و (الكشح) : الجنب. ولأن المجنون منهما يخاف منه على الآخر وعلى الولد، والجب، والعنة، والرتق، والقرن يتعذر معها مقصود الوطء. والجذام، والبرص تعاف النفوس من مباشرة من هو به.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (ويخاف منهما العدوى إلى الآخر وإلى النسل) .
فإن قيل: فقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا عدوى ولا هامة ولا صفر» . «وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا يعدى شيء شيئًا " فقال أعرابي: يا رسول الله، إن النقبة قد تكون بمشفر البعير أو بذنبة في الإبل العظيمة فتجرب كلها! فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فما أجرب الأول؟!» ، وهذا ينفي العدوى؟
قال أصحابنا: قد وردت أيضًا أخبار بالعدوى، فمنها:
قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يوردن ذو عاهة على مصح» .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تديموا النظر إلى المجذومين، فمن كلمه منكم.. فليكن بينه وبينه قيد رمح» .

(9/291)


وروي: «أن رجلا جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليبايعه، فأخرج يده فإذا هي جذماء، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ضم يدك، فقد بايعتك» ، وكان من عادته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مصافحة من بايعه، فامتنع عن مصافحته لأجل الجذام.
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فر من المجذوم فرارك من الأسد» .
وإنما نفى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العدوى التي يعتقدها الملاحدة وهي: أنهم يعتقدون أن الأدواء تعدي بأنفسها وطباعها، وليس هذا بشيء؛ وإنما العدوى التي نريدها أن نقول: إن الله أجرى العادة بأن يخلق الداء عند ملاقاة الجسم الذي فيه الداء، كما أنه أجرى العادة أن يخلق الأبيض بين الأبيضين، والأسود بين الأسودين وإن كان في قدرته أن يخلق الأبيض من الأسودين، لا أن هذه الأدواء تعدي بنفسها.
وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا هامة ولا صفر» فإن أهل الجاهلية كانوا يقولون: إذا قتل الإنسان ولم يؤخذ بثأره.. خرج من رأسه طائر يصرخ ويقول: اسقوني من دم قاتلي. هكذا حكاه ابن الصباغ.
وأما (الصفر) : فإن أهل الجاهلية كانوا يقولون: في الجوف دابة تسمى الصفر، إذا تحركت.. جاع الإنسان، وهي أعدى من الجرب عند العرب.
وقيل: بل هو تأخير حرمة المحرم إلى صفر، فأبطل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كل ذلك.

(9/292)


[مسألة وجد امرأته خنثى أو غير ذلك وعكسه]
وإن وجد الرجل امرأته ولها فرج الرجال وفرج النساء، إلا أنها لا تبول إلا من فرج النساء، أو وجدت المرأة زوجها كذلك، إلا أنه لا يبول إلا من الذكر.. فهل يثبت الخيار لمن وجد صاحبه كذلك؟ فيه قولان:
أحدهما: يثبت له الخيار في فسخ النكاح؛ لأن النفس تعاف ذلك.
والثاني: لا يثبت له الخيار؛ لأنه لا يتعذر معه الاستمتاع.
وإن وجدت المرأة زوجها خصيا - وهو: مسلول الخصيتين والذكر باقٍ - ففيه قولان:
أحدهما: يثبت لها الخيار؛ لأن النفس تعاف من مباشرته.
والثاني: لا يثبت لها الخيار؛ لأنه يقدر على الاستمتاع بها، ويقال: إنه أكثر جماعا؛ لقلة مائه.
ولا يثبت الخيار في فسخ النكاح بغير هذه العيوب. فإذا وجد الرجل امرأته عمياء، أو مقطوعة اليدين أو الرجلين، أو شوهاء، أو وجدت المرأة زوجها كذلك.. لم يثبت به الخيار.
وقال زاهر السرخسي: إذا وجد الرجل امرأته بخراء أو عذيوطا - وهي: التي تبدي الغائط عند جماعها - ثبت له الخيار في فسخ النكاح. وهذا خلاف النص؛ لأنه لا يتعذر معه الاستمتاع.
إذا ثبت هذا: فإن الجنون يثبت لأجله الخيار، سواء كان مطبقا أو غير مطبق.
فإن مرض أحدهما فزال عقله.. لم يثبت لأجله الخيار؛ لأن ذلك إغماء، والإغماء ليس بنقص، ولهذا: يجوز الإغماء على الأنبياء - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -

(9/293)


وسلامه، ولا يجوز عليهم الجنون. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن زال المرض وبقي زوال العقل.. فهو جنون) .
وسواء كان زمان الإفاقة أكثر أو زمان الجنون أو استويا، هذا قول عامة أصحابنا.
وقال الصيمري: إن كان زمن الإفاقة أكثر.. فهل يثبت لأجله الخيار؟ فيه وجهان. والأول أصح.
وأما (الجذام) فهو: داء يأكل اللحم ويتناثر منه.
و (البرص) : بياض يكون في البدن، وعلامته أن يعصر المكان.. فلا يحمر.
وسواء كان الجذام أو البرص قليلا أو كثيرا؛ لأن النفس تعاف منه.
فإن كان الجذام أو البرص ظاهرا.. فلا كلام. وإن كان خفيا، فادعى الآخر على من هو به: أنه جذام أو برص فأنكر من هو به أنه ذلك، فإن أقام المدعي شاهدين ذكرين مسلمين ثقتين من أهل المعرفة بذلك أنه جذام أو برص.. ثبت له الخيار. وإن لم يقم بينة.. فالقول قول من هو به مع يمينه: ما هو جذام أو برص؛ لأن الأصل عدمه. فإن أصاب الزوج زوجته رتقاء، فإن كان يتمكن معه من إدخال الذكر.. لم يثبت له الخيار. وإن كان لا يتمكن معه من إدخال الذكر.. ثبت له الخيار؛ لأنه تعذر عليه وطؤها. فإن أراد الزوج أن يشق ذلك الموضع ليتمكن من إدخال الذكر، فامتنعت المرأة من ذلك.. لم تجبر عليه؛ لأن ذلك جناية عليها. فإن شقت ذلك بنفسها، أو مكنته من شقه، فشقه قبل أن يفسخ النكاح.. لم يثبت له الفسخ؛ لأن المانع له قد زال.
وفيه وجه آخر - حكاه الصيمري -: أنه لا يسقط حقه من الفسخ.
وإن وجدها مفضاة - وهو: أن يزول الحاجز بين السبيلين، أو الحاجز بين مدخل الذكر ومخرج البول - لم يثبت له الخيار؛ لأنه يقدر على وطئها.
وإن أصابها عقيما لا تلد، أو أصابته عقيما لا يولد له.. لم يثبت به الخيار؛ لأن ذلك لا يقطع به ولا يمنع كمال الاستمتاع.
وإن وجدته مجبوبا - وهو: الذي قطع جميع ذكره - ثبت لها الخيار.

(9/294)


وإن قطع بعضه وبقي البعض، فإن كان الباقي مما لا يمكن الجماع به.. فلها الخيار؛ لأن وجود الباقي بمنزلة عدمه. وإن كان الباقي مما يمكن الجماع به.. لم يثبت لها الخيار؛ لأن معظم الاستمتاع غير متعذر عليها من جهته، كما لو لم يكن له إلا ذكر قصير.

[فرع وجود عيب في كلا الزوجين حال العقد ولم يعلم أو طرأ بعده]
وإن وجد كل واحد من الزوجين بصاحبه عيبا، فإن كان العيبان من جنسين، بأن كان أحدهما أجذم والآخر أبرص.. ثبت لكل واحد منهما الخيار؛ لأن نفس الإنسان تعاف من داء غيره. وإن كانا من جنس واحد، بأن وجد كل واحد منهما صاحبه أجذم أو أبرص.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يثبت لواحد منهما الخيار؛ لأنهما متساويان في النقص، فهو كما لو تزوج عبد امرأة فكانت أمة.
والثاني: يثبت لكل واحد منهما الخيار؛ لأن نفس الإنسان تعاف من عيب غيره وإن كان به مثله.
وإن أصاب الرجل امرأته رتقاء أو قرناء، وأصابته عنينا أو مجبوبا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يثبت لكل واحد منهما الخيار؛ لوجود النقص الذي يثبت لأجله الخيار.
والثاني: لا خيار لواحد منهما؛ لأن الرتق والقرن يمنع الاستمتاع، والمجبوب والعنين لا يمكنه الاستمتاع، فلم يثبت الخيار.
هذا الكلام في العيوب الموجودة حال العقد التي لم يعلم بها الآخر. فأما إذا حدث شيء من هذه العيوب بأحد الزوجين بعد العقد.. نظرت: فإن كان ذلك بالزوج - ويتصور فيه حدوث العيوب كلها إلا العنة، فإنه لا يتصور أن يكون غير عنين عنها، ثم يكون عنينا عنها - فإذا حدث فيه أحد العيوب الأربعة.. ثبت للزوجة الخيار؛ لأن كل عيب يثبت لأجله الخيار إذا كان موجودا حال العقد.. يثبت لأجله الخيار إذا حدث بعد العقد، كالإعسار بالنفقة والمهر.

(9/295)


وإن كان ذلك حادثا في الزوجة.. فإنه يتصور أن يحدث لها جميع العيوب الخمسة، فإذا حدث بها شيء منها.. فهل يثبت للزوج فسخ النكاح؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (لا يثبت له الفسخ) - وبه قال مالك رحمة الله عليه - لأنها لم تدلس عليه؛ ولأنه يمكنه التخلص من ذلك بالطلاق.
و [الثاني] : قال في الجديد: (يثبت له الخيار في الفسخ) ، وهو الصحيح؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد نكاح الغفارية لما وجد في كشحها بياضا) ولو كان الحكم يختلف.. لسألها: هل حدث ذلك بها قبل العقد أو بعده؟ ولأن كل عيب يثبت لأجله الفسخ إذا كان موجودا حال العقد.. ثبت لأجله الفسخ إذا حدث، كالعيب بالزوج. وقول الأول: (يمكنه أن يطلق) : يبطل بالعيب الموجود حال العقد، فإنه يمكنه أن يطلق، ثم مع هذا يثبت له الفسخ.

[فرع علمه بالعيب حال العقد يسقط خياره]
قال في (الإملاء) : (إذا علم بالعيب حال العقد.. فلا خيار له؛ لأنه عيب رضي به، فلم يكن له الفسخ لأجله، كما لو اشترى شيئا معيبا مع العلم بعيبه) .
فإن أصاب أحد الزوجين بالآخر عيبا فرضي به.. سقط حقه من الفسخ لأجله. فإن وجد عيبا غيره بعد ذلك.. ثبت له الفسخ لأجله؛ لأنه لم يرض به.
وإن زاد العيب الذي رآه ورضي به.. نظرت: فإن حدث في موضع آخر، بأن رأى البرص أو الجذام في موضع من البدن فرضي به، ثم حدث البرص في موضع آخر من البدن.. كان له الخيار في الفسخ؛ لأن هذا غير الذي رضي به. وإن اتسع ذلك الموضع الذي رضي به.. لم يثبت له الخيار لأجله؛ لأن رضاه به رضى بما تولد منه.

(9/296)


[مسألة العيب الذي يفسخ العقد به فخياره على الفور]
] : وكل موضع قلنا: لأحد الزوجين أن يفسخ النكاح بالعيب.. فإن ذلك الخيار يثبت له على الفور لا على التراخي؛ لأنه خيار عيب لا يحتاج إلى نظر وتأمل فكان على الفور، كما لو اشترى عينا فوجد بها عيبا.
فقولنا: (خيار عيب) احتراز من خيار الأب في رجوعه بهبته لابنه، ومن خيار الولي: في القصاص، أو العفو. وقولنا: (لا يحتاج فيه إلى نظرٍ وتأملٍ) احتراز من المعتقة تحت عبدٍ، إذا قلنا: يثبت له الخيار على التراخي.
ولسنا نريد أن الفسخ يكون على الفور، وإنما نريد به أن المطالبة بالفسخ تكون على الفور، وهو: أن أحد الزوجين إذا علم بالآخر عيبا.. فإنه يرفع ذلك إلى الحاكم، فيستدعي الحاكم الآخر ويسأله، فإن أقر به أو كان ظاهرا.. فسخ النكاح بينهما، وإن أنكر أو كان خفيا.. فعلي المدعي أن يقيم البينة، فإذا أقام البينة.. فسخ النكاح بينهما، ولا يثبت هذا الفسخ إلا بالحاكم؛ لأنه مختلف فيه فلم يثبت إلا بالحاكم، كفسخ النكاح للإعسار بالنفقة والمهر.
قال الشيخ أبو حامد: ولا يجوز لأحد الزوجين أن يتولى الفسخ بنفسه بحال.
وقال ابن الصباغ: إذا رفعت الأمر إلى الحاكم.. فالحاكم أولى به، وهو بالخيار: فإن شاء.. فسخ بنفسه، وإن شاء.. أمرها بالفسخ.
وقال القفال: إذا رفعت الأمر إلى الحاكم وأثبتت العيب عنده.. خيرت: بين أن تفسخ بنفسها، وبين أن يفسخ الحاكم بمسألتها.

[مسألة فسخ النكاح بالعيب وحكم المهر]
وإذا وجد أحد الزوجين بالآخر عيبا ففسخ النكاح.. نظرت: فإن كان الفسخ قبل الدخول.. سقط جميع المهر؛ لأن المرأة إن كانت هي التي فسخت.. فالفرقة جاءت من جهتها، وإن كان الزوج هو الذي فسخ.. فإنما فسخ لمعنى من جهتها، وهو

(9/297)


تدليسها بالعيب، فصار كما لو فسخته بنفسها.
وإن كان الفسخ بعد الدخول، فإن كان الفسخ لعيب كان موجودا حال العقد.. فالمشهور من المذهب: أنه يلزم الزوج مهر المثل، سواء كان العيب بالزوج أو بالزوجة؛ لأن الفسخ مستند إلى العيب الموجود حال العقد، فصار كما لو كان النكاح فاسدا.
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] قولا آخر مخرجا أنه: يجب المسمى؛ لأن الفسخ رفع للعقد في الحال لا من أصله. وليس بشيء.
وإن كان الفسخ لعيب حدث بعد العقد بالزوج، أو بالزوجة على القول الجديد.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يجب لها المسمى؛ لأنه قد وجب لها المسمى بالعقد، فلا يتغير بما يحدث بعده من العيب.
والثاني: يجب لها مهر المثل؛ لأنه لما فسخ العقد.. ارتفع من أصله، فصار كما لو وطئها بشبهة.
والثالث - وهو المنصوص -: (إن حدث العيب قبل الوطء.. وجب لها مهر المثل. وإن حدث العيب بعد الوطء.. وجب لها المسمى؛ لأنه إذا حدث قبل الوطء.. فقد حدث قبل استقرار المسمى، فإذا فسخ العقد.. ارتفع من أصله، فصار كما لو وطئها بشبهة. وإذا حدث العيب بعد الوطء.. فقد حدث بعد استقرار المسمى بالدخول، فلا يتغير بما طرأ بعده) .

(9/298)


[فرع العلم بالعيب بعد الوطء ورجوع الزوج بالمهر]
وإن تزوج رجل امرأة وبها عيب، فلم يعلم به حتى وطئها، ثم علم به وفسخ النكاح.. فقد قلنا: إنه يجب لها عليه مهر المثل، وهل للزوج أن يرجع به على الولي؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (يرجع به عليه) - وبه قال مالك رحمة الله عليه - لما روي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه قال: (أيما رجل تزوج بامرأة وبها جنون أو جذام أو برص فمسها.. فلها الصداق، وذلك لزوجها غرم على وليها) . ولأن الولي هو الذي أتلف على الزوج المهر؛ لأنه أدخله في العقد حتى لزمه مهر المثل، فوجب أن يلزمه الضمان، كالشهود إذا شهدوا عليه بقتل أو غيره ثم رجعوا.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يرجع به عليه) . وبه قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، وهو قول أبي حنيفة، وهو الأصح؛ لأنه ضمن ما استوفى بدله، وهو الوطء فلا يرجع به على غيره، كما لو كان المبيع معيبا فأتلفه.
فإذا قلنا بهذا.. فلا تفريع عليه.
وإذا قلنا بالأول: فإن كان الولي ممن يجوز له النظر إلى وليته، كالأب والجد والأخ والعم.. رجع الزوج عليه، سواء علم الولي بالعيب أو لم يعلم؛ لأنه فرط بترك الاستعلام بالعيب، ولأن الظاهر أنه يعلم ذلك. وإن كان الولي ممن لا يجوز له النظر إليها، كابن العم، والمولى المعتق، والحاكم، فإن علم الولي بعيبها.. رجع عليه الزوج، وإن لم يعلم الولي بالعيب.. لم يرجع عليه الزوج، ويرجع الزوج على المرأة؛ لأنها هي التي غرته.
فإن ادعى الزوج على الولي: أنه يعلم بالعيب فأنكر، فإن أقام الزوج بينة على

(9/299)


إقرار الولي بعلمه بالعيب.. رجع عليه. وإن لم يقم عليه بينة.. حلف الولي: أنه لم يعلم بالعيب، ورجع على الزوجة.
وإن كان لها جماعة أولياء في درجة واحدة ووجد من جميعهم الغرور ممن يجوز لهم النظر إليها.. رجع الزوج عليهم إذا علموا. فإن كان بعضهم عالما بالعيب وبعضهم جاهلا به.. ففيه وجهان، حكاهما الطبري في (العدة) :
أحدهما: يرجع على العالم؛ لأنه هو الذي غره.
والثاني: يرجع على الجميع؛ لأن ضمان الأموال لا يختلف بالخطأ والعمد.
هذا نقل البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا كان الولي غير محرم لها.. فهل يرجع عليه الزوج؟ فيه قولان.
وكل موضع قلنا: يرجع الزوج على الولي.. فإنه يرجع عليه بجميع مهر المثل.
وكل موضع قلنا: يرجع الزوج على الزوجة.. فبكم يرجع عليها؟ فيه قولان، ومنهم من قال: هما وجهان:
أحدهما: لا يرجع عليها بجميع مهر المثل، وإنما يبقي قدرا يمكن أن يكون صداقا؛ لئلا يعرى الوطء عن بدل.
والثاني: يرجع عليها بالجميع؛ لأنه قد حصل لها بدل الوطء وهو المهر، وإنما يرجع إليه بسبب آخر، فهو كما لو وهبته منه. والأول أصح.
وحكي المسعودي [في " الإبانة "] : أن القولين في الولي أيضا. والمشهور: أنه يرجع عليه بالجميع قولا واحدا.

(9/300)


[فرع العلم بالعيب بعد الطلاق لغير المدخول بها]
قال في (الأم) : (إذا تزوج امرأة ثم طلقها قبل الدخول، وعلم بعد ذلك أنه كان بها عيب يثبت به خيار الفسخ.. لزمه نصف المهر؛ لأنه رضي بإزالة الملك والتزام نصف الصداق بالطلاق، فلم يرجع إليه) .

[مسألة امتناع الولي أو وليته من تزويجها ممن به عيب]
وإن دعت المرأة وليها إلى تزويجها بمجنون.. كان له الامتناع من ذلك؛ لأن عليه عارا بكون وليته تحت مجنون؛ لأنه لا يشهد ولا يحضر الجمعة والجماعة. وإن دعا الولي وليته إلى تزويجها بمجنون.. فلها أن تمتنع؛ لأن عليها ضررا به وعارا.
وإن دعت المرأة وليها أن يزوجها بمجبوب أو خصي أو عنين.. فليس له أن يمتنع؛ لأنه لا عار عليه في ذلك. وإن دعاها الولي إلى أن يزوجها بأحدهم.. فلها أن تمتنع؛ لأن عليها نقصا من جهة الاستمتاع.
وإن دعت المرأة وليها إلى أن يزوجها بمجذوم أو أبرص.. فهل له أن يمتنع؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له أن يمتنع؛ لأن الخيار إنما يثبت لها في النكاح؛ لأن النفس تعاف من مباشرتهما، وذلك نقص عليها دون الولي، فهو كالمجبوب والخصي.
والثاني: له أن يمتنع؛ لأن على الولي عارا في ذلك، وربما أعداها أو أعدى ولدها فيلتحق العار بأهل نسبها.
وإن دعاها الولي إلى تزويجها بمجذوم أو أبرص.. كان لها أن تمتنع؛ لأن عليها في ذلك عارا ونقصا.
وإن تزوجت امرأة برجل سليم لا عيب فيه، ثم حدث به عيب يثبت لأجله الخيار،

(9/301)


فإن فسخت النكاح.. لم يعترض عليها وليها بذلك. وإن اختارت المقام معه على ذلك.. جاز، ولا اعتراض للولي عليها بذلك؛ لأن حق الولي إنما هو في ابتداء العقد دون استدامته. ولهذا: لو دعت الحرة وليها إلى تزويجها بعبد.. لم يلزمه إجابتها، ولو أعتقت تحت عبد واختارت المقام معه.. لم يجبرها الولي على الفسخ.

[مسألة معنى العنين وحكمه]
العنين: هو الرجل العاجز عن الجماع، وربما يشتهي الجماع ولا يناله. واشتقاقه من عَنَّ الشيءُ: إذا اعترض؛ لأن ذكره يعن، أي: يعترض عن يمين الفرج وشماله، فلا يقصده. وقيل: اشتق من عنان الدابة، أي: أنه يشبهه في اللين.
إذا ثبت هذا: فالعنة في الرجل عيب يثبت الخيار لزوجته في فسخ النكاح لأجلها على ما نبينه. وبه قال عامة أهل العلم.
وقال الحكم بن عتيبة، وداود، وأهل الظاهر: (ليست بعيب) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] [البقرة: 229] ، فخير الله الأزواج: بين أن يمسكوا النساء بمعروف، أو يسرحوهن بإحسان. والإمساك بمعروف لا يكون بغير وطء؛ لأنه هو المقصود بالنكاح، فإذا تعذر عليه الإمساك بمعروف من هذا الوجه.. تعين عليه التسريح بإحسان؛ لأن من خير بين شيئين إذا تعذر عليه أحدهما.. تعين عليه الآخر.
وعن عمر وعلى وابن مسعود والمغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنهم قالوا: (يؤجل العنين سنة، فإن جامعها، وإلا.. فرق بينهما) ، ولا مخالف لهم في الصحابة. فدل على: أنه إجماع.

(9/302)


ولأن الله تعالى أوجب على المولي أن يفيء أو يطلق؛ لما يلحقها من الضرر بامتناعه من الوطء، والضرر الذي يلحق امرأة العنين أعظم من امرأة المولي؛ لأن المولي ربما وطئها. فإذا ثبت الفسخ لامرأة المولي.. فلأن يثبت لامرأة العنين أولى.
إذا ثبت هذا: فإن المرأة إذا جاءت إلى الحاكم وادعت على زوجها: أنه عنين أو أنه عاجز عن وطئها.. استدعاه الحاكم وسأله، فإن أقر: أنه عنين أو أنه عاجز عن وطئها.. ثبت أنه عنين.
وإن أنكر وقال: لست بعنين، فإن كان مع المرأة بينة بإقراره: أنه عنين وأقامتها.. ثبت أنه عنين. وإن لم يكن معها بينة.. فالقول قوله مع يمينه: أنه ليس بعنين، فإذا حلف.. سقطت دعواها.
وإذا ثبت أنه قادر على وطئها وامتنع.. فهل يجبره الحاكم على وطئها مرة ليتقرر مهرها؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] .
وإن نكل عن اليمين.. حلفت: أنه عنين، ولا يقضى عليه بنكوله من غير يمين.

(9/303)


وحكى الشيخ أبو إسحاق، عن أبي سعيد الأصطخري أنه: يقضى عليه بنكوله من غير أن تحلف؛ لأنه أمر لا تعلمه. وليس بشيء؛ لأنه حق نكل فيه المدعى عليه عن اليمين، فحلف المدعي، كسائر الحقوق. وقوله: (إنه أمر لا تعلمه) يبطل بكنايات الطلاق والقذف.
فإذا ثبت أنه عنين بإقراره، أو بيمينها بعد نكوله.. فإن الحاكم يؤجله سنة، سواء كان الزوج حرا أو عبدا.
وحكى عن مالك رحمة الله عليه: أنه قال: (يؤجل العبد نصف سنة) .
دليلنا: ما رويناه عن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم: أنهم قالوا: (يؤجل سنة) ، ولم يفرقوا. ولأن العجز عن الوطء قد يكون للعجز من أصل الخلقة، وقد يكون لعارض، فإذا مضت عليه سنة.. اختلفت عليه الأهوية، فإن كان ذلك قد أصابه من الحرارة.. انحل في الشتاء، وإن أصابه من الرطوبة.. انحل في الصيف وشدة الحر، وإن كان طبعه يميل إلى هواء معتدل.. أمكنه ذلك في الفصلين الآخرين. فإذا مضت عليه سنة ولم يقدر على الوطء.. علم أن عجزه من أصل الخلقة. ولأن بعضهم قال: الداء لا يستجن في البدن أكثر من سنة، ثم يظهر.
ولا يضرب المدة له إلا الحاكم؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه أجل العنين سنة بعد ثبوت العنة. ولأن من الناس من قال: يؤجل، ومنهم من قال: لا يؤجل. وكل حكم مختلف فيه.. فلا يثبت إلا بالحاكم، كالفسخ بالعيوب والإعسار بالنفقة.
ولا يضرب له الحاكم المدة إلا من حين ترافعها إليه بعد ثبوت العنة. فأما إذا أقر الزوج للزوجة بالعنة وأقاما على ذلك زمانا.. فلا يحكم عيه بالتأجيل؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه ضرب أجل العنين سنة، والظاهر أنه إنما ضرب له المدة من حين ترافعها إليه.

(9/304)


[فرع يسقط حق المرأة إذا جامع العنين في المدة]
فإذا ضربت للعنين المدة، ثم جامع امرأته قبل انقضاء السنة، أو بعدها وقبل الفسخ.. سقط حقها من الفسخ؛ لأنه قد ثبتت قدرته على الوطء.
فإذا كان ذكره سليما.. خرج من العنة بتغيب حشفته في فرجها، ولا يخرج بما دون ذلك، ولا يلزمه أكثر من ذلك؛ لأن أحكام الوطء من وجوب الغسل، والحد، والعدة، واستقرار المهر تتعلق بذلك.
وإن كان بعض ذكره مقطوعا وبقى منه ما يتمكن به من الجماع، فإن غيب جميعه في فرجها.. خرج من العنة بذلك. وإن غيب منه أقل من مقدار الحشفة.. لم يخرج من العنة. وإن غيب منه قدر الحشفة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يخرج من العنة بذلك؛ لأنه لو كان ذكره سليما فغيب منه هذا القدر.. خرج من العنة. فكذلك إذا كان بعضه مقطوعا.
والثاني - وهو ظاهر النص -: أنه لا يخرج من العنة إلا بتغييب جميع ما بقي من الذكر؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (ولا تكون الإصابة إلا بأن يغيب الحشفة أو ما بقي من الذكر في الفرج) . ولأنه إذا كان سليما.. فهناك حد يمكن اعتباره - وهو: الحشفة - فإذا كان بعضه مقطوعا.. فليس هناك حد يمكن اعتباره، فاعتبر الجميع.
وعندي: أن الغسل وسائر أحكام الوطء فيه على هذين الوجهين.
وإن وطئها في الموضع المكروه.. لم يخرج من العنة؛ لأنه ليس محلا للوطء في الشرع، ولهذا لا يحصل به الإحلال للزوج الأول. وإن أصابها في الفرج وهي حائض، أو نفساء، أو صائمة عن فرض، أو محرمة.. خرج من العنة؛ لأنه محل للوطء في الشرع، وإنما حرم الوطء لعارض.

(9/305)


[فرع ادعاء الزوج الوطء]
وإن ادعى الزوج: أنه قد وطئها، وأنكرت، فإن كانت ثيبا.. فالقول قول الزوج من يمينه؛ لأنه لا يمكن إثباته بالبينة.
وإن كانت بكرا.. عرضت على أربع من القوابل، فإن قلن: إن بكارتها قد زالت.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن الظاهر أن البكارة لا تزول إلا بالوطء.
وإن قلن: إن البكارة باقية، فإن قال الزوج كذبن، قد أصبتها وهي ثيب.. لم يلتفت إلى قوله؛ لأن في ذلك طعنا على البينة فيثبت عجزه. وإن قال: صدقن، كنت قد أصبتها وأزلت بكارتها ثم عادت.. فالقول قول الزوجة؛ لأن الظاهر أن البكارة لا تعود.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وتحلف المرأة على ذلك؛ لأن ما يدعيه الزوج ممكن؛ لأنه قد قال أهل الخبرة: إن الرجل إذا وطئ البكر ولم يبالغ.. فإن البكارة ربما زالت ثم عادت، فحلفت عليه)
هذا مذهبنا، وبه قال الثوري وأبو حنيفة رحمهما الله.
وقال الأوزاعي: (يترك الزوج معها، ويكون هناك امرأتان جالستان خلف ستر قريب منهما، فإذا قام الرجل عن جماعها.. بادرتا فنظرتا إلى فرجها، فإن رأتا فيه الماء.. علمنا أنه أصابها، وأن لم تريا فيه الماء.. علمنا أنه لم يصبها) .
وقال مالك رحمة الله عليه: (يفعل ذلك، ولكن يقتصر فيه على امرأة واحدة)

(9/306)


وحكي: (أن امرأة ادعت على زوجها العنة، فكتب سمرة بذلك إلى معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فكتب إليه: أن يزوج امرأة ذات حسن وجمال، يذكر عنها الصلاح، ويساق إليها صداقها من بيت المال؛ لتخبر عن حاله، فإن أصابها.. فقد كذبت - يعنى زوجته - وإن لم يصبها.. فقد صدقت. ففعل ذلك، ثم سألها عنه، فقالت ما عنده شيء! فقال سمرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ما دنا ولا انتشر عليه؟ فقالت: بلى دنا وانتشر عليه، ولكن جاءه سره) أي: أنزل قبل أن يولج.
هذه رواية الشيخ أبي حامد وسائر أصحابنا، وأما أبو عبيد فذكر: (أن معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إليه: أن اشتر له جارية من بيت المال، وأدخلها معه ليلة ثم سلها عنه، ففعل سمرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فلما أصبح قال ما صنعت؟ قال: فعلت حتى خضخض فيه، فسأل الجارية، فقالت: لم يصنع شيئا، فقال: خل سبيلها يا مخضخض) .
و (الخضخضة) : الحركة في الشيء حتى يستقر.
وما ذكره الأوزاعي ومالك رحمة الله عليهما غير صحيح؛ لأن العنين قد ينزل من غير إيلاج، وقد يولج غير العنين من غير إنزال.
وما ذكره معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غير صحيح؛ لأن الرجل قد يعن عن امرأة ولا يعن عن غيرها.

[مسألة بعد مضي سنة تكون المرأة بالخيار]
وإذا انقضت السنة ولم يقدر على وطئها.. كانت بالخيار: بين الإقامة، أو الفسخ. فإن اختارت الإقامة سقط حقها من الفسخ؛ لأنها أسقطت ما ثبت لها من الفسخ، فإن أرادت بعد ذلك أن ترجع وتطالب بالفسخ.. لم يكن لها ذلك؛ لأنه عيب رضيت به، فهو كما لو وجدته مجذوما أو أبرص فرضيت به، ثم أرادت أن تفسخ بعد ذلك.

(9/307)


وإن اختارت الفسخ.. لم يصح إلا بالحاكم؛ لأنه مجتهد فيه. قال ابن الصباغ: ويفسخ الحاكم النكاح، أو يجعله إليها فتفسخ. وقال الشيخ أبو حامد: لا تفسخه المرأة بنفسها؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم قالوا: (فإن جامعها، وإلا.. فرق بينهما) ، فأخبروا: أنها لا تتولاه.
ويكون ذلك فسخا لا طلاقا
وقال مالك، وأبو حنيفة رحمهما الله: (تكون طلقة بائنة)
دليلنا: أنه فسخ لعيب، فلم يكن طلاقا، كالأمة إذا أعتقت تحت عبد فاختارت الفسخ. فإن رضيت بالمقام معه قبل أن تضرب له المدة أو في أثنائها.. ففيه وجهان، وحكاهما ابن الصباغ قولين:
أحدهما: يسقط حقها من الفسخ؛ لأنها رضت بعنته، فهو كما لو رضيت به بعد انقضاء المدة.
والثاني: لا يسقط حقها من الفسخ، وهو الأصح؛ لأنها أسقطت حقها من الفسخ قبل جوازه فلم يسقط، كالشفيع إذا أسقط حقه من الشفعة قبل الشراء

[فرع وطئ ثم عجز]
إذا تزوج رجل امرأة فوطئها، ثم عجز عن وطئها.. لم يثبت لها الخيار، ولا يحكم لها عليه بالعنة.
وقال أبو ثور: (تضرب له المدة، ويثبت لها الخيار، كما لو وطئها ثم جب ذكره)
دليلنا: أن العنة يتوصل إليها بالاستدلال والاجتهاد، فإذا تحققنا قدرته على الوطء في هذا النكاح.. لم يرجع فيه إلى الاستدلال بمضي الزمان؛ لأنه رجوع من اليقين إلى

(9/308)


الظن. ويخالف: إذا وطئها ثم جب؛ لأن الجب أمر مشاهد متحقق، فجاز أن ترفع قدرته على الوطء بالأمر المتحقق.
فإن تزوج امرأة ثم وطئها، ثم طلقها فبانت منه، ثم تزوجها، فادعت عليه العنة.. سمعت دعواها عليه، فإن أقر بذلك.. ضربت له المدة؛ لأن كل نكاح له حكم نفسه، ويجوز أن تثبت العنة في نكاح دون نكاح، كما تثبت في امرأة دون امرأة.

[فرع علمت بأنه عنين]
وإن تزوج رجل امرأة مع علمها أنه عنين، بأن أخبرها: أنه عنين، أو تزوجها فأصابته عنينا، ففسخت النكاح ثم تزوجها ثانيا.. ففيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (لا يثبت لها الخيار) ؛ لأنها تزوجته مع العلم بحاله، فلم يثبت لها الفسخ، كما لو اشترى سلعة مع العلم بعيبها.
و [الثاني] : قال في الجديد: (يثبت لها الفسخ) ؛ لأن كل نكاح له حكم نفسه، ولأنها إنما تحققت عنته في النكاح الأول، ويجوز أن يكون عنينا في نكاح دون نكاح.

[مسألة فارقها العنين ثم راجعها]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن فارقها بعد ذلك، ثم راجعها، ثم سألت أن يؤجل لها.. لم يكن لها ذلك) .
وجملة ذلك: أن المرأة إذا أصابت زوجها عنينا فضربت له المدة ورضيت بالمقام معه، ثم طلقها وعادت إليه.. نظرت: فإن طلقها طلاقا رجعيا، ثم راجعها وأرادت أن تضرب له المدة ثانيا.. لم يكن لها ذلك؛ لأن الرجعة استصلاح للنكاح الأول وليست بتجديد عقد للنكاح، وقد رضيت بمقامها معه في هذا النكاح، فلم يكن لها أن تطالب بضرب المدة.

(9/309)


واعترض المزني على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال: لا تجتمع الرجعة مع العنة؛ لأنه إن كان قد وطئها في هذا النكاح.. فإنه لا تضرب له المدة للعنة فيه، وإن لم يصبها فيه.. فلا عدة عليها له ولا رجعة.
قال أصحابنا: يحتمل أن يكون الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بنى هذا على القول القديم: (أن الخلوة تثبت العدة) ، فكأنه فرضها فيمن خلا بامرأته ولم يطأها فأصابته عنينا، فضربت له المدة، ثم اختارت المقام معه، ثم طلقها ولم يبنها.. فإن له الرجعة عليها؛ لأن الخلوة كالدخول في استقرار المهر ووجوب العدة والرجعة على هذا.
ويحتمل أنه بناها على القول الجديد، وهو: (إذا وطئها ولم يغيب الحشفة في الفرج وأنزل، أو استدخلت ماءه من غير جماع.. فإنه يجب عليها العدة وله عليها الرجعة) .
قال الشيخ أبو حامد: وهذا أصح؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكره في (الأم) ، وقوله في (الأم) : (إن الخلوة لا تقرر المهر ولا توجب العدة)
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : يحتمل أن يكون الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أراد: إذا وطئها في دبرها.
وإن كان الطلاق بائنا: ثم تزوجها بعده.. فقد تزوجته مع العلم بعنته، وهل لها الخيار؟ فيه قولان مضى بيانهما.

[فرع عنَّ عن إحدى زوجتيه]
إذا تزوج امرأتين فعن عن إحداهما دون الأخرى.. ضربت له المدة للتي عن عنها؛ لأن لكل واحدة حكم نفسها، فاعتبر حكمها بانفرادها.

[مسألة وجدته مجبوبا أو خصيا أو خنثى زال إشكاله]
وإن أصابت المرأة زوجها مجبوبا، فإن جب ذكره من أصله.. ثبت لها الخيار في الحال؛ لأن عجزه متحقق. وإن بقي بعضه، فإن كان الباقي مما لا يمكن الجماع

(9/310)


به.. فهو كما لو لم يبق منه شيء؛ لأن وجود الباقي كعدمه.
وإن كان الباقي مما يمكن الجماع به، فإن اتفق الزوجان على أن الزوج يقدر على الجماع به.. فلا خيار لها. وإن اختلفا، فقالت الزوجة: لا يقدر على الجماع به، وقال الزوج: بل اقدر على الجماع به.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن القول قول الزوج مع يمينه، كما لو كان الذكر سليما.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أن القول قول الزوجة مع يمينها؛ لأن الظاهر ممن قطع بعض ذكره أنه لا يقدر على الجماع به.
فإن ثبت عجزه عن الجماع به، إما بإقراره أو بيمينها.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما - حكاه عن الشيخ أبي حامد -: أن الخيار يثبت لها في الحال؛ لأن عجزه متحقق.
والثاني -: وهو قول القاضي أبي الطيب، ولم أجد في (التعليق) إلا ذلك -: أنه تضرب له مده العنين؛ لأن عجزه غير متحقق؛ لأنه قد يقدر على الجماع به، فهو كالعنين.
وأما إذا اختلفا في القدر الباقي: هل هو مما يمكن الجماع به، أو مما لا يمكن الجماع به؟
فذكر الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق - والمحاملي: أن القول قول الزوجة وجها واحدا؛ لأن الأصل عدم الإمكان.
وقال ابن الصباغ: ينبغي أن لا يرجع في ذلك إليها، وإنما يرجع إلى من يعرف

(9/311)


ذلك بصغره وكبره، كما لو ادعت: أنه مجبوب، وأنكر ذلك.
وإن أصابت زوجها خصيا، أو خنثى قد زال إشكاله، فإن قلنا: لها الخيار.. كان لها الخيار في الحال، سواء كان قادرا على الوطء أو عاجزا عنه؛ لأن العلة فيه: أن النفس تعاف من مباشرته. وإن قلنا: لا خيار لها وادعت عجزه عن الجماع، فأقر بذلك.. ضربت له مدة العنين، وهي سنة.

[فرع العنة في الصبي والمجنون]
] : روى المزني عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن لم يجامعها الصبي.. أجل) .
قال المزني: معناه عندي: صبي قد بلغ أن يجامع مثله.
قال أصحابنا: أخطأ المزني في النقل والتأويل.
فأما النقل: فإن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في القديم: (وأن لم يجامعها الخصى.. أجل) ، وبنى الشافعي هذا إذا قلنا: لا خيار لها في الخصي وادعت عجزه عن الجماع.. فإنه يؤجل، فغلط المزني من الخصي إلى الصبي.
وأما تأويله: فغلط أيضا؛ لأن الصبي لا تثبت العنة في حقه؛ لأن العنة لا تثبت إلا باعترافه أو بنكوله عن اليمين ويمين الزوجة، وهذا معتذر في حقه قبل أن يبلغ؛ لأن دعوة المرأة لا تسمع عليه بذلك قبل بلوغه.
وإن ادعت امرأة المجنون على زوجها العنة.. لم تسمع دعواها عليه؛ لأنه لا يمكنه الجواب على دعواها. وإن ثبتت عنته قبل الجنون، فضربت له المدة وانقضت وهو مجنون.. فلا يجوز للحاكم أن يفسخ النكاح بينهما؛ لأنه لو كان عاقلا.. لجاز أن يدعي الإصابة ويحلف عليها، إن كانت ثيبا، وهذا متعذر منه في حال جنونه.
وإن كانت بكرا، فيجوز أن يكون قد وطئها وأزال بكارتها، ثم عادت البكارة، أو منعته عن نفسها.. فلم يجز الحكم عليه قبل إفاقته.

(9/312)


[مسألة اختلفت صفه الزوج أو نسبه عما شرط]
إذا تزوجت امرأة رجلا على أنه على صفة فخرج بخلافها، أو على نسب فخرج بخلافه، سواء خرج أعلى مما شرط أو دون ما شرط.. فالحكم واحد، وذلك بأن تتزوج رجلا بشرط أنه طويل فخرج قصيرا، أو بشرط أنه قصير فخرج طويلا، أو أنه أسود فخرج أبيض، أو أنه أبيض فخرج أسود، أو أنه موسر فخرج فقيرا، أو أنه فقير فخرج موسرا، أو على أنه قرشي فخرج غير قرشي، أو على أنه ليس بقرشي فكان قرشيا، أو على أنه حر فكان عبدا وكان نكاحه بإذن مولاه، أو على أنه عبد فخرج حرا، وكان هذا الشرط في حال العقد.. فهل يصح العقد؟ فيه قولان:
أحدهما: أن النكاح باطل؛ لأن الاعتماد في النكاح على الصفات والأسماء، كما أن الاعتماد في البيوع على المشاهدة، بدليل: أنه لو قال: زوجتك أختي أو ابنتي.. صح وإن لم يشاهدها الزوج، كما أنه إذا باعه سلعة شاهدها.. صح. ثم اختلاف الأعيان يوجب بطلان النكاح والبيع، بدليل: أنه لو قال: زوجتك ابنتي يا عمرو، فقبل غيره نكاحها - وهو: زيد - أو قال: بعتك عبدي هذا، فقال المشتري: قبلت البيع في الجارية.. لم يصح النكاح والبيع، فوجب أن يكون اختلاف الصفة يوجب بطلان العقد.

(9/313)


فعلى هذا: يفرق بينهما، فإن كان لم يدخل بها.. فلا شيء عليه، وإن دخل بها.. وجب لها عليه مهر مثلها.
والقول الثاني: أن النكاح صحيح، وبه قال أبو حنيفة، وهو الأصح؛ لأنه معنى لا يفتقر العقد إلى ذكره، ولو ذكره وكان كما شرط.. صح العقد. فإن ذكره وخرج بخلاف ما شرط.. لم يبطل العقد، كالمهر.
فإذا قلنا بهذا.. نظرت: فإن كان الشرط في الصفة، فإن خرج الزوج أعلى مما شرط في العقد، بأن شرط أنه فقير فكان موسرا، أو أنه جاهل فكان عالما، أو أنه شيخ فكان شابا، أو أنه قبيح فكان مليحا.. لم يكن لها الخيار في فسخ النكاح؛ لأن الخيار يثبت للنقص، وهذه زيادة لا نقصان. وإن خرج أدنى مما شرط.. ثبت لها الخيار في فسخ النكاح؛ لأنه دون ما شرط.
وإن كان في النسب.. نظرت: فإن شرط أنه حر خرج عبدا وهي حرة.. ثبت لها الخيار في فسخ النكاح قولا واحدا؛ لأن العبد لا يكافئ الحرة. وكذلك: إذا شرط أنه عربي فخرج عجميا وهي عربية.. ثبت لها الخيار؛ لأنه لا يكافئها. وإن خرج نسبه أعلى من النسب الذي انتسب إليه بأن شرط أنه ليس من قريش فكان قرشيا.. فلا خيار لها لأنه أعلى مما شرط. وإن خرج نسبه دون نسبه الذي انتسب إليه، ودون نسبها.. ثبت لها الخيار. وإن كان مثل نسبها أو أعلى منه.. ففيه وجهان:
أحدهما: لها الخيار؛ لأنها لم ترض به أن يكون كفؤا لها.
والثاني - وهو المنصوص -: (أنه لا خيار لها؛ لأنه كفء لها، ولا نقص عليها في ذلك.

[مسألة تزوج على أنها حرة فبانت أمة]
وإن تزوج رجل امرأة على أنها حرة فكانت أمة.. فهل يصح النكاح؟ فيه قولان، وجههما ما ذكرناه في التي قبلها، وإنما يتصور القولان مع وجود أربع شرائط:

(9/314)


أحدها: أن يكون الزوج ممن يحل له نكاح الأمة.
والثاني: أن يكون الشرط في حال العقد. فأما قبله أو بعده.. فلا يؤثر.
الثالث: أن يكون الغرر من جهة الأمة أو من وكيل السيد، فأما إذا كان هذا الشرط من السيد.. فإنها تعتق.
الرابع: أن يكون النكاح بإذن السيد.
إذا ثبت هذا: فإن قلنا: إن النكاح باطل، فإن لم يدخل بها.. فرق بينهما، ولا شيء عليه. وإن دخل بها.. لزمه مهر المثل لسيدها، فإذا غرمه.. فهل يرجع به على من غره؟ فيه قولان، مضى توجيههما في التي قبلها.
وإن حبلت منه وخرج الولد حيا.. كان حرا للشبهة، سواء كان الزوج حرا أو عبدا، ويلزمه قيمته لسيدها؛ لأنه أتلف رقه باعتقاده، ويرجع بقيمته إذا غرمها على من غره قولا واحدا؛ لأنه لم يحصل له في مقابلة حريته منفعة، بخلاف المهر، وتعتبر قيمته يوم الوضع.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (تلزمه قيمته يوم الترافع إلى القاضي)
دليلنا: أن الحيلولة بينه وبين سيد الأمة وجدت يوم الوضع، فاعتبرت قيمته عند ذلك.
وإن وضعته ميتا.. فلا شيء عليه؛ لأنه لم يوجد بينه وبين سيد الأمة حيلولة.
وإن ضرب ضارب بطنها فأسقطته ميتا.. وجب على الضارب للزوج غرة عبد أو أمة مقدرة بنصف عشر دية أبيه، وكم يجب على الزوج للسيد؟ فيه وجهان:
أحدهما: قيمة الغرة بالغة ما بلغت.
والثاني: أقل الأمرين من قيمة الغرة، أو عشر قيمة الأمة.

(9/315)


فإن كان المغرور عبدا.. ففي محل ما يلزمه من المهر وقيمة الولد ثلاثة أقوال:
أحدها: في رقبته.
والثاني: في ذمته إلى أن يعتق.
والثالث: في كسبه.
وإن كان المغرور حرا، ودفع إليه ما يلزمه من المهر وقلنا: له أن يرجع به أو دفع قيمة الولد، فإن كان الذي غره هو وكيل السيد.. رجع عليه في الحال إن كان موسرا. وإن كان معسرا أنظر إلى إيساره.
وإن كان الذي غره هي الأمة.. رجع عليها إذا أعتقت.
وإن كان الذي غره هي الأمة ووكيل السيدِ.. ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة ":
أحدهما: أنه بالخيار: إن شاء.. رجع بالجميع على الوكيل في الحال، وإن شاء.. رجع بالجميع على الأمة بعد العتق.
والثاني: أنه يرجع بما غرمه عليهما نصفين، إلا أنه لا يرجع على الأمة إلا بعد العتق.
وإن كان المغرور عبدا، فإن قلنا: محل الغرم ذمته إذا عتق.. فإنه لا يرجع إلا بعد أن يغرم. وإن قلنا: إن محل الغرم رقبته أو كسبه.. رجع السيد على الغارم بعد الغرم.
وإن قلنا: إن النكاح صحيح.. فهل يثبت له الخيار في الفسخ؟ فيه ثلاث طرق:
[الطريق الأول] : قال أكثر أصحابنا: فيه قولان:
أحدهما: لا يثبت له الخيار؛ لأنه يمكنه أن يطلقها.
والثاني: له الخيار؛ لأن كل معنى ثبت به الخيار للزوجة.. ثبت به الخيار للزوج، كسائر العيوب.
و [الطريق الثاني] : منهم من قال: يثبت له الخيار قولا واحدا، كما يثبت للحرة

(9/316)


في العبد؛ لأن الكفاءة وإن لم تعتبر إلا أن عليه ضررا في استرقاق ولده منها، وذلك أعظم من ضرر الكفاءة.
و [الطريق الثالث] : قال أبو إسحاق: إن كان الزوج عبدا.. لم يثبت له الخيار قولا واحدا؛ لأنه مساو لها. والصحيح: أن للجميع الخيار.
فإن قلنا: له الخيار، واختار الفسخ، فإن كان قبل الدخول.. فلا شيء عليه.. وإن كان بعد الدخول.. وجب عليه مهر المثل؛ لأن العقد إذا فسخ بمعنى قارن العقد.. صار كأن العقد وقع باطلا، فلزمه مهر المثل. والكلام في رجوعه به على من غره على ما مضى.
وإن قلنا: لا خيار له، أو قلنا: له الخيار فاختار الإقامة على النكاح.. استقر عليه المسمى بالدخول، فإن حبلت منه قبل أن يعلم برقها.. فالولد حر، ويلزمه قيمته لسيده، ويرجع به على من غره.
وإن وطئها بعد ما علم برقها فحبلت منه، فإن كان الزوج غير عربي.. كان ولده منها رقيقا لسيد الأمة.
وإن كان الزوج عربيا، فإن قلنا بقوله الجديد: (إن العرب يسترقون إذا أسروا) .. كان ولده رقيقا. وإن قلنا بقوله القديم: (إن العرب لا يسترقون) .. كان ولده منها حرا، وعليه قيمة الولد لسيد الأمة.

[فرع وجدها خلاف ما وصفت أو نسبت]
] : وإن تزوجها على أنها على صفة فخرجت بخلافها، أو أنها من نسب فخرجت بخلافه، وكان هذا الشرط في حال العقد.. فهل يصح النكاح؟ فيه قولان، وسواء خرجت أعلى من الشرط أو دونه.
فإن قلنا: إن النكاح باطل، فإن لم يدخل بها.. فرق بينهما، ولا شيء عليه.

(9/317)


وإن دخل بها.. لزمه مهر مثلها، وهل يرجع به على من غره؟ فيه قولان، مضى توجيههما.
فإن قلنا: لا يرجع.. فلا كلام.
وإن قلنا: يرجع على من غره، فغرم، فإن كان الذي غره وليها وهو واحد.. رجع عليه بالجميع، وإن كانوا جماعة، فإن غروه بالنسب.. رجع على جميعهم بالسوية بجميع المهر؛ لأن نسبها لا يخفى عليهم. وإن غروه بصفة غير النسب، فإن كانوا كلهم عالمين بحالها، أو كلهم جاهلين بحالها.. رجع على جميعهم بالسوية؛ لأنه لا مزية لبعضهم على بعض. وإن كان بعضهم عالما بحالها وبعضهم جاهلا بحالها.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: يرجع على الجميع؛ لأن الجميع منهم زوجوه، وحقوق الأموال لا تسقط بالخطأ.
والثاني: يرجع على العالم منهم بحالها دون الجاهل؛ لأن العالم بحالها هو الذي غره.
فإن كان الذي غره هي الزوجة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يرجع عليها بجميع المهر، كما قلنا في الأولياء.
والثاني: لا يرجع عليها بالجميع، بل يبقى منه شيء حتى لا يعرى الوطء عن بدل.
فإن قلنا: يرجع عليها بالجميع، فإن كان قد قبضته منه.. ردته إليه، وإن لم تقبضه منه.. لم تقبضه، بل يسقط أحدهما بالآخر على أحد الأقوال.
وإن قلنا: لا يرجع عليها بالجميع، فإن كانت قد قبضت الجميع.. رجع عليها بما قبضت منه، ويبقي منه بعضه. وإن لم تقبضه منه.. أقبضها منه شيئا، وسقط الباقي عنه.
وإن قلنا: إن النكاح صحيح، فإن غرته بصفة فخرجت على صفة أعلى مما شرطت، أو بنسب فخرج نسبها أعلى مما شرطت.. فلا خيار للزوج؛ لأنه لا نقص

(9/318)


عليه، وإن خرج نسبها دون ما شرطت من النسب إلا أنه مثل نسب الزوج أو أعلى من نسبه.. فلا خيار له؛ لأنه لا نقص عليه. وإن خرج نسبها دون النسب الذي شرطت ودون نسب الزوج، أو كان الغرور بصفة فخرجت صفتها دون الصفة التي شرطت.. فهل له الخيار في فسخ النكاح؟ فيه قولان:
أحدهما: له الخيار؛ لأنه معنى لو شرطه الزوج بنفسه وخرج بخلافه.. لثبت لها الخيار، فثبت به للزوج الخيار، كالعيوب.
والثاني: لا يثبت له الخيار؛ لأنه يمكنه أن يطلقها، ولأنه لا عار على الزوج بكون نسب الزوجة دون نسبه ودون صفته، بخلاف الزوجة.
فإن قلنا: له الخيار، فاختار الفسخ. فهو كما لو قلنا: إنه باطل.
وإن قلنا: إنه لا خيار له، أو له الخيار فاختار إمساكها.. لزمته أحكام العقد الصحيح.

[مسألة تزوج امرأة يظنها حرة أو مسلمة فبانت أمة أو كتابية]
وإن تزوج رجل امرأة يظنها حرة فبانت أمة، وهو ممن يحل له نكاح الأمة.. فالنكاح صحيح، والمنصوص: (أنه لا خيار له) .
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيمن تزوج امرأة يظنها مسلمة فبانت كتابية: (إن النكاح صحيح، وللزوج الخيار) . واختلف أصحابنا فيهما:
فمنهم من قال: لا فرق بينهما؛ لأن الحرة الكتابية أحسن حالا من الأمة؛ لأن ولده منها لا يسترق واستمتاعه بها تام، فإذا ثبت له الخيار في الكتابية.. ففي الأمة أولى. وإذا لم يثبت له الخيار في الأمة.. ففي الكتابية أولى، فيكون فيهما قولان.
ومنهم من قال: لا يثبت له الخيار في الأمة، ويثبت له الخيار في الكتابية. والفرق بينهما: أن ولي الكافرة كافر، وعليه أن يغير حال نفسه ليعلم أنه كتابي، فإذا لم يفعل.. كان هو المفرط، فثبت للزوج الخيار، وولي الأمة المسلمة مسلم، وليس عليه أن يغير حال نفسه، فليس من جهته تفريط، وإنما المفرط هو الزوج إذ لم يسأل عن الزوجة، فلم يثبت له الخيار.

(9/319)


وحكى المسعودي [في " الإبانة "] طريقا ثالثا: أنه لا يثبت لواحد منهما الخيار قولا واحدا. ووجهه: أن العقد وقع مطلقا، فهو كم لو ابتاع شيئا ظنه على صفة فبان بخلافها.. فإنه لا خيار له. وما ذكره الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الكتابية.. فمحمول عليه: إذا شرط أنها مسلمة.
والمشهور: هما الطريقان الأولان.

[مسألة بيع الأمة المزوجة أو أعتقت وزوجها حر]
وإذا كان لرجل أمة مزوجة، فباعها سيدها من غير زوجها.. صح بيعه، ولا يكون طلاقا، بل النكاح بحاله. وبه قال عمر، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، وعامة أهل العلم.
وقال ابن عباس، وابن مسعود، وأبي بن كعب، وأنس، وجابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: (يكون بيعها طلاقا) .
دليلنا: ما روي: «أن عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - اشترت بريرة فأعتقتها فخيرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . فلو كان نكاحها قد انفسخ بالشراء.. لما خيرها فيه.
وإن أعتقت الأمة وزوجها عبد.. ثبت لها الخيار في فسخ النكاح. وهو إجماع لا خلاف فيه، والأصل فيه ما روي: «أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أعتقت بريرة، فخيرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قالت: وكان زوجها عبدا» .

(9/320)


«قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: كان زوج بريرة عبدا أسود لبني المغيرة يقال له: مغيث، كأني أنظر إليه وهو يدور خلفها في سكك المدينة ويبكي ودموعه على خديه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للعباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (ألا تعجب من حب مغيث بريرة، وبغض بريرة مغيثا؟ !) فقال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لو راجعتيه؛ فإنه أبو ولدك؟) ، فقالت: يا رسول الله، أبأمرك؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا، إنما أنا شفيع) ، فقالت: لا حاجة لي فيه» .
ولأن المرأة إذا تزوجت رجلا فبان أنه عبد ولم تكن علمت به.. ثبت لها الخيار في الفسخ، فإذا ثبت لها الخيار في ابتداء النكاح.. ثبت لها في استدامته.
وإن أعتقت الأمة وزوجها حر.. لم يثبت لها الخيار في الفسخ. وبه قال ابن عباس، وابن عمر، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وابن المسيب، وسليمان بن يسار، ومالك، وابن أبي ليلى، وأحمد، وإسحاق رحمة الله عليهم.
وقال الشعبي، والنخعي، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه: (يثبت لها الخيار) .
دليلنا: ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «خير رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بريرة وكان زوجها عبدا، ولو كان زوجها حرا.. ما خيرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وعائشة لا تقول ذلك إلا بعد أن تعلم ذلك من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطعا ويقينا؛ لأن مثل هذا لا يجوز أن يقطع به عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من جهة الاستدلال. ولأنه لا ضرر عليها في كونها حرة تحت حر، ولهذا: لا يثبت لها الخيار في ابتداء النكاح، فلم يثبت ذلك لها في استدامته.

[فرع عتق بعض الشركاء نصيبه من المزوجة بعبد]
وإذا كانت أمة لجماعة وهي مزوجة بعبد، فأعتق بعضهم نصيبه وهو معسر.. عتق نصيبه لا غير، ولا يثبت لها الخيار في فسخ النكاح؛ لأن الخيار إنما يثبت لها لكمالها بالحرية، وذلك لم يوجد قبل عتق جميعها.

(9/321)


قال في (الفروع) : وإن تبعضت الحرية فيها.. فقد قيل: لا يثبت لها الخيار حتى تكمل حريتها. وقيل: إذا زادت أجزاء حريتها على أجزاء حريته.. ثبت لها الخيار.

[فرع اختيار المعتقة تحت عبد فسخ النكاح]
وإن أعتقت الأمة تحت عبد واختارت فسخ النكاح.. فلها أن تفسخ النكاح بنفسها، ولا تفتقر إلى حكم الحاكم؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لبريرة: (إن شئت.. أقيمي تحت هذا العبد، وإن شئت.. فارقيه» ، فجعل المفارقة إليها. ولأنه: مجمع عليه، فلم يفتقر إلى حكم الحاكم، كفسخ البيع عند وجود العيب. وفي وقت خيارها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه على الفور، فإن أخرت الفسخ بعد العلم بالعتق مع تمكنها منه.. سقط حقها؛ لأنه خيار عيب فكان على الفور، كخيار الرد بالعيب.
والثاني: أنها بالخيار ثلاثة أيام؛ لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن بريرة قضى فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالثلاث» . ولأنا لو قلنا: لا يكون خيارها إلا على الفور.. أضررنا بها؛ لأنها قد تحتاج إلى التأمل والنظر فيما لها فيه الحظ من ذلك. ولو قلنا: على التراخي أبدا.. أضررنا بالزوج؛ لأنه لا يدري أتقيم معه أم تفارقه، فقدر بالثلاث؛ لأنها أول حد الكثرة وآخر حد القلة.
والثالث - وهو الصحيح -: أنها بالخيار إلى أن يطأها باختيارها؛ لما روي عن عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن «بريرة خيرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال لها: (إن قربك.. فلا خيار لك» . وبه قال ابن عمر وحفصة بنت عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.

(9/322)


قال المحاملي: وفيها قول رابع ضعيف: أنها بالخيار إلى أن يسقط حقها، أو تمكن من وطئها، أو يوجد ما يدل على الرضا مثل: أن يقبلها فتسكت.
وقال ابن الصباغ: لها الخيار إلى أن يمسها باختيارها، أو تصرح بما يبطله.

[فرع ادعاء الأمة جهالة العتق أو بالحكم بعد فوات خيار الفسخ]
إذا أعتقت الأمة تحت عبد فلم تفسخ حتى وطئها الزوج وقلنا: إن لها الخيار إلى أن يطأها، أو مضت الأيام الثلاثة إذا قلنا: إن لها الخيار ثلاثا، أو مضى زمان تمكنت فيه من الفسخ إذا قلنا: إنه على الفور، ثم ادعت الجهالة، فإن ادعت الجهالة بالعتق، فإن كانت في موضع يجوز أن يخفى عليها العتق، بأن تكون في بلد غير البلد الذي أعتقها فيه السيد، أو في محلة غير محلة السيد.. قبل قولها مع اليمين؛ لأن الظاهر أنها لم تعلم.
وإن كانت في موضع لا يجوز أن يخفى عليها العتق، بأن تكون مع السيد في دار واحدة.. ففيه طريقان، حكاهما القاضي أبو الطيب:
أحدهما - وهو اختيار الشيخين: أبي حامد وأبي إسحاق -: أنه لا يقبل قولها قولا واحدا؛ لأن دعواها تخالف الظاهر.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق المرزوي -: أنها على قولين:
أحدهما: لا يقبل قولها؛ لما ذكرناه.
والثاني: أنه يقبل قولها مع يمينها؛ لأنه يجوز أن يخفى ذلك عليها، ولأن الأصل عدم علمها.
وإن أقرت أنها علمت بالعتق وادعت: أنها جهلت أن لها الخيار.. فهل يقبل قولها مع يمينها؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يقبل قولها، كما لو اشترى سلعة فوجد بها عيبا وادعى: أنه لم يعلم أن له الرد.

(9/323)


والثاني: يقبل قولها مع يمينها؛ لأن هذا الأمر لا يعرفه إلا خواص الناس، بخلاف الرد بالعيب؛ فإن الخاص والعام يعلمه. هذا ترتيب البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا ادعت الجهالة.. فهل يقبل قولها؟ فيه قولان.
واختلف أصحابنا في موضع القولين:
فمنهم من قال: القولان إذا ادعت الجهالة بالعتق، فأما إذا ادعت الجهالة بالحكم: فلا يقبل قولها قولا واحدا.
ومنهم من قال: القولان إذا ادعت الجهالة بالحكم، فأما بالعتق: فيقبل قولها قولا واحدا.

[فرع مهر المعتقة بعد اختيارها]
وإذا اختارت فراقه، فإن كان قبل الدخول.. فلا مهر عليه لها ولا متعة؛ لأن الفرقة جاءت من جهتها. وإن اختارت بعد الدخول.. وجب عليه المهر، وأي مهر يجب عليه؟ ينظر فيه:
فإن وطئها ثم أعتقت.. وجب عليه المهر المسمى؛ لأنه استقر بوطئه. وإن أعتقت ثم وطئها ثم اختارت الفسخ.. وجب عليه مهر المثل؛ لأن الفسخ يستند إلى حالة العتق، فصار كالوطء في نكاح فاسد، ويكون المهر في الحالين للسيد؛ فإنه وجب وهي في ملكه.
وإن اختارت المقام، فإن كان قد سمى لها مهرا صحيحا.. كان ذلك لسيدها.
وإن سمى لها مهرا فاسدا.. كان لسيدها مهر مثلها.
وإن كانت مفوضة، ففرض لها المهر بعد العتق، فإن قلنا: يجب مهر المفوضة بالعقد.. كان لسيدها. وإن قلنا: يجب بالفرض.. كان لها، ويأتي بيان ذلك في موضعه.

(9/324)


[فرع عتق قاصرة تحت عبد والصغير تبع لأبيه إذا أسلم]
] : وإن أعتقت الصغيرة أو المجنونة تحت عبد.. لم يكن لها أن تختار؛ لأنه لا حكم لكلامها، وليس لوليها أن يختار الفسخ؛ لأنه خيار شهوة وذلك يتعلق بشهوتها، ولزوجها أن يستمتع بها، وعليه لها النفقة إلى أن تبلغ الصغيرة أو تفيق المجنونة ويثبت لها الخيار. وهل يكون على الفور أو على التراخي؟ على الأقوال في البالغة العاقلة.
قال ابن الصباغ: وكذلك إذا كان زوج الكافر ابنه الصغير من عشر نسوة، ثم أسلم الأب.. تبعه الابن في الإسلام. فإن أسلمت الزوجات.. كان النكاح موقوفا إلى أن يبلغ الزوج ويختار، وتجب عليه نفقتهن. قال: وينبغي أن يمنع من الاستمتاع بهن؛ لأن الإقرار على نكاح جميعهن لا يجوز، بخلاف الحرة تحت العبد.

[فرع عتقت قبل أن تختار أو تعلم بعتق زوجها]
] : وإن لم تعلم بعتقها حتى أعتق العبد، أو قلنا: لا يبطل خيارها بالتأخير، فأعتق قبل أن تختار.. ففيه قولان:
أحدهما: يسقط خيارها من الفسخ؛ لأن الخيار إنما يثبت لها لنقصه بالرق، وقد زال هذا النقص.
والثاني: لا يسقط خيارها؛ لأنه حق ثبت بالرق فلا يتغير بالعتق، كما لو وجب عليه حد وهو عبد فأعتق قبل أن يقام عليه.

[فرع عتقت في عدة طلاقها الرجعي]
وإن كانت أمة تحت عبد فطلقها طلاقا رجعيا، فأعتقت في أثناء العدة.. فلها أن تختار الفسخ؛ لأنها في حكم الزوجات، ولأن لها في ذلك فائدة - وهي: أنها لا تأمن

(9/325)


أن يراجعها في آخر عدتها - فإذا فسخت.. استأنفت العدة.. فإن فسخت.. انقطع النكاح. وإن اختارت المقام معه على الزوجية.. لم يكن لهذا الاختيار حكم؛ لأنها جارية إلى بينونة، فلا يصح اختيارها للنكاح، كما لو ارتد الزوج وراجع في حال العدة، فإن راجعها.. كان لها أن تختار الفسخ. وإن سكتت ولم تختر الفسخ ولا النكاح.. لم يسقط خيارها؛ لأنها لو صرحت بالمقام معه.. لم يسقط خيارها، فلأن لا يسقط خيارها بسكوتها أولى.

[فرع طلاق العبد أمته قبل اختيارها الفسخ]
] : وإن أعتقت أمة تحت عبد فطلقها قبل أن تختار الفسخ.. ففيه قولان:
أحدهما: أن الطلاق موقوف، فإن اختارت الفسخ.. لم يقع طلاقه. وإن لم تختر الفسخ.. وقع طلاقه؛ لأن في إيقاعه إسقاطا لما ثبت لما من الفسخ، وذلك سابق لطلاقه.
والثاني: يقع عليها طلاقه؛ لأنه طلاق صادف زوجية صحيحة، فوقع كما لو طلقها قبل العتق. وقال الشيخ أبو حامد: ولأنه لا خلاف أن الزوجة إذا وجدت بالزوج عيبا.. يثبت به لها الفسخ، فطلقها قبل أن تفسخ. نفذ طلاقه، فكذلك هذا مثله.

[فرع فسخ المعتقة إذا زوجها سيدها أثناء مرض موته أو بوصيته]
وإن كان لرجل أمة قيمتها مائة درهم، وله مائة درهم أخرى، وزوج الأمة بمائة درهم، فأعتقها في مرض موته، أو أوصى بعتقها فأعتقت قبل الدخول، ولا يملك السيد غير ذلك.. لم يثبت لها الفسخ؛ لأنها لو فسخت.. لسقط مهرها، وإذا سقط مهرها.. لم ينفذ العتق في جميعها، وإذا لم ينفذ العتق في جميعها.. لم يثبت لها الفسخ، فكان إثبات الفسخ يؤدي إلى سقوطه فسقط الفسخ. وإن كان قد دخل بها.. ثبت لها الفسخ؛ لأنها تخرج من الثلث.

(9/326)


[فرع عتق وزوجته أمة]
وإن أعتق عبد وزوجته أمة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يثبت له الخيار في فسخ النكاح؛ لأنه صار كاملا مع نقصان زوجته، فصار بمنزلة الأمة إذا أعتقت تحت عبد.
والثاني: لا يثبت له الفسخ، وهو المذهب؛ لأن رقها لا يثبت له الخيار في ابتداء النكاح، وهو: إذا تزوج حر امرأة مطلقا، ثم بان أنها أمة.. لم يثبت له الخيار، فلم يثبت له الخيار في استدامته، بخلاف الحرة، فإنها لو تزوجت برجل مطلقا، ثم بان أنه عبد.. ثبت لها الخيار في ابتداء النكاح، فثبت لها في استدامته.

[فرع تزوج أمة من رجل ثم اختلفا]
وإذا تزوج رجل أمة من رجل ثم اختلفا، فقال السيد: زوجتكها وأنا لا أملك تزويجها؛ لأني كنت محرما، أو محجورا علي. فقال الزوج: بل زوجتنيها وأنت تملك تزويجها.. قال ابن الحداد. فالقول قول الزوج مع يمينه.
فمن أصحابنا من وافقه على ذلك؛ لأن الزوج يدعي الصحة، والسيد يدعي البطلان لمعنى قارن العقد، والأصل عدم ذلك المعنى، وسلامة العقد منه.
قال هذا القائل: ولو ادعى الزوج: أنه تزوجها منه في حال الإحرام أو الحجر، أو أنه كان واجدا لطول حرة، وقال السيد: بل تزوجتها من غير إحرام ولا حجر، وكنت عادما لطول حرة.. فالقول قول السيد مع يمينه؛ لأن الأصل عدم هذه الأشياء إلا أنها تحرم على الزوج في المستقبل؛ لأنه أقر بتحريمها عليه.
ومن أصحابنا من قال: إن كان لا يعرف له حال إحرام ولا حجر.. فالقول قول من يدعي عدم ذلك. وإن عرف له حال إحرام أو حجر ولم يعلم: هل وقع ذلك في حال الإحرام أو الحجر أو في غيرهما.. ففيه قولان:

(9/327)


أحدهما: القول قول من يدعي نفيه؛ لأن الأصل عدمه.
والثاني: القول قول من يدعي الفساد؛ لأنه ليس أحد الأمرين بأولى من الآخر والأصل عدم اللزوم.
وقال القاضي أبو الطيب: والصحيح: قول ابن الحداد.
وبالله التوفيق

(9/328)


[باب نكاح المشرك]
أنكحة أهل الشرك صحيحة، وطلاقهم واقع. فإذا نكح مشرك مشركة وطلقها ثلاثا.. لم تحل له إلا بعد زوج.. ولو نكح مسلم ذمية ثم طلقها ثلاثا، ثم نكحها ذمي ودخل بها وطلقها الذمي.. حلت للمسلم الذي طلقها بعد انقضاء عدتها. فيتعلق بأنكحتهم سائر الأحكام التي تتعلق بأنكحة المسلمين. وبه قال الزهري، والأوزاعي، وأبو حنيفة، وأصحابه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال مالك رحمة الله عليه: (أنكحة أهل الشرك باطلة، فلا يتعلق بها حكم من أحكام النكاح الصحيح) . وحكاه أصحابنا الخراسانيون قولا آخر للشافعي:
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ} [القصص: 9] [القصص: 9] ، وقَوْله تَعَالَى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4] [المسد: 1 - 4] ، فأضاف امرأتيهما إليهما، وحقيقة الإضافة تقتضي الملك.
وروي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ولدت من نكاح لا من سفاح» ، وكان مولودا في الشرك. إذا ثبت هذا: فإن أسلم الزوجان المشركان معا، فإن كانا عند إسلامهما ممن يجوز ابتداء النكاح بينهما.. أقرا على نكاحهما الأول وإن كانا عقدا بغير ولي ولا شهود؛ لأنه أسلم خلق كثير وأقرهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أنكحتهم ولم يسأل عن شروطها. وإن كانا لا يجوز لهما ابتداء عقد النكاح بينهما، بأن كانت محرمة عليه بنسب أو رضاع أو مصاهرة، أو معتدة من غيره.. لم يقرا على النكاح؛ لأنه لا يجوز لهما ابتداء النكاح، فلا يجوز إقرارهما عليه.

[مسألة أسلم وزوجته كتابية أو مشركة]
وإن أسلم الزوج والزوجة كتابية.. أقرا على النكاح؛ لأنه يجوز للمسلم ابتداء النكاح على الكتابية، فأقرا عليه.

(9/329)


وإن أسلم أحد الزوجين الوثنيين أو المجوسيين، أو أسلمت الزوجة ولم يسلم الزوج، فإن كان قبل الدخول.. انفسخ النكاح، وإن كان بعد الدخول.. وقف النكاح. فإن أسلم الكافر منهما قبل انقضاء عدة الزوجة.. أقرا على النكاح. وإن لم يسلم الكافر منهما حتى انقضت عدة الزوجة.. بانت منه من وقت إسلام المسلم منهما. ولا فرق بين أن يكون ذلك في دار الإسلام أو في دار الحرب. وبه قال أحمد.
وقال مالك رحمة الله عليه: (إن كانت هي المسلمة.. فكما قلنا، وإن كان هو المسلم.. عرض عليها الإسلام في الحال، فإن أسلمت، وإلا.. انفسخ نكاحها) .
وقال أبو ثور: (إن أسلم الزوج قبل الزوجة.. وقعت الفرقة بكل حال) .
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن كانا في دار الحرب وكان ذلك بعد الدخول.. فالنكاح موقوف على انقضاء العدة - كقولنا - وإن كانا في دار الإسلام، فسواء كان قبل الدخول أو بعده.. فإن النكاح لا ينفسخ، بل يعرض الإسلام على المتأخر منهما، فإن أسلم.. فهما على الزوجية، وإن لم يسلم.. فرق بينهما بتطليقة. وإن لم يعرض الإسلام على المتأخر منهما وأقاما على الزوجية مدة طويلة.. فهما على النكاح) .
دليلنا: ما روي عن عبد الله بن شبرمة: «أن الناس كانوا يسلمون على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الرجل قبل المرأة، والمرأة قبل الرجل، فأيهما أسلم قبل انقضاء عدة المرأة.. فهما على النكاح، وإن لم يسلم حتى انقضت العدة.. فلا نكاح بينهما» ، والعدة لا تكون إلا بعد الدخول، ولم يفرق: بين أن يسلم الرجل أولا أو المرأة، وبين أن يكونا في دار الإسلام أو في دار الحرب.
وإن أسلم الزوجان في حالة واحدة قبل الدخول.. لم ينفسخ نكاحهما؛ لأنه لم يسبق أحدهما الآخر.

(9/330)


[فرع لا يفرق عندنا بين الزوجين المشركين باختلاف الدار]
ولا تقع الفرقة - عندنا - بين الزوجين المشركين باختلاف الدار بهما، وإنما تقع باختلاف الدين على ما بيناه.
وقال أبو حنيفة: (إذا اختلفت الدار بهما فعلا وحكما.. انفسخ النكاح بينهما، مثل أن تزوج ذمي ذمية ثم نقض العهد ولحق بدار الحرب، أو أسلم أحد الحربيين ودخل دار الإسلام، أو عقد الأمان لنفسه ودخل دار الإسلام.. انفسخ النكاح بينهما. وإن اختلفت الدار بهما فعلا لا حكما، أو حكما لا فعلا.. لم ينفسخ النكاح بينهما - واختلاف الفعل دون الحكم هو: أن يتزوج ذمي ذمية، ثم خرج أحدهم إلى دار الحرب في تجارة ولم ينقض ذمته، أو دخل الحربي دار الإسلام ولم يعقد لنفسه ذمة ولا أمانا. واختلاف الدار بينهما حكما لا فعلا هو: أن يسلم أحد الزوجين الحربيين ويقيم في دار الحرب - فلا ينفسخ النكاح بينهما) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قصد مكة عام الفتح.. نزل بمر الظهران، وكان ذلك الموضع قد صار دار إسلام؛ لغلبة رسول الله عليه وسلم عليه، ومكة دار كفر؛ لغلبة الكفار عليها، وبينه وبين مكة مرحلة، فخرج أبو سفيان بن حرب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، إليه فأسلم، وتقدم أبو سفيان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى مكة قبل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدخل مكة وصاح بأعلى صوته في مكة: يا معشر قريش، قد جاء محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بجيش لا قبل لكم به! فخرجت زوجته هند وقالت: لبئس طليعة القوم أنت، وتعلقت بلحيته وقالت: اقتلوا الشيخ الضال، فإنه قد صبأ.. فقال لهم: لا تغرنكم هذه. قالوا: فما الحيلة؟ فقال: من دخل داري.. فهو آمن. قالوا: وما تغني دارك؟ فقال: ومن دخل المسجد الحرام.. فهو آمن، ومن ألقى سلاحه.. فهو آمن. ثم دخل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة

(9/331)


بعد ذلك، وأقامت هند على شركها، وحمل إليها خالد بن الوليد أبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يقرأ عليها القرآن فلم تسلم، ثم أسلمت بعد ذلك وبايعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم تزل زوجة أبي سفيان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إلى أن ماتت» فلو كان نكاحه قد انفسخ.. لأخبره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك ولما أقرهما عليه.
وأيضا روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما فتح مكة. أمن الناس كلهم إلا خمسة - وقيل إلا سبعة - منهم: صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل. فهرب عكرمة بن أبي جهل إلى الساحل، وهرب صفوان إلى اليمن، وأقامت امرأتاهما بمكة وأسلمتا، فأخذت امرأة عكرمة له أمانا من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخرجت به إليه فأسلم وعاد إلى مكة، وأخذ لصفوان الأمان فرجع إلى مكة فأقام على الشرك شهرا، وخرج مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى هوازن، ثم عاد إلى مكة فأسلم» . ولم يخبره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بأن نكاحه قد انفسخ؛ لأنه خرج إلى الطائف وهي دار حرب في شركه، وامرأته مسلمة بمكة.

[فرع الفرقة باختلاف الدين بين الزوجين]
فرع: [الفرقة باختلاف الدين تكون فسخا لا طلاقا] :
وكل موضع حكمنا بوقوع الفرقة بين الزوجين باختلاف الدين. فإن ذلك يكون فسخا لا طلاقا.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن كان المسلم هو الزوج، فعرض الإسلام عليها فامتنعت.. فرق بينهما وكان فسخا - كقولنا - وإن كانت المسلمة هي الزوجة، فعرض الإسلام على الزوج فامتنع.. فرق بينهما وكان طلاقا) .

(9/332)


دليلنا: أن كل سبب لو كان من جهة الزوج كان فسخا، فإذا كان من جهة الزوجة.. كان فسخا، كالردة.

[مسألة أسلم على أكثر من أربع]
إذا أسلم الرجل وتحته أكثر من أربع زوجات فأسلمن معه في العدة، أو كن كتابيات.. لزمه أن يختار أربعا منهن ويفارق ما زاد، سواء تزوجهن بعقد واحدا أو بعقود، وسواء اختار من نكحها أولا أو آخرا. وبه قال مالك، وأحمد، ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى.
وقال الزهري، وأبو حنيفة، وأبو يوسف - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: (لا يصح التخيير بحال، بل إن كان تزوجهن بعقد واحد.. بطل نكاح الجميع، ولا تحل له واحدة منهن إلا بعقد مستأنف. وإن تزوجهن بعقود.. لزمه نكاح الأربع الأوائل، وبطل نكاح من بعدهن) .
دليلنا: ما روي: «أن غيلان بن سلمة أسلم وعنده عشر نسوة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أمسك أربعا، وفارق سائرهن» ولم يفرق

(9/333)


وروي «عن نوفل بن معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: أسلمت وعندي خمس نسوة، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألته، فقال: " فارق إحداهن، وأمسك أربعا " فعمدت إلى أقدمهن عندي عهدا ففارقتها» وأراد: أقدمهن صحبة.

[فرع العقد لأكثر من رجل على امرأة]
] : وإن تزوج رجلان أو أكثر من امرأة في الشرك، ثم أسلموا أو تحاكموا إلينا قبل الإسلام، فإن عقدوا عليها في حالة واحدة.. بطل نكاح الجميع؛ لأنه ليس بعضهم بأولى من بعض. وإن عقدوا عليها واحدٌ بعد واحدٍ.. فالنكاح للأول، وما بعده باطل. ولا يمكن التخيير هاهنا؛ لأنا لو جعلنا الخيرة للأزواج.. لم نأمن أن يختارها كل واحد منهم، ولا سبيل إلى اتباع خيرتهم، ولا مزية لبعضهم على بعض في التقديم. ولا سبيل إلى أن تجعل الخيرة لها؛ لأن المرأة لا تملك فسخ النكاح وحله إلا بعيب، ولأنه لما لم يجز لها ابتداء العقد على النكاح.. لم يجز لها اختيار الزوج.
وحكى الطبري في " العدة " وجها آخر: أنها تخير. قال: وهو اختيار القاضي

(9/334)


أبي الطيب، حيث قال: إن مات أحد الزوجين في الشرك ثم أسلمت مع الزوج.. بقيا على النكاح وجها واحدا. والأول هو المشهور:

[فرع أسلم وتحته أكثر من أربع زوجات]
وإذا أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة وأسلمن.. فقد ذكرنا: أنه يجب عليه أن يختار أربعا منهن؛ «لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لغيلان بن سلمة: " اختر أربعا» وهذا أمر، والأمر يدل على الوجوب.
فإن لم يختر.. أجبره الحاكم على الاختيار؛ لأنه لا يجوز له أن يمسك أكثر من أربع نسوة، ويحبسه ليختار، فإن لم يفعل.. أخرجه وضربه جلدات دون أقل الحد، فإن لم يفعل.. أعاده إلى الحبس، فإن لم يفعل.. أخرجه ثانيا ًوضربه. وعلى هذا يتكرر عليه الحبس والضرب إلى أن يختار؛ لأن هذا حق تعين عليه، فهو كما لو كان عليه دين وله مال ناضٌّ أخفاه.. فإنه يحبس ويعزر إلى أن يظهره ويقضي به الدين. ويجب عليه أن ينفق على جميعهن إلى أن يختار؛ لأنهن محبوسات عليه.
فإن جن في حال الحبس.. أطلق من الحبس؛ لأنه خرج عن أن يكون من أهل الاختيار. فإذا أفاق.. أعيد إلى الحبس والتعزير. ولا ينوب الحاكم عنه في الاختيار؛ لأنه اختيار شهوة، فلم ينب عنه الحاكم.
فإن قال لأربع منهن: اخترتكن، أو اخترت نكاحكن، أو اخترت حبسكن، أو أمسكتكن، أو أمسكت نكاحهن، أو ثبت نكاحكن، أو ثبت عقدكن.. لزم نكاحهن وانفسخ نكاح ما زاد عليهن.
وإن قال لواحدة، أو لما زاد على أربع: فسخت نكاحكن.. انفسخ نكاحهن، ولزم نكاح الأربع الباقيات.

(9/335)


وإن طلق واحدة أو أربعا.. وقع عليها الطلاق، وكان ذلك اختيارا لها للزوجية؛ لأن ذلك يتضمن الاختيار؛ لأن الطلاق لا يقع إلا في زوجة.
فإن قال لواحدة: فارقتك، أو اخترت فراقك.. فذكر الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق -: أن ذلك يكو اختياراً لفسخ نكاحها.
وقال القاضي أبو الطيب: يكون ذلك اختياراً لها للزوجية، فتقع عليها الفرقة، ويعتد بها من الأربع الزوجات؛ لأن الفراق صريح في الطلاق، فلما كان الطلاق في واحدة منهن اختيارا لزوجيتها، فكذلك لفظ الفراق.
قال ابن الصباغ: وهذا وإن كان مبنيا على هذا الأصل، إلا أنه مخالف للسنة، «فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لغيلان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " اختر منهن أربعا، وفارق سائرهن» ، وكذلك «حديث نوفل بن معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حيث قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فارق إحداهن» ، وهذا يقتضي: أن يكون لفظ الفراق فيه صريحا، كما قلنا: إنه صريح في الطلاق، فيكون صريحا في الطلاق وفي الفسخ؛ لأنه حقيقة فيهما، ويتخصص بالموضع الذي يقع فيه. فإن كان ظاهر من واحدة منهن أو آلى منها.. لم يكن ذلك اختيارا لها؛ لأنه قد يخاطب به غير الزوجة.
وإن وطئ واحدة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يكون ذلك اختيارا لها بالنكاح؛ لأن الظاهر أنه لا يطأ إلا من يختارها للنكاح، كما قلنا في البائع إذا وطئ الجارية المبيعة في حال الخيار.. فإنه فسخ للبيع.
والثاني: لا يكون ذلك اختيارا لها؛ لأن ما يتعلق به استصلاح النكاح، لا يكون بالوطء، كالرجعة.
فإذا قلنا: إنه اختيار للموطوءة للنكاح، فوطئ أربعا منهن.. لزم نكاحهن، وانفسخ نكاح البواقي.

(9/336)


وإذا قلنا: لا يكون اختيارا للنكاح.. قلنا له: اختر أربعا، فإن اختار الموطوءة.. فلا شيء عليه.. وإن اختار أربعا غير الموطوءة.. لزمه للموطوءة مهر مثلها.

[فرع تعليق النكاح أو فسخه على صفة لأكثر من زوجة]
] : وإن قال: كلما أسلمت واحدة منكن فقد اخترت نكاحها.. لم يصح؛ لأن الاختيار كابتداء النكاح، فلا يجوز تعليقه على الصفة.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن قال: كلما أسلمت واحدة منكن فقد اخترت فسخ نكاحها.. لم يكن شيئا إلا أن يريده طلاقا) .
وجملة ذلك: أن الرجل إذا أسلم وتحته أكثر من أربع زوجات، فقال: كلما أسلمت واحدة منكن فقد اخترت فسخ نكاحها، فإن أراد به الفسخ.. لم يصح؛ لأن الفسخ لا يصح تعليقه بالصفات، فهو كما لو أسلمن وقال لكل واحدة: إذا طلعت الشمس فقد فسخت نكاحك. وإن نوى به الطلاق أو قال: كلما أسلمت واحدة منكن فهي طالق.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال بظاهر كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يصح ذلك؛ لأن الطلاق يصح تعليقه على الصفات. فإذا أسلم أربع منهن.. وقع عليهن الطلاق، وكان ذلك اختيارا بزوجيتهن.
ومنهم من قال: لا يصح، ولا يتعلق بهذا حكم. قال الشيخ أبو حامد: وهو المذهب؛ لأن هذا يتضمن اختيارا للزوجية، والاختيار لا يصح تعليقه بالصفة.
أحدهما: أنه أراد إذا أسلم الرجل وليس عنده إلا أربع زوجات حرائر وتأخر إسلامهن، فقال: كلما أسلمت واحدة منكن فقد اخترت فسخ نكاحها، فإن أراد به الفسخ.. لم يصح؛ لأن الفسخ لا يصح إلا فيمن تفضل على الأربع. وإن أراد به

(9/337)


الطلاق.. صح؛ لأنه يلزمه نكاح جميعهن، والطلاق يصح تعليقه بالصفات.
والتأويل الثاني: أنه أراد إذا أسلم وتحته أكثر من أربع زوجات، فكلما أسلمت واحدة منهن قال لها: فسخت نكاحك، ونوى به الطلاق.. فيصح ذلك، ويكون طلاقا أو اختيارا لها. فيكون الشرط من كلام الشافعي لا من كلام الزوج.
والتأويل الثالث: أنه أراد إذا أسلم رجل وعنده ثمان زوجات، فأسلم أربع منهن، فأختار نكاحهن.. لزم نكاحهن، ثم قال بعد ذلك للباقيات: كلما أسلمت واحدة منكن فقد اخترت فسخ نكاح واحدة من زوجاتي اللاتي اخترت نكاحهن، فإن أراد به الفسخ.. لم يصح، وإن أراد به الطلاق.. صح به، فكلما أسلمت واحدة من الباقيات.. طلقت واحدة من الزوجات.
قال ابن الصباغ: والطريقة الأولى أظهر، والتأويل يبعد؛ لأن الطلاق يصح تعليقه بالصفات، والاختيار تابع.

[فرع أسلم وأسلمن والاختيار حال الردة أو الإحرام]
وأن أسلم وأسلمن، ثم ارتد.. لم يصح اختياره. وكذلك: إذا رجعن إلى الردة.. لم يصح اختياره لواحدة منهن؛ لأن الردة تنافي ابتداء النكاح، فكذلك الاختيار.
وأن أسلم وأحرم.. فالمنصوص: (أنه يصح اختياره) .
فمن أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: لا يصح اختياره، كما لا يصح نكاحه.
والثاني: يصح اختياره، كما تصح رجعته.
ومنهم من قال: إن أسلم وأحرم ثم أسلمن.. لم يصح اختياره، كما لا يصح نكاحه.

(9/338)


وإن أسلم وأسلمن ثم أحرم.. صح اختياره؛ لأن الإحرام طرأ بعد ثبوت الاختيار.

[مسألة أسلم وزوجاته أكثر من أربع ومات قبل الاختيار]
] : وإن أسلم رجل حر وتحته أكثر من أربع زوجات حرائر وأسلمن معه، فمات قبل أن يختار أربعا.. فإن الوارث لا يقوم مقامه في الاختيار؛ لأنه اختيار شهوة، والوارث لا ينوب منابه في الشهوة، فيلزمهن العدة.
فإن كن حوامل.. لم تنقض عدتهن إلا بوضع الحمل؛ لأن من كانت منهن زوجة.. فهي متوفى عنها زوجها، وعدة المتوفى عنها زوجها تنقضي بوضع الحمل.
ومن لم تكن منهن زوجة.. فهي موطوءة بنكاح فاسد وعليها العدة، ولا تنقضي عدتها إلا بوضع الحمل.
وإن كن حوائل، فإن كن من ذوات الشهور.. لم تنقض عدتهن إلا بأربعة أشهر وعشرٍ؛ لأن من كانت منهن زوجة.. فعدتها عدة المتوفى عنها زوجها: أربعة أشهر وعشر. ومن لم تكن منهن زوجة.. فهي موطوءة بشبهة، فعدتها ثلاثة أشهر، ولا تتعين الزوجات من غيرهن، فلزمهن أربعة أشهر وعشر؛ ليسقط الفرض بيقين.
وإن كن من ذوات الأقراء.. لزم كل واحدة أن تعتد بأقصى الأجلين: من أربعة أشهر وعشرٍ، أو ثلاثة أقراء؛ لأن عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر، وعدة الموطوءة بشبهة ثلاثة أقراء، فإن انقضت الأربعة الأشهر والعشر قبل مضي ثلاثة أقراء.. لزمها استكمال ثلاثة أقراء، وإن انقضت ثلاثة أقراء قبل مضي أربعة أشهر وعشرٍ.. لزمها استكمال أربعة أشهر وعشر؛ ليسقط الفرض بيقين، كما قلنا فيمن نسي صلاة من خمس صلوات لا يعرفها بعينها.
وإن كان بعضهن حوامل، وبعضهن من ذوات الشهور، وبعضهن من ذوات الأقراء.. لزم كل واحدة حكم نفسها فيما ذكرناه من ذلك، ويوقف لهن من ماله ميراث أربع زوجات، وهو: الربع مع عدم الولد، أو الثمن مع الولد؛ لأن فيهن أربع

(9/339)


زوجات بيقين. وإن لم يعرفهن بأعيانهن، فإن اصطلحن فيه على التساوي، فإن كن ثماني نسوة فأخذت كل واحدة منهن ثمن الموقوف، أو تفاضلن فيه برضائهن.. صح.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن كان فيهن مولى عليها: إما صغيرة أو مجنونة.. لم يصح لوليها أن يصالح عنها بأقل من ثمن الموقوف) ؛ لأنها تستحق هذا القدر في الظاهر، فلا يجوز أن يصالح عنها على أقل منه.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في (الأم) : (فإن جاءت منهن واحدة إلى الحاكم تطلب حقها من الميراث.. لم يدفع إليها شيئا؛ لأنه يمكن أن لا تكون زوجته. وكذلك: إن جاء اثنتان أو ثلاث أو أربع. فإن جاء خمس.. دفع إليهن ربع الموقوف؛ لأنا نتيقن أن فيهن زوجة بيقين) .
قال أكثر أصحابنا: إلا أنه لا يدفع إليهن ذلك إلا بشرط أنه لم يبق لهن حق في الباقي من الموقوف؛ ليمكن صرفه إلى الثلاث الباقيات إن طلبنه؛ لأنه إذا لم يشرط عليهن ذلك.. كان حقهن متعلقا به فيؤدي إلى أن يأخذن نصيب زوجة بيقين، وحقهن في الباقي.
وكذلك: إن جاء ست.. دفع إليهن نصف الموقوف بهذا الشرط، ودفع الباقي إلى الأخريين إن طلبتاه. وإن جاء سبع منهن.. دفع إليهن ثلاثة أرباع الموقوف بهذا الشرط، ودفع الباقي منه إلى الثامنة إن طلبت ذلك.
قال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر، وذلك أن من يعطى من الميراث اليقين.. لا يسقط بذلك حقه مما يجوز أن يستحقه، كم لو خلف زوجة وحملا.. فإنا نعطي الزوجة اليقين، ونوقف الباقي ولا يسقط حقها منه.
وإن أسلم وتحته أربع زوجات كتابيات، وأربع وثنيات، فأسلمن الوثنيات معه، ثم مات قبل أن يختار.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يوقف شيء من تركته، بل يدفع الجميع إلى باقي ورثته؛ لأنه ما يوقف إلا ما يتيقن استحقاقه على باقي الورثة ويجهل من يستحقه، وهاهنا يجوز أن تكون الزوجات هن الكتابيات.

(9/340)


والثاني: أنه يوقف؛ لأنه لا يجوز أن يدفع إلى باقي الورثة إلا ما يتحقق أنهم يستحقونه، وهاهنا يجوز أن تكون المسلمات هن الزوجات.

[مسألة أسلم على أختين أو غيرهما]
] : وإن أسلم رجل وعنده أختان فأسلمتا معه.. اختار إحداهما؛ لما روي: «أن رجلا - يقال له الديلمي أو ابن الديلمي - أسلم على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعه أختان، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اختر أيتهما شئت، وفارق الأخرى» . وكذلك: إذا أسلم وعنده امرأة وعمتها، أو امرأة وخالتها وأسلمتا معه.. اختار إحداهما؛ لأنه لا يجوز له الجمع بينهما، فهما كالأختين.

[فرع أسلم على امرأة وابنتها وأسلمتا معه باعتبار الدخول]
وإن أسلم رجل وعنده امرأة وابنتها، سواء عقد بهما في عقد واحد، أو عقد بإحداهما بعد الأخرى، فإن لم يدخل بواحدة منهما وكانتا كتابيتين أو وثنيتين وأسلمتا معه في حالة واحدة.. ففيها قولان:
أحدهما: أنه يلزمه نكاح البنت، وينفسخ نكاح الأم - وهو اختيار المزني - لأن النكاح في حال الشرك صحيح، ولهذا قال - لو جمع بين أختين -: كان له أن يختار أيتهما شاء. وإذا صح العقد على البنت.. حرمت أمها على التأبيد، وقد وجد العقد على البنت، فوجب أن تحرم أمها.
والثاني: له أن يختار أيتهما شاء، وهو الأصح؛ لأن العقد في الشرك لا يحكم بصحته إلا بانضمام الاختيار إليه في حال الإسلام.

(9/341)


وقال الشيخ أبو حامد: ولهذا لو تزوج بعشر نسوة فاختار أربعا منهن.. لم يجب للباقيات مهر ولا متعة ولا نفقة، ولا عدة عليهن، ولا يلحقه من جهتهن نسب، كأنه لم يعقد عليهن. فإذا اختار الأم.. صار كأنه لم يعقد على الابنة.
فعلى هذا: إن اختار الابنة.. حرمت عليه الأم على التأبيد. وإن اختار الأم حرمت عليه البنت تحريم جمع، فإن دخل بها.. حرمت البنت عليه على التأبيد. وإن ماتت الأم أو طلقها قبل الدخول.. جاز له أن ينكح البنت.
وإن كان قد دخل بهما.. حرمتا عليه على التأبيد. أما البنت: فحرمت عليه بدخوله بالأم.
وأما الأم: فإن قلنا: إنها تحرم عليه بالعقد على البنت.. فقد حرمت عليه بعلتين: بالعقد على البنت، وبالدخول بها. وإن قلنا: لا تحرم عليه بالعقد على البنت.. حرمت عليه بعلة واحدة، وهي: الدخول بالبنت.
وإن كان قد دخل بالبنت دون الأم.. لزمه نكاح البنت، وحرمت عليه الأم على التأبيد بعلتين في أحد القولين، وبعلة في الآخر.
وإن كان قد دخل بالأم دون البنت.. حرمت عليه البنت على التأبيد.
وأما الأم: فإن قلنا: إنها تحرم عليه بالعقد على البنت.. حرمت عليه أيضا. وإن قلنا: لا تحرم عليه بالعقد على البنت.. لزمه نكاح الأم.

[فرع تزوج أما وابنتها وبنت بنتها وأسلموا]
وإن تزوج رجل امرأة وابنتها وأسلمتا قبله، أو أسلم قبلهما قبل الدخول.. انفسخ النكاح. وإن علم أنه أسلم مع إحداهما في حالة واحدة، ثم أسلمت الأخرى ولم تعرف بعينها.. لم يكن له أن يختار إحداهما؛ لأن المتأخرة منهما ينفسخ نكاحها، وكل واحدة منهما يشك في إباحتها له، فلا يجوز له إمساك مشكوك في تحليلها.
وإن عقد النكاح على امرأة وابنتها وبنت بنتها وأسلموا معا في حالة واحدة قبل الدخول.. فعلى القولين الأولين:

(9/342)


أحدهما: يختار من شاء منهن.
والثاني: يثبت له نكاح بنت البنت.
وإن أسلم الزوج وأسلمت معه واحدة قبل الدخول، وأسلم اثنتان بعد ذلك ولم تتعين المسلمة معه.. لم يحل له إمساك واحدة منهن. وإن أسلمت معه السفلى وتأخر الأخريان.. ثبت نكاح السفلى، وانفسخ نكاح الأخريين. وإن أسلمت معه الوسطى وتأخر إسلام الأخريين.. ففيه قولان:
أحدهما: له إمساكها.
والثاني: ليس له إمساكها؛ لأجل عقده على ابنتها.
ولو أسلمت معه الجدة وتأخرت الأخريان.. فهل له إمساكها؟ فيه قولان.
وإن تزوج امرأة وابنتها، ودخل بإحداهما وأسلموا ولم يعرف المدخول بها.. قال الصيمري: انفسخ نكاحهما معا.

[فرع ملك أما وابنتها وأسلمتا معه باعتبار الوطء]
وإذا ملك المشرك أما وابنتها فأسلم وكانتا كتابيتين أو مجوسيتين أو وثنيتين، فأسلمتا معه، فإن كان قد وطئهما.. حرم عليه وطؤهما على التأبيد، ولكنه يستديم ملكه عليهما. وإن لم يطأ واحدة منهما.. كان له أن يطأ أيتهما شاء.. فإن وطئ الأم.. صارت فراشا له، وحرم عليه وطء البنت على التأبيد. وكذلك: إذا وطئ البنت.. حرمت عليه الأم على التأبيد. وإن وطئ إحداهما في الشرك.. صارت فراشا له، وحرم عليه وطء الأخرى على التأبيد.

[فرع تزوج أختين أو غيرهما وأسلمتا معه قبل الدخول]
إذا تزوج أختين في حال الشرك وأسلم وأسلمتا معه قبل الدخول، في حالة واحدة، أو كانتا كتابيتين.. فإن له أن يختار أيتهما شاء للنكاح. فإذا اختار إحداهما للنكاح.. حرمت عليه الأخرى تحريم جمع، وهل يجب عليه لها مهر؟

(9/343)


قال ابن الحداد: إن كان قد سمى لها مهرا حلالا.. وجب لها نصفه، وسقط عنه نصفه. وإن كان قد سمى لها مهرا حراما، كالخمر والخنزير ولم تقبضه.. وجب لها نصف مهر المثل. وكذلك: لو كان عنده امرأة وعمتها، أو امرأة وخالتها وأسلمتا معه قبل الدخول، في حالة واحدة، أو كانتا كتابيتين.. فله أن يختار إحداهما، وحكم المهر على ما مضى.
فأما إذا تقدم إسلامه على إسلامهما أو على إسلام إحداهما، أو تقدم إسلامهما على إسلامه أو إسلام إحداهما.. لم يخير بينهما، بل ينفسخ النكاح بينه وبين التي اختلف إسلامه وإسلامها.
وخالفه أبو بكر القفال المروزي ـ من أصحابنا ـ وقال: إذا أسلم أو أسلمتا معه قبل الدخول، في وقت واحد، أو كانتا كتابيتين، واختار إحداهما للنكاح وفارق الأخرى، فإن قلنا: إن أنكحة المشركين صحيحة.. كان للتي فارقها نصف المهر ـ كما قال ابن الحداد ـ وإن قلنا: إن أنكحتهم فاسدة إلا ما انضم إليه الاختيار.. لم يجب عليه للتي فارقها شيء؛ لأنها تكون باختياره لفراقها بمنزلة من لم يعقد عليها.
قال القاضي أبو الطيب: والصحيح: ما قال ابن الحداد؛ لأنه جعل الاختيار إليه، فإذا اختار أربعا ممن زاد عليهن أو اختار إحدى الأختين.. فنكاح التي اختارها للنكاح صحيح. ومن اختار منهن للفسخ.. فإنها لا تصير بمنزلة من لم يعقد عليها باختياره؛ لأنه قد كان يمكنه أن يختارها للنكاح، فإذا اختارها للفسخ.. صار كأنه طلقها، فيجب لها نصف المهر.
وأما إذا أسلم وعنده امرأة وابنتها وأسلمتا معه في حالة واحدة قبل الدخول، أو كانتا كتابيتين.. قال ابن الحداد: فإن قلنا: إن أنكحة المشركين صحيحة ـ وهو اختيار ابن الحداد والقاضي أبي حامد وأبي إسحاق المروزي ـ فإنه يلزمه نكاح البنت، ويبطل نكاح الأم، ولا يلزمه للأم شيء؛ لأن بطلان نكاحها لم يكن باختياره. وإن قلنا: إن أنكحة المشركين باطلة، وإنما يحكم بصحتها إذا انضم إليها الاختيار ـ وهو اختيار الشيخين: أبي حامد وأبي إسحاق ـ فإن له أن يختار أيتهما شاء للنكاح، فإذا اختار

(9/344)


إحداهما للنكاح.. لزمه للتي اختار فسخ نكاحها نصف المهر. هذا قول ابن الحداد.
وقال القفال: بل الأمر على عكس هذا. وقال: بل إذا قلنا: إن أنكحتهم صحيحة.. ثبت نكاح البنت، وانفسخ نكاح الأم، ولزمه لها نصف المهر؛ لأننا صححنا نكاح الأم والبنت وقد وقعت الفرقة بينه وبين الأم قبل الدخول من غير صنع لها، فوجب لها نصف المهر. وإن قلنا: إن أنكحتهم فاسدة فاختار إحداهما للنكاح.. انفسخ نكاح الأخرى، ولم يجب لها عليه شيء.
قال القاضي أبو الطيب: والصحيح: قول ابن الحداد؛ لأنا وإن قلنا: إن أنكحتهم فاسدة.. فإنما يحكم بفساد من اختار فسخ نكاحها، وذلك كان باختياره، إذ لو أمسكها.. لكان له ذلك.

[فرع حرمة مصاهرة الكفار]
فرع: [ثبوت حرمة مصاهرة الكفار] :
حرمة المصاهرة: هل تثبت بأنكحتهم؟
قال المسعودي [في " الإبانة "] : إن قلنا: إن أنكحتهم صحيحة.. ثبتت، وإن قلنا: إنها باطلة.. لم تثبت.

[فرع طلاق المشركة البائن]
قال المسعودي [في " الإبانة "] : لو طلق المشرك امرأته قبل الإسلام ثلاثا.. هل تحل له قبل أن تنكح زوجا غيره؟ إن قلنا: إن أنكحتهم صحيحة.. لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره. وإن قلنا: إنها فاسدة.. فالقياس: أنها تحل له. وفيه وجه آخر: أنها لا تحل له.
وعامة أصحابنا قالوا: لا تحل له من غير تفصيل. وقد مضى في أول الباب.

(9/345)


[مسألة تزوج وثني بأختين أو بثمان وطلق ثلاثا ثلاثا]
قال ابن الحداد: إذا تزوج وثني أختين وطلقهما ثلاثا ثلاثا، ثم أسلم وأسلمتا معه، وأراد أن يتزوج إحداهما قبل أن تنكح زوجا غيره، أو أسلم وأسلمتا معه قبل أن يطلقهما، ثم طلقهما ثلاثا ثلاثا، ثم أراد أن يتزوج إحداهما قبل أن تنكح زوجا غيره.. قيل له: من كنت تختار للنكاح منهما لو لم تطلقهما؟ فإذا أشار إلى إحداهما.. حل له أن يعقد على الأخرى قبل أن تنكح زوجا غيره. واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: أخطأ في الأولى منهما وأصاب في الأخرى ـ وهو اختيار ابن الصباغ ـ وقال: إذا طلقهما في حال الشرك ثلاثا ثلاثا.. لم تحل له إحداهما؛ لأن الطلاق في الشرك عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - صحيح. فأما إذا أسلموا ثم طلقهما.. فالحكم كما قال ابن الحداد.
وقال القاضي أبو الطيب: بل الحكم فيهما واحد، كما قال ابن الحداد؛ لأن المشرك إذا زاد على ما يجوز في الشرع.. كان النكاح باطلا. وقد نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أنه: (إذا أسلم عن عشر نسوة وأسلمن معه.. فإنه يختار منهن أربعا، ويفارق سائرهن، فإذا اختار أربعا منهن ولم يكن دخل بهن.. لم يكن لغيرهن مهر ولا متعة) .
قال ابن الصباغ: والصحيح عندي: ما ذكره الراد عليه، وهو: أنه إنما يراعى إذا بقي النكاح إلى حالة الإسلام، فأما ما أوقعه من الطلاق في الشرك: فإنه يمضي عليه.
وعندي: أن الذي قاله ابن الحداد في الثانية إنما يصح إذا طلق الأختين بكلمة واحدة ثلاثا، فأما إذا أسلم وأسلمتا معه فطلق كل واحدة منهما ثلاثا، إحداهما بعد الأخرى.. فإن طلاقه للأولى اختيار منه لنكاحها، فلا تحل له إلا بعد زوج، وتحل له الثانية قبل زوج على ما ذكره.

(9/346)


قال ابن الصباغ: إذا أسلم عن ثمان نسوة وأسلمن معه، فطلق كل واحدة منهن ثلاثا.. قيل له: اختر منهن أربعا، فإذا اختار أربعا.. وقع عليهن الطلاق، وحل له نكاح الباقيات؛ لأنه بان بالاختيار أن الزوجات غيرهن.
وعندي: أن هذا الذي قاله ابن الصباغ إنما يصح إذا وقع الطلاق على الثماني بكلمة واحدة، فأما إذا طلق واحدة بعد واحدة، أو طلق أربعا ثم أربعا.. فإن الأربع المطلقات أولا يتعين للزوجية، ويقع بهن الطلاق، ولا تحل له واحدة منهن إلا بعد زوج، فإذا أراد أن ينكح الأربع المطلقات آخراً قبل أن يتزوجن بغيره.. كان له ذلك.

[مسألة أسلم حر وعنده أربع إماء وأسلمن بعد الدخول]
] : إذا أسلم الحر وعنده أربع زوجات إماء وأسلمن معه بعد الدخول، فإن كان عادما لطول حرة، خائفا من العنت.. لزمه أن يختار واحدة منهن. وإن كان واجدا لطول حرة، أو آمنا من العنت.. لم يجز له أن يختار واحدة منهن.
وقال أبو ثور: (له أن يختار واحدة منهن بكل حال؛ لأن الاختيار ليس بابتداء نكاح، وإنما هو كالرجعة) .
وهذا ليس بصحيح؛ لأنه لا يجوز له نكاح الأمة، فلا يحل له اختيار نكاحها، كالمعتدة.
إذا ثبت هذا: فإن أسلم وهو موسر، فلم يسلمن حتى أعسر.. فله أن يختار واحدة منهن اعتبارا بوقت اجتماع إسلامه بإسلامهن.
وإن أسلم وهو معسر، ولم يسلمن حتى أيسر.. لم يكن له أن يختار واحدة منهن.
وإن اجتمع إسلامه وإسلام بعضهن وهو موسر واجتمع إسلامه وإسلام بعضهن وهو معسر.. فله أن يختار ممن اجتمع إسلامه وإسلامهن في حال إعساره دون يساره.

(9/347)


وإن أسلم وأسلمت واحدة منهن، وتخلف ثلاث في الشرك.. فله أن يختار المسلمة، وله أن ينتظر إسلام الثلاث الباقيات؛ لأنه قد يكون له غرض في ذلك.
فإن اختار نكاح المسلمة.. لزم نكاحها. فإن لم يسلمن الباقيات حتى انقضت عدتهن.. انفسخ نكاحهن من وقت إسلامه، وكان ابتداء عدتهن من ذلك الوقت. وإن أسلمن قبل انقضاء عدتهن.. انفسخ نكاحهن من وقت اختياره للأولى، وكان ابتداء عدتهن من ذلك الوقت. فإن ماتت المسلمة بعد اختيار نكاحها.. فليس له أن يختار واحدة من الباقيات. وإن لم يختر المسلمة الأولى.. نظرت: فإن لم تسلم الباقيات حتى انقضت عدتهن.. لزمه نكاح المسلمة، وانفسخ نكاح الباقيات من وقت إسلامه، وابتداء عدتهن من ذلك الوقت. وإن أسلمن قبل انقضاء عدتهن.. فله أن يختار نكاح من شاء من الأربع، فأيتهن اختار نكاحها.. لزمه نكاحها، وانفسخ نكاح الباقيات من وقت اختياره، وابتداء عدتهن من ذلك الوقت.
وهكذا: لو أسلم وتحته ثمان نسوة دخل بهن، وأسلم منهن أربع، وتخلف أربع.. فله أن يختار نكاح الأربع المسلمات، وله أن ينتظر إسلام الباقيات. فإذا اختار.. كان الحكم في وقت الفسخ، ووقت العدة ما ذكرناه في التي قبلها. فإن طلق الأمة المسلمة، أو الأربع الحرائر المسلمات قبل إسلام الباقيات.. صح طلاقه، وكان ذلك اختيارا لمن طلق.
وإن أراد أن يفسخ نكاح المسلمة أو الأربع المسلمات قبل إسلام الباقيات.. لم يكن له ذلك؛ لأن الفسخ إنما يكون فيمن فضل عمن يلزمه نكاحها، ويجوز أن لا تسلم الباقيات، فيلزمه نكاح من قد أسلم. فإن خالف وفسخ نكاح من أسلم.. نظرت: فإن لم تسلم الباقيات.. لم يصح الفسخ، ولزمه نكاح من فسخ نكاحها. وإن أسلم الباقيات.. نظرت: فإن اختار نكاح واحدة من الثلاث الإماء، أو نكاح الأربع الحرائر المسلمات آخراً.. لزمه نكاح من اختار نكاحها، وانفسخ نكاح الباقيات. وإن اختار نكاح الأمة المسلمة، أو الأربع الحرائر أولا.. ففيه وجهان.

(9/348)


أحدهما: يصح اختياره؛ لأن فسخه الأول لم يحكم بصحته.
والثاني: لا يصح؛ لأنا إنما لم نحكم بصحة فسخه؛ لأنها لم تكن فاضلة عمن يلزمه نكاحها، وبإسلام الباقيات صار من فسخ نكاحها فاضلة. والأول أصح.

[مسألة تزوج مشرك أربع إماء وحرة وأسلموا أو تخلفت الحرة]
وإن تزوج حر مشرك أربع إماء وحرة، فأسلم وأسلمن الإماء والحرة معه.. لزمه نكاح الحرة، وانفسخ نكاح الإماء؛ لأنه لا يجوز للحر نكاح الأمة مع الحرة. فإن ماتت الحرة بعد أن أسلمت.. لم يكن له أن يختار واحدة من الإماء؛ لأنها ماتت بعد لزوم نكاحها.
وإن أسلم الإماء وتخلفت الحرة.. لم يكن له أن يختار واحدة من الإماء قبل انقضاء عدة الحرة. فإن أسلمت الحرة قبل انقضاء عدتها.. لزمه نكاحها، وانفسخ نكاح الإماء. وإن انقضت عدتها قبل أن تسلم.. انفسخ نكاح الحرة، وكان له أن يختار نكاح واحدة من الإماء، إن كان ممن يجوز له نكاح الأمة.
فإن طلق الحرة قبل إسلامها.. نظرت:
فإن أسلمت قبل انقضاء عدتها.. تبينا أنها كانت زوجة له وقت الطلاق، ووقع عليها الطلاق. وإن انقضت عدتها قبل أن تسلم.. تبينا أنها لم تكن زوجة له، ولم يقع عليها الطلاق.
فإن أسلم وأسلمت الإماء ثم أعتقن، وتخلفت الحرة في الشرك، فإن أسلمت قبل انقضاء عدتها.. لزمه نكاحها، وانفسخ نكاح الإماء. وإن لم تسلم حتى انقضت عدتها.. لزمه أن يختار نكاح واحدة من الإماء اعتبارا بحال اجتماع إسلامه وإسلامهن.
فإن اختار نكاح واحدة من الإماء قبل إسلام الحرة.. فقد فعل ما ليس له فعله؛ لأنه لا يصح اختياره لها في هذه الحالة. فإن أسلمت الحرة قبل انقضاء عدتها.. لزمه نكاحها، وانفسخ نكاح الباقيات. وإن لم تسلم حتى انقضت عدتها.. لزمه أن يختار

(9/349)


واحدة من الإماء، فإن اختار نكاح التي اختارها أولا.. لزمه نكاحها. وإن اختار نكاح غيرها.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه يلزمه نكاح التي اختارها أولا دون غيرها، وهو ظاهر النص؛ لأنا إنما لم نحكم بصحة اختياره الأول مراعاة لإسلام الحرة، فإذا انقضت عدتها قبل أن تسلم.. تبينا أن الاختيار كان صحيحا.
والثاني: لا يلزمه نكاح التي اختارها أولا، ويلزمه نكاح التي اختارها ثانيا؛ لأن الاختيار الأول وجد قبل وقته.
وإن أسلم ثم أعتق الإماء ثم أسلمن وتخلفت الحرة، أو أعتقن ثم أسلمن ثم أسلم، أو أسلمن ثم أعتقن ثم أسلم وتخلفت الحرة.. فله أن يختار نكاح الأربع المعتقات اعتبارا بحال اجتماع إسلامه وإسلامهن، وله أن ينتظر إسلام الحرة، فإن انقضت عدتها قبل إسلامها.. بانت باختلاف الدين، ولزمه نكاح الأربع المعتقات. وإن أسلمت قبل انقضاء عدتها.. لزمه أن يختار منهن أربعا. هكذا ذكره الشيخ أبو حامد في " التعليق "، والقاضي أبو الطيب في " المجرد ".
قال ابن الصباغ: وعندي أنه لا معنى لتأخير اختياره الكل؛ لأنه لا بد أن يلزمه نكاح ثلاث منهن، فلزمه أن يختار نكاح ثلاث من المعتقات.
وإن اختار نكاح ثلاث من المعتقات قبل إسلام الحرة، فإن أسلمت قبل انقضاء عدتها.. لزمه أن يختار نكاحها، أو نكاح الباقية من المعتقات. وإن انقضت عدتها قبل إسلامها.. بانت من وقت إسلام الزوج، ولزمه نكاح الأربع المعتقات.

[مسألة تزوج العبد بأربع إماء ثم أسلم وأسلمن]
وإن تزوج العبد المشرك أربع زوجات ثم أسلم وأسلمن معه.. لزمه أن يختار اثنتين؛ لأنه لا يجوز للعبد أكثر من اثنتين. فإن عتق بعد ذلك.. لم يكن له أن يختار غير اثنتين؛ لأن العتق طرأ بعد ثبوت الاختيار. فإن اختار اثنتين منهن، وأراد أن يتزوج الأخريين بعقد جديد.. كان له ذلك.

(9/350)


وإن أسلم وأسلم معه اثنتان، ثم أعتق، ثم أسلم الباقيات.. لم يكن له أن يختار أكثر من اثنتين؛ لأن الاعتبار بحال الاختيار وهو عند إسلامه، فتغير حاله بعد ذلك لا يؤثر، كما لو أسلم الحر وتحته إماء وأسلمن معه وهو معسر ثم أيسر قبل أن يختار.. فإن له أن يختار واحدة منهن.
فإن أسلم وأعتق ثم أسلمن، أو أسلمن وأعتق ثم أسلم.. لزمه نكاح الأربع اعتبارا بحال اجتماع إسلامه وإسلامهن.

[مسألة أسلم عبد على حرائر وإماء أو على إماء فأسلمن وتخلف]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو كان عند عبد إماء وحرائر مسلمات أو كتابيات، فلم يخترن فراقه.. أمسك اثنتين) .
وجملة ذلك: أن العبد إذا نكح في الشرك أمتين مشركتين، وحرتين وثنيتين، وحرتين كتابيتين، ثم أسلم وأسلم معه الأمتان والوثنيتان، وأقام الكتابيتان على الشرك.. فإقامتهما لا تأثير لها؛ لأن استدامة نكاحهما جائزة مع كفرهما، وله أن يختار اثنتين ممن شاء منهن.
فأما الأمتان: فلا خيار لهما؛ لأنهما مساويتان له.
وأما الحرتان المسلمتان والكتابيتان: فظاهر كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يدل على: أن لهن الخيار في فسخ النكاح. واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: لهن الخيار؛ لأن الرق ليس بنقص في الكفر؛ لأن حال العبد عند المشركين كحال الحر في سائر الأحكام، وإنما هو نقص في الإسلام.
ومن أصحابنا من قال: لا خيار لهن؛ لأنهن دخلن في النكاح مع العلم برقه، فهو كما لو تزوجت امرأة رجلا به عيب ورضيت به، ثم أسلما. وحمل النص على الإماء إذا أعتقن.

(9/351)


فإن قلنا: إن لهن الخيار، فاخترن فسخ النكاح.. لزمه نكاح الأمتين.
وإن قلنا: لا خيار لهن، أو قلنا: لهن الخيار فاخترن المقام على النكاح.. لزمه أن يختار اثنتين ممن شاء منهن.
وإن كان تحت العبد أربع إماء فأسلمن، وتخلف العبد في الشرك، ثم أعتقن.. فلهن فسخ النكاح؛ لأنه لا يؤمن أن يسلم قبل انقضاء عدتهن فيختار واحدة منهن، فإذا اختارت فسخ النكاح.. لزمها أن تستأنف العدة، وفي ذلك ضرر عليها. فإن لم يسلم العبد حتى انقضت عدتهن.. تبينا أنهن بن منه بإسلامهن، وأن الفسخ لا حكم له، وهل يلزمهن عدة حرة أو أمة؟ فيه قولان يأتي بيانهما. وإن أسلم قبل انقضاء عدتهن.. تبينا أن الفرقة حصلت بالفسخ ويلزمهن عدة الحرائر.
وإن سكتن، ولم يخترن الفسخ ولا المقام على النكاح.. لم يتعلق بذلك حكم. فإن لم يسلم الزوج حتى انقضت عدتهن.. بن منه من وقت إسلامهن. وإن أسلم قبل انقضاء عدتهن.. فلهن أن يخترن فسخ النكاح؛ لأنهن معتقات تحت عبد، فإن اخترن فسخ النكاح.. فلا كلام. وإن لم يخترن الفسخ.. لزمه أن يختار اثنتين منهن.
وإن اخترن المقام معه على النكاح.. لم يكن لهذا الاختيار حكم؛ لأنهن جاريات إلى بينونة، فيكون كما لو سكتن.

[مسألة الإماء يخيرن حين يسلمن إذا أسلم قبلهن]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو لم يتقدم إسلامهن قبل إسلامه واخترن فراقه أو المقام معه.. خيرن حين أسلمن؛ لأنهن اخترن ولا خيار لهن) .
وجملة ذلك: أن العبد إذا أسلم وتخلفت الإماء في الشرك فأعتقن.. فليس لهن أن يخترن المقام على النكاح؛ لأنهن جاريات إلى بينونة. وهل لهن أن يخترن الفسخ؟ اختلف أصحابنا فيه:

(9/352)


فذهب أبو الطيب بن سلمة إلى: أنه لا يجوز لهن اختيار الفسخ، وهو ظاهر ما نقله المزني؛ لأنهن جاريات إلى بينونة، ولا غرض لهن في الفسخ؛ لأن أمر النكاح هاهنا موقوف على إسلامهن، وفي التي قبلها أمر النكاح موقوف على إسلام الزوج.
وقال أكثر أصحابنا: لهن أن يخترن الفسخ كالتي قبلها؛ لأن الإسلام واجب عليهن في كل حال. وأنكر أبو إسحاق ما نقله المزني.
ومنهم من قال: له تأويلان:
أحدهما: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر اختيار الفسخ والمقام، ثم أجاب عن اختيار المقام خاصة.
والثاني: أنهن قلن: قد اخترنا فراقه أو المقام، ولم يعين اختيارهن لأحد الأمرين.

[مسألة أسلم وثمان زوجات على دفعتين ومات بعضهن]
إذا نكح الحر ثماني زوجات في الشرك، فأسلم وأسلم منهن أربع وتخلف أربع، ثم مات الأربع المسلمات أو بعضهن، ثم أسلم الأربع الباقيات قبل انقضاء عدتهن.. فله أن يختار الأربع الموتى للنكاح؛ لأن الاختيار ليس هو ابتداء عقد وإنما يتعين به من كانت زوجة. ولأن الاعتبار بالاختيار حال ثبوته وقد كن أحياء ذلك الوقت.

[فرع تزوج وثنية فأسلمت وتخلف فتزوج أختها ثم أسلموا]
إذا تزوج وثنية ثم أسلمت وتخلف الزوج في الشرك وتزوج أختها، فإذا أسلم بعد انقضاء عدة الأولى.. انفسخ نكاح الأولى، وثبت نكاح الثانية إن أسلمت معه قبل انقضاء عدتها. وإن أسلم الزوج قبل انقضاء عدة الأولى وأسلمت معه الثانية.. اختار أيتهما شاء.

(9/353)


[فرع أسلم وزوجاته الثمان أو تخلفن وطلق أو ظاهر أو آلى أو قذف]
إذا كان تحته ثمان زوجات، فأسلم وأسلمن معه، فقد قلنا: إنه إذا طلق واحدة منهن.. فإنه يكون اختيارا لزوجيتها. وإن ظاهر من واحدة، أو آلى منها، أو قذفها.. لم يكن ذلك اختيارا لها؛ لأنه قد يخاطب به غير الزوجة، فيكون ذلك موقوفا. فإن لم يختر التي ظاهر منها أو آلى.. لم يصح ظهاره ولا إيلاؤه، وإن اختارها للنكاح.. تبينا أن ظهاره وإيلاءه منها صحيح. وأما المقذوفة: فإن لم يخترها للنكاح.. وجب عليه الحد بقذفها ولا يسقط إلا بالبينة، وإن اختارها للنكاح.. تبينا أنها كانت زوجة، وله أن يسقط حد قذفها بالبينة أو باللعان.
وإن أسلم وتخلفن في الشرك، فطلق واحدة منهن أو ظاهر منها أو آلى منها أو قذفها، فإن لم يسلمن حتى انقضت عدتهن.. لم يكن لطلاقه وظهاره وإيلائه حكم ويجب عليه التعزير للمقذوفة. وإن أسلمن قبل انقضاء عدتهن.. قال الشيخ أبو حامد: فإن اختار التي طلق أو ظاهر منها أو آلى.. وقع عليها الطلاق والظهار والإيلاء، ويلزمه التعزير بقذفها، وله أن يسقطه بالبينة أو اللعان. وإن لم يخترها.. فإنها أجنبية منه، فلا يقع عليها طلاق ولا ظهار ولا إيلاء، ويلزمه بقذفها التعزير، ولا يسقط إلا بالبينة.
قال ابن الصباغ: وفي هذا عندي نظر، بل يجب إذا أسلمت المطلقة أن يقع عليها الطلاق، ويكون ذلك اختيارا لها؛ لأن هذا الطلاق إذا كان يقع عليها مع اختياره.. وقع عليها بإسلامها.

[مسألة الزواج من المعتدة في حال الكفر]
وإن تزوج معتدة من غيره، فإن أسلما قبل انقضاء عدتها من الأول.. لم يقرا على النكاح؛ لأنه لا يجوز له ابتداء نكاحها.. فلم يجز إقراره على نكاحها، كذوات محارمه. وإن أسلما بعد انقضاء عدتها من الأول.. أقرا على النكاح؛ لأنه يجوز له ابتداء نكاحها.. فأقرا عليه.

(9/354)


[فرع نكاح المتعة بين المشرك والمشركة]
وإن نكح مشرك مشركة نكاح متعة ثم أسلما.. لم يقرا عليه؛ لأنهما إن أسلما قبل انقضاء المدة التي شرطاها.. فهما لا يعتقدان لزومه بعد انقضائها، وإن أسلما بعد انقضائها.. فهما لا يعتقدان لزومه الآن.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن أبطلا بعد العقد المتعة وجعلا العقد مطلقا.. لم يؤثر ذلك؛ لأن حالما عقداه.. كانا يعتقدان أنه لا يدوم بينهما، فلا يتغير ذلك الحكم بما يطرأ من الشرط) .
وهكذا: لو تزوجها على أن لهما أو لأحدهما الخيار في فسخ النكاح متى شاء، ثم أسلما.. لم يجز إقرارهما عليه؛ لأنهما لا يعتقدان لزومه. فإن اتفقا على إسقاط الشرط.. لم يؤثر ذلك، ولم يقرا عليه؛ لما ذكرناه.
وإن شرطا بينهما خيار ثلاثة أيام، فإن أسلما قبل الثلاث.. لم يقرا عليه؛ لأنهما لا يعتقدان لزومه. وإن أسلما بعد الثلاث.. أقرا عليه؛ لأنهما يعتقدان لزومه.

[فرع قهر حربي حربية أو ذمي ذمية فوطئها ثم أسلما]
قال في " الأم ": (وإن قهر حربي حربية على نفسها فوطئها، أو طاوعته فوطئها، ثم أسلما.. لم يقرا على ذلك إذا كانا لا يعتقدان ذلك نكاحا) .
قال أصحابنا: فإن اعتقدا ذلك نكاحا وأسلما.. أقرا عليه؛ لأنه نكاح عندهما.
وإن قهر ذمي ذمية على نفسها فوطئها ثم أسلما.. لم يقرا عليه بكل حال؛ لأنه لا يجوز لبعض أهل الذمة أن يقهروا بعضا؛ لأن على الإمام الذب عنهم.

[مسألة ردة أحد الزوجين]
قبل الدخول] :
إذا ارتد أحد الزوجين، فإن كان قبل الدخول.. انفسخ نكاحهما.
وقال داود: (لا ينفسخ) .

(9/355)


دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] [الممتحنة: 10] . ولأن هذا اختلاف دين يمنع الإصابة.. فانفسخ به النكاح، كما لو أسلمت الذمية تحت كافر.
وإن ارتد أحدهما بعد الدخول.. وقف النكاح على انقضاء عدة الزوجة، فإن رجع المرتد منهما إلى الإسلام قبل انقضاء عدتها.. فهما على النكاح. وإن انقضت عدتها قبل أن يسلم المرتد منهما.. بانت منه بردة المرتد منهما. وبه قال أحمد رحمة الله عليه، وهي إحدى الروايتين عن مالك رحمة الله عليه.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ينفسخ النكاح في الحال) ، وهي الرواية الأخرى عن مالك.
دليلنا: أن هذا اختلاف دين بعد الدخول.. فلا يوجب الفسخ في الحال، كما لو أسلمت الحربية تحت الحربي.
فإن ارتدا معا، فإن كان قبل الدخول.. انفسخ النكاح بينهما. وإن كان بعد الدخول.. وقف الفسخ على انقضاء عدة الزوجة، فإن رجعا إلى الإسلام قبل انقضائها.. فهما على النكاح، وإن انقضت قبل إسلامهما.. بانت منه بالردة. وبه قال مالك وأحمد رحمة الله عليهما.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا ينفسخ العقد؛ استحسانا) .
دليلنا: أنها ردة طارئة على النكاح، فوجب أن يتعلق بها فسخه، كما لو ارتد أحدهما.

[فرع ارتدت الزوجة بعد الدخول فطلقها ثلاثا]
إذا ارتدت الزوجة بعد الدخول فطلقها الزوج ثلاثا، فإن انقضت العدة قبل أن ترجع إلى الإسلام.. تبينا أنها بانت بالردة، ولم يقع عليها الطلاق. فإن رجعت إلى الإسلام قبل انقضاء العدة.. تبينا أنها كانت زوجة وقت الطلاق، فوقع عليها.

(9/356)


وإن تزوج أختها، أو عمتها، أو خالتها بعد الطلاق.. صح بكل حال؛ لأنها إما بائن منه بالردة أو بالطلاق.
وإن تزوج أختها أو عمتها بعد الردة وقبل الطلاق في العدة.. لم يصح؛ لجواز أن ترجع إلى الإسلام فتكون زوجته.

[فرع ردة الزوجة بعد الدخول وله امرأة صغيرة وحصل رضاع]
وإذا ارتدت زوجة رجل بعد الدخول، وله امرأة صغيرة فأرضعتها أم المرتدة قبل انقضاء عدة المرتدة خمس رضعات متفرقات، فإن رجعت المرتدة إلى الإسلام قبل انقضاء عدتها.. انفسخ نكاح الصغيرة، وفي الكبيرة قولان. وإن لم ترجع إلى الإسلام.. بانت بالردة، ولم ينفسخ نكاح الصغيرة.
وإن أرضعتها الكبيرة أو بنتها.. انفسخ نكاح الصغيرة بكل حال.

[مسألة انتقال الكتابي إلى دين آخر]
وإن انتقل اليهودي أو النصراني إلى دين لا يقر أهله عليه.. لم يقر عليه، كما لا يقر أهله عليه. وما الذي يقبل منه؟ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: الإسلام، أو الدين الذي كان عليه، أو دين يقر أهله عليه؛ لأن كل دين من ذلك يقر أهله عليه.
والثاني: لا يقبل منه إلا الإسلام؛ لأنه الدين الحق، أو الدين الذي كان عليه؛ لأنا قد أقررناه عليه.
والثالث ـ وهو الأصح ـ أنه لا يقبل منه إلا الإسلام؛ لأنه قد أعترف ببطلان كل دين، فلم يبق إلا الإسلام.
فإن انتقل إلى دين يقر أهله عليه.. فهل يقر عليه؟ فيه قولان مضى توجيههما.
فإن قلنا: لا يقر عليه.. فهل يقبل منه الدين الذي كان عليه أو لا يقبل منه إلا دين الإسلام؟ فيه قولان مضى توجيههما.

(9/357)


وكل موضع قلنا: لا يقبل منه ما انتقل إليه.. فحكمه في النكاح حكم المرتد، وقد مضى بيانه.

[مسألة تزوج الكتابي بكتابية أو غيرها]
] : إذا تزوج الكتابي بكتابية.. أقرا عليه قبل إسلامهما وبعد إسلامهما.
وإن تزوج الكتابي بوثنية أو مجوسية، فإن أسلما.. أقرا عليه بلا خلاف؛ لـ: «أن غيلان بن سلمة أسلم وتحته عشر نسوة، فأسلمن معه، فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يختار منهن أربعا» ، ولم يسأله: هل هن كتابيات أو غير كتابيات، فدل على: أن الحكم لا يختلف. وإن ترافعا إلينا قبل الإسلام.. ففيه وجهان:
(أحدهما) : قال أبو سعيد الإصطخري: لا يقران عليه؛ لأن كل نكاح لم يقر عليه المسلم.. لم يقر عليه الكتابي، كالمرتد.
والثاني ـ وهو المذهب ـ: أنهما يقران عليه؛ لأن كل نكاح أقرا عليه إذا أسلما.. أقرا عليه إذا لم يسلما، كنكاح الكتابية. ويخالف المسلم؛ فإن الكافر أنقص من المسلم، فجاز له استدامة نكاح المجوسية والوثنية وإن لم يجز ذلك للمسلم، كما قلنا في العبد: يجوز له تزوج الأمة، ولا يعتبر فيه خوف العنت وعدم طول الحرة؛ لنقصه.

[مسألة أسلم الزوج بعد الدخول وتخلفت زوجته أو عكسه وحكم النفقة]
إذا أسلم الزوج بعد الدخول وتخلفت الزوجة.. فلا نفقة لها. وإن أسلمت الزوجة ولم يسلم الزوج.. فعليه نفقتها.
فإن اختلفا، فقالت الزوجة: أسلمت أنا وأقمت أنت على الشرك، فأنا أستحق

(9/358)


عليك النفقة. وقال الزوج: بل أسلمت أنا ولم تسلمي أنت، فلا نفقة لك علي.. ففيه وجهان:
أحدهما: القول قول الزوجة؛ لأنه قد ثبت استحقاقها للنفقة بالزوجية، والأصل بقاؤها.
والثاني: أن القول قول الزوج؛ لأن نفقة كل يوم تجب بيومه، والأصل عدم الوجوب.

[مسألة أسلم قبلها وقبل الدخول أو اختلفا وحكم النكاح والمسمى]
وإن أسلم الزوج قبل الزوجة، قبل الدخول.. وجب عليه نصف المسمى إن سمى لها مهرا صحيحا. وإن سمى لها مهرا باطلا ولم تقبضه في الشرك.. وجب لها نصف مهر المثل.
وإن أسلمت الزوجة قبله قبل الدخول.. لم يجب لها شيء.
إذا ثبت هذا: فإن اتفقا أنهما أسلما قبل الدخول، وقالا: لا نعلم السابق منا بالإسلام.. انفسخ النكاح بينهما؛ لأن الحال لا يفترق في انفساخ النكاح.
وأما الصداق: فإن كان في يد الزوج.. لم تقبض منه الزوجة شيئا؛ لأنها إن كانت أسلمت أولا.. فإنها لا تستحق منه شيئا، وإن أسلم الزوج أولا.. فلها نصفه، فإذا لم يعلم على أي وجه كان.. لم يتيقن استحقاقها لشيء من المهر. وإن كان الصداق في يد الزوجة.. لم يكن للزوج أن يقبض منه إلا النصف؛ لأنه لا يتيقن أنه يستحق إلا ذلك.
وإن اختلفا، فقالت الزوجة: أسلمت أنت أولا، فأنا أستحق عليك نصف الصداق. وقال الزوج: بل أسلمت أنت أولا، فلا تستحقين علي شيئا.. فالقول قول الزوجة مع يمينها؛ لأنا تيقنا استحقاقها لنصف المهر، والأصل بقاء ذلك الاستحقاق.
وإن اختلفا في انفساخ النكاح، فقالت الزوجة: أسلم أحدنا قبل صاحبه، قبل الدخول فانفسخ النكاح. وقال الزوج: بل أسلمنا معا في حالة واحدة.. ففيه قولان:

(9/359)


أحدهما: القول قول الزوج مع يمينه، وهو اختيار المزني وأبي إسحاق المرزوي؛ لأن الأصل بقاء النكاح.
والثاني: أن القول قول الزوجة مع يمينها؛ لأن الظاهر معها، ولأن الظاهر أنه لا يتفق إسلامهما في حالة واحدة إلا نادرا.
وإن قلنا الزوج: أسلم أحدنا قبل صاحبه. وقالت الزوجة: بل أسلمنا معا في حالة واحدة.. فإنه يحكم على الزوج بانفساخ النكاح؛ لأنه أقر بذلك. وأما المهر: فيحتمل أن يكون على القولين، كالأولى.
وإن أقام الزوج البينة أنهما أسلما قبل الدخول حين طلعت الشمس، أو حين زالت، أو حين غربت.. لم ينفسخ النكاح.
وإن قال الزوجان: أسلمنا معا مع طلوع الشمس، أو مع زوالها، أو مع غروبها، أو حال طلوعها، أو حال زوالها، أو حال غروبها.. لم يثبت إسلامهما معا، فينفسخ نكاحهما.
والفرق بينهما: أن حين طلوعها، وحين زوالها، وحين غروبها.. هو حين تكامل الطلوع والزوال والغروب. وأما قولهما: مع الطلوع، أو حال الطلوع، أو الزوال، أو الغروب.. فإنه من ابتداء الطلوع أو الزوال أو الغروب إلى استكماله، فيجوز أن يكون إسلام أحدهما قبل الآخر.

[فرع أسلمت قبله بعد الدخول ثم أسلم واختلفا]
وإن أسلمت الزوجة بعد الدخول، ثم أسلم الزوج بعدها، ثم اختلفا، فقال الزوج: أسلمت قبل انقضاء العدة. وقالت الزوجة: بل أسلمت بعد انقضاء العدة.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فالقول قول الزوج) .
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن طلق زوجته طلقة رجعية ثم راجعها، فقال الزوج: راجعت قبل انقضاء العدة. وقالت الزوجة: بل راجعت بعد انقضاء العدة.. فالقول قول الزوجة) .

(9/360)


وقال: (إذا ارتد الزوج بعد الدخول ثم أسلم، فقالت الزوجة: أسلمت بعد انقضاء العدة. وقال الزوج: بل أسلمت قبل انقضاء العدة.. فالقول قول الزوجة) .
واختلف أصحابنا في هذه المسائل الثلاث على ثلاث طرق:
فـ[الطريق الأول] : منهم من قال: فيها قولان:
أحدهما: أن القول قول الزوج؛ لأن الأصل بقاء النكاح.
والثاني: القول قول الزوجة؛ لأن الأصل عدم الإسلام والرجعة.
و [الطريق الثاني] : منهم من قال: هي على اختلاف حالين:
فحيث قال: (القول قول الزوج) : إذا كان هو السابق بالدعوى.
وحيث قال: (القول قول الزوجة) : إذا كانت هي السابقة بالدعوى. ولأن قول كل واحد منهما مقبول فيما أظهره وسبق إليه.
و [الطريق الثالث] : منهم من قال: هي على حالين آخرين:
فحيث قال: (القول قول الزوج) : أراد إذا اتفقا على وقت إسلامه أو رجعته، واختلفا في وقت انقضاء عدتها، بأن قال: أسلمت أو راجعت في شعبان، فقالت: صدقت، لكني انقضت عدتي في رجب.
وحيث قال: (القول قول الزوجة) : أراد إذا اتفقا على وقت انقضاء عدتها، واختلفا في وقت إسلامه أو رجعته، بأن قالت: انقضت عدتي في شعبان، فقال: صدقت، لكني أسلمت أو راجعت في رجب؛ لأن الأصل بقاء العدة إلى شعبان، وعدم الإسلام والرجعة في رجب.

[فرع تزوج كتابي كتابية صغيرة فأسلم أحد أبويها]
] وإن تزوج كتابي كتابية صغيرة فأسلم أحد أبويها قبل الدخول.. انفسخ نكاحها؛ لأنها صارت مسلمة تبعا لمن أسلم من أبويها قبل الدخول، فهو كما لو أسلمت بعد بلوغها وقبل الدخول. وهل يجب لها من المهر شيء؟

(9/361)


قال ابن الحداد: يسقط جميع مهرها؛ لأن الفرقة وقعت بينهما قبل الدخول، ولم يكن من الزوج صنع فيها فسقط المهر، كما لو اشترت المرأة زوجها قبل الدخول.
فمن أصحابنا من صوبه، ومنهم من خطأه وقال: ويجب لها نصف المهر؛ لأنها لم يكن من جهتها صنع في الفرقة، فهو كما لو أرضعتها أم الزوج.
فإذا قلنا بهذا: فإن الزوج لا يرجع على من أسلم من أبويها بشيء، ويرجع على المرضعة.
والفرق بينهما: أن الإسلام واجب فلم يكن فعله جناية. وليس كذلك الإرضاع؛ فإنه ليس بواجب.
فوزانه: أن تجد هذه المرضعة هذه الصغيرة عطشانة قد أشرفت على الموت، ولم تجد أحدا يرضعها ولا لبنا تسقيها، ولم تتمكن من إحيائها إلا بإرضاعها.. فإنه يجب عليها إرضاعها، وإذا أرضعتها.. انفسخ النكاح، ولم يجب عليها شيء للزوج. وهكذا ذكره القاضي أبو الطيب.
وبالله التوفيق

(9/362)