البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب الرجعة]

(10/241)


كتاب الرجعة
إذا طلق الرجل امرأته المدخول بها، ولم يستوف ما يملكه عليها من عدد الطلاق، وكان الطلاق بغير عوض.. فله أن يراجعها قبل انقضاء عدتها.
والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وإلى قَوْله تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة: 228] [البقرة: 228] ، فقوله: {بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] يعني: برجعتهن.
وقوله: {إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة: 228] أي: إصلاح ما تشعث. من النكاح بالرجعة.
وقَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] [البقرة: 229] ، فأخبر: أن من طلق طلقتين.. فله الإمساك وهو الرجعة، وله التسريح وهي الثالثة.
وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] [الطلاق: 2] إلى قَوْله تَعَالَى: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] والإمساك: هو الرجعة. وقوله: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] يعني: الرجعة.
وروي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه طلق حفصة وراجعها»

(10/243)


و «طلق ابن عمر امرأته وهي حائض، فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يراجعها» .
وروي: «أن ركانة بن عبد يزيد قال: يا رسول الله، إني طلقت امرأتي سهيمة ألبتة، والله ما أردت إلا واحدة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " والله ما أردت إلا واحدة؟ "، فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة، فردها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليه» . والرد: هو الرجعة.
وأجمعت الأمة: على جواز الرجعة في العدة.
إذا ثبت هذا: فقد قال الله تعالى في آية: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} [الطلاق: 2] [الطلاق: 2] وقال في آية أخرى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] [القرة: 232] ، وحقيقة البلوغ: هو الوصول إلى الشيء، إلا أن سياق الكلام يدل على اختلاف البلوغين في الاثنتين، فالمراد بالبلوغ بقوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] [الطلاق: 2] أي: إذا قاربن البلوغ. فسمى المقاربة بلوغا مجازا؛ لأنه يقال إذا قارب الرجل بلوغ بلد: بلغ فلان بلد كذا مجازا، أو بلغها: إذا وصلها حقيقة.
والمراد بالآية الأخرى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] [البقرة: 232] أي إذا انقضى أجلهن، وإذا انقضت عدتها.. لم تصح الرجعة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] أي: في وقت عدتهن، وهذا ليس بوقت عدتهن. وقَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] [البقرة: 232] ، فنهى الأولياء عن عضلهن عن النكاح، فلو صحت رجعتهن.. لما نهى الأولياء عن عضلهن عن النكاح.
وإن طلق امرأته قبل الدخول.. لم يملك الرجعة عليها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] ، فخص الرجعة بوقت العدة، ومن لم يدخل بها.. فلا عدة عليها، فلم يملك عليها الرجعة.

(10/244)


[مسألة: ما يجوز وما يحرم على من طلق رجعيا وماذا لو وطئها]
؟] : وللزوج أن يطلق الرجعية في عدتها، ويولي منها، ويظاهر منها. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يصح إيلاؤه من الرجعية؟ فيه وجهان، وهل يصح أن يخالعها؟ فيه قولان:
أحدهما: يصح؛ لبقاء أحكام الزوجية بينهما.
والثاني: لا يصح؛ لأن الخلع للتحريم، وهي محرمة عليه.
وإن مات أحدهما قبل انقضاء العدة.. ورثه الآخر؛ لبقاء أحكام الزوجية بينهما، وهذا من أحكامها.
ويحرم عليه وطؤها، والاستمتاع بها، والنظر إليها بشهوة وغير شهوة. وبه قال عطاء ومالك وأكثر الفقهاء.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: (يجوز له وطؤها) .
وعن أحمد روايتان: إحداهما: كقولنا، والأخرى: كقول أبي حنيفة.
دليلنا: ما روي: (أن ابن عمر طلق امرأته وكان طريقه إلى المسجد على مسكنها، فكان يسلك طريقا أخرى حتى راجعها) . ولأنه سبب وقعت به الفرقة، فوقع به التحريم، كالفسخ والخلع والطلاق قبل الدخول.
فإن خالف ووطئها في العدة.. لم يجب عليهما الحد، سواء علما تحريمه أو لم يعلما؛ لأنه وطء مختلف في إباحته، فلم يجب به الحد، كما لو تزوج امرأة بغير ولي ولا شهود ووطئها.
وأما التعزيز: فإن كانا عالمين بتحريمه، مثل: أن كان شافعيين يعتقدان

(10/245)


تحريمه.. عزرا؛ لأنهما أتيا محرما مع العلم بتحريمه.
وإن كانا غير عالمين بتحريمه، بأن كانا جاهلين أو حنفيين لا يعتقدان تحريمه.. لم يعزرا.
وإن كان أحدهما عالما بتحريمه والآخر جاهلا بتحريمه.. عزر العالم بتحريمه دون الجاهل به.
وإن أتت منه بولد.. لحقه نسبه بكل حال للشبهة.
وأما مهر المثل: فهل يلزمه؟ ينظر فيه:
فإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها.. فلها عليه مهر مثلها بكل حال. وكذلك إذا أسلم أحد الحربيين بعد الدخول، فوطئها الزوج في عدتها، فانقضت عدتها قبل اجتماعهما على الإسلام.. فلها عليه مهر مثلها لهذا الوطء؛ لأن العدة لما انقضت قبل اجتماعهما على النكاح.. تبينا أنه وطئ أجنبية منه، فهو كما لو وطئ أجنبية بشبهة.
وإن راجعها قبل انقضاء العدة، أو اجتمعا على الإسلام قبل انقضاء العدة.. فقد قال الشافعي: (إن للرجعية مهر مثلها) ، وقال في الزوجين - إذا أسلم أحدهما ووطئها قبل انقضاء عدتها وقبل الإسلام ثم أسلم الآخر قبل انقضاء العدة -: (إنه لا مهر لها) ، وكذا قال في المرتد - إذا وطئ امرأته في العدة ثم أسلم قبل انقضاء العدة -: (لا مهر عليه) واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: في الجميع قولان:
أحدهما: يجب عليه مهر مثلها؛ لأنه وطئ في نكاح قد تشعث، فهو كما لو لم يرجعها ولم يجتمعا على الإسلام.
والثاني: لا يجب عليه؛ لأن التشعث قد زال بالرجعة والإسلام.
ومنهم من حملهما على ظاهرهما، فقال في الرجعة: يجب عليه المهر؛ لأن النكاح انثلم بالطلاق ثلمة لا ترتفع بالرجعة؛ بدليل: أنه لا يرتفع ما أوقعه من الطلاق

(10/246)


بالرجعة، بل تبقى معه على عدد ما بقي من عدد الطلاق، وليس كذلك إذا اجتمع الحربيان أو المرتدان على الإسلام قبل انقضاء العدة.. فإن الثلمة التي حصلت في النكاح ترتفع وتصير كأن لم تكن.

[مسألة: ما يشترط لصحة الرجعة وألفاظها]
وتصح الرجعة من غير ولي، وبغير رضاها، وبغير عوض؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] ، فجعل الزوج أحق بردها، فلو افتقر إلى رضاها.. لكان الحق لهما.
ولا تصح الرجعة إلا بالقول من القادر عليه أو بالإشارة من الأخرس، فأما إذا وطئها أو قبلها أو لمسها.. فلا يكون ذلك رجعة، سواء نوى به الرجعة أو لم ينو. وبه قال أبو قلابة وأبو ثور.
وقال الأوزاعي والثوري وابن أبي ليلى وأبو حنيفة وأصحابه: (تصح الرجعة بالوطء، سواء نوى به الرجعة أو لم ينو ذلك) .
قال أبو حنيفة: (إذا قبلها بشهوة، أو لمسها أو نظر إلى فرجها بشهوة.. وقعت به الرجعة) .
وقال مالك وإسحاق: (إذا وطئها ونوى به الرجعة.. كان رجعة، وإن لم ينو به الرجعة.. لم يكن رجعة) .
دليلنا: أنها جارية إلى بينونة، فلم يصح إمساكها بالوطء، كما لو أسلم أحد الحربيين وجرت إلى بينونة.. فلا يصح إمساكها بالوطء. ولأنه استباحة بضع مقصود يصح بالقول، فلم يصح بالفعل مع القدرة على القول، كالنكاح.
فقولنا: (بضع مقصود) احتراز ممن باع جاريته ووطئها في مدة الخيار.
وقولنا: (يصح بالقول) احتراز من السبي؛ فإنه لا يصح بالقول، وإنما يصح بالفعل.

(10/247)


وقولنا: (ممن يقد عليه) احتراز ممن يكون أخرس.
إذا ثبت هذا: فقال: رددتك.. صح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة: 228] [البقرة: 228] .
وإن قال: راجعتك أو ارتجعتك.. صح؛ «لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمر: " مر ابنك فليراجعها» .
وهل من شرطه أن يقول: إلى النكاح؟ فيه وجهان حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] ، المشهور: أن ذلك ليس بشرط، وإنما هو تأكيد.
وإن قال: أمسكتك.. قال الشيخ أبو حامد: فهل ذلك صريح في الرجعة أو كناية؟ فيه وجهان، وحكاهما القاضي أبو الطيب قولين:
أحدهما: أنه صريح في الرجعة؛ لأن القرآن ورد به، وهو قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] [الطلاق: 2] ، وأراد به الرجعة.
والثاني: أنه ليس بصريح، وإنما هو كناية؛ لأنه استباحة بضع مقصود في عينه فلم يصح إلا بلفظتين، كالنكاح.
وأما الشيخ أبو إسحاق فقال: هل تصح به الرجعة؟ على وجهين. ولم يذكر الصريح ولا الكناية.
وإن قال: تزوجتك، أو نكحتك، أو عقد عليها النكاح.. فهل تصح؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأن عقد الرجعة لا تصح بالكناية، والنكاح كناية فيه، ولأن النكاح لا يخلو من عوض، والرجعة لا تتضمن عوضا، فلم ينعقد أحدهما بلفظ الآخر، كالهبة لا تنعقد بلفظ البيع.

(10/248)


والثاني: يصح؛ لأن لفظ النكاح والتزويج آكد من الرجعة؛ لأنه تستباح به الأجنبية، فإذا استباح بضعها بلفظ الرجعة.. ففي لفظ النكاح والتزويج أولى.

[فرع: قوله راجعتك أمس أو راجعتك للمحبة أو للإهانة]
وإن قال: راجعتك أمس.. كان إقرارا برجعتها، وهو يملك الرجعة، فقبل إقراره فيها.
وإن قال: راجعتك للمحبة أو للإهانة.. سئل عن ذلك: فإن قال: أردت بقولي للمحبة: لأني كنت أحبها في النكاح، فراجعتها إلى النكاح؛ لأردها إلى تلك المحبة، أو كنت أهينها في النكاح، فراجعتها إلى النكاح وإلى تلك الإهانة.. أو لحقها بالطلاق إهانة، فراجعتها إلى النكاح لأرفع عنها تلك الإهانة.. صحت الرجعة؛ لأنه قد راجعها وبين العلة التي راجعها لأجلها.
وإن قال: لم أرد الرجعة إلى النكاح، وإنما أردت: أني كنت أحبها قبل النكاح، فلما نكحتها أبغضتها، فرددتها بالطلاق إلى تلك المحبة قبل النكاح، أو كنت أهينها قبل النكاح، فلما نكحتها زالت تلك الإهانة، فرددتها بالطلاق إلى تلك الإهانة.. لم تصح الرجعة؛ لأنه أخبر: أنه لم يردها إلى النكاح، وإنما بين المعنى الذي لأجله طلقها.
وإن مات قبل أن يبين.. حكم بصحة الرجعة؛ لأنه يحتمل الأمرين، والظاهر أنه أراد الرجعة إلى النكاح؛ لأجل المحبة أو لأجل الإهانة.

[مسألة: الرجعة والإشهاد عليها]
وهل تصح الرجعة بغير شهادة؟ فيه قولان:
أحدهما: لا تصح الرجعة إلا بحضور شاهدين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] [الطلاق: 2] ، فأمر بالإشهاد على الرجعة، والأمر يقتضي الوجوب، ولأنه استباحة بضع مقصود فكانت الشهادة شرطا فيه، كالنكاح.

(10/249)


والثاني: تصح من غير شهادة - وبه قال أبو حنيفة - «لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمر: " مر ابنك فليراجعها» ولم يأمره بالإشهاد، فلو كان شرطا.. لأمره به. ولأنها لا تفتقر إلى الولي.. فلم تفتقر إلى الشهادة، كالبيع والهبة، وعكسه النكاح. والآية محمولة على الاستحباب.

[فرع: تعليق الرجعة على المشيئة وغيرها]
قال في " الأم ": (وإن قال: راجعتك إن شئت، فقالت في الحال: شئت.. لم تصح الرجعة) ؛ لأنه عقد يستبيح به البضع، فلم يصح تعليقه على صفة، كالنكاح.
قال في " الأم ": (وإن قال لها: كلما طلقتك فقد راجعتك.. لم تصح الرجعة) ؛ لأنه علق الرجعة على صفة فلم يصح، كما لو قال: راجعتك إذا قدم زيد. ولأنه راجعها قبل أن يملك الرجعة عليها فلم تصح، كما لو قال لأجنبية: طلقتك إذا نكحتك.
وإن طلق الرجل امرأته طلاقا رجعيا فارتدت المرأة، ثم راجعها الزوج في حال ردتها.. لم تصح الرجعة. فإن انقضت عدتها قبل أن ترجع إلى الإسلام.. بانت باختلاف الدين.
وإن رجعت إلى الإسلام قبل انقضاء عدتها.. افتقر إلى استئناف الرجعة.
قال المزني: تكون الرجعة موقوفة، كما لو طلقها في الردة.
وهذا خطأ؛ لأنه عقد استباحة بضع مقصود، فلم تصح في حال الردة كالنكاح، ويخالف الطلاق؛ فإنه يصح تعليقه على الخطر والغرر.

[مسألة: اختلفا راجعها قبل انقضاء العدة أو بعدها]
إذا قال الزوج: راجعتك، وأنكرت المرأة، فإن كان قبل انقضاء عدتها.. فالقول قول الزوج؛ لأنه يملك الرجعة، فملك الإقرار بها، كالزوج إذا أقر بطلاق زوجته.
وإن انقضت عدتها، فقال الزوج: كنت راجعتك قبل انقضاء عدتك وقالت

(10/250)


الزوجة: بل انقضت عدتي قبل أن تراجعني، ولا بينة للزوج.. فقد نص الشافعي: (على أن القول قول الزوجة مع يمينها) . وكذلك قال في الزوج إذا ارتد بعد الدخول، ثم رجع إلى الإسلام وقال: رجعت إلى الإسلام قبل انقضاء عدتك، وقالت: بل انقضت عدتي قبل أن ترجع إلى الإسلام.. (فالقول قول الزوجة) .
وقال في نكاح المشركات إذا أسلمت الزوجة بعد الدخول وتخلف الزوج، ثم أسلم فقال الزوج: أسلمت قبل انقضاء عدتك، وقالت الزوجة: بل أسلمت بعد انقضاء عدتي.. (فالقول قول الزوج) . واختلف أصحابنا في هذه المسائل على ثلاث طرق:
فـ[الطريق الأول] : منهم من قال: في الجميع قولان - وهو اختيار القاضيين أبي حامد وأبي الطيب -:
أحدهما: القول قول الزوج؛ لأن الزوجة تدعي أمرا يرفع النكاح، والزوج ينكره، فكان القول قوله؛ لأن الأصل بقاء النكاح.
والثاني: أن القول قول الزوجة؛ لأن الظاهر حصول البينونة وعدم الرجعة والإسلام.
والطريق الثاني: إن أظهر الزوج الرجعة أو الإسلام، ثم قالت الزوجة بعد ذلك: قد كانت عدتي انقضت قبل ذلك.. فالقول قول الزوج؛ لأنها ما دامت لم تظهر انقضاء العدة.. فالظاهر أن عدتها لم تنقض. وإن أظهرت الزوجة انقضاء العدة أولا، ثم قال الزوج: كنت راجعتك أو أسلمت قبل انقضاء العدة.. فالقول قولها؛ لأنها إذا أظهرت انقضاء عدتها في وقت يمكن انقضاؤها فيه.. فالظاهر أنها بانت، فإذا ادعى الزوج الرجعة أو الإسلام قبله.. كان القول قولها؛ لأن الأصل عدم ذلك. وإن أظهر الزوج الرجعة أو الإسلام في الوقت الذي أظهرت فيه انقضاء العدة، ولم يسبق أحدهما الآخر.. ففيه وجهان:

(10/251)


[أحدهما] : من أصحابنا من قال: يقرع بينهما؛ لاستوائهما في الدعوى.
و [الثاني] : منهم من قال: لا يقرع بينهما، بل لا تصح الرجعة ولا يجمع بينهما في النكاح؛ لأنه يمكن تصديق كل واحد منهما، بأن يكون قد راجعها أو أسلم في الوقت الذي انقضت عدتها فيه، فلم يصح اجتماعهما على النكاح، كما لو قال لامرأته: إن مت فأنت طالق.. فإنها لا تطلق بموته.
والطريق الثالث - وهو اختيار أبي علي الطبري -: أن قول كل واحد منهما مقبول فيما اتفقا عليه، فإن اتفقا أنه راجع أو أسلم في رمضان، فقالت الزوجة: إلا أن عدتي انقضت في شعبان، وأنكرها الزوج.. فالقول قول الزوج؛ لأن الأصل بقاء العدة. وإن اتفقا أن عدتها انقضت في رمضان، إلا أن الزوج ادعى أنه كان راجعها أو أسلم في شعبان وأنكرت الزوجة ذلك.. فالقول قولها؛ لأن الأصل عدم الرجعة والإسلام.
وإذا ادعت انقضاء عدتها في أقل من شهر.. لم يقبل قولها في أقل من اثنين وثلاثين يوما ولحظتين، ولا يقبل في أقل من ذلك بحال؛ لأنه لا يتصور - عندنا - أقل من ذلك.

[فرع: ادعاء الأمة مضي العدة وادعاء الزوج مراجعتها قبل ذلك]
وإن كانت الزوجة أمة وادعت انقضاء العدة، وقال الزوج: كنت راجعتها قبل ذلك، وصدقه المولى.. فكل موضع قلنا: القول قول الزوج في حق الحرة. قبل قول الزوج. وكل موضع قلنا: القول قول الزوجة إذا كانت حرة.. قال ابن الصباغ: فالذي يجيء على المذهب: أن القول قول السيد. وبه قال أبو يوسف ومحمد.
وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد: (القول قولها؛ لأنه يقبل قولها في انقضاء عدتها) .

(10/252)


ووجه الأول: أن النكاح حق للسيد؛ ولهذا يثبت بقوله وإقراره، فكذلك الرجعة. ويخالف انقضاء العدة؛ لأنه لا طريق إلى معرفتها إلا من جهتها.

[فرع: اختلفا هل طلقها قبل الإصابة أو بعدها]
فرع: [اختلفا: طلقها قبل الإصابة أو بعدها] :
وإن طلق امرأته طلقة أو طلقتين، فقال: طلقتك بعد أن أصبتك فعليك العدة ولي عليك الرجعة ولك السكنى والنفقة وجميع المهر، وقالت الزوجة: بل طلقتني قبل الإصابة.. فالقول قول الزوجة مع يمينها؛ لأن الظاهر وقوع الفرقة بالطلاق، والأصل عدم الإصابة.
إذا ثبت هذا: فإنها إذا حلفت.. فلا عدة عليها ولا رجعة، ولا تجب لها نفقة ولا سكنى؛ لأنها لا تدعي ذلك وإن كان مقرا لها به. وأما المهر: فإن كان في يد الزوج.. لم تأخذ الزوجة منه إلا النصف؛ لأنها لا تدعي أكثر منه وإن كان الزوج مقرا لها بالجميع. وإن كان الصداق في يد الزوجة.. لم يرجع الزوج عليها بشيء؛ لأنه لا يدعيه.
وإن نكلت عن اليمين، فحلف.. ثبت له الرجعة عليها. وأما النفقة والسكنى: فالذي يقتضي المذهب: أنها لا تستحقه؛ لأنها لا تدعيه.
وإن قال الزوج: طلقتك قبل الإصابة فلا رجعة لي عليك ولا نفقة ولا سكنى لك ولك نصف المهر، وقالت المرأة: بل طلقتني بعد الإصابة فلك الرجعة ولي عليك النفقة والسكنى وجميع المهر.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الإصابة.
إذا ثبت هذا: فإنه لا رجعة له عليها، سواء حلف أو لم يحلف؛ لأنه أقر: بأنه لا يستحق ذلك، ويجب عليها العدة؛ لأنها مقرة بوجوبها عليها.
وأما النفقة والسكنى: فإن حلف: أنه طلقها قبل الإصابة.. لم تستحق عليه النفقة والسكنى. وإن نكل عن اليمين، فحلفت.. استحقت ذلك عليه.

(10/253)


وأما المهر: فإن حلف.. لم تستحق عليه إلا نصفه، سواء كان بيده أو بيدها. وإن نكل عن اليمين، وحلفت.. استحقت جميع المهر.
وهذا إذا لم يثبت بالبينة أو بإقرار الزوج: أنه قد كان خلا بها. وأما إذا ثبت بالبينة أو بإقراره: أنه قد كان خلا بها.. فعلى القول الجديد: (لا تأثير للخلوة) ، وقال في القديم: (للخلوة تأثير) .
فمن أصحابنا من قال: أراد: أنه يرجح بها قول من ادعى الإصابة منهما.
ومنهم من قال: بل الخلوة كالإصابة، وقد مضى بيان ذلك.

[فرع: أخبر عنها بانقضاء عدتها فراجعها ثم كذبت نفسها]
قال في " الأم ": (إذا قال: قد أخبرتني بانقضاء عدتها، ثم قالت بعد ذلك: ما كانت عدتي منقضية.. فالرجعة صحيحة؛ لأنه لم يقر بانقضاء العدة، وإنما أخبر عنها، فإذا أنكرت ذلك.. فقد كذبت نفسها، وكانت الرجعة صحيحة) .

[مسألة: ما يشترط لصحة الرجوع]
مسألة: [لا يشترط لصحة الرجوع رضا وعلم الزوجة وماذا لو تزوجت بآخر وادعى الزوج رجعتها؟] : وتصح الرجعة من غير علم الزوجة؛ لأن ما لا تفتقر صحته إلى رضاها.. لم تفتقر صحته إلى علمها، كالطلاق.
إذا ثبت هذا: فإن انقضت عدتها فتزوجت بآخر، وادعى الزوج الأول أنه كان راجعها قبل انقضاء عدتها منه، وقال الزوج الثاني: بل انقضت عدتها قبل أن تراجعها.. نظرت: فإن أقام الزوج الأول بينة: أنه راجعها قبل انقضاء عدتها منه.. حكم بزوجيتها للأول، وبطل نكاح الثاني، سواء دخل بها الثاني أو لم يدخل بها. وبه قال علي بن أبي طالب، وأكثر الفقهاء.

(10/254)


وقال مالك: (إن دخل بها الثاني.. فهو أحق بها) . وإن لم يدخل بها الثاني.. ففيه روايتان:
(إحداهما: أنه أحق بها.
والثانية: أن الأول أحق بها) . وروي ذلك عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 24] [النساء: 24] . و (المحصنة) : من لها زوج، وهذه لها زوج وهو الأول، فلم يصح نكاح الثاني.
إذا ثبت هذا فإن كان الثاني لم يدخل بها.. فرق بينهما ولا شيء عليه. وإن دخل بها.. فرق بينهما، وعليه مهر مثلها، وعليها العدة؛ لأنه وطء شبهة، ولا تحل للأول حتى تنقضي عدتها من الثاني.
وإن لم يكن مع الأول بينة.. فله أن يخاصم الزوج الثاني، وله أن يخاصم الزوجة. والأولى: أن يبتدئ بخصومة الثاني؛ لأنه أقرب، فإن بدأ بخصومة الثاني.. نظرت في الثاني: فإن أنكر، وقال: لم يراجعها إلا بعد انقضاء عدتها.. فالقول قول الثاني مع يمينه؛ لأن الأصل عدم رجعة الأول، وكيف يحلف؟
قال الشيخ أبو حامد في " التعليق ": يحلف: أنه لم يراجعها في عدتها.
وقال ابن الصباغ: يحلف: أنه لا يعلم أنه راجعها في عدتها؛ لأنه يحلف على نفي فعل الغير، وهذا أقيس.
فإن حلف الثاني.. سقطت دعوى الأول عنه. وإن نكل الثاني عن اليمين.. ردت اليمين على الأول، فإن حلف: أنه راجعها قبل انقضاء عدتها منه.. سقط حق الثاني من نكاحها؛ لأن يمين الأول كبينة أقامها في أحد القولين، أو كإقرار الثاني بصحة رجعة الأول، وذلك يتضمن إسقاط حق الثاني منهما.
فإن صدقت الزوجة الأول على صحة رجعته.. سلمت إليه. فإن كان الثاني لم

(10/255)


يدخل بها.. فلا شيء عليه وتسلم الزوجة في الحال. وإن كان الثاني دخل بها.. استحقت عليه مهر مثلها، ولا تسلم إلى الأول إلا بعد انقضاء عدتها من الثاني.
وإن أنكرت الزوجة صحة رجعة الأول، فإن قلنا: إن يمين الأول كبينة أقامها الأول.. كان كأن لم يكن بين الثاني وبينها نكاح، فإن كان قبل الدخول.. فلا شيء لها عليه، وإن كان بعد الدخول.. فلها عليه مهر مثلها. وإن قلنا: إن يمين الأول بمنزلة إقرار الثاني.. فلا يقبل إقراره في إسقاط حقها، بل إن كان قبل الدخول.. لزمه نصف مهرها المسمى، وإن كان بعد الدخول.. لزمه جميع المسمى.
ولا تسلم المرأة إلى الأول: على القولين؛ لأن يمين الأول كبينة أقامها، أو كإقرار الثاني في حق الثاني لا في حقها.
وإن صدق الثاني الأول أنه راجعها قبل انقضاء عدتها، فإن صدقته المرأة أيضا.. كان كما لو أقام الأول البينة، فإن كان قبل الدخول.. فلا شيء لها على الثاني، وتسلم الزوجة إلى الأول في الحال. وإن كان بعد الدخول.. فلها على الثاني مهر مثلها، وله عليها العدة، ولا تسلم إلى الأول إلا بعد انقضاء عدتها من الثاني. فإن أنكرت الزوجة صحة رجعة الأول بعد أن صدقه الثاني.. فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الأصل عدم الرجعة، ويحكم بانفساخ نكاح الثاني..؛ لأنه أقر بتحريمها، فإن كان قبل الدخول.. لزمه نصف المسمى. وإن كان بعد الدخول.. لزمه جميع المسمى.
وإن بدأ الزوج الأول بالخصومة مع الزوجة.. نظرت: فإن صدقته.. لم يقبل إقرارها؛ لتعلق حق الثاني بها، وهل يلزمها المهر للأول؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: لا يلزمها له شيء؛ لأن إقرارها لم يقبل؛ لحق الثاني، فلم يلزمها غرم، كما لو ارتدت أو قتلت نفسها.
والثاني - ولم يذكر المحاملي والشيخ أبو إسحاق غيره -: أنه يلزمها للأول المهر؛ لأنها فوتت بضعها عليه بالنكاح الثاني، فهو كما لو شهد عليه شاهدان: أنه طلقها ثم

(10/256)


رجعا عن شهادتهما.. فإنه يجب عليهما المهر، فكذلك هذا مثله.
وإن أنكرت.. فالقول قولها؛ لأن الأصل عدم الرجعة، وهل يلزمها أن تحلف؟ قال الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق -: فيه قولان:
أحدهما: لا يلزمها أن تحلف؛ لأن اليمين إنما تعرض لتخاف فتقر، ولو أقرت.. لم يقبل إقرارها للأول؛ لحق الثاني، فلا فائدة في ذلك.
والثاني: يلزمها أن تحلف؛ لأنها ربما خافت من اليمين فأقرت بصحة رجعة الأول فيلزمها له المهر.
قال ابن الصباغ: يبنى على الوجهين إذا أقرت للأول:
فإن قلنا هناك: يلزمها له المهر.. لزمها أن تحلف له؛ لجواز أن تخاف فتقر، فيلزمها المهر.
وإن قلنا: لا يلزمها المهر.. لم يلزمها أن تحلف؛ لأنه لا فائدة في ذلك.
فإن قلنا: لا يمين عليها.. فلا كلام.
وإن قلنا: عليها اليمين، فإن حلفت.. سقطت دعوى الزوج عنها، وإن نكلت.. ردت اليمين على الزوج الأول، فإذا حلف.. احتمل أن يبنى على القولين في يمين المدعي مع نكول المدعى عليه:
فإن قلنا: إنها كالبينة.. لزمها المهر للأول.
وإن قلنا: إنها كالإقرار.. فهل يلزمها المهر للأول؟ على الوجهين اللذين حكاهما ابن الصباغ.
ولا تسلم الزوجة إلى الأول مع إنكار الثاني على القولين؛ لأنها كالبينة أو كالإقرار في حق المتداعيين - وهما الزوج الأول والزوجة - لا في حق الثاني.
وكل موضع قلنا: لا تسلم المرأة إلى الأول إذا أقرت له لحق الثاني، فزالت

(10/257)


زوجية الثاني بموته أو طلاقه.. سلمت إلى الأول بعد انقضاء عدة الثاني منها؛ لأن المنع من تسليمها إلى الأول لحق الثاني، وقد زال.

[مسألة: بينونة الحرة بثلاث والأمة باثنتين وماذا لو أراد رجعتها]
؟] : وإذا طلق الحر امرأته ثلاثا، أو طلق العبد امرأته طلقتين.. بانت منه وحرم عليه استمتاعها والعقد عليها حتى تنقضي عدتها منه، ثم تتزوج غيره ويصيبها، ويطلقها أو يموت عنها وتنقضي عدتها منه. وبه قال عامة الفقهاء، إلا سعيد بن المسيب؛ فإنه قال:
إذا تزوجها وفارقها.. حلت للأول وإن لم يصبها الثاني. وحكي ذلك عن بعض الخوارج.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] [البقرة: 230] .
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن امرأة رفاعة القرظي أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله، إني كنت عند رفاعة فطلقني وبت طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير، وإنما معه مثل هدبة الثوب، فتبسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: " أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» .

(10/258)


وروى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن رجل طلق امرأته ثلاثا، فتزوجت بآخر وطلقها قبل أن يدخل بها: أتحل للأول؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا، حتى تذوق العسيلة» . وإنما أراد بذلك لذة الجماع، وسماه العسيلة تشبيها من العسل.
فثبت نكاح الثاني بالآية، وثبتت إصابته بالسنة، وهو إجماع الصحابة؛ لأنه روي عن عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وجابر وعائشة، ولا يعرف لهم مخالف.
إذا ثبت هذا: فإن أقل الوطء الذي يتعلق به الإحلال للأول: أن يغيب الثاني الحشفة في الفرج؛ لأن أحكام الوطء من الغسل والحد وغيرهما تتعلق بذلك ولا تتعلق بما دونه.

(10/259)


فإن أولج الحشفة في فرجها وأفضاها.. تعلق به الإحلال؛ لأنه حصل به الإحلال وزيادة.
وإن غيب الحشفة في الفرج من غير انتشار، أو غيبه في الموضع المكروه، أو وطئها فيما دون الفرج.. لم يتعلق به الإحلال؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علقه على ذوق العسيلة، وذلك لا يحصل بما ذكرناه.

[فرع: إحلال الصبي أو من به عيب للبائن وحكم العبيد]
فرع: [إحلال الصبي أو من به عيب وحكم العبيد] : وإن تزوجها صبي فجامعها، فإن كان صبيا غير مراهق، كابن سبع سنين فما دون.. فلا يحكم بمجامعته , ولا يحلها للأول؛ لأن هذا الجماع لا يلتذ به، فهو كما لو أدخل إصبعه في فرجها. وإن كان مراهقا ينتشر عليها.. أحلها للأول.
وقال مالك: (لا يحلها) .
دليلنا: أنه جماع ممن يجامع مثله، فأحلها للأول، كالبالغ.
وإن كان مسلول الأنثيين فغيب الحشفة في الفرج.. أحلها للأول؛ لأنه جماع يلتذ به، فهو كغيره.
وإن كان مقطوع الذكر من أصله.. لم تحل للأول بجماعه؛ لأنه لا يوجد منه الجماع.
وإن قطع بعضه، فإن بقي من ذكره قدر الحشفة وأولجه.. أحلها للأول. وإن كان الذي بقي منه، أو الذي أولج فيها دون الحشفة.. لم يحلها للأول؛ لأنه لا يلتذ به.
وإن كان الزوج عبدا أو مكاتبا، وكانت الزوجة أمة أو مكاتبة.. كان حكمهما حكم الحر والحرة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا، حتى تذوق العسيلة» . ولم يفرق.

(10/260)


[فرع: الإحلال مع ارتكاب محظور]
وإن أصابها الزوج الثاني وهي محرمة بحج أو عمرة، أو صائمة، أو حائض.. أحلها للأول.
وقال مالك: (لا يحلها) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا حتى تذوق العسيلة» ، ولم يفرق. ولأنها إصابة يستقر بها المهر المسمى، فوقعت بها الإباحة للأول، كما إذا وطئها محلة مفطرة طاهرة.

[فرع: للذمية حكم المسلمة وماذا لو طرأ جنون وانتفى القصد]
؟] : وإن كان تحت مسلم ذمية فطلقها ثلاثا، فتزوجت بذمي وأصابها، ثم فارقها.. حلت للمسلم.
وقال مالك: (لا تحل) .
دليلنا: أنه إصابة من زوج في نكاح صحيح.. فحلت للأول، كما لو تزوجها مسلم.
وإن تزوجها الثاني فجن، فأصابها في حال جنونه، أو جنت فأصابها في حال جنونها، أو وجدها الزوج على فراشه فظنها أجنبية فوطئها فبان أنها زوجته.. حلت للأول بعد مفارقة الثاني؛ لأنه إيلاج تام صادف زوجية ولم يفقد إلا القصد، وذلك غير معتبر في الإصابة، كما لو قلنا في استقرار المسمى.

[مسألة: إصابة المبتوتة ثلاثا بعد الردة]
] : قال الشافعي: (وإن كانت الإصابة بعد ردة أحدهما، ثم رجع المرتد منهما.. لم تحلها الإصابة؛ لأنها محرمة في تلك الحال) .
وجملة ذلك: أن المطلقة ثلاثا إذا تزوجت بآخر، ثم ارتد أحدهما أو

(10/261)


ارتدا وطئها في حال الردة.. لم يحلها للأول؛ لأن الوطء إنما يصح إذا حصل في نكاح صحيح تام، والزوجية هاهنا متشعثة بالردة.
وقال المزني: هذه المسألة محال؛ لأنهما إن ارتدا أو ارتد أحدهما قبل الدخول.. انفسخ النكاح بنفس الردة، وإن ارتدا أو ارتد أحدهما بعد الدخول.. فقد حصل الإحلال بالوطء قبل الردة، فلا تؤثر الردة.
قال أصحابنا: ليست بمحال، بل يتصور على قوله القديم الذي يقول: (إن الخلوة كالإصابة، فإذا خلا بها ثم ارتدا أو أحدهما.. فعليها العدة) . فما دامت في العدة.. فالزوجية قائمة.
ويتصور على قوله الجديد: بأن يطأها فيما دون الفرج، فيسبق الماء إلى الفرج، أو تستدخل ماءه، ثم يرتد أحدهما، فتجب عليها العدة، أو يطأها في الموضع المكروه، فيرتدا أو أحدهما، فتجب عليها العدة، فيتصور هذا في هذه المواضع الثلاث.

[مسألة: وطئها بعد العدة خطأ أو في نكاح فاسد]
أو كانت أمة فوطئها سيدها أو اشتراها زوجها] : وإن طلق الرجل امرأته ثلاثا، فانقضت عدتها منه، فوجدها رجل على فراشه فظنها زوجته أو أمته فوطئها، أو كانت أمة لآخر فوطئها سيدها.. لم يحلها للأول؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] [البقرة: 230] ، وهذا ليس بزوج.
وإن اشتراها زوجها قبل أن تنكح زوجا غيره.. فهل يحل له وطؤها بالملك؟ فيه وجهان:
أحدهما: يحل له وطؤها؛ لأن الطلاق من خصائص الزوجية، فأثر في تحريم الوطء بالزوجية دون ملك اليمين.

(10/262)


والثاني: لا يحل له، وهو المذهب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] [البقرة: 230] ، ولم يفرق. ولأن كل امرأة يحرم عليه نكاحها.. لم يجز له وطؤها بملك اليمين، كالملاعنة.
وإن نكحها رجل نكاحا فاسدا ووطئها.. فهل تحل للأول؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يحلها؛ لأنه وطء في نكاح فاسد، فهو كوطء الشبهة.
والثاني: يحلها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله المحلل والمحلل له» ، فسماه محللا. ولأنه وطء في نكاح، فأشبه النكاح الصحيح.
قال في " الإملاء ": (وإذا طلق الرجل امرأته طلاقا رجعيا، فانقضت عدتها، فجاءها رجل فقال: توقفي، فلعل زوجك قد راجعك.. لم يلزمها التوقف؛ لأن انقضاء العدة قد وجد في الظاهر، والرجعة أمر محتمل، فلا يترك الظاهر للمحتمل) .

(10/263)


[مسألة: مبتوتة ادعت انقضاء عدتها من آخر]
] : وإن طلق الرجل امرأته ثلاثا، فجاءت إلى الذي طلقها، وادعت أن عدتها منه قد انقضت، وأنها قد تزوجت بآخر وأصابها، وطلقها الثاني وانقضت عدتها منه، وكان قد مضى من يوم الطلاق زمان يمكن صدقها فيه.. جاز للأول أن يتزوجها؛ لأنها مؤتمنة فيما تدعيه من ذلك.
فإن وقع في نفس الزوج كذبها.. فالورع له أن لا يتزوجها، فإن نكحها.. جاز؛ لأن ذلك مما لا يتوصل إلى معرفته إلا من جهتها.
وإن كانت عنده صادقة.. لم يكره له تزوجها، ويستحب له: أن يبحث عن ذلك؛ ليعرف به صدقها، فإن لم يبحث عن ذلك.. جاز.
فإن رجعت المرأة عما أخبرت به.. نظرت: فإن كان قبل أن يعقد عليها الأول.. لم يجز له العقد عليها. وإن كان بعدما عقد عليها.. لم يقبل رجوعها؛ لأن في ذلك إبطالا للعقد الذي لزمها في الظاهر.

[فرع: مبتوتة تزوجت وادعت إصابتها واختلفت مع الزوجين]
وإن طلق الرجل امرأته ثلاثا، فتزوجت بآخر بعد انقضاء عدتها، وطلقها الثاني، فادعت الزوجة على الثاني أنه طلقها بعد أن أصابها، وأنكر الثاني الإصابة.. فالقول قوله مع يمينه: أنه ما أصابها؛ لأن الأصل عدم الإصابة، ولا يلزمه إلا نصف المسمى، وتلزمها العدة للثاني؛ لأنها مقرة بوجوبها عليها.
فإن صدقها الأول: أن الثاني قد كان أصابها في النكاح.. حل له أن يتزوجها؛ لأن قولها مقبول في إباحتها للأول وإن لم يقبل على الثاني.
فإن قال الأول: أنا أعلم أن الثاني لم يصبها.. لم يجز له أن يتزوجها، فإن عاد

(10/264)


وقال: علمت أن الثاني أصابها.. قال الشافعي: (حل له أن يتزوجها؛ لأنه قد يظن أنه لم يصبها، ثم يعلم أنه أصابها فحلت له) .

[مسألة: الفرقة المحرمة للتزاوج]
] : الفرقة التي يقع بها التحريم بين الزوجين على أربعة أضرب:
الأول: فرقة يقع بها التحريم، ويرتفع ذلك التحريم بالرجعة، وهو: الطلاق الرجعي على ما مضى، وهذا أخفها.
والضرب الثاني: فرقة يرتفع بها التحريم بعقد نكاح مستأنف قبل زوج؛ وهو: أن يطلق غير المدخول بها طلقة أو طلقتين، أو يطلق المدخول بها طلقة أو طلقتين بغير عوض ولا يسترجعها حتى تنقضي عدتها، أو يطلقها طلقة أو طلقتين بعوض، أو يجد أحدهما بالآخر عيبا فيفسخ النكاح، أو يعسر الزوج بالمهر أو النفقة فتفسخ الزوجة النكاح.. فلا رجعة للزوج في هذا كله، وإنما يرتفع التحريم بعقد نكاح مستأنف، ولا يشترط أن يكون ذلك بعد زوج وإصابة. وهذا الضرب أغلظ من الأول.
والضرب الثالث: فرقة يقع بها التحريم، ولا يرتفع ذلك التحريم إلا بعقد مستأنف بعد زوج وإصابة؛ وهو: أن يطلق الرجل امرأته ثلاثا، سواء كانت مدخولا بها أو غير مدخول بها، فيحرم عليه العقد عليها إلا بعد زوج وإصابة على ما مضى. وهذا أغلظ من الأولين.
والضرب الرابع: فرقة يقع بها التحريم على التأبيد لا ترتفع بحال، وهي الفرقة الواقعة باللعان على ما يأتي بيانه. وهذا أغلظ الفرق.
إذا ثبت هذا: فإن الرجل إذا طلق زوجته طلاقا رجعيا، ثم راجعها في عدتها.. فإنها تكون عنده على ما بقي له من عدد الطلاق.
وإن طلق امرأته ثلاثا، ثم تزوجها بعد زوج.. فإنه يملك عليها ثلاث تطليقات. وهذا إجماع لا خلاف فيه.

(10/265)


وإن أبان امرأته بدون الثلاث، بأن يطلق غير المدخول بها طلقة أو طلقتين، أو يطلق المدخول بها طلقة أو طلقتين بعوض، أو طلقها طلقة أو طلقتين بغير عوض ولم يراجعها حتى انقضت عدتها، ثم تزوجها قبل أن تتزوج زوجا غيره.. فإنها تكون عنده على ما بقي من عدد الثلاث، وهذا أيضا لا خلاف فيه. وإن تزوجها بعد أن تزوجت غيره.. فإنها تعود إليه - عندنا - على ما بقي من عدد الثلاث لا غير. وبه قال في الصحابة: عمر، وعلي، وأبو هريرة.
ومن الفقهاء: مالك، والأوزاعي، والثوري، وابن أبي ليلى، ومحمد بن الحسن، وزفر.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: (تعود إليه بالثلاث) . وروي عن ابن عباس مثل ذلك.

(10/266)


دليلنا: أن إصابة الزوج ليست شرطا في الإباحة للأول، فلم تؤثر في الطلاق، كإصابة السيد.
وبالله التوفيق.

(10/267)