البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب الإيلاء]

(10/269)


كتاب الإيلاء الإيلاء - في اللغة - هو: الحلف لا يتعلق بمدة مخصوصة. يقول الرجل: آليت لأفعلن كذا، أو لا فعلت كذا، أولي إيلاء وألية، وآلى إليه اليمين.

(10/271)


قال الشاعر:
فآليت لا آتيك إلا محرما ... ولا أبتغي جارا سواك مجاورا
وقال آخر:
ولا خير في مال عليه ألية ... ولا في يمين عقدت بالمآثم
وأما الإيلاء في الشرع فهو: أن يحلف أن لا يطأ امرأته مطلقا أو مدة معلومة، على ما يأتي وقد كان ذلك فرقة مؤبدة في الجاهلية.
وقيل: إنه عمل به في أول الإسلام، والأصح: أنه لم يعمل به في الإسلام فرقة. والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] [البقرة: 226] .
إذا ثبت هذا: فإن الإيلاء يصح من كل زوج بالغ عاقل قادر على الوطء.
فأما إذا حلف رجل على امرأة ليست له بزوجة.. انعقدت يمينه، ولا يصير موليا تتعلق به أحكام الإيلاء، فإن تزوجها وقد بقي من المدة أكثر من أربعة أشهر.. فقد قال القاضي أبو الطيب هل يصير موليا؟ فيه قولان، كما قلنا فيمن آلى من امرأته ثم أبانها، ثم تزوجها وقد بقيت مدة التربص:
أحدهما: يصير موليا. وبه قال مالك.
والثاني: لا يصير موليا.
وقال ابن الصباغ: لا يصير موليا قولا واحدا؛ لأن الإيلاء حكم من أحكام النكاح، فلم يصح من الأجنبية، كالطلاق.

(10/272)


ولا يصح إيلاء الصبي والمجنون؛ لأن يمينهما لا تنعقد.
وأما الخصي: فضربان: مسلول ومجبوب:
فأما (المسلول) فهو: الذي سلت خصيتاه وبقي ذكره، فيصح إيلاؤه؛ لأنه كالفحل في الجماع. وقيل: هو أقوى منه على الجماع، فيصح إيلاؤه، كالفحل.
وأما (المجبوب) : فإن كان بقي من ذكره ما يمكنه أن يطأ به، ويغيب منه قدر الحشفة في الفرج.. صح إيلاؤه؛ لأنه يقدر على الجماع به، فهو كمن له ذكر قصير.
وإن بقي ما يمكنه الجماع به، إلا أنه أقر أنه لا يقدر على الجماع به.. فهو كالعنين، ويضرب له أجل العنين، فإن جامع وإلا.. فسخ عليه النكاح.
وإن بقي له من الذكر ما لا يتمكن من الجماع به في العادة، أو جب من أصله.. فهل يصح إيلاؤه؟ فيه قولان:
أحدهما: يصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] [البقرة: 226] ، ولم يفرق بين المجبوب وغيره؛ لأن (المولي) هو الذي يمتنع من وطء امرأته باليمين مدة تزيد على أربعة أشهر، وهذا موجود فيه، فكان موليا.
والثاني: أنه لا يصح إيلاؤه؛ لأنه حلف على ترك ما لا يقدر عليه بحال، فلم تنعقد يمينه، كما لو حلف لا يصعد السماء.
ويصح إيلاء المريض والمحبوس؛ لأنه يقدر على وطئها في غير هذه الحالة، فانعقدت يمينه.
وإن آلى من الرتقاء والقرناء.. قال ابن الصباغ: فهل يصح إيلاؤه منها؟ فيه قولان، كإيلاء المجبوب.
وإن آلى من الصغيرة.. صح إيلاؤه قولا واحدا؛ لأنه قادر على وطئها.

(10/273)


ويصح إيلاء الزوج، سواء كان حرا أو عبدا، مسلما كان أو ذميا. وبه قال أبو حنيفة.
وقال أبو يوسف ومحمد: لا يصح إيلاء الذمي باليمين بالله، ويصح بالطلاق والعتاق.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] الآية [البقرة: 226] ، فعم ولم يخص. ولأن من صح طلاقه أو يمينه عند الحاكم.. صح إيلاؤه، كالمسلم.

[مسألة: الإيلاء بالله تعالى وماذا لو آلى بغيره تعالى أو بنذر أو قذف]
؟] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (والمولي من الحلف بيمين، تلزمه بها كفارة) .
وجملة ذلك: أنه إذا حلف بالله أن لا يطأ امرأته.. صار موليا. وهو إجماع لا خلاف فيه.
وإن حلف بغير الله، مثل أن قال: إن وطئتك فمالي صدقة، أو فعلي لله أن أتصدق بمالي، أو قال: فعبدي حر، أو فعلي أن أعتق عبدي، أو فأنت طالق، أو امرأتي الأخرى طالق.. فهل يصح إيلاؤه؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (لا يصح إيلاؤه) ، وبه قال أحمد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] [البقرة: 226] ، و (الإيلاء) : الحلف، والحلف إذا أطلق.. فإنما ينصرف إلى الحلف بالله؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف.. فليحلف بالله أو ليصمت» .

(10/274)


ولأنه قال تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] [البقرة: 226] وهذا يقتضي العفو عن الكفارة عند الفيئة، وذلك إنما يوجد في الحلف بالله دون غيره.
فعلى هذا: يكون حالفا، كما لو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، أو فعبدي حر، وإنما لا يتعلق به أحكام الإيلاء.
و [الثاني] : قال في الجديد: (يصح إيلاؤه) . وبه قال مالك وأبو حنيفة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] [البقرة: 226] ، و (الإيلاء) : الحلف، وهذا عام في الحلف بالله وبغيره. ولأنها يمين يلزمه بالحنث فيها حق، فصح إيلاؤه بها، كاليمين بالله. وهذا هو الأصح، وعليه التفريع.
إذا ثبت هذا: فإن قال: إن وطئتك فعلي لله أن أطلقك، أو أطلق امرأتي الأخرى.. لم يكن موليا؛ لأنه لا يلزمه بوطئها شيء؛ لأن هذا نذر، ونذر الطلاق لا يصح.
وإن قال: إن وطئتك فأنت زانية.. لم يكن موليا، وإن وطئها.. لم يكن قاذفا؛ لأن المولي هو الذي لا يمكنه أن يطأ امرأته إلا بضرر يدخل عليه، وهذا يقدر على وطئها بغير ضرر يدخل عليه؛ لأنه لا يصير بوطئه لها قاذفا، فلم يكن موليا.

[فرع: علق وطأها على صيام شهر]
] : وإن قال: إن وطئتك فعلي لله أن أصوم هذا الشهر.. لم يكن موليا؛ لأن المولي هو الذي لا يمكنه أن يطأها بعد أربعة أشهر إلا بضرر يلحقه، وهذا يمكنه أن يصبر هذا الشهر فلا يطؤها، ويمكنه الوطء بغير ضرر يلحقه، ويكون ناذرا نذر لجاج وغضب.

(10/275)


فإن وطئها بعد مضي هذا الشهر.. فلا شيء عليه. وإن وطئها في أثناء الشهر.. لم يلزمه صوم ما فات منه، وأما صوم ما بقي منه بعد الوطء.. فهو بالخيار: بين أن يصومه، وبين أن يكفر كفارة يمين، على ما مضى في النذر.
وإن قال: إن وطئتك فعلي لله أن أصوم شهرا.. صار موليا؛ لأنه إذا نكر الشهر.. لم يقتض شهرا بعينه، ولا يمكنه وطؤها بعد أربعة أشهر إلا بضرر يلحقه.
قال المسعودي [في " الإبانة] : إذا قال: إن وطئتك فلله علي أن أصوم الشهر الذي أطؤك فيه.. كان موليا، فإن وطئها في أثناء الشهر.. لزمه صوم بقية الشهر.
وهل يلزمه صوم بقية اليوم الذي وطئها فيه؟ على وجهين بناء على أنه إذا قال: علي لله أن أصوم هذا اليوم.. هل يلزمه؟ فيه وجهان:

[فرع: مظاهر علق عتق عبده على وطء امرأته]
] : وإن كان مظاهرا من امرأته ثم قال لامرأته: إن وطئتك فعبدي حر عن ظهاري، أو لم يعلم أنه كان مظاهرا ثم قال ذلك.. فإنه يكون إقرارا منه بالظهار، ويكون موليا في الحال؛ لأنه لا يمكنه وطؤها إلا بضرر يلحقه، وهو عتق العبد المعين.
فإذا مضت مدة التربص، فإن طلقها.. أوفاها حقها ولم يعتق العبد، وإن وطئها.. عتق العبد، وهل يجزئه عن الظهار؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجزئه؛ لأنه عتق عبده بعد عقد الظهار، عن الظهار فأجزأه، كما لو أعتقه عن الظهار.
والثاني: أنه لا يجزئه؛ لأن عتقه وقع مشتركا بين الظهار وبين الحنث عن الإيلاء، فلم يجزئه عن الظهار.
وإن قال لامرأته: إن وطئتك فلله علي أن أعتق عبدي عن ظهاري، وهو مظاهر.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (إنه يكون موليا) .
ونقل المزني: (أنه لا يكون موليا) - وبه قال المزني وأبو حنيفة وأصحابه - لأنه لا يملك تعيين عتق في ذمته في عبد بعينه، فلم تنعقد يمينه، كما لو كان عليه

(10/276)


صوم يوم، فقال: إن وطئتك فعلي أن أصوم يوم الخميس عن اليوم الذي في ذمتي.
وقال أصحابنا: يكون موليا قولا واحدا؛ لأنه لا يمكنه وطؤها إلا بضرر يلحقه وهو عتق هذا العبد، فصار موليا، كما لو قال: إن وطئتك فعلي لله أن أعتق هذا العبد.
وأما الصوم: فقد قال بعض أصحابنا: إنه يتعين بالنذر، كالعتق.
وقال أكثر أصحابنا: لا يتعين، وهو المنصوص؛ لأن الصوم الواجب لا تتفاضل فيه الأيام، والرقاب تختلف وتتفاضل لتفاضل أثمانها. وأما ما نقله المزني: فقد قال بعض أصحابنا: أخطأ في النقل، ولا يعرف هذا للشافعي.
ومنهم من قال: إنما نقله على قوله القديم: (أنه لا يصح الإيلاء إلا بالله تعالى) .
وإذا ثبت هذا: وانقضت مدة التربص، فإن طلقها.. فقد أوفاها حقها، ولا يتعين عليه عتق العبد عن الظهار.
وإن وطئها.. فقد حنث في نذره، فيكون بالخيار: بين أن يكفر كفارة يمين ثم إن شاء أعتق العبد المنذور عن الظهار وإن شاء أعتق غيره، وبين أن يفي بنذره فيعتق هذا العبد عن نذره.
فإذا أعتقه.. فهل يجزئه عن ظهاره؟ فيه وجهان مضى ذكرهما.
إذا تقرر هذا: فذكر في " المهذب ": إذا قال: إن وطئتك فسالم حر عن ظهاري، وهو مظاهر.. فهو مول.
وقال المزني: لا يكون موليا؛ لأن ما وجب عليه.. لا يتعين بالنذر.
وسائر أصحابنا إنما ذكروا خلاف المزني فيه، إذا قال: إن وطئتك فعلي لله أن أعتق عبدي عن ظهاري، على ما مضى، وهو المنصوص في " المختصر "، وتعليل الشيخ أبي إسحاق يدل عليه.

(10/277)


[فرع: علق عتق عبده على وطئه زوجته إن تظاهرت]
] : وإن قال لامرأته: إن وطئتك فعبدي حر عن ظهاري إن تظاهرت، أو قال لها: إن تظاهرت فعبدي حر عن ظهاري إن وطئتك.. فإنه لا يكون موليا قبل الظهار؛ لأنه علق عتق عبده بصفتين: بالظهار والوطء، فلا يعتق قبل وجودهما. وإذا كان كذلك.. فإنه يمكنه وطؤها قبل الظهار من غير ضرر يلحقه، فلم يكن موليا في الحال، كما لو قال: إن دخلت الدار ووطئتك فعبدي حر.
إذا ثبت هذا: فإن وطئها قبل أن يظاهر.. لم يلزمه شيء. وإن ظاهر قبل أن يطأها.. صار موليا؛ لأنه لا يقدر على وطئها إلا بضرر يلحقه وهو عتق هذا العبد، فصار كما لو قال: إن وطئتك فعبدي حر.
فإذا مضت مدة التربص، فإن طلقها.. فقد أوفاها حقها، وإن وطئها.. عتق العبد؛ لأنه وجد شرط عتقه، ولا يجزئه عن الظهار، بلا خلاف بين أصحابنا. واختلفوا في علته:
فقال أبو إسحاق، وأكثر أصحابنا: لا يجزئه؛ لأنه علق عتقه عن الظهار قبل الظهار، فلم يجزئه عن الظهار.
وقال أبو علي بن أبي هريرة: لا يجزئه؛ لأنه جعله مشتركا بين الحنث بالوطء، والإعتاق للتكفير. والأول أصح. ومن هذين التعليلين خرج الوجهان في التي قبل هذه. هذا ترتيب الشيخ أبي حامد.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا ظاهر منها.. صار موليا، وهل يصير موليا قبل الظهار؟

(10/278)


من أصحابنا من قال: فيه قولان، بناء على أنه لو قال: والله لا أطؤكن.. فهل يصير موليا من كل واحدة منهن؟ على قولين.
ومنهم من قال: لا يصير موليا قولا واحدا.

[فرع: علق عتق عبده على ما قبل وطئه بشهر]
] : قال الطبري: وإن قال: إن وطئتك فعبدي حر قبل وطئي إياك بشهر.. فلا تحتسب عليه مدة الإيلاء حتى يمضي شهر من وقت تلفظه بهذا؛ لأنه لو وطئ قبل شهر.. لم يعتق العبد، فإذا مضى شهر.. صار موليا، ثم إذا مضت مدة التربص.. فهل يطالب بالفيئة؟
قال القفال: لا يطالب حتى يمضي شهر آخر.
وقال غيره: يطالب بالفيئة؛ لأنه إذا طلق.. لم يستند الطلاق إلى ما قبله.
وإذا صار موليا بعد مضي شهر، وباع ذلك العبد.. لم يسقط حكم الإيلاء حتى يمضي شهر، وذلك لأنه لو وطئها قبل مضي شهر.. بان أنه باع حرا.

[فرع: حرم زوجته إن أصابها]
إذا قال لامرأته: إن أصبتك فأنت علي حرام، فإن نوى به الطلاق أو الظهار أو تحريم عينها.. كان موليا على قوله الجديد. وإن قلنا: إنه كناية.. لم يكن موليا.
وإن قال: أنت علي حرام، ثم قال: نويت إن أصبتك فأنت علي حرام.. فقد قال أكثر أصحابنا: لا يقبل منه في الحكم، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأن ظاهر لفظه يوجب الكفارة في الحال، فلم يقبل قوله فيما يقتضي تأخيرها، كما لو قال لامرأته: أنت طالق، ثم قال: أردت إذا دخلت الدار.
وقال ابن الصباغ: يقبل قوله؛ لأن الكفارة لا يطالب بها الحاكم، فلا معنى لإيجاب ذلك في الحكم وهو مقر بالإيلاء، فيلزمه حكم إقراره، ويثبت للمرأة مطالبته بعد مدة التربص.

(10/279)


[فرع: يولي الرجل في الرضا والغضب]
] : ويصح الإيلاء في حال الغضب والرضا.
وحكي عن ابن عباس: أنه قال: (لا يصح في حال الرضا، وإنما يصح في حال الغضب) .
وقال مالك: (إنما يصح في حال الرضا إذا كان للإصلاح، مثل أن يحلف لأجل ولده) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] الآية [البقرة: 226] ، ولم يفرق بين حال الرضا والغضب.

[مسألة: حلف على عدم الجماع في الدبر أو إلا فيه]
] : وإن قال: والله لا جامعتك في دبرك.. فهو محسن وليس بمول؛ لأن المولي هو الذي يمتنع من وطء امرأته بيمين، وترك الجماع في الدبر واجب، فلم يكن موليا بذلك.
وإن قال: والله لا وطئتك إلا في الدبر.. كان موليا؛ لأنه حلف على ترك وطئها في القبل، وذلك مما يضر بها.

(10/280)


[مسألة: أنواع الصريح والكناية في الإيلاء]
] : قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: (ولا يلزمه الإيلاء حتى يصرح بأحد أسماء الجماع التي هي صريحة فيه) .
وجملة ذلك: أن الألفاظ التي تستعمل في الإيلاء على أربعة أضرب:
أحدها: ما هو صريح في الإيلاء ظاهرا وباطنا، وذلك قوله: والله لا أنيكك، ولا أغيب ذكري في فرجك، أو لا جامعتك بذكري، أو لا أقتضك بذكري وهي بكر، فإذا قال ذلك.. كان موليا سواء نوى به الإيلاء أو لم ينو؛ لأنه لا يحتمل غير الجماع لغة وشرعا.
فإن قال: لم أرد به الإيلاء.. لم يقبل منه في الظاهر والباطن؛ لأنه يدعي خلاف الظاهر.
والضرب الثاني: ما هو صريح في الإيلاء في الحكم، وذلك قوله: والله لا جامعتك، أو لا وطئتك، فإذا قال ذلك.. كان موليا في الحكم؛ لأنه مستعمل فيه في العرف.
فإن قال: لم أرد به الجماع في الفرج، وإنما أردت بالجماع الاجتماع والموافقة، وبالوطء الوطء بالرجل.. لم يقبل في الحكم؛ لأنه يدعي خلاف الظاهر، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأن ما قاله محتمل في اللغة.
وإن قال: والله، لا أقتضك - وهي بكر - ولم يقل: بذكري.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول الشيخ أبي حامد -: أنه صريح في الإيلاء ظاهرا وباطنا كالقسم الأول؛ لأنه لا يحتمل غير الاقتضاض بالذكر.
والثاني - وهو قول القاضيين: أبي حامد وأبي الطيب، وأبي علي السنجي، واختيار ابن الصباغ -: أنه صريح في الإيلاء في الحكم. فإن ادعى: أنه لم يرد الجماع

(10/281)


بالذكر.. لم يقبل في الحكم، ويدين فيه؛ لأنه يحتمل الاقتضاض بالأصبع.
الضرب الثالث: ما لا يكون إيلاء إلا بالنية، وذلك كقوله: والله لا يتوافق رأسي ورأسك، أو لا اجتمع رأسي ورأسك، أو لا جمعني وإياك بيت، أو لا دخلت عليك، أو لا دخلت علي، أو لأسوءنك، أو لأغيظنك، أو ما أشبه ذلك، فإن نوى به الجماع بالذكر.. كان موليا؛ لأنه يحتمل ذلك. وإن لم ينو به ذلك.. لم يكن موليا؛ لأن هذه الألفاظ لا تستعمل فيه غالبا.
الضرب الرابع: اختلف فيه قول الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وهو قوله: والله لا باشرتك، أو والله لا لامستك، أو لا أفضي إليك.
فقال في القديم: (وهو صريح في الإيلاء في الحكم، كقوله: والله لا وطئتك، أو لا جامعتك) ؛ لأن القرآن ورد بهذه الألفاظ، والمراد به: الجماع. قال الله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] يعني: جامعتم. وقال: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] [البقرة: 187] . وقال: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ} [النساء: 21] [النساء: 21] .
فإن قال: لم أرد به الوطء.. لم يقبل في الحكم، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يحتمل ما يدعيه.
وقال في الجديد: (هي كناية، فلا يكون موليا إلا أن ينوي به الجماع) . وهو الأصح؛ لأن هذه الألفاظ تحتمل الجماع وغيره، فهو كقوله: لا اجتمع رأسي ورأسك.
وإن قال: والله لا أصبتك.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان، كقوله: لا لامستك، أو لا باشرتك.
ومنهم من قال: هو كناية قولا واحدا، كقوله لا اجتمع رأسي ورأسك.
وقال الشيخ أبو حامد: هو صريح في الإيلاء في الحكم قولا واحدا، كقوله: لا جامعتك، ولا وطئتك.
وإن قال: والله لا لمستك، أو لا غشيتك، أو لا باضعتك، أو لا قربتك.. فمن أصحابنا من قال: فيه قولان، كقوله: لا باشرتك.

(10/282)


ومنهم من قال: هو كناية قولا واحدا، كما لو قال: لا اجتمع رأسي ورأسك.
وإن قال: والله لا كسوتك، أو لا أطعمتك، أو لا أخرجتك من داري.. لم يكن موليا بصريح وكناية؛ لأن ذلك لا يتضمن ذكر الجماع.

[فرع: الحلف على ما يلزم منه الإيلاء أو عدمه]
] : وإن قال: والله لا غيبت الحشفة في الفرج.. كان موليا؛ لأن ما دون ذلك.. ليس بجماع تام، فهو كما لو قال: والله لا وطئتك.
وإن قال: والله لا جامعتك إلا جماعا ضعيفا.. لم يكن موليا؛ لأنه لم يمنع نفسه من جماعها، وإنما منع نفسه من الجماع القوي، والجماع الضعيف كالقوي في الحكم.
وإن قال: والله لا جامعتك إلا جماع سوء.. سئل عن ذلك، فإن قال: أردت لا جامعتها إلا في دبرها.. كان موليا؛ لأنه حلف أن لا يطأها في قبلها وذلك هو الإيلاء. وإن قال: أردت لا غيبت الحشفة في فرجها.. كان موليا؛ لأن تغييب ما دون الحشفة ليس بجماع تام. وإن قال: أردت لا جامعتها إلا جماعا ضعيفا.. لم يكن موليا؛ لأن الجماع الضعيف كالقوي في الحكم. وإن قال: والله لأجامعنك جماع سوء.. لم يكن موليا؛ لأنه لم يحلف أنه لا جامعها، وإنما حلف ليجامعنها جماع سوء، وذلك لا يتضمن ترك جماعها.

[فرع: القسم على أنه لا يغتسل أو لا يجنب منها]
] : وإن قال: والله لا أغتسل منك، أو لا أجنب منك.. سئل، فإن قال: أردت أني لا أرى الغسل والجنابة من التقاء الختانين، أو أردت أني أطأ غيرك. قبلك ثم

(10/283)


أطؤك، أو أردت أني حلفت على الغسل دون الجماع.. لم يكن موليا. وإن قال: أردت لا أجامعك.. كان موليا.

[مسألة: مدة الإيلاء الشرعي عندنا]
] : و (الإيلاء الشرعي) عندنا هو: أن يحلف أن لا يطأ امرأته أكثر من أربعة أشهر.
وإن حلف أن لا يطأها أربعة أشهر، أو ما دون ذلك.. لم يكن موليا في الشرع، وكان حالفا، وبه قال مالك، وأحمد، وأبو ثور.
وروي عن ابن عباس: أنه قال: (لا يكون موليا حتى يحلف أن لا يطأها أبدا) ، أو يطلق ولا يقدره بمدة.
وقال أبو حنيفة: (إذا حلف أن لا يطأ أربعة أشهر.. كان موليا) .
وقال النخعي والحسن البصري وابن أبي ليلى وقتادة: إذا حلف أن لا يطأها يوما أو يومين، أو أقل أو أكثر.. كان موليا.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] [البقرة: 226] . فموضع الدليل فيها على ابن عباس: أن الله تعالى جعل لكل من آلى من امرأته أن يتربص أربعة أشهر، ولم يفرق بين أن يولي عنها أبدا أو مدة دونها.
وموضع الدليل على أبي حنيفة والنخعي والبصري: أن الله تعالى جعل للمولي أن يتربص أربعة أشهر، ثم قال: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] [البقرة: 226] وهذا يقتضي عفوه عن الكفارة بعد مدة التربص، والكفارة لا تجب إلا إذا كانت اليمين باقية. ولأن المولي هو الذي منع نفسه باليمين من وطء امرأته وقصد الإضرار بها، والإضرار لا يلحقها في ترك وطئها ما دون أربعة أشهر، لما روي: (أن عمر بن

(10/284)


الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اجتاز في موضع من المدينة ليلا، فسمع امرأة تقول:
تطاول هذا الليل وازور جانبه ... وليس إلى جنبي خليل ألاعبه
وروي:
[ألا طال هذا الليل] واخضل جانبه ... وأرقني أن لا خليل ألاعبه
فوالله لولا الله لا رب غيره ... لزعزع من هذا السرير جوانبه
مخافة ربي والحياء يكفني ... وأكرم بعلي أن تنال مراكبه
فسألها عمر عن حالها، فأخبرته: أن زوجها قد بعثه إلى الجهاد، فلما كان من الغد.. سأل عمر نسوة: كم تصبر المرأة عن زوجها؟ فقلن: شهرين، ويقل صبرها في ثلاثة أشهر، ويفنى الصبر في أربعة أشهر، فضرب لهم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مدة أربعة أشهر، فكلما قام الرجل في الغزو أربعة أشهر.. قدم إلى أهله، وذهب مكانه غيره، وكتب إلى أمراء الجنود: أن لا يحبس الرجل عن امرأته أكثر من أربعة أشهر) .

(10/285)


إذا ثبت هذا: فقال لامرأته: والله لا وطئتك.. كان موليا؛ لأن إطلاقه يقتضي التأبيد.
وإن قال: والله لا وطئتك مدة، أو والله لأطولن تركي لجماعك، أو ليطولن عهدك بجماعي.. فإن هذا صريح في الجماع، ولكن المدة وطولها تحتمل القليل والكثير.
فإن قال: أردت به ما زاد على أربعة أشهر.. كان موليا. وإن قال: أردت به أربعة أشهر فما دونها.. لم يكن موليا؛ لأنه يحتمل الجميع احتمالا واحدا، فكان المرجع إليه؛ لأنه أعلم بما أراد.
وإن قال: والله لتطولن غيبتي عنك.. فإنه كناية في الجماع والمدة.
فإن قال: لم أرد به ترك الجماع.. لم يكن موليا، ولا حالفا عن الجماع. وإن قال: أردت به ترك الجماع في أربعة أشهر وما دونها.. لم يكن موليا وكان حالفا. وإن قال: أردت به ترك الجماع في مدة تزيد على أربعة أشهر.. كان موليا.
وإن قال: والله لا اجتمع رأسي ورأسك، أو لا دخلت عليك، أو لا دخلت علي، وقال: أردت به ترك الجماع.. فإنه يستغرق الزمان ويكون موليا.
وإن قال: والله لأغيظنك، أو لأسوءنك.. فهو كناية في الجماع. فإن لم ينو

(10/286)


الجماع.. لم يكن موليا. وإن نوى به الجماع.. قال الشيخ أبو حامد: فإنه يكون صريحا في استغراق الزمان، فيكون موليا.
وقال ابن الصباغ: لا يكون موليا، إلا أن ينوي بذلك ترك الجماع في مدة تزيد على أربعة أشهر؛ لأن غيظها قد يكون بترك الجماع فيما دون ذلك.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : وإن قال: إذا مضت خمسة أشهر فوالله لا أطؤك.. لم يصر موليا حتى تمضي خمسة أشهر.

[فرع: حلف أن لا يجامع خمسة أشهر وحلف إذا انقضت لا يطؤها سنة]
] : وإن قال: والله لا وطئتك خمسة أشهر فإذا انقضت فوالله لا وطئتك سنة.. فإن هذا إيلاءان، وجد زمان أحدهما، فلا يدخل حكم أحدهما في الآخر؛ لأنه أفرد كل واحد بيمين، فيضرب له مدة التربص للإيلاء الأول من حين العقد. فإذا انقضت مدة التربص، فإن وطئها.. أوفاها حقها، وإن انقضت الخمسة الأشهر.. ضربت له مدة التربص للإيلاء الثاني.
وإن لم يطأها للإيلاء الأول ولكن طلقها.. فقد أوفاها حقها. فإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها.. فقد بانت منه. وإن راجعها وقد بقي من السنة بعد الخمسة الأشهر أربعة أشهر فما دون.. لم تضرب له المدة، وإن بقي منها ما زاد على أربعة أشهر.. ضربت له المدة للإيلاء الثاني.
وإن لم يطأها للإيلاء الأول ولا طلقها، ولكن دافعها حتى انقضت الخمسة الأشهر.. فقد بر في اليمين الأولى، وليس لها أن تطالبه بعد ذلك بوطء ولا طلاق للإيلاء الأول؛ لأن زمانه قد انقضى، وإنما تضرب له مدة التربص للإيلاء الثاني. فإن وطئها.. أوفاها حقها. وإن طلقها.. أوفاها حقها، فإن لم يراجعها حتى انقضت

(10/287)


عدتها.. فلا كلام. وإن راجعها وقد بقي من السنة أربعة أشهر فما دون.. لم يعد حكم الإيلاء؛ لأنه لم يبق من الزمان ما يكون فيه موليا.
وإن بقي منها أكثر من أربعة أشهر.. كان موليا؛ لأنه ممتنع من وطئها بعقد يمين، فيتربص أربعة أشهر، فإذا مضت.. طولب بالفيئة أو الطلاق. فإن دافع حتى انقضت السنة.. خرج من الإيلاء وبر في يمينه.

[فرع: آلى أن لا يطأ خمسة أشهر ثم قال: سنة وصور أخر]
] : وإن قال: والله لا وطئتك خمسة أشهر ثم قال: والله لا وطئتك سنة.. فهما يمينان، إلا أن كل واحدة منهما تكون مدتها من حين اليمين.
وحكى ابن الصباغ: أن من أصحابنا من قال: يستأنف السنة بعد انقضاء الخمسة الأشهر، كالتي قبلها؛ لأن الخمسة الأشهر قد تعلقت بها اليمين الأولى، فلا تحمل الثانية على التكرار.
والأول أصح؛ لأن اليمين الثانية أفادت زيادة على المدة الأولى.. فدخلت الأولى في الثانية، كما لو قال: له علي مائة درهم، ثم قال: له علي ألف درهم.. فإن المائة تدخل في الألف.
إذا ثبت هذا: فإنه تضرب له مدة التربص أربعة أشهر.
فإن وطئها قبل انقضاء الخمسة الأشهر.. فقد حنث في يمينه، فإذا أوجبنا عليه الكفارة في الحنث بالأولى.. فهل تجب هاهنا كفارة أو كفارتان؟ فيه قولان، يأتي ذكرهما في (الأيمان) .
وإن وطئها بعد انقضاء الخمسة الأشهر.. وجبت عليه كفارة واحدة.
وإن طلقها.. فقد سقط حكم الإيلاء في اليمين الأولى، سواء راجعها أو لم يراجعها.
وأما اليمين الثانية: فإن لم يراجعها.. فلا كلام. وإن راجعها وقد بقي من السنة أربعة أشهر فما دون.. لم يعد حكم الإيلاء.

(10/288)


وإن بقي أكثر من أربعة أشهر.. ضربت له مدة التربص ثانية، ثم يطالب بالفيئة أو الطلاق. فإن امتنع عن الطلاق أو الفيئة حتى انقضت السنة.. فقد أساء، وبر في اليمين.
وإن قال: والله لا وطئتك أربعة أشهر فإذا انقضت فوالله لا وطئتك أربعة أشهر.. فهل يكون موليا؟ فيه وجهان:
أحدهما: يكون موليا؛ لأنه امتنع من وطئها ثمانية أشهر بالحلف، فهو كما لو حلف: أن لا يطأها ثمانية أشهر.
والثاني: لا يكون موليا، بل يكون حالفا، وهو الأصح؛ لأن حكم إحدى اليمينين لا يبنى على الأخرى، وكل يمين تقصر مدتها عن مدة الإيلاء الشرعي.. فهو كما لو قال: والله لا وطئتك أربعة أشهر.
وإن قال: والله لا وطئتك أربعة أشهر فإذا انقضت فوالله لا وطئتك خمسة أشهر، فإذا انقضت فوالله لا وطئتك أربعة أشهر.. فعلى الوجه الأول: يكون موليا عقيب اليمين. وعلى الثاني: لا يكون موليا في الأربعة الأشهر الأولى إيلاء شرعيا، ولكن يكون فيها حالفا. فإذا مضت أربعة أشهر.. كان موليا في الخمسة الأشهر إيلاء شرعيا، فإذا انقضت.. لم يكن موليا في الأربعة الأشهر بعدها، ولكن يكون حالفا.

[مسألة: تعليق الإيلاء على شرط الوطء]
] : إذا قال لامرأته: إن وطئتك فوالله لا وطئتك.. ففيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (يكون موليا في الحال) ؛ لأن المولي هو الذي يمنع نفسه من وطء امرأته خوف الضرر بالحنث، وهذا يمتنع من وطئها خوفا أن يصير موليا، فكان موليا.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يكون موليا في الحال) ؛ لأنه علق الإيلاء بشرط

(10/289)


قبله، فما لم يوجد الشرط.. لم يوجد الإيلاء، كما لو قال: إن دخلت الدار فوالله لا وطئتك.
فعلى هذا: إذا وطئها.. صار موليا؛ لأنه قد وجد شرط الإيلاء.
وإن قال: والله لا وطئتك سنة إلا مرة.. ففيه قولان، كالأولى:
[أحدهما] : قال في القديم: (يصير موليا في الحال) ؛ لأنه يمتنع من وطئها خوفا أن يوجد شرط الإيلاء، فصار موليا.
والثاني: لا يصير موليا في الحال؛ لأنه يقدر على وطئها من غير حنث يلزمه.
فعلى هذا: إذا وطئها وقد بقي من السنة أكثر من أربعة أشهر.. ضربت له مدة التربص، وإن بقي منها أربعة أشهر فما دون.. لم يصر موليا إيلاء شرعيا، ويكون حالفا.

[مسألة: علق الإيلاء على شرط مستحيل أو ممكن]
] : فإن قال: والله لا وطئتك أبدا.. كان موليا؛ لأن أبد الإنسان مدة عمره، فكأنه قال: والله لا وطئتك ما عشت.
وإن قال: والله لا وطئتك حتى تصعدي إلى السماء أو تطيري.. كان موليا؛ لأنه علق الإيلاء على شرط يستحيل وجوده، فهو كما لو قال: والله لا وطئتك أبدا.
وإن قال: والله لا وطئتك إلى يوم القيامة.. كان موليا؛ لأنا نتيقن أن القيامة لا تقوم من هذا الوقت إلى أربعة أشهر فما دون، وإنما تقوم لأكثر من ذلك؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أخبر أن لها علامات: مثل خروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج

(10/290)


الدجال، ونزول عيسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذلك لا يوجد إلا في مدة تزيد على أربعة أشهر.
وكذلك إذا قال: والله لا وطئتك حتى أذهب إلى الصين وأجيء، وهو من الصين في موضع لا يمكنه أن يذهب إليها ويجيء إلا في مدة تزيد على أربعة أشهر.. فإنه يكون موليا؛ لأنا نتيقن أن ذلك لا يوجد منه إلا في مدة تزيد على أربعة أشهر، فهو كما لو قال: والله لا وطئتك إلى يوم القيامة.
وإن قال: والله لا وطئتك حتى يخرج الدجال، وينزل عيسى ابن مريم.. كان موليا؛ لأن الظاهر أن ذلك لا يوجد إلا في مدة تزيد على أربعة أشهر.
وكذلك إذا قال: والله لا وطئتك حتى أموت أو تموتي.. كان موليا؛ لأن الظاهر بقاؤهما أكثر من أربعة أشهر، فهو كما لو قال: ما عشت أو ما عشنا.
وإن قال: والله لا وطئتك حتى يموت فلان.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال القفال: يكون موليا، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق؛ لأن الظاهر بقاؤه أكثر من أربعة أشهر، فهو كما لو قال: حتى أموت.
والثاني - حكاه الطبري عن الشيخ أبي حامد -: أنه لا يكون موليا؛ لأنه لا يتيقن

(10/291)


بقاؤه أكثر من أربعة أشهر بخلاف قوله: حتى أموت؛ فإن الإنسان يستبعد موت نفسه، ولهذا يطول أمله.
وإن قال: والله لا وطئتك حتى يفسد هذا الطبيخ، أو حتى يجف هذا الثوب، وما أشبه ذلك.. لم يكن موليا؛ لأنه يتيقن أن ذلك يوجد في أقل من أربعة أشهر.
وإن قال: والله لا وطئتك حتى يقدم الحجيج، وقد بقي إلى وقت قدومهم أربعة أشهر فما دون، أو حتى يقدم فلان ومن عادته أنه يقدم إلى أربعة أشهر.. لم يكن موليا؛ لأن الظاهر وجود ذلك فيما دون أربعة أشهر.
وإن قال: والله لا وطئتك حتى يقدم فلان، وهو على مسافة قد يقدم على أربعة أشهر فما دون، وقد يقدم فيما زاد على أربعة أشهر، وليس أحدهما بأولى من الآخر.. لم يكن موليا؛ لأنه لم يعلق الإيلاء على شرط يتيقن وجوده فيما زاد على أربعة أشهر، ولا أن الظاهر أنه لا يوجد إلا فيما زاد على أربعة أشهر، فلم يكن موليا. ولأن الأصل عدم الإيلاء.
إذا ثبت هذا: فإن تأخر الحجيج أو فلان، فقدم بعد أربعة أشهر من وقت اليمين.. فإنه لا يكون موليا، ولا تضرب له مدة التربص؛ لأنا لم نحكم عليه بالإيلاء حال عقد اليمين. هذا نقل الشيخ أبي حامد.
وقال القفال: فيه وجهان:
أحدهما: هذا.
والثاني: تبين أنه صار موليا.

[فرع: تعليق الوطء إلى وقت الفطام]
] : فإن قال: والله لا وطئتك حتى تفطمي ولدك.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الأم ": (لا يكون موليا) . ونقل المزني: (أنه يكون موليا) .
قال أصحابنا: لا يعرف ما نقله المزني، فإن صح ما نقله.. فليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين، واختلفوا فيها:

(10/292)


فمنهم من قال: حيث قال: (لا يكون موليا) أراد إذا كان الصبي ابن سنة، وأراد بالفطام فعل الفطام، وقد يفطم مثله فيما دون أربعة أشهر.
وحيث قال: (يكون موليا) ، إذا أراد بالفطام بلوغ وقت الفطام، وذلك انتهاء الحولين من مولده.
ومنهم من قال: حيث قال: (لا يكون موليا) ، إذا كان الصبي مما يمكن فطامه قبل مضي مدة الإيلاء في العادة.
وحيث قال: (يكون موليا) ، إذا كان الصبي ابن يوم أو يومين، بحيث لا يمكن أن يفطم في العادة إلا في مدة تزيد على أربعة أشهر؛ لأنا نتحقق أنه لا يفطم إلا فيما زاد على أربعة أشهر. هذا مذهبنا.
وحكي عن مالك: أنه قال: (لا يكون موليا بحال؛ لأنه لم يقصد الإضرار بها، وإنما قصد منفعة ولدها) .
وهذا ليس بصحيح؛ لأنه حلف على ترك وطئها مدة تزيد على أربعة أشهر، فهو كما لو علقه بمدة، وما ذكره لا يصح؛ لأن الإضرار قد دخل عليها بحكم اليمين وإن لم يقصده، كما لو حلف أن لا يطأها خمسة أشهر وقصد به ليتوفر على الدرس والقراءة.

[فرع: تعليق الوطء لوقت الحبل]
] : وإن قال: والله لا وطئتك حتى تحبلي.. فنقل المزني: (أنه يكون موليا) .
وقال أصحابنا: ينظر فيها: فإن كانت من الصغار اللاتي نتيقن أنهن لا يحبلن مثل ابنة خمسة سنين وسبع.. كان موليا؛ لأنا نتيقن أنها لا تحبل إلا بعد مدة تزيد على أربعة أشهر. وكذلك: إذا كانت من النساء الآيسات.. كان موليا؛ لأنا نتيقن أنها لا تحبل. وهكذا: إن كانت صغيرة إلا أنها في سن يجوز أن تحبل مثلها فيه، مثل ابنة تسع سنين.. فإنه يكون موليا؛ لأنها وإن كانت في سن يجوز فيه أن تحبل إلا أن الظاهر أنها لا تحبل؛ لأن من يحبل في مثل هذا السن نادر.

(10/293)


وإن كانت من ذوات الأقراء.. فإنه لا يكون موليا؛ لأنها قد تحبل في أربعة أشهر فما دون، أو في أربعة أشهر فما زاد، فليس لوجود حملها ولا لعدمه ظاهر، فلم يكن موليا، كما لو قال: والله لا وطئتك حتى تمرضي أو أمرض.

[مسألة: علق وطأها إلى أن يخرجها من بلدها]
] : وإن قال: والله لا وطئتك حتى أخرجك من هذا البلد.. لم يكن موليا؛ لأنه يمكنه وطؤها من غير ضرر يلحقه، وهو أن يخرجها من ذلك البلد، فهو كما لو قال: والله لا وطئتك على هذا السرير، أو في هذا البيت.
فإن قيل: فقد قلتم: إنه إذا قال: إن وطئتك فعبدي حر.. إنه يكون موليا، وقد كان يمكنه وطؤها من غير ضرر يلحقه، وهو أن يبيع العبد ثم يطأها؟
فالجواب: أنه قد يلحقه الضرر ببيع العبد؛ بأن يكون محتاجا إليه، أو لا يبتاع منه إلا بدون ثمن مثله.

[فرع: علق جماعها على رضاها]
] : وإن قال: والله لا وطئتك إلا برضاك.. لم يكن موليا؛ لأنه لا تتوجه عليه المطالبة إلا وهي راضية، فلا تكون يمينه مانعة من الوطء.

[فرع: علق قربها على مشيئتها]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (لو قال: والله لا أقربك إن شئت، فشاءت في المجلس.. فهو مول) .
وجملة ذلك: أنه إذا قال لها: والله لا أقربك إن شئت.. فقد عقد الإيلاء وعلقه بمشيئتها أن لا يقربها. فإن قالت في الحال، بحيث يكون جوابا لكلامه: شئت أن لا تقربني.. كان موليا. وإن أخرت المشيئة حتى قامت من المجلس.. لم يكن موليا؛ لأنه لم يوجد شرط الإيلاء. وإن شاءت في المجلس بعد يمينه بمدة طويلة،

(10/294)


إلا أنها لم تشتغل عنه بكلام غيره.. ففيه وجهان، كما قلنا فيه إذا قال لها: أنت طالق إن شئت.
فإن قيل: هلا قلتم: إنها إذا شاءت.. لا يكون موليا؛ لأنها رضيت بإسقاط حقها، كما قلتم في المريض إذا طلق امرأته برضاها: أنها لا ترث؟
قلنا: الفرق بينهما: أنه يقصد بالإيلاء الإضرار بها بترك الجماع باليمين، وقد حصل ذلك بيمينه، ويمكنه رفع تلك اليمين بالوطء، وإذا استدامها.. فقد حصل ذلك بيمينه، والمطلقة بمرض الموت إنما ورثت في قوله القديم؛ لأنه متهم في قطع ميراثها، فإذا حصل برضاها.. انتفت التهمة عنه، ولا يمكنه رفع ذلك الطلاق بعد وقوعه.
وإن قال لها: والله لا أقربك متى شئت.. فالمشيئة هاهنا على التراخي. فمتى قالت: شئت أن لا تقربني، ولو بعد زمان طويل من وقت اليمين.. كان موليا.
وإن قال: والله لا أقربك إن شئت أن أقربك، فإن قالت في الحال: شئت أن تقربني.. انعقدت يمينه، وصار موليا. وإن لم تشأ.. لم يكن موليا.
وإن قال: والله لا أقربك إلا أن تشائي، فإن شاءت في الحال.. لم يكن موليا. وإن أخرت المشيئة.. كان موليا؛ لأن مشيئتها قد بطلت.
وإن قال لها: والله لا وطئتك حتى تشائي.. لم يكن موليا.
والفرق بينهما: أنه قد جعل في هذه غاية اليمين مشيئتها، وقد تشاء في الحال، وقد لا تشاء.
وإن كانت اليمين معلقة بفعل، قد يوجد قبل مضي مدة الإيلاء وقد لا يوجد.. لم يكن موليا.
وليس كذلك إذا قال: إلا أن تشائي.. فإن يمينه مطلقة، وإنما استثنى منها مشيئتها، وإذا لم توجد مشيئتها.. كانت اليمين على إطلاقها.

(10/295)


[مسألة: أقسم على أربع بأن لا يقربهن]
] : وإن كان له أربع زوجات، فقال: والله لا أقربكن.. فقد منع نفسه من الأربع بيمين واحدة، فلا يحنث إلا بوطئهن جميعهن.
وأما إذا وطئ واحدة منهن أو اثنتين أو ثلاثة.. لم يحنث، كما لو قال: والله لا كلمت زيدا وعمرا وبكرا وخالدا.. فإنه لا يحنث إلا بكلامه لجميعهم.
وهل يصير موليا منهن كلهن في الحال؟
نقل المزني أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (يكون موليا منهن كلهن، ويوقف لكل واحدة منهن) .
وقال المزني: لا يكون موليا منهن كلهن؛ لأن أيتهن وطئ.. لم يحنث في يمينه.
واختلف أصحابنا فيها:
فقال الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق - وأكثر أصحابنا: المذهب ما قاله المزني: وأنه لا يكون موليا منهن كلهن؛ لأن المولي هو: من لا يقدر على الوطء إلا بضرر يلحقه، وهذا يمكنه أن يطأ ثلاثا منهن من غير ضرر يلحقه. فإن وطئ ثلاثا منهن.. صار موليا من الرابعة؛ لأنه لا يمكنه وطؤها إلا بضرر يلحقه، وهو الحنث من يمينه.
وتأولوا ما نقله: على أن كل واحدة منهن يصح أن يكون موليا عنها، ويصح أن يوقف لها، وهو إذا وطئ صواحبها الثلاث.
ومن أصحابنا من قال: هذا الذي نقله المزني على القول القديم، وهو: (أن كل وطء يقرب من الحنث.. يكون موليا فيه، ووطء كل واحدة منهن يقرب من الحنث) . وهذه طريقة المسعودي [في " الإبانة "] .
قال القاضي أبو الطيب: هذا ليس بصحيح؛ لأن الشافعي نص في " الأم " على أنه يكون موليا منهن، ومذهبه في " الأم " [5/253] : أن ما قرب من الحنث لا يكون موليا فيه.
ومن أصحابنا من قال: بل المذهب: ما نقله المزني، ويكون موليا منهن كلهن -

(10/296)


وبه قال أبو حنيفة وأحمد - لأنه منع نفسه من وطئهن بيمين بائنة فكان موليا، كما لو قال: والله لا أقرب كل واحدة منكن.
إذا ثبت هذا: فقد ذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بعد هذا ثلاث مسائل:
إحداهن: قال: (إذا وطئ اثنتين منهن.. خرج من حكم الإيلاء فيهما، وكان موليا من الباقيتين) .
فمن قال من أصحابنا بصحة ما نقله المزني.. قال هذا بناء عليه.
ومنهم من قال: ما نقله المزني متأول، قال: تأويل هذا: أنه إذا وطئ اثنتين منهن.. فقد خرجتا من حصول الحنث فيهما بوطئهما. ومعنى قوله: (كان موليا من الباقيتين) أي: يجوز أن يكون موليا من كل واحدة منهما، بأن يطأ إحداهما فيصير موليا من الأخرى.
الثانية: قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إذا طلق ثلاثا منهن.. كان موليا من الرابعة) .
فمن قال من أصحابنا بظاهر ما نقله المزني.. قال هذا بناء عليه؛ لأنه مول من كل واحدة منهن، فإذا طلق بعضهن.. أوفاهن حقهن، وكان موليا ممن لم يطلق، كما لو آلى منهن بأيمان.
ومن تأول منهم ما نقله المزني، قال: تأويل هذا: أن المطلقات قد خرجن من حكم الإيلاء بالطلاق، وأما الرابعة: فيجوز أن يكون موليا منها، بأن يتزوج المطلقات فيطأهن، أو يطأهن بشبهة أو زنا، فيحنث بوطء الرابعة، والوطء المحظور كالمباح في الحنث؛ ولهذا قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (لو قال لامرأته: والله لا وطئتك وفلانة الأجنبية.. لم يكن موليا من امرأته حتى يطأ الأجنبية) .
الثالثة: إذا ماتت واحدة من الأربع.. قال الشافعي: (خرج من الإيلاء فيها ومن غيرها؛ لأنه يجامع البواقي ولا يحنث) .

(10/297)


قال ابن الصباغ: وهذا لا خلاف فيه بين أصحابنا؛ لأن وطء الميتة قد تعذر:
فمن أصحابنا من قال: إنما تعذر؛ لأن وطأها لا يحصل به الحنث؛ لأنها خرجت بالموت من أن يتعلق بوطئها حق من حقوق الآدميين، ولهذا لا يجب به مهر.
ومنهم من قال: إنما تعذر؛ لأنها إذا دفنت.. فلا سبيل إلى وطئها بحال؛ لأنها تبلى وتتقطع أوصالها. وأما قبل الدفن.. فلم يبطل حكم الإيلاء؛ لأن اسم الوطء يقع عليه، ويجب به الغسل، فكذلك الكفارة.
وهذا يدل على أن الأصح لا يصير موليا منهن في الحال؛ لأنه لو كان موليا منهن.. لما بطل بموت واحدة منهن، كما لو أفرد كل واحدة منهن بيمين.

[فرع: قوله لزوجاته الأربع لا وطئت واحدة منكن وأراد كلهن أو صرح به]
] : وإن كان له أربع زوجات، فقال: والله لا وطئت واحدة منكن، وقال: أردتهن كلهن، صار موليا من كل واحدة منهن في الحال؛ لأن تقديره لا وطئتكن ولا واحدة منكن، ولا يمكنه وطء واحدة منهن إلا بضرر يلحقه، فكان موليا منهن في الحال.
إذا ثبت هذا: فإنه يتربص بهن أربعة أشهر، فأيتهن طالبته.. وقف لها، فإن طلقها.. فقد أوفاها حقها، ولم يسقط حق الباقيات. فإن طالبته الثانية فطلقها.. فقد أوفاها حقها، ولم يسقط حق الباقيتين. فإن طلق الثالثة.. لم يسقط حق الرابعة.
فإن لم يطلق، ولكن لما طالبته الأولى فوطئها.. فقد أوفاها حقها، وسقط حكم الإيلاء فيها وفي الباقيات. وكذلك إذا طلق الأولى ووطئ الثانية.. سقط حكم الإيلاء في الباقيات.
والفرق بين الطلاق والوطء: أنه إذا طلق بعضهن.. لم يحنث في يمينه، فكان الإيلاء باقيا في الباقيات. وإذا وطئ واحدة منهن.. فقد حنث في يمينه، ولزمته الكفارة، واليمين إذا حنث فيها.. سقطت؛ لأنها يمين واحدة، فهو كما لو قال: والله لا كلمت واحدة منكن، ثم كلم واحدة منهن.. فإنه يحنث، ويسقط حكم اليمين، وانحلت.

(10/298)


وإن قال: والله لا وطئت كل واحدة منكن.. فإنه يكون موليا من كل واحدة منهن؛ لأنه صرح بذلك، ويتربص لهن أربعة أشهر، ويوقف لكل واحدة منهن. فإن طلق بعضهن.. لم يسقط الإيلاء من الباقيات. وإن وطئ بعضهن.. فقد أوفى الموطوءة حقها، وهل يسقط الإيلاء في الباقيات؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يسقط؛ لأنه منع نفسه من وطء كل واحدة بالحلف، فإذا وطئ بعضهن.. لم يسقط الإيلاء في الباقيات، كما لو أفرد كل واحدة منهن بيمين.
والثاني - حكاه ابن الصباغ واختاره - أنه يسقط؛ لأنه حلف يمينا واحدة. فإذا وطئ واحدة منهن.. حنث في يمينه، وانحلت في الباقيات كالتي قبلها.

[فرع: حلف والله لا وطئت واحدة منكن]
] : وإن كان له أربع زوجات، فقال: والله لا وطئت واحدة منكن، وقال: لم أنو شيئا.. كان موليا منهن كلهن؛ لأن الظاهر أنه لا يطأ كل واحدة منهن على الانفراد، وقد مضى بيانها.
وإن قال: أردت واحدة منهن بعينها.. قبل منه في الحكم.
وحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال: لا يقبل منه في الحكم؛ لأنه خلاف الظاهر.
والأول أصح، وقد نص عليه الشيخ أبو حامد في " التعليق "؛ لأن قوله: (واحدة منكن) يحتمل واحدة بعينها، ويحتمل جميعهن، ويحتمل واحدة لا بعينها، وهو أعلم بما أراد من ذلك.
إذا ثبت هذا: فإنه يرجع إليه في بيان عين المولي منها. فإذا عين واحدة منهن.. كان موليا منها، وكان ابتداء المدة من حين اليمين.
فإن صدقته الباقيات.. فلا كلام. وإن قالت كل واحدة من الباقيات: بل أنا التي أردت الإيلاء منها.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أعلم بما أراد. فإن حلف لها.. فلا

(10/299)


كلام، وإن رد عليها اليمين فحلفت.. ثبت فيها حكم الإيلاء لنكوله ويمينها، وثبت بالأولى بإقراره.
وإن قال: أردت به واحدة منهن لا بعينها.. قبل منه؛ لأن ما قاله محتمل. فإن صدقته الباقيات على أنه أراد ذلك.. فله أن يعين الإيلاء ممن شاء منهن، فإذا عينه في واحدة.. فلا مطالبة للباقيات عليه ولا يمين عليه؛ لأنه اختيار شهوة. وهل يكون ابتداء مدة الإيلاء من حين اليمين، أو من حين التعيين؟ فيه وجهان، كما قلنا فيه إذا طلق واحدة لا بعينها ثم عينها: فمتى يقع عليها الطلاق؟
وإن قلن الباقيات أو بعضهن: أردت واحدة بعينها، أو إياي أردت بذلك.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه يحتمل أنه أراد ذلك، وهو أعلم بما أراد.

[مسألة: حلف لواحدة أنه لا يجامعها وقال للثانية أشركتك معها]
] : وإن كان له زوجتان - حفصة وعمرة - فقال لحفصة: والله لا وطئتك، ثم قال لعمرة: أشركتك معها.. لم يصر موليا من عمرة؛ لأن اليمين بالله إنما تنعقد باسم الله وصفته، ولا تنعقد بالكناية مع النية.
فإن قال لحفصة: إن وطئتك فأنت طالق، ثم قال لعمرة: أشركتك معها.. سئل عن ذلك، فإن قال: أردت أني إن وطئت عمرة كان ذلك مع وطء حفصة شرطا في طلاق حفصة.. كان ذلك لغوا؛ لأن طلاق حفصة قد صار معلقا بوطئها وحدها، فلا يفيد ضم وطء عمرة، كما لو قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم قال لها: إن دخلت الدار وكلمت زيدا فأنت طالق.. فإنه لا يفيد قوله: (وكلمت زيدا) حكما، بل إذا دخلت الدار.. طلقت، ولا يصير موليا من عمرة؛ لأنه لم يول منها.
وإن قال: أردت أني إذا وطئت عمرة وحدها طلقت حفصة.. كان موليا من عمرة؛ لأنه علق طلاق حفصة بوطء عمرة.. فتعلق به، كما لو قال لامرأته: إن وطئتك فأنت طالق، وإن وطئت ضرتك فأنت طالق.

(10/300)


وإن قال: أردت أني إذا وطئت عمرة فهي طالق أيضا.. صار موليا من عمرة أيضا؛ لأن الطلاق يقع بالكناية، وهذا كناية في الطلاق، فوقع الإيلاء به.

[مسألة: لا مطالبة بالفيئة إلا بعد أربعة أشهر عندنا]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا سبيل على المولي لامرأته حتى تمضي أربعة أشهر) .
وجملة ذلك: أنه إذا آلى إيلاء شرعيا، وهو: أن يحلف أن لا يطأ امرأته أكثر من أربعة أشهر.. فإنه يتربص أربعة أشهر، ولا مطالبة للزوجة عليه في مدة التربص بفيئة ولا طلاق إلى أن تنقضي. وبه قال عمر، وعلي، وابن عمر، وعائشة، وأكثر الصحابة. وإليه ذهب مالك وأحمد وإسحاق.

(10/301)


وقال ابن أبي ليلى والثوري وأبو حنيفة وأصحابه: (مدة التربص محل للمطالبة بالفيئة) . وبه قال زيد بن ثابت وابن عباس وابن مسعود.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] [البقرة: 226] .
فموضع الدليل من الآية: أن الله جعل مدة التربص حقا للزوج، وإذا كانت حقا له.. فلا يجوز أن تكون محلا لوجوب الحق عليه، كالأجل في الدين.
والدلالة الثانية منها: أن الله تعالى ذكر مدة التربص في الإيلاء، ثم عقب مدة التربص بذكر الفيئة - بالفاء - فقال: {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: 226] والفاء للتعقيب، فعلم أن محل المطالبة بالفيئة بعد مدة التربص.
إذا ثبت هذا: فلا فرق بين أن يكون المولي حرا أو عبدا، ولا فرق بين أن تكون الزوجة حرة أو أمة؛ فإن مدة التربص في الجميع أربعة أشهر.
وقال أبو حنيفة: (الاعتبار بالمرأة، فإن كانت حرة.. فمدة التربص أربعة أشهر، وإن كانت أمة.. فشهران) .
وقال مالك: (الاعتبار بالزوج، فإن كان حرا.. تربص أربعة أشهر، وإن كان عبدا.. تربص شهرين) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] [البقرة: 226] ، فجعل الله للمولي: أن يتربص أربعة أشهر، ولم يفرق بين الحر والعبد، والحرة والأمة. ولأنها مدة ضربت للوطء.. فاستوى فيها الجميع، كمدة العنة.

(10/302)


[فرع: الامتناع من الجماع من غير يمين]
] : وإن امتنع الرجل من وطء امرأته من غير يمين.. لم تضرب له مدة التربص. وبه قال أبو حنيفة.
وقال أحمد: (إذا قصد بامتناعه الإضرار بها.. ضربت له المدة) .
دليلنا: أنه لم يحلف على ترك وطئها.. فلم يكن موليا، كما لو لم يقصد الإضرار بها بالامتناع.

[فرع: مدة التربص لا تفتقر إلى حكم حاكم]
] : ولا يفتقر ضرب مدة التربص إلى الحاكم؛ لأنها ثبتت بالنص والإجماع، فلم يفتقر ضربها إلى الحاكم، كمدة العدة. ويكون ابتداؤها من حين اليمين؛ لأن ذلك أول وقت تقتضيه، فهو كالأجل في الثمن.

[فرع: ضرب المدة ووجود عذر يمنع الوطء]
] : وإن آلى منها وهناك عذر يمنع الوطء.. نظرت: فإن كان العذر من جهتها؛ بأن كانت صغيرة لا يمكن جماعها، أو مريضة مضناة من المرض، أو ناشزة، أو مجنونة، أو محرمة بحج أو عمرة، أو صائمة عن واجب، أو معتكفة عن واجب، أو محبوسة في موضع لا يمكنه الوصول إليها.. فإن المدة لا تحسب عليه ما دامت هذه الأعذار؛ لأنه لا يتمكن من وطئها لو أراده مع ذلك.
وإن طرأ شيء من هذه الأعذار في أثناء مدة التربص.. قطعها؛ لأنه إذا منع ابتداءها.. منع استدامتها. فإذا زال ذلك.. استؤنفت مدة التربص، ولم يبن على ما مضى منها قبل العذر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] [البقرة: 226] ، وذلك يقتضي تواليها، فإذا انقطعت.. وجب استئنافها، كمدة الشهرين في صوم التتابع. هذا نقل أصحابنا البغداديين.

(10/303)


وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يجب استئناف مدة التربص، أو يجوز البناء على ما مضى قبل العذر؟ فيه وجهان.
وإن آلى منها وهي حائض.. احتسبت المدة عليه. وكذلك إذا طرأ الحيض في أثناء مدة التربص.. لم يقطعها؛ لأن الحيض في النساء جبلة وعادة لا تخلو منه أربعة أشهر في الغالب.
فلو قلنا: إنه يمنع الاحتساب.. لأدى ذلك إلى اتصال الضرر بها إلى الإياس من الحيض، فلم يقطع؛ ولهذا لم يقطع؛ في صوم الشهرين المتتابعين.
وإن آلى منها وهي نفساء، أو طرأ النفاس في أثناء المدة.. فهل يمنع الاحتساب؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: لا يمنع من الاحتساب؛ لأنه كالحيض في سائر الأحكام، فكذلك في هذا.
والثاني: يمنع من الاحتساب؛ لأنه نادر، بخلاف الحيض.
وإن آلى وبه عذر يمنعه من الجماع؛ بأن كان مريضا، أو محبوسا في موضع لا تصل إليه، أو محرما، أو صائما عن واجب، أو معتكفا عن فرض.. حسبت مدة التربص عليه مع وجود هذه الأعذار؛ لأنها ممكنة من نفسها في نكاح تام، وإنما المنع من جهته.. فلم يمنع من احتساب المدة عليه، كما إذا مكنت من نفسها وهناك عذر من جهته يمنعه من الجماع.. فإن النفقة تجب عليه.
وإن طرأ عليه شيء من هذه الأعذار في أثناء المدة.. لم يقطعها؛ لأنها لما لم تمنع ابتداء المدة.. لم تمنع استدامتها.
وإن ظاهر منها وجبت عليه الكفارة ثم آلى منها، أو آلى منها ثم ظاهر منها في مدة التربص ووجبت عليه الكفارة.. فإن مدة التربص محسوبة عليه؛ لأن المنع من جهته.

(10/304)


[فرع: إدخال الإيلاء على الطلاق وعكسه]
] : وإن طلق امرأته طلاقا رجعيا فآلى منها قبل انقضاء العدة.. فقد ذكرنا: أنه يصح الإيلاء منها؛ لأنها في معنى الزوجات، ولكن لا يحتسب عليه المدة ما لم يراجعها.
وكذلك: إذا آلى منها وهي زوجته، ثم طلقها في مدة التربص طلاقا رجعيا.. انقضت مدة التربص بذلك؛ لأن ملكه غير تام عليها؛ لأنها جارية إلى بينونة.
فإن راجعها وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربعة أشهر.. استؤنفت لها مدة التربص. وإن بقي منها أربعة أشهر فما دون.. لم تستأنف لها مدة التربص، ولكنه إن وطئها.. حنث في يمينه.
وإن راجعها بعد انقضاء مدة الإيلاء.. فقد بر في يمينه.
وإن بانت، ثم تزوجها وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربعة أشهر.. فهل يعود حكم الإيلاء ويستأنف لها ضرب مدة التربص؟
على قوله القديم: يعود قولا واحدا.
وعلى الجديد: هل يعود؟ على قولين، وقد مضى بيان دليله في الطلاق.
وإن طلق امرأته في أثناء مدة التربص ثلاثا.. انقطعت مدة التربص. فإن تزوجها بعد زوج وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربعة أشهر.. فهل يعود حكم الإيلاء؟
على القول الجديد: لا يعود قولا واحدا.
وعلى القول القديم: هل يعود؟ على قولين، وقد مضى دليل ذلك في الطلاق.

[فرع: إدخال الردة أو الخلع على الإيلاء]
] : وإن آلى من امرأته ثم ارتدت، أو ارتد، أو ارتدا في مدة التربص.. انقطعت مدة التربص؛ لأن المدة إنما ضربت لتطالبه بالفيئة أو الطلاق، والفيئة لا تمكن مع الردة.
فإن أسلم المرتد منهما قبل انقضاء العدة.. فهما على النكاح، وتستأنف مدة

(10/305)


التربص من حين الإسلام إن كانت مدة الإيلاء باقية؛ لأنها عادت إلى الزوجية التامة.
وإن لم يسلم المرتد منهما حتى انقضت العدة.. بانت بالفسخ. فإن أسلم المرتد منهما، ثم تزوجها ومدة الإيلاء باقية.. فهل يعود حكم الإيلاء؟
من أصحابنا من قال: حكمها حكم من بانت بالثلاث ثم تزوجها؛ لأن بالفسخ تنقطع علائق النكاح. فعلى القول الجديد: لا يعود حكم الإيلاء قولا واحدا. وعلى القول القديم، هل يعود؟ على قولين:
ومنهم من قال: حكمهما حكم من بانت بها دون الثلاث لأن له أن يتزوجها قبل زوج كما لو بانت بدون الثلاث، فيعود الإيلاء على القول القديم قولا واحدا، وهل يعود على القول الجديد؟ فيه قولان.
وإن آلى من امرأته ثم خالعها في مدة التربص ثم تزوجها ومدة الإيلاء باقية، فإن قلنا: إن الخلع فسخ.. فحكمه حكم النكاح إذا انفسخ بالردة، وقد مضى. وإن قلنا: إن الخلع طلاق، فإن خالعها بدون الثلاث.. عاد حكم الإيلاء على القول القديم قولا واحدا. وهل يعود على القول الجديد؟ على قولين.
وإن خالعها بالثلاث.. لم يعد حكم الإيلاء على القول الجديد قولا واحدا.
وهل يعود على القول القديم؟ فيه قولان.

[فرع: حكم إيلاء الأمة إذا اشتراها زوجها أو إيلاء العبد إذا اشترته زوجته]
] : وإن تزوج رجل أمة غيره فآلى منها، ثم اشتراها.. انفسخ النكاح بينهما. فإن باعها من آخر، أو وهبها منه، ثم تزوجها ثانيا ومدة الإيلاء باقية.. فهل يعود حكم الإيلاء؟ قال الشافعي: (لا يعود) .
وإن تزوج العبد حرة فآلى منها، ثم اشترته.. انفسخ النكاح. فإن أعتقته ثم تزوج بها، أو باعته من آخر، أو وهبته منه ثم تزوج بها ومدة الإيلاء باقية.. قال الشافعي: (لم يعد حكم الإيلاء) .
واختلف أصحابنا فيه:

(10/306)


فقال أبو إسحاق: البينونة بالفسخ كالبينونة بالثلاث؛ لأنه بالفسخ تنقطع علائق النكاح، كما تنقطع بالثلاث.
فعلى هذا: لا يعود حكم الإيلاء على القول الجديد قولا واحدا، وعليه تأويل النص. وهل يعود على القديم؟ فيه قولان.
ومنهم من قال: البينونة بالفسخ كالبينونة بدون الثلاث، وهو الأشبه؛ لأن للزوج أن يتزوجها قبل زوج، كما له أن يتزوجها قبل زوج إذا بانت بدون الثلاث.
فعلى هذا: يعود حكم الإيلاء على القول القديم قولا واحدا. وهل يعود على القول الجديد؟ فيه قولان.

[مسألة: حصول الجماع في مدة التربص]
] : وإن جامعها في مدة التربص.. فقد حنث وأوفاها حقها؛ لأنه يطالب بذلك بعد انقضاء مدة التربص، فإذا فعله قبل انقضاء المدة.. وقع موقعه، كمن دفع الدين المؤجل قبل حلول الأجل. وإن وطئها وهي نائمة.. حنث في يمينه وسقط الإيلاء؛ لأن الضرر زال عنها بذلك. وإن استدخلت ذكره وهو نائم.. لم يحنث؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» . وهل يسقط بذلك حقها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يسقط؛ لأنها وصلت إلى حقها.
والثاني: لا يسقط؛ لأن حقها في فعله لا في فعلها.

[فرع: إدخال الإيلاء على الجنون وعكسه]
] : فإن آلى الرجل من امرأة في حال جنونها، أو آلى منها وهي عاقلة ثم جنت في مدة التربص، فإن نشزت وخرجت من تحت يده.. لم تحسب المدة. وإن كانت في

(10/307)


قبضته.. حسبت المدة عليه؛ لأنها ممكنة من نفسها في زوجية تامة. فإن وطئها زوجها.. فقد حنث في يمينه، وقد وفاها حقها؛ لأن الضرر زال عنها بذلك.
وإن آلى منها وهو عاقل، ثم جن في مدة التربص.. احتسبت المدة؛ لأن المنع من جهته، فإن وطئها في حال جنونه.. لم يحنث في يمينه ولم تلزمه الكفارة؛ لارتفاع القلم عنه. وهل يخرج من حكم الإيلاء؟ فيه وجهان:
أحدهما: يخرج من حكم الإيلاء، وهو المنصوص؛ لأن الوطء حق عليه، فإذا أوفاها إياه.. صح وإن كان مجنونا، كما لو كانت عنده وديعة فردها في حال جنونه.
والثاني: لا يخرج من حكم الإيلاء؛ لأنه إنما يخرج من حكم الإيلاء بوطء يحنث فيه، وهذا لم يحنث فيه.
فإذا قلنا: يخرج من الإيلاء.. فإنه يكون حالفا، ولا يكون موليا، فإن أصابها في حال إفاقته.. حنث في يمينه، ولا تتوجه عليه مطالبة، ولا تضرب له مدة التربص.
وإذا قلنا: لا يخرج من الإيلاء.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه يطالب بالفيئة أو الطلاق إذا أفاق، ولا تضرب له المدة؛ لأن اليمين قائمة.
والثاني: تضرب له المدة ثانيا؛ لأن الأولى قد انقضت وأوفاها حقها من الوطء فيها، فاحتاج إلى مدة ثانية. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا وطئها في حال جنونه.. فهل يحنث في يمينه، وتجب عليه الكفارة؟ فيه قولان، كالمحرم إذا قتل الصيد في حال جنونه.
فإذا قلنا: لا كفارة عليه، فأفاق ووطئها.. فهل تلزمه الكفارة؟ فيه وجهان:
أحدهما: تلزمه، وهو اختيار ابن الحداد؛ لأن فعله في حال الجنون كـ: لا فعل.
والثاني: لا تلزمه؛ لأن اليمين قد انحلت بالوطء الأول.
فإذا قلنا: تلزمه الكفارة إذا وطئ في حال الإفاقة.. فهل يعود حكم الإيلاء؟ على وجهين.

(10/308)


[فرع: الخروج من الإيلاء بوطء محظور لصيام ونحوه]
] : وإن جامعها وهو محرم، أو صائم صوما واجبا، أو معتكف اعتكافا واجبا، أو كانت محرمة، أو صائمة، أو معتكفة، أو حائضا.. فقد أوفاها حقها، وخرج من حكم الإيلاء؛ لأن هذا الوطء وإن كان محظورا.. فإنه يتعلق به جميع أحكام الوطء المباح؛ بدليل: أنه يتعلق به الإحصان والإباحة للزوج الأول، ويثبت النسب، فكذلك هذا مثله.

[مسألة: لا تبين بانقضاء مدة التربص عندنا]
] : وإذا انقضت مدة التربص قبل أن يطلقها أو يطأها.. فإنها لا تبين بانقضاء المدة، ولكن تثبت لها المطالبة بالفيئة أو الطلاق. وبه قال من الصحابة: عمر وعثمان وعلي وابن عمر وعائشة، ومن الفقهاء: مالك وأحمد وإسحاق وأبو ثور.
وقال ابن أبي ليلى والثوري وأبو حنيفة وأصحابه: (تبين منه بانقضاء المدة بطلقة) . وبه قال زيد بن ثابت وابن عباس.
وقال سعيد بن جبير والزهري: تطلق بانقضاء المدة طلقة رجعية.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] إلى قوله: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] [البقرة: 226 - 227] ، فأضاف الطلاق إلى الأزواج وجعله فعلا لهم، فدل على أنه لا يقع بانقضاء المدة؛ لأن الله تعالى وصف نفسه عند عزيمة

(10/309)


الطلاق بأنه: سَمِيعٌ عَلِيمٌ فاقتضى ذلك عزيمة طلاق يكون مسموعا، والمسموع هو القول، فدل على أنه لا يقع بانقضاء المدة.
إذا ثبت هذا، وانقضت المدة، وليس هناك عذر يمنع الوطء.. فلها المطالبة بالفيئة أو الطلاق؛ لما روى سهيل بن أبي صالح، عن أبيه قال: سألت اثني عشر نفسا من الصحابة عن المولي، فقالوا: (يتربص أربعة أشهر، ثم يوقف ليفيء أو يطلق) . وفي بعض الأخبار: (يتربص أربعة أشهر، ولا شيء عليه فيها، ثم يوقف ليفيء أو يطلق) . وروي عن سليمان بن يسار: أنه قال: أدركت بضعة عشر نفسا من الصحابة، كلهم يوقف المولي أربعة أشهر.
و (الفيئة) هاهنا: هو الجماع؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: 226] [البقرة: 226] ، و (الفيئة) : هو الرجوع عما فعل، والذي فعله هو أنه حلف أن لا يجامعها، فالفيئة هو الرجوع إلى جماعها.

[فرع: المطالبة في الإيلاء للزوجة]
ولو أمة أو غيرها] : وإن كانت الزوجة أمة، فآلى منها زوجها.. فلها المطالبة بعد انقضاء مدة التربص بالفيئة أو الطلاق، وليس لسيدها المطالبة بذلك؛ لأن الحق لها في ذلك دون السيد.
فإن قيل: للسيد حق في الفيئة؛ وهو: أن تحبل منه فيملك الولد.
قلنا: القدر الذي يطالب به الزوج من الفيئة هو: تغييب الحشفة في الفرج لا غير،

(10/310)


وذلك لا تحبل منه المرأة، فلم يكن للسيد فيه منفعة.
وإن كانت الزوجة معتوهة، أو مجنونة.. لم يكن لوليها المطالبة بذلك؛ لأن المقصود بالفيئة حصول اللذة، والولي لا يحصل له ذلك، وإنما يحصل لها، فلم يقم مقامها في المطالبة به.
والمستحب: أن يقال للزوج: اتق الله فيها، فإما أن تفيء إليها أو تطلقها.
فإن لم تطالبه المرأة بذلك، أو عفت عن مطالبته.. كان لها ذلك؛ لأن الحق لها، فجاز لها ترك المطالبة به والعفو عنه.
فإن بدا لها، ثم طالبته بعد الترك أو بعد العفو.. كان لها ذلك؛ لأن الضرر يتجدد عليها بذلك في كل وقت، فجاز لها المطالبة، كما لو رضيت بإعسار الزوج بالنفقة، ثم أرادت الفسخ بعد ذلك.
فإن قيل: هلا قلتم: إذا عفت عن المطالبة.. لم يكن لها المطالبة إلا بمدة ثانية، كما لو طلقها سقطت مطالبتها، فإن راجعها.. لم تطالب إلا بمدة ثانية؟
قلنا: الفرق بينهما: أنه إذا طلقها.. فقد أوفاها حقها في هذه المدة، فإذا راجعها.. استأنفت المدة؛ لأنه لم يبق لها حق للمدة التي مضت. وليس كذلك إذا عفت؛ فإنها لم تستوف حقها، وإنما تركت المطالبة، فكان لها المطالبة، كما لو كان له دين وقد حل، فقال: قد تركت المطالبة به.. فإن له أن يطالب به من غير أجل ثان.
فإن قيل: أليس امرأة العنين إذا رضيت به.. لم يكن لها أن تعود فتطالب؟
قلنا: الفرق بينهما: أن العنة عيب في الزوج، وإذا رضيت به.. سقط حقها، كما لو اشترى معيبا فرضي به. وهاهنا ليس الإيلاء عيبا، وإنما هو للضرر الذي يدخل عليها، وهذا الضرر يتجدد عليها كل يوم، فكان لها المطالبة به.
وإذا طولب بالفيئة أو الطلاق بعد انقضاء مدة التربص، فسأل أن يمهل ليفيء.. ففيه قولان:
أحدهما: أنه يمهل ثلاثة أيام؛ لأنه لا خلاف أنه لا يلزمه الوطء على الفور، بل

(10/311)


لو سأل الإمهال إلى أن يأكل أو يصلي.. كان له ذلك. ولا خلاف أنه لا يمهل الشهر والشهرين، فلا بد أن يكون بينهما فاصل يقدر بثلاثة أيام؛ لأنها أول حد الكثرة وآخر حد القلة.
والثاني: لا يجب إمهاله أكثر من القدر الذي يتمكن معه من الجماع؛ وهو: إن كان جائعا.. فحتى يأكل، وإن كان ناعسا.. فحتى ينام، وإن كان شبعان.. فحتى يخف.
وهو الأصح؛ لأن الله جعل له أن يتربص أربعة أشهر، فلو قلنا: يمهل ثلاثا.. لزدنا على ما جعل له، فلم يجب إمهاله أكثر من القدر الذي تدعو الحاجة إليه؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه. ولأن بانقضاء المدة.. حلت لها المطالبة وتعجل حقها، فلا يجوز تأخيره، كما لو كان لرجل دين مؤجل فحل.. لم يجز تأخيره عنه، فكذلك هذا مثله.

[مسألة: الفيئة وما يترتب عليها من الجماع والكفارة وإيلاء العتق والنذر]
] : وإن أراد أن يفيء إليها.. فأدنى ذلك أن يغيب الحشفة في قبلها؛ لأن أحكام الوطء تتعلق بذلك، ولا تتعلق بما دونه.
وإن كانت بكرا.. فقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (حتى تزول بكارتها) ، وليس ذهاب البكارة شرطا، وإنما الشرط التقاء الختانين، والتقاؤهما لا يحصل إلا بإذهاب البكارة.
وإن وطئها فيما دون الفرج، أو وطئها في دبرها.. لم يسقط بذلك حقها؛ لأن الضرر لا يزول عنها بذلك.
إذا ثبت هذا، وكان إيلاؤه بالله تعالى، فوطئها في قبلها في مدة التربص أو بعدها.. فقد حنث في يمينه، وهل تجب عليه الكفارة؟ فيه قولان:
قال في القديم: (لا تجب عليه) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] الآية [البقرة: 226] . فذكر الله تعالى التربص والفيئة ولم

(10/312)


يذكر الكفارة، فلو كانت واجبة.. لذكرها. ولأن الله تعالى قال: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] [البقرة: 226] ، فوصف نفسه بالغفران والرحمة عند الفيئة، وهذا يقتضي أنه إذا أفاء.. فلا تبعة عليه من كفارة ولا غيرها.
وقال في الجديد: (تجب عليه الكفارة) . وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد. وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] الآية إلى قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] [المائدة: 89] .
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرا منها.. فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه» ، وهذا عام في المولي وغيره.

(10/313)


وقوله الأول: (إنه لم يذكر الكفارة في آية الإيلاء) فقد ذكرها في هذه الآية.
وقوله: (إن الله وصف نفسه بالغفران والرحمة عند الفيئة) فإن ذلك إنما يتوجه إلى الإثم، فأما إلى الكفارة: فلا يرجع إليها؛ بدليل: أنه لا يقال: غفر الله الكفارة، وإنما يقال: غفر الله الإثم. كمن حلف أن لا يكلم أباه فتاب وكلمه.. فإن الله تعالى يغفر له الإثم بالحنث باليمين، ولا تسقط عنه الكفارة.
واختلف أصحابنا في موضع القولين:
فمنهم من قال: القولان فيما إذا جامع بعد مدة التربص؛ لأن الفيئة عليه لذلك الوقت واجبة، فأما إذا جامع في مدة التربص: فإن الكفارة تجب عليه قولا واحدا؛ لأن الفيئة لا تجب عليه.
ومنهم من قال: القولان في الحالين؛ لأنه حانث في يمينه في الحالين.
وإن كان الإيلاء بعتق منجز؛ بأن قال: إن وطئتك فعبدي حر فوطئها.. عتق العبد.
وإن كان بنذر؛ بأن قال: إن وطئتك فمالي صدقة، أو فعلي لله أن أتصدق بمالي، أو أصلي، أو أصوم.. فهو نذر لجاج وغضب، وقد مضى بيانه في النذر.

(10/314)


[فرع: علق وطئها على طلاق الأخرى]
وهل يمنع من الفيئة لو علقه على طلاقها ثلاثا؟] :
وإن قال لها: إن وطئتك فامرأتي الأخرى طالق، فوطئ المولي منها.. طلقت الأخرى - قال - لأنه علق طلاقها بصفة، وقد وجدت الصفة، فوقع الطلاق.
وإن قال لامرأته: إن وطئتك فأنت طالق ثلاثا، وأراد أن يفيء إليها.. فهل يمنع؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو علي بن خيران: يمنع من الفيئة؛ لأن بإيلاج الحشفة في الفرج يقع عليها الطلاق الثلاثة ويتعقبه التحريم؛ لأنها تصير أجنبية منه، وكل إيلاج يعقبه التحريم.. منع منه، كما لو أراد أن يولج من امرأته قبل الفجر في شهر رمضان، وعلم أن الفجر يطلع قبل أن ينزع.
فعلى هذا: يتعين عليه الطلاق، فنوقع عليه طلقة رجعية؛ لأن من خير بين شيئين إذا تعذر عليه أحدهما.. تعين عليه الآخر، كمن تعذر عليه العتق والكسوة في كفارة اليمين ووجد الإطعام.. فإنه يتعين عليه.
وقال أكثر أصحابنا: لا يمنع من الفيئة، وهو المذهب؛ لأن الإيلاج يصادف الزوجية، وينزع في الحال فلا يتعقبه التحريم.
وأما الإخراج: فإنه ترك للجماع، فلا إثم عليه فيه وإن لم يصادف الزوجية، كما لو استأجر دارا مدة.. فله أن يسكنها تلك المدة بكاملها، فإذا خرج منها عقيب انقضاء المدة.. فإنه لا يكون غاصبا لها وقت الخروج.
وأما ما ذكره ابن خيران في الصوم.. فقد قال بعض أصحابنا: إنه لا يمنع أيضا. فلا فرق بينهما على هذا.
وقال بعضهم: يمنع. والفرق بينهما على هذا: أنه لا يقطع أن ذلك الوقت من الليل؛ لأنه إنما يعلم ذلك بغلبة الظن، ويجوز أن يكون ذلك الوقت من النهار،

(10/315)


فلهذا منع من الوطء. وهاهنا يتحقق أن وطأه يصادف زوجية، فلم يمنع منه. فوزانه من الصوم: أن يعلم أن ذلك الوقت من الليل بإخبار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في زمانه، فلا يمنع الرجل فيه من الإيلاج.
فإذا قلنا بالمذهب: إنه لا يمنع، فإنه إذا غيب الحشفة في الفرج.. طلقت ثلاثا لوجود الشرط في طلاقها. ثم ينظر فيه:
فإن نزعه في الحال.. فلا شيء عليه لها - قال - كما إذا خرج المستأجر من الدار المستأجرة عقيب انقضاء مدة الإجارة.. فلا أجرة عليه لمدة خروجه.
فإن زاد على تغييب الحشفة، أو غيب الحشفة ولم ينزع في الحال بل أقر ذكره في فرجها.. لم يجب عليه الحد وجها واحدا؛ لأنه إيلاج واحد، فإذا لم يجب الحد في أوله.. لم يجب في آخره، ولا في استدامته. وهل يجب عليه بذلك مهر؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه بذلك مهر المثل؛ لأن الاستدامة كابتداء الإيلاج في الكفارة في الصوم، فكذلك في المهر.
والثاني: لا يجب عليه المهر؛ لأن هذه الاستدامة تابعة للإيلاج، فإذا لم يجب مهر المثل من الإيلاج.. لم يجب في الاستدامة.
وأما إن نزع منها في الحال، ثم أولجه ثانيا.. فإن الإيلاج الثاني في غير زوجية، فلا يخلو: إما أن يكونا جاهلين بالتحريم أو عالمين، أو أحدهما جاهلا والآخر عالما.
فإن كانا جاهلين بالتحريم؛ بأن جهلا أن الطلاق يقع بالإيلاج.. فلا حد عليهما للشبهة، ويجب لها عليه مهر مثلها؛ لأنه وطء شبهة، ويجب عليها العدة، ويلحقه النسب منه.
وإن كانا عالمين بالتحريم.. فهل يكونا زانيين؟ فيه وجهان:

(10/316)


أحدهما: أنهما زانيان؛ لأنه إيلاج تام محرم من غير شبهة، فهو كما لو طلقها ثلاثا، ثم وطئها.
فعلى هذا: يجب عليهما الحد، ولا يجب لها المهر.
والثاني: لا يكونان زانيين؛ لأن قولنا: (إن الطلاق الثلاث يقع بتغييب الحشفة) إنما قلنا ذلك من طريق الاستدلال وغلبة الظن، وإلا فالظاهر من قوله: (إن وطئتك) أنه أراد الوطء التام، فصار ذلك شبهة.
فعلى هذا: لا يجب الحد عليهما، ويجب لها عليه مهر المثل.
وإن كان أحدهما جاهلا والآخر عالما، فإن كانت الزوجة جاهلة بالتحريم، والزوج عالما بالتحريم.. لم يجب عليها الحد، ويجب لها المهر. وهل يجب الحد على الزوج، ويلحقه النسب، ويجب عليها العدة؟ على الوجهين.
وإن كان الزوج جاهلا بالتحريم، وهي عالمة بالتحريم.. فلا حد على الزوج، ويجب عليها العدة، ويلحقه النسب. وهل يجب على المرأة الحد، ويجب لها المهر؟ على الوجهين.

[مسألة: امتناعه عن الفيئة والطلاق ونيابة الحاكم وماذا لو طلقت]
؟] : وإن لم يختر الزوج الفيئة وطلقها طلقة.. فقد أوفاها حقها. وإن طلقها اثنتين أو ثلاثا.. فقد تطوع بما زاد على واحدة.
وإن امتنع الزوج من الفيئة والطلاق.. فإن الحاكم لا ينوب عنه في الفيئة؛ لأن النيابة لا تدخل فيها، وهل ينوب عنه في الطلاق؟ فيه قولان:
قال في القديم: (لا ينوب عنه في الطلاق، وإنما يحبسه ويضيق عليه حتى يطلق) - وهي إحدى الروايتين عن أحمد - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة: 227] [البقرة: 227] . فأضاف الطلاق إلى الأزواج، فدل على: أن الحاكم لا يطلق عليهم.

(10/317)


ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الطلاق لمن أخذ بالساق» ، والزوج هو الذي يأخذ بالساق دون الحاكم. ولأنه أحد ما يخرج به من الإيلاء، فلم يكن للحاكم فيه مدخل، كالفيئة.
وقال في الجديد: (يطلق عليه الحاكم) . وهو قول مالك، والرواية الأخرى عن أحمد، وهو الأصح؛ لأنه حق تدخله النيابة لمعين، فإذا امتنع المستحق عليه.. قام الحاكم مقامه، كقضاء الدين.
فقولنا: (تدخله النيابة) احتراز من الفيئة.
وقولنا: (لمعين) احتراز ممن أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة وأسلمن معه، وامتنع من اختيار أربع منهن.
إذا ثبت هذا: فإن الحاكم يطلق عليه طلقة. فإن طلق عليه أكثر من واحدة.. لم يقع أكثر من واحدة؛ لأنه إنما يقوم مقامه في الواجب عليه، والواجب عليه طلقة.
وإذا طلق الزوج بنفسه طلقة أو طلقتين، أو طلق عليه الحاكم.. فإن الطلاق يقع رجعيا. وبه قال مالك وأحمد.
وقال أبو ثور: (يقع الطلاق بائنا؛ لأن هذه فرقة لإزالة الضرر، فإذا كانت رجعية.. ملك رجعتها، فلا يزول الضرر عنها، فوجب أن تقع بائنة، كفرقة العنة والإعسار بالنفقة) .
وهذا خطأ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] ، ولم يفرق بين أن يكون الطلاق في الإيلاء أو غيره. ولأنه طلاق صادف مدخولا بها من غير عوض ولا استيفاء عدد.. فكان رجعيا، كالطلقة في غير الإيلاء. ويخالف فرقة العنة والإعسار؛ فإن تلك فسخ وهذا طلاق.

(10/318)


وقوله: (إذا راجعها لم يزل الضرر عنها) غير صحيح؛ لأنه إذا راجعها.. ضربت له المدة ثانيا.
إذا ثبت هذا: فإن راجعها وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربعة أشهر.. استؤنفت له مدة التربص أربعة أشهر، ثم يطالب بالفيئة أو الطلاق، على ما مضى.
وإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها، فتزوجها، وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربعة أشهر.. فهل يعود حكم الإيلاء؟
على القول القديم: يعود حكم الإيلاء قولا واحدا.
وعلى القول الجديد: فيه قولان.

[فرع: علق طلاق إحداهما على جماع الثانية]
] : فإن كان له امرأتان، فقال: إن وطئت إحداكما فالأخرى طالق، فإن قال ذلك على طريق التعليل، وأرادهما جميعا بذلك.. صار موليا من كل واحدة منهما. وإن أراد واحدة بعينها، أو واحدة منهما لا بعينها.. فقد صار حالفا بطلاق إحداهما، وموليا من الأخرى.
فإذا مضت أربعة أشهر.. قال له الحاكم: أنت مول من إحداهما وحالف بطلاق الأخرى، فبين ذلك. فإذا بين التي آلى منها.. كان لها أن تطالبه بالفيئة أو الطلاق، فإن طلقها.. فقد أوفاها حقها، وبقيت الأخرى على النكاح. وإن فاء إليها.. طلقت الأخرى.
فإن امتنع من الفيئة إلى التي آلى عنها، أو من طلاقها.. فهل يطلقها الحاكم عليه، أو يضيق عليه حتى يطلقها؟ على القولين.
وإن امتنع من بيان المولي منها والمحلوف بطلاقها، وقلنا: إن الحاكم يطلق عليه

(10/319)


المولي منها المعينة إذا امتنع من الفيئة أو الطلاق.. فقد قال ابن الحداد: إن الحاكم يقول له: طلقت عليك التي آليت منها، ثم أنت ممنوع من وطئها حتى تراجع التي طلقت عليك؛ لأن التي منع نفسه من وطئها بيمينه إحداهما بغير عينها دون الأخرى، إلا أنها ليست بمعينة، فهو كما لو قال: إحداكما طالق.
ومن أصحابنا من قال: يكون موليا منهما. وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأن المولي هو الذي يلزمه بوطء زوجته شيء، وهذا إذا وطئ أيتهما كان.. حنث في يمينه، ووقع الطلاق على الأخرى، فكان موليا منهما.
وقال القفال: لا يطلق عليه الحاكم؛ لأن المستحقة منهما غير متعينة، فهي كرجلين قدما إلى القاضي برجل، فقالا: لأحدنا على هذا كذا.. فإن دعواهما لا تسمع، فكان هذا مثله.

[فرع: تكرار الحلف في الإيلاء]
] : إذا كرر اليمين في الإيلاء، فإن كان ذلك في مدة واحدة؛ بأن قال لواحدة: والله لا وطئتك والله لا وطئتك.. فإن إطلاقه يقتضي التأبيد.
أو قال: والله لا وطئتك خمسة أشهر، والله لا وطئتك خمسة أشهر، ثم جامعها في الخمسة الأشهر، فإن قال: أردت باليمين الثانية تأكيد الأولى، وقلنا: تجب عليه الكفارة.. وجبت عليه كفارة واحدة. وإن قال: أردت بالثانية الاستئناف.. فهل تجب عليه كفارة أو كفارتان.. فيه قولان:
أحدهما: تجب عليه كفارتان؛ لأنه حنث في يمينين، فوجب عليه كفارتان، كما لو حلف يمينين على فعلين.
والثاني: تجب عليه كفارة واحدة؛ لأن الحنث لا يتكرر.
وإن قال: لم أقصد التأكيد ولا الاستئناف.. ففيه وجهان مأخوذان من القولين فيمن قال لامرأته المدخول بها: أنت طالق، أنت طالق ولم يرد التأكيد ولا الاستئناف.

(10/320)


وإن كانت اليمينان على مدتين، فإن قال: والله لا وطئتك خمسة أشهر، والله لا وطئتك سنة.. فقد ذكرنا: أن ابتداء السنة من حين اليمين على المذهب. فإن وطئها بعد الخمسة الأشهر.. لم تلزمه إلا كفارة واحدة بكل حال؛ لأنه لم يحنث إلا في اليمين الثانية. وإن وطئها في الخمسة الأشهر، وإن قال: أردت باليمين الثانية التأكيد.. لم تلزمه إلا كفارة واحدة. وإن قال: أردت بها الاستئناف.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أكثرهم: هي على قولين كالأولى.
ومنهم من قال: تجب عليه كفارتان قولا واحدا. وهو اختيار أبي علي الطبري؛ لأنهما يمينان مختلفان.

[مسألة: وجود عذر يمنع من الجماع بعد مضي مدة التربص]
] : وإن انقضت مدة التربص وهناك عذر يمنع الجماع.. نظرت: فإن كان لمعنى من جهتها؛ بأن انقضت المدة وحدث بها مرض لا يمكن الجماع معه، أو أحرمت بإذنه، أو بغير إذنه ولم يحللها، أو حبست بحق أو بغير حق، أو كانت صائمة صوما واجبا، أو معتكفة اعتكافا واجبا، أو حائضا، أو نفساء.. فليس لها المطالبة بالفيئة أو الطلاق؛ لأنه لا يمكنه وطؤها لو اختاره، فلم يكن لها المطالبة، كما لو أراد وطأها فمنعته.
فإن قيل: فهلا قلتم: إذا مرضت، أو حاضت، أو نفست.. لا تسقط مطالبتها؛ لأن هذه الأسباب وقعت عليها بغير اختيارها؟
قلنا: إذا كان المانع لمعنى من جهتها.. فلا فرق بين أن يقع باختيارها أو بغير اختيارها، كما تسقط مطالبة البائع بالثمن إذا تلف المبيع قبل القبض باختياره أو بغير اختياره.

(10/321)


وإن جنت بعد انقضاء المدة، أو أغمي عليها.. فقد قلنا: إن الولي لا يطالب الزوج بشيء؛ لأن الحق لها في ذلك دونه.
وإن كان العذر من جهته.. نظرت: فإن كان مجنونا أو مغمى عليه.. فإنه لا يطالب؛ لأن المطالبة إيجاب تكليف، وليس هو من أهل التكليف. فإذا أفاق.. طولب من ساعته بالفيئة أو الطلاق.
وإن كان محبوسا بغير حق في موضع لا تصل إليه المرأة، أو كان مريضا مرضا لا يقدر معه على الجماع، أو يقدر معه على الجماع إلا أنه يخاف من الجماع الزيادة في العلة أو تباطؤ البرء، فإن اختار أن يطلقها وطلقها.. فقد أوفاها حقها. وإن لم يختر أن يطلقها.. لزمه أن يفيء فيئة المعذور.
قال الشيخ أبو حامد: و (فيئة المعذور) : هو أن يقول: قد ندمت على ما فات، ولو قدرت على الفيئة.. لكنت أفيء.
وقال القاضي أبو الطيب: يقول: إذا قدرت.. وطئت.
قال ابن الصباغ: وهذا أحسن؛ لأن الفيئة: هو الرجوع، والرجوع هاهنا: أن يظهر رجوعه عن المقام على اليمين، وعزمه يحصل بذلك.
وقال أبو ثور: (لا يلزم المعذور أن يفيء باللسان؛ لأن الضرر لا يزول عنها بذلك) .
وهذا خطأ؛ لأن الفيئة تجب عليه على حسب إمكانه، إما بالفعل إن كان قادرا. فإذا كان عاجزا.. قامت الفيئة باللسان مقام الفعل، كالرجل إذا ثبتت له الشفعة وكان حاضرا.. فإنه يطالب بها، وإن كان غائبا. فإنه يجب عليه أن يشهد على نفسه أنه مطالب بالشفعة.
إذا ثبت هذا: وفاء باللسان على ما ذكرناه.. سقطت عنه المطالبة في الحال.
فإذا زال عذره.. كلف الإصابة في الحال من غير أن تضرب له المدة، كما قلنا في الشفيع إذا أشهد على نفسه إذا كان غائبا، فإذا حضر.. أخذ بالشفعة، وإلا.. سقط حقه.

(10/322)


فإن امتنع المعذور أن يفيء باللسان أو يطلق.. فإن الحاكم لا ينوب عنه بالفيئة باللسان؛ لأنه لا يمكنه الوفاء من المولي بذلك، ولكن هل يطلق عليه؟ على القولين.

[فرع: المطالبة حال سفره]
] : إذا انقضت المدة وهو غائب عن البلد التي هي بها.. حلت لها المطالبة.
وإن وكلت رجلا يطالبه.. جاز؛ لأنه يطالبه بالفيئة أو الطلاق، والنيابة تصح في المطالبة.
فإذا طالبه وكيلها، فإن أمكنه المسير إليها.. قال له الوكيل: إما أن تسير معي لتفيء، أو تطلق، فإن اختار الفيئة.. قال ابن الصباغ: فاء فيئة معذور؛ وهو أن يقول: إن وصلت إليها وطئتها.. فيلزمه أن يسير على حسب الإمكان. وإن امتنع من المسير إليها.. تعين عليه الطلاق. فإن طلق، وإلا.. طلق عليه الحاكم في أحد القولين. وإن لم يمكنه المسير.. قيل له: أنت بالخيار: بين أن تطلق أو تفيء فيئة المعذور، فإن فاء فيئة معذور.. سقطت عنه المطالبة في هذه الحال. فإذا أمكنه السير.. سار، وإن لم يفعل.. تعين عليه الطلاق، فإن طلق، وإلا.. طلق عليه الحاكم في أحد القولين.
قال ابن الصباغ: وإن أراد أن يستوطن الموضع الذي هو فيه.. كان له أن يستدعيها إلى الموضع الذي هو فيه، فإذا وصلت إليه.. فاء إليها.

[مسألة: انقضاء المدة حالة الإحرام في الإيلاء]
مسألة: [انقضاء المدة حالة الإحرام] : وإن انقضت المدة وهو محرم.. فلها المطالبة بالفيئة أو الطلاق؛ لأنه أدخل نفسه في الإحرام، فلا يمنع ذلك من مطالبته. فإن طلقها.. فقد أوفاها حقها. وإن أراد أن يطأها.. فإنا نقول له: لا يحل لك هذا، فإن فعلت.. أثمت، ويفسد نسكك، ويلزمك ما يلزم المفسد. فإن اختار ذلك.. فهل لها أن تمتنع من ذلك؟ فيه وجهان حكاهما القاضي أبو الطيب:

(10/323)


أحدهما: لها أن تمتنع من ذلك؛ لأن هذا الوطء محرم، فلها أن تمتنع منه كما لو كان لرجل على رجل دين، فدفع إليه مالا مغصوبا.. فله أن يمتنع من قبضه.
والثاني: ليس لها أن تمتنع؛ لأن حقها في الوطء، وإنما حرم عليه لأجل إحرامه؛ ولهذا إذا وطئها.. سقط حقها. بخلاف المال المغصوب؛ فإنه لو قبضه.. لم يستوف حقه.
قال ابن الصباغ: والأول أصح؛ لأن موافقتها له على المعصية لا تجوز.
فإذا قلنا بهذا: تعين عليه الطلاق.
وإذا قلنا بالثاني، ولم تمكنه من نفسها.. سقط حقها.
وإن لم يطأ ولم يطلق.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: يقنع منه بفيئة معذور؛ لأنه غير قادر على الوطء، فهو كالمريض والمحبوس.
والثاني: لا يقنع منه بذلك. ولم يذكر الشيخ أبو حامد وابن الصباغ غيره، وهو ظاهر النص؛ لأنه ممتنع من الوطء بسبب من جهته.

[مسألة: مضي زمن التربص حال ظهاره]
] : وإن انقضت مدة التربص وهو مظاهر منها، ولم يكفر.. فلها المطالبة بالفيئة أو الطلاق.
فإن كان موسرا بالكفارة، وسأل أن يمهل بالفيئة إلى أن يشتري رقبة ويعتقها.. أمهل اليوم واليومين والثلاثة؛ لأنه قد لا يمكنه شراء الرقبة إلا بذلك.
وإن كان معسرا، وسأل أن يمهل إلى الصوم.. لم يلزمها ذلك؛ لأن مدة الصوم تطول.

(10/324)


وإن كان موسرا أو معسرا، واختار أن يطأها قبل التكفير.. فإنا نقول له: لا يحل لك هذا؛ لأنه وطء محرم. فإن خالف ووطئها.. أثم بذلك، وأوفاها حقها، وهل لها أن تمتنع من الوطء قبل التكفير؟ فيه وجهان:
أحدهما وهو قول الشيخ أبي حامد: أنه ليس لها أن تمتنع، فإذا امتنعت.. سقط حقها من المطالبة إلى أن يزول التحريم، كما لو دفع إليها نفقتها فقالت: لا آخذ هذا؛ لأنه غصبه من فلان.. فإنه يقال لها: إما أن تأخذي هذا أو تبرئيه عن قدره من النفقة.
والثاني وهو قول الشيخ أبي إسحاق: أن لها أن تمتنع؛ لأنه وطء محرم، فإن لها أن تمتنع، كوطء الرجعية. ويخالف المال المغصوب؛ فإن الظاهر أنه ملك لمن هو بيده. فوزانه من مسألتنا: أن يتفقا على أنه مغصوب.. فلا يلزم من له الدين قبضه.
قال الطبري في " العدة ": فإذا قلنا بهذا: فهل يتعين عليه الطلاق؟ فيه وجهان:
أحدهما: يتعين عليه؛ لأن كل من كان مخيرا بين أمرين فتعذر عليه أحدهما.. تعين عليه الآخر، كما قلنا في كفارة اليمين.
والثاني: لا يتعين عليه؛ لأنه محبوس عن الوطء والطلاق، وإذا تعذر عن الوطء.. لم يتعين عليه الطلاق، كالمريض.
فإن خالفت، ومكنت من نفسها، ووطئها.. قال الشيخ أبو حامد: فإنها لا تأثم بذلك.
قال: وإن مكنت الحائض من نفسها فوطئها.. أثمت؛ لأن التحريم في المظاهر منها لعينها، وفي الحائض ليس من جهتها.
وعلى قياس ما قال الشيخ أبو إسحاق: إذا علمت المظاهر منها بالتحريم.. أثمت بالتمكين، كالحائض.

(10/325)


[مسألة: ادعاء العجز بعد مضي المدة]
] : وإن انقضت المدة، فطالبته بالفيئة أو الطلاق، وادعى أنه عاجز عن الوطء، فإن كانت بكرا أو ثيبا لم يطأها، فإن صدقته على أنه عاجز.. لم تطالبه بالفيئة، بل إن طلقها.. أوفاها حقها. وإن لم يطلقها.. كان لها أن ترفع الأمر إلى الحاكم ليضرب له مدة العنة، فإن لم يطأها.. فسخ عليه الحاكم النكاح. وإن لم تصدقه على أنه عاجز.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة -: أنه لا يقبل قوله، بل يتعين الطلاق؛ لأنه مخير بين الفيئة والطلاق، فإذا أقر بالعجز عن الفيئة.. تعين عليه الطلاق، كالمخير في أنواع الكفارة.
والثاني وهو المنصوص: (أن القول قوله مع يمينه أنه عاجز؛ لأنه أعلم بنفسه ويلزمه أن يحلف؛ لأنه متهم في ترك الفيئة. فإذا حلف.. لم يلزمه حكم الإيلاء؛ لأن المولي هو: الذي يقصد الإضرار بالامتناع من وطئها باليمين، وإذا كان عاجزا ولم يقصد الإضرار.. فلم يكن موليا) .
فعلى هذا: لها أن ترفع أمرها إلى الحاكم؛ ليضرب له مدة العنة، فإن لم يطأها.. فسخ عليه النكاح.
وإن كانت ثيبا وقد وطئها.. فإنه لا يقبل قوله أنه عاجز؛ لأن الإنسان لا يكون عنينا في نكاح واحد في بعض الأوقات دون بعض، بل يطالب بالفيئة أو الطلاق على ما مضى.

[مسألة: إيلاء المجبوب]
] : فإن آلى المجبوب، وقلنا: يصح إيلاؤه، وانقضت المدة.. فلها أن تطالبه بالفيئة أو الطلاق. فإن طلقها.. فقد أوفاها حقها، وإن أراد أن يفيء.. اقتصر منه على فيئة معذور؛ وهو أن يقول: ندمت على ما فعلت، ولو قدرت على الوطء.. لوطئت.

(10/326)


ولا يحتاج أن يقول: إذا قدرت فعلت؛ لأنه لا يمكنه ذلك. فإن لم يفعل.. فهل يطلق عليه الحاكم؟ على القولين.
وإن آلى منها وهو صحيح الذكر، ثم جب ذكره.. ثبت لها الخيار في فسخ النكاح؛ لأجل الجب. فإن فسخت.. سقط الإيلاء. وإن اختارت البقاء معه، فإن قلنا: لا يصح إيلاء المجبوب.. فحدوث الجب هاهنا يسقط حكم الإيلاء. وإن قلنا يصح إيلاؤه وانقضت المدة.. طولب بالفيئة أو الطلاق. فإن طلق.. فلا كلام، وإن اختار الفيئة.. فاء فيئة معذور، على ما مضى، وإن امتنع من ذلك.. طلق عليه الحاكم في أحد القولين. وحبسه وضيق عليه إلى أن يطلق في القول الآخر.

[مسألة: ادعاء الزوجة الإيلاء واختلفا فيه أو في انقضاء المدة أو في الإصابة]
] : إذا ادعت الزوجة على زوجها أنه آلى منها، فأنكر ولا بينة لها.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الإيلاء.
وإن اتفقا على الإيلاء، واختلفا في انقضاء مدة التربص، فادعت الزوجة أن المدة قد انقضت، وقال الزوج: لم تنقض.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن الأصل بقاؤها.
وإن اختلفا في الإصابة؛ فقال: أصبتك، وقالت: لم تصبني، فإن كانت ثيبا.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن ما يدعيه كل واحد منهما ممكن، والأصل بقاء النكاح، والمرأة تريد رفعه، فكان القول قوله.
وإن كانت بكرا.. عرضت على أربع من النساء عدول، فإن قلن: إنها ثيب.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لما ذكرناه. وإن قلن: إنها بكر.. فالقول قولها مع يمينها: أنه لم يطأها؛ وإنما حلفناها لجواز أن يكون قد وطئها ولم يبالغ في الوطء، فعادت البكارة.
فإن حلفت.. فلا كلام، وإن نكلت عن اليمين.. حلف الزوج. فإن نكل عن اليمين.. ففيه وجهان، حكاهما الصيمري:

(10/327)


أحدهما: يحكم لها؛ لأنه معها ظاهرا، وهي البكارة.
والثاني: لا يحكم لها؛ لأن هذه البكارة محتملة أن تكون هي الأصلية، وأن تكون عائدة.

[فرع: آلى من ثيب قبل الدخول وادعى إصابتها]
] : وإن آلى الرجل من امرأته قبل أن يدخل بها، وضربت له مدة التربص، وادعى أنه أصابها، وأنكرت، وكانت ثيبا، فحلف الزوج: أنه أصابها، وأنكرت.. سقطت دعواها في الإيلاء. فإن طلقها بعد اليمين طلقة، ثم أراد أن يراجعها، وأنكرت أنه أصابها.. قال ابن الحداد: فالقول قولها مع يمينها: إنه ما أصابها؛ لأن الأصل وقوع الطلاق وثبوت التحريم، والزوج يدعي ما يرفعه، فلا يقبل قوله، ويمين الزوج إنما تثبت في حكم الإيلاء، فأما إثبات الرجعة عليها: فلا يثبت بها، بل القول قولها فيها.
وبالله التوفيق

(10/328)