البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب الدعاوى والبينات]

(13/151)


كتاب الدعاوى والبينات المدعي في اللغة: هو من ادعى شيئا لنفسه، سواء كان في يده أو في يد غيره.
وأما المدعي في الشرع: فهو من ادعى شيئا في يد غيره، أو دينا في ذمته.
والمدعى عليه في اللغة والشرع: هو من ادعي عليه شيء في يده أو في ذمته.
هذا نقل أصحابنا العراقيين، وقال المسعودي [في " الإبانة "] : قال الشافعي في موضع: (المدعي: من يدعي أمرا باطنا، والمدعى عليه: من يدعي أمرا ظاهرا) . وقال في موضع آخر: (المدعي: من إذا سكت. ترك وسكوته، والمدعى عليه: من لا يترك وسكوته) . قال المسعودي [في " الإبانة "] : وهذا اختلاف في العبارة ولا فائدة له إلا في الزوجين إذا ادعى أحدهما: أنهما أسلما معا قبل الدخول، وادعى الآخر: أن أحدهما أسلم بعد الآخر، وقد مضى ذلك في نكاح المشرك.
إذا ثبت هذا: فإن دعوى المجهول في غير الوصية والإقرار لا تصح؛ لأن المدعى عليه ربما صدقه فيما ادعاه فلا يعلم الحاكم بماذا يحكم عليه.
فإن ادعى عليه شيئا من الأثمان.. فلا بد من أن يذكر الجنس والقدر والصفة

(13/153)


فيقول: لي ألف دينار، ويبين الغرائب؛ فإنها تختلف. فإن اختلف الوزن في ذلك.. فلا بد من ذكر الوزن. وإن ادعى شيئا من غير الأثمان، فإن كان مما يضبط بالصفة.. وصفه بما يوصف به في السلم، ولا يفتقر إلى ذكر قيمته مع ذلك؛ لأنه يصير معلوما من غير ذكر قيمته. فإن ذكر قيمته.. كان آكد. وإن كان مما لا يضبط بالصفة، كالجواهر.. فلا بد من ذكر قيمته. وإن كان المدعى تالفا، فإن كان له مثل.. ذكر مثله، وإن ذكر قيمته مع ذلك.. كان آكد. وإن لم يكن له مثل.. لم يدع إلا بقيمته من نقد البلد؛ لأنه لا يجب له إلا ذلك. وإن كان المدعى أرضا أو دارا.. فلا بد أن يذكر اسمه، واسم الوادي، والبلد الذي هو فيه، وحدوده التي تليه. وإن ادعى عليه سيفا محلى بالفضة.. قومه بدنانير من الذهب. وإن كان محلى بالذهب.. قومه بدراهم من الفضة.. وإن كان محلى بالذهب والفضة.. قومه بالذهب أو الفضة؛ لأنه موضع ضرورة. وإن ادعى عليه مالا مجهولا من وصية أو إقرار.. صحت الدعوى؛ لأن الوصية والإقرار يصحان في المجهول، فصحت الدعوى بالمجهول منهما. وإن ادعى عليه دينا في ذمته أو عينا في يده.. فلا تفتقر إلى ذكر السبب الذي ملك به ذلك -قال الشيخ أبو حامد: وهو إجماع - ولأن المال يملك بجهات مختلفة من الابتياع والهبة والإرث والوصية وغير ذلك، وقد يملك ذلك من جهات ويشق عليه ذكر سبب كل درهم. وإن ادعى قتلا أو جراحا.. فلا بد من ذكر سببه، فيقول: عمدا أو خطأ أو عمد خطأ، ويصف العمد، والخطأ، وعمد الخطأ، ولا بد أن يذكر أنه انفرد بالجناية أو شاركه غيره فيها؛ لأن القصاص يجب بذلك. فإذا لم يذكر سببه.. لم يؤمن أن يستوفي القصاص فيما لا قصاص فيه. وإن ادعى عليه جراحة فيها أرش مقدر، كالموضحة من الحر.. لم يفتقر إلى ذكر الأرش في الدعوى. وإن لم يكن لها أرش مقدر، كالجراحة التي ليس لها أرش مقدر من الحر والجراحات كلها في العبيد.. فلا بد من ذكر الأرش في الدعوى؛ لأن الأرش غير مقدر في الشرع، فلم يكن بد من تقديره في الدعوى.

(13/154)


[مسألة ادعاء رجل نكاح امرأة]
وإن ادعى رجل على امرأة نكاحا.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لا تسمع دعواه حتى يقول: نكحتها بولي، وشاهدي عدل، ورضاها) . فاختلف أصحابنا في ذلك على ثلاثة أوجه:
فـ[الأول] : منهم من قال: لا يجب ذكر ذلك في الدعوى، وما ذكره الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.. فإنه ذكره على طريق الاستحباب - وبه قال مالك وأبو حنيفة - كما يستحب له أن يمتحن الشهود إذا ارتاب بهم؛ لأنها دعوى ملك، فلم يفتقر إلى ذكر سببه، كدعوى المال، ولأنه لما لم يفتقر في الدعوى في النكاح إلى أنها خالية من العدة والإحرام والردة.. لم يفتقر إلى ذكر الولي والشاهدين ورضاهما؛ لأن الجميع شرط في صحة النكاح.
و [الثاني] : منهم من قال: يجب ذكر ذلك في دعوى النكاح - وبه قال أحمد - لأن الناس مختلفون في شروط النكاح، فمنهم من شرط الولي والشهود، ومنهم من شرط الولي دون الشهود، ومنهم من لم يشرط الولي والشهود، فلم يكن بد من ذكر الشرائط التي وقع عليها ذكر العقد؛ لئلا يكون النكاح وقع على جهة يعتقد الحاكم بطلانها. ولأن النكاح يحصل فيه الوطء ولا يمكن تلافيه إذا وقع، فكان كالقتل لا بد من ذكر سببه في الدعوى.
و [الثالث] : منهم من قال: إن كان يدعي عقد النكاح.. وجب ذكر هذه الأسباب؛ لأنها شرط في العقد. وإن كان لا يدعي العقد وإنما يدعي استدامة النكاح؛ بأن يقول: هي زوجتي.. لم يجب ذكر هذه الأسباب في الدعوى؛ لأن هذه الشرائط لا تشترط في استدامة النكاح، ولأن استدامة النكاح ثبتت بالاستفاضة، والعقد لا يثبت بالاستفاضة.

(13/155)


هذا ترتيب أصحابنا العراقيين، وقال الخراسانيون: هل يستحب ذكر هذه الأسباب في الدعوى في ابتداء النكاح؟ فيه وجهان:
أحدهما: يستحب.
والثاني: يجب. فإذا قلنا: يجب.. ففيه معنيان:
أحدهما: لاختلاف الناس في هذه الأشياء في عقد النكاح.
والثاني: لأجل الاحتياط في الأبضاع.
وإن ادعى استدامة النكاح.. فهل يجب ذكر هذه الأسباب في الدعوى؟
إن قلنا: إن المعنى في الدعوى في ابتداء النكاح اختلاف الناس فيها.. لم يجب ذكرها هاهنا؛ لأنه لا خلاف بينهم فيها في الاستدامة. وإن قلنا: المعنى هناك الاحتياط في الأبضاع.. وجب ذكرها في الدعوى في الاستدامة؛ لأن هذا المعنى موجود هاهنا. فإن ادعى نكاح أمة، وقلنا: يجب ذكر الشروط في الدعوى في النكاح.. فهل يجب عليه أن يذكر في دعوى نكاح الأمة عدم الطول وخوف العنت؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: يجب ذكر ذلك؛ لأنهما شرطان في النكاح فوجب ذكرهما، كما قلنا في الولي والشاهدين. ومنهم من قال: لا يجب ذكرهما، كما لا يجب ذكر خلوها من العدة والردة والإحرام. والأول أصح.
إذا ثبت هذا: وادعى رجل على امرأة نكاحا.. نظرت:
فإن أقرت له بالنكاح.. ففيه قولان، حكاهما القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، والمسعودي [في " الإبانة "] :
[أحدهما] : قال في القديم: (لا يثبت النكاح) ؛ لأنها ليست من أهل مباشرة عقد النكاح، فلم يقبل إقرارها به، كالصبي.
قال ابن الصباغ: فعلى هذا: لا يثبت النكاح إلا بالبينة، إلا أن يكون في الغربة لتعذر البينة.

(13/156)


و [الثاني] : قال في الجديد: (يثبت النكاح) . ولم يحك الشيخ أبو حامد وأكثر أصحابنا غيره، وهو الأصح؛ لأنها مقبولة الإقرار، فقبل إقرارها في النكاح، كالرجل.
وأما ما قاله الأول: يبطل بالمحرم؛ فإنه لا يملك عقد شراء الصيد ويصح إقراره بشرائه. فإن أنكرت النكاح ولا بينة.. كان القول قولها مع يمينها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» . فإن حلفت له.. سقطت دعواه، وإن نكلت.. ردت اليمين عليه، فإذا حلف.. ثبت النكاح. فإن قلنا بقوله القديم، وأن النكاح لا يثبت بإقرارها.. فهل تحلف؟ قال ابن الصباغ: لا تحلف؛ لأن اليمين إنما يعرض لتخاف فتقر، ولو أقرت.. لم يقبل إقرارها، فلا فائدة في عرض اليمين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : وهل تحلف على هذا القول؟ فيه قولان، بناء على أن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه: هل تحل محل إقرار المدعى عليه، أو تحل محل البينة من جهة المدعي؟ فإن قلنا: إنها تحل محل إقرار المدعى عليه.. لم تحلف؛ لأنها إن نكلت وردت اليمين، فحلف.. كانت يمينه كإقرارها، وإقرارها لا يقبل. وإن قلنا: إن يمينه كبينة يقيمها المدعي.. عرضت عليها اليمين؛ لجواز أن تنكل عن اليمين فيحلف الزوج فتكون كبينة أقامها، وبينته مسموعة.

[فرع دعوى امرأة نكاح رجل]
وإن ادعت امرأة على رجل نكاحا.. فهل تسمع دعواها؟ ينظر فيها:
فإن ادعت مع النكاح حقا من حقوق النكاح، كالمهر والنفقة أو غير ذلك.. سمعت دعواها، وإن لم تدع غير النكاح.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا تسمع دعواها؛ لأن النكاح حق للزوج عليها؛ لأن الملك له ومن أقر لغيره بملك شيء في يده وأنكر المقر له.. لم يقبل إقراره له.
والثاني: تسمع دعواها؛ لأن النكاح يتضمن وجوب حقوق لها عليه من المهر والنفقة،

(13/157)


فصارت دعواها للنكاح متضمنة لدعواها في هذه الحقوق، فسمعت دعواها.
وكل موضع سمعت دعواها في النكاح.. فهل يجب ذكر شروط العقد في الدعوى؟ على الأوجه التي ذكرناها في دعوى الرجل.
ثم ينظر في الرجل: فإن أقر بالنكاح.. ثبت النكاح، وإن أنكر.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال القاضي أبو الطيب في " شرح المولدات ": إنها تحرم عليه بإنكاره وإن أقامت البينة على النكاح. وقال الشيخ أبو حامد: لا يكون إنكاره طلاقا، وهو المنصوص في " الأم "؛ فإنه قال: (إذا أنكر.. كلفت البينة، فإن أقامت البينة.. ثبت النكاح، وإن لم تقم البينة.. فالقول قول الزوج مع يمينه، فإن حلف لها.. سقطت دعواها، وإن نكل.. ردت اليمين عليها، فإن حلفت.. ألزمته النكاح) .
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا أنكر.. جعل كأنه لا نكاح بينهما، فإن رجع عن الإنكار.. قبل رجوعه، وجعلت زوجة له، وهذا كما لو قال: راجعتك قبل انقضاء العدة، فقالت: لا، بل بعد انقضاء العدة.. فالقول قولها، ويجعل كأنه لا رجعة له فيه، فلو رجعت عن الإنكار.. ثبتت الرجعة.
قال: ونص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ما يقرب من هذه، وهو: (لو أن حرا تزوج أمة، ثم قال: كنت واجدا للطول عند التزويج.. فرق بينهما، وهل تلك الفرقة تكون طلاقا أو فسخا؟ فيه قولان) . قال القفال: فلو رجع عن قوله وقال: كذبت، بل كنت عادما للطول.. قبل قوله.

[فرع ادعاء عقد بيع أو صلح أو هبة في عبد ونحوه]
وإن ادعى عليه عقد بيع في عبد أو أرض، أو عقد صلح أو إجارة، وما أشبه ذلك.. فهل يجب فيه ذكر شروط العقد في الدعوى؟
إن قلنا: لا يجب ذكر شروط عقد النكاح في دعوى النكاح.. لم يجب هاهنا.
وإن قلنا: يجب في النكاح.. فهاهنا وجهان:

(13/158)


أحدهما: يجب؛ لأنه دعوى عقد، فافتقر إلى ذكر شروطه في الدعوى، كدعوى عقد النكاح. فعلى هذا القول: يقول: عقدنا بثمن معلوم من جائزي التصرف وتفرقنا عن تراض.
والثاني: لا يجب ذكر شروط العقد في الدعوى؛ لأن الدعوى متعلقة بالمال، فلم يفتقر إلى ذكر سبب الملك، كما لو ادعى المال مطلقا.
فإذا قلنا بهذا: وكانت الدعوى في البيع أو الشراء في الجارية.. فهل يفتقر إلى ذكر الشروط في الدعوى؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يفتقر؛ لأنه يدعي مالا، فهو كما لو ادعى ذلك في العبد.
والثاني: يفتقر إلى ذكر الشروط في الدعوى؛ لأنه عقد يستباح به البضع، فأشبه عقد النكاح.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : وإذا ادعى عليه أنه وهب منه شيئا أو باع منه شيئا.. فلا تسمع هذه الدعوى حتى يقول المدعي: يلزمه تسليمه إلي؛ لجواز أنه وهب منه شيئا، ثم رجع عن الهبة قبل القبض، أو فسخ البيع بعد القبض.

[فرع ادعى القرض أو الغصب أو البيع أو الهبة ونفاه الآخر]
وإن ادعى عليه أنه أقرضه أو غصب منه شيئا، فإن قال المدعى عليه: ما أقرضتني، أو ما غصبت منك شيئا.. صح الجواب؛ لأنه أجاب عما ادعى عليه.
وإن قال: لا تستحق علي شيئا، أو لا يلزمني شيء مما ادعيت به علي.. صح الجواب، ولا يكلف الجواب: أنه ما اقترض منه؛ لأنه قد يقترض منه ثم يقضيه أو يبرئه. فإن أنكره.. كان كاذبا، وإن أقر له بذلك.. احتاج أن يقيم البينة على القضاء أو البراءة، فيستضر بذلك. وإن ادعى عليه أنه باع منه شيئا أو وهب منه شيئا، فإن قال المدعى عليه: ما بعت منك ولا وهبت منك.. صح الجواب. فإن قال: لا تستحق ذلك علي، أو لا يلزمني تسليمه إليك.. صح الجواب ولا يستحق؛ لأنه قد يبيعه أو يهبه منه، ثم يفسخ، فلم يكلف الجواب على نفي البيع والهبة.

(13/159)


[مسألة ادعى على رجل دينا في ذمته أو عينا في يده فأنكره]
وإن ادعى رجل على رجل دينا في ذمته، فأنكره ولا بينة للمدعي.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه؛ لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو أن الناس أعطوا بدعواهم.. لادعى ناس من الناس دماء ناس وأموالهم، لكن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه» ، ولأن الأصل براءة ذمته، فكان القول قوله.
وإن ادعى رجل على رجل عينا في يده، فأنكره ولا بينة للمدعي.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه؛ لما روى وائل بن حجر: «أن رجلا من حضرموت أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعه رجل من كندة، فقال الحضرمي: يا رسول الله، إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي، فقال الكندي: أرضي، وفي يدي أزرعها، ولا حق له فيها، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحضرمي: "ألك بينة؟ " فقال: لا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لك يمينه"، فقال: إنه فاجر لا يبالي على ما حلف، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ليس لك منه إلا ذلك» ، «وروي عن الأشعث: أنه قال: كانت أرض بيني وبين يهودي فجحدني، فأتيت به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: لي: " ألك بينة؟ " فقلت: لا، فقال اليهودي: أحلف، فقلت: إذن يحلف ويذهب بالمال» ولأن اليد تدل على الملك، فكانت جنبته أقوى، فكان القول قوله.

[فرع اختلفا في عين أنها لكل ولا بينة]
وإن كان في يد رجلين عين، فادعى كل واحد منهما جميعها ولا بينة لأحدهما..

(13/160)


قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (حلف كل واحد منهما لصاحبه على نفي ما ادعاه) .
قال أصحابنا: ليس هذا على ظاهره؛ لأن كل واحد منهما يدعي جميعها، وليس في يد كل واحد منهما إلا نصفها، بل يجب على كل واحد منهما أن يحلف لصاحبه على النصف الذي هو في يده، فإن حلف كل واحد منهما لصاحبه.. قسمت العين بينهما نصفين؛ لما روى أبو موسى الأشعري: «أن رجلين تنازعا دابة، وليس لأحد منهما بينة، فجعلها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما [نصفين] » ، ولا يكون ذلك إلا إذا حلف كل واحد منهما لصاحبه. فإن حلف أحدهما لصاحبه ونكل الآخر.. ردت اليمين على الحالف، فإن حلف على النصف الذي في يد الناكل.. قضي له بجميعها.

[مسألة تداعيا عينا وأقام واحد بينة]
وإن تداعيا عينا وأقام أحدهما بينة.. قضي بها لصاحب البينة، سواء كانت العين في يد صاحب البينة أو في يد المدعي الآخر أو في يد ثالث أو لا يد لأحد عليها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» ، فبدأ بالحكم بالبينة، فدل على أنها أقوى حجة، وهذا قد أقام البينة فحكم له بها.
وإن ادعيا عينا في يد أحدهما، وأقام كل واحد منهما بينة.. حكم بها لصاحب اليد. وبه قال شريح، والنخعي، والحكم، ومالك، وأبو ثور.
وقال أبو حنيفة: (إذا أقام المدعي البينة، ثم أراد المدعى عليه أن يقيم البينة في مقابلته.. نظرت: فإن كانت تشهد بملك مطلق أو بملك مضاف إلى سبب يتكرر ذلك السبب؛ مثل أن تكون الدعوى في آنية تسبك وتصاغ ثانيا وثالثا، أو في ثوب كتان أو صوف ينقض ثم ينسج.. لم تسمع بينته. وإن كانت بينته تشهد بملك مضاف إلى سبب

(13/161)


لا يتكرر؛ مثل أن تكون الدعوى في الدابة وشهدت بينة المدعي أن الدابة له نتجت في ملكه، وشهدت بينة المدعى عليه أنها له نتجت في ملكه.. فهاهنا بينة الذي لا يد له عليها أولى من بينة صاحب اليد) . وقال أحمد: (بينة من لا يد له أولى بكل حال) .
دليلنا: ما روي: «أن رجلين اختصما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في دابة، وأقام كل واحد منهما بينة أنها له نتجت في ملكه، فجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدابة لمن هي في يده» . ولأن كل واحد منهما معه بينة، ومع أحدهما ترجيح باليد فقدمت بينته، كالخبرين إذا تعارضا ومع أحدهما ترجيح.
إذا ثبت هذا: فهل يجب على صاحب اليد أن يحلف مع بينته؟ حكى أكثر أصحابنا فيها وجهين، المنصوص: (أنه لا يجب عليه أن يحلف مع بينته) .
وحكى ابن الصباغ في ذلك قولين، بناء على البينتين إذا تعارضتا، وفيهما قولان: أحدهما: تسقطان. فعلى هذا: لا بد أن يحلف صاحب اليد.
والثاني: تستعملان. فعلى هذا: ترجح بينة صاحب اليد بيده، فلا يجب عليه أن يحلف، وإنما تسمع بينة صاحب اليد بعد أن يقيم المدعي الذي لا يد له بينته؛ ليعارض بها بينة الخارج. فإن أراد صاحب اليد أن يقيم بينته قبل أن يقيم الذي لا يد له بينة.. فهل تسمع بينته؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي العباس بن سريج -: أنها تسمع؛ لأنها مسموعة في الحكم، فسمعت كما لو أقامها بعد أن أقام خصمه بينته.
والثاني: لا تسمع، وهو ظاهر المذهب؛ لأنه محكوم له بالملك بمجرد

(13/162)


اليد، فلا فائدة في إقامة البينة. وهل تقبل بينة صاحب اليد بالملك له مطلقا من غير ذكر سبب الملك؟ فيه وجهان، حكاهما بعض أصحابنا قولين:
[أحدهما] : قال في القديم: (لا تقبل حتى يضيفه إلى سبب) ؛ لأنها قد تشهد له بالملك لأجل اليد.
و [الثاني] : قال في الجديد: (تقبل مطلقا) ، وهو الأصح؛ لأن الظاهر من حالهم أنهم لم يتعمدوا في شهادتهم يدا منازعة، وإنما شهدوا بالملك بأمر عرفوه غير اليد.

[فرع إقامة من ليس له يد بينة ثم إقامة صاحب اليد بينة]
وإن كانت العين في يد أحدهما، فأقام الذي لا يد له بينة، فحكم له بها وسلمت العين إليه، ثم أقام صاحب اليد بينة أنها له.. نقض الحكم الأول وسلمت العين إلى صاحب اليد الأول؛ لأنا حكمنا لمن لا يد له ظنا منا أنه لا بينة لصاحب اليد، فإذا أقام البينة.. فقد بان أن له يدا وبينة، فقدمت بينته على بينة الآخر.

[مسألة ادعيا عينا لا يد لهما عليها أو كانت في يد ثالث]
إذا ادعى رجلان عينا في يد ثالث، أو لا يد لأحدهما عليها، وأقام كل واحد من المدعيين بينة أن جميعها له.. ففيه قولان:
أحدهما: أن البينتين تسقطان، فيكون كما لو لم تكن معهما بينة - وبه قال مالك - لأن كل واحدة من البينتين أثبتت الملك لمن شهدت له، ولا يمكن أن يكون الشيء ملكا للاثنين في حالة واحدة ولا مزية لإحداهما على الأخرى فسقطتا، ولأنهما أوقعتا إشكالا في حق المالك منهما فسقطتا، كما لو شهدت البينة بملك عين لأحد الرجلين لا بعينه.

(13/163)


والثاني: لا تسقطان، بل تستعملان؛ لأنهما حجتان تعارضتا، فإذا أمكن استعمالهما.. لم يسقطا، كالخبرين إذا تعارضا في الحادثة وأمكن استعمالهما.
فإذا قلنا: تستعملان.. ففي كيفية استعمالهما ثلاثة أقوال:
أحدها: يوقف الأمر إلى أن يصطلحا. قال الربيع: وهو الأصح؛ لأن إحداهما صادقة في الباطن والأخرى كاذبة، ويرجى انكشاف الصادقة منهما، فوجب التوقف إلى أن نتبين الصادقة، كما لو زوج المرأة وليان لها من رجلين وسبق أحدهما وأشكل السابق.
والثاني: تقسم العين بين المدعيين - وبه قال ابن عمر وابن الزبير والثوري وأبو حنيفة - لما روى تميم الطائي: «أن رجلين اختصما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شيء، فأقام كل واحد منهما بينة أنه له، فقسمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما نصفين» . وروى أبو موسى الأشعري: «أن رجلين اختصما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعير، فأقام كل واحد منهما بينة أنه له، فقسمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما» ، ولأن البينة حجة كاليد، ولو كان لكل واحد منهما يد.. لقسمت العين بينهما، فكذلك إذا كان لكل واحد منهما بينة.
والقول الثالث: أنه يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة.. حكم له بالعين؛ لما روى سعيد بن المسيب: «أن قوما اختصموا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتساوت بيناتهم في العدالة والعدد، فأسهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهم، وقضى للذي خرج له السهم» ، ولأن المدعيين

(13/164)


قد تساويا في الدعوى والبينة فأقرع بينهما، كما لو أعتق رجل في مرض موته عبيدا لا يخرجون من ثلثه. فإذا قلنا بهذا: فهل يحلف من خرجت له القرعة؟ فيه قولان:
أحدهما: يحلف؛ لأن القرعة ضعيفة، فرجحت باليمين ورجحت بهما البينة، فيكونان بمجموعهما قائمين مقام اليد التي تترجح بها إحدى البينتين.
والثاني: لا يجب عليه أن يحلف، وهو الأصح؛ لأن البينة ترجحت بالقرعة؛ لأن كل دليلين تقابلا ووجد مع أحدهما ترجيح.. قدم ولم يطلب ترجيح آخر، كما لو كان مع إحدى البينتين يد.
والصحيح هو الأول: أنهما تسقطان، وحديث تميم الطائي ضعيف، وحديث أبي موسى الأشعري محمول على أن البعير كان في أيديهما، وحديث ابن المسيب مرسل وعلى أنه لم يذكر عن أي شيء كان، ويحتمل أنه كان في العتق.

[فرع زيادة بينة أحدهما على الآخر بعدد أو غيره]
وأنواع البينة] : وإن كانت بينة أحدهما شاهدين، وبينة الآخر أربعة أو أكثر.. فنقل أصحابنا البغداديون: أنهما متعارضتان ولا ترجح بكثرة العدد. وحكى المسعودي [في " الإبانة "] : أن الشافعي قال في القديم: (ترجح البينة بكثرة عدد الشهود) ، وحكى: أنه مذهب مالك. والمشهور عن الشافعي ومالك وأكثر أهل العلم هو الأول.
وقال الأوزاعي: (تقسم العين بيد المدعيين على عدد الشهود، فيكون لصاحب الشاهدين ثلث العين ولصاحب الأربعة ثلثاها) .
دليلنا: أن عدد الشهود أمر مقدر في الشرع، وما قدر في الشرع لا يدخل الاجتهاد فيه كالدية لما قدرت في الشرع.. لم يجز أن يدخل فيها الاجتهاد، باختلاف

(13/165)


المقتول في الطول والعرض والقصر.. وإن أقام كل واحد منهما بينة عادلة إلا أن بينة أحدهما أعلم وأعف وأشهر في العدالة.. فإنها لا تقدم على بينة الآخر فيما تعارضتا فيه. وقال مالك: (تقدم البينة التي هي أعف وأعلم وأشهر في العدالة) .
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] : أنه قول آخر للشافعي. والمشهور عنه هو الأول؛ لأنهما متساويتان في العدالة المعتبرة، فكانتا متعارضتين، كما لو استويا في العدالة. فإن أقام أحدهما شاهدين، وأقام الآخر شاهدا وأراد أن يحلف معه، أو شاهدا وامرأتين.. ففيهما قولان:
أحدهما: أنهما متعارضتان؛ لأنهما متساويتان في إثبات المال.
والثاني: يقضي لمن معه الشاهدان على من معه الشاهد واليمين، ولمن معه الشاهد والمرأتان على من معه الشاهد واليمين؛ لأنها بينة مجمع عليها، والشاهد واليمين مختلف فيها.

[فرع عين في يد رجل وادعى آخر ملك جميعها وثالث ملك نصفها]
إذا كانت عين في يد رجل، فادعى رجل ملك جميعها، وأقام على ذلك بينة، وادعى آخر ملك نصفها، وأقام على ذلك بينة.. فإن للذي ادعى جميعها نصفها؛ لأنه لم تعارض بينته فيه بينة الآخر. وأما النصف الآخر.. فقد تعارض فيه البينتان.
فإن قلنا: إن البينتين إذا تعارضتا، سقطتا.. رجع إلى مَنِ الْعَيْنُ في يده، فإن ادعى ذلك النصف لنفسه.. حلف لكل واحد منهما يمينا. وإن أقر به لأحدهما.. كان له، وهل يحلف للآخر؟ فيه قولان، يأتي بيانهما. وإن أقر به لهما.. كان بينهما، وهل يحلف لكل واحد منهما على الربع؟ على القولين. وإن قلنا: تستعملان، فإن قلنا بالوقف.. وقف ذلك النصف إلى أن يصطلحا عليه. وإن قلنا: يقسم.. قسم ذلك النصف بينهما نصفين، فيكون لمدعي الجميع ثلاثة أرباع العين،

(13/166)


ولمدعي النصف ربعها. وإن قلنا بالقرعة.. أقرع بينهما عليه، وهل يحلف من خرجت له القرعة؟ على قولين. وقال أبو العباس بن سريج: إذا قلنا: إن البينتين تسقطان في النصف الذي تعارضتا فيه.. فهل تسقط بينة مدعي الجميع في النصف الآخر؟ فيه قولان، بناء على أن البينة إذا ردت في بعض شيء.. فهل ترد في الباقي؟ فيه قولان، وهو اختيار القاضي أبي الطيب والمسعودي [في " الإبانة "] . وقال الشيخ أبو حامد: والأول أصح؛ لأن القولين إنما هما إذا ردت الشهادة في بعض الشيء للتهمة، فأما للتعارض.. فلا ترد قولا واحدا، ألا ترى أنا إذا قلنا: يقسم المشهود به.. فقد أسقطنا البينة في بعض ما شهدت به، ولا تسقط في الباقي؟.

[فرع في يديهما عين وادعاها كلاهما والآخر ثلثها]
وإن كانت العين في يد رجلين، فادعى كل واحد منهما جميعها، وأقام على ما ادعاه بينة.. فقد ذكر الشيخ أبو إسحاق: أن الحكم فيه كما لو ادعى كل واحد منهما جميعها وأقام على ذلك بينة، والعين في يد غيرهما أو لا يد لأحدهما عليها.
وقال الشيخ أبو حامد: تكون العين بينهما، وهل يحتاج كل واحد منهما أن يحلف على النصف الذي في يده مع بينته؟ فيه قولان؛ لأن لكل واحد منهما يدا وبينة على النصف، فهو كما لو أقام كل واحد منهما بينة والعين في يد أحدهما؛ فإنه يقضى بها لصاحب اليد، وهل يحلف مع بينته؟ فيه قولان. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا قلنا: تسقط البينتان عند التعارض.. كان كما لو لم يقيما بينة، فيحلفان وتقسم بينهما. وإن قلنا: تستعملان.. فيجيء فيه قول القسمة، ولا يجيء فيه قول الوقف؛ لأنه لا معنى للوقف مع ثبوت اليد، وهل تجيء فيه القرعة؟ فيه وجهان.
وإن كانت العين في يد رجلين، فادعى أحدهما جميعها، وادعى الآخر ثلثها، وأقام كل واحد منهما بينة على ما ادعاه.. فإنه يقضى لمدعي ثلثها بثلثها؛ لأن له اليد على نصفها إلا أن بينته لم تشهد له إلا بثلثها، فقضي له بها. ويقضى لمدعي الجميع بثلثيها؛ لأن له يدا وبينة على نصفها، وله بينة بسدسها وللآخر فيه يد بلا بينة، والبينة مقدمة على اليد.

(13/167)


[مسألة دار بيد ثلاثة وادعى كل منهم حصة]
قال الشافعي: (ولو كانت الدار في يد ثلاث أنفس، فادعى أحدهم النصف، والآخر الثلث، والآخر السدس وجحد بعضهم بعضا.. فهي لهم على ما في أيديهم، ثلثا ثلثا) .
فاعترض معترض على الشافعي، فقال: كيف يجعل لمدعي السدس الثلث وهو لا يدعي إلا السدس؟ فقال أصحابنا: أراد الشافعي بما ذكره: إذا كانت الدار بين ثلاثة، فادعى كل واحد منهم جميع الدار إلا أن أحدهم قال: نصفها ملكي والنصف الآخر وديعة في يدي لرجل غائب أو عارية، وقال الآخر: ثلثها ملكي وثلثاها وديعة عندي أو عارية، وقال الثالث: سدسها ملكي والباقي منها وديعة عندي أو عارية.. فإنه يجعل لكل واحد منهم هاهنا ثلث الدار، كما قال الشافعي؛ لأن يده ثابتة عليه.
والدليل على أنه أراد ذلك: أنه قال: (وجحد بعضهم بعضا) ، ولا يتصور التجاحد بينهم إلى على ما ذكرناه.
فأما إذا كانت في أيديهم وادعى أحدهم ملك نصفها لا غير، وادعى الثاني ملك ثلثها لا غير، وادعى الثالث ملك سدسها لا غير، وأقام كل واحد منهم بينة على ما ادعاه.. فإنه يحكم لمدعي الثلث بالثلث؛ لأن له فيه يدا وبينة، ويحكم لمدعي السدس بالسدس؛ لأن له فيه يدا وبينة، وأما مدعي النصف.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: أنه يحكم له بنصف الدار؛ لأن له يدا على الثلث وبينة، وله بينة على السدس في يد مدعي السدس، وليس لمدعي السدس عليه إلا يد ولا يدعيه، فيحكم به لمدعي النصف.
والثاني: أنه يحكم لمدعي النصف بالثلث الذي في يده، ويحكم له بنصف السدس مما في يد مدعي السدس، فبقي في يد مدعي السدس السدس ونصف السدس؛ لأن مدعي النصف إنما يدعي السدس الزائد على الثلث مما في يد مدعي

(13/168)


الثلث ومدعي السدس؛ بدليل: أنه لو لم يكن معه بينة.. لكان له أن يستحلفهما عليه، فإذا كان ذلك مشاعا بينهم.. لم يكن له أن يأخذ شيئا مما في يد مدعي الثلث؛ لأن له فيه يدا وبينة، فلم يبق له إلا نصف السدس مما في يد صاحب السدس.

[فرع دار في يد ثلاثة وادعاها أحدهم والثاني نصفها والثالث ثلثها]
فرع: [دار في يد ثلاثة وادعاها أحدهم والثاني نصفها ولهما بينة والثالث ثلثها ولا بينة] :
وإن كانت الدار في يد ثلاثة، فادعى أحدهم ملك جميعها وأقام على ذلك بينة، وادعى الثاني ملك نصفها وأقام على ذلك بينة، وادعى الثالث ملك ثلثها ولا بينة له.. فإنه يحكم لمدعي الكل بالثلث الذي في يده؛ لأن له فيه يدا وبينة. ويحكم لمدعي النصف بالثلث الذي في يده؛ لأن له فيه يدا وبينة. وأما الثلث الذي في يد الثالث.. فإنه يحكم بنصفه -وهو السدس- لمدعي جميعها؛ لأن له فيه بينة لا تعارضها فيه بينة الآخر. وأما السدس الباقي في يد مدعي الثلث.. فقد تعارضت فيه بينة مدعي الجميع وبينة مدعي النصف، فإذا قلنا: تسقطان.. رجع فيه إلى قول من هو في يده. وإن قلنا: تستعملان: فإن قلنا بالوقف.. وقف، وإن قلنا: بالقسم.. قسم بينهما، وإن قلنا بالقرعة.. أقرع بينهما.

[فرع دار في يد أربعة أو يد غيرهم وادعى كل منهم حصة]
وإن كانت دار في يد أربعة رجال، فادعى أحدهم ملك جميعها، وادعى الثاني ملك ثلثيها، وادعى الثالث ملك نصفها، وادعى الرابع ملك ثلثها، فإن لم تكن مع واحد منهم بينة.. فالقول قول كل واحد منهم مع يمينه في الربع الذي في يده وتقسم بينهم أرباعا. وإن أقام كل واحد منهم بينة بما ادعاه.. قضي لكل واحد منهم بالربع الذي في يده؛ لأن له فيه يدا وبينة. وإن كانت الدار في يد غيرهم، فإن لم يقم أحد منهم بينة.. فالقول قول من الدار في يده مع يمينه. وإن أقام كل واحد منهم بينة بما ادعاه.. فإنه يحكم لمدعي الجميع بثلث الدار؛ لأن له فيه بينة لا تعارضها فيه بينة.

(13/169)


وأما الثلثان: ففيه تعارض بالسدس الذي بين النصف والثلثين، تعارض فيه بينتان؛ بينة مدعي الجميع وبينة مدعي الثلثين. والسدس الذي بين النصف والثلث تعارض فيه ثلاث بينات؛ بينة مدعي الجميع، وبينة مدعي الثلثين، وبينة مدعي النصف. والثلث الباقي تعارض فيه الأرب البينات، فيبنى على القولين في البينتين إذا تعارضتا. فإن قلنا: تسقطان.. صار كما لو لم تكن بينة في الثلثين، فيكون القول قول من الدار في يده مع يمينه، فإن أنكرهم.. حلف لكل واحد منهم، وإن أقر به أو بشيء منه لبعضهم.. قبل إقراره له وهل يحلف للباقين؟ فيه قولان. وإن قلنا: إن البينتين إذا تعارضتا استعملتا.. ففي كيفية الاستعمال الأقوال الثلاثة.
فإن قلنا بالوقف.. وقف الثلثان بينهم إلى أن يصطلحوا عليه.
وإن قلنا بالقسمة.. قسم السدس الذي بين النصف والثلثين: بين مدعي الجميع ومدعي الثلثين نصفين، ويقسم السدس الذي بين النصف والثلث: بين مدعي الجميع ومدعي الثلثين ومدعي النصف أثلاثا، ويقسم الثلث الباقي بين الأربعة أرباعا، فتصح من ستة وثلاثين سهما؛ لمدعي الجميع عشرون؛ اثنا عشر سهما منها ثلث الدار الذي لا ينازعه فيه غيره، وثلاثة أسهم هي نصف السدس الذي بين النصف والثلثين، وسهمان: ثلث السدس الذي بين النصف والثلث، وثلاثة أسهم هي ربع الثلث.

(13/170)


ويحصل لمدعي الثلثين ثمانية أسهم؛ ثلاثة: نصف السدس الذي بين النصف والثلثين، وسهمان: ثلث السدس الذي بين النصف والثلث، وثلاثة أسهم: ربع الثلث الباقي. ويحصل لمدعي النصف خمسة أسهم؛ سهمان: ثلث السدس الذي بين النصف والثلث، وثلاثة: ربع الثلث الثالث الباقي.
ويحصل لمدعي الثلث ثلاثة أسهم لا غير، وهي ربع الثلث.
وإن قلنا بالقرعة.. فعلى هذا: يقرع في ثلاثة مواضع:
أحدها: في السدس الذي بين النصف والثلثين، بين مدعي الجميع ومدعي الثلثين.
والثاني: في السدس الذي بين النصف والثلث، بين مدعي الجميع ومدعي الثلثين ومدعي النصف.
والثالث: في الثلث الباقي بين الأربعة.
فمن خرجت قرعته على شيء من ذلك.. كان ذلك الشيء له.

[مسألة عين في يد رجل أو يد أحدهما وشهدت البينة بملك متقدم لأحدهما]
وإن كانت عين في يد رجل، فادعى رجل ملكها وأقام بينة على أنها ملكه منذ سنتين لا يعلم أنه زال عنه إلى الآن، وادعى آخر أنها ملكه وأقام بينة أنها ملكه منذ سنة لا يعلم أنه زال عنه إلى هذه الحالة.. ففيه قولان:
أحدهما: يحكم لمن شهدت له البينة بالملك المتقدم - وبه قال أبو حنيفة والمزني - وهو الأصح؛ لأن البينة أثبتت له الملك في وقت لا تعارضها فيه البينة الأخرى؛ ولهذا: يجب له على المشهود عليه نماء تلك العين وأجرتها في تلك

(13/171)


المدة، وإنما تعارضتا في إثبات الملك فيما بعد ذلك، فإذا سقطتا فيما تعارضتا فيه.. بقي إثبات الملك له فيما قبل ذلك، فوجب استدامته.
والثاني: أنهما سواء؛ لأن الاعتبار بالبينة إثبات الملك في الحال وهما متساويتان في ذلك.
فإذا قلنا بهذا: فهما متعارضتان، فإن قلنا: تسقطان عند التعارض.. كان القول قول من العين في يده، فإن ادعاه لنفسه.. حلف لكل واحد منهما يمينا، وإن أقر بها لأحدهما.. كانت له، وهل يحلف للآخر.. فيه قولان. وإن أقر بها لهما.. قسمت بينهما، وهل يحلف لكل واحد منهما على النصف؟ فيه قولان.
وإن قلنا: لا تسقطان، بل تستعملان، فإن قلنا بالوقف.. وقفت العين بينهما إلى أن يصطلحا عليها، وإن قلنا بالقسمة.. قسمت بينهما، وإن قلنا بالقرعة.. أقرع بينهما. فإن كانت بحالها وشهدت بينة أحدهما أنها ملكه في الحال، وشهدت بينة الآخر أنها ملكه منذ شهر إلى هذه الحال.. فقال أكثر أصحابنا: هي على قولين كالتي قبلها. ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: هما سواء قولا واحدا.
وإن كانت العين في يد أحد المتداعيين، وشهدت بينة أحدهما أنها ملكه منذ سنة إلى هذه الحال، وشهدت بينة الآخر أنها ملكه منذ شهر إلى هذه الحال.. نظرت: فإن كانت الدار في يد من شهدت له البينة بالملك المتقدم.. حكم له بالعين قولا واحدا؛ لأن معه ترجيحين باليد والشهادة بتقادم الملك. وإن كانت في يد الآخر.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال أبو إسحاق: يبنى على القولين فيها إذا كانت العين في يد غيرهما. فإن قلنا هناك: إنهما متعارضتان من جهة البينة ومع الآخر ترجيح.. فحكم بها لصاحب اليد؛ لأن البينتين قد تساويتا وانفرد صاحب اليد باليد، فحكم له بها. وإن قلنا: إنه يحكم بها لمن شهدت له البينة بالملك المتقدم.. حكم له بها هاهنا أيضا؛ لأن معه ترجيحا من جهة البينة، ومع الآخر ترجيحا من جهة اليد،

(13/172)


والترجيح من جهة البينة يقدم على الترجيح من جهة اليد.
ومن أصحابنا من قال: يحكم بها لصاحب اليد قولا واحدا، وهو ظاهر المذهب؛ لأنهما متساويان في إثبات الملك في الحال، ولأحدهما مزية في إثبات الملك المتقدم، وللآخر مزية باليد الموجودة، واليد الموجودة أولى من إثبات الملك المتقدم. ألا ترى أنه لو كان في يد رجل عين وادعاها آخر وأقام بينة أنها كانت له منذ سنة.. فإنه لا يحكم له بها؟ فكذلك هذا مثله.

[فرع دابة أو زرع في يد رجل فادعاهما آخران وتقديم بينة الملك على اليد]
وإن كانت دابة في يد رجل، فادعاها رجلان، وأقام أحدهما بينة أنها ملكه في هذه الحال، وأقام الآخر بينة أنها ملكه في هذه الحال وأنها نتجت في ملكه.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال أبو العباس: فيه قولان، كما لو شهدت بينة أحدهما بملك متقدم:
أحدهما: أنهما سواء، فتكونان متعارضتين، والحكم في المتعارضتين ما ذكرنا فيما مضى.
والثاني: أن الذي شهدت بينته بالملك المتقدم أولى، فتقدم هاهنا بينة من شهدت له بالنتاج؛ لأن الشهادة بالنتاج كالشهادة بالملك المتقدم.
وقال أبو إسحاق: يحكم بها لمن شهدت البينة له بالنتاج قولا واحدا؛ لأن التي شهدت بالملك المتقدم لا تنفي أن يكون الملك لغيره فيما قبل هذه المدة ويجوز أن يكون الملك فيها لخصمه، والتي شهدت له بالنتاج في ملكه نفت أن يكون الملك فيها لغيره قبل النتاج. وإن ادعيا زرعا في يد غيرهما، فأقام أحدهما بينة أنه ملكه في هذه الحال، وأقام الآخر بينة أنه ملكه في هذه الحال وأنه زرعه في ملكه.. ففيه طريقان، كما قلنا فيمن شهدت له بينة بالملك وشهدت للآخر بينة بالملك والنتاج.

(13/173)


قال في " الأم ": (وإن ادعى رجل دابة، وأقام بينة أنها ملكه منذ عشر سنين، فنظر الحاكم إلى الدابة فإذا لها سنتان.. لم يحكم للمدعي بالدابة؛ لأنه بان كذب بينته فيما شهدت به؛ لأن الدابة التي لها سنتان لا يجوز أن تكون ملكه منذ عشر سنين) .
وإن كان في يد رجل عين وادعاها آخر وأقام بينة أنها له منذ سنة، وأقام صاحب اليد بينة أنها في يده منذ سنتين.. قدمت بينة الخارج؛ لأنها تشهد بالملك، وبينة الآخر تشهد باليد، والملك مقدم على اليد.

[فرع عين في يد رجل وادعاها زيد وأقام بينة وسلمت له ثم ادعاها عمرو]
إذا كانت عين في يد رجل، فجاء زيد فادعاها وأقام عليها بينة، فحكم له بها وسلمت إليه، ثم جاء عمرو فادعاها وأقام عليها بينة.. قال أبو العباس: فقد تعارضت البينتان، فإن قلنا: تسقطان.. كان كما لو لم يكن بينة.
وإن قلنا: تستعملان.. فهل يحتاج زيد إلى إقامة بينة ليعارض بها بينة عمرو؟ يبنى على القولين في البينتين إذا كانت إحداهما تشهد في ملك متقدم: فإن قلنا: إن التي شهدت بالملك المتقدم تقدم على الأخرى.. لم يحتج زيد إلى إعادة بينة؛ لأنها ثابتة له في الحال وفيما قبل، فيكون كما لو أقامها في الحال. وإن قلنا: إن البينة التي شهدت بالملك المتقدم تساوي البينة الأخرى.. فهل يحتاج زيد إلى إعادة بينته؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يحتاج إلى إعادتها - وبه قال أبو حنيفة - لأنها قد أثبتت الملك له يوم الشهادة، والأصل بقاء ذلك الملك إلى أن يعلم خلافه.
والثاني: يحتاج إلى إعادة بينته؛ لأن حكم التعارض في الملك في الحال، وبينة زيد لم تشهد له بالملك في الحال، وإنما شهدت له بالملك في وقت متقدم، فلا بد أن يثبت له الملك في الحال؛ لتعارض البينة التي شهدت لعمرو بالملك في الحال.

(13/174)


[مسألة ادعى عينا في يد آخر مع بينة أنها له فأنكرها الخصم]
مسألة: [ادعى عينا في يد آخر مع بينة أنها له أمس فأنكرها الخصم أو أقر أنها كانت في يده] :
وإن كان في يد رجل عين وادعاها آخر، فأنكر من هي في يده، وأقام المدعي بينة أنه كانت في يده أمس.. فقد نقل المزني والربيع: (أنه لا يحكم له بهذه الشهادة) ، ونقل البويطي: (أنه يحكم بها) . ولا فرق بين أن تشهد له باليد أو بالملك، إلا أن الشافعي لم ينص إلا على اليد، واختلف أصحابنا فيها على طريقين: فقال أبو العباس: فيه قولان، قال: وأصلهما القولان في الرجلين إذا ادعيا عينا في يد غيرهما، وأقام أحدهما بينة أنها ملكه منذ سنة إلى هذه الحال، وأقام الآخر بينة أنها ملكه منذ شهر إلى هذه الحال: فإذا قلنا: إنهما سواء.. لم يحكم بهذه البينة. وإن قلنا: إن التي شهدت بالملك المتقدم أولى.. حكم بهذه البينة. فإذا قلنا: يحكم بها - وهو اختيار البويطي وأبى العباس - فوجهه: أن البينة أثبتت له اليد أو الملك أمس، والأصل بقاء ذلك إلى أن يعلم خلافه. وإذا قلنا: لا يحكم له بها -كما قال الشيخان: أبو حامد وأبو إسحاق - وهو الأصح.. فوجهه: أنه ادعى الملك في الحال، والبينة إنما شهدت له باليد أو بالملك أمس، فلم يحكم له بذلك، كما لو ادعى دارا وشهدت له بينة بغيرها. ولأنه لو ادعى أن هذه الدار كانت ملكا له أمس، ولم يدع ملكها في هذه الحال.. لم تسمع هذه الدعوى، فكذلك: إذا شهدت له البينة بملكها أمس ولم تثبت الملك له في هذه الحال.. فإنها لا تسمع، كالدعوى والشهادة بالمجهول. قال أبو إسحاق: لا يحكم بها قولا واحدا - لما ذكرناه- وما ذكره البويطي.. فهو مذهبه لا مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقد حكى الربيع في "الأم" ما يدل على صحة ذلك؛ لأنه حكي عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيها: (أنه لا يحكم بالبينة) ، ثم قال: وقال أبو يعقوب البويطي: أنه يحكم بها، فتبين أنه مذهب البويطي، ويخالف الشهادة بالملك المتقدم؛ لأنهما قد شهدتا بالملك في الحال، وإنما انفردت إحداهما بإثبات الملك في زمان ماض فرجحت بذلك، وهاهنا لم تثبت البينة في الحال، فلم يحكم بها.
فإن شهدت البينة أنها كانت في يد المدعي أو في ملكه أمس، وأن فلانا أخذها منه أو قهره عليها أو غصبها منه، أو كانت العين عبدا فأبق.. قال أصحابنا: فإنه يحكم

(13/175)


بهذه البينة قولا واحدا؛ لأنه لو علم أن سبب يد الثاني من جهته، فكان موجب قولها: (إن فلانا أخذها منه) أن له اليد لهذا، أو أن يد الثاني بغير حق، ويخالف إذا لم يذكر السبب؛ لأن اليد تدل على الملك والاستحقاق. قال أبو العباس: وإن ادعى رجل دارا في يد غيره، فأقر المدعى عليه أن هذه الدار كانت في يد المدعي، فإن قلنا: إن البينة إذا قامت له بذلك تقبل.. حكم له بها هاهنا بالإقرار. وإن قلنا: لا تقبل في البينة.. فهل يحكم له بها بالإقرار؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يحكم له بها، كما لو قامت البينة بذلك.
والثاني: يحكم له بها؛ لأن البينة لا تنفي أن تكون في يد غيره قبل ذلك، فقد تعارضت البينتان في الوقت المتقدم، وانفرد من بيده الدار بيد موجودة في هذه الحال، فحكم له بها، فأسقط حكم البينة. وليس كذلك إذا أقر أن الدار كانت في يد المدعي؛ لأن بإقراره أسقط يد نفسه فجعلت اليد للمدعي، والأصل بقاؤها إلى أن يعلم زوالها. قال أبو العباس: إذا قال المدعى عليه: إنها كانت للمدعي.. فإنه يحكم بها للمقر له وجها واحدا؛ لأنه إذا أقر أنها كانت في يده.. لم يتضمن الإقرار بملكها، وإذا أقر أنها كانت في ملكه.. فلأنه أثبت الملك لغيره، فأسقط حق نفسه منها، فحكم بها للمقر له، وجها واحدا.

[فرع ادعى عينا موروثة في يد رجل فأنكره آخر فأقام بينة]
إذا ادعى رجل عينا في يد آخر فأنكره، فأقام المدعي بينة أنها ملك أبيه إلى أن مات وخلفها موروثة وهو وارثه.. فاختلف أصحابنا المتأخرون فيها: فمنهم من قال: هو كما لو أقام بينة أنها كانت في يده أو في ملكه أمس. ومنهم من قال: يحكم بها، وهو الأصح عندي مذهبا وحجاجا. أما (المذهب) : فلأن المزني والربيع نقلا: (لو أقام بينة أن أباه هلك وترك هذه الدار ميراثا له ولأخيه الغائب.. أخرجتها من يد من هي في يده) . ونقل المزني والربيع: (أنها إذا شهدت أنها كانت في يده.. لا تسمع) .

(13/176)


ولم يقل أحد من أصحابنا المتقدمين: أنهما نقلا أن البينة بالملك بالأمس تسمع، بل أضافوا ذلك إلى البويطي. وأما (الحجاج) : فلأنه روي: أن الحضرمي «قال: يا رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن هذا غلبني على أرض ورثتها من أبي - وروي: أنه قال: كانت لأبي- فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ألك بينة؟ " فقال: لا» فدل على أنه لو أقام بينة على ما ادعاه.. لسمعت. ولأنه لو أقام بينة أنه اشتراها من مالكها.. حكم له بها، فلأن يحكم له بها إذا أضافها إلى الميراث أولى؛ لأنه أقوى.

[فرع في يديهما شاتان وادعى كل شاة صاحبه]
أو ادعاهما وماذا لو كانت شاة مسلوخة بينهما؟] :
إذا كان في يد رجلين شاتان في يد كل واحد منهما شاة، فادعى كل واحد منهما الشاة التي في يد صاحبه وأنها بنت الشاة التي في يده، وأقام كل واحد منهما البينة بذلك.. فإن البينتين متعارضتان في النتاج دون الملك، فيقضى لكل واحد منهما بالشاة التي في يد صاحبه؛ لأنه قد يملك الشاة ولا يملك أمها؛ بأن يوصى له بما في بطنها.
وإن كان في يد رجل شاتان، سوداء وبيضاء، فادعاهما رجل وأن السوداء ولدت البيضاء وأقام على ذلك بينة، وادعى آخر ملكهما وأن البيضاء ولدت السوداء وأقام على ذلك بينة.. فقد تعارضت البينتان في النتاج والملك، فإن قلنا: إن البيتين إذا تعارضتا سقطتا.. رجع فيهما إلى قول من هما في يده. وإن قلنا: تستعملان.. فعلى الأقوال الثلاثة. وإن كان في يد رجل شاة مسلوخة، وفي يد آخر جلدها وسواقطها، فادعى كل واحد منهما ملك الشاة، وأقام على ذلك بينة.. حكم لكل واحد منهما بما في يده. وقال أبو حنيفة: (يقضى لكل واحد منهما بما في يد الآخر) .
دليلنا: أن لكل واحد منهما يدا وبينة بما معه، ولصاحبه فيه بينة بلا يد.. فحكم لمن اجتمعت له اليد والبينة في شيء واحد.

[فرع عند عمرو شاة حكم له بها وادعاها زيد]
إذا كان في يد عمرو شاة، فادعاها زيد، فقال عمرو: هذه لي حكم لي بها حاكم وسلمها إلي، وأقام على ذلك بينة، وأقام زيد بينة أنها له.. قال أبو العباس: نظر

(13/177)


كيف وقع الحكم بها لعمرو؟ فإن كان قد حكم بها لعمرو على زيد؛ لأن البينة قامت لعمرو ولم تقم لزيد بينة وكانت في يد زيد.. فإنه ينقض ذلك الحكم؛ لأنه بان أن لزيد فيها يدا وبينة، ولعمرو فيها بينة بلا يد، فيقضى بها لصاحب اليد والبينة. وإن كان حكم بها لعمرو؛ لأن بينة عمرو عادلة، وبينة زيد غير عادلة.. أقرت في يد عمرو. وإن كان حكم بها لعمرو؛ لأنها كانت في يد زيد وقد أقام كل واحد منهما بينة، وكان الحاكم يرى الحكم ببينة الجارح.. لم ينقض حكمه؛ لأنه حكم بما يسوغ فيها الاجتهاد. وإن كان الحاكم حكم بها لعمرو بأنه سبق بالبينة، فقال: لا أسمع بينة بعدها.. نقض الحكم؛ لأنه حكم مخالف للإجماع. وإن لم يعلم كيف حكم بها الحاكم لعمرو.. قال أبو العباس: فيه وجهان:
أحدهما: أنه ينقض الحكم؛ لحصول بينة زيد.
والثاني: لا ينقض، وهو الأصح؛ لأن الظاهر أنه حكم بها لعمرو حكما صحيحا.

[فرع ادعى ثوبا في يد آخر فأنكره وأقام البينة أنه غصب منه]
قطنا ثم غزله ثم نسجه] :
قال أبو العباس: وإن ادعى رجل ثوبا في يد رجل فأنكره، فأقام المدعي بينة أنه غصب منه قطنا وغزل منه غزلا ونسج منه هذا الثوب.. حكم له بذلك؛ لأنه قد أثبت بالبينة أن هذا عين ماله وإنما تغيرت صفته، ثم يقابل بين قيمة القطن والغزل والثوب، فإن كان الثوب أكثر قيمة.. أخذ المغصوب منه الثوب ولا شيء للغاصب بزيادة قيمة الثوب. وإن كانت قيمة الثوب أنقص من قيمة القطن أو من قيمة الغزل.. كان للمغصوب فيه الثوب وما نقص من قيمة القطن أو الغزل. وإن كانت قيمة الغزل أنقص من قيمة القطن، وقيمة الثوب مثل قيمة القطن أو أكثر.. فالذي يقتضي المذهب: أنه يلزمه رد الثوب وما نقص من قيمة الغزل عن قيمة القطن؛ لأن بنقصان قيمة الغزل عن قيمة القطن.. لزم الغاصب ضمان ذلك، فلا يسقط عنه ذلك بزيادة قيمة الثوب.

(13/178)


[مسألة ادعى عينا على رجل هي في يده فقال المدعى عليه هي لغيري]
وإن ادعى رجل على رجل عينا في يده، فقال من بيده العين: ليست لي، وإنما هي لفلان، فإن كان المقر له حاضرا وصدق المقر أنها له.. انتقلت الخصومة في العين إليه، فإن كان مع المدعي بينة.. حكم له بالعين، وإن لم يكن معه بينة.. كان القول قول المقر له مع يمينه، فإن حلف.. سقطت عنه الدعوى، وإن نكل عن اليمين.. حلف المدعي واستحق العين. فإن لم تحصل العين للمدعي، وسأل من كانت العين في يده أن يحلف له: ما يعلم أن العين له.. فهل تلزمه اليمين؟ فيه قولان، بناء على من أقر بدار لزيد ثم أقر بها لعمرو.. فإن الدار تسلم إلى زيد ولا يقبل إقراره لعمرو في الدار، ولكن: هل يلزمه أن يغرم قيمة الدار لعمرو؟ فيه قولان. فإن قلنا: يلزمه أن يغرم.. لزمه هاهنا أن يحلف؛ لأنه قد يخاف من اليمين فيقر بالعين للمدعي، فيغرم له قيمتها. وإن قلنا: لا يلزمه أن يغرم لعمرو شيئا.. لم يلزمه هاهنا أن يحلف؛ لأنه لو خاف من اليمين فأقر بها للمدعي.. لم يفد إقراره شيئا، فلا فائدة في عرض اليمين. فإن قال المقر له: ليست العين لي، ولا بينة للمدعي.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الحاكم ينتزعها ممن هي في يده ويحفظها إلى أن يجيء من يدعيها ويقيم عليها البينة؛ لأن من في يده العين قد أسقط حقه منها بالإقرار، والمقر له قد أسقط حقه منها برد الإقرار، ولا بينة للمدعي، فصارت كلقطة لا يعرف مالكها، فكان على الحاكم حفظها.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أنها تسلم إلى المدعي؛ لأنه ليس هاهنا من يدعيها غيره.
والثالث - حكاه ابن الصباغ -: أنه يقال له: من أقررت له قد رده، فإما أن تدعيها لنفسك فتكون الخصم، أو تقر بها لمن يصدقك فيكون الخصم، فإن لم تفعل.. جعلناك ناكلا، وحلفنا المدعي وسلمناها إليه.
والأول أصح؛ لأن على ما قال أبو إسحاق: تدفع العين إلى المدعي بمجرد الدعوى، وهذا لا يجوز. وعلى قول من قال: إن المقر يدعيها لنفسه.. لا يصح؛

(13/179)


لأنه قد أقر أنه لا يملكها، فكيف يقبل قوله بعد ذلك أنه يملكها؟ وإن أقر بها من هي في يده لغائب معروف.. نظرت: فإن لم يكن مع المدعي بينة.. سقطت الخصومة بينه وبين من في يده العين؛ لأنه له حجة له، ويوقف الأمر إلى أن يقدم الغائب. فإن قال المدعي: يحلف لي من العين في يده: ما يعلم أن العين لي.. فهل يلزمه أن يحلف؟
فيه قولان، مضى ذكرهما. وإن كان مع المدعي بينة فأقامها، ولا بينة مع من بيده العين.. فإنه يحكم ببينة المدعي، وهل يحتاج إلى أن يحلف مع البينة؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: يحتاج أن يحلف مع البينة؛ لأنه قضاء على الغائب، والقضاء على الغائب لا بد فيه من اليمين.
و [الثاني] : قال أبو إسحاق: لا يجب عليه أن يحلف، وهو ظاهر النص؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (فإذا أقام المدعي البينة.. قضي له على الذي هي في يده) ، ولم يذكر اليمين. ولأنه قضاء على الحاضر. وإن كان مع المقر بينة أن العين للمقر له وأقامها.. فإنها تسمع، فإن لم يدع المقر أنه وكيل للغائب ولا أن العين في يده وديعة ولا إجارة.. فإن بينة المدعي تقدم على بينة الغائب؛ لأن البينة إنما يحكم بها إذا أقامها المدعي أو وكيله. فلم يحكم بها كما لو أفلس رجل وأراد الحاكم قسمة ماله بين غرمائه، أو مات رجل وأراد الحاكم قسمة ماله بين ورثته، وشهد شاهدان: أن هذه العين لفلان الغائب.. فإنه لا يحكم بهذه العين للغائب. فإن قيل: فإذا كانت هذه البينة إذا أقامها المقر لا يحكم له بها.. فلم قلتم: يسمعها الحاكم؟ فالجواب: أن سماعها يفيد أمرين:
أحدهما: أنه ينفي عن نفسه التهمة بالإقرار إذا أقامها.
والثاني: أنه إذا أقامها.. فلا يقضي للمدعي ببينته إلا مع يمينه وجها واحدا؛ لأنه قضاء على الغائب.
وإن ادعى المقر: أن العين في يده رهن أو إجارة من الغائب، وأقام البينة أن العين للغائب.. ففيه وجهان:
أحدهما: تقدم بينة الغائب على بينة المدعي؛ لأنه يدعي حقا لنفسه ومعه يد وبينة، فقدمت على بينة بلا يد.

(13/180)


والثاني - وهو المنصوص -: (أنه لا يحكم ببينة المقر) ؛ لأن الرهن والإجارة إنما يثبتان بعد ثبوت الملك للراهن والمؤاجر، ولم يثبت له ملك العين.
وإن ادعى من بيده العين: أنه وكيل للغائب وأقام على ذلك بينة، ثم أقام للغائب البينة بملك العين.. قدمت بينة الغائب على بينة المدعي؛ لأن للغائب يدا وبينة. وكل موضع حكمنا للمدعي بالبينة على الغائب وسلمت العين إلى المدعي، ثم حضر الغائب وادعى ملك العين وأقام بينة.. فإن العين تنزع من الأول؛ لأنه بان أن للغائب بينة ويدا، فقدمت على من له بينة بلا يد. وإن أقر بها المدعى عليه لمجهول؛ بأن قال: هي لغيري، ولم يعين المقر له.. قيل له: ليس هذا يسقط عنك الدعوى في العين، فإما أن تقر بها لمعروف ويكون خصما في العين، أو نجعلك ناكلا، وترد اليمين على المدعي ويحلف ويحكم له بالعين. فإن أقر بها لمعروف.. كان الحكم فيه ما مضى. وإن ادعاها لنفسه.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يقبل؛ لأنه قد اعترف أنها لغيره، فيتضمن ذلك أنه لا يملكها.
والثاني: يقبل؛ لأن إقراره الأول لم يصح، فلا يمنعه ذلك من أن يدعيها لنفسه.

[مسألة ادعى ملك جارية أو ثمرة نخلته وهي في يد غير]
هـ] :
وإن ادعى رجل ملك جارية في يد غيره فأنكره المدعى عليه، وأقام المدعي بينة.. نظرت: فإن شهدت البينة: أن الجارية له أو ملكه.. حكم له بها. وإن شهدت: أنها له ولدتها أمته في ملكه.. حكم له بها؛ لأن هذا آكد من قولها: إنها له. وإن شهدت بينة: أنها بنت أمته ولدتها في ملكه، أو ادعى ثمرة في يد رجل وشهدت بينة: أنها ثمرة نخلته حملت بها في ملكه.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (حكمت بذلك) . وقال فيمن ادعى عينا وشهدت له البينة: أنها كانت في يده أمس: (إنه لا يحكم بها) .
واختلف أصحابنا فيه: فنقل أبو العباس جوابه في كل واحدة من المسألتين إلى الأخرى، وجعلهما على قولين في الشهادة بالملك المتقدم.

(13/181)


وحملهما أبو إسحاق وسائر أصحابنا على ظاهرهما، فقالوا: يحكم بالبينة هاهنا قولا واحدا، ولا يحكم بها هناك قولا واحدا.
والفرق بينهما: أن الشهادة هاهنا بنماء الملك، والشهادة بنماء الملك لا تفتقر إلى إثبات ملكه في الحال، بل إذا ثبت حدوثها في ملكه.. اكتفى بذلك؛ لأن النماء تابع للأصل. والشهادة هناك على أصل الملك، فلم يحكم بها حتى يثبت الملك في الحال. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو شهد أن هذا الغزل من قطن فلان.. جعلته له. وإن شهد أن هذه الجارية بنت أمته، وأن هذه ثمرة نخلته.. لم يحكم له بها) . والفرق بينهما: أن البينة إذا شهدت أن هذا يغزل من قطنه.. فالغزل هو نفس القطن، وإنما تغيرت صفته، فكأنما شهدت أن هذا غزله. وليس كذلك إذا شهدت أنها بنت أمته أو أنها ثمرة نخلته؛ لأن الأمة قد تلدها وهي في غير ملكه، والنخلة قد تثمر وهي في غير ملكه، ثم يملك الأمة والنخلة، ولا يملك الولد والثمرة؛ لأنه لا يمكن أن يكون الغزل حاصلا قبل حصول القطن له، فإذا أثبتت البينة له ملك القطن.. تضمن ذلك إثبات ما حدث منه، وهو الغزل، فحكم له بملكه. وليس كذلك إذا شهدت أن هذه الجارية بنت أمته، أو أن هذه الثمرة من نخلته؛ لأنهما قد يحدثان قبل حدوث ملك الجارية والنخلة، فليس فيه إثبات ملك الجارية له. ولأنه قد يوصي لرجل بما تلد الجارية وتثمر النخلة، فيحدث الولد والثمرة في ملك الموصى له مع كون الجارية والنخلة ملكا لغيره. قال الشيخ أبو إسحاق: وهكذا إذا ادعى طيرا أو آجرا، فأقام بينة أن الطير من بيضه وأن الآجر من طينه.. فإنه يحكم به له؛ لما ذكرناه في الغزل.
قال أبو العباس: وإن شهد له شاهدان أن هذا الثوب من غزله، وأن هذه الثمرة من نخلته.. حكم له بذلك. قال الشيخ أبو حامد: وهذا تفريع من أبي العباس على القول الذي اختاره إذا شهدت له البينة: أنه كان في ملكه أمس.. أنه يحكم له بذلك.

(13/182)


[مسألة ادعاء شراء عين من غير من هي في يده]
إذا كان في يد زيد دار، فادعى عمرو أنها له وأقام بينة أنه اشتراها من خالد.. لم يحكم لعمرو بالدار حتى تشهد بينته: أنه اشتراها من خالد وهو يملكها، أو: أنه اشتراها من خالد وسلمها خالد إليه؛ لأن الظاهر أنه لا يسلم إلا ملكه.
وإن شهدت أنه ملك لعمرو واشتراها من خالد.. حكم له بها؛ لأنها قد أثبتت الملك لعمرو. فأما إذا شهدت بينته أنه اشتراها من خالد وأطلقت.. لم يحكم له بها؛ لأنه قد يبيع ما لا يملك بيعه. فإن قيل: فإذا شهدت أنه اشتراها من خالد وهو يملكها.. فقد حكمتم بالشهادة بملك ماض، وقد قلتم: إن البينة إذا شهدت له أنها كانت في ملكه أمس.. لم يحكم له بها على الصحيح من المذهب.
قلنا: الفرق بينهما: أن ملك المشتري إنما يثبت من جهة البائع، فإذا ثبت ملك البائع.. كان الملك الآن ثابتا للمشتري؛ لأن الأصل بقاؤه، فصار كما لو شهدت له البينة: أنه يملك العين منذ سنة، ويخالف إذا شهدت له البينة: أنها كانت في ملكه أمس؛ لأن ذلك لا يقتضي بقاء ملكه الآن.

[فرع ادعى زيد ملك عين في يد رجل أنه ملكها منذ سنة وادعى آخر شراءها منه منذ خمس سنين]
وإن ادعى زيد ملك عين في يد رجل وأقام بينة أنها ملكه منذ سنة، وادعى آخر أنه ابتاعها من هذا المدعي منذ خمس سنين وكان مالكا لها وقت البيع.. فإنه يحكم ببينة الابتياع؛ لأن البائع قد أقام بينة أنه يملكها منذ سنة، وثبوت الملك لها منذ سنة لا ينفي الملك قبل ذلك، فإذا أقام المدعي للابتياع بينة بالابتياع.. فقد ثبت أنه ابتاعها هذا من المدعي من مالك، فقدمت على بينة البائع؛ لأن بينة البيع شهدت بأمر حادث خفي على البينة التي شهدت للبائع بأصل الملك فقدمت، كما تقدم بينة الجرح على بينة التعديل.

(13/183)


وهكذا: لو شهدت بينة المدعي: أنه ابتاعها من هذا المدعي فسلمها إليه.. فإنه يحكم بها للمدعي للابتياع؛ لأن بينة البائع قد أثبتت له الملك، وبينة المبتاع قد أثبتت له البيع والتسليم، فثبت أن اليد كانت للبائع في حال البيع. وهاتان المسألتان وفاق بيننا وبين أبي حنيفة، وأما إذا أقام المدعي للابتياع بينة، فشهدت أنه ابتاعها من زيد فحسب.. فإنه يحكم بها للمبتاع. وقال أبو حنيفة: (يحكم بها لزيد، ولا يحكم بها للمبتاع إلا أن شهدت البينة أن زيدا باع ما يملكه أو ما في يده؛ لأن البيع المطلق ليس بحجة) .
دليلنا: أنه قد ثبتت بالبينة الأولى إزالة يد من الدار بيده، وإثبات الملك لزيد، فإذا قامت البينة على زيد بالبيع.. فالظاهر أنه لا يبيع إلا ما ملكه فحكم بذلك، وصار بمنزلة أن يقيم رجل البينة أن هذه الدار له، وأقام آخر البينة أنه ابتاع الدار منه.. فإنه يحكم بها للمبتاع منه.

[فرع ادعى ملك الدار من سنتين وادعى آخر شراءها منه منذ سنتين]
قال في " الأم ": (وإن ادعى رجل: أن هذه الدار ملك له منذ سنتين وأقام على ذلك بينة، وادعى آخر: أنه ابتاعها منه منذ سنتين وأقام على ذلك بينة.. حكم بها للمبتاع؛ لأن بينته شهدت بأمر حادث ربما خفي على شاهدي الملك فقدمت، كما تقدم بينة الجرح على بينة التعديل) .

[فرع في يد رجل دار فادعاها آخر وأنه كان قد أجره إياها]
فرع: [في يد رجل دار فادعاها آخر وأنه كان قد أجره أو أودعه إياها أو غصبها منه] :
قال أبو العباس: إذا كان في يد رجل دار، فادعاها آخر وأقام بينة أنها له أجرها ممن هي في يده، أو أودعه إياها، أو غصبها منه، فأقام على ذلك بينة، وأقام من في يده الدار بينة أنها ملكه.. قدمت بينة الجارح؛ لأنها شهدت له بالملك واليد، وأثبتت أن يد صاحب الدار نائبة عنه في الإجارة أو الوديعة، وإذا شهدت بالغصب.. فقد شهدت بأمر خفي على بينة الملك فقدمت، كما تقدم بينة الجرح على بينة التعديل.

(13/184)


[فرع في يد رجل دار فادعاها اثنان أنه غصبها أو أجراها إياه]
فرع: [في يد رجل دار فادعاها اثنان أحدهما أنه غصبها منه والآخر أنه أجره إياها] :
وإن كان في يد رجل دار فادعاها اثنان، وأقام أحدهما بينة أن الذي في يده الدار غصبها منه، وأقام الآخر بينة أن هذه الدار أقر له بها من هي بيده.. حكم للدار للمغصوب منه؛ لأنه قد ثبت بالبينة أن من في يده الدار غاصب لها، وإقرار الغاصب لها غير مقبول. ولا يلزم المقر أن يغرم للمقر له قيمة الدار قولا واحدا، بخلاف ما لو قال: هذه الدار لزيد، لا بل لعمرو.. فإنه يلزمه أن يغرم لعمرو قيمة الدار في أحد القولين. والفرق بينهما: أنه إذا أقر بها لزيد ثم أقر بها لعمرو.. فقد أتلفها على عمرو بإقراره فيها لزيد وحال بينها وبينه، وهاهنا لم يتلف على المقر له شيئا، وإنما لزمه تسليمها بالبينة. فإن ادعى رجلان دارا في يد رجل، وأقام أحدهما بينة أنها له أودعها عند من هي في يده، وأقام الآخر بينة أنها له أجرها ممن هي في يده.. فقد تعارضت البينتان: فإن قلنا: يسقطان.. رجع إلى من هي في يده، فإن ادعاها لنفسه.. حلف لكل واحد منهما، وإن أقر بها لأحدهما.. سلمت إليه، وهل يحلف للآخر؟ فيه قولان. وإن أقر لهما بها.. قسمت بينهما، وهل يحلف لكل واحد منهما على النصف؟ فيه قولان. وإن قلنا لا يسقطان، وإنما يستعملان.. ففي الاستعمال الأقوال الثلاثة، وقد تقدم ذكرها.

[مسألة تنازعا دارا في يد رجل وادعاها كل منهما وأنه اشتراها منه ونقده الثمن]
إذا تنازع رجلان دارا، وادعى كل واحد منهما أنه اشتراها من زيد وهو يملكها بثمن معلوم ونقده الثمن، وأقام كل واحد منهما بينة، فإن كانت البينتان مؤرختين تأريخا مختلفا؛ بأن شهدت بينة أحدهما بأنه اشتراها في المحرم، وشهدت بينة الآخر بأنه اشتراها في صفر.. قدمت بينة الذي اشتراها في المحرم؛ لأنه بان أنه باعها في صفر بعد زوال ملكه عنها بالبيع في المحرم، ويطالب البائع برد الثمن للمشتري الثاني الذي قبضه. وإن كانت البينتان مؤرختين تأريخا واحدا، أو مطلقتين، أو إحداهما مؤرخة

(13/185)


والأخرى مطلقة، فإن كانت الدار في يد أحد المدعيين.. قضي له بها؛ لأنه اجتمع له اليد والبينة. وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجها آخر: أنه لا يرجح باليد هاهنا؛ لأنهما تقارا على أن اليد كانت قبل ذلك لغيرهما، وكل واحد منهما يدعي أن اليد انتقلت إليه، فلم يقر الثاني أن هذه اليد يده. والأول هو المشهور.
وإن كانت الدار في يد البائع.. تعارضت البينتان:
فإن قلنا: يسقطان.. رجع إلى البائع، فإن كذبهما.. حلف لكل واحد منهما، وهل لهما استرداد الثمن منه؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] :
أحدهما: لهما ذلك؛ لأنا قد حكمنا بالبينة أن كل واحد منهما قد سلم الثمن ولم يحصل له المثمن.
والثاني: ليس لهما ذلك؛ لأنا قد حكمنا بسقوط البينتين.
فإن أقر بالبيع لأحدهما.. سلمت الدار إليه بالثمن الذي ادعى أنه ابتاعها به، وهل يحلف للآخر؟ فيه قولان. وإن أقر بالبيع لهما.. كان لكل واحد منهما نصف الدار بنصف الثمن الذي ادعى أنه ابتاع به، وهل يحلف لكل واحد منهما على النصف الذي للآخر؟ فيه قولان. وإن قلنا إن البينتين لا تسقطان، وإنما تستعملان، فإن صدق البائع أحدهما.. فهل تقدم بينة من صدقه؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو العباس: تقدم بينته؛ لأن اليد للبائع، فإذا صدق أحدهما.. فكأنه نقل يده إليه، فاجتمعت له اليد والبينة فقدمت، كما لو كانت الدار في يد أحد المتداعيين.
والثاني: لا تقدم بينة المصدق، وهو قول أكثر أصحابنا، وهو الأصح؛ لأن البينتين قد اتفقتا على إزالة يد البائع.
فإذا قلنا بهذا: ولم يصدق البائع أحدهما.. ففي كيفية الاستعمال الأقوال الثلاثة:
أحدها: الوقف، ولا يتأتى الوقف هاهنا؛ لأنهما يتداعيان عقدا والعقد لا يمكن وقفه.
والثاني: القرعة.

(13/186)


فعلى هذا: يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة.. حكم له بالدار بالثمن الذي اشتراه به، وهل يحلف مع خروج القرعة له؟ على القولين. ويرجع الآخر بالثمن الذي دفعه.
والثالث: القسمة. فعلى هذا: تقسم بينهما الدار، ويكون لكل واحد منهما نصف الدار بنصف الثمن الذي ادعى أنه ابتاعه به، ولكل واحد منهما الخيار في فسخ البيع؛ لأن الصفقة تبعضت عليه.
فإن اختارا جميعا الفسخ وفسخا.. رجعت الدار إلى المدعى عليه، ورجع عليه كل واحد منهما بالثمن الذي دفع. وإن اختار جميعا الإمساك.. أمسك كل واحد منهما نصف الدار بنصف الثمن الذي ادعى أنه ابتاع به، ورجع على البائع بنصفه. وإن اختار أحدهما الفسخ واختار الآخر الإمساك.. قال الشيخ أبو حامد: فينظر فيه:
فإن اختار أحدهما الفسخ أولا، ثم اختار الآخر الإمساك.. فإنه يمسك الدار بجميع الثمن الذي ادعى أنه ابتاع به؛ لأنه قد ادعى أنه ابتاع جميع الدار وشهدت له البينة بذلك، وإنما لم يحكم له بالجميع لمزاحمة غيره، فإذا سقط حق غيره.. كان له إمساك الجميع. وإن اختار أحدهما الإمساك أولا، ثم اختار الآخر الفسخ.. فإن الأول يستقر ملكه على نصف الدار بنصف الثمن الذي ادعى أنه ابتاع به، وليس له أن يأخذ النصف الذي فسخ الثاني البيع فيه؛ لأنه قد أمسك النصف وحكم الحاكم بإمضاء البيع فيه وفسخه في النصف الآخر، فلم ينتقض الحكم فيه، وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا فسخ أحدهما البيع في نصف الدار.. فهل على البائع تسليم ذلك النصف إلى المدعي الآخر؟ فيه وجهان من غير تفضيل:
أحدهما: عليه ذلك؛ لأنه قد أقام البينة على أنه يستحق جميع الدار، إلا أنه تعذر تسليم الكل إليه لأجل صاحبه، فإذا ارتفع ذلك.. سلم إليه.
والثاني: لا يسلم إليه؛ لأن بينة الذي فسخ شهدت له بالملك، فإذا فسخ البيع.. انتقل الملك فيه إلى المدعى عليه.

(13/187)


[مسألة خصمان ادعيا شراء دار كل واحد من بائع]
وإن تنازع رجلان دارا، فادعى أحدهما أنه ابتاعها من زيد بمائة وهو يملكها ونقده الثمن ولم يسلم إليه الدار وأقام على ذلك بينة، وادعى الآخر أنه ابتاعها من عمرو بمائة وهو يملكها ونقده الثمن ولم يسلم إليه الدار وأقام على ذلك بينة، فإن كانت الدار في يد أحد المتداعيين.. قضي له بالدار بالثمن الذي ادعى أنه ابتاع به؛ لأنه اجتمع له اليد والبينة. وإن كانت الدار في يد أحد البائعين أو في يد أجنبي.. فالبينتان متعارضتان؛ لأنه لا يجوز أن تكون جميع الدار ملكا لاثنين ويبيع كل واحد منهما جميعا من واحد. فإن قلنا: إنهما تسقطان، وكانت الدار في يد أحد البائعين أو كانت في يد أجنبي.. كان القول قول من كانت الدار في يده، فإن ادعاها لنفسه.. حلف لكل واحد منهما يمينا، وإن أقر بها لأحدهما.. سلمت إليه وسلم الثمن الذي ادعى أنه ابتاع به إلى الذي ادعى أنه باعه، وهل يحلف المقر للآخر؟ فيه قولان. وإن أقر لهما بها.. كان لكل واحد منهما نصف الدار بنصف الثمن الذي ادعى أنه ابتاع به، وهل يحلف لكل واحد منهما على النصف الآخر؟ فيه قولان. وإن قلنا: إن البينتين تستعملان، وكانت الدار في يد أحد البائعين، فإن صدق الذي ادعى: أنه ابتاع منه.. فهل ترجح بينته بذلك؟ فيه وجهان. فإذا قلنا: لا ترجح أو لم يصدقه.. استعملتا، ولا يجيء الوقف هاهنا؛ لأن العقود لا توقف. وإن قلنا بالقرعة.. أقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة.. حكم له بالدار بالثمن الذي ادعى أنه ابتاع به، ورجع الآخر بالثمن الذي دفعه. وإن قلنا بالقسمة.. كان لكل واحد منهما نصف الدار بنصف الثمن الذي ادعى أنه ابتاع به، وثبت لكل واحد منهما الخيار في فسخ البيع؛ لأن الصفقة تبعضت عليه. فإن اختار الإمساك.. رجع كل واحد منهما بنصف الثمن الذي دفع؛ لأنه لم يسلم له إلا نصف الدار. وإن اختار الفسخ.. رجع كل واحد منهما بما دفع من الثمن. وإن اختار أحدهما الفسخ والآخر الإمساك.. قال الشيخ أبو حامد: فإن الذي اختار الفسخ

(13/188)


يرجع بجميع الثمن الذي دفع ولا يسلم هذا النصف الذي فسخ فيه البيع إلى الذي اختار الإمساك. والفرق بينهما وبين التي قبلها: أن البائع هناك واحد، وكل واحد من المدعيين قد أقام البينة أنه اشترى منه، وإنما لم يمسك جميعه لمزاحمة غيره له، فإذا سقطت المزاحمة.. كان له إمساك، وهاهنا البائع اثنان، والمشتري اثنان، وكل واحد منهما يدعي أنه ابتاع من واحد، فإذا فسخ أحدهما البيع مع بائعه.. لم يكن للآخر أن يأخذه؛ لأنه لا يأخذه من غير بائعه. وأما إذا ادعى كل واحد من المشتريين: أنه قبض الدار وقامت عليه البينة بذلك.. فالحكم فيه ما ذكرناه إذا لم يقبض الدار إلا في شيء واحد، وهو: أنه لا يرجع على الذي باعه بالثمن الذي دفعه إليه ولا ببعضه؛ لأنه إذا لم يقبض المبيع.. فقد تعذر عليه قبض المبيع، فصار ضمان عهدته على بائعه، فيرجع عليه بالثمن الذي دفعه إليه. فإذا قبض المبيع.. فقد استقر عليه الثمن وإنما غصب منه الدار بعد ذلك، فلا يلزم البائع ضمان عهدته.

[مسألة في يد رجل دار فادعى أحد الخصمين أنه باعها منه بمائة وادعى الآخر مثله]
وإن كان في يد رجل دار، فادعى زيد أنه باعها منه بمائة وأقام على ذلك بينة، وادعى عمرو أنه باعها منه بمائة وأقام على ذلك بينة.. نظرت:
فإن كانت البينتان مؤرختين تأريخا واحدا.. فهما متعارضتان؛ لأنه يستحيل أن يكون جميع الدار ملكا لاثنين في وقت واحد. فإن قلنا: إنهما يسقطان.. رجع إلى المدعى عليه، فإن أنكرهما من الشراء.. حلف لكل واحد منهما يمينا، وإن أقر أنه ابتاع جميع الدار من كل واحد منهما.. لزمه الثمنان؛ لأنه يجوز أن يبتاعه من أحدهما، ثم يخرج من ملكه إلى ملك الآخر ثم يبتاعه منه. وإن أقر أنه ابتاعه من أحدهما.. لزمه الثمن له وحلف للآخر قولا واحدا؛ لأنه لو أقر أنه ابتاعه منه.. لزمه الثمن له. وإن قال: ابتعته منكما.. فقد أقر لكل واحد منهما بنصف الثمن الذي ادعى أنه باعه منه، ويلزمه أن يحلف لكل واحد منهما على النصف الآخر قولا واحدا.
وإن قلنا: إنهما يستعملان.. فلا يجيء هاهنا الوقف؛ لأن العقود لا توقف،

(13/189)


ولكن تجيء القرعة أو القسمة. فإن قلنا بالقرعة.. أقرع بينهما، فإذا خرجت لأحدهما القرعة.. حكم له بالثمن الذي ادعاه، وهل يحلف مع خروج القرعة له؟ على القولين، ويكون للذي لم تخرج له القرعة أن يحلف المشتري؛ لأنه لو أقر له بعد ذلك.. لزمه الثمن له. وإن قلنا بالقسمة.. لزمه لكل واحد منهما نصف الثمن الذي ادعاه، ولا خيار للمشتري؛ لأن جميع الدار قد حصلت له، ولا فرق بين أن تحصل من واحد منهما أو من اثنين. ولكل واحد من البائعين أن يحلفه على نصف الثمن؛ لأنه لو أقر لكل واحد منهما.. لزمه ما أقر به له. وإن كانت البينتان مؤرختين تأريخا مختلفا؛ بأن شهدت بينة أحدهما: أنه باعها منه في المحرم، وبينة الآخر: أنه باعها منه في صفر.. لزمه الثمنان؛ لأنه يجوز أن يبتاعها منه في المحرم، ثم تخرج من ملكه، ثم يبتاعها من الآخر في صفر وهي في ملكه. وإن كانت البينتان مطلقتين، أو إحداهما مطلقة، والأخرى مؤرخة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه الثمنان؛ لأنه يمكن أن يكون قد اشتراها منهما في وقتين.
والثاني: أنهما تتعارضان، فيكونان كما لو كانتا مؤرختين تأريخا واحدا؛ لأنه يحتمل أن يكونا في وقتين فيلزمه الثمنان، ويحتمل أن يكونا في وقت واحد، فتكونان متعارضتين، والأصل براءة ذمته من الثمنين. هكذا: ذكر الشيخ أبو إسحاق وابن الصباغ، وأما الشيخ أبو حامد.. فقال: فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه الثمنان؛ لما مضى.
والثاني: لا يلزمه إلا ثمن واحد وهو المتيقن وجوبه، ويسقط الثمن الآخر بالشك في وجوبه.

[مسألة ادعى ملك عين أو عبد وادعى آخر أنه باعه إياها أو وقفها عليه]
وإن ادعى رجل ملك عين وأقام على ذلك بينة، وادعى آخر على هذا المدعي أنه باعه تلك العين أو وقفها عليه، أو كانت العين عبدا فادعى أن المدعي أعتقه وأقام

(13/190)


المدعي الثاني بينة بما ادعاه.. قدمت بينة المدعي الثاني على بينة المدعي الأول؛ لأن بينة الأول شهدت بأصل الملك، وبينة الثاني شهدت بأمر حادث ربما خفي عن بينة الملك فقدمت. وإن كان في يد رجل عبد، فادعى رجل أنه ابتاع منه هذا العبد وأقام على ذلك بينة، وادعى العبد أن سيده الذي هو في يده أعتقه وأقام على ذلك بينة.. نظرت:
فإن كانت البينتان مؤرختين تأريخا مختلفا.. قضي بالبينة الأولى، سواء كانت بيعا أو عتقا؛ لأن صحة الأول تمنع صحة الثاني. وإن كانتا مطلقتين أو مؤرختين تأريخا واحدا، أو إحداهما مطلقة والأخرى مؤرخة.. فهما متعارضتان. فإن كان العبد في يد المشتري.. قدمت بينته؛ لأن له يدا وبينة. وقال المزني: تقدم بينة العبد؛ لأن يده ثابتة على نفسه. وهذا ليس بصحيح؛ لأن العبد لا تثبت له يد على نفسه؛ بدليل: أنه لو كان له عبد في يد رجل فادعاه آخر، وأقام كل واحد منهما بينة، وصدق العبد الخارج.. فإنه لا يحكم له به، فلو ثبت للعبد يد على نفسه.. لكان قد اجتمع للخارج يد وبينة. وإن كان العبد في يد المدعى عليه، فإن قلنا: إنهما يسقطان. رجع إليه، فإن كذبهما.. فالقول قوله مع يمينه، فيحلف لكل واحد منهما يمينا. وإن صدق أحدهما وكذب الآخر.. حكم للذي صدقه بما ادعاه، ولا يحلف للآخر قولا واحدا؛ لأنه لا يلزمه له غرم؛ لأنه إن صدق العبد أولا.. فإقراره بالبيع بعده لا يحكم به، إلا أنه يلزمه رد الثمن إن كان قد قبضه، وإن صدق المشتري أولا.. فإقراره بالعتق لا يصح ولا يلزمه غرم للعبد. وإن قلنا: إنهما يستعملان، فصدق السيد المشتري أو العبد.. فهل ترجح بينة المصدق منهما؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما.
فإن قلنا: لا ترجح بينة المصدق منهما، أو لم يصدق أحدهما.. فلا يجيء في الاستعمال هاهنا الوقف؛ لأن الاختلاف بالعقد والعقود لا توقف، ولكن تجيء القرعة أو القسمة. فإن قلنا بالقرعة.. أقرع بينهما، فإن خرجت القرعة للعبد.. عتق، ورجع المشتري بالثمن على البائع إن كان قد دفعه إليه. وإن خرجت القرعة للمشتري.. ملك العبد. وإن قلنا بالقسمة.. حكم للمبتاع بنصف العبد بنصف

(13/191)


الثمن، ورجع بنصف الثمن إن كان قد دفعه، وحكم بعتق نصف العبد، ويكون المبتاع بالخيار؛ لأن الصفقة تبعضت عليه. فإن اختار الفسخ.. حكم بعتق جميع العبد على البائع؛ لأن البينة قد شهدت بعتقه، وإنما لم يحكم بعتق جميعه لمزاحمة المبتاع له، فإذا سقطت المزاحمة.. حكم بعتق جميع العبد. وإن اختار الإمساك، فإن كان البائع معسرا.. لم يقوم عليه باقي العبد، وإن كان موسرا.. فهل يقوم عليه باقي العبد؟ فيه قولان، وقيل: هما وجهان:
أحدهما: لا يقوم عليه؛ لأنه لم يعتق عليه باختياره، فلم يقوم عليه كما لو ورث نصف من يعتق عليه؛ فإنه لا يقوم عليه الباقي.
والثاني: يقوم عليه الباقي؛ لأن البينة قد شهدت عليه: أنه أعتق جميعه باختياره.

[مسألة علق عتق عبده بقتله أو علق عتق عبديه بصفتين متغايرتين]
قال في " الأم": (إذا قال لعبده: إن قتلت فأنت حر، فأقام العبد بينة أنه قتل، وأقام الورثة بينة أنه مات حتف أنفه.. ففيه قولان:
أحدهما: تقدم بينة العبد فيعتق؛ لأن معها زيادة صفة؛ لأن كل قتل موت، وليس كل موت قتلا.
والثاني: أنهما متعارضتان، فتسقطان ويرق العبد؛ لأن بينة القتل تثبت القتل وتنفي الموت، وبينة الموت تنفي القتل وتثبت الموت، فتسقطان ويرق العبد) . هكذا ذكر الشيخان: أبو حامد وأبو إسحاق.
قال ابن الصباغ: وينبغي أن يكون على قوله الجديد: (أن البينتين إذا تعارضتا سقطتا) ، ويجيء على قوله القديم إذا قلنا: (تستعملان) الأقوال الثلاثة في الاستعمال. قال في " الأم ": (وإن كان له عبدان، سالم وغانم، فقال لسالم: إن مت في رمضان فأنت حر، أو قال لغانم: إن مت في شوال فأنت حر، ثم مات وأقام سالم بينة أنه مات في رمضان، وأقام غانم بينة أنه مات في شوال.. ففيه قولان:

(13/192)


أحدهما: تقدم البينة التي شهدت أنه مات في رمضان فيعتق سالم؛ لجواز أن يكون مات في رمضان وخفي موته فلم يظهر إلا في شوال، فشهدت بينة غانم بموته في شوال عند ظهوره، فبينة سالم معها زيادة علم فقدمت.
والثاني: أنهما متعارضتان؛ لأنه لا يجوز أن يموت في رمضان وشوال.
قال الشيخ أبو إسحاق: فعلى هذا: يرق العبدان.
قلت: وينبغي أن يقال هاهنا كما قال ابن الصباغ في التي قبلها: إن هذا على القول الجديد: (إن البينتين إذا تعارضتا.. سقطتا) .
فأما إذا قلنا بالقول القديم: (تستعملان) فإنه وجب أن يكون هاهنا في الاستعمال ثلاثة أقوال. قال في " الأم ": (وإن قال لعبده سالم: إن مت من مرضي هذا فأنت حر، وقال لعبده غانم: إن برأت من مرضي هذا فأنت حر، ثم مات وأقام سالم بينة أنه مات من مرضه ذلك، وأقام غانم بينة أنه برأ من مرضه ذلك ومات من غيره.. فهما متعارضتان قولا واحدا؛ لأن كل واحدة منهما تكذب الأخرى) .
قال الشيخ أبو إسحاق: فيرق العبدان.
قلت: وينبغي أن يقال هاهنا ما قاله ابن الصباغ في الأولى: إن هذا على القول الجديد، فأما على القول القديم: فيأتي فيه الأقوال الثلاثة في الاستعمال. هذا نقل أصحابنا العراقيين، وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا قامت بينة أنه مات من مرضه، وبينة ببرئه من مرضه.. ففيه قولان:
أحدهما: أنهما متعارضتان.
والثاني: أنه يحكم بالبينة التي شهدت بموته من مرضه ذلك.
وإن قال رجل لعبده: إن لم أحج هذا العام فأنت حر، فأقام السيد بينة أنه وقف على عرفات تلك السنة، وأقام العبد بينة أن السيد كان يوم النحر في بغداد.. فإنه

(13/193)


لا يحكم بعتق العبد. وقال أبو حنيفة: (يعتق) .
دليلنا: أنه يحتمل أنه حصل له ذلك من طريق الكرامة، وأنه سار من عرفات ومكة إلى بغداد بليلة واحدة. وإن أقام السيد بينة أنه وقف على عرفات تلك السنة، وأقام العبد البينة أنه كان في بغداد يوم عرفة.. فلا أعلم فيها نصا، والذي يقتضي المذهب: أنهما متعارضتان؛ لأن كل واحدة منهما تكذب الأخرى، فيرق العبد على القول الجديد الذي يقول: يسقطان عند التعارض، وعلى القول القديم يكون على الأقوال الثلاثة في الاستعمال:
أحدها: الوقف إلى أن ينكشف الحال.
والثاني: القرعة.
والثالث: القسمة.
فإذا قلنا بهذا: أعتق جميع العبد؛ لأنه عتق نصفه بالبينة، وعتق نصفه الآخر بالسراية؛ لأنه موسر بباقيه.

[مسألة اختلاف المتكاريين في الكراء أو المتبايعين في الثمن]
وإن اختلف المتكاريان في قدر الكراء، أو في قدر المكرى، أو في قدر المدة، أو في جنس الكراء، أو في عين المكرى، أو اختلف المتبايعان في قدر الثمن، أو في قدر المثمن، أو في قدر الأجل، أو في جنس الثمن، فإن لم يكن مع أحدهما بينة.. فقد مضى ذكره في (اختلاف المتبايعين) . وإن كان مع أحدهما بينة دون الآخر.. قضي لصاحب البينة. وإن كان مع كل واحد منهما بينة، فإن كانت البينتان مؤرختين تأريخا مختلفا.. قضي بالأولى منهما؛ لأن العقد الأول يمنع صحة الثاني.
وإن كانتا مطلقتين، أو مؤرختين تأريخا واحدا، أو إحداهما مطلقة والأخرى

(13/194)


مؤرخة، فإن كان الاختلاف في جنس الكراء، أو في عين المكرى، أو في جنس الثمن.. فهما متعارضتان بلا خلاف على المذهب؛ لأن كل واحدة منهما تكذب الأخرى. وإن كان الاختلاف في قدر الكراء، أو في قدر المكرى، أو في قدر المدة، أو في قدر الثمن، أو في قدر المثمن، أو في قدر الأجل.. فالمنصوص: (أنهما متعارضتان) . وقد خرج أبو العباس قولا آخر: أنهما غير متعارضتين، بل يقضى بالبينة التي تشهد بالزائد من ذلك كله، كما لو شهد شاهدان: أن لفلان على فلان ألف درهم، وشهد آخر: أن له عليه ألفين.. فإنه يحكم عليه بالألفين. وهذا خطأ؛ لأن كل واحدة من البينتين مكذبة للأخرى، فهو كما لو شهدت بينة لرجل بملك عين وشهدت بينة أخرى لآخر بملكها، وتخالف البينتين في الألف والألفين؛ لأن كل واحدة منهما لا تكذب الأخرى. وكل موضع قلنا: إنهما متعارضتان.. ففيهما قولان:
أحدهما: تسقطان.
فعلى هذا: يكون كما لو لم يكن لأحدهما بينة فيتحالفان.
والثاني: تستعملان، ولا يجيء هاهنا الوقف؛ لأن العقود لا توقف، ولا تجيء القسمة؛ لأنهما يختلفان في عقد والعقد لا ينقسم، وتجيء القرعة، فيقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة.. قضى له.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : وإن كانت كل واحدة من البينتين زائدة من وجه ناقصة من وجه؛ مثل أن يقول المكري: أكريتك بيتا بعشرين، وقال المكتري: بل اكتريت منك جميع الدار بعشرة.. ففيه قولان:
أحدهما: أنهما متعارضتان.
والثاني: يجمع بين الزيادتين، فيجعل جميع الدار مكراة بعشرين.
وأظن المسعودي فرع هذا على قول أبي العباس: أنه يقضي بالبينة التي تشهد بالزيادة، فأما على المذهب: فهما متعارضتان قولا واحدا.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : وإن قال أحدهما: استأجرت هذه الدار من زيد في شهر رمضان لسنة كذا بكذا، وأقام على ذلك بينة، وقال الآخر: استأجرتها من زيد

(13/195)


في شوال سنة كذا بكذا، وأقام على ذلك بينة.. ففيه قولان:
أحدهما: أن بينة رمضان أولى؛ لأنها أسبق. والثاني: أن بينة شوال أولى؛ لأنها ناسخة للأولى، فيجعل كأنهما تقايلا في الإجارة في رمضان، ثم أجرها من الثاني في شوال. وأراد المسعودي بهذين القولين: إذا تنازع المتكاريان لدار من رجل في مدة واحدة، فادعى كل واحد منهما أنه اكتراها من مالكها تلك المدة، وبينة أحدهما أقدم تأريخا.
والذي يقتضي المذهب: أن الأول أصح، كما قلنا في الرجلين إذا ادعيا أنهما ابتاعا من رجل دارا وبينة أحدهما أقدم تأريخا.. فإنه يقضى له.

[مسألة ادعيا دارا وأضافا سببا يقتضي اشتراكهما فيها أو لا يقتضي ذلك]
وإن ادعى رجلان دارا في يد رجل وأضافا الدعوى إلى سبب يقتضي اشتراكهما فيها؛ بأن قالا: ورثناها من أبينا وغصبتها منا قبل أن نقبضها، أو غصبتها من أبينا في حياته، فأقر المدعى عليه بنصفها لأحدهما.. شارك المدعي الثاني المقر له في هذا النصف المقر به؛ لأنهما أضافا الدعوى إلى سبب يوجب اشتراكهما في كل جزء منها، ولهذا: لو كان طعاما فهلك بعضه.. كان هالكا منهما، فكان الباقي بينهما. فإذا أقر بالنصف وجحدهما عن النصف.. كان الذي أقر به بينهما، والذي أنكر منه بينهما.
وإن قالا: ابتعناها صفقة واحدة وغصبتها منا قبل أن نقبضها، فأقر لأحدهما بالنصف.. فهل يشارك المدعي الثاني المقر له في هذا النصف؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق -: أنه يشاركه فيه؛ لأن ابتياعهما لها في صفقة واحدة سبب يوجب اشتراكهما في كل جزء منها، فهو كما لو قالا: ورثناها.
والثاني - وهو اختيار القاضي أبي الطيب، ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره -: أنه لا يشاركه فيه؛ لأن البيع من اثنين بمنزلة البيع في صفقتين.

(13/196)


قال الشيخ أبو حامد: وإن قالا: ورثناها من أبينا وقبضناها ثم غصبتها علينا، فأقر لأحدهما بنصفها.. لم يشارك المدعي الثاني المقر له بالنصف المقر به؛ لأن بعد القبض يجوز أن يغصب نصيب أحدهما دون نصيب الآخر. وأما الشيخ أبو إسحاق وابن الصباغ: فلم يشترطا عدم قبضهما لها في اشتراكهما في النصف المقر به لأحدهما. وإن ادعيا العين وأضافا الدعوى إلى سببين، أو أطلقا الدعوى، أو أضاف أحدهما إلى سبب وأطلق الآخر دعواه، فأقر لأحدهما بنصفها.. لم يشارك المدعي الثاني المقر له في هذا النصف؛ لأن دعوى المقر له لا تقتضي أن الثاني يشاركه فيما أقر له به منها.

[فرع ادعيا دارا في يد رجل كل ادعى نصفها ولم يبينا سببا للشركة]
فرع: [ادعيا دارا في يد رجل كل ادعى نصفها ولم يضيفا سببا يقتضي اشتراكهما] :
وإن كانت دار في يد رجل، وادعى رجلان كل واحد منهما نصفها ولم يضيفا الدعوى إلى سبب يقتضي اشتراكهما، فأقر المدعى عليه لأحدهما بجميع الدار.. نظرت:
فإن كان قد سمع من المقر له إقرار للمدعي الثاني بنصفها قبل ذلك، أو أقر له الآن بنصفها.. لزمه تسليم النصف إليه؛ لأنه أقر له بذلك، فإذا صارت الدار بيده.. لزمه تسليم ما أقر له به.
وإن لم يسمع من المقر له إقرار قبل ذلك بنصفها للمدعي الثاني، ولا أقر له به الآن، بل ادعى المقر له أن جميعها له.. حكم له بجميعها؛ لأنه يجوز أن يكون الجميع له، ودعواه في نصفها صحيحة؛ لأن من له الجميع.. فله النصف، وإنما خص النصف بالدعوى؛ لأنه عالم أنه يقر له بالنصف أو له بالنصف بينة، فادعى ما فيه خلف بينهما. ولأنه يجوز أن يكون له النصف في حال الدعوى، ثم يحدث له ملك النصف بعد الدعوى بإرث أو ابتياع، فيكون له الجميع.
وإن أقر المدعى عليه لأحدهما بجميعها ولم يسمع من المقر له إقرار للمدعي الثاني بنصفها ولا ادعى الجميع لنفسه، بل قال: لي النصف لا غير، والنصف الثاني لا أدري لمن هو.. ففيه ثلاثة أوجه:

(13/197)


أحدها: أنه يبقى على ملك المدعى عليه؛ لأنه أقر به لمن لا يدعيه، فيبقى على ملكه.
والثاني: يدفع إلى المدعي الثاني؛ لأن بإقرار المدعى عليه بجميع الدار للمدعي الثاني أخبر أنه لا يملك شيئا من الدار، وبرد المقر له إقراره في هذا النصف أخبر أنه لا يملكه، فلم يبق له هاهنا مدع له إلا المدعي الثاني، فوجب تسليمه إليه.
والثالث: أن الحاكم ينتزعه من يد المدعى عليه، ويحفظه إلى أن يجيء من يدعيه ويقيم عليه البينة؛ لأن الذي في يده الدار لا يدعيه، والمقر له به لا يدعيه، ولا يجوز أن يسلم إلى المدعي الثاني بالدعوى، فلم يبق إلا أن يحفظه الحاكم.
قال ابن الصباغ: فعلى هذا: يؤاجره الحاكم ويحفظ أجرته.
وقال أبو علي في " الإفصاح ": يفرقها الحاكم في مصالح المسلمين. وليس بشيء؛ لأن الأجرة تابعة للأصل. والأول أصح.

[مسألة مات عن ابنين نصراني ومسلم وكلاهما يدعي أن أباه مات على دينه]
وإن مات رجل وخلف ابنين، مسلما ونصرانيا، لا وارث له غيرهما، وادعى كل واحد منهما أن أباه مات على دينه وأقام على ذلك شاهدين مسلمين عدلين.. فلا يخلو حال الميت: إما أن يعرف أصل دينه أنه كان نصرانيا، أو لا يعرف أصل دينه. فإن عرف أصل دينه وأنه كان نصرانيا.. نظرت في البينتين: فإن كانتا مطلقتين أو إحداهما مطلقة والأخرى مؤرخة.. حكم بأنه مات مسلما، ويكون ميراثه لابنه المسلم؛ لأن التي شهدت بالنصرانية ربما شهدت بالنصرانية؛ لأنه أصل دينه؛ لأنها إذا لم تعرف إسلامه.. جاز لها أن تشهد بأنه مات نصرانيا، والتي شهدت بالإسلام شهدت بأمر حادث على النصرانية وربما خفي على الأخرى، فقدمت كما تقدم بينة الجرح على بينة التعديل. وإن كانت البينتان مؤرختين تأريخا واحدا؛ بأن شهدت إحداهما أن آخر كلامه التلفظ بالإسلام، وشهدت الأخرى أن آخر كلامه التلفظ بالنصرانية.. فهما متعارضتان؛ لأنهما متنافيتان. فإن قلنا: إن البينتين إذا تعارضتا سقطتا.. كان كما لو لم يكن لأحدهما بينة، ويكون القول قول النصراني مع يمينه؛ لأنه لا يعلم أنه مات

(13/198)


مسلما؛ لأن الأصل بقاؤه على النصرانية وعدم الإسلام، فإن حلف.. كان الميراث له، وإن نكل عن اليمين.. ردت اليمين على الثاني فيحلف أنه مات مسلما، فإذا حلف.. كان الميراث له. وإن قلنا: إنهما تستعملان، فإن قلنا بالوقف.. وقف المال؛ لأنه هو المتداعى. وإن قلنا بالقرعة.. أقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة.. حكم ببينته، وهل يحلف مع القرعة؟ فيه قولان. وإن قلنا بالقسمة.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال أبو إسحاق: لا يجوز أن يقسم بينهما الميراث؛ لأنا نتيقن الخطأ في توريث أحدهما.
وقال أكثر أصحابنا: يقسم بينهما - وهو المنصوص - كما لو ادعيا ملكا من غير الميراث، وأقام كل واحد منهما بينة وقلنا: بالاستعمال بالقسمة. وما قاله أبو إسحاق من الخطأ في القسمة غير صحيح؛ لأنه يجوز أن يكون مات الأب نصرانيا وهما نصرانيان، ثم أسلم أحدهما وادعى أن أباه مات مسلما ليحوز جميع ميراثه. وإن لم يعرف أصل دين الميت.. فإن البينتين متعارضتان، سواء كانتا مؤرختين تأريخا واحدا أو مطلقتين، أو إحداهما مؤرخة والأخرى مطلقة؛ لأنه ليس له أصل دين يبنى عليه حتى تكون إحداهما أثبتت أمرا حادثا بعد ذلك الأصل. فإن قلنا: إن البينتين إذا تعارضتا سقطتا.. صار كأن لم يقم أحدهما بينة، فإن كان الشيء الذي يتداعيانه في يد غيرهما.. كان القول قوله، وإن كان في يد أحدهما.. فهو أحق به ويحلف للآخر، وإن كان في يدهما.. قسم بينهما ويحلف كل واحد منهما لصاحبه على النصف الذي حصل له. هكذا ذكر الشيخان أبو حامد وأبو إسحاق. قال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر؛ لأنه إذا كان في يد أحدهما.. فإنه يعترف أنه للميت الذي ادعى أنه يرثه والآخر يدعي مثل ذلك، فلا ينبغي أن يكون ليده حكم، بل ينبغي أن يكون موقوفا أو مقسوما بينهما. وإن كان في يدها..فينبغي أن يوقف وتكون يدهما عليه، أو يقسم بينهما بحكم اليد ولا يتحالفان. وإن قلنا: إن البينتين تستعملان، فإن قلنا بالوقف.. وقفت التركة، وإن قلنا

(13/199)


بالإقراع.. أقرع بينهما، وإن قلنا بالقسمة.. فالمذهب: أنها تقسم بينهما، وقال أبو إسحاق: لا تقسم بينهما، وقد مضى دليلهما. ويصلى على الميت، وينوى بالصلاة عليه إن كان مسلما، ويدفن في مقابر المسلمين تغليبا للإسلام، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا اختلط موتى المسلمين بموتى الكفار ولم يتميزوا) .
هذا مذهبنا، وبه قال أحمد، وقال أبو حنيفة: (يقضي ببينة الإسلام بكل حال) .
دليلنا: أنهما إذا تعارضتا.. كانت كل واحدة منهما مكذبة للأخرى، وليس مع إحداهما زيادة علم فسقطتا، كما لو شهدتا بعين في يد غير المدعيين.

[مسألة مات وهو مسلم وخلف ابنين أو مات وخلف أبوين وابنين واختلفوا]
إذا مات رجل وخلف ابنين ودارا، واتفقا على أن أباهما مات مسلما في أول شهر رمضان، وأن أحدهما أسلم في شعبان، واختلفا في إسلام الثاني، فقال الثاني: أنا أسلمت في شعبان أيضا، فلي الميراث معك، وقال أخوه: بل أسلمت في رمضان بعد موت أبي، ولا بينة لمن ادعى الإسلام في شعبان.. فالقول قول المتفق على إسلامه في حياة الأب، فيحلف أنه لا يعلم أن أخاه أسلم في حياة أبيه، ويكون له جميع الميراث؛ لأن الأصل عدم إسلامه. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وهكذا إذا مات رجل وخلف ابنين واتفقا على أن أباهما مات حرا، وأن أحدهما أعتق قبل موت الأب، واختلف في وقت عتق الآخر، فادعى أنه أعتق أيضا في حياة أبيه، وقال أخوه: بل أعتقت أنت بعد موت أبينا.. فالقول قول المتفق على عتقه في حياة الأب، فإذا حلف.. كان له جميع الميراث) ؛ لما ذكرناه.
وإن اتفق الابنان أن أحدهما أسلم في أول شعبان، وأن الآخر أسلم في أول شهر رمضان، واتفقا بأن أباهما مات مسلما، إلا أنهما اختلفا في وقت موته، فقال الذي أسلم في شعبان: مات أبي في شعبان، فلي الميراث دونك، وقال الذي أسلم في رمضان: بل مات أبي في رمضان بعد أن أسلمت، فالميراث بيننا.. فالقول قول الذي أسلم في رمضان

(13/200)


مع يمينه؛ لأن الأصل حياة الأب وعدم موته، فإذا حلف.. كان الميراث بينهما. وإن مات رجل وخلف أبوين كافرين وابنين مسلمين، فادعى الأبوان أنه مات كافرا فهما أحق بميراثه، وادعى الابنان أنه مات مسلما فهما أحق بميراثه.. قال أبو العباس: فيحتمل قولين:
أحدهما: أن القول قول الأبوين؛ لأن الأبوين إذا كانا كافرين.. فولدهما قبل البلوغ كافر تبعا لهما، والأصل بقاؤه على الكفر إلى أن يعلم إسلامه. قال: وهذا أشبه بقول العلماء.
والثاني: أن الميراث يوقف إلى أن يصطلحوا أو ينكشف الحال فيه؛ لأن الولد يتبع أبويه في الكفر قبل البلوغ، فأما بعد البلوغ.. فله حكم نفسه، ويحتمل أنه مات كافرا ويحتمل أنه مات مسلما، وليس هاهنا أصل يبنى عليه، فوقف إلى أن يصطلحوا أو ينكشف حاله.

[فرع مات عن زوجة وأخ مسلمين وابن كافر]
وإن مات رجل وخلف زوجة مسلمة وأخا مسلما وابنا كافرا، فقالت الزوجة والأخ: مات مسلما فالميراث لنا، وقال الابن: بل مات كافرا فالميراث لي، فإن أقام كل واحد منهم بينة بما ادعاه.. فالحكم فيها كالحكم في الرجل إذا مات وخلف ابنين أحدهما نصراني والآخر مسلم، فادعى كل واحد منهما أن أباه مات على دينه، على ما مضى. وإن لم يكن لهم بينة، فإن عرف أصل دينه أنه كان كافرا.. فالقول قول الابن؛ لأن الأصل بقاؤه على الكفر. وإن لم يعرف أصل دينه.. وقف الأمر إلى أن ينكشف الحال أو يصطلحوا.

[مسألة ادعى دارا في يد رجل أنها ميراث له ولأخيه الغائب من أبيهما أو دينا]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو أقام رجل بينة أن أباه هلك وترك هذه الدار ميراثا له ولأخيه الغائب.. أخرجتها من يد من هي في يده، وأعطيته منها نصيبه، وأخذت نصيب الغائب) .

(13/201)


وجملة ذلك: أنه إذا كانت في يد رجل دار، فجاء رجل وادعى أن أباه مات وترك هذه الدار له ولأخيه الغائب، فأنكر من بيده الدار، فإن لم يكن مع المدعي بينة.. فالقول قول من الدار في يده مع يمينه. وإن أقام الابن الحاضر بينة أن أباه مات وخلف ابنين هذا والغائب، وقالت البينة: لا نعلم له وارثا سواهما، والبينة من أهل الخبرة الباطنة بالميت.. فإن الحاكم يسمع هذه البينة ويحكم بالدار للميت، وينتزعها ممن هي في يده، ويسلم إلى الحاضر نصفها ويسلم النصف الذي للغائب إلى أمين يحفظه له إلى أن يقدم، وإن أمكن إكراؤه له.. أكراه له وحفظ أجرته، وكذلك إذا كانت العين المدعى بها مما تنقل وتحول.. وبه قال أبو يوسف وأحمد ومحمد. وقال أبو حنيفة: (إذا كانت العين المدعى بها مما تنقل وتحول.. فكما قلنا، وإن كانت مما لا تنقل ولا تحول كالدار والأرض.. فإنه لا ينتزع نصيب الغائب من يد المدعى عليه حتى يقدم الغائب ويدعيه، كما لو ادعى رجل أن هذه الدار له ولشريكه وأقام على ذلك بينة.. فإن نصيب الغائب لا ينتزع) .
دليلنا: أن هذه الدار إذا ثبتت.. فإنها تثبت للميت، ثم تنتقل إلى ورثته، وما كان حقا للميت.. فعلى الحاكم سماع البينة فيه؛ لأنه يلي على الأموات، بخلاف الدار بين الشريكين؛ فإنه لا ولاية له على الغائب. ولأن نصيب أحد الأخوين الوارثين متعلق بسلامة نصيب الآخر؛ لأنه لو أخذ الحاضر النصف ثم قدم الغائب فجحده من هو في يده على النصف الباقي ولم تقم له بينة.. فإنه يشارك أخاه في النصف الذي حصل له، فكذلك [إذا] سمعها وحكم بها. ولأن كل ما كان للحاكم أن ينتزعه إذا كان مما ينقل.. كان له أن ينتزعه وإن كان مما لا ينقل، كما لو كان أخوه صغيرا أو مجنونا. وإن كان المدعى به دينا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يأخذ نصيب الغائب ويحفظه عليه، كما لو كان المدعى به عينا.
والثاني: أنه ليس له أن يأخذه؛ لأن تركه في الذمة أحوط لصاحبه.
وإذا دفع إلى الحاضر نصيبه من الدين أو العين في هذا القسم.. لم يجب أن يؤخذ منه ضمين؛ لأن في ذلك طعنا على البينة.
فأما إذا لم تكن البينة من أهل الخبرة الباطنة بالميت، أو كانت من أهل الخبرة

(13/202)


الباطنة بالميت إلا أنها لم تشهد بأنها لا تعلم له وارثا غيرهما، أو شهدت بأنه مات وخلف هذين الابنين ولم تقل وهما وارثان.. فإن الدار تثبت للميت ولكن لا يسلم شيء إلى الابن الحاضر من الدار بمجرد هذه الشهادة؛ لأنها لم تشهد بما يستحقه من الدار، ولكن يبعث الحاكم إلى البلاد التي كان يسافر إليها الميت ويقيم بها ويسأل فيها: هل له وارث فيها؟ فإن سأل عن ذلك وغلب على ظن الحاكم أنه لو كان له وارث آخر.. لظهر، فإن لم يظهر له وارث.. فإنه يدفع إلى الحاضر نصيبه؛ لأن الظاهر أنه لو كان له وارث لظهر، فصار هذا الظاهر مع البينة بمنزلة ما لو شهدت البينة بأنها لا تعلم أن له وارثا غيرهما وهي من أهل الخبرة الباطنة بالميت.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ويؤخذ منه ضمين) ، وهذا يقتضي وجوب أخذ الضمين. وقال في " الأم ": (وأحب أن يؤخذ منه الضمين) . واختلف أصحابنا فيها على طريقين: فمنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: يجب أخذ الضمين منه؛ لأنه ربما ظهر له وارث آخر، وربما كان المدفوع إليه غائبا أو ميتا، فوجب أخذ الضمين منه للاستيثاق.
والثاني: يستحب ولا يجب؛ لأن الظاهر أنه لا وارث له غير هذا الحاضر والغائب؛ إذ لو كان له وارث غيرهما.. لظهر.
ومن أصحابنا من قال: إن كان الحاضر غير ثقة.. وجب أخذ الضمين منه؛ لأنه لا يؤمن أن يضيع حق من يظهر. وإن كان ثقة.. لم يجب أخذ الضمين منه وإنما يستحب؛ لأنه يؤمن أن يضيع حق من يظهر، وحمل القولين على هذين الحالين.
وإن كان المدعي ممن يحجب عن الميراث، كالأخ، وابن الأخ، والعم، وابن العم، وأقام بينة أن أخاه مات وخلفه وارثا، فإن شهد الشاهدان بأنهما لا يعلمان له وارثا غيره، وهما من أهل الخبرة الباطنة بالميت.. دفع الدار إلى الأخ، ولم يؤخذ منه ضمين، كالابن. وإن لم يشهد الشاهدان بأنهما لا يعلمان له وارثا سواه، أو شهدا بذلك ولكنهما ليسا من أهل الخبرة الباطنة بالميت.. فإن الدار تثبت للميت ولا تدفع

(13/203)


إلى الأخ؛ لجواز أن يكون هناك وارث يحجبه، ولكن يبعث الحاكم إلى البلاد التي كان يدخلها الميت ويقيم بها ويسأل: هل له وارث؟ فإن لم يظهر له وارث.. دفع الدار إلى الأخ، كما قلنا في الابن، وهل يجب أخذ الضمين منه؟
إن قلنا: يجب أخذ الضمين من الابن.. فمن الأخ أولى.
وإن قلنا: لا يجب أخذ الضمين من الابن.. ففي الأخ وجهان:
أحدهما: لا يجب، كما لا يجب أخذه من الابن، ولكن يستحب.
والثاني: يجب؛ لأن الابن لا يجوز أن يحجب بحال، والأخ يجوز أن يكون هناك من يحجبه.
فإن شهد الشاهدان أن هذا أخوه ولم يشهدا أنه وارث.. قال أبو العباس: لم يجز للحاكم أن يدفع إليه المال وأن يسأل عن وارث له آخر حتى يشهدا أنه وارث.
والفرق بينه وبين الابن، حيث قلنا: إذا شهد أنه ابنه ولم يشهدا أنه وارث.. أنه يدفع إليه المال بعد أن يسأل عن وارث آخر؛ لأن الابن يتيقن كونه وارثا، والأخ لا يتيقن أنه وارث؛ لجواز أن يكون هناك وارث يحجبه. وإن كان المدعي ممن له فرض يتقدر.. نظرت: فإن شهد الشاهدان: أنه وارثه لا نعلم له وارثا سواه، وهما من أهل الخبرة الباطنة بالميت.. دفع إليه نصيبه كاملا، ولا يؤخذ منه ضمين.
وإن شهدا بأنه وارثه ولم يقولا: ولا نعلم له وارثا غيره، أو شهدا بذلك وليسا من أهل الخبرة الباطنة بالميت.. فإن الحاكم يدفع إليه القدر الذي يتيقنه من الميراث له، فإن كان زوجا.. دفع إليه ربعا عائلا، وهو: ثلاثة أسهم من خمسة عشر سهما. وإن كانت زوجة.. دفع إليها ربع الثمن عائلا، وهو: ثلاثة أسهم من مائة وثمانية أسهم. وإن كان أبا.. دفع إليه السدس عائلا، وهو: سهمان من خمسة عشر

(13/204)


سهما. وإن كانت أما.. دفع إليها السدس عائلا، وهو: سهم من عشرة أسهم؛ لأن ذلك أقل حق كل واحد منهم. ويوقف الباقي حتى يسأل عن الميت في البلاد التي كان يسافر إليها ويقيم بها، فإن لم يظهر له وارث ينقصه.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يكمل له فرضه؛ لعدم البينة.
والثاني: يكمل لصاحب الفرض فرضه. وهو الأصح؛ لأن الظاهر بعد البحث أنه لو كان هناك وارث ينقصه.. لظهر.

[فرع شهدا أنه ابن لزيد ولا يعلمان ولدا غيره وشهد غيرهما لآخر بعكسها]
إذا شهد شاهدان لرجل: أنه ابن زيد ولا نعلم له ابنا غيره، وشهد شاهدان آخران لآخر: أنه ابن زيد لا نعلم له ابنا غيره.. ثبت نسبهما من زيد ولا يكونان متعارضين؛ لأنه يجوز أن تعرف كل واحدة منهما ما لا تعرف الأخرى.

[مسألة ماتت الزوجة عن زوج وابن وأخ واختلفوا]
وإن كانت له زوجة وله ابن منها ولها أخ، فماتت الزوجة وابنها، فاختلف الزوج والأخ، فقال الزوج: ماتت الزوجة أولا فورثتها أنا وابنها، ثم مات ابنها فورثته، وقال الأخ: بل مات الابن أولا فورثته الأم، ثم ماتت الأم فورثتها أنا وأنت، فإن كان لأحدهما بينة بما يدعيه ثبت ما ذكره. وإن لم تكن بينة.. فالقول قول الأخ مع يمينه في إرثه من أخته؛ لأن الزوج يدعي حجبه عن ميراثها والأصل عدم حجبه. والقول قول الزوج مع يمينه في إرثه من ابنه؛ لأن الأخ يدعي إرث الأم منه والأصل عدم إرثها، فلا ترث الزوجة

(13/205)


من ابنها، بل يكون ماله كله لأبيه، ولا يرث الابن من مال أمه، بل يكون مالها للأخ والزوج؛ لأن من لم تتيقن حياته عند موت مورثه.. لم يرث منه شيئا، وكل واحد منهمما لا يتيقن حياته عند موت مورثه، فلم يرث أحدهما من الآخر، كالغرقى.

[فرع خلف رجل دارا لابن وزوجة فاختلفا في الدار أهي إرث أم مهر]
وإن مات رجل وخلف ابنا ودارا وزوجة، وادعى الابن أن أباه ترك الدار ميراثا، وادعت الزوجة أنه أصدقها الدار في حياته، وأقام كل واحد منهما بينة على ما ادعاه.. قدمت بينة الزوجة؛ لأن بينة الابن تشهد بأصل الملك، وبينة الزوجة تشهد بأمر حادث خفي على بينة الابن، فقدمت كما لو كان الزوج حيا وأقام بينة أن الدار ملكه، وأقامت الزوجة بينة أنه أصدقها الدار.

[مسألة تداعيا جدارا بين داريهما]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا تداعى رجلان جدارا بين داريهما، فإن كان متصلا ببناء أحدهما اتصال البنيان الذي لا يحدث إلا من أول البناء.. جعلته له دون المنقطع منه) .
وجملة ذلك: أن الرجلين إذا تنازعا في جدار بين ملكيهما، وادعى كل واحد منهما أنه ملكه، فإن كان لأحدهما بينة دون الآخر.. قضي لصاحب البينة. وإن لم يكن لأحدهما بينة.. نظرت: فإن كان لأحدهما عليه بناء لا يمكن إحداثه بعد كمال البناء؛ بأن كان له عليه أو فيه أزج معقود.. فالقول قول صاحب الأزج مع يمينه.
قال الشيخ أبو حامد: لأن جدار الأزج يبتدئ أولا بالاعوجاج أو بالاستواء ثم يعوج عن قليل، وإنما حلفناه لجواز أن يكونا قد اشتركا في بناء الأساس، ثم عقد

(13/206)


أحدهما الأزج عليه بإذن صاحبه. قال ابن الصباغ: فإن كان مبنيا على تربيع بناء أحدهما متصلا به مساويا له في السمك دون الآخر.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الظاهر أنه له. قال أبو إسحاق المروزي: وإن كان الجدار خمسة عشر ذراعا، وعشرة منه بين داريهما، ولأحدهما خمسة أزرع متصلة بالعشرة، ثم تنازعا في العشرة.. فالقول قول صاحب الخمسة مع يمينه في العشرة؛ لأنه لا يمكن إحداث ما ينفرد به دون الذي تنازعا فيه، فعلم أن الجميع له، كما لو كان لأحدهما عليه أزج.
وقال الشيخ أبو حامد: وهذا غلط لا يجيء على المذهب؛ لأن انفراده ببعض الحائط لا يدل على أن جميع الحائط له؛ لأنه يجوز أن يكونا قد اشتركا في بناء الذي بينهما وانفرد صاحب الزيادة ببنائها، ويخالف إذا كان لأحدهما عليه أزج؛ لأن الأزج موضوع على الجدار، فالظاهر أنه وضعها في ملكه.
فإن كان الحائط على خشبة طويلة، فأقر أحدهما لصاحبه بالخشبة الطويلة وتنازعا في الحائط، أو تنازعا في الخشبة والحائط، وقامت لأحدهما بينة بالخشبة، أو كان بعض الخشبة في ملك أحدهما.. فالقول قول صاحب الخشبة - أو من بعضها في ملكه- مع يمينه في الحائط؛ لأنها لا تتبعض، فإذا حكم له ببعضها.. حكم له بجميعها، وحكم له بالحائط؛ لأن الظاهر أنه وضع ملكه على ملكه.
وإن كان الجدار غير متصل ببناء أحدهما، وإنما هو حاجز زج بين ملكيهما ويدهما عليه، أو لا يد لأحدهما عليه ولا بينة لأحدهما.. حلف كل واحد منهما، فإن حلفا أو نكلا.. قسم بينهما، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر.. كان الجميع للحالف. وهكذا إذا كان متصلا ببنائهما. ولا ترجح دعوى من إليه داخل الحائط أو خارجه، ولا من إليه معاقد القمط؛ وهو: مشاد خيوط الخص. وبه قال أبو

(13/207)


حنيفة. وقال مالك وأبو يوسف: (يحكم به لمن إليه وجه الحائط ومعاقد القمط) .
ودليلنا: أن من إليه ذلك لا يدل على أن له ملك الحائط، فلم يرجح به دعوى من هي إليه، كما لو كان إلى أحدهما النقوش والتجصيص.
وكذلك: إذا كان لأحدهما على الحائط تجصيص أو نقوش.. فإنه لا يحكم له بالحائط بذلك؛ لأنه يمكن إحداثه بعد كمال البناء. وإن كان عليه لأحدهما جذع أو جذوع.. لم ترجح بذلك دعواه. وقال مالك: (إذا كان لأحدهما جذع.. رجحت دعواه، فيحلف على الحائط أنه له) . وقال أبو حنيفة: (يرجح بجذعين فما زاد، ولا يرجح بدون الجذعين) .
دليلنا: أن وضع الجذع معنى حادث بعد تمام الحائط، فلم ترجح به الدعوى، كالتجصيص والتزويق.

[فرع تنازعا جدارا في عرصة لأحدهما وعكسه]
وإن تنازع رجلان جدارا في عرصة لأحدهما.. فالقول قول صاحب العرصة؛ لأن الظاهر مما في ملك الإنسان أنه ملكه.
وإن تنازعا عرصة، لأحدهما عليها جدار.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: أنه لا يرجح قول صاحب الجدار، بل يتحالفان على العرصة، كما قلنا فيهما إذا تنازعا حائطا عليه لأحدهما جذوع.
والثاني: أن القول قول صاحب الجدار؛ لأن الظاهر أنه لا يضع ملكه إلا على ملكه؛ لأن أحدا لم يجوز وضع الجدار في عرصة غيره بغير إذنه، بخلاف الجذوع وهكذا الوجهان: إذا تنازعا عرصة، لأحدهما فيها نخلة.

(13/208)


[مسألة تنازعا في حيطان السفل أو العلو أو السقف لدارهما]
] : إذا كانت سفل الدار في يد رجل والعلو في يد آخر، فإن تنازعا في حيطان السفل.. فالقول قول من السفل بيده مع يمينه. وإن تنازعا في حيطان العلو.. فالقول قول من العلو في يده مع يمينه؛ لأن كل واحد منهما هو الذي ينتفع بما في يده، فكان القول قوله فيه. فإن تنازعا السقف الذي بينهما.. حلفا، وجعل بينهما نصفين.
وقال أبو حنيفة: (هو لصاحب السفل) ، وحكاه أصحاب مالك عنه، وأصحابنا يحكون عنه: (أنه لصاحب العلو) .
دليلنا: أنه حاجز بين ملكيهما غير متصل ببناء أحدهما اتصال البنيان، فكان بينهما كالحائط بين المالكين.

[فرع دار له علو وسفل وتنازعا درج السفل]
وإن كانت الدار علوها لرجل وسفلها لآخر، وتنازعا في الدرجة المبنية في السفل التي يصعد عليه صاحب العلو، فإذا ادعى كل واحد منهما أنها ملكه ولا بينة لأحدهما.. نظرت: فإن كانت معجمة ولا منفعة لصاحب السفل تحتها.. فالقول قول صاحب العلو فيها مع يمينه؛ لأنها من انتفاعه خاصة. وكذلك: لو اختلفا في ملك السلم المنصوب الذي يصعد عليه صاحب العلو؛ لما ذكرناه.
وإن كانت الدرجة معقودة وهي سقف لبيت صاحب السفل.. فقال الشيخان أبو حامد وأبو إسحاق: فهي بينهما، وأرادا: إذا حلفا أو نكلا. وإن كانت ليست بسقف لصاحب السفل إلا أن تحتها موضع جب لصاحب السفل.. ففيه وجهان: أحدهما: أنهما يحلفان ويجعل بينهما؛ لأنهما يرتفقان بها.
والثاني: أن القول قول صاحب العلو وحده فيها؛ لأن الانتفاع بها إنما هو لصاحب العلو، وانتفاع صاحب السفل في ذلك غير مقصود.

(13/209)


وقال القاضي أبو الطيب: فيها وجهان، سواء كانت سقفا لبيت صاحب السفل أو سقفا لموضع الجب. قال ابن الصباغ: وهو الأشبه.

[فرع دار علوها لرجل وسفلها لآخر وفيها عرصة وادعى كل واحد ملكها]
وإن كانت الدار علوها لرجل وسفلها لآخر، وفي السفل عرصة، وتنازعا في العرصة وادعى كل واحد منهما ملكها، فإن كانت الدرجة لصاحب العلو في آخر العرصة.. حلفا وجعلت العرصة بينهما؛ لأنها في أيديهما وتصرفهما. وإن كانت الدرجة لصاحب العلو في الدهليز في أول العرصة.. ففيما جاوز الدرجة من العرصة وجهان:
أحدهما: أنهما يحلفان وتجعل بينهما؛ لأن لكل واحد منهما يدا على العرصة.
والثاني: أن القول فيها قول صاحب السفل؛ لأنه ليس لصاحب العلو إلا الاستطراق فيها فيما جاوز الدرجة، فكانت اليد فيها والانتفاع لصاح السفل وحده.
وإن كانت الدرجة في وسط العرصة.. فإن أول العرصة إلى حد الدرجة في يديهما، فيحلفان وتقسم بينهما. وما جاوز الدرجة من العرصة على وجهين. ومثل هذا: زقاق لا ينفذ وفيه بابان لرجلين، باب لأحدهما في أوله، وباب للآخر في وسطه، فمن أول الزقاق إلى باب الأول بينهما، وما جاوزه من الزقاق إذا تنازعاه على وجهين، وقد مضى ذكرهما في "الصلح".

[فرع اختلفا على مسناة نهر]
قال في " الأم ": (وإن كان لرجل نهر وإلى جنبه أرض لآخر وبينهما مسناة، فقال صاحب النهر: هي لي بنيتها لتجمع الماء في النهر ويكثر فأنتفع به. وقال صاحب الأرض:

(13/210)


بل هي لي بنيتها لتمنع الماء من دخول أرضي.. حلفا وجعلت بينهما) . وقال أبو حنيفة: (تكون لصاحب النهر) . وقال أبو يوسف ومحمد: تكون لصاحب الأرض.
دليلنا: أن لكل واحد منهما فيها منفعة وهي مجاورة لملكيهما، فحلفا وجعلت بينهما، كالسقف إذا تنازع فيه: صاحب العلو وصاحب السفل.

[فرع تنازعا دابة أحدهما راكب والآخر آخذ بزمامها أو جملا أو عمامة]
وإن تنازعا دابة وأحدهما راكبها والآخر آخذ بلجامها، ولا بينة لأحدهما.. فالقول قول الراكب فيها مع يمينه. ومن أصحابنا من قال: يحلفان وتجعل بينهما. والأول أصح؛ لأن الراكب هو المنفرد بالتصرف فقضي له. وإن تنازعا جملا ولأحدهما عليه حمل، ولا بينة لأحدهما عليه.. فالقول قول صاحب الحمل مع يمينه؛ لأنه هو المنتفع به، والظاهر أنه لا يحمل إلا على ملكه. وإن تداعيا عبدا ولأحدهما عليه ثوب.. فهما فيه سواء؛ لأن صاحب الثوب لا ينتفع بلبس العبد لثوبه، وإنما العبد هو الذي ينتفع بلبسه، بخلاف الحمل على الجمل.
فإن تداعيا عمامة وفي يد أحدهما ذراع منها وفي يد الآخر الباقي.. فهما سواء، فيحلفان ويجعل بينهما نصفين؛ لأن إمساك الذراع يد؛ بدليل: أنه لو كان في يد رجل ذراع منها وباقيها على الأرض فادعاها عليه آخر.. كان القول قوله فيها مع يمينه، كما لو كان جميعها في حجره.

[مسألة ادعى طفلا أو صبيا مميزا في يده أنه مملوكه أو صبية صغيرة أنها زوجته]
] : وإن كان في يد رجل طفل لا تميز له، فادعى أنه مملوكه ولا يعرف حريته.. قبل قوله؛ لأنه في يده، فقبل قوله فيه وحكم له بملكه. فإن بلغ هذا الطفل وقال: لست بمملوك له.. لم يقبل قوله من غير بينة؛ لأنا قد حكمنا بملكه فلا يسقط لقوله.
وحكى القاضي أبو الطيب في " شرح الفروع " وجها آخر: أنه يقبل قول الطفل بعد

(13/211)


بلوغه مع يمينه، بناء على الوجهين في اللقيط إذا حكم بإسلامه بالدار، ثم بلغ ووصف الكفر.. فإنه يقبل منه في أحد الوجهين. وهذا ليس بصحيح؛ لأن الإسلام الحق فيه لله تعالى فقبل قوله فيما يسقطه، والرق حق للآدمي لا يقبل قوله فيما يسقطه.
وهكذا: إذا كان في يده صبي يستخدمه ولم يدع ملكه في صغره ولا أقر بحريته، فلما بلغ هذا الصبي ادعاه من هو في يده أنه مملوكه.. قبل قوله في ذلك؛ لأن كونه في يده وتصرفه يدل على ملكه. فإن جاء رجل وادعى أنه ابنه وهو مجهول النسب..
لم يقبل إقراره ولم يلحق به؛ لأن في ذلك إضرارا بالسيد؛ لأنه ربما يعتقه فيثبت له عليه الولاء، فإذا كان نسبه ثابتا من رجل.. لم يرثه بالولاء. فإن أقام المدعي بينة أنه ابنه.. ثبت نسبه بذلك؛ لأن البينة شهدت له بذلك، ولا يزول ملك السيد عنه؛ لأنه يجوز أن يكون ابنا لرجل ومملوكا لآخر، إلا أن يكون الذي ادعى بنوته وأقام عليه البينة عربيا وقلنا بقوله القديم: (أن العرب لا يسترقون) فإنه يحكم بحريته على هذا.
وإن كان في يد رجل صبي عاقل يميز، وادعى أنه مملوكه، وأنكره الصبي.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يحكم له بملكه؛ لأنه يعبر عن نفسه، فلم يحكم له بملكه مع إنكاره، كالبالغ.
والثاني: أنه يحكم له بملكه، وهو الأصح؛ لأنه صغير، فقبل قوله عليه كالطفل. وإن كان في يد رجل صبية صغيرة، فادعى زوجيتها ولا بينة له.. لم تقر يده عليها ولا يخلى بينه وبينها؛ لأن الحرة لا تثبت عليها اليد والمنافع، فلا يتصور ثبوت اليد عليها، فإذا لم يكن له بينة ولا يد ولا يصح من الصغيرة التصديق.. لم يجز أن تقر في يده ليخلو بها. فإن بلغت وأقرت له بالنكاح.. ثبت النكاح على قوله الجديد، ولم يثبت على قوله القديم إلا أن يكونا في الغربة، فإن أنكرت.. حلفت على الجديد، ولم تحلف على القديم.

(13/212)


[فرع في يده رجل وادعى أنه مملوكه]
أو كان هو أو طفل بين رجلين فاختلفا فيه] : وإن كان في يده رجل بالغ عاقل، فادعى أنه مملوكه، فأنكره ولا بينة للمدعي.. فالقول قول المدعى عليه؛ لأن الظاهر منه الحرية. وإن صدقه أنه مملوكه.. حكم له بملكه.
وإن كان الكبير البالغ العاقل في يد رجلين، وادعى كل واحد منهما ملكه، فأنكرهما.. حلف لكل واحد منهما. وإن صدقهما معا.. كان بينهما نصفين. وإن صدق أحدهما وكذب الآخر.. حكم بملكه لمن صدقه دون من كذبه.
وقال أبو حنيفة: (يحكم بملكه بينهما نصفين) .
دليلنا: أنه لا حكم ليدهما عليه قبل ثبوت رقه، وإنما يحكم برقه بإقراره، فإذا أقر برق نفسه لأحدهما.. لم يشاركه الآخر.
وإن أقام كل واحد منهما بينة برقه، فصدق المملوك أحدهما أنه ملكه دون الآخر.. لم ترجح بينة المصدق؛ لأنه لا يد له على نفسه وإنما حكم برقه بالبينة، فلم يقبل تصديقه لأحدهما.
وإن كان طفل في يد رجلين، فادعى كل واحد منهما ملك جميعه ولا بينة.. تحالفا وجعل بينهما نصفين؛ لأن اليد ثبتت عليه، ويد كل واحد منهما ثابتة على نصفه، فحكم له بملك نصفه وحلف عليه لصاحبه.

[فرع اشترى جارية فادعت حريتها]
وماذا لو كانت عينا واستحقت وما حكم الرجوع بالثمن؟] :
وإن اشترى رجل من رجل جارية وقبضها، وادعت على المشتري أنها حرة الأصل، وادعى المشتري أنها مملوكته، ولا بينة للمشتري على إقرارها بالرق، ولا بينة لها على أصل الحرية.. قال ابن الحداد: فالقول قولها مع يمينها، لأن الأصل الحرية، والرق طارئ عليها.

(13/213)


قال ابن الحداد: فإذا حلفت.. حكم بحريتها، ولا يرجع المشتري على البائع بالثمن؛ لأن يمينها للمشتري فلا يتعدى حكمها إلى البائع، ولأن المشتري قد أقر أنها أمته ومملوكته وهذا إقرار منه بصحة البيع وثبوت ملك البائع على الثمن، فلم يكن له الرجوع عليه فيه.
قال القاضي أبو الطيب: وقد قال بعض أصحابنا: إنه إذا قال في كتاب الابتياع: اشترى فلان من فلان جميع ما هو له وفي ملكه وهو كذا، ثم استحقه مستحق.. فإن المشتري لا يرجع بالثمن على البائع؛ لأن المشتري إذا أشهد على نفسه بذلك.. فقد أقر أن البائع باعه ما يملكه ولا يقبل رجوعه. وكذلك: إذا قال في البيع: تسلم فلان من فلان -يعني: المشتري- جميع كذا -يعني: المبيع- فصار في ملكه.. يكون إقرارا منه بصحة البيع، فلا يرجع بالثمن إذا استحق؛ لما ذكرناه.
وقال ابن الحداد: إذا اشترى من رجل شيئا وقبضه، فادعى مدع أنه ملكه.. فالقول قول المشتري مع يمينه، فإن نكل عن اليمين وردت اليمين على المدعي فحلف.. استحق المدعى به، ولا يرجع المشتري على البائع بشيء؛ لأن ذلك يحري مجرى إقرار المشتري له بذلك، فلا يرجع على البائع بالثمن بإقراره. وإن قلنا: إنه كالبينة.. فإن ذلك يخص المدعى عليه، ولا يتعدى إلى غيره من البائع وغيره، ويخالف إذا قامت البينة بالاستحقاق؛ لأنها ثبتت في حق جميع الناس.

[فرع ادعى على رجل بيده جارية فأنكره]
وإن ادعى رجل على رجل جارية في يده، فأنكره ونكل عن اليمين، فحلف المدعي وسلمت الجارية إليه فوطئها وأولدها أولادا، ثم قال المدعي: كنت كاذبا والجارية للمدعى عليه.. فلا يقبل قوله في إبطال حق الجارية وأولادها؛ لأنها صارت أم ولد له، وأولادها أحرارا، فلا يقبل قوله فيما يسقط حقهم، كما لو اشترى عبدا فأعتقه وادعى أنه كان مغصوبا. ويجب عليه للمدعى عليه قيمة الجارية أكثر ما كانت

(13/214)


من حين قبضها إلى أن تقوم عليه، ويجب عليه له مهرها، ويجب عليه قيمة أولادها حين سقطوا؛ لأنه حكم بحريتهم في ذلك الوقت، ولا يجوز له وطؤها؛ لأنه مقر بتحريمها عليه، فإن اشتراها من المدعى عليه أو اتهبها منه.. حلت له؛ لأنا تيقنا إباحتها له.

[فرع شهدا بعتق عبد أو أمة]
إذا شهد شاهدان بعتق عبد أو أمة.. ثبت عتقهما، سواء صدقهما المشهود عليه بعتقه أو لم يصدقهما، ولا تفتقر الشهادة بالعتق إلى تقدم الدعوى، ووافقنا أبو حنيفة في الأمة وخالفنا في العبد.
دليلنا: أنها شهادة بعتق، فلا تفتقر إلى تقدم الدعوى، كعتق الأمة.

[فرع ادعى قرضه ألفا وادعى الخصم قضاءه أو أنكره]
لو ادعى عليه أنه أقرضه ألفا، فقال المدعى عليه: لا يستحق علي شيئا، وأقام المدعي على ذلك بينة، وأقام المدعى عليه بينة أنه قضاه ألفا ولم يعرف التاريخ.. قال ابن القاص: قضي ببينة القضاء؛ لأنه لم تثبت إلا الألف، وقد ثبتت بينة القضاء، ولا يكون القضاء إلا بما عليه.
وإن أنكر المدعى عليه القرض، وأقام المقرض البينة بالقرض، وأقام المنكر بينة بالقضاء.. فبينة المقرض أولى؛ لأنه أنكر القرض فلا تسمع بينته أنه قضى القرض، وإنما يكون القضاء بغير ذلك.

[مسألة اختلف الزوجان أو ورثتهما في أثاث البيت]
وإذا اختلف الزوجان في متاع البيت الذي يسكنان فيه، فادعى كل واحد منهما أنه له ولا بينة لأحدهما.. فإنهما يحلفان ويقسم بينهما، سواء كان المتاع يصلح للرجال دون النساء كالسلاح، أو كان يصلح للنساء دون الرجال كالحلي، أو كان يصلح لهما

(13/215)


كالدنانير والدراهم، وسواء كان في أيديهما من طريق المشاهدة، أو في أيديهما من طريق الحكم، وسواء اختلفا في حال الزوجية أو بعد البينونة.
وكذلك: إذا ماتا واختلف ورثتهما، أو مات أحدهما واختلف الثاني وورثة الميت.. وبه قال ابن مسعود وعثمان البتي.
وقال الثوري وابن أبي ليلى وأحمد: (إن كان الشيء المتنازع فيه مما يصلح للرجال دون النساء.. فالقول قول الزوج فيه، وإن كان مما يصلح للنساء دون الرجال.. فالقول قول المرأة فيه، وإن كان مما يصلح لهما.. كان بينهما) .
وقال مالك: (ما كان يصلح لأحدهما دون الآخر.. فالقول قوله فيه، وما كان يصلح لهما.. فالقول فيه قول الزوج، وسواء كان في أيديهما من طريق الحكم أو من طريق المشاهدة) .
وقال أبو حنيفة ومحمد: (ما كان في أيديهما من طريق المشاهدة.. فهو بينهما، وما كان في أيديهما من طريق الحكم، فما كان يصلح للرجال دون النساء.. فالقول قول الزوج فيه، وما كان يصلح للنساء دون الرجال.. فالقول قولها فيه، وما كان يصلح لهما.. فالقول فيه قول الزوج. وإن اختلف أحدهما وورثة الآخر.. كان القول قول الباقي منهما) . وقال أبو يوسف: القول قول المرأة فيما جرت العادة أنه قدر جهازها.
دليلنا: أنهما تساويا في ثبوت اليد على الشيء المتنازع فيه، فكان القول قولهما فيه، كما لو تنازعا في الدار التي يسكنانها.

[فرع تنازع المكري والمكتري في متاع]
وإن تنازع المكري والمكتري في المتاع الذي في الدار المكراة، فادعى كل واحد منهما ملك جميعه ولا بينة.. فالقول قول المكتري مع يمينه؛ لأن يده ثابتة عليه.
وكذلك: إذا تنازعا في السلالم التي ليست بمسمرة في الدار.. فالقول قول المكتري مع يمينه؛ لأنها كالقماش.

(13/216)


وإن تنازعا في السلالم المسمرة والرفوف المسمرة.. فالقول قول المكري مع يمينه؛ لأنها متصلة بالدار، فهي كأجزاء الدار.
وإن تنازعا في الرفرف التي ليست بمسمرة.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (تحالفا وجعلتها بينهما) .
والفرق بينهما وبين القماش: أن العادة لم تجر أن الإنسان إذا انتقل من دار يترك فيها قماشه، فكان الظاهر أنها للمكتري، وجرت العادة أن من انتقل من الدار أن يترك فيها الرفوف، ويجوز أن يكون المكتري عملها، فإذا احتملت الأمرين.. تحالفا وجعلت بينهما.

[مسألة أقر لآخر بحق وبذله له]
إذا كان لرجل على رجل حق، فإن كان مقرا له به باذلا له.. لم يجز له أن يأخذ من ماله شيئا بغير إذنه؛ لأنه مخير في أعيان ماله الذي يقضيه منها، فإن أخذ شيئا من ماله.. لزمه رده عليه. فأما إذا كان جاحدا له في الظاهر والباطن، أو جاحدا له في الظاهر مقرا له في الباطن، فإن لم يكن لصاحب الحق بينة بحقه.. فله أن يأخذ من ماله قدر حقه بغير إذنه. وإن كان له بينة.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز له أن يأخذ شيئا من ماله بغير إذنه؛ لأنه يقدر على الوصول إلى حقه بإقامة البينة عند الحاكم.
والثاني: يجوز له؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن لهند أن تأخذ من مال أبي سفيان بقدر حقها» ، وقد كان يمكنها التوصل إلى استيفاء حقها منه بالحكم، ولأن على صاحب الحق مشقة في المحاكمة. وإن كان مقرا له في الظاهر والباطن، إلا أنه غير باذل لدفعه وممتنع بقوة.. فله أن يأخذ من ماله قدر حقه. وقال أحمد: (لا يأخذ من ماله شيئا بغير إذنه) . وعن مالك روايتان:

(13/217)


إحداهما: مثل قول أحمد.
والثانية -وهي المشهورة عنه-: (إن لم يكن على من عليه الحق دين لغيره.. جاز له أن يأخذ من ماله بغير إذنه بقدر حقه. وإن كان عليه دين لغيره.. أخذ بحصته من ماله) .
دليلنا: ما روي: «أن هندا امرأة أبي سفيان أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وإنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي بالمعروف إلا ما أخذته منه سرا؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف»
إذا ثبت هذا: فإن له أن يأخذ من ماله، سواء كان من جنس حقه، أو من غير جنس حقه.
وقال أبو حنيفة: (له أن يأخذ من ماله من جنس حقه، وليس له أن يأخذ من غير جنس حقه) . وحكى الشيخ أبو حامد ذلك عن بعض أصحابنا.
والمذهب الأول؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن لهند أن تأخذ من مال أبي سفيان» ، ولم يفرق بين أن يكون من جنس حقها، أو من غير جنس حقها.
إذا ثبت هذا: فإن كان الذي أخذه من ماله من جنس حقه.. لم يأخذ إلا قدر حقه، فإذا أخذه.. تملكه. وإن كان الذي أخذه من غير جنس حقه.. فلا يجوز له أن يتملكه؛ لأنه من غير جنس حقه، ولكن يباع ويستوفي حقه من ثمنه. وفي كيفية بيعه وجهان:
أحدهما: يبيعه بنفسه؛ لأنه لو أداه إلى الحاكم وأخبره بذلك.. لم يجز للحاكم بيعه حتى يقيم عنده البينة على حقه وعلى امتناعه، وربما تعذر عليه ذلك، فجوز له بيعه بنفسه؛ لأنه موضع ضرورة.
والثاني: لا يجوز له بيعه بنفسه؛ لأنه لا ولاية له على مالكه.
والحيلة في بيع الحاكم ذلك عليه إذا لم يمكنه إقامة البينة على حقه: أن يواطئ رجلا فيقر له بما أخذه من مال الآخر، ويدعي عليه بدين عند الحاكم، ويقر له به ويمتنع من أدائه، فيأمر الحاكم من يبيع ذلك عليه.

(13/218)


والأول أصح؛ لأنه لا يؤمن ممن يواطئه على ذلك أن لا يقر له بالدين ويدعي العين التي أقر له بها، فيتعذر عليه الوصول إلى حقه.
فإذا باع ذلك بنفسه أو باعه الحاكم، فإن كان ثمنه قدر دينه.. فلا كلام. وإن كان أقل من دينه.. فله أن يتوصل إلى أخذ شيء من ماله ليستوفي حقه. وإن كان أكثر من حقه، فإن كان مما ينقسم.. باع منه بقدر حقه ورد الباقي عليه على حسب إمكانه؛ بأن يقول: وهبت لك، أو غير ذلك. وإن كان مما لا ينقسم.. باع جميعه وأخذ منه قدر حقه ورد عليه بقية الثمن على حسب إمكانه.
فإن تلف ما أخذه قبل أن يبيعه من غير تفريط.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا ضمان عليه، بل له أخذ حقه ممن عليه الحق؛ لأنه استحق أخذه وصرف ثمنه في حقه، فلم يضمنه، كالرهن.
والثاني: عليه ضمانه؛ لأنه أخذ مال غيره بغير إذنه، فلزمه ضمانه وإن جاز له أخذه، كما لو اضطر إلى طعام غيره، فأخذه وتلف في يده قبل أن يأكله.. فإن عليه ضمانه، كذلك هذا مثله.
وبالله التوفيق

(13/219)


[باب اليمين في الدعاوى]
إذا ادعى رجل على رجل حقا، فأنكره ولا بينة للمدعي.. نظرت: فإن كانت الدعوى في غير القتل.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، فإن حلف.. سقطت عنه الدعوى، وإن نكل عن اليمين وحلف المدعي.. قضي له بما ادعاه، وقد مضى بيان ذلك.
وإن كانت الدعوى في القتل ولا بينة للمدعي، فإن كان هناك لوث - وهو: معنى يغلب معه على الظن صدق المدعي؛ مثل أن يوجد الرجل مقتولا في محلة أعدائه أو ما أشبه ذلك، على ما يأتي بيانه- فإن الأيمان تثبت في جنبة ولي المقتول أولا، فيحلف خمسين يمينا على المدعى عليه، سواء كان في المقتول جراحة أو لا جراحة به. وبه قال ربيعة ومالك والليث وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (إذا وجد الرجل مقتولا في محلة قوم، فإن لم تكن به جراحة.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، فإذا حلف.. فلا شيء عليه. وإن كان به جراحة.. فإنه يؤخذ من صالحي المحلة أو القرية خمسون رجلا، فيحلف كل واحد منهم يمينا ما قتلناه ولا نعلم من قتله. فإن لم يكن في المحلة خمسون من

(13/220)


الصالحين، فإن كانوا خمسة وعشرين.. حلف كل واحد منهم يمينين. فإن لم يكن فيها إلا رجل واحد.. حلف خمسين يمينا. فإذا حلفوا.. وجبت دية المقتول على باقي المحلة، سواء كان قد زال ملكه عنها أو لم يزل إن كان موجودا. فإن لم يكن موجودا.. كانت الدية على عاقلة سكان المحلة من حلف منهم ومن لم يحلف) .
وقال أبو يوسف: تكون الدية على السكان بكل حال.
قالوا: فإن وجد القتيل في مسجد المحلة.. حلف منهم خمسون رجلا، وكانت الدية في بيت المال. وإن وجد المقتول في دار نفسه.. فديته على عاقلته. وإن وجد بين قريتين.. نظر إلى أيتهما أقرب، ويكون حكمه كما لو وجد فيها.
دليلنا: ما روى الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بإسناده عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه إلا في القسامة» .
وروى سهل بن أبي حثمة: أن عبد الله ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهما، فتفرقا في حوائجهما، فأخبر محيصة: أن عبد الله قتل وطرح في قفير أو عين، فأتى يهود، فقال: أنتم قتلتموه؟ فقالوا: والله ما قتلناه، فقدم محيصة على قومه فأخبرهم، فأقبل هو وأخوه حويصة وعبد الرحمن أخو المقتول فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه وكان أصغرهم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كبِّر كبِّر» ، وروي: «الكبر الكبر» ، وروي: «الكبير الكبير» يريد السن، فتكلم حويصة ثم محيصة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لليهودي: «إما أن تدوا صاحبكم أو تأذنوا بحرب من الله» ، فكتب إليهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، فكتبوا إليه: إنا والله ما قتلناه. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن: «تحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟» فقالوا: لا، قال: «أفتحلف لكم يهود؟» قالوا: ليسوا بمسلمين! فوداه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من

(13/221)


عنده، فبعث إليهم بمائة ناقة. قال سهل: لقد ركضتني منها ناقة حمراء.
وفي رواية: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يقسم منكم خمسون على رجل منهم، فيدفع برمته» فقالوا: أمر لم نشهده، فكيف نحلف عليه؟ قال: «تبريكم اليهود بخمسين يمينا» قالوا:. كيف نحلفهم وهم مشركون؟ فوداه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عنده.
قلنا: من الخبر ثلاثة أدلة:
أحدها: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدأ بأيمان الأنصار وهم مدعون.
والثاني: أنه علق الاستحقاق بأيمان المدعين، وأبو حنيفة يقول: (الاستحقاق بأيمان المدعى عليهم) .
والثالث: أن الأنصار لما امتنعوا من اليمين.. قال: «تبريكم اليهود بخمسين يمينا» فأخبر: أنهم يبرؤون بأيمانهم. وعند أبي حنيفة: (لا يبرؤون) .
وأما قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إما أن تدوا صاحبكم، أو تأذنوا بحرب من الله» فكان يظن أنهم مقرون بالقتل. ولأن اللوث معنى يغلب معه على الظن صدق المدعي، فقويت جنبته بذلك فكانت اليمين في جنبته كالمدعى عليه في غير اللوث، وكالمتداعيين في ملك العين وهي في يد أحدهما.
إذا ثبت هذا: وحلف ولي المقتول، فإن كانت الدعوى بقتل الخطأ أو عمد الخطأ.. وجبت له الدية على عاقلة المدعى عليهم، كما لو قامت له البينة بالقتل بذلك.
وإن كانت الدعوى بقتل يقتضي القود.. ففيه قولان:

(13/222)


[أحدهما] : قال في القديم: (يجب القود على المدعى عليه) -وبه قال ابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، ومالك، والليث، وأحمد - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع برمته» ، و (الرمة) : الحبل الذي يقاد به للقتل، وقيل: هو عبارة عن التسليم للقتل. ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحلفون وتستحقون دم صاحبكم» ، ومعلوم أن صاحبهم المقتول قد أريق دمه ولا يمكنهم استحقاقه، فثبت أنه أراد دم صاحبكم القاتل.
وروي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل رجلا في القسامة من بني مالك» . ولأنها حجة يثبت بها قتل العمد، فثبت بها القود، كالشاهدين.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجب القود، وإنما تجب الدية) - وبه قال ابن عباس ومعاوية والحسن البصري، وهو الأصح - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إما أن تدوا صاحبكم، وإما أن تأذنوا بحرب من الله» ، فلو كان موجب القتل في القسامة مع اللوث القود.. لقال: إما أن تسلموا صاحبكم ليقاد منه. ولأنها حجة لا يثبت بها النكاح، فلا يثبت بها القود كالشاهد واليمين، وفيه احتراز من الشاهدين. وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يقسم «خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع برمته» فمحمول على: أنه يسلم برمته لتؤخذ منه الدية. وقول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحلفون وتستحقون دم صاحبكم» أي: بدل دم صاحبكم وهو الدية؛ لأن صاحبكم في الحقيقة هو الأنصاري دون اليهودي. وأما رواية عمرو بن شعيب.. فمحمولة على: أن المدعي حلف بعد نكول المدعى عليه في غير اللوث. وسميت القسامة لتكرار الأيمان فيها.
فإذا قلنا بقوله الجديد، وأقسم الولي.. وجبت له الدية مغلظة في مال الجاني.
وإن قلنا بقوله القديم: فإن كان المدعى عليه واحدا.. أقيد منه. وإن كانت الدعوة على جماعة يصح اشتراكهم في القتل؛ كالعشرة وما أشبههم، وأقسم عليهم الولي.. فإنهم يقتلون به. وبه قال مالك.

(13/223)


وحكى الشيخ أبو حامد وابن الصباغ: أن أبا العباس ابن سريج قال: إذا حلف الولي على جميعهم.. اختار منهم واحدا وقتله، وأخذ من الباقين بحصتهم من الدية.
وحكى الشيخ أبو إسحاق عن أبي إسحاق مثله، ولم يذكر: أنه يرجع عليهم بشيء؛ ووجهه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للأنصار: «يقسم منكم خمسون على رجل منهم، فيدفع برمته» . فلم يجعل لهم استحقاق القود بالقسامة إلا على واحد، فدل على: أن القود لا يستحق بالقسامة على أكثر من واحد.
والمذهب الأول؛ لأنها حجة يقتل بها الواحد، فقتل بها الجماعة، كالشاهدين.
وأما الخبر: فإنما أمرهم بتعيين المدعى عليه للقتل؛ لأن اليهود الذين ادعوا عليهم القتل كانوا جماعة لا يتأتى منهم الاشتراك في القتل. وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليقسم خمسون منكم» فيجوز أنه كان له خمسون وليا.

[مسألة كون المدعي في اللوث واحدا أو أكثر وعدد الأيمان التي يحلفونها]
إذا كان المدعي للقتل في اللوث واحدا.. فإنه يحلف خمسين يمينا، سواء كانت دعواه على الواحد، أو على جماعة يصح اشتراكهم في القتل.
فإن كان المدعي للقتل مع اللوث أكثر من واحد.. ففيه قولان:
أحدهما: يجب أن يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا؛ لأن هذه الأيمان مع اللوث أقيمت مقام اليمين الواحدة مع الشاهد في الأموال، وقد ثبت أن الورثة لو ادعوا مالا عن مورثهم وأقاموا شاهدا واحدا.. فإن كل واحد منهم يحلف معه يمينا، فكذلك هذا مثله. ولأن اللوث حجة ضعيفة فغلظت الأيمان معها بالعدد؛ لكي لا يقدم على اليمين الواحدة، وهذا المعنى موجود إذا ادعى القتل جماعة.
والثاني: أن الخمسين يمينا تقسم بينهم على حصصهم من الدية، فإن حصل فيها كسر.. جبر الكسر، وهو الأصح؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للأنصار: «تحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم» . فأوجب على جماعتهم خمسين يمينا.

(13/224)


ولأنهم كلهم يثبتون الدية التي كان يثبتها الواحد إذا انفرد، والواحد لا يحلف أكثر من خمسين يمينا، فكذلك الجماعة. وتخالف اليمين مع الشاهد؛ فإنها لا تتبعض، وهذه تتبعض. فإذا قلنا: إن كل واحد منهم يحلف خمسين يمينا.. فلا تفريع. وإذا قلنا: إن كل واحد منهم يحلف على قدر حصته من الدية - وعليه التفريع- فإن كان المدعي ابني المقتول.. حلف كل واحد منهما خمسا وعشرين يمينا. وإن كان أولاده ثلاثة.. حلف كل واحد منهم سبع عشرة يمينا؛ لأن اليمين لا يمكن تبعيضها، فيجبر الكسر منها. وإن كان أولاده أكثر من خمسين رجلا.. حلف كل واحد منهم يمينا.

[فرع خلف المقتول في اللوث ولدا وبنتا أو ولدا وخنثى]
إذا قتل رجل في موضع اللوث وخلف ابنا وبنتا، وقلنا: يحلف كل واحد منهم على قدر حصته من الدية.. حلف الابن أربعا وثلاثين يمينا وأخذ ثلثي الدية، وحلفت البنت سبع عشرة يمينا وأخذت ثلث الدية.
وإن خلف المقتول ابنا واحدا وولدا خنثى مشكلا.. حلف الابن ثلثي الأيمان؛ وهو: أربع وثلاثون يمينا؛ لاحتمال أن الخنثى امرأة، وأخذ من الدية نصفها؛ لاحتمال أن يكون الخنثى رجلا، وحلف الخنثى نصف الأيمان؛ وهي خمس وعشرون يمينا وأخذ ثلث الدية؛ لاحتمال أن يكون امرأة، ويوقف سدس الدية؛ فإن بان الخنثى ذكرا.. دفع ذلك السدس إليه وقد حلف عليه. وإن بان أنه امرأة.. دفع ذلك السدس إلى الابن وقد حلف عليه. وإنما حلف كل واحد منهما أكثر مما يجب عليه من الأيمان، وأعطي أقل مما يجب له من الدية؛ لأنه لا يجوز الحكم بالدية بأقل من خمسين يمينا ممن تجب عليه.
وإن خلف المقتول بنتا وولدا خنثى مشكلا.. حلفت البنت ثلث الأيمان وأعطيناها ثلث الدية؛ لأنه الواجب عليها ولها في الحالين. ويحلف الخنثى ثلثي الأيمان ويعطى ثلث الدية. والذي يقتضي المذهب: أن العصبة يحلفون ثلث الأيمان ولا يدفع إليهم شيء.

(13/225)


فإن خلف المقتول ولدين ذكرين وولدا خنثى مشكلا.. حلف كل ذكر خمسي الأيمان وأعطي ثلث الدية، وحلف الخنثى المشكل ثلث الأيمان وأعطي خمس الدية، ويوقف من الدية سهمان من خمسة عشر سهما؛ فإن بان الخنثى ذكرا.. دفعا إليه، وإن بان الخنثى امرأة.. دفع إلى كل ابن سهم. وإن خلف المقتول ابنتين وولدا خنثى مشكلا.. حلفت كل ابنة ربع الأيمان وأعطيت ثلث ثلثي الدية، وحلف الخنثى نصف الأيمان وأعطي ثلث ثلثي الدية، وتحلف العصبة ثلث الأيمان؛ لجواز أن لهم حقا في الدية؛ فإن بان الخنثى ذكرا.. أخذ من الموقوف تمام النصف، وأخذت كل بنت تمام الربع. وإن بان امرأة.. أخذ العصبة الموقوف.

[فرع خلف المقتول بنتا وجدا وخنثى]
وإن خلف المقتول بنتا وجدا وخنثى مشكلا لأب وأم أو لأب.. حلف كل واحد منهم على أكثر نصيبه، وأعطي أقلهما من الدية، ويوقف الباقي، فتحلف البنت نصف الأيمان وتأخذ نصف الدية وذلك أكثر ما يجب لها وعليها، ويحلف الجد ثلث الأيمان ويأخذ ربع الدية، ويحلف الخنثى المشكل ربع الأيمان ويأخذ سدس الدية، ويوقف نصف سدس الدية؛ فإن بان أن الخنثى ذكر.. دفع إليه ذلك، وإن بان امرأة.. دفع ذلك إلى الجد.

[فرع خلف جدا وأختا وخنثى]
فإن خلف المقتول جدا، وأختا لأب وأم، وخنثى مشكلا لأب.. فإن الجد يحلف نصف الأيمان ويأخذ خمسي الدية؛ لجواز أن يكون الخنثى ذكرا، وتحلف الأخت نصف الأيمان وتأخذ نصف الدية؛ لأنها تستحق ذلك بكل حال، ويحلف الخنثى عشر الأيمان؛ لجواز أن يكون رجلا فيستحق عشر الدية، ويوقف العشر ولا يدفع

(13/226)


إليه؛ فإن بان الخنثى رجلا.. أخذه، وإن بان امرأة.. أخذه الجد.
وإن خلف المقتول جدا، وأختا لأب وأم، وخنثى مشكلا لأب وأم.. فإن الجد يحلف نصف الأيمان ويأخذ خمسي الدية، وتحلف الأخت ربع الأيمان وتأخذ خمس الدية، ويحلف الخنثى خمس الأيمان ويأخذ ربع الدية، وتصح من عشرين: للجد ثمانية، وللأخت أربعة، وللخنثى خمسة، وتوقف ثلاثة أسهم؛ سهمان مترددان بين الجد والخنثى، وسهم بين الأخت والخنثى؛ فإن بان الخنثى رجلا.. أخذ الثلاثة، وإن بان امرأة.. أخذ الجد من الثلاثة سهمين، وأخذت الأخت سهما.
قال القاضي أبو الطيب: فإن طلب الجد والخنثى أن يصطلحا على سهمين من الثلاثة الموقوفة قبل أن يتبين حال الخنثى.. جاز، وسواء اصطلحا عليه على التساوي أو على التفاضل بشرط أن يكون السهم الباقي للأخت؛ لأنه لا يجوز للحاكم أن يطلق لهما التصرف في بعض الموقوف والمشارك لم يتيقن حقه، فلا يجوز أن يصطلحا على أكثر من سهمين؛ لجواز أن يكون السهم للأخت. وهذا كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا أسلم وتحته ثماني نسوة، فأسلمن معه، ومات قبل أن يختار أربعا منهن.. فإنه يوقف لهن ميراث زوجة؛ فإن جاء منهن أربع يطلبن الميراث.. لم يدفع إليهن شيء، وإن جاء خمس منهن يطلبن الميراث.. دفع إليهن ربع الميراث بشرط أن يكون الباقي للثلاث الباقيات) .
قال ابن الصباغ: وفي هذا نظر؛ لأن ما اصطلحا عليه لا حق للأخت فيه، فلا يلزمهما إسقاط حق الخنثى من السهم الذي يحتمل أن يكون للخنثى ويحتمل أن يكون للأخت، وهكذا ذكره في (ميراث الزوجات) .

[فرع خلف جدا وأخا شقيقا وآخر لأب أو جدا وخنثيين]
وإن خلف المقتول جدا، وأخا لأب وأم، وأخا لأب.. فإن الأخ للأب والأم مع

(13/227)


الجد يحجبان الأخ للأب، ولا يستحق الأخ للأب شيئا من الدية بحال، فيحلف الجد ثلثي الأيمان ويأخذ ثلث الدية، ويحلف الأخ للأب والأم ثلثي الأيمان ويأخذ ثلثي الدية.
وإن خلف المقتول جدا وخنثيين مشكلين، أحدهما لأب وأم والثاني لأب.. فإن الجد يحتمل أن يستحق نصف الدية؛ بأن يكون الخنثيان امرأتين، ويحتمل أن يستحق ثلث الدية؛ وهو إذا بانا رجلين، ويحتمل أن يستحق خمسي الدية؛ وهو إذا بان أحدهما ذكرا والآخر امرأة، فيحلف الجد أكثر ما يجب عليه؛ وهو نصف الأيمان، ويدفع إليه من الدية أقل ما يستحقه؛ وهو: ثلث الدية.
وأما الخنثيان: فيحتمل أن يكونا رجلين، فيستحق الأخ للأب والأم ثلثي الدية ولا شيء للأخ من الأب.
ويحتمل أن يكونا امرأتين، فيكون للأخت للأب والأم نصف الدية ولا شيء للأخت للأب. ويحتمل أن يكون الذي للأب والأم رجلا، والذي للأب امرأة، فيكون للأخ للأب والأم ثلاثة أخماس الدية، ولا شيء للأخت للأب. ويحتمل أن يكون الذي للأب والأم امرأة، والذي للأب رجلا، فيكون للأخت للأب والأم نصف الدية، وللأخ للأب عشر الدية.
فإذا تقرر هذا: فإن الخنثى للأب والأم يحلف ثلثي الأيمان؛ لأن ذلك أكثر ما يجب عليه من الأيمان، ويدفع إليه نصف الدية؛ لأن ذلك أقل ما يستحقه من الدية، ويحلف الخنثى للأب عشر الأيمان؛ لجواز أن يكون له عشر الدية، ولا يدفع إليه شيء؛ لجواز أن لا يستحقها، وتصح المسألة في ثلاثين: فيدفع إلى الجد عشرة، وإلى الذي للأب والأم خمسة عشر، وتوقف خمسة أسهم؛ سهمان مترددان بين الجد والخنثى للأب والأم، وثلاثة مترددة بينهم جميعا؛ فإن بان الخنثيان رجلين.. دفعت الخمسة إلى الأخ للأب والأم، وإنا بانا امرأتين.. دفعت الخمسة إلى الجد، وإن بان الذي للأب والأم رجلا والذي للأب امرأة.. دفع إلى الأخ من الأب

(13/228)


والأم ثلاثة أسهم - وهي: تمام ثلاثة أخماس- وإلى الجد سهمان، تمام الخمسين.
وإن بان الذي للأب والأم امرأة والذي للأب رجلا.. دفع إلى الجد سهمان وإلى الأخ للأب ثلاثة أسهم؛ فإن أراد الجد والخنثى للأب والأم أن يصطلحا على سهمين من الخمسة الأسهم قبل أن يتبين الحال.. جاز؛ لأنهما لا يخرجان منهما، وإن أرادوا جميعا أن يصطلحوا على الخمسة الأسهم قبل أن يتبين الحال.. جاز؛ لما ذكرناه.

[فرع قتل رجل وهناك لوث وخلف أولادا فمات أحدهم]
وله ابنان وحكم البناء على الأيمان] :
إذا قتل رجل وهناك لوث، وخلف ثلاثة أولاد، فمات واحد منهم وخلف ابنين:
فإن مات قبل أن يقسم.. فإن ابنيه يقسمان؛ فإن قلنا: إن كل واحد من الورثة يحلف خمسين يمينا.. فإن الابنين وابني الابن يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا، وإن قلنا: يقسم كل واحد منهم على قدر حصته من الدية.. فإن كل واحد من ابني المقتول يحلف ثلث الأيمان، ويجبر الكسر، ويحلف كل واحد من ابني الابن سدس الأيمان، ويجبر الكسر. وإن مات الابن بعدما أقسم بعض الأيمان.. لم يجز لابنيه أن يبنيا على أيمانه، بل يستأنفان الأيمان؛ لأن الأيمان في القسامة كاليمين الواحدة، فلا يجوز البناء عليها من اثنين.
وإن أقسم رجل بعض الأيمان، ثم جن أو أغمي عليه.. لم يصح إقسامه في حال الجنون والإغماء؛ لأنه غير مكلف، فإذا أفاق.. بنى على أيمانه؛ لأن فعل الواحد يبنى بعضه على بعض.

[مسألة وعظ الحاكم للحالف قبل الحلف أو النكول]
وإذا أراد الولي أن يقسم.. فإنه يستحب للحاكم أن يعظه ويقول له: اتق الله، ولا تقدم على الأيمان على أمر، وربما كان الأمر بخلاف ما ادعيت. ويقرأ عليه قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} [آل عمران: 77] الآية [آل عمران: 77] . ويعرفه ما في اليمين الغموس من الإثم، كما يستحب له أن يعظ الزوجين عند اللعان.

(13/229)


فإن لم ينزجر عن الأيمان، وطلب أن يحلف.. فإن الحاكم يحلفه على ما يأتي بيانه.
وإن نكل الولي عن الأيمان.. فإن الأيمان تصير في جنبة المدعى عليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأنصار حين امتنعوا عن اليمين: «فتبرئكم اليهود بخمسين يمينا» . فإن كان المدعى عليه واحدا.. حلف خمسين يمينا، وإن كانوا أكثر من واحد.. ففيه قولان:
أحدهما: تقسم عليهم الخمسون يمينا على عدد رؤوسهم، فإن كان فيها كسر.. جبر الكسر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تبرئكم اليهود بخمسين يمينا» .
والثاني: يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا، وهو الأصح؛ لأن كل واحد منهم ينفي عن نفسه ما ينفي عن نفسه إذا كانت الدعوى عليه وحده، والخبر محمول على: أن كل واحد منهم ممن ادعيتم عليه أنه قتل يحلف لكم خمسين يمينا.
بخلاف الأولياء؛ حيث قلنا: الصحيح: أن الأيمان الخمسين تقسم عليهم على قدر مواريثهم؛ لأن كل واحد منهم يثبت لنفسه - إذا كان معه وارث- غير ما يثبته لها إذا انفرد بالإرث.
فإن نكل المدعى عليه عن اليمين في هذه الحالة.. فهل ترد الأيمان على المدعي ثانيا؟ وإن قلنا: إن أيمان المدعي ابتداء توجب المال دون القود.. فإن الأيمان هاهنا ترد على الولي قولا واحدا إذا كان القتل موجبا للقود، ويجب له القود؛ لأن أيمان الولي هاهنا كبينة يقيمها على القتل في أحد القولين، أو كإقرار المدعى عليه في الثاني، والقود يثبت بالجميع. وإن قلنا: إن أيمان الولي ابتداء توجب القود وكانت الدعوى بقتل لا يوجب القود.. فهل ترد عليه الأيمان؟ فيه قولان:
أحدهما: لا ترد عليه؛ لأن الأيمان قد كانت في جنبته وقد أسقطها بالنكول عنها، فلم ترد عليه، كالمدعى عليه إذا نكل عن اليمين فردت على المدعي فنكل.. فإنها لا ترد على المدعى عليه، فلم ترد.

(13/230)


والثاني: ترد عليه، وهو الأصح؛ لأن سبب هذه الأيمان غير سبب تلك الأيمان؛ لأن سبب تلك الأيمان قوة جنبة الولي باللوث، وسبب هذه قوة جنبته بنكول المدعى عليه.

[مسألة ادعاء القتل في مكان لا لوث فيه]
وإن ادعى القتل في موضع لا لوث فيه ولا بينة مع المدعي.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو أن الناس أعطوا بدعواهم.. لادعى ناس دماء ناس وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» .
ولأن الأيمان إنما تثبت في جنبة المدعي أولا مع اللوث؛ لقوة جنبته باللوث، فإذا لم يكن هناك لوث.. كانت جنبة المدعى عليه أقوى؛ لأن الأصل براءة ذمته، فكانت الأيمان في جنبته ابتداء، وهل تغلظ عليه الأيمان بالعدد؟ فيه قولان:
أحدهما: لا تغلظ عليه، بل يحلف يمينا واحدة -وهو اختيار المزني - لأنها يمين توجهت في جنبة المدعى عليه ابتداء فكانت يمينا واحدة، كاليمين في سائر الدعاوى.
ولأن التغليظ بالعدد بالأيمان إنما وجب في حق المدعي لأجل اللوث، فإذا لم يكن هناك لوث.. سقط التغليظ.
والثاني: يغلظ عليه بالعدد، وهو الأصح؛ لأن الأيمان إنما تغلظ بالعدد في القتل لحرمة النفس، وهذا موجود في الأيمان إذا توجهت في جنبة المدعى عليه ابتداء. وقول الأول: إنها إنما غلظت على المدعي لأجل اللوث غير صحيح؛ لأن اللوث معنى تقوى به جنبة المدعي، وما قويت به جنبته.. يجب أن يقع به التخفيف عليه لا التغليظ.
فإن قلنا: لا تغلظ الأيمان بالعدد على المدعى عليه: فإن كان واحدا.. حلف يمينا واحدة. وإن كانوا جماعة.. حلف كل واحد منهم يمينا. وإن نكل المدعى عليه عن اليمين.. ردت على الولي؛ فإن كان واحدا.. حلف يمينا واحدة، وإن كانوا جماعة.. حلف كل واحد منهم يمينا.

(13/231)


وإن قلنا: تغلظ الأيمان بالعدد على المدعى عليه: فإن كان واحدا.. حلف خمسين يمينا. وإن كانوا جماعة.. فهل يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا، أو تقسم الخمسون يمينا بينهم على عدد رؤوسهم ويجبر الكسر؟ فيه قولان مضى ذكرهما، والصحيح هاهنا: أن يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا.
وإن نكل المدعى عليه عن الأيمان.. ردت على الولي، فإن كان واحدا.. حلف خمسين يمينا. وإن كانوا جماعة.. فهل يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا، أو تقسم الخمسون يمينا بينهم على قدر مواريثهم ويجبر الكسر؟ فيه قولان، مضى ذكرهما، الصحيح: يحلف كل واحد منهم على قدر ميراثه من الدية.
فإذا حلف الولي عند نكول المدعى عليه، فإن كانت الدعوى في قتل العمد.. وجب له القصاص قولا واحدا؛ لأن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كالبينة في أحد القولين، وكالإقرار في القول الآخر، والقصاص يثبت بكل واحد منهما.
وإن كانت الدعوى في قتل الخطأ أو عمد الخطأ.. وجبت الدية، وهل تحملها العاقلة؟
قال القفال: إن قلنا: إن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كالبينة.. كانت على عاقلة المدعى عليه. وإن قلنا: إنها كإقرار المدعى عليه.. كانت في ماله؛ لأن العاقلة لا تحمل ما يثبت بالإقرار.
ومن أصحابنا من قال: تجب في مال المدعى عليه قولا واحدا؛ لأنها إنما تكون كالبينة في حق المتداعيين لا في حق غيرهما.

[مسألة دعوى قتل على اثنين أو على أحدهما لوث]
أو على جماعة لا يصح اشتراكهم] :
وإن كانت الدعوى في القتل على اثنين، أو على أحدهما لوث دون الآخر.. حلف الولي على الذي عليه اللوث خمسين يمينا؛ لأن القسامة لا يحكم بها بأقل من خمسين يمينا. فإن كانت الدعوى في قتل العمد.. وجب له عليه القود في قوله القديم،

(13/232)


ونصف الدية على الجديد، ويحلف الذي لا لوث عليه على ما مضى.
وإن ادعى القتل على جماعة لا يصح اشتراكهم في القتل، كأهل بلد أو أهل قرية كبيرة.. لم تسمع الدعوى. وقال أبو حنيفة: (تسمع) .
دليلنا: أن هذه الدعوى محال فلم تسمع، كما لو ادعى على رجل أنه قتل وليه، والمدعى عليه ولد بعد قتل مورثه.
وإن قال الولي لجماعة: أنا أعلم أن القاتل أحد هؤلاء، ولا أعلم من هو منهم.. لم تسمع هذه الدعوى؛ لأن تعيين المدعى عليه شرط في صحة الدعوى.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : وإن قال لجماعة: أنتم القاتلون أو بعضكم ولا أتحقق القاتل منكم، ولكن يحلف كل واحد منكم.. فهل تسمع هذه الدعوى ويجب تحليفهم؟ فيه وجهان، بناء على من أضل خاتما أو غيره بين اثنين أو جماعة وقال: لا أعرف الآخذ منكم، ولكن يحلف كل واحد منكم.. فهل له ذلك؟ فيه وجهان.

[مسألة ادعى على رجل أو اشترك معه آخران بقتل وليه عمدا]
وإن ادعى رجل على رجل أنه قتل وليه عمدا محضا، وهناك لوث، وأقسم الولي.. فقد ذكرنا: أنه هل يجب على المدعى عليه القود أو الدية؟ على قولين.
وإن ادعى عليه أنه قتله خطأ فأنكر، فأقسم المدعي.. وجبت له الدية مخففة على عاقلة المدعى عليه.
وإن ادعى أنه قتله عمد خطأ وأنكر المدعى عليه، فأقسم الولي.. وجبت له دية مغلظة على عاقلة المدعى عليه. وإن قال الولي: قتله هذا ومعه غيره.. ففيه أربع مسائل:
إحداهن: أن يقول: قتله هذا أو آخران معه عمدا، إلا أن شريكيه غائبان.. فإن الولي يقسم على الحاضر خمسين يمينا؛ لأنه لا يجوز استفتاح الحكم بالقسامة بأقل من خمسين يمينا، فإذا حلف عليه.. استحق عليه القود على قوله القديم، واستحق ثلث الدية مغلظة في مال الجاني على القول الجديد.

(13/233)


فإذا حضر أحد الغائبين فأنكر القتل.. أقسم عليه الولي، وكم يجب عليه أن يحلف عليه؟ حكى الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق - فيها وجهين، وحكاهما ابن الصباغ قولين:
أحدهما: يحلف عليه خمسا وعشرين يمينا؛ لأنه لو حضر مع الأول.. لأقسم عليهما خمسين يمينا، فدل على أن لكل واحد منهما نصف الخمسين.
والثاني: لا يجزئه إلا خمسون يمينا، وهو الأصح؛ لأن الأيمان الأولى لم تتناول الثاني، فيجب أن يذكرها؛ لأنه لا يجوز الحكم في القسامة بأقل من خمسين يمينا. ويخالف إذا حضر الثاني مع الأول؛ فإنه قد أقسم عليه خمسين يمينا.
فإذا أقسم على الثاني.. استحق عليه القود في قوله القديم، وثلث الدية مغلظة في ماله في قوله الجديد.
فإذا حضر الثالث وأنكر القتل.. فهل يقسم عليه خمسين يمينا، أو ثلث الخمسين ويجبر الكسر؟ على الوجهين في الثاني. فإذا أقسم عليه.. استحق عليه ما استحق على الثاني.
المسألة الثانية: إذا قال: قتله هذا عمدا وآخران معه خطأ.. فإنه يقسم على الحاضر خمسين يمينا، ولا يستحق عليه القود قولا واحدا؛ لأن شريكيه مخطئان، ويستحق عليه ثلث الدية مغلظة في ماله. فإذا حضر الثاني وأنكر القتل.. أقسم عليه، وهل يقسم عليه خمسين يمينا أو نصفها؟ على الوجهين في التي قبلها، فإذا أقسم عليه.. استحق ثلث الدية مخففة على عاقلته. فإذا حضر الثالث فأنكر القتل.. فهل يقسم عليه خمسين يمينا أو ثلثها؟ على الوجهين، فإذا أقسم عليه.. استحق على عاقلته ثلث الدية المخففة.
المسألة الثالثة: إذا قال: قتله هذا عمدا وآخران معه، لا أدري كيف قتلاه.. فإنه يقسم على الحاضر خمسين يمينا ويستحق ثلث الدية المغلظة في ماله على قوله الجديد، وأما على القول القديم: فيوقف الأمر إلى أن يقدم الغائبان، فإذا حضرا

(13/234)


واعترفا بقتل العمد المحض.. وجب عليهما القود قولا واحدا ووجب على الأول القود على قوله القديم.
وإن اعترفا بقتل الخطأ.. وجب في مال كل واحد منهما ثلث دية مخففة وعلى الأول ثلث دية مغلظة قولا واحدا. وإن اعترفا بعمد الخطأ.. وجب في مال كل واحد منهما ثلث دية مغلظة. وإن اعترف أحدهما بقتل عمد الخطأ، والآخر بقتل الخطأ.. اعتبر حكم كل واحد منهما في نفسه في تغليظ الدية وتخفيفها.
وإن أنكرا القتل.. فهل يجوز للولي أن يقسم عليهما؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز أن يقسم عليهما؛ لأنه إذا أقسم عليهما.. لم يعلم الحاكم ما يحكم به عليهما.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أنه يجوز للولي أن يقسم عليهما؛ لأن جهل الولي بصفة قتلهما ليس بجهل في القتل، فإذا أقسم عليهما.. حبسا حتى يفسرا صفة القتل؛ لأنه لا يعلم إلا من جهتهما. فإذا أقرا بقتل العمد المحض.. وجب عليهما القود قولا واحدا، وهل يجب القود على الأول؟ فيه قولان. وإن أقرا بقتل الخطأ، أو أقر أحدهما بقتل الخطأ وأقر الآخر بقتل العمد.. لم يجب القود على واحد منهما قولا واحدا، وحكم الدية على ما مضى، وكم يقسم الولي عليهما؟ على الوجهين.
المسألة الرابعة: إذا قال: قتله هذا عمدا ونفر يصح اشتراكهم في القتل، لكني لا أعلم عددهم، فإن كانت الدعوى في قتل الخطأ، أو عمد الخطأ، أو في العمد المحض وقلنا: لا يجب القود بأيمان الولي.. لم يكن للولي أن يقسم على الحاضر؛ لأنه إذا أقسم عليه.. لم يعلم كم القدر الذي يجب بجنايته من الدية. وإن كانت الدعوى بقتل العمد المحض، وقلنا: يجب القود بأيمان الولي.. فهل يجوز للولي أن يقسم على الحاضر؟ فيه وجهان:
أحدهما: له أن يقسم عليه؛ لأن الجماعة يقتلون بالواحد عندنا.
والثاني: ليس له أن يقسم عليه؛ لأنه ربما عفا على الدية عن الحاضر، فلا يعلم ما يستحقه عليه من الدية.

(13/235)


[مسألة غلبة الظن على صدق المدعي تثبت اللوث]
واللوث الذي تثبت به الأيمان في جنبة المدعي هو: أن يوجد هناك سبب يغلب معه على الظن صدق المدعي، وذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ذلك سبعة أسباب:
أحدها: إذا وجد قتيل في محلة قوم أو في قرية أو قبيلة ولا يشاركهم غيرهم في السكنى - وإن كان قد يدخل غيرهم إليهم في تجارة - وبينهم وبين المقتول عداوة ظاهرة، وسواء كان المقتول منهم أو من غيرهم.. فإن ذلك لوث على أهل المحلة أو القرية؛ لأن خيبر كانت دارا محصنة لليهود ولا يسكنها غيرهم، وكان أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدخلونها للتجارة، وكان بينهم وبين الأنصار عداوة ظاهرة، فلما وجد عبد الله بن سهل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيها مقتولا.. جعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لوثا، وجعل للأنصار أن يقسموا عليهم.
وإن اختل أحد هذين الشرطين؛ بأن كان يسكنها غيرهم، أو لا عداوة ظاهرة بين المقتول وبينهم.. لم يكن لوثا.
السبب الثاني: أن يوجد قتيل في دار قوم أو قريتهم أو حصن أو قبيلة ولا يخالطهم غيرهم في السكنى ولا يدخل إليهم غيرهم في تجارة ولا غيرها.. فإن هذا يكون لوثا عليهم، سواء، كان بينهم وبين المقتول عداوة ظاهرة أو لم يكن، وسواء كان القتيل منهم أو من غيرهم.
والفرق بينها وبين الأولى: أنه إذا كان يدخل إليهم غيرهم في تجارة أو غيرها.. جاز أن يكون الذي قتله هو الداخل إليهم، فلهذا قلنا: يشترط أن يكون بينه وبينهم عداوة ظاهرة، وإن كان لا يدخل إليهم غيرهم.. فالظاهر أنه لم يقتله غيرهم.
السبب الثالث: أن يوجد قتيل في الصحراء، وفيه مسألتان:
إحداهما: أن تتفرق عنه جماعة وهو طري، ولم يكن يقربهم أحد ولا مضى - من

(13/236)


حين تفرقهم عنه إلى أن روعي أمرهم- مدة يمكن أن يكون القاتل قد هرب أو اختفى.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وليس هناك أثر ولا عين) أراد بـ: (الأثر) أثر قدم آدمي. وبـ: (العين) السبع؛ لأنه إن كان هناك سبع.. جاز أن يكون هو الذي قتله، وإذا كان هناك أثر آدمي.. جاز أن يكون هو الذي قتله دون الجماعة الذين تفرقوا عنه، فإن لم يوجد شيء من ذلك.. كان لوثا على الجماعة الذين تفرقوا من عنده؛ لأن الظاهر أنهم قتلوه.
الثانية: أن يوجد القتيل طريا في الصحراء وبقربه رجل معه سيف مخضوب بالدم أو غيره من السلاح، وليس هناك غيره.. فإنه يكون لوثا عليه؛ لأن الظاهر أنه قتله.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : وكذلك إذا رأى رجلا يحرك يده كالضارب، ووجد بقربه قتيل.. فإنه يكون لوثا عليه؛ لأن الظاهر أنه قتله.
السبب الرابع: أن يوجد قتيل في أحد صفي القتال، فإن كان الصفان قد التقيا بحيث يقتتلون بالسيوف أو الرماح أو الرمي.. فهو لوث على أهل الصف الثاني؛ لأن الظاهر أنهم قتلوه دون أهل صفه. وإن كانوا متباعدين؛ بحيث لا يمكن قتالهم بالسيوف والرماح والرمي.. فهو لوث على أهل صفه؛ لأن الظاهر أنهم قتلوه.
السبب الخامس: إذا ازدحم جماعة في مسجد أو طواف أو سوق فوجد بينهم قتيل.. فهو لوث عليهم؛ لأن الظاهر أنهم قتلوه.
السبب السادس: أن يوجد رجل قتيلا، فتشهد جماعة نساء أو عبيد أن فلانا قتله، فإن جاؤوا متفرقين واتفقت أقوالهم على صفة قتله، ولم يمض من وقت قتله إلى أن قالوا هذه مدة يمكنهم أن يجتمعوا ويتفرقوا.. فإن ذلك يكون لوثا على المشهود عليه؛ لأن الله تعالى لم يجر العادة أن الجماعة يكذبون في شيء واحد من غير تواطؤ منهم على الكذب. وإن كانت قد مضت مدة من حين قتله يمكن أن يجتمعوا فيها ويتفرقوا.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أكثرهم: لا يكون لوثا على المشهود عليه؛ لأنه يجوز أن يكونوا قد اجتمعوا وتواطؤوا على الكذب.

(13/237)


وقال ابن الصباغ: فيها نظر؛ لأنه متى وجد عدد مجتمع على ذلك.. غلب على الظن أنه قتله، وتجويز تواطئهم على الكذب لا يمنع الظن، كتجويز كذب العدل في الظاهر. وإن شهد بذلك صبيان أو فساق أو كفار كشهادة النساء والعبيد.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: لا يكون لوثا على المشهود عليه؛ لأن أخبارهم غير مقبولة في الشرع.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: يكون لوثا على المشهود عليه، وهو الأصح؛ لأنا إنما جعلنا قول الجماعة من النساء والعبيد لوثا؛ لأن الله تعالى لم يجر العادة أن الجماعة يكذبون في شيء واحد من غير تواطؤ على الكذب، وهذا المعنى موجود في هؤلاء، ولأن لقولهم حكما في الشرع؛ بدليل أن قولهم يقبل في قبول الهدية وفي الإذن في دخول الدار.
السبب السابع: أن يشهد رجل عدل على رجل أنه قتل فلانا.. فإنه يكون لوثا.
هذا مذهبنا، وقال مالك: (جميع هذه الأسباب لا يكون لوثا إلا إذا شهد رجل عدل أنه قتل فلانا.. فإنه يكون لوثا) .
دليلنا: أن قتيل الأنصار وجد في خيبر وهي مسكن اليهود ولا يسكن معهم غيرهم وهم أعداء الأنصار، فجعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لوثا، والمعنى في ذلك: أنه يغلب على الظن مع ذلك أنهم قتلوه، وهذا المعنى موجود في هذه الأسباب، فكانت لوثا، كما لو شهد رجل عدل على رجل أنه قتل رجلا.
إذا ثبت هذا: فشهد رجل عدل على رجل أنه قتل رجلا، وكان القتل موجبا للمال.. حلف المدعي يمينا واحدة وقضي له بالمال؛ لأن ذلك يثبت بالشاهد واليمين. وإن كان القتل موجبا للقود.. فإنه يحلف خمسين يمينا ويجب له القود على القديم، وعلى الجديد لا تثبت له إلا الدية.

(13/238)


[فرع وجد قتيلا ومعه عبده]
إذا وجد الرجل قتيلا في دار ومعه عبده.. فلورثته أن يقسموا عليه؛ لأنه يغلب على الظن صدقهم، ويكون لهم القود على القديم، وعلى الجديد الدية، ويستفاد به فكه من الرهن.

[فرع قول المجروح جرحني أو دمي عند فلان]
فأما إذا قال المجروح: جرحني فلان، أو دمي عند فلان، ثم مات.. فإنه لا يكون لوثا عليه. وقال مالك: (يكون لوثا عليه) .
دليلنا: أن من لم يقبل إقراره على غيره بالمال.. لم يقبل إقراره في الجرح، كما لو برئ من الجراحة.

[فرع ادعى على رجل قتل وليه فأنكر فأقام شاهدين لم يتفقا]
على فعل واحد ولكن اتفقا على القتل] :
وإن ادعى رجل على رجل أنه قتل وليه فأنكر، فأقام عليه شاهدين، فشهد أحدهما أنه قتله بالسيف، وشهد الآخر أنه قتله بالعصا، أو شهد أحدهما أنه قتله غدوة، وشهد الآخر أنه قتله عشية.. لم يثبت القتل بشهادتهما؛ لأن شهادتهما لم تتفق على فعل واحد.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في موضع: (ويكون ذلك لوثا) . وقال في موضع: (لا يكون لوثا) واختلف أصحابنا فيه على ثلاث طرق:
فـ[الطريق الأول] : قال أبو إسحاق: يكون لوثا قولا واحدا؛ لأنهما اتفقا على إثبات القتل، وإنما اختلفا في صفته، فغلب على الظن صدق الولي.
و [الطريق الثاني] : قال أبو الطيب بن سلمة، وأبو حفص ابن الوكيل: لا يكون لوثا قولا واحدا؛ لأن كل واحد من الشاهدين يكذب الآخر، فلا يغلب على الظن صدق الولي.

(13/239)


و [الطريق الثالث] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، ووجههما ما ذكرناه.
وإن شهد أحدهم أنه قتله وشهد الآخر أنه أقر بقتله.. لم يثبت القتل بشهادتهما؛ لأنهما لم يتفقا على فعل واحد؛ لأن أحدهما شهد على القتل والآخر على الإقرار، ويثبت اللوث هاهنا قولا واحدا؛ لأن أحدهما لا يكذب الآخر، فيحلف الولي مع أي الشاهدين شاء منهما.
فإن كان القتل خطأ.. حلف يمينا واحدة وتثبت له الدية، فإن حلف مع من شهد بالقتل.. وجبت الدية على العاقلة، وإن حلف مع من شهد بالقتل على الإقرار.. وجبت الدية في مال الجاني. وإن كان عمدا.. حلف خمسين يمينا، ووجب القصاص في القول القديم، والدية في القول الجديد.

[فرع شهدا على أنه قتل من قبل أحد اثنين وعكسه]
وإن شهد شاهدان أن رجلا قتله أحد هذين الرجلين.. كان ذلك لوثا، وللولي أن يقسم على أيهما غلب على ظنه أنه قتل مورثه؛ لأنه قد ثبت أن أحدهما قتله.. فهو كما لو وجد بينهما مقتول.
وإن شهد شاهدان أن هذا الرجل قتل أحد هذين الرجلين.. لم يثبت اللوث؛ لأن اللوث ما يغلب معه على الظن صدق ما يدعيه المدعي ولا يعلم لمن شهدا من الوليين.
فإن كان وليهما واحدا وديتهما مستوية.. فالذي يقتضي المذهب: أن له أن يقسم على المشهود عليه؛ لأنه يستحق بكل واحد منهما ما يستحقه بالآخر.

[مسألة وجد مقتولا في موضع لوث وله ولدان فاختلفا في تعيين القاتل]
إذا قتل رجل في موضع فيه لوث وله ابنان، فادعى أحدهما على رجل بأنه قتله،

(13/240)


وكذبه أخوه وقال: لم يقتله هذا.. سقط اللوث في حق المكذب وأما المدعي.. ففيه قولان:
أحدهما: يسقط اللوث في حقه؛ لأن اللوث أمر يحكم فيه بغلبة الظن، وتكذيب أحد الابنين لأخيه لا يدل على صدق المدعي من جهة غلبة الظن، فتعارضا وسقطا، وبقي القتل بغير لوث.
فعلى هذا: يحلف المدعى عليه.
والثاني: لا يسقط اللوث - وهو اختيار المزني - لأن اللوث في الأيمان في القسامة كالشاهد واليمين في سائر الدعاوى في الأموال، ثم ثبت أن أحد الأخوين لو ادعى على رجل مالا لأبيه، وأقام على ذلك شاهدا وكذبه الآخر.. لم تسقط اليمين في حق المدعي، وله أن يحلف معه، كذلك هاهنا مثله.
فعلى هذا: يحلف المدعي ويستحق على المدعى عليه نصف الدية.
إذا ثبت هذا: فإن المزني نقل في تكذيب أحدهما للآخر: (أن يكون المكذب عدلا، وأن يقول المكذب: إن المدعى عليه كان في الوقت الذي قتل فيه ببلد لا يمكن أن يصل إليه.. ففيه قولان) ، واختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم من قال: هذا شرط في القولين كما نقله المزني؛ لأن إبطال اللوث إنما يكون بما هو صحيح في الظاهر، فلا يبطل بقول الفاسق.
وقال أكثر أصحابنا: ليس ذلك شرطا، وإنما أراد تصويرها بذلك، وقد تتصور بغير ذلك، وقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (والعدل والفاسق سواء؛ لأنه جحود في حق نفسه) .
وإن قال أحد الابنين: قتله هذا وحده، وقال الابن الثاني: قتله هذا وآخر معه.. فإن هذا تكذيب له في نصف الدية.
فإن قلنا: إن التكذيب لا يؤثر في اللوث.. فإن الذي ادعى أنه قتله وحده يقسم

(13/241)


عليه ويستحق عليه نصف الدية، ويقسم عليه الآخر ويستحق عليه ربع الدية.
وإن قلنا: إن التكذيب يؤثر في اللوث.. فإن كل واحد منهما يقسم عليه ويستحق عليه ربع الدية.
وإن قال أحد الابنين: قتل أبي زيد ورجل آخر لا أعرفه، وقال الابن الثاني: قتل أبي عمرو ورجل معه آخر لم أعرفه.. فإن كل واحد منهما غير مكذب للآخر؛ لجواز أن يكون الذي لا يعرفه هو الذي عينه أخوه فيقسم كل واحد منهما على الذي عينه خمسين يمينا ويستحق عليه ربع الدية.
فإن قال كل واحد منهما بعد ذلك: الذي لم أعرفه هو الذي عينه أخي.. حلف عليه وأخذ منه ربع الدية، وهل يحلف عليه خمسين يمينا أو نصف الخمسين؟ على وجهين، مضى ذكرهما.
وإن قال أحدهما للآخر: الذي لا أعرفه هو خالد، وقال الآخر: بل الذي لا أعرفه هو بكر.. فقد صار كل واحد منهما مكذبا لأخيه.
فإن قلنا: إن التكذيب لا يؤثر.. حلف كل واحد منهما على من عينه واستحق عليه ربع الدية. وإن قلنا: إن التكذيب يؤثر في اللوث.. رد كل واحد منهما ما أخذ من الذي عينه أولا.

[فرع ادعى قتل رجل لوليه وهناك لوث وشهد اثنان أنه لم يقتله]
أو أقر رجل بقتله] :
وإن قتل رجل، فادعى وليه أن فلانا قتله، وهناك لوث، فحلف عليه الولي ثم شهد شاهدان عدلان أن هذا الذي أقسم عليه.. لم يقتله وكان وقت القتل غائبا في البلد كذا بحيث لا يمكن وصوله إليه بذلك الوقت.. وجب على الولي رد الدية إن كان أخذها؛ لأن الدية إنما استحقت باللوث والأيمان، وما قامت فيه البينة.. يبطل اللوث، فسقطت الأيمان.

(13/242)


وأما إذا شهدا أنه لم يقتله وأطلقا.. لم يبطل اللوث، لأن الشهادة على النفي لا تصح. وإن قالا: ما قتله هذا، وإنما قتله فلان.. بطل اللوث ووجب رد الدية؛ لأن هذه الشهادة تضمنت الإثبات، ولا يحكم للولي على الذي شهدا عليه ثانيا؛ لأنه لا يدعي عليه شيئا. وإن قال رجل.. لم يقتله هذا، وأنا الذي قتلته، فكذبه الولي.. لم يجب على الولي رد الدية، ولا يبطل اللوث؛ لأنه لا يبطل ما حكم له بقول واحد. وإن صدقه الولي.. وجب عليه رد الدية إلى الأول، وهل للولي مطالبة المقر؟ فيه قولان: أحدهما: ليس له مطالبته؛ لأن دعواه على الأول أنه انفرد بالقتل إبراء لغيره من الناس. والثاني: له مطالبته لأن دعواه على الأول ظن وإقرار الثاني على نفسه يقين، فجاز له الرجوع من الظن إلى اليقين.

[فرع قتل في زحمة أو نحوها فادعى وليه على رجل فأنكر]
أنه كان هناك وقت قتله] :
إذا قتل رجل في قرية أو في زحمة أو في صف قتال أو ما أشبه ذلك، فادعى وليه بقتله على رجل، فقال المدعى عليه: لم أكن في القرية أو في الزحمة أو في الصف وقت قتله.. لم يكن للولي أن يقسم عليه حتى يقيم البينة على المدعى عليه أنه كان هنالك عند قتله، فإذا أقام البينة أو أقر المدعى عليه أنه كان هنالك ولكنه قال: لم أقتله.. أقسم عليه الولي. وإن لم يقم عليه البينة ولا أقر.. فالقول قول المدعى عليه أنه لم يكن هنالك، فإن حلف فلا كلام، وإن نكل.. حلف المدعي أنه كان هنالك، ثم أقسم عليه.

[فرع لورثة القتيل أن يقسموا ولو كانوا غائبين عن موضع القتل]
ولورثة القتيل أن يقسموا وإن كانوا غيبا عن موضع القتل، لأنه يمكن أن يعلموا ذلك باعتراف القاتل أو ببينة؛ لأن عبد الله بن سهل قتل بخيبر وعبد الرحمن بن سهل بالمدينة ولم يشاهده، فقال لهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحلفون وتستحقون دم صاحبكم» .

(13/243)


فدل على أنه يجوز. ولأن اليمين تكون تارة على يقين وتارة على غلبة الظن.
فاليقين: أن يقرض إنسانا شيئا فينكره، فيحلف أنه أقرضه.
وغلبة الظن: أن يجد شيئا بخطه على إنسان ولا يعلم ذلك متى وقع، أو يجده بخط أبيه ويعلم أن أباه لا يكتب إلا بما كان له وأنه يمحو ما استوفاه.
وكذلك الرجل إذا وكل وكيلا يشتري له عبدا، فأتاه الوكيل بعبد فقال: قد اشتريت هذا، وجاء آخر وادعى ملكه وأنه غصبه منه.. فللموكل أن يقول: هو لي ويحلف عليه؛ لأنه يغلب على ظنه صدق الوكيل.

[فرع ادعى قتل عمد وقيل له صفه فوصفه خطأ أو بعمد خطأ]
وإن ادعى على رجل قتل رجل عمدا وهناك لوث، فقيل له: صف العمد، فوصفه بالخطأ المحض أو بعمد الخطأ.. فقد نقل المزني: (أنه لا يقسم) . ونقل الربيع: (أنه يقسم) . واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: ليس له أن يقسم؛ لأنه إذا ادعى قتل العمد.. فقد أقر ببراءة العصبة، وإذا وصفه بالخطأ أو بعمد الخطأ.. فقد أقر ببراءة المدعى عليه.
والثاني: أن له أن يقسم على ما فسره؛ لأن دعواه قد تحددت بذلك، وليس إذا اعتقد في الخطأ أو عمد الخطأ أنه عمد تبطل دعواه؛ لأن ذلك قد يشتبه عليه.
ومنهم من قال: يقسم قولا واحدا؛ لما ذكرناه. وحيث قال: (لا يقسم) أراد: على ما ادعاه.
وإن ادعى على رجل أنه قتل وليه وهناك لوث، فلم يسأله الحاكم عن صفة القتل ثم حلفه قبل ذلك.. لم تصح هذه الأيمان؛ لأن الأيمان قبل وقتها لا يعتد بها، كما لو حلف المدعى عليه قبل أن يسأله المدعي تحليفه.

(13/244)


[مسألة القسامة للمسلم على الكافر وللذمي على المسلم]
مسألة: [تثبت القسامة للمسلم على الكافر وللذمي على المسلم] :
إذا ادعى مسلم على كافر أنه قتل وليه المسلم وأنكر الكافر في موضع فيه لوث.. فللمسلم أن يقسم عليه، والدليل على ذلك: قصة الأنصاري.
وإن ادعى الذمي على المسلم أنه قتل وليه وأنكر في موضع فيه لوث.. كان له أن يقسم عليه؛ لأن القتل يثبت بالبينة، وباللوث والقسامة، ثم ثبت أنه لو أقام عليه البينة.. لثبتت دعواه، فوجب أن تثبت له عليه القسامة.

[فرع قتل عبد وهناك لوث]
وإن قتل عبد وهناك لوث.. فقد نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أن للسيد أن يقسم) . واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان، بناء على القولين في العاقلة: هل تحمل قيمته؟ فإن قلنا: تحملها.. أقسم السيد. وإن قلنا: لا تحملها.. لم يقسم، بل القول قول المدعى عليه.
ومنهم من قال: له أن يقسم عليه قولا واحدا على ما نص عليه؛ لأن القسامة إنما تثبت مع اللوث لحرمة النفس، وهذا المعنى موجود في قتل العبد.
فإن قلنا بهذا: فقتل للمكاتب عبد وهناك لوث.. فللمكاتب أن يقسم؛ لأن المكاتب في عبده كالحر في عبده، فإن لم يقسم حتى عجز.. فللسيد أن يقسم.
وإن أذن لعبده في التجارة، واشترى عبدا وقتل وهناك لوث، وقلنا: للسيد أن يقسم في عبده.. فإن الذي يقسم هو السيد دون المأذون له؛ لأن المالك له في الحقيقة هو السيد.

[فرع أوصى لأم ولده بعبد فقتل وهناك لوث]
وإن أوصى الرجل لأم ولده بعبد، فقتل العبد وهناك لوث.. فللسيد أن يقسم

(13/245)


عليه، فإذا أقسم.. كانت قيمته موصى بها. وإن مات السيد قبل أن يقسم.. فللورثة أن يقسموا؛ لأنهم يقومون مقامه في إثبات حقه، فإن حلفوا.. كانت قيمته لأم الولد إن خرجت من الثلث، وإن لم يقسموا.. فهل لأم الولد أن تقسم؟ فيه قولان، بناء على القولين في الرجل إذا مات وله دين له به شاهد وعليه دين، ولم يحلف الورثة مع الشاهد.. فهل للغرماء أن يحلفوا؟ على القولين. فإن قلنا: لها أن تقسم فأقسمت.. استحقت قيمة العبد، وإن لم تقسم.. كان لها مطالبة المدعى عليه باليمين. وإن قلنا: ليس لها أن تقسم.. قال القاضي أبو الطيب: فليس لها مطالبة المدعى عليه باليمين.
وإن دفع السيد إليها عبدا ليخدمها ولم يملكها إياه، فقتل العبد وهناك لوث.. فليس لها أن تقسم، وإنما الذي يقسم عليه هو السيد؛ لأنه هو المالك في الحقيقة.
وإن ملكها إياه، فإن قلنا: إنها لا تملك.. فهو كما لو لم يملكها. وإن قلنا: إنها تملكه.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: أنها تقسم؛ لأنها تملكه، فهو كعبد المكاتب.
والثاني: أنها لا تقسم - ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره - لأن ملكها عليه غير مستقر؛ ولهذا: يجوز للسيد أن ينتزعه متى شاء، ولا يجوز لها التصرف فيه بغير إذنه، بخلاف عبد المكاتب. فإذا أقسم كانت القيمة لها.

[مسألة انكشف زحام عن مجروح فارتد ومات أو رجع إلى الإسلام ومات]
وإن انكشف الزحام عن مسلم وهو مجروح، فارتد ومات من جراحته.. لم تثبت فيه القسامة؛ لأنه إنما يقسم وارثه، والمرتد لا وارث له، وإنما ينتقل ماله إلى بيت مال المسلمين وهم لا يتعينون. فإن رجع إلى الإسلام ومات من الجراحة.. فلورثته أن يقسموا؛ لأنهم يرثون ماله، ثم ينظر فيه: فإن أقام في الردة زمانا لا تسري في مثله الجناية.. فهل يجب في القود في الجناية إذا قامت بها البينة أو الإقرار؟ فيه قولان. وأما الدية.. فتجب قولا واحدا.

(13/246)


فإذا قلنا هناك: لا يجب القود.. فهاهنا أولى. وإن قلنا هناك: يجب القود.. فهاهنا قولان. وكل موضع قلنا: لا يجب فيه القود.. فإن الدية تثبت.
وإن أقام في الردة زمانا تسري فيه الجناية.. فإن القود لا يجب قولا واحدا، وهل تجب الدية أو نصفها؟ فيه قولان، مضى ذكرهما في (الجنايات) .
فإن قلنا: تجب فيه جميع الدية.. كان ذلك لورثته.

[مسألة كون المقتول مسلما أو عبدا وله ولي ولم يقسم حتى ارتد]
إذا قتل مسلم وله ولي، فلم يقسم الولي حتى ارتد.. فالأولى أن لا يعرض عليه الحاكم القسامة؛ لأنه لا يتورع مع ردته عن الأيمان الفاجرة، فإن حلفه في حال ردته.. صحت القسامة. وقال المزني: لا تصح أيمانه؛ لأنه كافر فلم تصح يمينه. وهذا خطأ؛ لأن الكافر تصح يمينه، فإذا أقسم.. وجب القود على المدعى عليه على القول القديم، والدية على القول الجديد، ويكون ذلك موقوفا، فإن رجع إلى الإسلام.. استحقه، وإن مات أو قتل على الردة.. كان ذلك للمسلمين واستوفاه لهم الإمام.
وحكي عن أبي حفص بن الوكيل وأبي علي بن خيران أنهما قالا: إنما تجب الدية بأيمانه على القول الذي يقول: لا يزول ملكه بالردة، أو قلنا: إنه موقوف فرجع إلى الإسلام. فأما على القول الذي يقول: إن ملكه يزول بالردة.. فإنه لا يحلف ولا تجب الدية بأيمانه. وهذا خطأ؛ لأن اكتسابه للمال يصح في حال ردته على الأقوال كلها، وهذا من جملة الاكتساب. وإن كان مرتدا عند قتل وليه.. فإنه لا يقسم.
وكذلك: إذا أسلم بعد موت المقتول.. فإنه لا يقسم؛ لأنه ليس بوارث له.
فإن كان المقتول عبدا، فارتد سيده.. فإن الأولى أن لا يعرض الحاكم عليه الأيمان؛ لما مضى. فإن استحلفه في حال ردته.. ثبتت القيمة وكانت موقوفة، سواء ارتد بعد موت العبد أو قبله؛ لأنه يستحق القيمة بالملك لا بالإرث.

(13/247)


[فرع زال زحام عن عبد مجروح فأعتق ثم مات]
وإن زال الزحام عن عبد مجروح فأعتق، ثم مات العبد من الجراحة.. وجبت فيه دية حر، وللسيد أقل الأمرين: من أرش الجراحة أو الدية. فإن كانت الدية أقل.. أقسم السيد واستحقها، وإن كان الأرش أقل.. أقسم السيد والورثة، وهل يقسم كل واحد خمسين يمينا، أو يقسم كل واحد على قدر حصته من الدية؟ فيه قولان قد مضى ذكرهما.
وقال أبو إسحاق: لا يقسم السيد، لأنه يقسم على إثبات أرش الطرف.
والمنصوص هو الأول؛ لأن الطرف قد يسري إلى النفس.

[مسألة ادعى على المحجور عليه قتل عمد أو خطأ أو عمد خطأ]
وإن ادعى على المحجور عليه للسفه قتل عمد، فإن أقام عليه البينة.. حكم عليه بموجبه، وإن أقر المدعى عليه.. قبل إقراره؛ لأن القتل يتعلق ببدنه، فقبل إقراره فيه.
وإن أنكر، فإن كان مع المدعي بينة.. حكم عليه بموجب القتل، وإن كان معه لوث أو شاهد.. أقسم عليه الولي خمسين يمينا، واستحق عليه القود في قوله القديم، والدية في قوله الجديد. فإن لم يكن هناك مع المدعي لوث ولا شاهد.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، فإن حلف.. برئ، وإن نكل.. ردت اليمين على المدعي، وهل تغلظ عليه الأيمان؟ فيه قولان. فإن حلف.. استحق عليه القود، وله العفو عنه على الدية.
وإن ادعى عليه قتل الخطأ أو عمد الخطأ، فأقر له بذلك.. فإن الشيخ أبا حامد وأصحابنا العراقيين قالوا: لا يقبل إقراره؛ لأنه حجر عليه لحفظ ماله، فلو قلنا: يقبل إقراره.. لبطلت فائدة الحجر. وقال الخراسانيون: هل يقبل إقراره؟ فيه قولان.
فإن قلنا: لا يقبل إقراره.. لم يلزمه حكمه، وإن فك عنه الحجر في ظاهر الحكم، وأما فيما بينه وبين الله تعالى، فإن أقر بجنايته أو إتلاف مال.. لزمه، وإن أقر بدين معاملة.. لم يلزمه.

(13/248)


وإن كان مع المدعي لوث.. حلف خمسين يمينا واستحق الدية على العاقلة، فإن كان معه شاهد عدل.. حلف معه يمينا واستحق الدية على العاقلة؛ لأن المال يثبت بالشاهد واليمين.
فإن لم يكن معه لوث ولا شاهد.. فهل تسمع دعواه؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبو حامد: فيه قولان، بناء على أن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه، هل تحل محل البينة أو محل الإقرار؟
فإن قلنا: تحل محل البينة.. سمعت دعواه؛ لأن فيه فائدة؛ وهو: أن المدعى عليه إذا نكل.. ردت اليمين على المدعي، فإذا حلف.. كان كما لو أقام البينة.
وإن قلنا: تحل محل إقرار المدعى عليه.. لم تسمع الدعوى عليه؛ لأن إقراره غير مقبول.
وقال ابن الصباغ: تسمع الدعوى عليه قولا واحدا؛ فإن حلف المدعى عليه.. برئ من الدعوى، وإن نكل.. لم ترد اليمين على المدعي قولا واحدا؛ لأن ذلك بمنزلة إقراره، وإقراره لا يقبل.

[مسألة دعوى في جناية دون نفس]
وإن كانت الدعوى في جناية دون النفس.. فإن اليمين لا تكون في جنبة المدعي ابتداء، سواء كان هناك لوث أو لم يكن؛ لأن الأيمان إنما تكون في جنبة المدعي ابتداء مع اللوث في القتل لحرمة النفس، وهذا لا يوجد فيما دون النفس. فإن لم يكن مع المدعي بينة.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو أن الناس أعطوا بدعواهم.. لادعى ناس من الناس دماء ناس وأموالهم، لكن اليمين على المدعى عليه» .
وهل تغلظ اليمين عليه بالعدد؟ على قولين بناء على القولين في الدعوى عليه في القتل إذا لم يكن هناك لوث.

(13/249)


فإن قلنا هناك: لا تغلظ عليه بالعدد.. فهاهنا أولى، وإن قلنا: تغلظ هناك عليه بالعدد.. فهاهنا قولان:
أحدهما: لا تغلظ عليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لكن اليمين على المدعى عليه» . و (اليمين) : اسم للواحدة. ولأن التغليظ لحرمة النفس، وهذا لا يوجد فيما دون النفس.
والثاني: تغلظ عليه بالعدد؛ لأنه تغليظ لا يتعلق بالنفس، فتعلق بما دون النفس، كتغليظ الدية.
فإن قلنا: لا تغلظ بالعدد، فإن كان المدعى عليه واحدا.. حلف يمينا واحدة، وإن كانوا جماعة.. حلف كل واحد منهم يمينا واحدة.
فإن رد المدعى عليه اليمين على المدعي، فإن كان واحدا.. حلف يمينا واحدة، وإن كانوا جماعة.. حلف كل واحد منهم يمينا.
وإن قلنا: تغلظ بالعدد، فإن كان أرش الجناية دية كاملة أو أكثر.. حلف المدعى عليه خمسين يمينا. وإن كان الأرش أقل من دية النفس.. ففيه قولان:
أحدهما: يحلف خمسين يمينا؛ لأن التغليظ لحرمة الدم، وهذا المعنى موجود فيما قل أرشه أو كثر.
والثاني: تقسم الخمسون على الدية، فيحلف من الخمسين بقدر ما يدعى عليه من دية النفس. وإن كان في الأيمان كسر.. دخله الجبر؛ لأن ديته دون دية النفس، فلا يجب عليه أن يحلف عليه ما يحلف على النفس.
فعلى هذا: إن كان المدعى عليه واحدا.. حلف القدر المغلظ عليه، إما خمسين يمينا في أحد القولين، أو بقسط الأرش من الخمسين في الآخر.
وإن كان المدعى عليه جماعة.. فهل يحلف كل واحد منهم ما يحلفه الواحد إذا كان مدعى عليه، أو تقسم الأيمان التي كان يحلفها الواحد على عدد رؤوسهم ويجبر الكسر؟ فيه قولان مضى ذكرهما.

(13/250)


فتحصل من هذا: أنه إذا ادعى قطع يد على جماعة.. فكم يحلف كل واحد منهم؟ فيه خمسة أقوال:
أحدها: أن كل واحد منهم يحلف خمسين يمينا.
والثاني: أن كل واحد منهم يحلف خمسا وعشرين يمينا.
والثالث: أن تقسم الخمسون يمينا عليهم على عدد رؤوسهم ويجبر الكسر.
والرابع: تقسم الخمس والعشرون يمينا عليهم على عدد رؤوسهم ويجبر الكسر.
والخامس: أن كل واحد منهم يحلف يمينا واحدة.
فإن كان المدعى عليه واحدا، فنكل ورد اليمين، فإن كان المدعي واحدا.. حلف ما يحلفه المدعى عليه. وإن كانوا جماعة.. فهل يحلف كل واحد منهم ما يحلفه المدعى عليه، أو تقسم الأيمان التي يحلفها المدعى عليه على المدعيين على قدر مواريثهم ويجبر الكسر؟ فيه قولان، مضى ذكرهما.
قال ابن الصباغ: وهذا في دعوى جناية العمد المحض، فأما الدعوى في الخطأ المحض أو في عمد الخطأ.. فإن اليمين فيه واحدة على المدعى عليه وعلى المدعي عند النكول قولا واحدا؛ لأن ذلك دعوى في المال.
وأما الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق -: فلم يذكرا الفرق بين العمد والخطأ وعمد الخطأ.

[مسألة تغليظ الحاكم اليمين على الولي وصيغة اليمين]
وإذا أراد الولي أن يحلف في القسامة.. فإنه يستحب للحاكم أن يغلظ عليه باللفظ.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فيقول: والله، أو بالله، أو تالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية لقد قتل

(13/251)


فلان بن فلان بن فلان الفلاني - ويشير إليه إن كان حاضرا - فلان بن فلان الفلاني عمدا أو خطأ أو عمد خطأ - على حسب ما ادعاه - منفردا بقتله ما شاركه فيه غيره، إن كان ادعى عليه أنه انفرد بقتله) .
وإن ادعى القتل على اثنين.. قال: لقد قتل فلان وفلان -ويرفع في نسبهما- فلان بن فلان - ويرفع في نسبه- منفردين بقتله ما شاركهما فيه غيرهما، فتعد هذه يمينا، ثم يحلف كذلك حتى يكمل الخمسين يمينا.
ويكون اسم الله مخفوضا، فإن رفع الحالف اسم الله أو نصبه.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أحببت للحاكم أن يعيد عليه) فإن لم يفعل.. أجزأه، سواء تعمده أو لم يتعمده؛ لأن ذلك لحن لا يحيل المعنى ولا يحتمل غير ذلك. فإن اقتصر الحاكم على قوله: والله.. أجزأه؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقتصر في تحليف ركانة على قول: والله» .
وكذلك: إذا حلفه بصفة من صفات الذات؛ كقوله: وعزة الله، وعظمة الله، وعلم الله، وما أشبه ذلك.. أجزأه؛ لأنها يمين بالله؛ فهي كقوله: والله.
وأما قوله: لقد قتل فلان بن فلان، فلان بن فلان منفردا بقتله - إذا ادعى أنه انفرد بقتله- فهو شرط في القسامة؛ لأن الجماعة إذا اشتركوا في قتل رجل.. فكل واحد منهم قاتل إلا أن كل واحد منهم لا يجب عليه من الدية إلا بقسطه، فإذا لم يقل: منفردا بقتله.. يتأول أنه قتله فتؤخذ منه الدية كاملة ولا يجب عليه إلا بقسطه، وإذا قال: منفردا بقتله.. نفى ذلك.
وأما قوله: ما شاركه فيه غيره.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: إن ذلك تأكيد لا شرط، وقوله: (منفردا بقتله) يكفي.

(13/252)


ومنهم من قال: إن ذلك شرط في القسامة؛ لأنه قد ينفرد بقتله فعلا إلا أن غيره أكرهه على قتله، فيكون المكره له مشاركا له في قتله حكما، ويجب عليه نصف الدية بلا خلاف على المذهب.
وقد يتأول الحالف بقوله: (منفردا بقتله) ، أي: فعلا، فلا يحنث. فإذا قال: ما شركه فيه غيره.. انتفى الاشتراك فعلا وحكما.
فإن قيل: فالاعتبار عندكم بنية الحاكم لا بنية الحالف، والحنث يقع على ما نواه الحاكم لا على ما نواه الحالف.. قيل: قد يكون هذا الحالف جاهلا لا يعلم ذلك، وربما ظن أن الاعتبار بما نواه الحالف فيقدم على اليمين الكاذبة ويعتقد أنه لا يحنث إلا على ما نواه، فإذا حلفه الحاكم مثل ما ذكرناه.. لم يقدم على اليمين الكاذبة.

[فرع ما يقوله أو ينفيه المدعى عليه إذا حلف أنه ما قتل]
وإن حلف المدعى عليه أنه ما قتل.. فإنه يقول: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلمه من العلانية.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وينفي ستة أشياء، فيقول: ما قتلت فلان بن فلان الفلاني، ولا أعنت على قتله، ولا ناله من فعلي، ولا من سبب فعلي شيء جرحه، ولا وصل إلى شيء من بدنه، ولا أحدثت شيئا مات منه) .
فأما قوله: (ما قتلته) فإنه ينفي أنه ما باشر قتله وحده. وأما قوله: (ولا أعنت على قتله) فإنه ينفي أنه ما جرحه هو وغيره جراحات فيموت منها، وإذا لم يقل ذلك.. فربما اعتقد بقوله: (ما قتلته) ؛ أني: ما انفردت بقتله.
وأما قوله: (ولا ناله من فعله) يعني: أنه لم يصبه سهم ولا حجر.
وأما قوله: (ولا ناله من سبب فعله شيء جرحه) ؛ لأنه قد يرمي حجرا بحجر

(13/253)


فتصيب الحجر فتقع الحجر المصابة على الإنسان فتقتله، فيكون قد أصابه بسبب فعله. وأما قوله: (ولا وصل إلي شيء من بدنه) يعني: أنه لم يسقه سما، فمات منه. وأما قوله: (ولا أحدثت شيئا مات منه) يعني: أنه لم يحفر بئرا في طريق الناس أو ينصب له سكينا، فيموت منه بذلك.
فإن قيل: فعندكم لا تصح الدعوى في القتل إلا مفسرة أنها عمد أو خطأ أو عمد خطأ، فتكون يمين المدعى عليه على نفي ما ادعي عليه من ذلك.. فلم يذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أنه يحلف على نفي جميع الأسباب، فيكون نافيا لقتل العمد والخطأ وعمد الخطأ؟ فاختلف أصحابنا في الجواب:
فمنهم من قال: إنما صور الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هذا في الدعوى إذا كانت لصغير أو مجنون أو سفيه.. فإن الحاكم يستظهر له في اليمين على المدعى عليه كذلك، فأما إذا كانت الدعوى لمن لا ولاية للحاكم عليه.. فإنه لا يحلفه إلا على نفي دعواه عليه. وقال أبو إسحاق: ما ذكره الشافعي هاهنا يدل على قول آخر له: (أن الدعوى تصح في القتل مطلقة ومقيدة) . ووجهه: أن الدعوى في ذلك تكون بالظن دون العلم والمشاهدة.
فعلى هذا: إن كانت الدعوى مقيدة.. لم يحلف المدعى عليه إلا على نفي ما ادعاه المدعي. وإن كانت الدعوى مطلقة.. فإن الحاكم يحلفه على نفي جميع أنواع القتل على ما مضى. قال أصحابنا: وهذا خلاف المذهب.

[فرع استحباب تغليظ اليمين على غير المسلم]
وإن كان الحالف يهوديا.. فإنه يستحب أن يغلظ عليه في يمينه باللفظ، فيقول: والله الذي أنزل التوراة على موسى وأنجاه من الغرق؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حلف يهوديا فقال له: "قل: والله الذي أنزل التوراة على موسى: ما له عليك حق» .

(13/254)


ولأنهم يعتقدون تعظيم ذلك، فغلظ عليهم به.
وإن كان نصرانيا.. أحلفه بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى؛ لأنهم يعتقدون تعظيم ذلك، فغلظ عليهم به. وإن كان مجوسيا.. أحلفه بالله الذي خلقه وصوره ورزقه؛ لأنهم يعتقدون تعظيم ذلك. وإن كان وثنيا.. أحلفه بالله فحسب؛ لأنه لا يعظم لفظا.

[فرع حلف الولي في اللوث وأخذ الدية فقال ظلمته]
] : وإذا حلف الولي مع اللوث وأخذ الدية، ثم قال: الذي أخذته حرام.. سئل عن ذلك، فإن قال: ظلمته في الأيمان ولم يكن المدعى عليه في المحلة وقت قتل مورثي، أو كان فيها ولم يقتل مورثي.. وجب على الولي رد الدية.
وإن قال: أردت أن الذي أعطانيه مغصوب، فإن عين الذي غصب منه.. لزمه رده عليه، ولا يكون له الرجوع بذلك على الذي أخذ منه الدية؛ لأنه لا يقبل قوله عليه، وإن لم يعين الذي غصبه منه.. لم يلزمه رده على أحد.
وإن قال: أردت أني اعتقدت أن الأيمان مع اللوث في جنبة المدعى عليه -كقول أبي حنيفة - قلنا له: اجتهاد الحاكم أولى من اجتهادك.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : وهكذا لو مات رجل وخلف ابنا، فقال الابن لا أرثه؛ لأنه كان معتزليا أو رافضيا، والمعتزلي والرافضي كافران.. فقد قال القفال والشيخ أبو حامد: المعتزلي والرافضي ليسا بكافرين.
ومن أصحابنا من قال بتكفير أهل الأهواء، وعليه أكثر أهل الأصول.

(13/255)


وكذلك: لو قضى قاض حنفي لشافعي بالشفعة بالجوار.. فقال المقضي له: أخذت باطلا.. قلنا له: أنت مخطئ، ويحل لك اعتبارا بحكم الحاكم لا باجتهادك.
فإن ادعى المدعى عليه أن الولي أراد بقوله ذلك: أن المدعى عليه ليس بقاتل، وقال الولي: بل أردت أحد التفسيرين الآخرين.. فالقول قول الولي مع يمينه؛ لأنه أعلم بما أراد.

[مسألة مقدار المال الذي لأجله تغلظ اليمين]
بأربعة أشياء] : ومن توجهت عليه يمين، فإن كانت فيما ليس بمال، ولا المقصود منه المال؛ كالقصاص، والنكاح، والطلاق، وحد القذف وما أشبه ذلك.. غلظت عليه اليمين.
وإن كانت في مال أو ما يقصد منه المال، فإن كان المال عشرين مثقالا أو مائتي درهم.. غلظت عليه اليمين. وإن كان دون ذلك.. لم تغلظ فيه اليمين.
وقال أبو علي بن خيران: تغلظ فيه اليمين بالقليل والكثير من المال؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف على منبري يمينا فاجرة ولو على سواك من أراك.. لقي الله وهو عليه غضبان» . وقال مالك: (يغلظ اليمين فيما تقطع فيه يد السارق) .

(13/256)


ودليلنا: ما روي: (أن عبد الرحمن بن عوف مر بقوم يحلفون بين الركن والمقام، فقال: أعلى دم؟ قالوا: لا، قال: أفعلى عظيم من المال؟ قالوا: لا، قال: لقد خشيت أن يتهاون الناس بهذا المقام) يعني: يستخفون بحرمته. ففرق بين العظيم وغيره، والعظيم هاهنا أراد به الكثير؛ لأنه قرنه بالدم، وذلك يحتمل القليل والكثير، فكان حمله على النصاب الذي تجب فيه الزكاة أولى؛ لأنه القدر الذي يحتمل المواساة. والخبر الذي احتج به ابن خيران.. فالمراد به: ضرب المثل والمبالغة في التحذير؛ كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة.. بنى الله له بيتا في الجنة» ، والمراد به: ضرب المثل والمبالغة في الترغيب.
فإذا كانت اليمين في العتق، فإن كان الذي يحلف هو العبد.. غلظت عليه اليمين، سواء قلت قيمته أو كثرت؛ لأنه يثبت بيمينه العتق. وإن كان الذي يحلف هو السيد، فإن كانت قيمته أقل من النصاب.. لم تغلظ عليه اليمين. وإن كانت قيمته نصابا.. غلظت عليه اليمين؛ لأن المقصود بيمينه إثبات المال.
إذا ثبت ما ذكرناه: فإن التغليظ في الأيمان يقع بأربعة أشياء: بالعدد، واللفظ، والزمان، والمكان.
فأما العدد: فإنما يكون بالقسامة واللعان، وقد مضى بيانهما.

(13/257)


وأما اللفظ: فقد مضى بيانه أيضا.
وأما التغليظ بالمكان والزمان: فهو مشروع عندنا فيما ذكرناه. وبه قال أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن عباس، وعبد الرحمن بن عوف، وأكثر أهل العلم.
وقال أبو حنيفة: (هو غير مشروع في الأيمان) .
دليلنا - على التغليظ بالزمان -: قَوْله تَعَالَى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة: 106] الآية [المائدة: 106] . قال أهل التفسير: أراد به العصر.
وعلى التغليظ بالمكان ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف على منبري هذا يمينا فاجرة ولو على سواك من أراك.. لقي الله وهو عليه غضبان» . وروى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف على منبري هذا يمينا فاجرة.. فليتبوأ مقعده من النار» . فثبت أنه يتعلق به تأكيد اليمين.
والمكان الذي تغلظ فيه اليمين: أن يكون بأشرف موضع في البلد الذي فيه اليمين، والزمان الذي تغلظ فيه اليمين: أن يكون بعد العصر. وهل يستحب التغليظ بالمكان أو يجب؟ فيه قولان، وقد مضى بيان ذلك في (اللعان) .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ورأيت ابن مازن وهو قاض بصنعاء يغلظ اليمين بالمصحف. وروي ذلك عن ابن عباس، وهو حسن) .
قال أصحابنا: ويستحب أن يغلظ عليه بإحضار المصحف، ويضع الحالف عليه يده؛ لأنه يشتمل على أسماء الله وكلامه.

[فرع يمين العاجز والزمن والمرأة]
وإن كانت اليمين على رجل زمن أو مريض لا يقدر على الخروج إلى الموضع

(13/258)


الشريف.. لا يكلف الخروج إليه؛ لأن في ذلك مشقة، وقد سقط عنه بعض الواجبات بالعجز عنه، كالقيام في الصلاة. وإن كانت اليمين على امرأة، فإن كانت برزة - وهي: التي تبرز في حوائجها - فإنه يغلظ عليها اليمين بالمكان والزمان إلا أن تكون حائضا فلا يجوز أن تدخل المسجد، بل تحلف على باب المسجد. وإن كانت غير برزة - وهي: التي لا تخرج في حوائجها - فإن الحاكم يبعث إليها من يحلفها، وهل يغلظ يمينها بالمكان؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: أنها تحضر إلى المكان الشريف فتحلف فيه؛ لأنه تغليظ مشروع في اليمين فشرع في حقها، كالتغليظ بالزمان والألفاظ.
والثاني: أنها لا تحضر إلى المكان الشريف، بل تحلف في بيتها؛ لأن خدرها إذا منع من إحضارها إلى مجلس الحكم.. جرى مجرى المرض، فيسقط به التغليظ بالمكان.

[فرع حلف بالطلاق أو غيره أنه لا يحلف يمينا مغلظة]
وإن حلف رجل يمينا بالطلاق أو غيره: أنه لا يحلف يمينا مغلظة، فتوجهت عليه يمين مغلظة بالزمان أو بالمكان، فامتنع من ذلك، فإن قلنا: إن التغليظ بذلك واجب.. قيل له: إما أن تحلف يمينا مغلظة بذلك وتحنث في يمينك، وإلا.. جعلناك ناكلا. وإن قلنا: إن التغليظ بذلك مستحب.. لم يكلف أن يحلف يمينا مغلظة، ولا يحكم عليه بالنكول بالامتناع من ذلك، وإن امتنع من التغليظ باللفظ.. لم يحكم عليه بالنكول بذلك.
هذا نقل أصحابنا العراقيين، وقال المسعودي [في " الإبانة "] : لو امتنع من التأكيد بالزمان أو المكان.. كان نكولا منه، ولو امتنع من التأكيد باللفظ.. ففيه وجهان.

[مسألة لا تقبل اليمين إلا بعد الاستحلاف من الحاكم]
] : ولا تصح اليمين إلا بعد أن يستحلفه الحاكم؛ لما روي: «أن ركانة بن عبد

(13/259)


يزيد قال: يا رسول الله، إني طلقت امرأتي سهيمة البتة، والله: ما أردت إلا واحدة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " والله ما أردت إلا واحدة " فقال: والله ما أردت إلا واحدة» .
فموضع الدليل: أن ركانة حلف قبل أن يستحلفه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يعتد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيمينه، بل استدعى منه اليمين ثانيا. ولأن اليمين تقع على نية الحاكم حتى لا يمكن الحالف أن يتأول فيها فيخرج منها، فلو قلنا: تصح يمينه قبل أن يستحلفه الحاكم.. لم يؤمن أن يحلف وينوي ما لا يحنث به. قال أصحابنا: وفي خبر ركانة اثنتا عشرة فائدة:
إحداها: أنه يجوز الاقتصار في اليمين على اسم الله.
الثانية: يجوز حذف حرف القسم؛ لأنه روي فيه في بعض الأخبار: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الله ما أردت إلا واحدة؟ " فقال ركانة: الله ما أردت إلا واحدة» .
الثالثة: أن اليمين قبل استحلاف الحاكم لا تصح.
الرابعة: أن الثلاث لا تقع بقوله: البتة.
الخامسة: أنه لو أراد إيقاع ما زاد على واحدة.. لوقع.
السادسة: أن إيقاع الثلاث ليس بمحرم.
السابعة: أن الطلاق يقع بـ: (البتة) طلقة رجعية؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ردها عليه.
الثامنة: أن المرجع إلى نية المطلق.
التاسعة: أن الطلاق يقع بالصفات والمصادر؛ لأن قوله: (البتة) مصدر.
العاشرة: أن اليمين تعرض في الطلاق.
الإحدى عشرة: أن الإشهاد ليس بشرط في الرجعة؛ لأنه لم ينقل أنه كان مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غيره.
الإثنتا عشرة: أن الرجعة لا تفتقر إلى رضا المرأة والولي؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يعتبر رضاهما.

(13/260)


[فرع الحلف والاستثناء أو كون الحالف أخرس]
] : قال في " الأم ": (إذا حلف واستثنى بيمينه؛ مثل أن يقول: والله، إن شاء الله.. أعيدت عليه اليمين؛ لأن الاستثناء يرفع اليمين. وكذلك: إذا وصل بيمينه شرطا أو كلاما لم يفهم.. أعيدت عليه اليمين؛ لجواز أن يكون قد صرف اليمين عما نواه الحاكم. وإن كان من وجبت عليه اليمين أخرس لا تفهم إشارته.. وقفت اليمين إلى أن تفهم إشارته، فإن سأل المدعي أن ترد عليه اليمين.. لم ترد عليه اليمين؛ لأنه لم يتحقق نكوله) .

[مسألة الحلف على البت والقطع على فعل نفسه]
، وماذا لو حلف على فعل غيره؟] : وإذا توجهت اليمين على إنسان وأراد أن يحلف، فإن كان يحلف على فعل نفسه.. فإنه يحلف على البت والقطع، سواء حلف على الإثبات أو على النفي.
وإن كان يحلف على فعل غيره.. نظرت: فإن حلف على الإثبات.. حلف على البت والقطع، وإن حلف على النفي.. حلف على نفي العلم. وبه قال عامة أهل العلم.
وذهب الشعبي والنخعي إلى: أن الأيمان كلها على البت والقطع.
وذهب ابن أبي ليلى إلى: أن الأيمان كلها على نفي العلم.
دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حلف رجلا، فقال: " قل: والله الذي لا إله إلا هو ما له عليك هذا الحق» فجعله على البت؛ لأنه حلفه على فعل نفسه.
وروى الأشعث بن قيس: «أن رجلا من حضرموت ادعى على رجل من كندة أرضا بالمدينة بحضرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال الحضرمي: اغتصبنيها أبوك، فقال الكندي: أرضي وفي يدي أزرعها، فقال الحضرمي: تحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما تعلم أن

(13/261)


أباك اغتصبنيها؟ فتهيأ الكندي لليمين، فلم ينكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سؤال الحضرمي للكندي أن يحلف على نفي علمه» . فدل على: أن حكم اليمين على نفي فعل الغير هكذا. ولأن الإنسان يمكنه الإحاطة بما فعل وبما لم يفعل؛ فلذلك كلف أن يحلف على فعل نفسه على البت والقطع في الإثبات والنفي، ويمكنه التوصل إلى العلم بما فعل غيره فكلف اليمين فيه على الإثبات على البت، ولم يتوصل إلى العلم بما لم يفعل غيره فلم يكلف اليمين فيه على الإثبات.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإن حلف بعض الحكام على القطع واليقين فيما يحتاج أن يحلف فيه على نفي العلم.. جاز ذلك، وينصرف ذلك إلى الاستحلاف على نفي العلم دون القطع واليقين) .

[فرع ادعى أن له على أبيه دينا وقال المدعى عليه قد أبرأتني منه]
فرع: [ادعى أن له على أبيه دينا أو له على رجل دينا وقال المدعى عليه قد أبرأتني منه] : وإن ادعى رجل على رجل أن له على أبيه دينا.. لم تسمع دعواه عليه إلا بعد أن يدعي موت أبيه، وأن في يده تركة له، وأنه يستحق ذلك الحق فيها؛ لأنه إذا لم يكن في يده تركة لأبيه.. لم يلزمه قضاء الدين من مال نفسه. فإن أنكر المدعى عليه موت أبيه.. فالقول قوله مع يمينه، ويحلف على نفي العلم. وقال ابن القاص: يحلف على القطع؛ لأنه يمكنه الإحاطة بذلك. والأول أصح؛ لأنها يمين على نفي فعل الغير.
فإن أنكر أن التركة في يده.. حلف أنه ما وصل إليه ما فيه وفاء بالدين ولا ببعضه. ولا يلزمه أن يحلف: ما خلف أبوه شيئا؛ لأنه قد يخلف شيئا ولم يصل إليه.
فإن ادعى رجل على رجل دينا، فقال المدعى عليه: قد أبرأتني من الدين.. فقد أقر بالدين عليه؛ لأن دعواه البراءة تتضمن ثبوت الدين عليه، فإن أقام بينة على البراءة.. برئ، وإن لم يقم بينة.. فالقول قول من له الدين مع يمينه؛ لأن الأصل عدم البراءة.

(13/262)


قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ويحلف بالله: إن هذا الحق - ويسميه بما يصير به معلوما - لثابت عليه، وإنه ما اقتضاه ولا شيئا منه ولا أبرأه منه ولا من شيء منه، وإنه لثابت عليه إلى أن حلفت هذه اليمين) .
وقال في موضع آخر: (يحلف بالله: إن هذا الحق - ويسميه - لثابت عليه وما اقتضاه ولا شيئا منه، ولا اقتضاه أحد بأمره ولا شيئا منه، ولا اقتضى بغير أمره فوصل إليه) . واختلف أصحابنا في هذا:
فقال بعضهم: إن كان المدعى عليه قد ادعى البراءة بجهة خاصة؛ بأن يقول: قبض هذا الحق مني، أو أبرأني منه، أو أحال به علي.. فإن المدعى عليه يحلف على نفي تلك الجهة فحسب. وإن ادعى البراءة مطلقا.. فيحتاج إلى أن يحلف على نفي جميع هذه الجهات لنفي الاحتمال من جميع الوجوه.
قال الشيخ أبو حامد: وإنما حلف أنه ما اقتضى بغير أمره فوصل إليه؛ لأنه إذا قبضه غيره بغير أمره ووصل إليه.. برئ.
ومن أصحابنا من قال: يكفيه أن يحلف أنه ما أبرأ إليه منه، أو أنه لم يبرأ من ذلك الحق بقول ولا فعل؛ لأنه يدخل تحت ذلك سائر جهات البراءة. وما ذكره الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ فإنما ذكره على سبيل الاستحباب لا على سبيل الشرط.

[مسألة ادعى رجل على آخر أنه غصب منه أو أقرضه شيئا]
] : وإن ادعى رجل على رجل أنه غصب منه شيئا أو أقرضه شيئا، فقال المدعى عليه: لا حق لك علي من ذلك، أو لا تستحق علي ذلك.. صح الجواب.
فأما إذا أراد المدعى عليه أن يحلف.. فإنه يحلف أنه لا يستحق عليه ذلك. ولا يكلف اليمين: أنه لم يغصبه منه أو لم يقترض منه؛ لأنه قد يغصب منه أو يقترض منه، ثم يقضيه إياه أو يبرئه منه ولا بينة له على ذلك، فإذا حلف على أنه لم يغصب منه أو لم يقترض منه.. كان حانثا في يمينه. وإن أقر له بذلك.. لم يقبل قوله، فيلزمه

(13/263)


الحق المدعى به عليه. وإن قال المدعى عليه في الجواب: ما غصبت منك أو ما اقترضت منك، وسأل المدعي إحلافه، فإن قال المدعى عليه: أحلف ما غصبت منك أو ما اقترضت منك.. كان له ذلك. فإن قال: أحلف أنك لا تستحق علي ذلك أو لا حق لك علي.. فهل له ذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن له ذلك؛ لما ذكرناه في التي قبلها.
والثاني: ليس له ذلك، بل يكلف اليمين: أنه ما غصب منه ولا اقترض منه؛ لأنه لما أجاب بذلك.. علم أنه يمكنه أن يحلف عليه، فلزمه أن يحلف عليه.
ولا بد أن يحلف المدعى عليه: أنه لا يستحق عليه ذلك ولا بعضه؛ لأنه إذا حلف أنه لا يستحق عليه ذلك.. فقد يستحق عليه بعضه، فلا يحنث على نفي استحقاق الجميع.

[مسألة ادعاء جماعة على شخص حقا]
إذا ادعى رجلان أو جماعة على رجل حقا، فأنكر المدعى عليه ولا بينة لهم.. فإن الحاكم يحلفه لكل واحد منهم يمينا، فإن حلفه يمينا لهم بغير رضاهم.. لم يعتد بهذه اليمين. وحكي: أن إسماعيل القاضي المالكي حلف رجلا يمينا بحق لرجلين، فخطأه أهل عصره. وإن رضي المدعيان أو الجماعة أن يحلف لهم المدعى عليه يمينا واحدة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأن الحق لهم وقد رضوا.
والثاني: لا يصح، وهو الأصح؛ لأن اليمين حجة في حق كل واحد منهم، فإذا رضي بها الجماعة في حقوقهم.. صارت الحجة ناقصة في حق كل واحد منهم، والحجة الناقصة لا تكمل برضا الخصم، كما لو رضي الخصم أن يحكم عليه بشاهد واحد.. فإنه لا يصح.
والله أعلم

(13/264)