البيان في مذهب الإمام الشافعي

[كتاب الأقضية]
[باب أدب القضاء]

(12/537)


كتاب الأقضية

(13/5)


كتاب الأقضية باب أدب القضاء القضاء واجب. والأصل في ثبوته في الشرع: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.
أما الكتاب: فقوله تعالى {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26] [ص: 26] ، وقَوْله تَعَالَى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] [النساء: 65] وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} [النساء: 58]

(13/7)


[النساء: 58] ، وقَوْله تَعَالَى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 48] [المائدة: 48] .
ولأن الله تعالى ذم قوما امتنعوا من الحكم، ومدح قوما أجابوا إلى الحكم، فقال تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور: 48] [النور: 48] ، وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51] [النور: 51] .
وأما السنة: فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم بين الناس و: «بعث عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى اليمن للقضاء بين الناس» .
وأما الإجماع: فإن الخلفاء الراشدين حكموا بين الناس و: (بعث أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنس بن مالك إلى البحرين ليقضي بين الناس) ، و: (بعث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أبا موسى الأشعري إلى البصرة قاضيا) ، و: (بعث عبد الله بن مسعود إلى الكوفة قاضيا) .

(13/8)


وأما القياس: فلأن الظلم من شيم النفوس، وطبع العالم، ولهذا قال الشاعر:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفة فلعلة لا يظلم
فإذا كان كذلك.. فلا بد من حاكم لينصف المظلوم من الظالم.
إذا تقرر هذا: فقد وردت أخبار تدل على ذم القضاء، وأخبار تدل على مدحه.
فأما التي تدل على ذمه: فما روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سلم قال: «من استقضى.. فكأنما ذبح بغير سكين» قيل لابن عباس: وما الذبح؟ قال: (نار جهنم) . وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يؤتى بالقاضي العادل يوم القيامة فيلقى من

(13/9)


شدة الحساب ما يود أنه لم يكن قضى بين اثنين» . «وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي ذر: " إني أحب لك ما أحب لنفسي: فلا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم» .
وأما الأخبار التي تدل على مدحه: فما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب.. فله أجران، وإن أخطأ.. فله أجر واحد» . وروى ابن مسعود: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها» .
وتأويل ذلك: أن الأخبار التي تدل على ذمه محمولة على من علم من نفسه أنه لا يقوم بالقضاء؛ إما لجهله أو لقلة أمانته. والأخبار التي تدل على مدحه محمولة على من علم من نفسه القيام بالقضاء لعلمه وأمانته.
والدليل على صحة هذا التأويل: ما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «القضاة ثلاثة،

(13/10)


واحد في الجنة واثنان في النار؛ فأما الذي في الجنة: فرجل علم الحق فقضى به، فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فجار في حكمه، فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل، فهو في النار» .
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من طلب القضاء حتى يناله، فإن غلب عدله جوره.. فهو في الجنة، وإن غلب جوره عدله.. فهو في النار» . وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا جلس القاضي.. بعث الله إليه ملكين يسددانه، فإن عدل.. أقاما، وإن جار.. عرجا وتركاه» .

[مسألة أحوال الناس في القضاء وطلب الإمام تولية رجل منهم]
] : الناس في القضاء على ثلاثة أضرب:
منهم من يجب عليه القضاء، ومنهم من لا يجوز له القضاء، ومنهم من يجوز له القضاء ولا يجب عليه.
فأما (من يجب عليه) فهو: أن يكون رجل من أهل الاجتهاد والأمانة، وليس هناك من يصلح للقضاء غيره، فيجب على الإمام أن يوليه القضاء، وإذا ولاه الإمام..

(13/11)


لزمه القبول، فإن امتنع.. أجبره. فإن لم يعرفه الإمام.. لزمه أن يعرف الإمام حاله، وأن يعرض نفسه عليه للقضاء؛ لأن ذلك يجري مجرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو لم يكن من يصلح للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا واحد.. لتعين ذلك عليه.
وأما (من لا يجوز له القضاء) فهو: أن يكون الرجل ليس من أهل الاجتهاد، أو كان من أهل الاجتهاد إلا أنه فاسق.. فهذا لا يجوز له القضاء، وإن ولاه الإمام.. لم تنعقد ولايته، وإن حكم.. لم يصح حكمه، خلافا لأبي حنيفة، ويأتي الدليل عليه في موضعه.
وأما (الذي لا يجب عليه القضاء ويجوز له) فهو: أن يكون هناك رجلان أو جماعة يصلح كل واحد منهم للقضاء.. فإن القضاء لا يجب على واحد منهم بعينه، بل وجوب القضاء عليهم على طريق الكفاية، وإذا قام به أحدهم.. سقط الفرض عن الباقين، وإن امتنعوا كلهم عن القضاء.. أثموا؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقدس الله أمة ليس فيهم من يأخذ للضعيف حقه» .
فإن طلب الإمام أن يولي رجلا منهم.. فهل يتعين عليه القضاء بتولية الإمام له، وهل يجوز للإمام أن يجبر واحدا منهم؟ فيه وجهان:
أحدهما: يتعين عليه، ويجوز للإمام إجباره؛ لأنه دعاه إلى واجب فتعين عليه، ولأنه إذا امتنع هذا.. فربما امتنع الباقون، فيؤدي ذلك إلى تعطيل القضاء.
والثاني: لا يتعين عليه، ولا يجوز له إجباره؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنا لا نجبر على

(13/12)


الحكم أحدا» ، ولأنا لو قلنا يتعين عليه، ويجوز له إجباره.. لصار القضاء والقصاص متعينا عليه.
ومن جاز له الدخول في القضاء ولم يجب عليه.. فهل يستحب له القضاء إذا دعي إليه؟ ينظر فيه:
فإن كان له مال يكفيه وهو مشهور يقصده الناس للفتيا والتدريس.. لم يستحب له ذلك؛ لأنه لا يأمن على نفسه من الخطأ، والأولى له أن يشتغل بالفتيا والتدريس؛ لأن ذلك أسلم. وعلى هذا يحمل امتناع ابن عمر حين دعاه عثمان إلى القضاء. وكذلك روي: (أن أبا ذر طلب للقضاء فهرب، فقيل له: لو وليت وقضيت بالحق؟ فقال: من يقع في البحر إلى كم يسبح؟) .
وإن كان لا مال له يكفيه ويرجو بالقضاء أخذ الرزق عليه من بيت المال.. يستحب له القضاء؛ لأنه لا بد له من مكتسب، واكتسابه بتولي الطاعة أولى من الاكتساب بغيره.
وكذلك: إذا كان معه مال يكفيه إلا أنه خامل الذكر لا يقصده الناس للفتيا والتدريس.. فيستحب له القضاء؛ ليشتهر في الناس وينتفع بعلمه.
ومن استحب له ولاية القضاء إذا دعي إليه.. فهل يستحب له طلبه وبذل العوض منه لذلك؟ اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: يستحب له طلبه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى إخبارا عن يوسف:

(13/13)


{اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] الآية [يوسف: 55] فطلب الاستئمان.
ويجوز له بذل العوض؛ ذلك لأنه يتوصل به إلى مطلوبه.
ومنهم من قال: لا يستحب له ذلك، ولا يجوز له بذل العوض؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعبد الرحمن بن سمرة: " يا عبد الرحمن! لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها عن مسألة.. وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة.. أعنت عليها» .
وروى أنس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من طلب القضاء فاستعان عليه.. وكل إليه، ومن لم يطلب القضاء ولم يستعن عليه.. أنزل الله تعالى إليه ملكا ليسدده» .
ومن قال بالأول.. حمل الخبر على من طلب ذلك محبة للرياسة، فأما إذا طلب ذلك للقربة أو لحصول كفايته.. فلا بأس عليه بذلك.

[فرع أخذ الرزق على القضاء]
] : وأما أخذ الرزق على القضاء.. فينظر فيه:
فإن كان قد تعين عليه القضاء، فإن كان له كفاية.. لم يجز له أخذ الرزق عليه؛ لأنه فرض توجه عليه، فلا يجوز له أخذ الرزق عليه مع الاستغناء عنه. وإن لم يكن له كفاية، أو كان مكتسبا وإذا اشتغل بالقضاء تعطل عليه الكسب.. جاز له أخذ الرزق عليه؛ لأنه إذا اشتغل بالقضاء.. بطل عليه كسبه وذهب معاشه.
وإن لم يتعين عليه القضاء، فإن كانت له كفاية.. فالمستحب له: أن لا يأخذ عليه رزقا؛ لأنه قربة في حقه، فكره له أخذ العوض عليه. وإن أخذ الرزق عليه.. جاز؛

(13/14)


لما روي: (أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما ولي الخلافة.. خرج إلى السوق برزمة ثياب، فقالوا: ما هذا؟ فقال: أنا كاسب أهلي، فقالوا: لا يصلح هذا مع الخلافة، فاجتمعت الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وقدروا له كل يوم درهمين من بيت المال) . وروي: (أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - جعلوا له كل يوم شاتين؛ شاة لغدائه وشاة لعشائه، وألف درهم في كل سنة. فلما ولي عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لا يكفيني ذلك، فأضعفوا له ذلك) . وإذا ثبت ذلك في الإمامة.. كان في القضاء مثله؛ لأنهما في معنى واحد. وروي: أن عمر قال: أنزلت نفسي من هذا المال بمنزلة ولي اليتيم: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] [النساء: 6] .
وروي: (أن عمر رضي الله بعث إلى الكوفة عمار بن ياسر واليا، وعبد الله بن مسعود قاضيا، وعثمان بن حنيف ماسحا، وفرض لهم كل يوم شاة؛ نصفها وأطرافها لعمار، والنصف الآخر بين عبد الله وعثمان، وقال: إن بلدا يخرج منها كل يوم شاة لسريع خرابها) ، و: (لما ولى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شريحا القضاء.. أجرى له كل شهر مائة درهم) ، و: (لما ولاه علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.. أجرى له ذلك) . ولأن مال بيت المال للمصالح، وهذا من المصالح.
ولا يكون ما يأخذه القاضي أجرة، وإنما هو رزق، كالذي يأخذه الإمام والمؤذن. وإن عقد الإجارة على القضاء.. لم يصح؛ لأنه عمل غير معلوم. وإن وجد الإمام من يتطوع للقضاء من غير رزق يأخذه.. لم يول القضاء من يطلب الرزق. ويدفع إلى القاضي مع رزقه شيء للقراطيس التي يكتب بها المحاضر والسجلات من

(13/15)


بيت المال؛ لأن ذلك من المصالح. فإن لم يكن في بيت المال شيء، أو كان وهناك ما هو أهم منه يحتاج إليه لذلك.. قال القاضي لمن ثبت له الحق: إن اخترت أن تأتي بكاغد أكتب لك ذلك.. فافعل.
ويدفع للقاضي مع رزقه لمن يكون على بابه من الوكلاء؛ لأنه يحتاج إلى ذلك كما يحتاج إلى العامل في الصدقات.

[فرع تولية الإمام قاضيا في بلده أو غيره]
] : ويجوز للإمام أن يولي قاضيا في البلد الذي هو فيه؛ لما روي: «أن رجلين اختصما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمرو بن العاص: " اقض بينهما " فقال: أقضي بينهما وأنت حاضر! قال: " اقض بينهما، فإن أصبت.. فلك أجران، وإن أخطأت.. فلك أجر واحد» وفي رواية: «إن أصبت.. فلك عشر حسنات، وإن أخطأت.. فلك حسنة واحدة» .
وروي: (أن رجلين أتيا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال أحدهما: يا رسول الله، إن لي حمارا، ولهذا بقرة، فإن بقرته قتلت حماري، فأرسلهما إلى أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال: لا ضمان على البهائم، فأرسلهما إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال مثل ذلك، فأرسلهما إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال: أكانا مشدودين؟ فقالا: لا، قال: أفكانا مرسلين؟ قالا: لا، قال: فكانت البقرة مشدودة والحمار مرسلا؟ قالا: لا، قال: أكان الحمار مشدودا والبقرة مرسلة؟ قالا: نعم، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: على صاحب البقرة الضمان) ، فدل على جواز القضاء بحضرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وأما الخبر فتأويله: أن أبا بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حملا الأمر على الظاهر

(13/16)


وأنهما كانا مرسلين، لا يد لأحد عليهما، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استفصلهما وأوجب الضمان على صاحب البقرة، ويحتمل أنها كانت تحت يد صاحبها.
وإن كان الإمام ببلد واحتاج أهل بلد آخر إلى قاض.. وجب على الإمام أن يبعث إليهم قاضيا؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث عليا إلى اليمن قاضيا» . ولأنهم يشق عليهم قصد بلد الإمام لخصوماتهم. فإن كان الإمام يعرف أهل الاجتهاد والعدالة.. بعث قاضيا منهم، وإن كان لا يعرفهم.. جمع أهل المذاهب في مجلسه وسألهم أن يتناظروا بين يديه، فإذا علم المجتهد منهم.. بحث عن عدالته، فإذا ثبتت عدالته.. ولاه القضاء وبعثه إليهم.

[مسألة الشروط المطلوبة في القاضي والمفتي]
] : ويشترط في القاضي والمفتي أن يكونا من أهل الاجتهاد، وهو: أن يكون عالما بالكتاب، والسنة، والإجماع، والاختلاف، ولسان العرب والقياس.
فأما الكتاب: فلا يشترط أن يكون عالما بجميع ما فيه من القصص والأخبار،

(13/17)


وإنما يشترط أن يكون عالما بأحكامه، وهو: أن يعرف العام منه، والخاص، والمحكم، والمتشابه، والمجمل، والمفسر، والمطلق، والمقيد، والناسخ، والمنسوخ.
وأما السنة: فلا يشترط معرفة المغازي ولا الآثار التي تتعلق بالأحكام، بل يعلم الأحكام منها التي ذكرناها في الكتاب، ويعرف الآحاد، والمتواتر، والمسند، والمرسل.
وأما الإجماع: فيعرف أقوال العلماء وما أجمعوا فيه وما اختلفوا فيه، ويعرف طرفا من لسان العرب ليمكنه أن يعرف أحكام الكتاب والسنة؛ لأنهما عربيان.

(13/18)


ويعرف القياس على ما بين في أصول الفقه.
قال ابن داود: شرط الشافعي في الحاكم والمفتي شروطا لا توجد إلا في الأنبياء.
ومن أصحابنا من قال: شرط الشافعي شروطا في الحاكم والمفتي تمنع أن يكون أحد بعده حاكما أو مفتيا. وهذا ليس بصحيح؛ لأنه قد يسهل تعلمه الآن؛ لأنه قد دون وجمع. هذا نقل أصحابنا العراقيين.
وقال الخراسانيون: أما القاضي: فعلى ما مضى، وأما المفتي: فإن الرجل إذا عرف مذهب إمام حبر ولم يبلغ مبلغ المجتهدين.. فهل يجوز له أن يفتي على مذهب ذلك الإمام؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز، وهو اختيار القفال.
والثاني: لا يجوز.
وأصل هذا: أن المستفتي، هل هو مقلد للمفتي أو للميت وهو صاحب المذهب؟ فيه وجهان.
فإن قلنا: إنه مقلد لصاحب المذهب.. جاز له أن يفتي. وإن قلنا: إنه مقلد للمفتي.. لم يجز له أن يفتي.
هذا مذهبنا، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا تشترط هذه الشرائط في القاضي، بل يجوز أن يكون عاميا ويقلد العلماء ويحكم) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 48] [المائدة: 48] ، والتقليد ليس مما أنزل الله. ولما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان

(13/19)


في النار، فأما الذي في الجنة: فرجل عرف الحق وحكم به فهو في الجنة، ورجلا عرف الحق فجار في حكمه فهو في النار، ورجل قضى بين الناس على جهل فيه فهو في النار» ، والمقلد يقضي بجهل. ولأن الحكم آكد من الفتيا؛ لأن المفتي لا يلزم المستفتي ما يفتيه به، فإذا لم يجز أن يكون المفتي عاميا.. فلأن لا يجوز أن يكون القاضي عاميا أولى.
ويشترط أن يكون القاضي مع كونه مجتهد - عدلا كاملا.
فأما (العدل) : فلا يجوز أن يكون كافرا ولا فاسقا، فإن تولى القضاء وهو عدل ثم فسق.. بطلت ولايته.
وقال الأصم: يجوز أن يكون فاسقا.
دليلنا: أن القضاء يتضمن الولاية في التزويج والنظر في أموال السفهاء واليتامى والوقوف، والفسق ينافي هذه الولايات، فلم ينعقد مع القضاء.
وأما (الكمال) : فيشترط أن يكون كاملا في الحكم والخلق.
و: (الكمال في الحكم) : أن يكون ذكرا، بالغا، عاقلا، حرا.
وقال ابن جرير: يجوز أن تكون المرأة قاضية في جميع الأحكام، كما يجوز أن تكون مفتية.
وقال أبو حنيفة: (يجوز أن تكون قاضية في غير الحدود، ولا يجوز أن تكون قاضية في الحدود) .
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما أفلح قوم وليتهم امرأة» . وروي: «ولوا أمرهم امرأة» ، وضد الفلاح الفساد، فاقتضى الخبر: أنها إذا وليت القضاء.. فسد أمر من وليتهم.

(13/20)


وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في النساء: " أخروهن من حيث أخرهن الله» ، والمرأة إذا وليت القضاء.. كانت مقدمة والرجال مؤخرين عنها، فلم يجز.
ولأن حال القضاء آكد من حال الإمامة في الصلاة، فإذا لم يجز أن تكون المرأة إمامة للرجال.. فلأن لا يجوز أن تكون قاضية أولى. ولا يجوز أن يكون الخنثى المشكل قاضيا؛ لجواز أن يكون امرأة.
وأما (الكمال في الخلق) : فلا يجوز أن يكون القاضي أعمى، ولا أصم، ولا أخرس؛ لأن فقد هذه الحواس يمنع من استيفاء الحكم بين الخصمين.
وحكى الشيخ أبو إسحاق في الأخرس وجها آخر: أنه يصح أن يكون قاضيا إذا فهمت إشارته. والمشهور هو الأول.
وهل يصح أن يكون القاضي أميا لا يكتب؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأنه من أهل الاجتهاد والعدالة، وفقد الكتابة لا يؤثر فيه، كما أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يكتب وهو إمام الأئمة وحاكم الحكام.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه يحتاج أن تقرأ عليه المحاضر والسجلات، ويقف على ما يكتب كاتبه، فإذا لم يكن كاتبا.. ربما غير القارئ والكاتب. ويفارق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فإن كونه لا يكتب من معجزاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأن أصحابه كانوا عدولا تؤمن منهم الخيانة في الكتاب له، ولو خان أحد منهم في ذلك.. أعلمه الله به.
ويستحب أن يكون القاضي مع هذه الشرائط حليما، ذا فطنة وتيقظ، عالما بلغات أهل قضائه، جامعا للعفاف، بعيدا عن الطمع، لينا في الكلام، ذا سكينة ووقار؛ لما روي: (أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولى أبا الأسود القضاء ساعة ثم عزله، فقال له: لم

(13/21)


عزلتني، فوالله ما خنت؟! فقال: بلغني أن كلامك يعلو كلام الخصمين إذا تحاكما إليك) .
ويستحب ألا يكون القاضي جبارا متكبرا؛ لأن ذلك يمنع الخصم من استيفاء حجته.
ويستحب ألا يكون القاضي ضعيفا مهينا؛ لأنه إذا كان بهذه الصفة.. انبسط الخصمان بالشتائم، وذكر السخف بين يديه، وربما انبسط عليه بالكلام.
ويستحب أن يكون بين هاتين الحالتين؛ لما روي عن بعض السلف: أنه قال في صفة القاضي: (شدة من غير عنف، ولين من غير ضعف) .
وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (لقد هممت أن أنزع هذا الأمر من هؤلاء وأضعه فيمن إذا رآه الفاجر فزع منه) . وروي: (فرق منه) .

[مسألة يعقد القضاء الإمام أو نائبه وماذا لو عزله]
؟] : ولا يصح عقد القضاء إلا من الإمام أو النائب عنه.
فإن عقد الإمام القضاء لرجل يصلح للقضاء، ثم عزله وهو يصلح للقضاء.. فهل ينعزل؟ فيه وجهان:

(13/22)


أحدهما: لا ينعزل، كما لو عقد أهل العقد والحل الإمامة لمن يصلح لها، ثم عزلوه من غير سبب.
والثاني: ينعزل؛ لما ذكرناه من عزل علي لأبي الأسود.
فإن قلنا بهذا: فقال له الإمام: قد عزلتك.. انعزل بذلك. وإن كتب إليه: عزلتك.. فهل ينعزل قبل أن يعلم بالعزل؟
من أصحابنا من قال: فيه قولان، كما قلنا في الوكيل.
وقال الشيخ أبو زيد المروزي: لا ينعزل حتى يبلغه العزل قولا واحدا؛ لأنا لو قلنا: ينعزل قبل أن يبلغه العزل.. أدى إلى فساد عظيم؛ لأنه يزوج ويقيم الحدود.
وإن كتب إليه: إذا أتاك كتابي هذا فأنت معزول.. لم ينعزل قبل أن يأتيه الكتاب.
فإن كتب إليه: إذا قرأت كتابي هذا فأنت معزول.. لم ينعزل قبل أن يقرأ كتابه.
وإذا ولى الإمام قاضيا ثم مات الإمام.. لم ينعزل القاضي؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ولوا قضاة فلم ينعزلوا بموتهم.

[فرع التحاكم عند من له أهلية القضاء]
فرع: [صحة التحاكم عند من له أهلية القضاء] : وإن تحاكم رجلان عند رجل يصلح للقضاء وليس بقاض، فحكم بينهما.. صح حكمه؛ لما روي: (أن عمر وأبي بن كعب تحاكما إلى زيد بن ثابت) ، و: (تحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم) .
فإن قيل: كان عمر وعثمان الإمامين في وقتهما، وإذا ردا ذلك إلى غيرهما.. صار حاكما؟
فالجواب: أنه لم ينقل عنهما أكثر من الرضا بالحكم، وبذلك لا يصير حاكما.
وبأي شيء يلزم حكمه بينهما؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يلزمهما حكمه إلا برضاهما بحكمه بعد الحكم؛ لأنه لما اعتبر رضاهما في ابتداء الحكم عنده.. اعتبر رضاهما بلزوم حكمه.

(13/23)


والثاني: يلزمهما حكمه بنفس الحاكم؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حكم بين اثنين تراضيا بحكمه، فلم يعدل.. فعليه لعنة الله» ، فلما توعده على ترك العدل في الحكم.. دل على أنه إذا عدل.. لزم حكمه، ولأن من صح حكمه.. لزم حكمه بنفس الحكم، كالحاكم إذا ولاه الإمام.
فعلى هذا: إذا حكم بينهما.. لم يكن لأحدهما الامتناع، وإن امتنع أحدهما بعد شروعه في الحكم وقبل تمامه.. ففيه وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لأن رضاهما لم يوجد حال الحكم، فهو كما لو امتنع أحدهما قبل شروعه في الحكم.
والثاني: ليس له ذلك؛ لأنا لو جوزنا له ذلك؛ لأدى إلى أن كل واحد منهما إذا رأى من الحاكم ما لا يوافقه.. رجع، فيؤدي إلى إبطال المقصود.
واختلف أصحابنا في الموضع الذي يصح فيه حكمه:
فمنهم من قال: يصح في جميع الأحكام؛ لأن من صح حكمه في حكم من الأحكام، صح في جميع الأحكام، كالحاكم إذا ولاه الإمام.
والثاني: يصح حكمه في جميع الأحكام إلا في أربعة أحكام: النكاح، واللعان، وحد القذف، والقصاص؛ لأن هذه الأحكام غلظ بها في الشرع، فلا يجوز أن يتولاها إلا الإمام أو من ولاه الإمام. هذا نقل أصحابنا العراقيين.
وقال المسعودي [في " الإنابة "] : إذا حكما بينهما حاكما، فحكم.. فهل ينفذ حكمه؟ فيه قولان.

(13/24)


إذا ثبت هذا: فإن التحكيم من الخصمين يجوز، سواء كان في البلد حاكم أو لم يكن حاكم. وإذا رفع حكمه إلى الحاكم الذي ولاه الإمام.. لم ينقض حكمه إذا كان مثله لا ينقض.
وقال أبو حنيفة: (إذا رفع حكم إلى الحاكم الذي ولاه الإمام.. فله أن ينقضه إذا خالف رأيه، وإن كان مما لا ينقض مثله على الحاكم الذي ولاه الإمام.. قبله) .
دليلنا: أنه حكم قد صح ولزم، فلم يكن له فسخه لمخالفته رأيه، كما لو كان من حاكم قبله ولاه الإمام.

[مسألة تعدد القاضي]
مسألة: [جواز تعدد القاضي] : ويجوز للإمام أن يجعل قضاء بلد إلى اثنين أو أكثر على أن يحكم كل واحد منهما في موضع، أو على أن يحكم أحدهما في حق والآخر في حق آخر، أو على أن يحكم كل واحد منهما في زمان؛ لأنهما يملكان الحكم بإذنه، فكان على حسب ما أذن فيه لهما. وهل يجوز أن يجعل إليهما القضاء في مكان واحد، في زمان واحد، وحق واحد؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز، كما يجوز ذلك في سائر الأشياء التي يجوز النيابة فيها.
والثاني: لا يجوز؛ لأنهما قد يختلفان في الحكم فيبطل المقصود.
ولا يجوز أن يعقد القضاء على أن يحكم بمذهب إمام بعينه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26] [ص: 26] ، والحق لا يتعين في مذهب إمام بعينه، بل الحق ما دل عليه الدليل.

[مسألة ما يستحب للإمام أو القاضي بعد توليته]
] : إذا ولى الإمام رجلا القضاء على بلد.. فالمستحب له: أن يكتب له كتاب العهد والتولية؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما بعث عمرو بن حزم إلى اليمن.. كتب له

(13/25)


عهدا» ، و: (كتب أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأنس حين بعثه إلى البحرين) .
ويأمره في العهد بتقوى الله، والتثبت في القضاء، ومشاورة أهل العلم، وما يحتاج إليه من القيام بحفظ أموال اليتامى والوقوف، ومراعاة حال الشهود، وغير ذلك.
فإن كان البلد الذي ولاه القضاء عليه بعيدا عن البلد الذي فيه الإمام؛ بحيث لا ينتشر الخبر بتوليته إليهم.. أحضر شاهدين عدلين وقرأ عليهما كتاب العهد، أو قرئ عليهما بحضرته وهما ينظران الكتاب لئلا يغير القارئ شيئا، وقال لهما الإمام: أشهدكما أني قد وليت فلانا القضاء على البلد الفلاني وأني تقدمت إليه بما في كتاب العهد، ويمضيان معه إلى البلد الذي ولي القضاء عليها ليقيما له الشهادة بها على توليته.
وإن كان البلد الذي ولي القضاء عليها قريبا من بلد الإمام؛ بحيث ينتشر الخبر إليهم بتوليته.. ففيه وجهان.
[أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: لا يفتقر إلى الإشهاد؛ لأن الخبر ينتشر إلى البلد القريب فيقع لهم العلم بتوليته ذلك.
و [الثاني] : قال أبو إسحاق: يفتقر إلى الإشهاد؛ لأنه عقد، فلم يثبت بالاستفاضة، كالبيع.
وهذا مثل اختلافهما في الوقف، والعتق، والنكاح: هل يثبت بالاستفاضة؟
وإذا أراد الحاكم أن يسير إلى بلد ولايته.. فإنه يبحث عمن ببلد الإمام من ذلك البلد، فإن وجد فيها ثقة.. سأله عن البلد الذي ولي عليها ومن فيها من العلماء والأمناء والشهود العدول. فإن لم يجد ببلد الإمام من يخبره عن ذلك.. بحث عن ذلك في طريقه ليقدم له الخبر بذلك، فإن لم يجده في طريقه.. بحث عنه في البلد.
والمستحب: أن يدخل البلد الذي ولي القاضي عليها يوم الاثنين؛ لـ: «أن

(13/26)


النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل المدينة لما هاجر إليها يوم الاثنين» .
والمستحب: أن ينزل وسط البلد ليتساوى أهل البلد في قصده، ثم يأمر مناديا ينادي في البلد: ألا إن فلانا بن فلان القاضي قد قدم إليكم قاضيا، فاجتمعوا لسماع عهده لوقت كذا. فإن كان البلد كبيرا.. نودي يومين أو ثلاثا ليتصل بجميعهم النداء. وإن كان صغيرا.. نودي فيه يوما. وإن كانت قرية يمكن جمع أهلها في ساعة.. جمعهم فيها في موضع بارز وقرأ عليهم العهد، ثم رجع إلى منزله وابتدأ في النظر على ما نذكره فيما بعد.

[مسألة الإذن في الاستخلاف للقاضي]
مسألة: [استحباب الإذن في الاستخلاف للقاضي] : وإن ولى الإمام رجلا القضاء على بلد.. فالمستحب له: أن يأذن له أن يستخلف فيما يمكنه القيام به وفيما لا يمكنه؛ لأنه قد يحتاج إليه. فإذا أذن له في الاستخلاف.. جاز له أن يستخلف، وإن نهاه عن الاستخلاف.. قال الشيخ أبو إسحاق: فليس له أن يستخلف؛ لأنه نائب عنه فتبع أمره ونهيه.
وقال القاضي أبو الطيب: إن كان ما ولاه يمكنه القيام به.. لم يجز له أن يستخلف، وإن كان لا يمكنه القيام به.. فوجود النهي هاهنا وعدمه سواء.
وإن كان ولاه ولم يأذن له في الاستخلاف ولا نهاه عنه.. نظرت:
فإن كان ما ولاه يمكنه النظر فيه بنفسه.. فهل يجوز له أن يستخلف؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي سعيد الإصطخري -: أنه يجوز له أن يستخلف؛ لأن الغرض بتولية القضاء الفصل بين الخصمين، فإذا فعله بنفسه أو بغيره.. جاز. ولأنه ينظر في مصالح المسلمين، فجاز أن ينظر بنفسه وبغيره.

(13/27)


والثاني: لا يجوز أن يستخلف، وهو الأصح؛ لأنه نائب عن الإمام فلم يجز له الاستخلاف فيما يقدر عليه، كالوكيل في البيع.
وإن كان ما ولاه لا يقدر على النظر فيه بنفسه؛ بأن يولي الإمام رجلا القضاء على اليمن.. فله أن يستخلف فيما لا يمكنه النظر فيه بنفسه - كما قلنا فيمن وكل وكيلا في بيع ما لا يقدر عليه بنفسه - وهل له أن يستخلف فيما يقدر على النظر فيه بنفسه؟ على الوجهين الأولين:
فكل موضع قلنا: له أن يستخلف فيه، فاستخلف وحكم الخليفة بحكم.. فإنه يلزم بنفس الحكم، كالحكم الحاكم الذي ولاه الإمام.
وكل موضع قلنا: ليس له أن يستخلف فيه، فاستخلف وحكم الخليفة فيه.. فهو كما لو تحاكم خصمان إلى من يصلح للقضاء وليس بقاض على ما مضى.

[مسألة مدى صلاحية حكم القاضي في بلده أو غيرها]
] : وإذا ولى الإمام رجلا القضاء على بلد، فحضر إليه خصمان في البلد الذي ولي القضاء عليها من غير أهل ذلك البلد.. جاز أن يحكم بينهما.
وإن خرج القاضي عن البلد الذي ولي القضاء عليها إلى بلد آخر.. لم يجز له أن يكتب إلى حاكم آخر بما ثبت عنده ليحكم به، أو بما حكم فيه لينفذه، فإن فعل ذلك.. لم يعتد بكتابه.
وهكذا: إن وصل إليه كتاب من حاكم، فقرأه في بلد غير بلد عمله وشهد به عنده شاهدان بذلك.. لم يجز له العمل بموجب ما كتب إليه حتى يرجع إلى بلد عمله ويقرأ الكتاب ثانيا ويعيد الشاهدان الشهادة؛ لأنه في غير بلد عمله كسائر الرعية.
وإن حضر إليه خصمان في غير بلد عمله، فحكم بينهما.. لم يعتد به سواء كانا من بلد عمله أو من غيرها؛ لأنه هناك كسائر الرعية. هكذا قال أصحابنا.
والذي يقتضي المذهب: أنه يكون كما لو تحاكم رجلان إلى من يصلح للقضاء وليس بقاض على ما مضى.

(13/28)


ولو أذن الإمام للقاضي أن يحكم بين أهل ولايته حيثما كانوا.. جاز له أن يحكم بينهم وإن كانوا في ولاية غيره.
وإن اجتمع حاكمان في غير عملهما، فأخبر أحدهما الآخر بحكم حكم به أو بشيء ثبت عنده.. لم يصح ذلك الإخبار، ولا يجوز للسامع أن يحكم بما أخبره به الآخر بثبوته عنده، ولا أن ينفذ ما أخبره أنه حكم به؛ لأن الخبر وسماعه لم يصح.
وأما إذا التقيا في عمل أحدهما؛ بأن اجتمع قاضي الجند وقاضي زبيد في الجند، فإن أخبر قاضي زبيد قاضي الجند بشيء ثبت عنده أو بحكم حكم به.. لم يصح إخباره، ولا يجوز لقاضي الجند العمل بموجب خبره؛ لأن قاضي زبيد في الجند كسائر الرعية. وإن أخبر قاضي الجند قاضي زبيد بشيء ثبت عنده أو بحكم حكم به.. صح الإخبار؛ لأن قاضي الجند في موضع عمله، فصح إخباره. فإذا رجع قاضي زبيد إلى موضع عمله.. فهل يجوز له أن يعمل بموجب ما أخبره به قاضي الجند؟ فيه قولان بناء على القولين في القاضي، هل يجوز له أن يحكم بعلمه، ويأتي بيانهما في موضعهما.

[مسألة لا يجوز للقاضي الحكم لنفسه]
وماذا يترتب عليه تجاه أصله أو فرعه؟] : ولا يجوز للقاضي أن يحكم لنفسه، كما لا يجوز أن يشهد لنفسه. فإن اتفق بينه وبين غيره خصومة.. تحاكما إلى الإمام أو إلى بعض القضاة الذين ولاهم الإمام، فإن تحاكما إلى خليفة القاضي المخاصم.. صح؛ لـ: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تحاكم مع أبي بن كعب إلى زيد بن ثابت) ، و: (تحاكم عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مع طلحة إلى

(13/29)


جبير بن مطعم) ، و: (تحاكم علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مع يهودي في درع إلى شريح) .
ولا يجوز له أن يحكم لوالده وإن علا، ولا لولده وإن سفل.
وقال أبو ثور: (يجوز) .
دليلنا: أنه لا تقبل شهادة له، فلم يصح حكمه له، كنفسه.
وإن تحاكم إليه والده وولده.. فهل يصح حكمه بينهما؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح، كما لا يصح حكمه بين أحدهما وبين أجنبي.
والثاني: يصح؛ لأنهما سواء في البعضية منه، فارتفعت عنه تهمة الميل.
فإن أراد القاضي أن يستخلف والده أو ولده.. جاز؛ لأنهما يجريان مجرى نفسه. وإن فوض إليه الإمام أن يختار قاضيا.. لم يجز أن يختار أحدهما، كما لا يجوز أن يختار نفسه.

[مسألة أخذ الرشوة بالنسبة للقاضي]
مسألة: [حرمة أخذ الرشوة] : ويحرم على القاضي أخذ الرشوة؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم» . ولأنه إذا أخذ الرشوة في الحكم ليحكم بغير الحق..

(13/30)


فالحكم بغير الحق محرم، وكذلك الأخذ عليه. وإن أخذ الرشوة ليوقف الحكم.. فإمضاء الحكم واجب عليه، فحرم الأخذ على إيقافه. وإن أخذ الرشوة ليحكم بالحق.. لم يجز؛ لأنه يأخذ الرزق من الإمام، فلم يجز له أن يأخذ عوضا آخر.
وحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد والقاضي أبا الطيب قالا: إذا كان القاضي لا يأخذ رزقا من الإمام، فقال: لست أقضي بينكما حتى تجعلا لي عوضا.. جاز.
قال ابن الصباغ: وينبغي أن يكون أخذه لذلك من أحدهما ليحكم بالحق، ويجري مجرى الهدية على ما نذكرها.
وأما الراشي: فإن كان الراشي يطلب بما يدفعه أن يحكم له بغير الحق أو على إيقاف الحكم.. حرم عليه ذلك، وعليه تحمل لعنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للراشي. وإن كان يطلب بما يدفعه وصولا إلى حقه.. لم يحرم عليه ذلك وإن كان ذلك حراما على آخذه، كما لا يحرم عليه فكاك الأسير وإن كان ذلك يحرم على آخذه.

[فرع الهدية للقاضي أو العامل]
] : وإن أهدي للقاضي أو إلى العامل في الصدقة هدية.. نظرت:
فإن كان المهدي ممن لم تجر له العادة بالهدية إليه قبل الولاية.. حرم عليه قبول الهدية منه؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من وليناه ورزقناه فما أخذه بعد ذلك..

(13/31)


فهو غلول» . وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعمل على الصدقة رجلا من الأعراب يقال له: ابن اللتبية، فلما قدم، قال: هذا لكم وهذا أهدي إلي، فصعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر وخطب، فقال: " ما بال العامل نبعثه على بعض أعمالنا فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي! ألا جلس في بيت أمه -وروي: على أريكته - فينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأخذ منها شيئا إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته» . قال ابن الصباغ: وأصحابنا يحتجون بهذا الخبر، وليس فيه حجة ظاهرة؛ لأن العامل قبل الهدية ممن له عليه الصدقة، وكلامنا فيمن لا يكون له عليه شيء. ولأن من لم تجر العادة له بالهدية إلى القاضي قبل الولاية إذا أهدى إليه شيئا.. فالظاهر أنه أهدى له ذلك بخصومة حاضرة، فلم يجز له قبولها.
وأما إذا أهدى له من كانت له عادة بالهدية إليه قبل الولاية بقرابة أو بصداقة، فإن كانت له حكومة.. لم يجز قبولها؛ لما روي: (أن زيد بن ثابت كان يهدي إلى عمر بن الخطاب في كل عشية لبنا، ثم إنه استقرض منه من بيت المال فأقرضه مائتي دينار، فأهدى زيد لعمر من عشيته شيئا من اللبن، فلم يقبل وقال: لعله إنما قدم لنا لما أقرضناه، فلم يقبل ذلك حتى قضى زيد دينه) .
وإن لم يكن له حكومة.. فهل يجوز له قبولها؟ حكى ابن الصباغ والطبري فيه وجهين:

(13/32)


أحدهما: لا يجوز له قبولها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هدايا العمال غلول» ، وروي: «سحت» ولم يفرق.
الثاني - وهو المنصوص، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره -: (أن الأولى له أن لا يقبل؛ لجواز أن يكون قد أهدى إليه لحكومة منتظرة. فإن قبلها.. جاز؛ لأن العادة قد جرت بإهدائه إليه لا لأجل الحكومة، فلم تلحقه التهمة) .
وذكر الشيخ أبو إسحاق: إذا لم يكن له حكومة، فإن كان أكثر مما كان يهدي إليه أو رفع منه.. لم يجز له قبوله. وإن كان مثل ما كان يهدي إليه.. جاز له قبولها.
هذا ترتيب أصحابنا العراقيين.
وقال الخراسانيون: إن كان المهدي أحد المتحاكمين.. لم يجز له قبول الهدية منه. وإن كان غير المتحاكمين، فإن كان من أهل ولايته.. لم يقبل منه، سواء كان يهدي إليه قبل الولاية أو لا يهدي إليه.
وإن كان من غير أهل ولايته.. فالأولى أن لا يقبل منه. فإن قبل منه.. جاز، والأولى إذا قبل منه.. أن يثيبه عليها.
وإن خرج القاضي عن بلد ولايته، فأهدي إليه.. فهل يجوز له قبولها؟ فيه وجهان:

(13/33)


المنصوص: (أنه يجوز له قبولها) ؛ لأنه هناك كسائر الرعية.
والثاني: لا يجوز له قبولها، كما لا يجوز له أخذ الرشوة هناك.
وكل موضع قلنا: لا يجوز له قبول الهدية فقبلها.. فإنه لا يملكها؛ لأنا قد حكمنا بتحريمها عليه. وإلى من يردها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يردها إلى المهدي؛ لأن ملكه لم يزل عنها.
والثاني: يردها إلى بيت المال، وهو ظاهر المذهب؛ لأنه أهدى إليه لمكان ولايته وهو منتصب لمصلحة المسلمين، وكأن المهدي أهدى إلى المسلمين فصرف ذلك في مصالحهم.
وكذلك الوجهان في العامل إذا قبل الهدية:
أحدهما: يردها إلى المهدي.
والثاني: يجعلها في الصدقات.
هذا ترتيب أصحابنا العراقيين، وقال الخراسانيون: هل يملكها المهدى إليه؟ فيه وجهان:

[مسألة استجابة القاضي لدعوة الوليمة]
] : إذا دعي القاضي إلى الوليمة.. فالمستحب له: أن يجيب؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو أهدي إلي ذراع.. لقبلت، ولو دعيت إلى كراع.. لأجبت» .
ولأن الإجابة من فرائض الكفايات والقاضي من أهل الكفايات.
وإن كثرت عليه الدعوات إلى الولائم وكان حضوره فيها يشغله عن الحكم.. لم يحضرها؛ لأن حضورها فرض على الكفاية ولم يتعين عليه، والحكم قد تعين عليه لما صار قاضيا. والمستحب له: أن يعتذر إلى من دعاه، ويعرفه اشتغاله بالحكم، ويسأله أن يحلله من الحضور.

(13/34)


ولا يختص بالإجابة قوما دون قوم؛ لأن في ذلك ميلا إلى من حضر عنده، وكسرا لمن لم يحضر عنده.
قال الطبري في " العدة ": وقد قيل: إن هذا عند تساوي أحوال أصحاب الولائم وتقارب أحوالهم وفضلهم وعلمهم وصلاحهم، فأما من ليس في درجتهم من الفساق أو السوقة.. فلا بأس عليه أن لا يجيبهم وإن كان يجيب غيرهم. والأول هو المشهور. هذا ترتيب أصحابنا العراقيين، وقال الخراسانيون: إن دعاه الخصمان أو أحدهما إلى الضيافة.. لم يجب؛ لأن أحدهما ربما زاد في إكرامه ما لا يزيده الآخر.
وإن دعاه غير الخصمين إلى الضيافة، فإن دعاه إلى غير الوليمة.. لم يجب. وإن دعاه إلى الوليمة، فإن كانت الدعوة حفلا؛ بأن فتح الباب لكل من أراد أن يدخل.. لم يجب. وإن كانت الدعوة نقرى؛ بأن يخص قوما من أهل كل طائفة بأعيانهم.. لم يجب. فإن دعا كل طائفة واستوعبهم، فإن كان الحاكم يجد من طبعه أنه يجيب غيره.. أجابه. وإن كان يجد من طبعه أنه لا يجيب غيره.. لم يجبه.

[فرع شهود القاضي الجنائز]
وعيادة المرضى] :
ويجوز للقاضي أن يعود المرضى، ويشهد الجنائز، ويأتي مقدم الغائب؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «عائد المريض على مخارف الجنة حتى يرجع» ، و: «عاد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سعدا وجابرا وغلاما يهوديا كان في جواره، وعرض عليه الإسلام فأسلم» ، و: «كان يصلي على الجنائز» . فإن كثر ذلك عليه، وخاف أن يشغله عن الحكم.. فله أن يفعل من ذلك ما لا يقطعه عن الحكم، ويترك ما يشغله.

(13/35)


والفرق بينه وبين حضور الولائم: أن الحضور في الولائم لحق أصحابها، فإذا حضر عند بعضهم دون بعض.. كان في ذلك ميل. والحضور في هذه الأشياء لطلب الثواب، فجاز أن يحضر بعضها دون بعض.

[مسألة تولي القاضي البيع ونحوه]
مسألة: [كراهة تولي القاضي البيع ونحوه] : ويكره للقاضي أن يتولى البيع والشراء بنفسه؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما عدل وال اتجر في رعيته» ، وروي عن شريح أنه قال: (شرط علي عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين ولاني القضاء أن لا أبتاع، ولا أبيع، ولا أرتشي، ولا أقضي وأنا غضبان) . ولأنه إذا تولى ذلك بنفسه.. حاباه من عامله، والمحاباة بمنزلة الهدية، وقبول الهدية محرم عليه. ولأنه إذا اشتغل بالبيع والشراء.. شوش خاطره.
وإن احتاج إلى البيع والشراء.. اتخذ وكيلا مجهولا، لا يعرف أنه وكيله؛ لئلا يحابى. فإن عرف أنه وكيله.. استبدل به غيره.
فإن باع واشترى بنفسه.. صح؛ لأن المحاباة أمر مظنون، فلا يبطل البيع بأمر مظنون.
قال الشافعي: (وأكره للإمام النظر في أمر ضيعته ونفقة منزله وعياله، بل يوكل وكيلا؛ لأنه إذا تولى ذلك بنفسه.. اشتغل به وشوش خاطره) .

(13/36)


[مسألة القضاء في حالة الغضب والجوع]
مسألة: [كراهية القضاء في حالة الغضب والجوع وغيره] : ويكره للقاضي أن يقضي وهو غضبان؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقضي القاضي [بين اثنين] وهو غضبان» ، وروت أم سلمة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ابتلي بالقضاء بين المسلمين.. فلا يقضين وهو غضبان» . وقال شريح: (شرط علي عمر أن لا أقضي وأنا غضبان) ، وكان شريح إذا غضب.. قام ولم يقض. ولأن الغضب يغير العقل والفهم، وذلك يمنعه من الاجتهاد ويورثه النسيان.
ويكره أن يقضي في كل حالة ويشوش فيه فهمه، مثل أن يصيبه الجوع الشديد، أو العطش الشديد، أو الغم الشديد، أو الفرح الشديد، أو النعاس الغالب له، أو كان يدافع الأخبثين، أو بحضرة الطعام ونفسه تتوق إليه؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقضي القاضي وهو غضبان، ولا مهموم، ولا مصاب حزين، ولا جائع» . وحكي: أن الشعبي كان يأكل مع طلوع الشمس، فقيل له في ذلك، فقال: آخذ حلمي، ثم أخرج إلى الحكم. ولأن هذه الأشياء تمنع من التوفر على الاجتهاد، فكره فيها القضاء، كحالة الغضب.

(13/37)


فإن حكم في حالة الغضب.. صح؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم على الأنصاري في حالة الغضب» .

[مسألة القضاء على منصة وفي مكان واسع ومريح]
مسألة: [استحباب القضاء على منصة وفي مكان واسع ومريح] : ويستحب أن يقضي في مكان بارز للناس؛ ليصل إليه كل أحد.
ويستحب أن يكون الموضع واسعا؛ لئلا يلحقه الملل والضجر من ضيقه فيمنعه من التوفر على الاجتهاد، ويلحق المتخاصمين ذلك فلا يمكنهم استيفاء الحجة.
ويستحب أن لا يكون بقربه ما يتأذى به من دخان أو رائحة منتنة وما أشبهه؛ لما روي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إلى أبي موسى الأشعري: (إياك والقلق والضجر) ، وهذه الأشياء تفضي إلى الضجر، وتمنع الحاكم من التوفر على الاجتهاد، وتمنع الخصوم من استيفاء الحجة.
فإن حكم في هذه المواضع المكروهة.. صح حكمه، كما يصح في حال الغضب.

[فرع كراهة اتخاذ المسجد محكمة]
وماذا لو كان في بيته أو اتخذ حاجبا؟] : ويكره للقاضي أن يجلس في المسجد للحكم. وبه قال عمر وابن المسيب.
وقال الشعبي ومالك وأحمد وإسحاق: (لا يكره) .
وعن أبي حنيفة روايتان: إحداهما: (يكره) . والثانية: (لا يكره إلا في المسجد الأعظم) .

(13/38)


دليلنا: ما روى معاذ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «جنبوا مساجدكم: صبيانكم، ومجانينكم، ورفع أصواتكم، وخصوماتكم، وحدودكم، وسل سيوفكم، وبيعكم، وشراءكم» . وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع رجلا ينشد ضالته في المسجد، فقال النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " لا وجدتها، إنما بنيت المساجد لذكر الله والصلاة» . فدل على أنه ما عدا هذين ينهى عنه في المساجد. ولأنه قد يكون في الخصوم من لا يمكنه اللبث في المسجد، كالجنب والحائض. ولأن الخصوم يجري بينهم التكاذب والتشاتم، فينزه المسجد عن ذلك.
فإن دخل الحاكم المسجد للصلاة أو الاعتكاف، أو كان ينتظر الصلاة، فحضر خصوم.. لم يكره له أن يحكم بينهم؛ لما روي: (أن عمر حكم بين الناس في المسجد) . وروى الحسن قال: (دخلت مسجد المدينة، فرأيت عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقد كوم كومة من حصى، فوضع عليها رداءه ونام، فجاء سقاء ومعه قربه ومعه خصم له، فتحاكما إليه، فجلس وقضى بينهما) . وروي: (أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قضى في المسجد) .
وإن جلس الحاكم في بيته لغير الحكم وحضره خصمان.. لم يكره أن يحكم بينهما؛ لما روي عن أم سلمة: أنها قالت: «اختصم رجلان من الأنصار في مواريث متقادمة فقضى بينهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيتي» . وروي: (أنه كان بين عمر بن الخطاب وأبي بن كعب خصومة في مواريث، فأتيا زيد بن ثابت في منزله ليحكم

(13/39)


بينهما، فقال زيد: يا أمير المؤمنين، لو أمرتني لأجبتك، فقال عمر: في بيته يؤتى الحكم) .
ولا يحتجب القاضي من غير عذر؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ولي من أمور المسلمين شيئا، فاحتجب دون فاقتهم وحاجتهم.. احتجب الله دون حاجته وفاقته وفقره» . وروي: (أن عمر ولى سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قضاء الكوفة، فقضى زمانا بلا حاجب، ثم اتخذ حاجبا، فعزل عمر حاجبه) . ولأن الحاجب لا يؤمن منه أن يقدم المتأخر من الخصوم، ويؤخر المتقدم.
فإن دعته حاجته إلى اتخاذ حاجب.. اتخذ حاجبا أمينا بعيدا من الطمع، ويوصيه بتقديم الأول فالأول من الخصوم؛ لأنه موضع حاجة. ولا يكره للإمام أن يتخذ حاجبا؛ لـ: (أن عمر وعثمان وعليا اتخذ كل واحد منهم حاجبا) ؛ لأنه موضع حاجة، ولأنه ينظر في جميع المصالح، وقد تدعوه الحاجة إلى الاحتجاب في وقت؛ لينظر في مصلحة من المصالح.

[فرع اتخاذ السجن والدرة]
فرع: [استحباب اتخاذ السجن والدرة] : ويستحب للحاكم أن يتخذ سجنا؛ لـ: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اتخذ سجنا)

(13/40)


و: (اتخذ علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سجنا) . ولأنه قد يحتاج إليه للتأديب ولاستيفاء الحق به من المماطل مع الغنى.
ويستحب له أن يتخذ درة يؤدب بها؛ لأن عمر اتخذ درة يؤدب بها.

[مسألة كتابة القاضي بنفسه أو يستعين بآخر وشروط الكاتب]
] : فإن تولى القاضي الكتابة بنفسه بين الناس.. جاز. وإن اتخذ كاتبا.. جاز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان له كتبة منهم علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت. وروي «عن زيد بن ثابت: أنه قال: قال لي النبي: " أتحسن السريانية؟ فإن اليهود يكتبون إلي وما أحب أن يقف على كتبي كل أحد " فقلت: لا، قال: " فتعلمها "، فتعلمتها في

(13/41)


نصف شهر -وروي في بضعة عشر يوما - فكنت أقرأ كتبهم على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأكتب له إليهم» . ولأن الحاكم يشتغل بالاجتهاد وتنفيذ الحكم، وقد يحتاج إلى كاتب يكتب له المحاضر والسجلات، فجاز له اتخاذ الكاتب.
ومن شرط الكاتب أن يكون حافظا؛ لئلا يغلط وأن يكون ثقة لئلا يزور عليه وينقل عليه سره وأخبار مجلسه إلى غيره.
ويستحب أن يكون فقيها ليعرف مواقع الألفاظ، ويفرق بين الجائز والواجب. ويستحب أن يكون فصيحا، عالما بلغات الخصوم، فطنا، متيقظا، لا يخدع بغرة، منزها من الطمع، ولا يستمال بهدية، قوي الخط قائم الحروف.
وهل يشترط أن يكون مسلما أو لا يشترط؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن الإسلام شرط فيه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا} [آل عمران: 118] [آل عمران: 118] ، وقَوْله تَعَالَى: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1] [الممتحنة: 1] . وإذا كان الكاتب كافرا.. فقد اتخذه بطانة ووليا.
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تستضيئوا بنار المشركين» أي برأيهم. وهذا قد استضاء بهم في الكتابة.

(13/42)


وروي: (أن أبا موسى قدم على عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ومعه كاتب له نصراني، فأعجب به عمر لما رأى من حفظه، فقال له: قل لكاتبك يدخل حتى يقرأ على الناس كتابا في المسجد، فقال له: إنه نصراني لا يدخل المسجد، فانتهره عمر، وهم به، وقال: لا تأمنوهم وقد خونهم الله، ولا تدنوهم وقد أقصاهم الله، ولا تعزوهم وقد أذلهم الله) . ولأنهم أعداء المسلمين، فلا يؤمن أن يكتب ما يبطل به حقوقهم.
فعلى هذا: لا يجوز أن يتخذ كاتبا فاسقا.
والثاني: أن ذلك ليس بشرط فيه، بل هو مستحب؛ لأنه لا بد أن يقف الحاكم على ما يكتب.
فعلى هذا: يجوز أن يتخذ كاتبا فاسقا. والأول أصح.

[مسألة اتخاذ شهود راتبين]
مسألة: [عدم اتخاذ شهود راتبين] : ولا يجوز للحاكم أن يتخذ شهودا راتبين يسمع شهادتهم ولا يسمع شهادة غيرهم. وقيل: إن أول من اتخذ هذا إسماعيل بن إسحاق المالكي.
والدليل -على أنه لا يجوز له ذلك -: قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] [البقرة: 282] الآية. فعم ولم يخص. ولأن في هذا ضررا على الناس؛ لأنه ربما لا يمكن الناس إشهادهم، وربما إذا علم الشهود الراتبون أن الحاكم لا يقبل غير شهادتهم.. لا يتحملون الشهادة إلا بعوض فيؤدي إلى الضرر بالناس.

[مسألة العلم بحال الشهود وصفاتهم]
] : وإن ادعى رجل على آخر حقا فأنكره، وأقام عليه المدعي شاهدين بما ادعاه.. نظرت: فإن علم الحاكم فسقهما ظاهرا وباطنا، أو فسقهما في الباطن.. لم يقبل

(13/43)


شهادتهما. وإن علم عدالتهما ظاهرا وباطنا.. قبل شهادتهما بلا خلاف بين أهل العلم في ذلك.
وإن جهل الحاكم حالهما.. نظرت:
فإن جهل إسلامهما.. رجع في ذلك إلى قولهما؛ لما روي: «أن أعرابيا شهد عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برؤية الهلال، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أتشهد أن لا إله إلا الله؟ " فقال: نعم. قال: " أتشهد أن محمدا رسول الله؟ " فقال: نعم، فصام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمر الناس بالصيام» .
وإن جهل حريته.. ففيه وجهان:
أحدهما: يرجع في ذلك إلى قوله، كما يرجع إليه في إسلامه.
والثاني: لا يرجع إلى قوله؛ لأن حريته لا تثبت بقوله، وإسلامه يثبت بقوله.
وإن عرف الحاكم إسلام الشاهدين وحريتهما، وجهل عدالتهما.. فلا يجوز أن يحكم بشهادتهما، حتى يبحث عن عدالتهما في الظاهر والباطن، سواء شهدا بحد أو قصاص أو مال. وبه قال أبو يوسف ومحمد وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (إن شهد بحد أو قصاص.. لم يحكم بشهادتهما حتى يبحث عن عدالتهما. وإن شهدا بمال أو نكاح أو غير ذلك.. فإنه يقتصر في العدالة على الظاهر ولا يسأل عن ذلك في الباطن، إلا أن يجرحهما الخصم، أو يقول: هما فاسقان، أو غير ذلك.. فحينئذ يحتاج أن يسأل عن عدالتهما في الباطن) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] إلى قوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] [البقرة: 282] ، ولا يعلم أنه مرضي حتى يبحث عن عدالته. وروي: (أن رجلا ادعى على رجل حقا عند عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأنكر، فشهد بذلك شاهدان، فقال عمر: لا أعرفكما ولا يضركما أن لا أعرفكما، فأتياني بمن يعرفكما، فأتياه برجل، فقال: أتعرفهما؟ فقال: نعم، فقال: أكنت معهما في السفر الذي يتبين فيه جواهر

(13/44)


الناس؟ قال: لا، قال: هل عرفت صباحهما ومساءهما؟ قال؟ لا، قال: هل عاملتهما في الدراهم والدنانير التي تقطع بها الرحم؟ قال: لا، قال: يا ابن أخي ما تعرفهما. ائتياني بمن يعرفكما) . ولا مخالف له في الصحابة. ولأنه حكم شهادة، فلم يجز له تنفيذ إلا بعد معرفة عدالة الشهود في الباطن، كما لو شهدا بحد أو قصاص.
إذا ثبت هذا: فلا يخلو الشهود: إما أن يكون لهم عقول وسمت حسن وعفاف في الظاهر لا تسبق التهمة إليهم، أو كانوا بخلاف ذلك بحيث تسبق التهمة إليهم: فإن كانوا بحيث تسبق التهم إليهم.. فالمستحب للحاكم: أن يفرقهم قبل البحث عن عدالتهم، فإذا فرقهم.. سألهم عن الشهادة، وعن كيفية تحملها، وفي أي موضع وقعت وغير ذلك من الأمور التي يرى الحاكم السؤال عنها. فإن اختلفوا.. علم كذبهم.
وقيل: إن أول من فرق الشهود دانيال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ وذلك: أن شهودا شهدوا عنده أن امرأة زنت، ففرقهم، ثم استدعى واحدا منهم، فشهد أنها زنت تحت شجرة كمثرى، وشهد آخر أنها زنت تحت شجرة تفاح، فعلم كذبهم، فدعا الله عليهم فنزلت نار من السماء فأحرقتهم. وروي: (أن داود - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اتخذ حاجبا فجاءته امرأة في خصومة لها، فحجبها الحاجب وراودها عن نفسها، فامتنعت عليه، ثم وضع أربعة من الشهود فشهدوا: أن كلبا أتاها، فهم داود برجمها، فبلغ ذلك ابنه سليمان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ -، فدعا أربعة من الصبيان، فلقنهم حتى شهدوا على

(13/45)


امرأة أن كلبا أتاها، ثم دعاهم متفرقين، فسألهم عن كيفية الحال وصفة الكلب فاختلفوا، فبلغ ذلك داود - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فدعا بالشهود على المرأة متفرقين وسألهم عن كيفية الحال وكيفية الكلب فاختلفوا، فدرأ الحد عنها) وروي: (أن سبعة نفر خرجوا في سفر، فعاد ستة منهم وفقد السابع، فجاءت امرأته إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخبرته، فدعاهم فسألهم فأنكروا، فأقام كل واحد منهم عند سارية ووكل به من يحفظه، ثم استدعى واحدا منهم فسأله فأنكر، فقال علي: الله أكبر ونحاه، فظن الباقون أنه قد اعترف فاعترفوا، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أما هؤلاء فقد أقروا على أنفسهم بالقتل، وأما أنت فقد شهدوا عليك بالقتل، فاعترف فقتلهم) . فدل على أن تفرقه الشهود عند الارتياب بهم مستحبة. ولأن الشهادة إذا كانت صحيحة.. لم يختلف الشهود عند التفرقة، وإذا كانت زورا.. اختلفوا؛ لأنه قد سألهم عن شيء لم يتواطؤوا عليه.
فإن فرقهم وسألهم لم يختلفوا.. فالمستحب للحاكم: أن يعظهم ويخوفهم من شهادة الزور؛ لما روي: (أن شاهدين شهدا عند علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على رجل بالسرقة، فقال المشهود عليه: والله ما سرقت ولقد شهدا علي لتقطع يدي، فأقبل علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على الشاهدين يعظهما ويخوفهما، وازدحم الناس فدخلا في الزحمة، فدعاهما فلم يجيبا، فقال: لو صدقا لثبتا) . وروي: أن أبا حنيفة قال: (كنت عند محارب بن دثار قاضي الكوفة، فشهد عنده شاهدان على رجل بحق، فقال المشهود عليه: والذي قامت به السموات والأرض لقد كذبتما علي في شهادتكما، والذي قامت به السموات والأرض لو سألت عنهما الناس.. ما اختلف فيهما اثنان. قال: وكان محارب بن دثار متكئا فاستوى جالسا، ثم قال: سمعت ابن عمر يقول: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن الطير لتخفق بأجنحتها وترمي بما في

(13/46)


حواصلها من هول يوم القيامة، وإن شاهد الزور لا تزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار» فإن كنتما صدقتما.. فاثبتا، وإن كنتما كذبتما.. فغطيا رؤوسكما وانصرفا، فغطيا رؤوسهما وانصرفا) .
فإن وعظهم ورجعوا عن الشهادة.. سقطت شهادتهم، وإن ثبتوا على الشهادة.. فهم بمنزلة من لهم سمت حسن وعفاف ظاهر، فيسأل الحاكم عن عدالتهم في الباطن، ولا يمكنه السؤال عنهم بنفسه، ولكنه يتخذ قوما من أصحاب المسائل، ويبعثهم للسؤال عنهم. ويسأل عنهم في السر دون الجهر؛ لأن القصد معرفة عدالتهم دون فضيحتهم، فإن سأل عنهم جهرا ربما جرحوا فافتضحوا، ولأنه إذا سأل عنهم جهرا.. ربما استحيا المسؤول عنهم فعدلهم وليسوا بعدول، أو خاف من المشهود عليه فجرحهم وهم عدول، أو خاف من المشهود له فعدلهم وهم غير عدول، فكان السؤال عنهم في السر أولى. فيكتب الحاكم أربعة أشياء:
أحدهما: اسم الشاهد، ونسبه، وحليته، وصنعته، ومسكنه؛ حتى لا يشتبه بغيره.
والثاني: اسم المشهود عليه؛ لأنه قد يكون بينه وبين الشاهد عداوة، فلا يقبل شهادته عليه.
والثالث: اسم المشهود عليه؛ لأنه قد يكون ولده أو والده، ولا تقبل شهادته له.
الرابع: قدر المال الذي شهد به؛ لأن من الناس من يزكى في شهادته في الحق اليسير ولا يزكى في الحق الكثير.
ويكتب ذلك في رقعتين، ويدفع كل رقعة إلى رجل من أصحاب المسائل.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويخفي عن كل واحد منهم ما دفعه إلى صاحبه؛ لئلا يتواطأ على الجرح والتعديل) .

(13/47)


ويشترط أن يكونا عدلين؛ لأن الخير لا يقبل إلا من عدل، ويكونا ذوي تيقظ وفهم؛ لئلا يسألا عدوا للشاهد ولا صديقا عن حاله؛ لأن العدو ربما جرحه وهو غير مجروح، والصديق ربما عدله وهو غير عدل. ثم يأمرهما الحاكم يسألان عن الشاهد في جيران منزله؛ لأنه إن كان فيه فسق.. عرفه جيرانه فأخبروا عنه. ويسألان عنه في موضع صلاته؛ لأنهم يعلمون توفره على الصلوات ولزوم الجماعة وتهاونه بها. ويسألان عنه في سوقه؛ ليعرف كيف معاملته.
والحاكم بالخيار: بين أن يقول للذين بعثهم: اسألا فلانا وفلانا عنه، وبين أن يقول: اسألا عنه من شئتما من جيران منزله وجماعته وأهل سوقه.
ويكون المسؤولون عنه غير معروفين عند الشاهد والمشهود له والمشهود عليه؛ لأنهم إذا كانوا معروفين عند الشاهد والمشهود له.. ربما أعطاهم شيئا ليعدلوا الشاهد وهو غير عدل، وإذا عرفهم المشهود عليه.. ربما أرشاهم ليجرحوا له الشاهد وهو عدل.
ويكون المسؤولون عنه عدولا، وافري العقول، برآء من الشحناء فيما بينهم وبين الناس، بعداء من التعصب في نسب أو مذهب؛ لئلا يجرحوا عدلا ولا يعدلوا مجروحا.
والمستحب: أن لا يعرف بعضهم بعضا؛ لئلا يجمعهم الهوى على تعديل مجروح أو جرح عدل.

[مسألة ثبوت الجرح والتعديل بعدلين]
] : قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (ولا يثبت الجرح والتعديل إلا من اثنين) ، واختلف أصحابنا في تأويل هذا:
فقال أبو إسحاق: أراد: أن التعديل لا يحكم به إلا بشهادة اثنين من الجيران، ولا يحكم به بقول أصحاب المسائل؛ لأنه شهادة على شهادة، فلم يصح مع حضور شاهد الأصل.

(13/48)


فعلى هذا: إذا بعث الحاكم أصحاب المسائل للبحث عن حال الشاهد، فرجع واحد منهم وأخبر الحاكم بجرح الشاهد.. فإن الحاكم لا يتوقف عن الحكم بشهادة الشاهد، ويقول للمشهود له: زدني في شهودك. ولا يستحضر الحاكم الذي جرحه من الجيران ويسأله عنه؛ لأن الغرض معرفته بحال الشاهد دون فضيحته. هكذا حكي عن أبي إسحاق.
وقال الشيخ أبو حامد: والذي يجيء على قياس قوله: أنه لا يتوقف عن الحكم بشهادة الشاهد حتى يخبره بالجرح اثنان. وإن رجع واحد أو اثنان من أصحاب المسائل بعدالة الشاهد.. فإن الحاكم لا يحكم بعدالته بقولهما، ولكن يسألهما عن الذي عدله من الجيران، ويستدعي اثنين منهم ليشهدا على تعديله بلفظ الشهادة.
وقال أبو سعيد الإصطخري: بل أراد الشافعي: أن الجرح والتعديل يثبت بقول اثنين من أصحاب المسائل، وهو ظاهر النص؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ولا يقبل إلا من اثنين ويخفي من كل واحد منهما ما دفع إلى الآخر) . وهذا إنما يكون في أصحاب المسائل دون الجيران؛ لأن المزكي من الجيران لا يلزمه الحضور إلى الحاكم للتزكية، ولا يجوز للحاكم إجباره على ذلك، فجاز الحكم بقول أصحاب المسائل في ذلك.
فعلى هذا: إذا بعث الحاكم اثنين من أصحاب المسائل للسؤال عن الشاهد على ما مضى.. نظرت: فإن رجعا فأخبرا الحاكم بعدالته.. حكم بعدالته. وإن أخبراه بجرحه.. توقف عن الحكم بشهادته، ولا يظهر جرحه؛ لأنه ليس الغرض فضيحته، وإنما الغرض معرفة حاله، ولكن يقول للمشهود له: زدني في شهودك. وإن جاء أحدهما فأخبر بجرحه، وأخبر الآخر بتعديله.. لم يحكم بجرحه ولا بتعديله؛ لأن الجرح والتعديل لا يثبتان بقول واحد.
قال الشيخ أبو إسحاق: ويبعث ثالثا، فإن عاد بالجرح.. كملت بينة الجرح، وإن عاد بالتعديل.. كملت بينة التعديل.

(13/49)


وقال غيره من أصحابنا: يبعث آخرين، فإن عادا بالجرح.. ثبتت بينة الجرح وسقط التعديل. وإن عادا بالتعديل.. تمت بينة التعديل وسقط الجرح. وإن عاد أحدهما بالجرح والآخر بالتعديل.. قدمت بينة الجرح على بينة التعديل؛ لأن من شهد بالتعديل.. شهد بأمر ظاهر، ومن شهد بالجرح.. شهد بأمر باطن خفي على بينة التعديل، فقدمت شهادته، كما لو شهد شاهدان: أن لرجل على رجل دينارا، وشهد آخر: أنه قد قضاه ذلك الدين.. فإن بينة القضاء تقدم.
قال أصحابنا: ولا تقدم بينة التعديل على بينة الجرح إلا في مسألتين:
إحداهما: إذا شهد شاهدان على رجل بالجرح في بلد آخر، وانتقل ذلك الرجل إلى بلد آخر وشهد شاهدان على تعديله بالبلد الذي انتقل إليه.. فيقدم التعديل هاهنا؛ لأن العدالة هاهنا طارئة على الجرح، والتوبة ترفع المعصية.
الثانية: إذا شهد اثنان أنه زنى أو سرق، وشهد آخران أنه تاب من ذلك وحسنت حالته.. فإن العدالة هاهنا مقدمة؛ لأن التوبة رفعت المعصية.
واختلف أصحابنا في موضع الوجهين في اعتبار العدد في أصحاب المسائل:
فقال ابن الصباغ: الوجهان إذا عين الحاكم لهم من يسألونه، فأما إذا لم يعين لهم من يسألونه وإنما رد إليهم الأمر.. فإن العدد شرط فيهم وفيمن يسألونه، فلا يقبلا إلا من اثنين، فإن عادوا إليه فشهدوا بالجرح أو التعديل بشهادة أنفسهم، فيسمع ذلك من اثنين.
وقال سائر أصحابنا: لا فرق بين أن يعين لهم من يسألونه أو لا يعين لهم، فالحكم في اعتبار العدد فيهم على الوجهين. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (يجوز أن يكون المزكي واحدا) .
دليلنا: أنه إثبات صفة، فافتقر إلى العدد، كالحصانة في الزاني والمقذوف.

(13/50)


[فرع تفسير الجرح ضروري لقبوله]
] : ولا يقبل الجرح إلا مفسرا، فإن قال: هو مجروح أو فاسق.. لم يحكم بجرحه في ذلك.
وقال أبو حنيفة: (يحكم بجرحه) .
دليلنا: أن الناس مختلفون فيما يفسق به الإنسان وما يصير به مجروحا:
فمنهم من يقول: إن من شرب النبيذ مستحلا بشربه.. يفسق به، ومن وطئ في نكاح المتعة.. يصير به فاسقا.
ومنهم من قال: لا يفسق به، فلم يجز أن يقبل من الشاهد مطلقا؛ لجواز أن يكون قد اعتقد فسقه بشيء لا يرى الحاكم أنه يفسق به، والاعتماد على اجتهاد الحاكم.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولقد شهدت بعض من يعرف بالصلاح وهو يجرح رجلا فصرح بجرحه، وقيل له: بم جرحته؟ فقال: لا يخفى علي ما يجرح به الشهود، فألح عليه في ذلك، فقال: رأيته يبول قائما، فقيل: ما في ذلك؟ فقال: ينضح البول على ثيابه، فيصلي ولا يغسله، فقيل له: رأيته يصلي ولا يغسله؟ فقال: أراه يفعل ذلك) . فدل على أنه لا بد من ذكر السبب.
إذا ثبت هذا: فسئل الجارح عن سبب الجرح، فذكر أن الشاهد زنى.. لم يكن قاذفا، سواء كان بلفظ الشهادة أو بغير لفظ الشهادة؛ لأنه لم يقصد بشهادته إثبات الزنى ولا إدخال المعرة عليه بالقذف، وإنما قصد بيان صفته عند الحاكم ليتبين للحاكم حكمه، فلم يجب عليه الحد.

[فرع الجرح بالمعاينة أو السماع]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يقبل الجرح إلا بالمعاينة أو بالسماع) . واختلف أصحابنا في تأويل هذا:

(13/51)


فقال الشيخ أبو حامد: تأويلها على قول أبي إسحاق: إن صاحب المسألة إذا أخبر الحاكم بالجرح.. لا يعتمد على قوله، ولكن يستدعى الذي جرح من الجيران فيسأله عن ذلك، ولا يقبل منه الجرح إلا أن يصف معاينة فيقول: رأيته يزني أو يشرب، أو: إلى السماع، فيقول: أقر عندي بذلك.
وأما على قول أبي سعيد: فإنه يعتمد على قول أصحاب المسائل في الجرح، فإذا شهد صاحب المسألة أنه زنى أو سرق أو غير ذلك.. لم يسأله الحاكم أنه شاهد ذلك منه أو سمعه، ولكن لا يجوز لصاحب المسألة أن يشهد بذلك إلا إذا شاهده يفعل ذلك، أو سمع ذلك مستفيضا في الناس أنه زان فاسق، فيجوز له أن يجرحه بذلك.
وقال ابن الصباغ: ليس للحاكم أن يسأل الشاهد إذا شهد بالجرح من أين شهد بذلك بل يسمع منه الشهادة لا غير، كما يسمع شهادته في سائر الأشياء. وقول الشافعي عائد إلى صاحب المسألة؛ فإنه لا يصير عالما إلا بمشاهدة منه لذلك أو بسماع متواتر، فإن لم يكن متواترا ولكن شاع في الناس.. فيجوز له أن يؤدي الشهادة مطلقا، كما يشهد بالموت والنسب. فأما إن كان بخبر الواحد والعشرة.. فلا يصير عالما بذلك لكنه يشهد عند الحاكم بما يسمع ويكون شاهد فرع والذي يسمع منه شاهد أصل، ولا يثبت شاهد الأصل إلا باثنين.
وذكر الشيخ أبو إسحاق: أنه يجوز أن يكون الذي يخبر أصحاب المسائل من الجيران واحدا إذا وقع في نفوسهم صدقه، ويجب أن يشهد أصحاب المسائل عند الحاكم على شروط الشهادة.

(13/52)


[فرع قبول عدالة الشاهد بقول المزكي]
: هو عدل لي وعلي] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يقبل التعديل حتى يقول: هو عدل علي ولي) . واختلف أصحابنا في هذا:
فقال أبو سعيد الإصطخري: يكفي أن يقول: هو عدل. وبه قال أبو علي الطبري وأهل العراق؛ لأن القصد إثبات عدالته عند الحاكم، وعدالته تثبت بذلك، وقول الشافعي: (علي ولي) تأكيدا لا شرطا.
وقال أكثر أصحابنا: إن قوله: (علي ولي) شرط في التعديل، واختلفوا في تعليله:
فقال أبو إسحاق: إن قوله: عدل لا ينبئ عن العدالة في كل شيء، بل يجوز أن يكون عدلا في شيء دون شيء، كما يجوز إذا قلت للإنسان: أنت صادق.. جاز أن يكون صادقا في شيء دون شيء، فإذا قال: عدل علي ولي.. ثبتت عدالته على الإطلاق.
ومنهم من قال: لأن التزكية لا تقبل إلا ممن تقبل شهادته له، ولا تقبل من الولد والوالد. وكذلك الشهادة بالجرح، لا تقبل إلا ممن تقبل شهادته عليه ولا تقبل من العدو. فأما إذا قال: عدل علي ولي.. انتفى بذلك أن يكون بينهما ولادة أو عداوة.
وهذا أشبه؛ لأن من كان عدلا في شيء دون شيء لا يوصف بالعدالة ولا يفتقر في التعديل إلى ذكر السبب الذي صار به عدلا؛ لأن أسبابها في الظاهر والباطن لا تنضبط.
فإن قال المزكي: لا أعلم منه إلا خيرا.. لم تحصل بذلك التزكية. وحكي عن أبي يوسف: أن التزكية تحصل بذلك.
دليلنا: أنه لم يصرح بالعدالة، فلا يكون تعديلا، كما لو قال: أعلم فيه خيرا.

(13/53)


ولا يقبل التعديل إلا ممن له خبرة باطنة وخبرة طويلة بالشاهد؛ لأن المقصود معرفة حال الشاهد في الباطن، وذلك لا يدركه إلا من خبر باطنه وطالت خبرته به، فأما من يعرفه في شهر أو شهرين.. فلا يقبل منه التعديل؛ لأنه ربما يكون قد تقدم منه فسق لم يعرفه، فلم يقبل تزكيته.
وأما الشهادة بالجرح: فتقبل ممن يخبر باطنه وممن لا يخبر باطنه؛ لأن الجرح يحصل بفعل واحد، فإذا علمه.. جرح به.

[فرع الجهر بتزكية الشاهد بعد السؤال عنه سرا]
فرع: [طلب الحاكم الجهر بتزكية الشاهد بعد السؤال عنه سرا] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ويسأل عمن جهل عدالته سرا، فإذا عدل.. سأل عن تعديله علانية؛ ليعلم أن المعدل سرا هو هذا؛ لئلا يوافق اسمه اسما) . واختلف أصحابنا في تأويل هذا على حسب اختلافهم في المزكين:
فقال أبو إسحاق: أراد به: أن أصحاب المسائل إذا أخبروا الحاكم بعدالة الشاهد سرا.. لا يقتصر على ذلك، بل يحضر المزكين من الجيران ويقول لهم: هذا الذي سألناكم عن عدالته، فيخبروه عن عدالته جهرا؛ لئلا يوافق اسمه اسما آخر ونسبه نسبا آخر.
وقال أبو سعيد الإصطخري: وأراد بذلك: أن أصحاب المسائل إذا أخبروا الحاكم بعدالة الشاهد سرا.. سألهم عن عدالته جهرا.
وإن ادعى رجل على رجل حقا فأنكره، فشهد له بذلك شاهد مجهول الحال عند الحاكم، فقال المشهود عليه: هو عدل.. فهل يجوز للحاكم أن يحكم عليه بشهادته؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأن البحث عن عدالته لحق المشهود عليه، وقد شهد له بالعدالة.
والثاني: لا يجوز أن يحكم بشهادته حتى يبحث عن عدالته؛ لأن اعتبار العدالة في الشهادة حق لله تعالى؛ ولهذا: لو رضي المشهود عليه بالحكم عليه بشهادة الفاسق..

(13/54)


لم يجز للحاكم أن يحكم بذلك. ولأن الحكم بشهادته حكم بتعديله، والتعديل لا يثبت بقول واحد منهما.
وإن عرف الحاكم عدالة الشاهد في وقت ثم شهد عنده بعد ذلك.. نظرت:
فإن كان بينهما مدة قريبة، كاليوم واليومين والثلاث.. فإنه يحكم بشهادته ولا يفتقر إلى السؤال عنه؛ لأن عدالته لا تتغير في مثل ذلك، والأصل بقاؤها إلى أن يعلم خلافها. وإن مضى له مدة طويلة.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: يحكم بشهادته ولا يسأل عن حالته؛ لأن عدالته قد ثبتت، والأصل بقاؤها إلى أن يعلم خلافها.
[والثاني] : قال أبو إسحاق: لا يحكم بشهادته حتى يسأل عن عدالته؛ لأن مع طول الزمان قد يتغير الحال.
فعلى هذا: ليس له حد مقدر، ولكن يرجع في ذلك إلى العرف والعادة في كل مدة يجوز أن يتغير حال الإنسان فيها.
وحكى أبو إسحاق: أن بعض الناس قال: يسأل عنه في كل ستة أشهر. وليس هذا مذهبنا، ولكن على ما يراه الحاكم.

[فرع شهادة المسافرين]
] : وإن شهد مسافران عند الحاكم بشهادة وهو لا يعرفهما.. لم يحكم بشهادتهما حتى يزكيهما رجلان من أهل الرفقة، أو من أهل البلد ممن يعرفهما الحاكم.
وقال مالك: (إذا رأى الحاكم فيهما سيماء الخير.. حكم بشهادتهما وإن لم يعرف عدالتهما في الباطن ولا زكاهما من يعرفهما) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] [البقرة: 282] ومن لا يعرف عدالته غير مرضي. ولأن عدالتهما في الباطن مجهولة عند الحاكم، فلم يصح الحكم بشهادتهما، كشاهدي الحضر.

(13/55)


[مسألة حضور أهل الفقه عند القاضي لمشاورتهم]
] : والمستحب: أن يكون بحضرة القاضي قوم من أهل الفقه من أهل مذهبه وغيرهم، حتى إذا حدثت حادثة.. ألقاها عليهم؛ ليذكر كل واحد منهم ما عنده فيها فيسهل عليه الاجتهاد فيها إذا سمع حجتهم. وهو بالخيار: إن شاء.. أقعدهم معه في مجلسه، وإن شاء.. أقعدهم بالقرب من مجلسه حتى إذا احتاجهم.. استدعاهم. فإن حكم بحكم لم يشاورهم فيه.. فليس لأحد منهم أن ينكر عليه؛ لأنه افتيات عليه، إلا أن يحكم بما يخالف نص الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس الجلي.
وإذا أراد الحاكم أن يحكم بشيء، فإن كان أمرا واضحا لا يحتاج فيه إلى الاجتهاد؛ مثل الحكم الذي دل عليه النص: وهو الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس الجلي.. فإنه يحكم به ولا يشاور به من بحضرته من الفقهاء؛ لأنه لا يحتمل إلا معنى واحدا، فلم يحتج فيه إلى المشاورة. وإن كان يحتاج فيه إلى الاجتهاد.. فالمستحب له: أن يشاور فيه من بحضرته من الفقهاء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] قال الحسن: إن كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لغنيا عن مشاورتهم ولكن أراد: أن يستن الحكام بعده بذلك، ولم يرد أنه يشاورهم في الشرع:؛ لأن الشرع يؤخذ منه، وإنما أراد أن يشاورهم في تدبير الحرب. وقَوْله تَعَالَى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شاور الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في أسارى

(13/56)


بدر، فقال بعضهم: يقتلون، وقال بعضهم: يفادون» . و: «شاور أهل المدينة يوم الخندق فيما قاله مالك بن عوف» . و: (شاور أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في الجدة) . و: (شاورهم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في الجنين) . ولأن الإنسان لا يحيط علما بالشرع كله، وإنما يعلم البعض، وقد يخفى عليه البعض، فربما ذكر له من يستشيره ما يخفى عليه منه.
ولا يستحب له أن يشاور إلا من بلغ درجة الاجتهاد في الفقه؛ لأن القصد معرفة الأدلة، وهذا لا يدركه إلا من بلغ مبلغ الاجتهاد.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويشاور الموافق والمخالف، ويذكر كل واحد ما عنده فيها من المذهب والدليل؛ ليسهل عليه الاجتهاد) .
وإذا شاور من عنده، وذكروا ما عندهم.. نظرت:
فإن اتفق اجتهاد الحاكم واجتهادهم.. حكم بذلك ولا كلام. وإن أداه اجتهاده إلى خلاف ما أداهم اجتهادهم إليه.. حكم بما أداه اجتهاده إليه، وليس لهم أن يعترضوا عليه؛ لأن في ذلك افتئاتا عليه.
وإن لم يؤد اجتهاده إلى شيء.، فإن كان الوقت ضيقا وخاف فوات الحكم إن اشتغل بالاجتهاد؛ بأن تحاكم إليه مسافران وخاف إن اشتغل بالاجتهاد فوات الرفقة.. فهل يجوز له أن يقلد غيره؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو العباس: يجوز له أن يقلد غيره ويحكم بقوله.
[والثاني] : قال أكثر أصحابنا: لا يجوز.
وأصل هذا الاختلاف بينهم: في البصير إذا لم يعرف القبلة وضاق عليه الوقت.. هل له أن يقلد غيره؟ فإن كان الوقت واسعا.. فلا يجوز له أن يقلد غيره ويحكم به،

(13/57)


وكذلك: لا يجوز للعالم أن يقلد غيره فيما يعمل به ولا فيما يفتي به وإن كان من يقلده أعلم منه.
قال أبو حنيفة: (يجوز للحاكم أن يقلد غيره ويحكم به) ، وكذلك: (يجوز للعالم -عنده - أن يقلد غيره فيما يعمل به، ولا يجوز له أن يقلد غيره ليفتي به) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] [النساء: 59] ، فأمر بالرد عند الاختلاف إلى الكتاب والسنة، فمن قال: إنه يرد إلى التقليد.. فقد خالف ظاهر الآية. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: " بم تقضي؟ " قال: بكتاب الله، قال: " فإن لم تجد؟ " قال: بسنة رسول الله، قال: " فإن لم تجد؟ " قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فقال: " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله» ولم

(13/58)


يذكر التقليد. ولأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قد اختلفوا في مسائل كثيرة، فما روي أن أحدا منهم قلد أحدا. ولأن كل واحد منهم معه آلة للاجتهاد، فلم يجز لأحدهم تقليد الآخر، كالعالم والعامي في معرفة الله تعالى.

[مسألة الاجتهاد في الأصول والفروع وأقوال العلماء في تعدد الحق فيهما]
] : إذا اجتهد اثنان أو أكثر في حادثة، فأدى كل واحد منهم اجتهاده إلى خلاف ما أدى الآخر اجتهاده إليه.. نظرت: فإن كان ذلك في أصول الدين؛ مثل الرؤية، وخلق القرآن، وخلق الأفعال، وما أشبه ذلك.. فإن الحق في واحد من الأقوال؛ لأن الله تعالى قد نصب دليلا عليها كلف المجتهد إصابته، فإن أخطأه.. كان مذموما عند الله، وبه قال عامة أهل العلم.
وقال عبيد الله بن الحسن العنبري: كل مجتهد في ذلك مصيب. وهذا خطأ؛ لأن الخلاف في ذلك يعود إلى الاعتقاد، ولا يجوز أن يعتقد اثنان في شيء واحد اعتقادين مختلفين ويكونا مصيبين.
وإن كان في الفروع.. اختلف أهل العلم فيه على ثلاثة مذاهب:

(13/59)


فـ[الأول] : منهم من قال: الحق عند الله في واحد من الأقوال وقد نصب الله عليه دليلا وأمر بالتوصل إليه والنظر فيه، فمن أداه اجتهاده إليه.. كان مصيبا عند الله ومصيبا في الحكم، وله أجران: أجر لاجتهاده وأجر لإصابته الحق. وإن أخطأه.. كان مخطئا عند الله مخطئا في الحكم، إلا أنه لا يأثم وله أجر. وبه قال مالك وجماعة من أهل العلم.
و [المذهب الثاني] : منهم من قال: الحق عند الله تعالى في واحد من الأقوال، فمن أداه اجتهاده إليه.. كان مصيبا عند الله في الحكم، وله أجران. فإن أخطأه.. كان مخطئا عند الله ومصيبا في الحكم وذلك فرضه وله أجر عليه. وبه قال أبو حنيفة وأهل العراق.
و [المذهب الثالث] : منهم من قال: كل مجتهد مصيب، والحق في قول كل واحد من المجتهدين، وفرض كل واحد من المجتهدين ما يغلب على ظنه ويؤديه إليه اجتهاده. وبه قالت الأشعرية والمعتزلة وأكثر المتكلمين.
واختلف أصحابنا في حكاية مذهب الشافعي في ذلك:
فذهب أبو إسحاق المروزي، والقاضي أبو الطيب، وأكثر أصحابنا: إلى أن مذهبه هو الأول، قولا واحدا.
ومنهم من قال: بل له في ذلك قولان:
أحدهما: أن الحق عند الله في واحد من الأقوال، إن أصابه.. كان مصيبا للحق عند الله وفي الحكم، وإن أخطأه.. كان مخطئا عند الله وفي الحكم، ولا إثم عليه.
والثاني: أن الحق عند الله في واحد من الأقوال، إن أصابه المجتهد.. كان مصيبا عند الله وفي الحكم، وإن أخطأه.. كان مخطئا عند الله مصيبا في الحكم.
واختار الشيخ أبو حامد هذا الطريق، قال: لأن للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - مسائل مثلها على قولين:
منها: إذا اجتهد في القبلة، فصلى إلى جهة، ثم تيقن بعد الفراغ منها أنه صلى إلى غير جهة القبلة.

(13/60)


ومنها: إذا اجتهد الأسير فصام شهرا، فبان أنه صام قبل شهر رمضان.
ومنها: إذا دفع الصدقة إلى من ظاهره الفقر، ثم بان أنه غني.
والمشهور من المذهب هو الأول؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] [الأنبياء: 79] .
وذلك: (أن غنما لقوم دخلت كرم قوم فأفسدته، فترافعوا إلى داود - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فقضى بالغنم لصاحب الكرم، فأخبر سليمان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بذلك، فقال: لا، ولكن يدفع الغنم إلى صاحب الكرم لينتفع بها ويدفع الكرم إلى مالك الغنم ليعمره، فإذا عاد إلى حالته.. رده إلى صاحبه، وردت الغنم إلى صاحبها، فبلغ ذلك داود، فرجع إليه، فأخبر الله سبحانه: أنه فهم القضاء سليمان. فلو كان الحق في قول كل واحد منهما.. لكان كل واحد منهما قد فهم القضاء) . وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب.. فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ.. فله أجر واحد» . فجعل أحدهما مصيبا والآخر مخطئا. ولأنه فاضل بينهما في الثواب، فدل على اختلافهما في الإصابة.
إذا ثبت هذا: فإن المخطئ يؤجر للخبر، وبماذا حصل له الأجر؟ فيه وجهان حكاهما أصحابنا العراقيون، وحكاهما الخراسانيون قولين:
أحدهما: أنه يؤجر على قصد الاجتهاد، كمن اشترى عبدا فأعتقه، فبان حرا.. فإن عتقه لم يقع موقعه ولكنه يؤجر على القصد، وكما لو رمى رجلان كافرا، فأصابه أحدهما.. فإن المصيب يؤجر للقصد والإصابة، والمخطئ يؤجر للقصد.
والثاني: أنه يؤجر للاجتهاد، كرجلين سلكا إلى الجامع أو إلى مكة طريقين بالاجتهاد، فضل أحدهما عن الطريق فلم يصل.. فإنه يؤجر على ما أتى به من الفعل. والأول أصح.

[مسألة تبين خطأ الحاكم بعد الحكم]
وإن حكم الحاكم بحكم، ثم بان أنه أخطأ في ذلك الحكم، أو رفع إليه حكم غيره، وبان أنه أخطأ في حكمه.. نظرت: فإن كان الحكم الأول مما لا يسوغ فيه

(13/61)


الاجتهاد؛ مثل أن يكون قد خالف نص الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس الجلي.. نقض الحكم الأول؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] [النساء: 59] . وأراد به الكتاب والسنة. وقَوْله تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] [المائدة: 49] . وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] [الشورى: 10] . وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من أدخل في ديننا ما ليس فيه.. فهو رد» . يعني: مردودا. وعن عمر: أنه قال: (ردوا الجهالات إلى السنة) ، وكتب إلى أبي موسى: (لا يمنعنك قضاء قضيت به، ثم إذا راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق؛ فإن الحق قديم لا يبطله شيء، وإن الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل) . وروي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان لا يورث المرأة من دية زوجها حتى قال له الضحاك بن قيس: «كتب إلي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها» . فرجع عمر. «وروي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يفضل دية الأصابع بعضها على بعض، فقيل له: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: في كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل. فرجع عن ذلك» .
فإن كان الحكم الأول مما يسوغ فيه الاجتهاد؛ بأن لم يخالف نص الكتاب أو السنة، أو إجماعا، أو قياسا جليا.. لم ينقضه على نفسه أو على غيره؛ لما روي: (أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حكم في مسائل باجتهاده، ثم خالفه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيها ولم ينقض ما حكم به أبو بكر) . وروي: أن عمر قال: (لا أشرك بين الإخوة من الأب والأم، وبين الإخوة من الأم، ثم شركهم، فقيل له في ذلك،

(13/62)


فقال: ذلك على ما قضينا وهذا على ما نقضي) . وروي عنه: (أنه قضى في الجد بسبعين قضية) ، وقيل: بمائة قضية، وكذلك روي عن علي ولا مخالف لهما في ذلك. ولأن الاجتهاد الثاني كالأول، فلو نقض الأول بالثاني.. أدى إلى أن لا يثبت حكم؛ لأنه قد يتغير الثاني إلى غيره.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : واختلف أصحابنا في مسائل لأبي حنيفة: هل ينقض الحكم فيها على أصحاب أبي حنيفة، منها: النكاح بلا ولي، والحكم ببيع أم الولد، وحصول اللعان بأكثر كلمات اللعان، وحيث قالوا: لا تقبل شهادة المحدود في القذف بعد التوبة، وقولهم: لا قصاص بين طرف الرجل والمرأة، وقولهم: لا يجب الحد بوطء الأم بالنكاح، وحكمهم بالشفعة للجار
فمن أصحابنا من قال: ينقض حكمهم في ذلك كله؛ لأن الخطأ ظاهر في ذلك بدليل قاطع من الكتاب والسنة.
ومنهم من قال: لا ينتقض حكمهم في ذلك؛ لأن الخطأ فيها إنما ظهر بقياس غير جلي.
وأما إذا بان له الخطأ في اجتهاده قبل أن ينفذ حكمه.. فلا يجوز أن يحكم بالاجتهاد الأول؛ لأنه يعتقده خطأ، فلا يجوز له الحكم به.

[مسألة لا يتعقب القاضي حكم الذي قبله]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وليس للقاضي أن يتعقب حكم من قبله) .
وجملة ذلك: أن القاضي إذا عزل وولي بعده قاض، فإن كان الأول لا يصلح للقضاء.. نقضت أحكامه كلها، أصاب فيها أو أخطأ؛ لأنه لا يصح حكمه.
وإن كان يصلح للقضاء.. فلا يجب على الثاني أن يتصفح أحكامه من غير متظلم؛ لأن الظاهر منها الصحة. وهل يجوز له أن يتصفحها من غير متظلم؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأن فيه احتياطا.
والثاني: لا يجوز؛ لأن فيه ضربا من التجسس.

(13/63)


فإن خالف وتصفحها ووجد فيه منتقضا.. قال ابن الصباغ: فإن كان يتعلق بحق الله؛ كالطلاق والعتاق.. نقضها؛ لأن النظر في حقوق الله تعالى إليه. وإن كان يتعلق بحق آدمي له عليه ولاية نقضها؛ لأنه لا مطالب له بحقه غيره. وإن كان يتعلق بحق آدمي لا ولاية له عليه.. لم يجز نقضه؛ لأنه لا يستوفى من غير مطالبة من له الحق.
وإن تظلم منه متظلم وسأل القاضي أن يحضره.. لم يجز للقاضي الثاني أن يحضره حتى يسأل المتظلم منه عن دعواه عليه؛ لأنه ربما لا يكون له عليه حق، وإنما قصد ابتذاله بالحضور، وللقاضي أعداء، فلم يجز إحضاره من غير تحقيق الدعوى.
وإن سأله عما يدعي عليه، فقال: غصب مني مالا، أو عليه لي دين، أو أخذ مني رشوة على حكم.. أحضره إلى مجلسه وحكم بينهما بذلك.
وإن قال: حكم علي بغير الحق، أو حكم علي بشهادة عبدين أو فاسقين.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه يحضره، كما لو قال: غصب مني مالا.
والثاني: لا يجوز له إحضاره حتى يقيم البينة بما ادعاه؛ لأن المحكوم عليه بذلك لا يتعذر عليه إقامة البينة عليه.
فإذا قلنا بهذا: فاختلف أصحابنا في كيفية الشهادة التي لا يجوز إحضاره إلا بها:
فمنهم من قال: لا يحضره حتى يقيم بينة على إقرار القاضي المعزول: أنه حكم عليه بغير حق، أو على حكمه بشهادة عبدين فاسقين؛ لأن من شرط البينة أن تكون موافقة للدعوى.
ومنهم من قال: إذا أقام بينة: أنه قضى عليه قضاء ما.. أحضره؛ لأنه يتعذر عليه إقامة البينة على ما زاد على ذلك.
فإن قلنا: لا يحتاج إلى البينة في إحضاره، أو قلنا: يجوز أن يحضره إذا أقام عليه بينة: أنه قضى عليه قضاء ما، فأحضره بذلك.. نظرت: فإن أقر: أنه حكم عليه

(13/64)


بغير حق، أو أقر: أنه حكم عليه بشهادة فاسقين أو عبدين.. لزمه الضمان. وإن أنكر فأقام المدعي بينة ذلك.. لزمه الضمان.
وإن قال: ما حكمت عليه إلا بشهادة حرين عدلين.. فالقول قول القاضي المعزول مع يمينه، وهل يقبل قول من غير يمين؟ فيه وجهان:
أحدهما -وهو قول أبي سعيد -: أنه يقبل قوله من غير يمين؛ لأن قوله: (قضى علي) إقرار له بالأمانة، والأمين إذا ادعيت عليه خيانة.. قبل قوله من غير يمين.
والثاني: لا يقبل قوله من غير يمين، وهو الأصح؛ لجواز أن يخاف من اليمين فيقر فيلزمه الغرم.
هذا مذهبنا: وقال أبو حنيفة: (إذا أقر أنه قضى عليه.. لزمه الضمان حتى يقيم البينة أنه قضى عليه بحق) .
دليلنا: أن قوله: (قضى علي) إقرار منه بالأمانة له، والأمين إذا ادعيت عليه خيانة.. كان القول قوله كالمودع.
وإن قال المدعي: جار علي في الحكم.. نظر الحاكم فيما حكم عليه به: فإن كان مما لا يسوغ فيه الاجتهاد.. نقضه. وإن كان مما يسوغ فيه الاجتهاد، فإن أدى الثاني اجتهاده إلى ما أدى الأول اجتهاده إليه.. نفذ حكمه وأمضاه. وإن أداه اجتهاده إلى خلاف ما أدى الأول اجتهاده إليه بعد.. ففيه قولان يأتي بيانهما.

[فرع الادعاء على القاضي المعزول بالقتل أو إخراج العقار ظلما]
] : قال ابن القاص: إذا ادعى رجل على القاضي المعزول: أنه قتل ابنه ظلما.. فإنه يستحضره ويسأله، فإن أقر.. حكم عليه بموجب إقراره، وإن أنكر فأقام عليه المدعي بينة.. حكم له، وإن لم يكن له بينة.. لم يستحلف القاضي المعزول.

(13/65)


قال ابن الصباغ: وهذه يجيء فيها الوجهان، كالوجهين في التي قبلها:
أحدهما: لا يحضره إلا ببينة.
والثاني: يحضره من غير بينة. وهل يحلف القاضي؟ على الوجهين في التي قبلها أيضا.
وإن قال المدعي: أخرج من يدي عقارا أو عينا فدفعها إلى فلان بغير حق، فقال المعزول: بل فعلت ذلك بحق.. كان القول قول المعزول بلا يمين.
وأما الذي في يده العقار أو العين، فإن صدق القاضي بأنه حكم له بذلك.. لم يقبل قوله من غير بينة. وهل يكون قول القاضي بعد عزله: حكمت له بذلك شهادة مقبولة؟ فيه وجهان:
أحدهما: تكون شهادته مقبولة؛ لأنه ليس فيه أكثر من أنه شهد على فعل نفسه بما لا يجز به إلى نفسه نفعا فقبل، كما لو شهدت المرضعة على إرضاعها.
والثاني: لا تكون شهادة مقبولة؛ لأن شهادته بالحكم تضمنت إثبات العدالة لنفسه، فلم يصح.
وإن قال الذي في يده العقار أو العين هذا ملكي.. لم يحكم لي به القاضي.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الظاهر مما في يده أنه يملكه.

[فرع شهدا على رجل بطلاق ونحوه فادعى كذبهما وطلب إحضارهما]
قال ابن الصباغ: إذا شهد شاهدان على رجل بعتاق أو طلاق أو حد، فادعى عليهما أنهما شهدا عليه في ذلك زورا وسأل إحضارهما.. فإنهما يحضران؛ لجواز أن يقرا فيلزمهما الغرم. فإذا حضرا، فإن أنكرا، فأقام المدعي عليهما البينة.. لزمهما الغرم، وإن لم يقم بينة بذلك.. فإنهما لا يستحلفان؛ لأن إحلافهما يطرق عليهما الدعوى في الشهادة والامتهان، وربما منع ذلك من إقامة الشهادة.

(13/66)


[مسألة آداب القضاء وهيئة القاضي]
] : وإذا أراد القاضي الخروج إلى مجلس حكمه.. فإنه يخرج راكبا إن كان له مركوب، وإن لم يكن له مركوب.. خرج ماشيا. ويستحب له أن يدعو بما روت أم سلمة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خرج من بيته.. قال: " اللهم إني أعوذ بك من [أن أضل أو أضل] أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي» .
ويسلم على من في طريقه من المسلمين في يمينه ويساره وبين يديه؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " يسلم الراكب على القائم والماشي، والقائم على القاعد، والماشي على القائم، والقليل على الكثير» .
فإذا بلغ إلى موضع حكمه، فإن كان قد سبق إليه قوم.. سلم عليهم؛ لما ذكرناه من الخبر. فإن لم يكن مسجدا.. لم تسن له الصلاة لتحيته، وإن كان مسجدا.. سن له أن يصلي ركعتين قبل أن يجلس. فإذا أراد أن يجلس.. بسط له بساط ليجلس عليه؛ لأنه أهيب له. ويجلس منفردا على الناس؛ ليهتدي إليه الخصوم.
ويستحب له أن يجلس مستقبل القبلة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير المجالس ما استقبل به القبلة» .

(13/67)


ويستحب أن يجلس وعليه السكينة والوقار؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلا متكئا على يساره، فقال: " هذه جلسة المغضوب عليهم» .
ويستحب أن يكون على رأسه محضر يقدم المتقدم من الخصوم، ويؤخؤ المتأخر، ويكون ثقة أمينا؛ لئلا يقدم المتأخر ويؤخر المتقدم. ويكون القمطر بين يديه مختوما؛ ليجعل فيه ما يجتمع من المحاضر والسجلات.
وإن كان له كاتب.. فهو بالخيار: إن شاء أجلسه عنده، وإن شاء أجلسه بالبعد منه. فإن أجلسه عنده.. فالمستحب: أن يجلسه بين يديه؛ لينظر ما يكتب ولا يحتاج أن يلتفت إليه. وإن أجلسه بالبعد منه وأقر الخصم.. بعثه إليه ليكتب إقراره.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ويكتب الحاكم اسم المقر؛ لئلا يجحد الإقرار عند الكاتب) .
قال أبو بكر الصيرفي: كنت عند بعض الحكام، فتقدم إليه خصمان، فادعى أحدهما على الآخر، فأقر المدعى عليه بذلك، فبعث بهما إلى الكاتب ليكتب إقرار المقر منهما، فلما حصلا عند الكاتب.. قال كل واحد منهما للآخر: أنت الذي أقررت، فردا إلى الحاكم، فلم يعرف عين المقر منهما، فضاع الحق المقر به.
ويستحب للقاضي أن يجمع الشهود في موضع قضائه، فإن قلنا: إن للقاضي أن يحكم بعلمه.. فهو بالخيار: إن شاء أجلسهم بحضرته، وإن شاء أجلسهم بالبعد منه حتى إذا احتاج إلى إشهادهم.. أحضرهم. وإن قلنا: ليس له أن يقضي بعلمه..

(13/68)


احتاج أن يجلسهم بالقرب منه ليسمعوا كلام المتخاصمين، فيحفظوا إقرار المقر منهما، فيشهدوا عليه إذا أنكر الإقرار.

[مسألة للقاضي النظر في المسجونين]
مسألة: [يستحب للقاضي النظر في المسجونين أو لا ثم الأهم فالأهم] : وإذا جلس القاضي في مجلس حكمه.. فالمستحب: أن يبدأ بالنظر في المحبسين؛ لأن الحبس عذاب، وربما يكون فيهم من يجب إطلاقه، فينفذ ثقة إلى حبس القاضي الذي كان قبله، ويكتب اسم كل محبوس ولمن حبسه وبماذا حبس في رقعة، ثم يأمر القاضي مناديا فينادي في البلد يومين أو ثلاثا على قدر البلد، فيقول المنادي: ألا إن فلان بن فلان القاضي يريد النظر في أمر المحبسين في موضع كذا وكذا، وفي وقت كذا وكذا، فمن كان له محبوس.. فليحضر ذلك الوقت. فإذا كان ذلك الوقت وحضر القاضي وحضر الناس.. ترك الرقاع التي فيها أسماء المحبسين بين يديه، ومد يده وأخذ واحدة منها ونظر اسم من فيها من المحبسين، وقال: من خصم فلان بن فلان؟ فإذا قال رجل: أنا.. بعث معه ثقة إلى الحبس فأخرج خصمه، ويفعل ذلك في قدر ما يعلم أنه يمكنه النظر بينهم في ذلك اليوم، فيخرجهم من الحبس ولا يخرج معهم غيرهم، وينظر فيهم الأول فالأول.
فإذا حضر المحبوس وخصمه.. فإن الحاكم لا يسأل خصم المحبوس بم حبسه؛ لأن الظاهر أنه حبسه بحق، ولكن يسأل المحبوس، فيقول له: بم حبست؟ فإن قال: حبست له بدين وأنا مقر علي به.. فإن الحاكم يقول له: اقضه دينه وإلا رددناك إلى الحبس.
فإن قال: حبست له بدين وأنا مقر به إلا أني معسر، فإن كان الدين قد ثبت عليه بعوض؛ مثل القرض أو البيع، أو ثبت عليه من غير عوض؛ كالمهر أو الجناية، إلا أنه قد عرف له مال.. لم يقبل قوله: إنه معسر من غير بينة؛ لأن الأصل بقاء المال في

(13/69)


يده. فإن لم يعرف له مال.. فالقول قوله مع يمينه: إنه معسر؛ لأن الأصل فيه الإعسار، فإذا حلف.. أمر القاضي من ينادي: هل له خصم غيره؟ فإذا كان له خصم يدعي عليه جناية أو حدا.. نظر بينهما، وإن لم يحضر له خصم.. أطلقه من غير استحلاف بأنه لا خصم له؛ لأن الظاهر أنه لا خصم له غيره.
وإن أقام خصمه بينة أن للمحبوس الدار الفلانية، فإن صدقه المحبوس.. فلا كلام، وإن قال: ليست لي، وإنما هي لغيري، ولم يعين المقر له.. لم يلتفت إلى إقراره وبيعت في الدين.
وكذلك إن قال: ليست لي ولا أدري لمن هي.. لم يلتفت إلى قوله وبيعت، وقضى صاحب الدين دينه من ثمنها.
وإن قال: هي لزيد.. نظرت: فإن كذبه زيد.. لم يلتفت إلى إقراره وبيعت، وقضى صاحب الدين دينه من ثمنها.
وإن ادعى زيد أنها له، فإن أقام زيد بينة أنها له.. حكم له بها؛ لأنه معه بينة وقد أقر له صاحب اليد -وهو المحبوس - باليد، فاجتمع له بينة ويد. فإن لم يكن مع زيد بينة. ففيه وجهان:
أحدهما: لا تباع في الدين، بل يحكم بها لزيد؛ لأن البينة شهدت بملكها للمحبوس وهو لا يدعيها، فلم يحكم له بها، وقبل إقراره بها لزيد؛ لأنها في يده.
والثاني: تباع في الدين؛ لأن البينة شهدت للمحبوس بالملك، وللخصم بقضاء الدين من ثمنها، فإذا أسقط المحبوس حقه.. بقي حق الخصم.
فإذا قلنا: تباع.. بيعت. أو قلنا: لا تباع.. فإنه ينادي عليه: هل له خصم آخر، فإن لم يحضر له خصم آخر.. أطلق من غير استحلاف.
فإن قال المحبوس: حبست في حق واجب في بدني، إما قصاص أو حد.. فيستوفى

(13/70)


ذلك الحق منه، ثم ينادى عليه: هل له خصم آخر، فإن لم يحضر له خصم آخر.. خلي من غير استخلاف.
وإن قال المحبوس: حبست بحق شهد به علي شاهدان لم تثبت عدالتهما، فإن قلنا: يجوز حبسه لذلك.. رده إلى الحبس إلى أن يكشف عن عدالة الشاهدين. وإن قلنا لا يجوز حبسه لذلك.. أمر من ينادي عليه: هل له خصم، فإن لم يحضر له خصم.. خلاه.
وإن قال المحبوس: حبسني بقيمة كلب قتلته عليه على قول مالك، أو بقية خمر أتلفتها على ذمي على مذهب أبي حنيفة. فإن أدى هذا الحاكم اجتهاده إلى ما أدى الأول اجتهاده إليه في ذلك.. أنفذ حكم الأول وأمضاه. وإن كان أداه اجتهاده إلى خلاف اجتهاد الأول في ذلك.. فالحكم في هذا كالحكم في القاضي إذا تصفح حكم القاضي قبله فوجد في حكمه ما يسوغ فيه الاجتهاد وخالف اجتهاده اجتهاده، وفي ذلك قولان:
أحدهما: يمضي حكم الأول؛ لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله.
والثاني: لا يمضيه؛ لأنه يعتقد بطلانه، ولا ينقضه؛ لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله، ولكن يتوقف فيه ويجتهد أن يصطلحا بينهما.
وعلى القولين يرد المحبوس إلى الحبس.
وإذا قال المحبوس: حبست لغير خصم.. فإن الحاكم يأمر مناديا ينادي: من كان خصما لفلان بن فلان فليحضر، فإن حضر رجل وقال: أنا خصمه وحبس لي، فإن أقر المحبوس بذلك.. نظر بينهما على ما مضى، وإن أنكر وقال: لست بخصم له ولا أعرفه، فإن كان مع المدعي بينة تشهد أنه حبس بحقه.. كان الجواب على ما مضى. وإن لم يكن معه بينة.. قيل للمدعي: ادع عليه الآن، ويحكم الحاكم بينهما.

(13/71)


وإن لم يظهر له خصم.. لم يطلقه الحاكم من الحبس حتى يحلفه: أنه لم يحبس لخصم له عليه حق؛ لأن الظاهر أنه لم يحبسه إلا بحق عليه.
فإذا فرغ الحاكم من النظر في أمر المحبسين.. نظر في أمر الأوصياء؛ لأنهم ينظرون في أمر من لا يمكنه أن يطالب بحقه.. فيستدعي الوصي ويسأله عن وصيته، فإن أقام بينة أن الحاكم الأول قد أنفذ الوصية إليه.. لم يعزله ولم يسأل عن حاله؛ لأن الظاهر أنه لم ينفذ الوصية إليه إلا وهو ممن يصلح أن يكون وصيا، إلا أن يظهر فسقه فيعزله؛ لأن العدالة شرط في الوصي.. وإن كان عدلا ضعيفا.. ضم إليه الحاكم عدلا أمينا لينظر معه.
فإن لم يقم البينة أن الأول أنفذ الوصية إليه، إلا أنه قد أقام البينة على أن الوصية إليه.. نظر الحاكم فيه: فإن كان عدلا قويا.. أنفذ الوصية إليه، وإن كان فاسقا.. عزله وجعل الأمر إلى عدل قوي، وإن كان عدلا ضعيفا.. ضم إليه غيره. وإن كان قويا ولم يثبت عنده فسقه ولا عدالته.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: يقر المال في يده؛ لأن الظاهر منه أنه لما أوصي إليه أنه عدل أمين.
و [الثاني] : قال أبو إسحاق: ينزع المال من يده حتى يعلم عدالته؛ لأن الذي رضيه ليس بحاكم يسكن إلى فعله، والأصل عدم العدالة حتى تعلم.
وإن ادعى رجل: أن فلانا أوصى له بالنظر في أولاده، ولم يقم على ذلك بينة.. لم يقبل قوله؛ لأن الأصل عدم الوصية إليه. فإن كان عدلا قويا.. فالأولى للحاكم أن يجعل أمرهم إليه؛ لجواز أن يكون قد أوصى إليه بهم. وإن جعل أمرهم إلى غيره.. جاز.
وكذلك: إذا قامت بينة عند الحاكم أن رجلا أوصى بتفرقة ثلث ماله إليه، وادعى

(13/72)


آخر: أنه أوصى إليه بذلك ولم يقم بينة على ذلك.. فهو كما لو ادعى: أنه أوصى إليه بالنظر في أولاده الصغار، ولم يقم بينة على ذلك على ما مضى.
وإن ادعى فاسق: أن رجلا أوصى إليه بدفع شيء من ماله إلى قوم، فدفعه إليهم، وأقام بينة على ذلك.. نظرت: فإن كانت الوصية لقوم معينين وقد وصل إليهم ما وصى لهم به وهم من أهل القبض.. صح الدفع إليهم، ولا ضمان عليه؛ لأن المقصود وصول ذلك إليهم وقد وصل. وكذلك لو أخذهم الموصى لهم بأنفسهم.. صح قبضهم.
وإن كانت الوصية لغير معينين؛ مثل: أن أوصى للفقراء والمساكين، فأوصل إليهم.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: لا يلزمه الضمان؛ لأنه دفع المال إلى مستحقه، فأشبه إذا كانت الوصية لمعينين.
والثاني - وهو المشهور -: أنه يلزمه الضمان؛ لأن التفرقة على هؤلاء تفتقر إلى الاجتهاد، والفاسق ليس من أهل الاجتهاد، فإذا فرق.. لزمه الضمان.
قال ابن الصباغ: وإن أقام رجل البينة أن فلانا أوصى بثلث ماله ولم يوص إليه، لكنه فرقه خوفا عليه، فإن كانت الوصية لمعينين.. فلا ضمان عليه، وإن كان لغير معينين.. ففيه وجهان، ودليلهما ما مضى.
فإذا فرغ القاضي من النظر في أحوال الأوصياء.. نظر في أمر الأمناء -والأمين: من نصبه الحاكم لينظر أمر الأطفال والمجانين والسفهاء ويعرفه بيت المال - فمن كان منهم من أهل الولاية والنظر.. أقره، ومن علم فسقه.. عزله وأقام غيره مقامه، وإن عرف ضعفه مع عدالته.. ضم إليه غيره.
فإذا فرغ من النظر في ذلك.. نظر في اللقطة والضالة، فمن كانت عنده.. أمره بتعريفها إن اختار تملكها، وإن لم يختر تملكها.. أمر أمينا بقبضها وحفظها على صاحبها، فما خاف عليه التلف.. باعها وحفظ ثمنها، وما لا يخاف عليه التلف.. حفظه على صاحبه.

(13/73)


قال ابن الصباغ: وإن رأى أن يخلط الضالة بمال بيت المال، حتى إذا جاء صاحبها أعطاه قيمتها من بيت المال.. فعل.
ثم ينظر في الأوقاف العامة، وغير ذلك من المصالح، يبدأ الأهم فالأهم.
وبالله التوفيق

(13/74)


[باب ما على القاضي في الخصوم والشهود]
المستحب: للقاضي أن يقدم رجلا إلى مجلس حكمه، يكتب أسماء الحاضرين للدعوى، الأول فالأول. فإذا حضر القاضي وقد حضر هناك جماعة من الخصوم، أو حضروا بعد جلوسه في مجلس الحكم.. فإنه يقدم الأول في الحضور في الحكم؛ لأن له مزية بالسبق، والاعتبار بسبق المدعي في الحضور دون المدعى عليه؛ لأن الحق للمدعي.
وإن حضر مدعيان أو مدعون في وقت واحد، أو سبق بعضهم بعضا، وأشكل السابق منهم.. أقرع الحاكم بينهم، فمن خرجت له القرعة.. قدم. وإن شاء الحاكم.. كتب اسم كل واحد منهم في رقعة، وجعلها بين يديه مطوية، ومد يده إلى واحدة منها، فمن خرج اسمه.. قدمه في الحكم؛ لأنه لا مزية لبعضهم على بعض.
وإن ثبت التقديم لأحدهم بالسبق أو بالقرعة، فاختار من ثبت له التقديم أن يقدم غيره على نفسه.. جاز؛ لأن الحق له.
فإذا ثبت التقديم لواحد، فنظر الحاكم في خصومة بينه وبين رجل، فقال له المدعي: لي دعوى أخرى.. لم يسمع منه؛ لأنه قد قدمه لسبقه في خصومة، فيقدم من بعده، ويقول له: اجلس حتى إذا لم يبق أحد من الحاضرين.. نظرت في دعواك هذه. فإذا نظر فيهم واحدا بعد واحد، فقال الأخير -بعد أن نظر بينه وبين خصمه -: لي دعوى أخرى.. لم يسمع منه هذه الدعوى حتى يسمع الدعوى الثانية من الأول؛ لأنه قد سبق إليها، ثم يسمع الدعوى الثانية من الأخير. هذا ترتيب أصحابنا العراقيين.

(13/75)


وقال الخراسانيون: إذا ثبت التقديم لواحد وله خصمان.. لم يقدم إلا في الدعوى على أحدهما، ولا يمكن من الدعوى على الثاني حتى تخرج له القرعة الثانية، وإن أراد أن يدعي بالدعوى الثانية على الخصم الذي ادعى عليه بالأولى.. فهل يمكن منها قبل خروج القرعة له ثانيا؟ فيه وجهان.

[مسألة حضر مسافرون ومقيمون عند القاضي أو نساء ورجال]
] : وإن حضر عند القاضي مسافرون ومقيمون للحكم.. نظرت: فإن سبق المسافرون.. قدمهم لسبقهم.
وإن حضر المسافرون والمقيمون في وقت واحد، فإن كان المسافرون قليلين لا يدخل على المقيمين ضرر بتقديمهم وهم على الخروج.. جاز للحاكم أن يقدمهم على المقيمين. وحكى الشيخ أبو إسحاق وجها آخر: أنه لا يجوز له تقديمهم إلا برضا المقيمين؛ لتساويهم في الحضور.
والأول هو المنصوص؛ لأن الله تعالى خص المسافرين بالتخفيف في العبادة، فجاز للحاكم تقديمهم.
قال ابن الصباغ: وإن سبق المقيمون المسافرين في الحضور، والمسافرون قليلون.. جاز للحاكم تقديم المسافرين؛ لما ذكرناه.
وإن كان المسافرون كثيرون يساوون أهل البلد أو يزيدون عليهم.. لم يجز للحاكم تقديمهم على المقيمين؛ لأن على المقيمين ضررا بتقديمهم عليهم.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : وكذلك إذا حضر رجال ونساء في وقت واحد.. جاز للحاكم أن يقدم النساء على الرجال.

(13/76)


[فرع سبق أحد الخصمين في الدعوى أو ادعاؤهما دفعة واحدة]
] : فإن حضر خصمان عند القاضي، فادعى أحدهما على الآخر بدعوى، فقال المدعى عليه: أنا الذي أحضرته لأدعي عليه.. قدم السابق بالدعوى؛ لأنه قد ثبت له السبق بالدعوى، فإن أجاب عن دعواه.. كان له أن يدعي عليه.
وإن حضر خصمان وادعى كل واحد منهما على الآخر دفعة واحدة.. فقد حكى ابن المنذر اختلاف الناس فيه:
فمنهم من قال: يقرع بينهما.
ومنهم من قال: يقدم الحاكم من شاء.
ومنهم من قال: يصرفهما الحاكم إلى أن يصطلحا.
ومنهم من قال: يسمع منهما، ويحلف كل واحد منهما: أنه سبق صاحبه.
قال الشيخ أبو حامد: ولا نص فيها، والذي يجيء على أصلنا: أنه يقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر، فأقرع بينهما، كما لو جاءا في وقت واحد.

[مسألة تسوية الحاكم بين الخصمين]
] : ويسوي الحاكم بين الخصمين في دخولهما عليه، فلا يقدم أحدهما على الآخر في الدخول عليه للحكم، وفي الإقبال عليهما، ورد السلام، والاستماع منهما، ولا يرفع صوته على أحدهم دون الآخر؛ لما روت أم سلمة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ابتلي منكم بالقضاء بين المسلمين.. فليسو بين الخصمين في المجلس، والكلام، والإشارة، والنظر، ولا يرفع صوته على أحد الخصمين دون الآخر» .

(13/77)


وروي: أن عمر كتب إلى أبي موسى الأشعري: (آس بين الناس في مجلسك ووجهك وعدلك؛ حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك) . وروي: (أنه كان بين عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وبين أبي بن كعب حكومة، فترافعا إلى زيد بن ثابت ليحكم بينهما، فقال زيد: لو أمرنا أمير المؤمنين لأتيناه، فقال عمر: (في بيته يؤتى الحكم، فأومأ زيد إلى مخدة، فقال عمر: هذا جور! سو بيننا في المجلس، فلما توجهت اليمين على عمر.. جعل زيد يشفع إلى أبي بن كعب ويقول: لو عفوت عن أمير المؤمنين عن اليمين، فقال عمر: ما تدري ما القضاء حتى تسوي بين الخصمين) . ولا مخالف له، ولأنه إذا قدم أحدهما عن الآخر بشيء من ذلك.. انكسر قلب الآخر، وربما عجز بذلك عن إيراد حجته.
فإن كان الخصمان مسلمين أو كافرين.. أجلسهما بين يديه؛ لما روى ابن الزبير: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى أن يقعد الخصمان بين يدي القاضي» . ولأنه أمكن للقاضي في الإقبال عليهما.
وإن كان أحدهما مسلما والآخر كافرا.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق والمسعودي [في " الإبانة "] :
أحدهما: يسوي بينهما في المجلس كما يسوي بينهما في دخولهما عليه وإقباله عليهما.
والثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد والصباغ غيره -: أنه يرفع المسلم عليه في المجلس؛ لما روي: أن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رأى درعه مع يهودي، فقال: هذه درعي، سقطت مني يوم الجمل، فقال اليهودي: درعي وفي يدي، فترافعا إلى شريح ليحكم بينهما، فلما رآه شريح.. قام من مجلسه وأجلسه فيه،

(13/78)


وجلس شريح مع اليهودي بين يديه، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لولا أني سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تسووا بينهما في المجلس، ولا تعودوا مرضاهم، ولا تشيعوا جنائزهم، واضطروهم إلى أضيق الطرق» لجلست معه بين يديك.
إذا ثبت هذا: فاختلف أصحابنا في ذلك: واجب أو مستحب؟
فذكر الشيخ أبو حامد: أنه يجب على الحاكم أن يسوي بينهما في الدخول والإقبال والاستماع والمجلس؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (وينبغي للقاضي أن ينصف بين الخصمين في المدخل عليه للحكم والإنصات) .
وقال ابن الصباغ: هو مستحب غير واجب.

[فرع لا يضيف القاضي أحد الخصمين وغير ذلك مما فيه ميل لأحدهما ظاهر]
] : قال الشافعي: (ولا ينبغي أن يضيف الخصم دون خصمه) .
وجملة ذلك: أنه لا يجوز للقاضي أن يضيف أحد الخصمين دون الآخر؛ لما روي: أن رجلا ورد على علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فأقام عنده أياما، ثم إنه أدلى بخصومة -يعني: ذكر خصومة - فقال علي: ألك خصم؟ قال: نعم، قال: تحول عنا؛ فإني سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يضيف القاضي أحد الخصمين إلا ومعه خصمه» .

(13/79)


ولأنه إذا ضيف أحدهما.. انكسر قلب الآخر، وربما لا يمكنه استيفاء حجته.
ولا يسار أحدهما دون الآخر؛ لأن ذلك يكسر قلب الآخر.
ولا يجوز له أن يلقن أحدهما حجته؛ لأن عليه أن يسوي بينهما، وإذا لقن أحدهما الإقرار.. أضر به، وإن لقنه الإنكار.. أضر بخصمه الآخر.
وكذلك لا يجوز له أن يلقن الشاهد الامتناع من الشهادة إذا أراد أن يشهد؛ لأن فيه إضرارا بالمشهود له، ولا يلقنه الشهادة إذا رآه ممتنعا منها؛ لأن فيه إضرار بالمشهود عليه.
ويجوز للقاضي أن يدفع ما وجب على أحد الخصمين من مال نفسه؛ لأن في ذلك نفعا لهما، ويجوز له أن يشفع لأحدهما إلى الآخر بالإنظار أو بالإسقاط؛ لما روي: «أن بريرة لما أرادت أن تفسخ النكاح.. قال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لو راجعتيه؛ فإنه أبو ولدك " فقالت: أبأمرك يا رسول الله؟ قال: لا، إنما أنا شفيع» . فدل على: أنه يجوز للحاكم أن يشفع، وأن للمشفوع إليه أن يجيبه وله أن يرده، فلا ضرر عليه في ذلك.
ولا يجب على القاضي أن يسوي بين الخصمين في محبة القلب، بل لو أحب أحدهما ولم يظهر منه ذلك بقول ولا فعل.. لم يأثم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129] [النساء: 129] .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (أي: لا تتبعوا أفعالكم أهواءكم) .
وإذا ثبت هذا في النساء؛ لأنه لا يمكنه ذلك.. ثبت بين الخصمين مثله.

(13/80)


[فرع لا ينتهر القاضي أحد الخصمين أو كلاهما أو شاهدا إلا بحق]
] : ولا يجوز للقاضي أن ينتهر الخصمين أو أحدهما، ولا يصيح عليهما؛ لأنه إذا فعل ذلك.. انكسر قلب من انتهره، وربما منعه ذلك من استيفاء حجته.
فإن بان من أحد الخصمين لدد، وهو: الالتواء في الخصومة وشدة الخصومة، قال الله تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204] [البقرة: 204] ، وقال الله تعالى: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم: 97] [مريم: 97] ، وذلك بأن لا يستوي على وجهة واحدة؛ مثل: أن يسأل الحاكم أن يستحلف له خصمه، فلما استحلفه بعض اليمين.. قال له: اقطع اليمين، فلي بينة أقيمها، فانصرف، ثم عاد ورفعه ثانيا ولم يقم عليه بينة وما أشبه ذلك، فإذا فعل الخصم ذلك مرة.. نهاه الحاكم عن ذلك، فإن عاد إليه.. زجره بالكلام، فإن فعله ثالثا.. أدبه بالضرب أو بالحبس على ما يرى فيه من المصلحة.
فإن أغلظ الخصم للحاكم بالقول؛ مثل أن يقول: جرت علي في الحكم أو حكمت علي بغير حق وما أشبه ذلك.. فعلى الحاكم ما يرى فيه من المصلحة من تعزيره أو ترك تعزيره. فإن كان الخصم جاهلا يرى أن ترك تعزيره للعجز عنه.. عزره؛ لئلا ينبسط عليه بأكثر من ذلك. وإن كان عاقلا، إلا أنه أخطأ في ذلك.. زجره بالكلام.
ولا يتعنت شاهدا، وهو: أن الحاكم متى شهد عنده شاهدان وتوسم فيهما سيما الخير والعدالة.. لم يفرقهما، ولم يسألهما: أين شهدتما؟ ولا في أي موضع شهدتما؟.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا ينتهر شاهدا ولا يعنفه) . و (الانتهار) : أن

(13/81)


يصيح عليه، و (التعنيف) هو: أن يداخله في كلامه ويتعقبه في ألفاظه؛ لأن ذلك كله يكسر قلب الشاهد ويمنعه من إقامة الشهادة، وربما دعاه ذلك إلى ترك تحمل الشهادة خوفا من ذلك الأذى، فيؤدي إلى ضياع الحقوق.

[مسألة وجوب القدوم لدعوة القاضي وماذا لو استعدى إليه رجل]
؟] : إذا كان بين رجلين خصومة، ودعا أحدهما الآخر إلى مجلس الحاكم.. وجبت عليه الإجابة إلى الحكم ومدح من أجاب إلى الحكم، فقال: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور: 48] [النور: 48] . وقال: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51] [النور: 51] .
وإن استعدى رجل الحاكم على رجل في البلد.. وجب عليه أن يعديه، سواء بين دعواه أو لم يبين.
ومن أصحابنا من قال: إذا كان الرجل المستعدى عليه من أهل الصيانة والمروءة واستعدى عليه من يتهم أنه قصد ابتذاله بذلك.. لم يستحضر إلى مجلس الحاكم، لكن ينفذ إليه الحاكم من يحكم بينهما ويحلفه له إن وجبت له عليه يمين في مسجده أو منزله. والمشهور هو الأول، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (لا يعديه عليه إلا إذا علم أن بينهما معاملة) . وروي ذلك عن علي كرم الله وجهه.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» ، ولم يفرق بين أن يكون بينهما معاملة أو لا يكون بينهما معاملة. ولأنه قد يكون له عنده وديعة أو عارية جحدها، أو غصب منه شيئا، فوجب عليه أن يعديه عليه، كما لو علم بينهما معاملة.

(13/82)


والمستحب: أن يكون عند القاضي خواتم من طين على كل واحد منها مكتوب اسمه، أو: أجب القاضي فلانا، فيدفع إلى من استعداه خاتما من تلك الخواتم ليدفعه إلى الذي استعدى عليه، فإذا دفعه إليه.. وجب عليه أن يجيب معه للآية.
قال أبو العباس: فإذا حضر، فإن كان الرجل من أهل الصيانة والمروءة.. أدخله القاضي إلى داره وحكم بينهما هناك صيانة له. وإذا دفع إليه الختم وامتنع من الحضور أو كسر الختم.. بعث إليه القاضي عونا من أعوانه وسأله أن يحضر، فإن حضر، وإلا.. أرسل القاضي إلى صاحب الشرطة ليحضره، وإذا حضر.. سأل القاضي شاهدين على امتناعه عن الحضور أو على كسر الخاتم.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويسأل عن عدالتهما ويحقق السؤال، فإذا ثبت ذلك.. عزره على حسب ما يرى في حاله من الزجر بالكلام أو كشف العمامة أو الحبس أو الضرب) .
فإن اختفى على من يحضره.. بعث القاضي من ينادي على بابه ثلاثة أيام: أنه إن لم يحضر.. سمر بابه وختم عليه. ويستحب له: أن يجمع أماثل جيرانه ويشهدهم على إعدائه، فإن لم يحضر، وإلا.. سمر بابه وختمه.
وقال ابن القاص: ومذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يوكل عليه وكيلا بعد أن يبعث الحاكم من ينادي على بابه بحضرة شاهدي عدل: إن لم يحضر مع خصمه فلان بن فلان، وإلا.. وكل عليه. والمستحب: أنه يعزز إليه في ذلك ثلاثا، فإن لم يحضر.. وكل عليه وكيلا ليناظر عنه المدعي، فإن ثبت عليه حق ووجد له مالا.. قضاه منه. وإن كان الحق على بدنه وعرف له مكانا.. أمر القاضي بالاقتحام عليه،

(13/83)


فينفذ الخصيان والغلمان الذين لم يبلغوا والثقات من النساء، ويبعث معهم ذوي عدل من الرجال، فيدخل النساء والغلمان، فإذا حصلوا في صحن الدار.. دخل الرجال، ويؤمر الغلمان والنساء بالتفتيش عنه، والنساء يتفقدن النساء، فإذا وجد.. أخرج، وحكم عليه بما وجب عليه.
وأما إذا كان المستعدى عليه غائبا عن البلد، فإن كان في بلد ليس للقاضي المستعدى إليه ولاية عليها.. لم يجب عليه الإعداء عليه، بل لو أقام عليه المدعي البينة وحكم عليه القاضي.. كان حكما على غائب على ما يأتي بيانه.
وإن كان في بلد ولاية القاضي المستعدى إليه، فإن كان للحاكم في ذلك البلد خليفة.. لم يحضره بل يكتب إلى خليفته لينظر بينهما، فإن لم يكن هناك خليفة له، وهناك رجل من الرعية يصلح للقضاء ورأى القاضي أن يكتب إليه لينظر بينهما.. فعل. وإن أراد أن ينفذ من يحكم بينهما هناك.. فعل.
وإن لم يمكن شيء من ذلك وسأل الخصم إحضاره.. نظرت: فإن لم يحرر دعواه.. لم يجز له إحضاره؛ لجواز أن يدعي عليه بما لا حق عليه، مثل أن يقول: سعى بي إلى السلطان، أو يدعي عليه بالشفعة للجار، أو بقيمة كلب، والحاكم لا يرى وجوب ذلك. ويخالف الحاضر في البلد حيث قلنا: يلزمه أن يعديه عليه وإن لم يحرر الدعوى عليه؛ لأنه لا مشقة على من في البلد في الحضور، وعلى الغائب عن البلد مشقة في الحضور. وإن حرر دعوى صحيحة عليه.. وجب على القاضي أن يعديه عليه، سواء كانت المسافة بينهما قريبة أو بعيدة.
وقال أبو يوسف: لا يحضره إلا إذا كان يمكنه أن يحضر وينصرف في يومه.
وقال بعض الناس: لا يحضره إلا إذا كانت في مسافة يوم وليلة، ولا يحضره إذا كانت المسافة أكثر من ذلك.
وقال بعضهم: يحضره من مسافة ثلاثة أيام، ولا يحضره في مسافة أكثر من ذلك.

(13/84)


دليلنا: أنه إذا لم يكن هناك من يحكم بينهما.. ضاع الحق إذا لم يعده، فوجب عليه أن يعديه، كالمسافة المتفق عليها.

[فرع استعداء الرجل للحاكم على المرأة]
] : وإن استعدى رجل الحاكم على امرأة.. نظرت: فإن كانت برزة - وهي التي تخرج لحوائجها - فإن الحاكم يعدي عليها ويحضرها في مجلس الحكم ويحكم بينهما.
وإن كانت مخدرة - وهي التي لا تخرج لحوائجها - لم يكلفها الحاكم الحضور، بل يأمرها أن توكل من ينوب عنها في الخصومة، أو يبعث الحاكم من يحكم بينهما؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أن ترجم الغامدية وهي ظاهرة» ، «وأمر أنيسا أن يغدو على امرأة الرجل التي أقر عسيفه أنه زنى بها، وقال: " إن اعترفت فارجمها» . فأمر برجمها وهي غير ظاهرة، وإنما فرق بينهما؛ لأن الغامدية كانت برزة، والأخرى غير برزة.
وإن كانت المرأة غير برزة وحضر من يحكم بينها وبين خصمها، وكان الحاكم أو الخصم من غير ذوي رحمها.. فإنه يكون بينه وبينها سترة وتتكلم من ورائها. فإن اعترفت أنها خصمه.. حكم بينهما. وإن قال: ليست هذه خصمي، فإن شهد شاهدان أنها خصمه.. حكم بينهما. وإن لم يكن لها بينة.. كلفت أن تتلفح بإزارها وتخرج من وراء الستر؛ لأنه موضع حاجة.
والله أعلم

(13/85)


[باب صفة القضاء]
إذا حضر خصمان عند القاضي.. جاز للقاضي أن يقول لهما: تكلما أو يتكلم المدعي منكما، أو يقول ذلك القائم على بابه؛ لأنهما ربما هاباه من ابتداء الكلام. ولا يجوز أن يقول لأحدهما: تكلم؛ لأن في ذلك كسرا لقلب الآخر.
ويجوز له أن يسكت إلى أن يتكلم المدعي منهما؛ لأنهما ما حضرا إلا للكلام. فإذا ابتدأ أحدهما بالدعوى، فأراد الآخر أن يداخله بالكلام في حال كلامه.. منعه من ذلك؛ لأن المداخلة تمنع المدعي من بلوغ غرضه في الدعوى.
فإذا ادعى أحدهما على الآخر بدعوى، فإن كانت غير صحيحة.. قال له القاضي: صحح دعواك. وهل له أن يلقنه كيف يصححها؟ فيه وجهان:
أحدهما -وهو قول أبي سعيد الإصطخري -: يجوز له ذلك؛ لأنه لا ضرر على المدعى عليه في تصحيح الدعوى عليه.
والثاني - وهو المذهب -: أنه لا يجوز للقاضي ذلك؛ لأن قلب الآخر ينكسر بذلك.
وإن كانت الدعوى صحيحة، فإن لم يجبه المدعى عليه بعد الدعوى.. نظرت:
فإن قال المدعي للقاضي: كلفه الخروج عن دعواي.. قال له القاضي: أجب عن دعواه. وإن لم يسأله المدعي ذلك.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز له ذلك؛ لأن سؤال المدعى عليه حق للمدعي، فلا يستوفيه القاضي من غير إذنه.
والثاني: يجوز له ذلك، وهو المذهب؛ لأنه ما ادعى عليه إلا ليجيبه، فكان شاهد الحال يدل عليه.

(13/86)


فإن طولب بالجواب فأجاب، أو أجاب من غير مطالبة.. فلا يخلو: إما أن يقر أو ينكر.
فإن أقر بما ادعى عليه، فإن سأله المقر له أن يحكم له على المقر بما أقر له به.. حكم له بذلك. وإن لم يسأله ذلك.. لم يجز له أن يحكم له بذلك؛ لأن الحكم حق للمقر له، فلا يفعله بغير إذنه.
فإن أنكر المدعى عليه، فإن كان الحاكم يعلم أن المدعي لا يعلم أن هذا موضع إقامة البينة.. فإنه يقول له: ألك بينة تشهد لك عليه؟ وإن كان يعلم أن ذلك موضع إقامة البينة.. فله أن يقول له ذلك، وله أن يسكت.
وحكي: أنه كان بالبصرة شابان يتفقهان على مذهب الشافعي، وكان أول من تفقه فيها على مذهب الشافعي، فلما ولي عيسى بن أبان قضاء البصرة أراد أن يعرفاه بأنفسهما، فتواطآ على أن يدعي أحدهما على صاحبه شيئا بين يديه، فتقدما إليه وادعى أحدهما على الآخر حقا، فبادر عيسى بن أبان فقال للمدعى عليه: ما تقول فيما ادعاه عليك؟ فقال المدعي: ما سألتك أن تستفهم منه، وقال الآخر: أيها القاضي إن كان خصمي لم يسألك مطالبتي فلم تسألني؟ فقال للمدعي: أأسأله عما ادعيت؟ فقال: سله، فلما سأله.. قال: ليس له علي شيء، فقال عيسى بن أبان: قد أنكر، فقال المدعي: أنا أقرب إليه أيها القاضي! تعرفني شيئا أنا به خبير، فتحير عيسى، وقال: من أنتما؟ فقالا: نحن من أصحاب الشافعي ونتفقه على مذهبه، وإنما أردنا أن نعرف أنفسنا إليك لنعمل في ديوان الحكم، قال: فأحسن إليهما وقبلهما، وارتفع بذلك شأنهما عنده.
إذا ثبت هذا: فإن لم يكن للمدعي بينة، وكانت الدعوى في غير دم.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه؛ لما روى وائل بن حجر: «أن رجلا حضرميا ادعى على رجل من كندة أرضا في يده، فقال الكندي: أرضي وفي يدي أزرعها، لا حق له فيها، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحضرمي: " ألك بينة؟ "، فقال: لا، قال: " لك يمينه "،

(13/87)


فقال: إنه لا يبالي بما يحلف؛ لأنه لا يتورع عن شيء، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ليس لك إلا ذلك» . ولأن جنبة المدعى عليه هاهنا أقوى؛ لأن الأصل براءة ذمته، فكان القول قوله.
ولا يجوز للقاضي أن يحلفه إلا بسؤال المدعي؛ لأن الحق له فلا يستوفيه إلا بإذنه، فإن حلفه بغير إذنه.. لم يعتد بيمينه، وللمدعي أن يطالب بإعادة اليمين؛ لأنها لم تقع موقعها.
فإن قال المدعي للمدعى عليه: أبرأتك من اليمين.. سقط حقه منها في هذه الدعوى، وله أن يستأنف الدعوى، فإذا أنكره.. فله أن يحلفه، فإذا حلف له المدعى عليه.. سقطت عنه الدعوى في ظاهر الحكم، وإن نكل المدعى عليه عن اليمين.. لم يحكم عليه بنكوله بالحق المدعى به عليه، بل يرد اليمين على المدعي، فإذا حلف.. حكم له بما ادعاه. وبه قال الشعبي والنخعي.
وقال مالك: (إن كان ذلك الحق مما يقبل فيه الشاهد والمرأتان، أو الشاهد واليمين.. ردت اليمين على المدعي، وإن كانت مما لا يقبل فيه إلا الشاهدان.. لم ترد اليمين على المدعي، بل يحبس المدعى عليه حتى يقر أو يحلف) .
وقال أبو حنيفة: (إن كانت الدعوى في المال ونكل المدعى عليه عن اليمين.. كرر الحاكم عليه ثلاثا، فإن حلف، وإلا.. حكم عليه بنكوله، ولزمه المال. وإن كان في القصاص.. لم يحكم عليه بالقصاص بالنكول، بل يحبس حتى يقر أو يحلفه) .

(13/88)


وقال أبو يوسف: (يقضى عليه بالنكول بالدية) .
دليلنا -على فوات رد اليمين على المدعي -: قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} [المائدة: 108] [المائدة: 108] . وبالإجماع: أن اليمين لا ترد بعد اليمين، فثبت أن المراد بذلك: أن ترد أيمان بعد وحوب أيمان.
وروى زيد بن ثابت: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من طلب طلبة.. فالمطلوب أولى باليمين من الطالب» و (أولى) على وزن أفعل، وذلك موضوع في اللغة لاشتراك الشيئين في الحكم وانفراد أحدهما عن الآخر بمزية، فدل على أن الطالب والمطلوب شريكان في اليمين، وأن المطلوب أولى.
وروى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد اليمين على طالب الحق» .
وروي: (أن المقداد اقترض من عثمان دراهم، فقضاه أربعة آلاف درهم، فقال عثمان: إنما أخذت مني سبعة آلاف، فاختصما إلى عمر، فقال المقداد لعثمان: احلف أني أخذت سبعة آلاف، فقال عمر: إنه أنصفك، فامتنع عثمان عن اليمين، فلما ولى المقداد.. قال عثمان: والله إنه أخذ مني سبعة آلاف، فقال عمر: ما منعك أن تحلف؟ والله إن هذا القضيب بيدي، ووالله إن هذا ثوب! فقال عثمان: خشيت أن

(13/89)


توافق قدر بلاء فيقال: بيمينه) ، ولا مخالف لهم في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
والدليل -على أنه لا يقضي عليه بنكوله -: أنه نكول عن يمين، فلم يقض بالحق بالنكول عن اليمين كالنكول عن القصاص.
فإن امتنع المدعى عليه عن اليمين.. لم يسأل عن سبب امتناعه، بل ترد اليمين على المدعي؛ لأنه بامتناعه.. سقطت اليمين عن جنبته وصارت في جنبة المدعي.
وإن سأل المدعى عليه أن يمهل عن اليمين لينظر في حسابه.. أمهل ثلاثة أيام؛ لأن ذلك قريب.
وإذا نكل المدعى عليه عن اليمين، ثم بذل اليمين بعد ذلك.. لم يسمع منه ذلك؛ لأن حقه قد سقط منها.
وإن كان القاضي يعلم أن المدعي لا يعلم أن اليمين قد صارت في جنبته.. قال له: أتحلف وتستحق؟ وإن كان يعلم ذلك.. فله أن يقول له ذلك، وله أن يسكت عنه.
وإن حلف المدعي.. استحق ما ادعاه في ظاهر الحكم، كما تسقط الدعوى عن المدعى عليه إذا حلف في ظاهر الحكم.
فإن امتنع المدعي عن اليمين.. سئل عن سبب امتناعه، فإن قال: امتنعت؛ لأن لي بينة أقيمها، أو لأنظر في حسابي ثم أحلف.. ترك ما شاء؛ لأن الحق له، ولا تسقط اليمين عن جنبته، بل متى شاء.. حلف واستحق.
وإن قال: امتنعت لأني لا أختار أن أحلف.. سقطت اليمين عن جنبته، ولا يعود اليمين إليه إلا إن ادعى ثانيا ونكل المدعى عليه عن اليمين.
والفرق بينهما حيث قلنا: (إنه لا يسأل المدعى عليه عن سبب امتناعه ويسأل

(13/90)


المدعي) أن المدعى عليه إذا امتنع عن اليمين.. انتقلت اليمين إلى المدعي، ففي سؤاله إضرار بالمدعي، وإذا امتنع المدعي.. لم تنتقل اليمين إلى جنبة غيره، فلا ضرر في سؤاله على أحد.
وإن حلف المدعي عند نكول المدعى عليه.. ففي يمينه قولان:
أحدهما: يجري مجرى بينة يقيمها؛ لأنها حجة من جهته.
والثاني: يجري مجرى إقرار المدعى عليه، وهو الأصح؛ لأن اليمين إنما ترد لنكوله، فصارت يمين المدعي كإقرار المدعى عليه.

[مسألة ادعاء يثبت بشاهد ويمين]
وإن ادعى حقا يثبت بالشاهد واليمين، وأقام شاهدا، فإن حلف.. حكم له بما ادعاه.
وإن قال: لست أختار أن أحلف معه.. سقطت اليمين عن جنبته، وصارت في جنبة المدعى عليه، فإن أراد المدعي أن يحلف مع شاهده.. لم يكن له ذلك في هذا المجلس، إلا أن يتفرقا عن ذلك المجلس ويدعي عليه ثانيا وينكر، فله أن يقيم شاهده ويحلف معه؛ لأن يمينه قد سقطت في هذه الدعوى، فلم تعد إليه إلا في دعوى أخرى.
وإن انتقلت اليمين إلى جنبة المدعى عليه هاهنا.. نظرت:
فإن حلف.. سقطت عنه المطالبة، وإن نكل المدعى عليه عن اليمين.. لم يقض عليه بالنكول بالحق المدعى به عليه مع شاهد المدعي.
وقال مالك: (يقضي عليه هاهنا بنكوله بالحق المدعى به عليه مع شاهد المدعي) .

(13/91)


دليلنا: أن الشاهد معنى تقوى به جنبة المدعي، فلم يقض به مع نكول المدعى عليه كاللوث في القسامة.
وإذا ثبت هذا: فهل ترد اليمين على المدعي؟ فيه قولان:
أحدهما: لا ترد عليه؛ لأنها قد كانت في جنبته وقد أسقطها بالنكول، فلم ترد عليه، كما لو ادعى حقا ولا شاهد معه، فنكل المدعى عليه عن اليمين، فردت على المدعي، فنكل.. فإنها لا ترد على المدعى عليه.
فعلى هذا: يحبس المدعى عليه حتى يقر أو يحلف.
والثاني: ترد على المدعي، وهو الأصح؛ لأن هذه اليمين غير تلك اليمين التي نكل عنها؛ لأن تلك لقوة جنبته بالشاهد، وهذه لقوة جنبته بنكول المدعى عليه، ألا ترى أن تلك لا يقضى بها إلا في المال وما يقصد به المال، وهذه يقضى بها في جميع الحقوق؟

[مسألة لا يقضى بالنكول عن اليمين إلا في مسائل وبسبب مقدم]
] : قال ابن القاص: ولا يقضى بالنكول من غير يمين على قول الشافعي إلا في ست مسائل:
إحداهن: إن كان لرجل مال تجب فيه الزكاة، وحال عليه الحول، وجاء الساعي وطالب بزكاته، فقال رب المال: قد بعته ثم اشتريته ولم يتم عليه الحول.. فالقول قوله مع يمينه، فإن حلف.. برئ من الزكاة، وإن لم يحلف.. وجبت عليه الزكاة بنكوله.

(13/92)


الثانية: إذا كان له أربعون من الغنم، فحال عليها الحول، فجاء الساعي يطلب زكاتها، فقال: قد دفعتها إلى ساع غيرك، أو كان له ثمانون شاة في بلدين، فجاء الساعي يطلب منه الزكاة في بلد، فقال: قد دفعتها في البلد الآخر.. فالقول قوله مع يمينه، فإن حلف.. برئ من الزكاة، وإن نكل.. وجبت عليه الزكاة بنكوله.
الثالثة: إذا كان له ثمار فخرصت عليه وضمن الزكاة، فجاء الساعي يطلب منه الزكاة، فادعى رب المال أن الثمرة سرقت أو هي أقل مما خرصت.. فالقول قوله مع يمينه، فإن حلف.. سقطت عنه زكاة ما سرق وما نقص، وإن نكل.. وجبت عليه زكاة ذلك بنكوله.
الرابعة: إذا غاب رجل من أهل الذمة زمنا، ثم قدم بعد حؤول حوله، فطالبه الإمام بالجزية، فادعى أنه أسلم قبل الحول فسقطت عنه الجزية.. فالقول قوله مع يمينه، فإن حلف.. سقطت عنه. وإن نكل.. أخذت منه الجزية بنكوله.
الخامسة: إذا وقع في الأسر غلام مراهق من أولاد الكفار وكان قد أنبت، فادعى أنه إنما أنبت لمعالجة عالج بها نفسه وأنه لم يبلغ الآن.. فالقول قوله مع يمينه، فإن حلف.. حكم بأنه لم يبلغ وجعل في الذراري، وإن لم يحلف.. حكم عليه بنكوله أنه بالغ، فيجعل في المقاتلة.
السادسة -ولم يحكها الشيخ أبو حامد عنه -: إذا حضر القتال غلام مراهق من أولاد المسلمين، وذكر أنه بالغ فطلب سهمه مع المقاتلين.. حلف وأخذ، وإن نكل.. حكم عليه بالنكول أنه غير بالغ ولم يعط السهم.
قال أصحابنا: أما المسائل الأربعة الأولى.. فهل اليمين عليه فيها واجبة أو مستحبة؟ على وجهين:
أحدهما: أنها مستحبة، فإن لم يحلف.. فلا شيء عليه.

(13/93)


والثاني: أنها واجبة عليه، فإن حلف.. فلا شيء عليه، وإن نكل.. وجبت عليه الزكاة والجزية، ولم يجب عليه ذلك بالنكول كما قال ابن القاص، ولكن بالظاهر المتقدم وهو سبب الوجوب للزكاة والجزية، كما أن الزوج إذا قذف زوجته.. وجب عليه الحد، فإن لاعن.. سقط عنه الحد، وإن نكل.. وجب عليه الحد لا بالنكول ولكن بالقذف المتقدم.
وأما المسألة الخامسة: فقال الشيخ أبو حامد: اليمين واجبة فيها وجها واحدا؛ لأن دعواه تخالف الظاهر، فإن حلف.. حكم بأنه لم يبلغ، وإن لم يحلف.. حكم ببلوغه لا بالنكول ولكن بالظاهر المتقدم، وهو: أن الظاهر أن الشعر ينبت من غير علاج.
قال أبو علي السنجي: وفيه وجه آخر: أنه لا يجوز قتله حتى يتحقق بلوغه.
قال أبو علي: وفي تحليفه شيء؛ لأن اليمين إنما تصح من البالغ، فكيف يثبت بيمينه صغره وسقوط القتل عنه إذا حلف؟ قال: ولعله إنما حلف؛ لأن معه أمارة تدل على بلوغه في الظاهر، وهو: الإنبات، فلا يكون كمن ادعى على مراهق شيئا، وادعى المراهق أنه غير بالغ.. لم يجز إحلافه إذ لا دليل على بلوغه.
وأما المسألة السادسة: فمن أصحابنا من خالفه وقال: إذا ادعى أنه بالغ واحتمل ما قال.. فالقول قوله بلا يمين؛ لأن احتلامه لا يعرف إلا من جهته، ويعطى من سهم المقاتلة.
ومنهم من وافقه وقال: يحلف؛ لاحتمال أن يكون كاذبا. وهل اليمين واجبة أو مستحبة؟ على وجهين:
فـ[الأول] : إن حلف.. أعطي، وإن نكل، فإن قلنا: إنها واجبة.. لم يعط، ولا يكون هذا قضاء بالنكول ولكن بالأصل المتقدم، وهو: عدم البلوغ.
والثاني: أنها مستحبة، فعلى هذا: يعطى.

(13/94)


[فرع مسائل لا يمكن فيها رد اليمين]
] : ذكر أصحابنا ثلاث مسائل لا يمكن فيها رد اليمين على المدعي:
إحداهن: إذا مات رجل ولا وارث له غير المسلمين، فوجد في دفتره أن له دينا على رجل، أو شهد له بذلك شاهد واحد، وأنكر من عليه الدين ونكل عن اليمين.. فلا يمكن رد اليمين هاهنا على أحد وماذا يفعل فيه؟ قال أبو سعيد الإصطخري: فيه وجهان:
أحدهما: يحكم على المدعى عليه هاهنا بالنكول، فيجب عليه الدين؛ لأنه موضع ضرورة.
والثاني: يحبس المدعى عليه حتى يقر أو يحلف، وهو الأصح؛ لأنه لا يمكن رد اليمين على القاضي؛ لأن النيابة في اليمين لا تصح، ولا على المسلمين؛ لأنهم لا يتعينون، ولا يحكم عليه بالنكول؛ لأن ذلك لا يجوز عندنا، فإن تعذر ذلك.. لم يبق إلا حبس المدعى عليه إلى أن يحلف أو يقر.
الثانية: أن يموت رجل، فادعى رجل أن الميت وصى إليه بتفرقة ثلثه على الفقراء والمساكين، فأنكر الورثة.. فإن شهادة الوصي لا تقبل، فإن حلف الورثة.. فلا كلام، وإن نكلوا.. فلا يمكن رد اليمين على الوصي؛ لأن النيابة لا تصح في اليمين، ولا على المساكين والفقراء؛ لأنهم لا يتعينون، وماذا يفعل؟ على الوجهين في التي قبلها.
الثالثة: أن يموت رجل وله طفل، فأوصى به إلى آخر، فادعى الوصي أن للطفل على رجل دينا ولا شاهد له به.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، فإن حلف.. فلا كلام، وإن نكل.. فلا يمكن رد اليمين على الصبي؛ لأن يمينه لا تصح، ولا على الوصي، لأن النيابة في اليمين لا تصح، فتوقف اليمين إلى أن يبلغ الصبي فيحلف ويستحق.
قال في " الفروع ": وقيل: يحكم هاهنا بالنكول أيضا. والمشهور هو الأول.

(13/95)


[فرع كراهة إعادة اليمين]
] : قال الطبري في " العدة ": فإذا حلف المدعى عليه مرة على دعوى.. كره له أن يحلفه عليها ثانيا، فإن أراد تحليفه، فقال المدعى عليه: قد حلفني مرة، فأنكره المدعي، فقال المدعى عليه: حلفوه أنه لم يحلفني عليه.. فإنه يحلف المدعي عن اليمين أنه ما حلفه، فإن حلف المدعي أنه ما حلفه.. حلف له المدعى عليه، وإن نكل المدعي عن اليمين وقال: أحلفوه أني قد أحلفته.. قال الطبري في " العدة ": فإنه لا يجاب إلى اليمين؛ لأنه يؤدي بينهم إلى الدور.

[فرع لزوم اليمين عند عدم البينة في حقوق المتداعين وماذا عن الدعوى]
الموجبة للحد؟] :
وكل حق لزم المدعى عليه الإجابة فيه عن الدعوى ولا بينة للمدعي فيه.. فإن اليمين تعرض على المدعى عليه، كالأموال والنكاح والطلاق والعتق والنسب وما أشبه ذلك، وبه قال أبو يوسف ومحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا يستحلف في النكاح وما يتعلق به من الدعوى في الطلاق والرجعة والإيلاء، ولا في العتق وما يتعلق به من الاستيلاد والولاء، ولا في النسب، فإن كان مع المدعي بينة.. لم يحلف المدعى عليه) .
وقال مالك: (إن كان مع المدعي في غير الأموال شاهد.. استحلف المدعى عليه، وإن لم يكن معه شاهد.. لم يستحلف) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» . ولم يفرق. ولـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استحلف ركانة بن عبد يزيد على الطلاق» . ولأنها دعوى صحيحة مسموعة، فعرضت اليمين فيها على المدعى عليه، كالدعوى في المال.
وأما الدعوى بما يوجب الحد: فإن كان فيها حد القذف.. سمعت فيه الدعوى

(13/96)


وعرضت اليمين على المدعى عليه إذا لم يكن مع المدعي بينة.
وقال أبو حنيفة: (حد القذف حق لله تعالى، فلا تعرض فيه اليمين على المدعى عليه) ، وقد مضى الدليل عليه: أنه حق لآدمي.
وهكذا: إن ادعى عليه شتما يوجب التعزير.. عرضت فيه اليمين على المدعى عليه، فإن لم يحلف.. حلف المدعي، وعزر الشاتم.
وأما حد الشرب: فلا تسمع فيه الدعوى ولا تلزم الإجابة عليه؛ لأن الدعوى لا تسمع إلا من خصم أو وكيل له، وهذا ليس بواحد منهما.
وأما الدعوى في الزنى: فلا تسمع ولا تعرض فيه اليمين على المدعى عليه إذا لم يتعلق به حق آدمي؛ لأنه مندوب فيه إلى الستر؛ ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هلا سترته بثوبك يا هزال» . ولأنه لا فائدة بذلك. ولهذا: لو أقر ورجع.. قبل رجوعه وإن تعلق به حق آدمي، مثل أن يقذف رجلا فيطالب المقذوف بحد القاذف، فإن قال القاذف للحاكم: يحلف المقذوف أنه ما زنى.. سمعت منه هذه الدعوى ولزم المقذوف أن يحلف؛ لجواز أن يخاف من اليمين فيقر بالزنى فيسقط عن القاذف حد القذف. وإن حلف المقذوف أنه ما زنى.. وجب على القاذف حد القذف. فإن نكل المقذوف عن اليمين.. ردت اليمين على القاذف فيحلف أن المقذوف زنى، فإن حلف.. سقط حد القذف ولا يجب على المقذوف بذلك حد؛ لأن ذلك حق لله تعالى فلا يجب بيمين القاذف، سواء قلنا: يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كالبينة أو كالإقرار؛ لأنا إن قلنا: إنها كإقرار المدعى عليه.. فالحد يسقط بالإنكار بعد الإقرار.
وإن قلنا: إنها كالبينة.. فهي كالبينة في حق المتداعين، والحد لله تعالى وليس هو من حقوق المتداعين.
وأما الدعوى في السرقة: فإن كان المسروق منه قد وهب العين المسروقة من السارق، أو تلفت فأبرئ منها، أو استوفاها منه.. فلا تسمع فيها الدعوى ولا تعرض فيها اليمين؛ لأنه لم يبق إلا القطع وهو حق لله تعالى، فلا تسمع فيها الدعوى.

(13/97)


وإن كان المسروق منه لم يستوف حقه.. سمعت فيه الدعوى ولزمت عليه الإجابة، فإن أقام المدعي البينة أو أقر المدعى عليه.. لزمه الغرم والقطع، وإن لم تكن بينة ولا إقرار.. فالقول قول السارق مع يمينه، وإن حلف.. فلا غرم عليه ولا قطع، وإن نكل عن اليمين.. ردت اليمين على المسروق منه، فإذا حلف.. ثبت الغرم له، ولا يثبت القطع؛ لأنه حق لله تعالى، فلا يثبت بيمين المدعي.

[مسألة البينة مقدمة على اليمين في ثبوت الحق]
وتكفي لوحدها بشرط العدالة] :
وإن كان مع المدعي بينة فيما ادعاه.. حكم له بها، وقدمت على يمين المدعى عليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» ، «وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحضرمي: " ألك بينة؟ " قال: لا، قال: " لك يمينه» . فبدأ بالبينة على اليمين، فثبت أنها مقدمة. ولأن البينة حجة من غير جهة المدعي فلم تلحقها التهمة، واليمين قول واحد، وقول اثنين أقوى من قول واحد، فقدم القوي على الضعبف.
إذا ثبت هذا: فأحضر المدعي شاهدين.. فإن الحاكم لا يسألهما حتى يقول له المدعي: قد حضر الشاهدان فاسألهما؛ لأن الحق في سماع البينة له، فلا يفعله الحاكم بغير إذنه. فيقول لهما القاضي: ما تقولان، أو أي شيء عندكما؟ ولا يقول لهما: اشهدا؛ لما روي عن شريح: أنه قال للشاهدين: ما دعوتكما، فإن قمتما.. لم أمنعكما، وأنا أتقي الله فيكما فاتقيا الله في أنفسكما. فإن شهدا شهادة غير صحيحة.. فإن القاضي يقول للمدعي: زدني في شهودك. وإن شهدا شهادة صحيحة.. فإن القاضي يتعرف عدالتهما إن كان لا يعرفهما، على ما مضى. فإذا ثبتت عدالتهما عنده.. فإنه لا يجوز له أنه يحكم بشهادتهما حتى يسأله المدعي أن يحكم بشهادتهما؛ لأن الحكم بذلك حق له فلا يفعله إلا بإذنه. فإن سأل المدعى عليه أن يحلف المدعي مع شاهديه أنه يستحق ما شهدا له به عليه.. لم يلزمه أن يحلف، وبه قال مالك، وأبو حنيفة.

(13/98)


وقال ابن أبي ليلى: لا يجوز للحاكم أن يحكم للمدعي حتى يحلف مع شاهديه.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» . فجعل على المدعي البينة فقط، ومن قال: عليه مع البينة اليمين.. فقد خالف الظاهر. «ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحضرمي: " ألك بينة؟ " قال: لا، قال: " لك يمينه، ليس لك إلا ذلك» . وهذا نص أنه ليس له عليه البينة واليمين؛ لأنه لم يقل: ألك بينة ويمين. ولأن البينة قد سمعت، واستحلاف الخصم على ما شهدت به البينة طعن فيها، فلم تجب.
وإن ادعى عليه دينا، فقال المدعى عليه: قد قضيتك كذا أو أبرأتني منه.. فإن هذا إقرار منه له بالدين، ويكون المدعى عليه مدعيا للبراءة أو القضاء. فإن أقام على ذلك البينة.. برئ، وإن لم يقم البينة وسأل أن يحلف المدعي أنه لم يقض ولم يبرئه.. لزمه أن يحلف؛ لأن الأصل عدم القضاء أو البراءة، ولا يكون ذلك طعنا في البينة؛ لأنها يمين في دعوى غير ما شهدت به البينة.

[فرع للمدعي بينة غائبة أو حاضرة ولم يقمها أو كذبها]
] : وإن كان للمدعي بينة غائبة وقال: لا أتمكن من إقامتها.. فهو بالخيار: إن شاء استحلف خصمه، وإن شاء تركه. فإن استحلفه.. جاز، وإن لم يستحلفه وتركه.. لم يجز له ملازمته ولا مطالبته بالكفيل.
وقال أبو حنيفة: (له ملازمته ومطالبته بالكفيل إلى أن يقيم البينة) .
دليلنا: «قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحضرمي: " ألك بينة؟ " قال: لا، قال: " لك يمينه، ليس لك إلا ذلك» "، فجعل له اليمين ولم يجعل له الملازمة، فمن قال: له ملازمته.. فقد خالف ظاهر الخبر.
فإن حلف له المدعى عليه، ثم حضرت بينة المدعي بالحق الذي حلف عليه

(13/99)


المدعى عليه.. حكم للمدعي بها. وبه قال شريح، والشعبي، ومالك، وأبو حنيفة، وأكثر أهل العلم. وقال ابن أبي ليلى، وداود: (لا يجوز سماعها ولا الحكم بها بعد ذلك) .
دليلنا: ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (البينة العادلة أحق من اليمين الفاجرة) . ولأنها حالة لو اعترف المدعى عليه بالحق الذي حلف عليه.. لحكم به عليه، فإذا قامت البينة.. حكم عليه بها كما قبل اليمين.
وإن قال المدعي: لي بينة حاضرة وأتمكن من إقامتها، ولكني لا أقيمها، بل يحلف لي المدعى عليه.. أحلف له؛ لأنه ربما يرجو منه أن يخاف من اليمين فيقر، وإثبات الحق من جهة الإقرار أسهل من إثباته بالبينة. ولأنه قد يكون له غرض في أن يحلفه ثم يقيم عليه البينة ليفضحه، فإذا حلف المدعى عليه، ثم أقام عليه البينة.. سمعت؛ لما مضى.
فإن قال المدعي: ليس لي بينة حاضرة ولا غائبة، أو قال: كل بينة تشهد لي فهي كاذبة، وطلب يمين المدعى عليه فحلف له، ثم أقام المدعي بينة بالحق الذي حلف عليه المدعى عليه.. فهل تسمع بينته ويحكم له بها؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وبه قال محمد بن الحسن -: أنه لا يحكم له بها؛ لأنه قد كذبها.
والثاني: إن كان المدعي هو الذي تولى الإشهاد بنفسه.. لم تسمع بينته بعد ذلك؛ لأنه قد كذبها. وإن كان وكيله هو الذي تولى الإشهاد، أو كان الشاهدان تحملا الشهادة له ولم يشهدهما ولا علم له بهما.. سمعت بينته وحكم له بها؛ لأنه لم يكن عالما بها.
والثالث: أنها تسمع ويحكم له بها بكل حال، وبه قال أبو يوسف، وهو الأصح؛

(13/100)


لأنه يجوز أن يكون تولى الإشهاد له غيره، أو تولى الإشهاد بنفسه ثم نسيه، أو تحملت البينة الشهادة من غير أن يتولى استشهاد أحد، فيكون قوله: (لا بينة لي) راجعا إلى ما يعتقده.
إذا ثبت هذا: فإن أقام شاهدين.. حكم له بالحق، وإن أقام شاهدا وحلف معه، أو شاهدا وامرأتين، والحق مما يقبل فيه ذلك.. حكم له به.
وإن نكل المدعى عليه عن اليمين فردت اليمين على المدعي، وقال: لست أختار أن أحلف، وأقام شاهدا واحدا، وأراد أن يحلف معه وكانت الدعوى في مال.. فهل له أن يحلف معه؟ على القولين فيمن ادعى مالا وأقام شاهدا ولم يحلف معه، فردت اليمين على المدعى عليه فلم يحلف.. فهل ترد اليمين على المدعي، وقد مضى توجيههما.

[فرع إقامة المدعي البينة وجرح المدعى عليه لها]
] : وإذا أقام المدعي البينة بما ادعاه وثبتت عدالتهما عند الحاكم، فإن كان الحاكم يعلم أن المشهود عليه لا يعلم أن له دفع البينة بالجرح.. قال له: قد شهد عليك فلان وفلان وقد ثبتت عدالتهما عندي، فهل تعرف فيهما شيئا يجرحهما فإن ادعى جرحهما، أو سأل أن يمهل إلى أن يقيم البينة على جرحهما.. أمهل يوما أو يومين أو ثلاثا؛ لأنه قريب ولا يجوز أن يمهل أكثر من ثلاث إلا برضا المشهود له؛ لأن ما زاد على الثلاث كثير. فإن أقام البينة على جرحهما.. لم يحكم بشهادتهما. فإن مضت المدة التي استمهل لإقامة البينة فيها فلم يقم البينة على جرحهما.. حكم بشهادتهما؛ لما روي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في كتابه إلى أبي موسى الأشعري: (واجعل لمن ادعى حقا غائبا أمدا ينتهي إليه، فإن أحضر بينة.. أخذت له حقه، وإلا استحللت له القضية عليه؛ فإنه أتقى للشك وأجلى للعمى) .
قال الشيخ أبو إسحاق: وللمدعي أن يلازم المدعى عليه إلى أن يقيم البينة

(13/101)


بالجرح، وكذلك إذا ادعى البينة بالقضاء أو البراءة.. فله أن يلازمه إلى أن يقيم البينة بذلك.
فإن ادعى المدعى عليه: أن المدعي يعلم أن الشهود الذين أقامهم مجروحون، وسأله أن يحلف على ذلك.. فهل يلزمه أن يحلف على ذلك؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] :
أحدهما: لا يلزمه أن يحلف، كما لا يلزم المزكي والقاضي أن يحلف.
والثاني: يلزمه أن يحلف، كما لو قذف ميتا فطالبه وارث المقذوف بحد القذف، فسأله أن يحلف: ما يعلم أن مورثه زنى.. فإنه يلزمه أن يحلف، فكذلك هذا مثله.
وإن طلب المشهود عليه يمين الشاهد: ما هو مجروح.. لم يلزمه أن يحلف؛ لأنا لو حلفناه.. صار خصما، فيؤدي إلى أن يصير جميع الشهود خصوما.
وإن أقام المدعي شاهدين ولم تثبت عدالتهما، وسأل أن يحبس له الخصم إلى أن تثبت عدالتهما، أو أقام شاهدا وسأل أن يحبس له الخصم إلى أن يقيم الآخر؛ وقد مضى بيانه في (حد القذف) .

[مسألة القضاء بعلم القاضي]
إذا علم القاضي حال المحكوم فيه، ولم تقم عنده بينة؛ مثل أن يعلم أن رجلا غصب من رجل مالا أو اقترض منه، أو علم أن رجلا زنى أو سرق.. فهل يجوز له أن يقضي فيه بعلمه؟ نظرت:
فإن كان في حقوق الآدميين.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يجوز له أن يقضي فيه بعلمه.. وبه قال شريح، والشعبي، ومالك، وابن أبي ليلى، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] الآية [النور: 4] . فأمر بجلد القاذف إذا لم يأت بأربعة

(13/102)


شهداء على القاذف، ولم يفرق بين أن يعلمه الحاكم أو لا يعلمه. «ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحضرمي: " شاهداك أو يمينه، ليس لك إلا ذلك» ، فاقتضى أنه لا يجوز الحكم بغير ذلك. وروي: أن رجلا ادعى على رجل عند عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حقا، فقال عمر: (من يشهد لك؟) فقال: أنت، فقال عمر: (إن شئت شهدت لك ولم أحكم، وإن شئت حكمت لك ولم أشهد) . ولأنه لو كان علم الحاكم بمنزلة الشاهدين.. لانعقد النكاح به وحده.
والثاني: يجوز له أن يحكم بعلمه. وبه قال أبو يوسف، واختاره المزني، وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26] [ص: 26] ، وقَوْله تَعَالَى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42] [المائدة: 42] ، والحق هو ضد الباطل، ولم يفرق بين أن يحكم القاضي بالبينة أو بعلمه. وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يمنعن أحدكم هيبة الناس أن يقول في حق إذا رآه أو سمعه» . وروي: «أن هندا قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وإنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه سرا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» ، فقضى لها رسول الله بأن تأخذ نفقتها من ماله؛ لكونها زوجته بعلمه، ولم يقم على ذلك بينة. ولأنه إذا جاز أن يقضي بالشاهدين وأنه إنما يعلم صحة ما شهد به من طريق

(13/103)


الظن.. فلأن يجوز أن يقضي بما علمه بنفسه من طريق القطع أولى.
وإن كان ما يقضي به من حقوق الله تعالى، كالحد في الزنا، والقطع في السرقة.. فهل يجوز له أن يقضي فيه بعلمه من غير بينة؟ يبنى على القولين في حقوق الآدميين:
فإن قلنا: لا يجوز له أن يقضي علمه في حقوق الآدميين.. لم يجز له أن يقضي به في حقوق الله تعالى.
وإن قلنا: يجوز له أن يقضي في حقوق الآدميين.. ففي حقوق الله تعالى قولان:
أحدهما: يجوز له أن يقضي فيه بعلمه؛ لما ذكرناه.
والثاني: لا يجوز له، وهو الأصح؛ لما روي عن أبي بكر: أنه قال: (لو رأيت رجلا على حد.. لم آخذه به حتى تقوم به البينة عندي) . ولأن الحد مندوب إلى الستر فيه، فلم يجز أن يحكم فيه بعلمه.
إذا ثبت هذا: فقد قال الربيع: مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن القاضي يحكم بعلمه، وإنه يوقف فيه لفساد القضاة، ولا فرق عندنا بين أن يعلم ذلك قبل ولايته أو بعد ولايته، في عمله أو في غير عمله.
وقال أبو حنيفة، ومحمد: (إن علمه قبل ولايته أو في غير عمله.. لم يجز أن يقضي فيه بعلمه، وإن علمه بعد ولايته في عمله.. جاز له أن يقضي فيه بعلمه) .
دليلنا: أنه يعلم صحة ذلك، فجاز له القضاء به، كما لو علمه بعد ولايته في عمله، هذا الكلام في المدعى عليه إذا أقر وأنكر، فأما إذا سكت فلم يقر ولم ينكر.. فإن القاضي يقول له: أجب عن دعواه، فإن أجبت، وإلا.. جعلناك ناكلا وردت

(13/104)


اليمين على المدعي، فإذا حلف.. قضيت عليك بالحق الذي ادعاه. والمستحب: أن يقول له ذلك ثلاثا، فإن أجاب، وإلا.. جعله ناكلا، ورد اليمين على المدعي، فإذا حلف.. قضى له بالحق الذي ادعاه؛ لأنه لا يخلو إذا أجاب: إما أن يقر أو ينكر، فإن أقر.. فقد حكم عليه بما يجب على المقر، وإن أنكر.. فقد وصل إنكاره بالنكول، وقد قضى عليه بما يجب على الناكل.

[فرع شروط المترجم في القضاء]
] : إذا كان القاضي عربيا فتحاكم إليه أعجميان لا يعرف لسانهما، أو كان القاضي أعجميا فتحاكم إليه عربيان لا يعرف لسانهما.. لم يقبل الحاكم في الترجمة إلا شاهدين عدلين.
وقال أبو حنيفة: (يقبل في الترجمة واحدا) .
دليلنا: أنه يثبت إقرارا فافتقر إلى العدد، كما لو شهد على إقراره في غير مجلس الحكم.
فعلى هذا: إن كان الحق لا يثبت إلا بشاهدين ذكرين.. لم يقبل في الترجمة عنه إلا شاهدان ذكران. وإن كان مما يقبل فيه الشاهد والمرأتان.. قبل في الترجمة عنه الشاهد والمرأتان.
فإن كان إقراره بالزنا.. فهل يقبل عنه في الترجمة شاهدان، أو لا يقبل فيه إلا أربعة؟ فيه قولان، بناء على أنه: هل يحكم بالإقرار بشاهدين؟ وفيه قولان يأتي بيانهما.

[مسألة الادعاء على الغائب بما لا يوجب حدا]
] : إذا ادعى على غائب عن مجلس الحكم بحق، فإن لم يكن مع المدعي بينة بما ادعاه.. لم يسمع الحاكم دعواه.. لأنه لا فائدة في سماعها.

(13/105)


فإن كان معه بينة بما ادعاه.. نظرت في المدعى عليه: فإن كان غائبا عن البلد.. وجب على الحاكم أن يسمع الدعوى عليه والبينة. وكذلك: لو كان المدعى عليه حاضرا في البلد مستترا لا يصل المدعي إليه.. فإنه يجب على الحاكم أن يسمع الدعوى والبينة عليه. وكذلك: لو حضر مجلس الحكم فلما ادعى عليه أنكر، فلما أراد المدعي إقامة البينة عليه قام المدعى عليه وهرب.. فإن الحاكم يسمع البينة عليه.
وأما إذا كان المدعى عليه حاضرا في البلد غائبا عن مجلس الحكم غير ممتنع عن الحضور.. فهل يجوز سماع الدعوى عليه والبينة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز، وهو المذهب؛ لأنه يمكن إحضاره في مجلس الحكم، فلم يجز سماع الدعوى عليه والبينة.
والثاني: يجوز؛ لأنه غائب عن مجلس الحكم، فهو كما لو كان غائبا عن البلد.
فإذا قلنا بهذا: وكان المدعى عليه حاضرا في مجلس الحكم.. فهل يجوز للحاكم أن يسمع البينة عليه ويقضي عليه قبل سؤاله؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه حاضر يمكن سؤاله.
والثاني -حكاه أبو علي السنجي -: أنه يجوز أن يسمع البينة عليه ويقضي عليه قبل سؤاله؛ لأنه لا يخلو من: أن يقر بعد سماع البينة عليه والقضاء أو ينكر، فإن أقر.. فهذا قضاء على المنكر، فلم يكن في سؤاله فائدة، فإن أنكر.. فقد زاد البينة قوة. والأول هو المشهور. فإذا قلنا: لا تسمع الدعوى إلا على الغائب عن البلد.. فإن أصحابنا العراقيين لم يشترطوا حدا في الغيبة، وإنما اشترطوا خروجه عن البلد لا غير.
وأما الخراسانيون: فاختلفوا في حد الغيبة في ذلك:
فمنهم من قال: أقلها مسافة القصر.
ومنهم من قال: إذا كانت المسافة من موضع المدعى عليه إلى موضع القاضي بحيث لا يمكن قطعها والرجوع إليها بالليل.. فهذا يجوز سماع الدعوى عليه والبينة، وإن كانت دون ذلك.. فهو بمنزلة الحاضر.

(13/106)


وكل موضع قلنا: يجوز سماع الدعوى على الغائب.. فإن الحاكم إذا سمع الدعوى عليه، وشهدت البينة عنده بالحق وعرف عدالتهما، وسأله المدعي أن يحكم له بذلك.. فلا يجوز له أن يحكم له بذلك حتى يحلف المدعي: أن هذا الحق -ويسميه - ثابت له إلى الآن، ما اقتضاه بنفسه ولا بغيره ولا شيئا منه، ولا أبرأه منه بنفسه ولا بغيره ولا شيئا منه، ولا أحال به بنفسه ولا بغيره ولا بشيء منه.
هذا مذهبنا في القضاء على الغائب، وبه قال مالك، والليث، والأوزاعي، وابن سيرين، وأحمد، إلا أن أحمد قال: (لا تجب اليمين) .
دليلنا عليه: أن الحاكم مأمور بالاحتياط في حق الغائب، ومن الاحتياط أن يحلف له المدعي، كما لو كان حاضرا فادعى ذلك.
وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: (لا يجوز القضاء على الغائب) .
دليلنا: ما روى أبو موسى الأشعري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا حضرا الخصمان وتواعدا موعدا، فوفى أحدهما ولم يوف الآخر.. قضى للذي وفى على الذي لم يوف» . ومعلوم أنه لم يرد أنه يقضي له بدعواه، وإنما يقضي له بالبينة، فدل على أن القضاء على الغائب جائز.
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه» ، ولم يفرق بين أن يكون المدعى عليه حاضرا أو غائبا. ولأنه لو لم يجز القضاء على الغائب.. لجعلت الغيبة والاستنظار طريقا إلى إبطال الحقوق.
إذا ثبت هذا: فقدم الغائب.. نظرت: فإن قدم بعد سماع البينة وقبل الحكم عليه.. فإن الحاكم يستدعيه ويخبره: بأن فلانا قد ادعى عليك بكذا، وقد شهد عليك بذلك فلان وفلان، وقد ثبتت عدالتهما عندي، فإن كانت لك بينة بالجرح أو بالإبراء أو بالقضاء.. فأحضرها. فإن استمهل ثلاثة أيام.. أمهل، فإن لم يأت بالبينة.. حكم عليه.

(13/107)


فإن قدم بعد الحكم.. استدعاه وأخبره: بأن فلانا ادعى عليك بكذا، وشهد له بذلك فلان وفلان، وثبتت عدالتهما عندي، وحكمت له بذلك، فإن كانت لك بينة بالجرح أو الإبراء أو القضاء.. فأحضرها. فإن أحضر بينة بشيء من ذلك.. نقض الحكم، وإن لم يحضر بينة بذلك.. استقر الحكم.

[فرع القضاء على غائب بحد ببينة]
] : وأما القضاء على الغائب بالحدود بالبينة: فنقل أصحابنا العراقيون: أنه لا يجوز؛ لأنه ليس بمأمور بالاحتياط فيها، بل إن قامت البينة على رجل غائب بالسرقة.. حكم عليه بالغرم دون القطع.
وقال الخراسانيون: هل يقضى بالحدود على الغائب؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يقضى بها؛ لما ذكرناه.
والثاني: يقضى بها عليه، فيكتب القاضي المشهود عنده بذلك إلى القاضي في بلد المشهود عليه، ليقيم عليه الحد؛ لما ذكرناه في حقوق الآدميين. والأول هو المشهور.

[فرع ادعى على ميت أو صبي أو مجنون حقا وأقام بينة]
] : وإن ادعى رجل على ميت حقا وأقام عليه البينة.. سمعت الدعوى والبينة عليه. فإن كان له وارث معين.. كان إحلاف المدعي إليه إن ادعى عليه قضاء أو إبراء، وإن لم يكن له وارث معين.. وجب على الحاكم أن يحلف المدعي مع بينته؛ لأن الوارثين له لا يتعينون فقام الحاكم مقامهم.
وإن كانت الدعوى على صبي أو مجنون، وكان للمدعي بينة.. وجب على الحاكم سماعها والحكم بها بعد يمين المدعي؛ لأن الجواب متعذر من جهتهما، فجاز القضاء

(13/108)


عليهما بالبينة مع اليمين، كالغائب. ويكتب القاضي في المحضر على الغائب والصبي والمجنون؛ لأن المدعى عليه على حجته، فإذا بلغ الصبي وأفاق المجنون، وأقام البينة على جرح الشهود عند الشهادة، أو على الإبراء، أو على القضاء.. نقض الحكم.

[مسألة كتابة قاض إلى آخر بحكم ثبت أو بشهادة شهدت عنده]
] : يجوز للقاضي أن يكتب إلى القاضي فيما حكم به وفيما ثبت عنده. وكذلك: يجوز للإمام أن يكتب إلى القاضي، وللقاضي أن يكتب إلى الإمام. ويجوز للمكتوب إليه أن يعمل بما كتب إليه به؛ والدليل -على ذلك -: قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29] الآية [النمل: 29] . «وروي عن الضحاك بن قيس -وقيل: الضحاك بن سفيان - أنه قال: (ولاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعض الأعراب، ثم كتب إلي أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها، فورثتها» . وكان عمر لا يورث المرأة من دية زوجها حتى «قال له الضحاك بن قيس: (إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلي بذلك» ، فورثها عمر من دية زوجها. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جهز جيشا، فأمر عليه عبد الله بن رواحة، ودفع إليه كتابا مختوما، وقال: " لا تفكه إلا بعد ثلاث، فإذا مضت ثلاث.. ففكه واعمل بما فيه» . «وروى عبد الله بن حكيم قال: (أتانا كتاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل موته بشهر: ألا لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب» . وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى قيصر: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من محمد رسول الله إلى عظيم الروم: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} [آل عمران: 64] الآية [آل عمران: 64] "، فلما وصل إليه الكتاب.. قبله ووضعه على رأسه ووضعه في المسك، فبلغ ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " ثبت ملكه» . و: «كتب إلى كسرى بن هرمز: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من محمد رسول الله إلى

(13/109)


كسرى بن هرمز، أما بعد.. أسلموا تسلموا "، فلما بلغه الكتاب.. مزقه، فبلغ ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " تمزق ملكه» فملك الروم باق إلى اليوم، وملك المجوس تمزق وذهب.
وأجمعت الأمة: على جواز الكتاب والعمل به؛ لأن الحاجة داعية إلى ذلك.
إذا ثبت هذا: فإن كتب القاضي بما حكم به.. قبله المكتوب إليه ونفذ حكمه، سواء كانت بينهما مسافة قريبة أو بعيدة.
وإن كتب إليه يعلمه بشهادة شاهدين على رجل قبل أن يحكم بشهادتهما.. فإنه يقول: شهدا عندي بكذا، ولا يقول: ثبت عندي؛ لأن ثبوته عنده حكم منه به، فلا يجوز للمكتوب إليه العمل به إلا إذا كان بينهما مسافة تقبل فيها شهادة الفرع على شهادة الأصل، وفي قدرها وجهان:
أحدهما: مسافة القصر.
والثاني: ما لا يمكنه أن يمضي من أحد الموضعين إلى الآخر أول النهار ويأوي إليه بالليل من حيث مضى.
وحكى الطحاوي عن أبي حنيفة: (أنه يجوز له العمل به في المسافة القريبة والبعيدة) .
دليلنا: أن القاضي الكاتب كشاهد الأصل، والشهود على الكتاب كشاهد الفرع، وشاهد الفرع لا يقبل على شاهد الأصل فيما قرب من المسافة، فكذلك هذا مثله.
والفرق بين أن يكتب إليه فيما حكم به، وفيما شهد به عنده ولم يحكم به هو: أن ما حكم به.. قد لزم الحكم به، فوجب على كل أحد تنفيذه وإمضاؤه. وما شهد به

(13/110)


عنده لم يحكم به، وإنما هو إخبار وإعلام، فهو بمنزلة الشهادة على الشهادة، فلم يعمل به إلا في المسافة التي تعمل فيها الشهادة على الشهادة.

[فرع قبول كتاب القاضي يحتاج لشاهدين]
] : ولا يجوز له قبول الكتاب والعمل بموجبه إلا أن يشهد عليه شاهدان على ما بينته، ولا يقنع فيه بمعرفة الخط والختم، وبه قال الأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه.
وقال أبو ثور: (يجوز قبوله والعمل به من غير شهادة عليه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكتب ويعمل بكتبه من غير شهادة عليها) .
وقال مالك والحسن البصري وسوار القاضي وعبيد الله بن الحسن العنبري: (إذا عرف المكتوب إليه خط الكاتب وختمه.. جاز له قبوله والعمل به) . وبه قال أبو سعيد الإصطخري من أصحابنا.
دليلنا: أن الخط يشبه الخط، والختم يشبه الختم، فلا يؤمن أن يزور على خطه وختمه، ويمكن إثبات الكتابة بالشهادة، فلا يقتصر فيها على معرفة الخط والختم، كإثبات الشهادة.
إذا ثبت هذا: وكتب القاضي الكتاب.. استدعى رجلين عدلين يخرجان غلى البلد الذي فيه القاضي المكتوب إليه ويقرأ القاضي الكاتب عليهما الكتاب، أو يقرؤه غيره بحضرته وهو يسمع.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وأحب للشاهدين أن ينظرا في الكتاب عند قراءته؛ لئلا يغير منه شيء، فإن لم يفعلا ذلك.. جاز؛ لأن الاعتماد على ما يسمعان) .
فإذا قرئ الكتاب عليهما.. قال لهما: أشهدكما أني كتبت إلى فلان بن فلان بما سمعتماه فيه، وإن قال: هذا كتابي إلى فلان بن فلان.. أجزأه. فإن كان

(13/111)


المكتوب قليلا يحفظانه.. اعتمدا على حفظهما، وإن كان كثيرا.. كتب كل واحد منهما ما سمعه في نسخة وقابله بالكتاب ليتذكر به ما أشهد عليه.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويقبضا الكتاب قبل أن يغيبا عنه) .
وقال أبو حنيفة: (إنه لا يصح العمل بالكتاب، إلا أن يكتب ويقول: هذا كتابي إلى فلان بن فلان القاضي وإلى كل قاض من قضاة المسلمين يبلغه هذا الكتاب) .
دليلنا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكتب كتبا إلى أقوام بأعيانهم ولم يقل فيها إلى كل من بلغ إليه ويعملون بها، فدل على: أنه لا يشترط ما ذكره.
فأما إذا كتب الكتاب وختمه واستدعاهما، وقال: هذا كتابي إلى فلان بن فلان، ولقد أشهدتكما بما فيه على نفسي، ولم يقرأ الكتاب.. لم يصح التحمل، وبه قال أبو حنيفة.
وقال أبو يوسف: إذا ختمه بختمه وعنونه.. جاز لهما أن يتحملا الشهادة عليه مدرجا.
دليلنا: أنهما تحملا الشهادة بما لم يعلماه، فلم يصح.
وإذا وصل الشاهدان إلى المكتوب إليه.. قرآ الكتاب عليه أو قرأه القاضي أو غيره وهما يسمعان، ثم قالا: نشهد أن هذا كتاب فلان بن فلان القاضي إليك، وأشهدنا على نفسه بما فيه في مجلس حكمه.
وإن لم يقرآ الكتاب ولكن دفعاه إلى المكتوب إليه، وقالا: نشهد أن فلان بن فلان كتب إليك هذا الكتاب وأشهدنا على نفسه بما فيه.. لم يصح؛ لأنه ربما زور عليهما الكتاب.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولقد حضرت بعض الحكام ورد عليه كتاب مختوم من بعض القضاة وشهد به شاهدان، ففضه وقرأه فتوقف فيه، وقال: قد ورد إلي

(13/112)


كتاب في مثل هذا المعنى بخلاف هذا، ثم كتب إلى ذلك القاضي كتابا يخبره بذلك، فكتب إليه القاضي يخبره: أنه كتب إليه كتابا ووضعه بين يديه، فأخذ الكتاب من بين يديه وزور كتاب آخر مكانه فظن أنه الكتاب الذي أنفذه) .
فإن انكسر الختم.. لم يؤثر؛ لأن المعول على ما في الكتاب، فإن محي الكتاب أو بعضه، فإن كان الشاهدان يحفظان ما في الكتاب أو معهما نسخة أخرى.. جاز أن يشهدا. وإن كانا لا يحفظانه ولا معهما نسخة أخرى.. لم يجز أن يشهدا؛ لأنهما لا يعلمان الذي كان في الكتاب.
وإن أشهد على الكتاب رجلا وامرأتين.. لم يعمل بشهادتهم؛ لأن ذلك ليس بمال؛ لأن المقصود إثبات الكتاب عند المكتوب إليه.

[فرع كتب إلى قاض وأشهد على نفسه بما فيه ولم يذكر اسمه]
] : إذا كتب كتابا إلى قاض، وأشهد على نفسه بما فيه، ولم يكتب اسم المكتوب إليه في عنوان الكتاب ولا في باطنه.. جاز للمكتوب إليه العمل به.
وقال أبو حنيفة: (إذا لم يكتب اسمه في باطن الكتاب؛ بأن يقول: هذا كتاب من فلان بن فلان.. فلا يجوز قبوله. وكذلك إذا ذكر اسمه في العنوان دون باطنه.. لم يكفه ذلك) .
دليلنا: أن المعول فيه على شهادة الشهود على الكتاب وذلك موجود.

[فرع معرفة القاضي الكاتب والمكتوب إليه لعدالة الشهود]
] : قال المسعودي [في " الإبانة "] : ومعرفة القاضي الكاتب لعدالة شهود الحق تكفي، فيكتب: ثبت عندي بشهادة شهود عدول، ولا يفتقر إلى ذكر أسمائهم. فإن لم تثبت عدالتهم عنده.. كتب أسماءهم وأنسابهم، أو خلاهم ليبحث المكتوب إليه عن عدالتهم.

(13/113)


فأما عدالة شهود الكتاب: فيجب أن تثبت عند المكتوب إليه، فإن عدلهم الكاتب.. لم تثبت.
وقال القفال الشاشي: تثبت. وهذا غلط؛ لأنه يؤدي إلى تزكية الشاهد بقوله، فلم تصح.

[فرع ادعاء دين في الذمة أو عين وثبوته عند القاضي]
] : إذا كان المدعى دينا في الذمة وثبت عند القاضي بإقرار أو بينة.. جاز أن يكتب به على ما مضى، ويعمل المكتوب إليه بموجب ما كتب به إليه.
وإن كان المدعى عينا في بلد المكتوب إليه، فإن كانت عينا متميزة عن غيرها، كالعقار المحدود، أو العبد المشهور الاسم والصفة، أو دابة مشهورة الاسم والصفة.. جاز قبول الكتاب والعمل به في ذلك؛ لأنها متميزة عن غيرها فيمكن إلزام تسليمها. وإن كانت العين غير مشهورة، مثل أن يشهد الشاهدان عند الكاتب له بعبد من صفته كذا وكذا.. فهل يجوز قبول الكتاب فيه والعمل به؟ فيه قولان، حكاهما أصحابنا العراقيون:
أحدهما: لا يجوز قبول الكتاب فيه ولا العمل به. وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، واختاره المزني؛ لأن المشهود به مجهول العين فلا يكفي فيه الوصف، ألا ترى أنه لا يصح أن يكون المشهود له موصوفا؟ فكذلك المشهود به.
والثاني: يجوز قبول الكتاب به؛ لأنه يمكن ضبطه بالصفة؛ ولهذا يثبت في الذمة بالعقد، فأشبه الدين، ويخالف المشهود له؛ لأنه لا حاجة به إلى ذلك.
فعلى هذا: يأمر المكتوب إليه المشهود عليه أن يحضر تلك العين، فإن أحضر عينا بالصفة التي شهد بها الشهود عليه عند الكاتب وادعاها المدعي.. ختم عليها المكتوب إليه بختمه وأنفذها مع المشهود له إلى الكتاب، وكانت في ضمان المدعي.

(13/114)


فإذا وصل الكاتب.. أحضر الشاهدين اللذين شهدا للمدعي بها ونظرا إلى العين، فإن شهدا أنها هي العين التي شهدا بها أنها له.. أخذها المشهود له وبرئ من ضمانها، وإن لم يشهدا على عينها.. ردها الكاتب إلى المكتوب إليه، وكان على المشهود له قيمتها إن تلفت وأجرة منفعتها تلك المدة.
فإذا قلنا بهذا: وكان المشهود به جارية.. فهل يبعث بها إلى القاضي الكاتب؟ فيه وجهان، المشهور: أنه يبعث بها.
وحكى أصحابنا الخراسانيون فيها قولا ثالثا: أن العين تنزع من يد المشهود عليه ويدفع المشهود له قيمتها، فإن شهد الشاهدان له بها.. رد المشهود عليه ما أخذه من القيمة، وإن ضاعت العين في الطريق.. استقر ملك المدعى عليه على القيمة.

[فرع كتب القاضي كتابا لقاض آخر ثم مات أو عزل]
] : إذا كتب قاض كتابا إلى قاض بشيء، ثم مات القاضي الكاتب أو عزل قبل وصول الكتاب إلى المكتوب إليه.. فإن المكتوب إليه يقبل الكتاب ويعمل به. وبه قال أبو حنيفة وأحمد.
وقال أبو يوسف: إن مات قبل خروجه من يده.. لم يعمل به المكتوب إليه، وإن مات بعد أن خرج من يده.. عمل به المكتوب إليه.
دليلنا: أن المعول فيه على ما شهد به الشاهدان وهما حيان، فلم يؤثر موت الكاتب، كما لو مات شاهد الأصل. ولأنه إن كان الكتاب مما حكم به.. فيجب على كل واحد إمضاؤه، وإن كان فيما شهد به عنده عليه.. جرى مجرى الشهادة على الشهادة، وموت شاهد الأصل لا يؤثر في الشهادة عليه.
وأما إذا فسق القاضي الكاتب.. نظرت:

(13/115)


فإن كان الكتاب فيما حكم به.. لم يؤثر فسقه وجاز قبول الكتاب والعمل به؛ لأن فسقه بعد حكمه لا يؤثر في حكمه. وإن كان الكتاب فيما ثبت عنده.. نظرت:
فإن فسق بعد وصول الكتاب إلى المكتوب إليه وبعد حكمه به.. لم يؤثر فسق الكاتب، كما لا يؤثر فسقه في حكمه، وإن فسق قبل وصول الكتاب إلى المكتوب إليه، أو بعد وصوله وقبل حكمه به.. لم يجز له الحكم به، كما لا يجوز الحكم بشهادة الفرع بعد فسق شاهد الأصل.

[فرع كتب القاضي لآخر فوصل كتابه إلى من ولي القضاء بعده]
فرع: [كتب القاضي لآخر فوصل كتابه إلى من ولي القضاء بعد عزل المكتوب إليه] : وإن كتب القاضي كتابا إلى قاض، فمات المكتوب إليه أو عزل أو فسق، وولي غيره ووصل الكتاب إليه.. فإنه يقبل الكتاب ويعمل به. وبه قال الحسن البصري؛ وذلك: أن قاضي الكوفة كتب إلى إياس بن معاوية وكان قاضيا بالبصرة، فوصل الكتاب وقد عزل وتولى مكانه الحسن البصري، فقبل الكتاب.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز للثاني قبول الكتاب ولا العمل به) .
دليلنا: أن المعمول فيه على ما شهد به الشهود، فإن كان الكتاب فيما حكم به.. فعلى كل من بلغه إمضاؤه، وإن كان فيما ثبت عنده.. فهو بمنزلة الشهادة على الشهادة، وعلى كل أحد أن يحكم بالشهادة على الشهادة.

[فرع كتابة الإمام أو القاضي لخليفته ثم موته أو عزله قبل وصول الكتاب]
] : إذا كتب الإمام إلى خليفته كتابا، فمات الإمام أو خلع نفسه قبل وصول كتابه، ثم وصل كتابه.. فإن المكتوب إليه يقبل الكتاب فيعمل به؛ لأنه لا ينعزل بموته.
وإن كتب قاض إلى خليفته كتابا، ثم مات الكاتب أو عزل، ثم وصل كتابه.. فهل يعمل بكتابه؟ فيه وجهان -حكاهما الشيخ أبو حامد -:

(13/116)


أحدهما: أن الخليفة القاضي لا ينعزل بانعزاله، كما لا ينعزل القاضي بانعزال الإمام الذي ولاه ولا بموته.
فعلى هذا: يجوز له قبول كتابه والعمل به.
والثاني: أنه ينعزل بانعزاله؛ لأنه نائب عنه، وإذا بطلت ولاية المنوب عنه.. بطلت ولاية النائب عنه. والفرق بينه وبين الإمام: أنا لو قلنا: إن القضاة ينعزلون بموت الإمام أو عزله.. لأدى ذلك إلى الضرر بالمسلمين.
فعلى هذا: لا يقبل كتابه.

[فرع كتب إلى قاض آخر بحكم على رجل سماه]
] : إذا كتب القاضي إلى قاض بحكم حكم به على رجل سماه في بلد المكتوب إليه، فوصل الكتاب إلى المكتوب إليه فاستدعاه الحاكم وأخبره بكتاب القاضي، فقال: ألست فلان بن فلان؟ فإن لم يكن مع المدعي بينة أنه فلان بن فلان.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، فإذا حلف.. سقطت عنه المطالبة بالدعوى؛ لأن الأصل براءة ذمته. وإن أقام المدعي بينة أنه فلان بن فلان، أو أقر المدعى عليه بذلك إلا أنه قال: لست فلان بن فلان الذي ذكره القاضي في كتابه، وإنما ذلك رجل غيري.. لم يقبل منه حتى يقيم البينة أن له من يشاركه في ذلك الاسم والصفة؛ لأن الأصل عدم من يشاركه. فإن أقام البينة على أنه له من يشاركه في ذلك الاسم والصفة التي وصفه بها.. أحضره الحاكم وسأله، فإن اعترف أنه المحكوم عليه وصادقه المدعي على ذلك.. لم يسأل عن الأول، وإن أنكر أن يكون المحكوم عليه.. توقف الحاكم حتى يعرف من المحكوم عليه منهما، وكتب إلى الحاكم الكاتب ليرجع إلى الشاهدين الذين شهدا عنده على المدعى عليه؛ ليزيدا في وصف المشهود عليه منهما.
فإن أقام صاحب الاسم والصفة بينة أنه كان له من يشاركه في الاسم والصفة التي يسمى بها إلا أنه ميت، فإن لم يعاصر المشارك المدعى عليه؛ بأن مات قبل أن يولد المدعي.. فهو كما لو لم يكن هناك مشارك. وإن عاصر المدعي، فإن كان موته بعد

(13/117)


الحكم.. فهو كما لو كان حيا على ما مضى، وإن كان موته قبل الحكم.. ففيه وجهان:
أحدهما: يقع الإشكال؛ لجواز أن يكون الميت هو المحكوم عليه.
والثاني: لا إشكال فيه؛ لأن الظاهر أن الحاكم إنما حكم على حي؛ إذ لو حكم على ميت.. لذكر ورثته.
وإذا ألزم المكتوب إليه المشهود عليه الحق فدفعه فقال: اكتب لي كتابا إلى القاضي الكاتب بذلك، أو ليكون في يدي؛ لئلا يدعي علي خصمي مرة أخرى.. ففيه وجهان:
أحدهما -وهو قول أبي سعيد الإصطخري -: أنه يلزمه أن يكتب له إليه ليتخلص من الحق المدعى المشهود به عليه.
والثاني: أنه لا يلزمه؛ لأن الحاكم إنما يكتب بما حكم به أو ثبت عنده، وهذا لم يحكم عليه بشيء، ولا ثبت عنده عليه شيء، وإنما كان ذلك عند الكاتب. وأما تخليصه من الحق المشهود به: فيمكنه ذلك؛ بأن يشهد على الأداء.
وإن طالبه أن يدفع إليه الكتاب الذي ثبت به الحق.. لم يلزمه دفعه. وكذلك كل من كان له كتاب بدين فاستوفاه أو بعقار فباعه.. لم يلزمه دفع الكتاب إليه؛ لأنه ملكه.

[مسألة كتابة القاضي للمحاضر والسجلات]
] : إذا حضر عند القاضي خصمان، فادعى أحدهما على الآخر حقا، فأقر له به.. لزمه ما أقر به، فإن سأل المقر له الحاكم أن يشهد له شاهدين على إقراره.. لزمه أن يشهد له؛ لأن القاضي إن كان لا يحكم بعلمه.. فربما جحد المقر، وإن كان يحكم بعلمه.. فربما نسي الإقرار أو عزل فلزمه أن يشهد. فإن قال المقر له: اكتب لي محضرا بذلك.. كتب له:

(13/118)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حضر القاضي فلان بن فلان، وهو يلي القضاء من قبل الإمام فلان بن فلان، أو: خليفة القاضي فلان بن فلان قاضي الإمام فلان بن فلان، أو من يلي القضاء من قبل فلان بن فلان وفلان بن فلان، إذ حكمه الخصمان فلان بن فلان وفلان بن فلان -يعني الخصمين - ويرفع في أسمائهما وأنسابهما حتى يتميزا عن غيرهما، وإن كان يعرفهما.. فالمستحب: أن يحليهما مع ذلك، فادعى فلان بن فلان على فلان بن فلان بكذا وكذا، فأقر له به في وقت كذا وكذا، شهد عليه بذلك فلان وفلان. ولا يحتاج أن يقول: في مجلس حكمه؛ لأن الإقرار يصح في غير مجلس حكمه. ويكتب تحت المحضر: أقر بذلك عندي، ويكتب على رأسه علامة: حسبي الله، أو الحمد لله رب العالمين، أو ما أشبه ذلك.
وإن أنكر المدعى عليه، فأقام المدعي البينة بما ادعاه.. حكم له بذلك على ما مضى، فإن سأل المدعي الحاكم الإشهاد له على ذلك.. فهل يلزمه الإشهاد له عليه؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: لا يلزمه الإشهاد؛ لأن للمدعي بالحق بينة، فلا يلزم القاضي تجديد بينة له أخرى.
والثاني: يلزمه الإشهاد؛ لأن في إشهاده على نفسه بذلك تعديلا للبينة الأولى وإلزاما لخصمه.
فإن سأله أن يكتب له بذلك محضرا.. كتب له:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حضر القاضي فلان بن فلان -ويذكر من ولاه القضاء - فلان بن فلان وفلان بن فلان في مجلس قضائه، فادعى فلان بن فلان على فلان بن فلان بكذا وكذا فأنكر، فسأل

(13/119)


الحاكم المدعي البينة فأحضر فلان بن فلان وفلان بن فلان -يعني الشاهدين - وسأل الحاكم سماع شهادتهما فشهدا بكذا وكذا، وعرف الحاكم عدالتهما لما رأى قبول شهادتهما، فسأل فلان بن فلان أن يحكم له بشهادتهما فحكم له بذلك في وقت كذا، ويكتب العلامة على رأس المحضر، وتحت المحضر: شهدا عندي بذلك.
وإن كان للمدعي في هذه والتي قبلها كتاب بالإقرار أو بالشهادة.. جعله القاضي محضرا، وكتب العلامة في رأسه، وكتب تحته: شهد عندي بذلك.
فإن لم يكن للمدعي بينة، فحلف المدعى عليه على ما مضى، وسأل المدعى عليه الحاكم أن يكتب له بيمينه محضرا، ليكون له وثيقة حتى لا يدعي عليه بذلك الحق مرة ثانية.. كتب له:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حضر القاضي فلان بن فلان -ويذكر من ولاه القضاء - فلان بن فلان في مجلس حكمه وقضائه، وادعى المدعي على فلان بن فلان بكذا وكذا فأنكره، فطالب القاضي المدعي بالبينة فلم تكن له بينة، ثم طالب المدعي القاضي بإحلاف خصمه فحلفه له -فيذكر كيف حلفه له - في وقت كذا وكذا، ويكتب العلامة على رأسه.
فإن نكل المدعى عليه عن اليمين ورد اليمين على المدعي فحلف، وسأل المدعي الحاكم أن يشهد له على ذلك.. لزمه أن يشهد على ذلك؛ لأنه لا حجة له غير الإشهاد. فإن سأله أن يكتب له بذلك محضرا.. كتب له:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حضر القاضي فلان بن فلان -ويذكر من ولاه القضاء - فلان بن فلان في مجلس حكمه، وادعى على فلان بن فلان بكذا فأنكره، فسأل القاضي المدعي البينة فلم تكن له بينة، فسأل المدعي الحاكم استحلاف المدعى عليه، فعرض عليه اليمين فلم

(13/120)


يحلف، ورد اليمين على المدعي فحلف له على كذا في وقت كذا، ويكتب العلامة في أوله، ويكتب تحته: حلف عندي.
وإن سأل صاحب المحضر القاضي أن ينفذ الحكم له ويسجله له، ويشهد عليه.. كتب له:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
هذا ما أشهد عليه القاضي فلان بن فلان -ويذكر من ولاه القضاء - في مجلس حكمه: أن فلان بن فلان ثبت له حق بكتاب نسخته كذا -ويكتب الذي ذكر في المحضر - فحكم به وأنفذه وأمضاه بسؤال فلان بن فلان المدعي، وشهد على إنفاذ القاضي فلان بن فلان بجميع ما في هذا الكتاب في وقت كذا فلان بن فلان، ويكتب العلامة في رأسه.
وإن كان القاضي لا يعرف الخصمين.. حضر رجل ذكر أنه فلان بن فلان، وأحضر رجلا ذكر أنه فلان بن فلان، ولا بد من ذكر حليتهما؛ لأن الاعتماد عليها.
وقال ابن جرير: إذا لم يعرفهما القاضي.. لم يجز له أن يسجل؛ لأنهما ربما يزوران النسب والاسم. وهذا غلط؛ لأنه لا بد أن يذكر حليتهما، ولا يمكنهما تزوير الحلية.
إذا ثبت هذا: فهل يلزم القاضي كتب المحضر والسجل؟ ينظر فيه:
فإن لم يجعل له شيء من بيت المال لما يشتري به الورق، ولا أحضر الخصم ورقة يكتب له بها.. لم يلزم القاضي ذلك؛ لأن الذي يلزمه: أن يحكم، ولا يلزمه أن يغرم الورق للمحكوم له.
وإن سلم إليه شيئا لثمن الورق، أو أتاه المحكوم له بورقة وسأله أن يكتب له فيها.. ففيه وجهان:

(13/121)


أحدهما: يلزمه؛ لأنه وثيقة للمحكوم له، فلزمت الحاكم، كالإشهاد.
والثاني: لا يلزمه؛ لأن الوثيقة فيما يثبت به الحق من الإقرار أو البينة أو اليمين دون المحضر والسجل.
فعلى هذا: يستحب له أن يكتب له؛ لأنه زيادة في الوثيقة.
فإذا قلنا: يلزمه أو يستحب له.. فإنه يستحب له أن يكتب ذلك نسختين: نسخة تكون مع المحكوم له، ونسخة تكون مع القاضي في ديوان الحكم، فإذا هلكت إحداهما.. اكتفي بالأخرى، ويكتب على ظهرها: سجل فلان بن فلان المحكوم له، ويضم ما يجتمع عنده من السجلات، ويشدها إضبارة على قدر اجتماعها في اليوم أو الأسبوع أو الشهر أو السنة، ويختم على الإضبارة بختمه، ويكتب على ظهرها: محاضر أو سجلات يوم كذا في شهر كذا في سنة كذا، أو: سجلات أسبوع كذا في شهر كذا من سنة كذا، حتى إذا حضر من يطلب شيئا منها.. سأله عن وقت ذلك، فيسهل عليه استخراجها، ولا يشتغل بتفتيش جميع الكتب.
فإذا عزل القاضي وكانت عنده محاضر وسجلات للناس.. سلمها إلى الذي ولي القضاء بعده؛ لأنه كان له نظر وولاية، وقد صار النظر والولاية للثاني، فكان أولى بذلك.

[فرع حكم القاضي بحجة بخطه وختمه أو بحجة الذي قبله]
] : إذا حضر خصمان عند القاضي فادعى أحدهما على الآخر حقا فأنكر، فقال المدعي: لي حجة في ديوان الحكم، فطلبها الحاكم، فوجد له حجة بخطه وختمه.. نظرت:
فإن كان الحاكم ذاكرا لحكمه له بذلك، ولم يشهد عنده بذلك شاهدان.. قال الشيخ أبو حامد: فهل يجوز له أن يحكم له بذلك؟ فيه قولان، بناء على القولين في أن القاضي له أن يقضي بعلمه.
وقال ابن الصباغ: لا يكون هذا قضاء بالعلم، وإنما هو إمضاء ما حكم به.

(13/122)


وإن كان غير ذاكر لما حكم به، ولم يشهد عنده بذلك شاهدان، إلا أنه عرف خطه وختمه.. فلا يجوز له أن يحكم له بذلك، وبه قال أبو حنيفة ومحمد.
وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف: يجوز له أن يحكم له به إذا عرف خطه وختمه.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] [الإسراء: 36ٍ] يعني: لا تقل ما ليس لك به علم، وما لا يذكره ولا شهد عنده به.. ليس له به علم. ولأنه لا يؤمن أن يكون قد زور على ختمه وخطه.
وإن رأى بخطه شهادة له وهو لا يذكرها.. لم يجز له أن يشهد بها، وحكى أصحابنا العراقيون: أن أبا يوسف وافق على ذلك.
وحكى أصحابنا الخراسانيون: أن أبا يوسف قال: يجوز له أن يشهد بذلك.
ودليلنا عليه: ما مضى.
وإن رأى بخط أبيه دينا له بعد موته.. جاز له أن يحلف عليه؛ لأنه يمكنه الرجوع بما حكم به إلى الذكر واليقين؛ لأنه فعل نفسه، وما وجده بخط أبيه لا يمكنه الرجوع إلى اليقين، فكفى فيه الظن.
قال ابن الصباغ: وإن وجد بخط نفسه حقا له على غيره.. لم يجز له أن يطالب به ويحلف عليه، إلا أن يتيقنه وإن وجد له سماعا بخطه ولا يذكره.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : فإن لم يغب عنه ذلك.. جاز له أن يرويه؛ لأن الإخبار أوسع من الحكم والشهادة. وإن غاب عنه.. لم يجز له أن يرويه؛ لجواز أن يكون قد زور عليه.
وإن شهد عنده شاهدان للمدعي.. نظرت:
فإن شهدا على إقرار المدعى عليه.. حكم له بشهادتهما؛ لأنهما لو شهدا على إقراره في غير مجلس الحكم. لحكم له بهما، فكذلك إذا شهدا على إقراره في مجلس الحكم.
وإن شهدا على حكمه له بذلك على المدعى عليه وهو لا يذكر ذلك.. لم يجز له أن يحكم له بذلك، وبه قال أبو حنيفة.

(13/123)


وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف: يجوز له أن يحكم له بذلك.
دليلنا: أنهما لو شهدا على رجل أنه شهد لفلان بكذا، والشاهد لا يذكر ذلك.. لم يجز له أن يشهد بذلك، فكذلك الحاكم لا يجوز له أن يحكم له بشهادتهما إذا كان غير ذاكر له.
وإن كانت الحجة بخط القاضي قبله وختمه.. فلا يجوز له أن يحكم للمدعي بذلك حتى يشهد بذلك شاهدان على حكم القاضي قبله له بذلك. فإن كان القاضي الثاني قد حضر عند الأول عند حكمه لهذا المدعي بهذه الحكومة.. فهل يجوز له أن يقضي له بذلك؟ فيه قولان، بناء على القولين في الحكم بالعلم.
وإن أقام المدعي بينة على أن القاضي الأول حكم له بذلك، وأقام المدعى عليه بينة أن القاضي الأول توقف في ذلك.. لم يجز للثاني أن يحكم له بذلك.
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجها آخر: أنه يجوز له أن يحكم له بذلك.
والمشهور هو الأول؛ لأن الثاني فرع للأول، فلا يجوز للثاني إنفاذ الحكم مع توقف الأول، كما لو شهد شاهدان على شهادة رجل، وشهد آخران على توقف شاهد الأصل.. فإنه لا يجوز الحكم بشهادة من شهد على شهادته.

[فرع يندب للحاكم أن يوجه للصلح]
] : قال في " الأم ": (إن بان للحاكم وجه الحكم.. ندبهما إلى الصلح، وأخر الحكم اليوم واليومين) ؛ لأن الصلح مندوب إليه. ويسألهما أن يحللاه من تأخير الحكم، فإن لم يجتمعا على تحليله وطالباه بالحكم.. وجب عليه الحكم؛ لأن الحكم إذا بان وجهه.. وجب على القاضي إنفاذه. هكذا ذكر ابن الصباغ، والذي يقتضي المذهب: أن التحليل بتأخير الحكم إنما يطلب من المحكوم له، وكذلك

(13/124)


وجوب الحكم إنما يتوجه بطلبه دون المحكوم عليه؛ لأن الحق في الحكم للمحكوم له دون المحكوم عليه.

[مسألة إقرار القاضي بحكمه لفلان قبل عزله أو بعده وشهادته عند غيره]
] : إذا قال القاضي في حال ولايته: حكمت لفلان على فلان بكذا بإقرار المدعى عليه، أو بقيام بينة عليه وثبتت عدالتهما عندي، أو بيمين المدعي بعد نكول المدعى عليه.. قبل قول القاضي بذلك، وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف وأحمد.
وحكي عن محمد بن الحسن أنه قال: لا يقبل قوله حتى يشهد بحكمه شاهدان، أو رجل عدل معه.
دليلنا: أنه يملك الحكم فملك الإقرار به، كالزوج لما ملك الطلاق.. ملك الإقرار به.
فأما إذا عزل، فقال بعد العزل: قد كنت حكمت لفلان بكذا.. فإنه لا يقبل قوله.
وقال أحمد: (يقبل قوله) .
دليلنا: أنه لا يملك الحكم فلا يملك الإقرار به، كسائر الرعية. وهل يكون شاهدا حتى لو شهد معه آخر عند قاض آخر حكم له به؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: يكون شاهدا فيه، كما تقبل شهادة المرضعة على إرضاعها مع ثلاث نسوة معها.
و [الثاني] : المذهب: أنه لا تقبل شهادته في ذلك؛ لأن ذلك يتضمن إثبات العدالة لنفسه؛ لأن الحكم لا يصح إلا من عدل، فلم يصح ذلك بقوله، بخلاف الرضاع؛ فإنه يصح من غير عدل، فلم يتضمن إثبات العدالة لنفسه.
فإذا قلنا بهذا: فقال هذا المعزول: أشهد أن حاكما يجوز حكمه حكم لفلان بكذا، ولم يخبر بذلك عن نفسه.. ففيه وجهان:

(13/125)


أحدهما: تقبل شهادته فيه؛ لأنه إذا أضاف ذلك لنفسه.. لحقته التهمة بتزكية نفسه. وإذا أطلق ذلك.. لم تحصل به تهمة.
والثاني: لا تقبل؛ لأنه يحتمل أنه أراد نفسه بذلك، فلم تقبل حتى يصرح بالحاكم أنه غيره.
فأما إذا قال المعزول: أشهد أن فلانا أقر لفلان في مجلسي بكذا.. قبلت شهادته له وجها واحدا؛ لأنه لا يجر بذلك إلى نفسه نفعا، ولا يدفع عنها ضررا.
وبالله التوفيق

(13/126)


[باب القسمة]
قسمة الأموال المشتركة جائزة، والأصل فيها: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} [النساء: 8] الآية [النساء: 8] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} [القمر: 28] [القمر: 28] .
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قسم غنائم خيبر على ثمانية عشر سهما» ، و: «قسم غنائم بدر بشعب يقال له: الصفراء» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة في كل ما لم يقسم» .
ولأن بالشركاء حاجة إلى القسمة؛ ليتمكن كل واحد منهم من التصرف في نصيبه منفردا.
إذا ثبت هذا: فإن تقاسم الشريكان بأنفسهما.. جازت، ولا تفتقر القسمة إلى عقد، بل إذا عدلا السهام وأقرعا على ما يأتي بيانه.. صحت القسمة ولزمت؛ لأن المقصود إفراد نصيب كل واحد منهما عن نصيب الآخر، وذلك يحصل بما ذكرناه.
وإن دعا أحدهما صاحبه إلى القسمة فامتنع، فرفع الطالب الأمر إلى الحاكم فقسم بينهما، أو بعث قاسما فقسم بينهما، أو تراضيا بالرفع إلى الحاكم، فبعث قاسما ليقسم بينهما فقسم بينهما.. جاز.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (القسام: حكام) .
وأراد بذلك: أنهم في معنى الحكام، وأن قسمتهم تلزم بنفس الإقراع، كما يلزم

(13/127)


حكم الحاكم بنفس الحكم؛ لأن كل واحد منهما مجتهد فيما ولي عليه من ذلك.
وأراد: أن القاسم الذي نصبه الحاكم يجب أن يكون بالغا، عاقلا، حرا، عدلا، عالما بالقسمة، كما يجب أن يكون الحاكم بالغا، عاقلا، حرا، عدلا، عالما بالأحكام. ولم يرد: أن القاسم يجب أن يكون من أهل الاجتهاد؛ لأن ذلك لا يفتقر إليه في القسمة.
وإن نصب الشريكان قاسما يقسم بينهما ممن يحسن القسمة.. جاز، كما يجوز أن يحتكما إلى من ليس بقاض ممن يصلح للقضاء. والمنصوص: (أن قسمته لا تلزم إلا بتراضي الشريكين بالقسمة بعد خروج القرعة) ؛ لأن هذه القسمة مبناها على التراضي في الابتداء، فاعتبر التراضي بها في الانتهاء.
ومن أصحابنا من خرج فيه قولا آخر: أن قسمته تلزم بنفس القرعة، كما قال الشافعي -في الرجلين إذا تحاكما إلى من ليس بقاض ممن يصلح للقضاء -: (أن حكمه يلزم بنفس الحكم) في أحد القولين.
ويجوز أن يكون هذا الذي نصبه الشريكان عبدا أو فاسقا؛ لأنه وكيل لهما.
هكذا ذكره أكثر أصحابنا، وقال ابن الصباغ: إذا نصب الشريكان قاسما فقسم بينهما.. لم تلزم قسمته إلا بتراضيهما بقسمته بعد القرعة، وجاز أن يكون عبدا أو فاسقا. وإن حكما رجلا ليقسم بينهما فقسم بينهما.. ففيه قولان، كالقولين إذا حكما رجلا ليحكم بينهما. فإذا قلنا: يلزم.. وجب أن يكون على الشرائط التي ذكرناها في قاسم القاضي. وإن قلنا: لا تلزم قسمته إلا بتراضيهما بعد القرعة.. جاز أن يكون عبدا أو فاسقا. ففرق بين النصب والتحكيم. والطريق الأول أقيس. وأما عدد من يقسم: فإن لم يكن في القسمة تقويم.. جاز أن يكون واحدا، وإن

(13/128)


كان فيها تقويم.. لم يجز أن يكون أقل من اثنين، كما قلنا في تقويم المتلفات. وإن كان فيها خرص.. ففيه قولان، كما قلنا في الخرص في الزكاة.

[مسألة أجرة القاسم جائزة]
ويجوز استئجار القاسم بأجرة معلومة؛ لأن القسمة عمل معلوم، بخلاف الإجارة على الحكم، فإنه لا يجوز؛ لأنه عمل غير معلوم.
ويجوز أن يدفع الإمام إلى القاسم الذي نصبه الرزق من بيت المال؛ لما روي: (أنه كان لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قاسم يقال له: عبد الله بن لحي، يعطيه رزقه من بيت المال) . ولأن ذلك من
المصالح
. فإن لم يكن في بيت المال شيء، أو كان فيه ولكنه يحتاج إلى صرفه فيما هو أهم من ذلك.. فإن أجرة القاسم على الشركاء؛ لأن القسمة حق لهم. فإن استأجره كل واحد منهم بعقد منفرد ليقسم له نصيبه.. جاز، ولزم كل واحد منهم ما استأجره به، سواء كان قليلا أو كثيرا. وإن استأجروه بعقد واحد ليقسم بينهم بأجرة.. وجبت عليهم الأجرة على قدر أملاكهم، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (تجب الأجرة عليهم، وتقسم بينهم على عدد الرؤوس) .
وقال أبو يوسف ومحمد: القياس يقتضي: أن تقسم بينهم على عدد رؤوسهم، ولكنا نقسمها عليهم على قدر أملاكهم استحسانا.
دليلنا: أن الأجرة مؤنة تتعلق بالملك فقسمت على قدر الأملاك، كنفقة العبد.
وإن طلب أحدهما القسمة وامتنع الآخر، فرفع الطالب الأمر إلى الحاكم فنصب قاسما، فقسم بينهما.. فإن أجرته على الشريكين، وبه قال أبو يوسف ومحمد وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (تجب جميع أجرته على الطالب) .
دليلنا: أن الأجرة تجب لإقرار النصيبين، وهما في ذلك سواء، فوجبت الأجرة عليهما، كما لو تراضيا بالرفع إلى الحاكم.

(13/129)


[مسألة أنواع قسمة الأملاك المشتركة]
إذا كان في القسمة رد؛ وذلك بأن يكون المملوك بين الشريكين لا يمكن أن يجعل جزأين إلا بعوض يكون مع أحدهما؛ بأن يكون بينهما عبدان نصفين، وقيمة أحدهما عشرون درهما، وقيمة الآخر ثلاثون درهما.. فإنه لا يمكن تعديلهما جزأين إلا بأن يجعل مع الذي قيمته عشرون خمسة دراهم، يدفعها من خرج له الذي يساوي ثلاثين، فهذه القسمة تفتقر إلى تراضيهما بها في ابتداء القسمة، فلو طلبها أحدهما وامتنع الآخر منها.. لم يجبر عليها. وتفتقر إلى تراضيهما بها بعد القسمة؛ وذلك أنهما إذا تراضيا عليها في الابتداء وأقرع بينهما فخرجت قرعة كل واحد منهما على عبد.. افتقر إلى تراضيهما في هذه الحال.
وقال أبو سعيد الإصطخري: يفتقر إلى تراضيهما بها قبل القسمة، وأما بعد خروج القرعة: فلا يفتقر إلى تراضيهما بها.
والمذهب هو الأول؛ لأنه لما افتقر إلى تراضيهما بها في الابتداء.. افتقر إلى تراضيهما بها بعد خروج القرعة. ولأنها تتضمن دفع العوض، فافتقر إلى تراضيهما بها بعد خروج القرعة؛ ليلزم البيع والشراء.
إذا ثبت هذا: فإن هذه القسمة بيع لما فيها من المعاوضة، إلا أنها لا تفتقر إلى لفظ التمليك والقبول.
وإن لم يكن في القسمة رد.. ففيه قولان:
أحدهما: أن القسمة بيع؛ لما فيها من المعاوضة، إلا أنها لا تفتقر إلى لفظ الإيجاب والقبول؛ لأن كل جزء من المال مشترك بينهما، فإذا أخذ أحدهما أحد الجزأين.. فقد باع حقه في الجزء الآخر بحق صاحبه في الجزء الذي أخذه.

(13/130)


والثاني: أنها فرز النصيبين، وهو الأصح؛ لأنها لو كانت بيعا.. لافتقرت إلى الإيجاب والقبول، كالبيع، ولأنها لو كانت بيعا.. لما تعين حق كل واحد منهما بالقرعة، كما لا يصح أن يقول: بعتك أي عبد خرجت عليه قرعتك.
فإن قلنا: إنها بيع.. لم يجز قسمة ما لا يجوز بيع بعضه ببعض -كالرطب والعسل الذي انعقدت أجزاؤه بالنار- بالقرعة. فإن كان بين اثنين شيء من ذلك مشترك، وأرادا قسمته.. جعل جزأين واشترى أحدهما نصيب شريكه من أحد الجزأين بدرهم، واشترى الآخر نصيب شريكه من الجزء الآخر بدرهم وتقاصا، أو أبرأ كل واحد منهما صاحبه.
وإن تقاسما ما يحرم فيه الربا مما لا يجوز بيع بعضه ببعض متفاضلا.. لم يجز قسمته إلا بالكيل فيما يكال، والوزن فيما يوزن، ولا بد أن يقبض كل واحد منهما ما حصل له قبل أن يتفرقا.
وإن قلنا: إن القسمة فرز النصيبين.. صحت القسمة فيما لا يجوز بيع بعضه ببعض بالقرعة، وصحت قسمته بالكيل فيما يوزن، وبالوزن فيما يكال إذا أمكن، وجاز أن يتفرقا قبل القبض.
وإن كان المشترك ثمرة على شجرة، وأرادا قسمتها: فإن قلنا: إن القسمة بيع..لم يجز قسمتها بالقرعة، ولكن يحتال في إفراز النصيبين بالبيع على ما مضى.
وإن قلنا: إن القسمة فرز النصيبين: فإن كانت الثمرة رطبا أو عنبا.. صحت قسمتها بالخرص؛ لأن الخرص يدخلهما. وإن كانت غيرهما من الثمار.. لم يصح قسمتها بالخرص؛ لأن الخرص لا يدخلها.

[مسألة اشتراك اثنين أو جماعة في شيء وطلب قسمته]
إذا كان الشيء مشتركا بين اثنين أو جماعة، فطلب بعضهم قسمته، وامتنع البعض.. نظرت: فإن لم يكن في قسمته ضرر على أحدهما؛ بأن كانت قيمة نصيب كل واحد منهم بعد القسمة مثل قيمته قبل القسمة، وينتفع به بعد القسمة كما كان ينتفع

(13/131)


به قبل القسمة.. فإن الممتنع من القسمة يجبر عليها؛ لأن كل واحد منهم يريد الانتفاع بنصيبه منفعة تامة بعد القسمة، ولأن الشركة فيها ضرر لاختلاف الأيدي. فإذا دعا بعضهم إلى إزالة ذلك من غير ضرر يلحق فيما طلبه.. وجبت إجابته إلى ما طلب.
وإن كان في القسمة ضرر.. نظرت:
فإن كان الضرر فيها على جميع الشركاء؛ بأن كانت قيمة نصيب كل واحد منهم ومنفعته بعد القسمة تنقص عن قيمته ومنفعته قبل القسمة.. لم يجبر الممتنع منهما.
وقال مالك: (يجبر) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن القيل وقال، وعن إضاعة المال» ، وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «لا ضرر ولا ضرار» ، وفي هذه القسمة إضاعة المال وإضرار، فلم يجبر الممتنع منهما عليها.
إذا ثبت هذا: فإن تراضى الشركاء على هذه القسمة التي فيها ضرر عليهم، وسألوا الحاكم أن يبعث من يقسم بينهم، فإن كان فيها إتلاف مال؛ بأن كانت جوهرة بين جماعة فطلبوا كسرها.. لم يجبهم الحاكم إلى ذلك؛ لأن ذلك سفه. وإن لم يكن فيها إتلاف مال، كالدار والأرض.. جاز أن يبعث من يقسمها بينهم.
وإن كان في القسمة ضرر على بعض الشركاء دون بعض؛ مثل أن كانت دار بين اثنين، لأحدهما تسعة أعشارها وللآخر عشرها، وكانت قيمة عشرها ومنفعته بعد القسمة تنقص عن قيمته ومنفعته قبل القسمة، ولا تنقص قيمة نصيب صاحب الأكثر ولا منفعته.. نظرت:
فإن دعا إلى القسمة من لا يستضر بها وامتنع الآخر منهما.. أجبر الممتنع، وبه قال عامة أهل العلم.
وقال ابن أبي ليلى: لا يجبر الممتنع، ولكن يباع ويقسم الثمن بينهما.

(13/132)


وقال أبو ثور: (لا يجبر الممتنع منهما، ويوقف الملك مشاعا إلى أن يتراضيا على القسمة) .
دليلنا: أنها قسمة لا ضرر فيها على الطالب، فوجب إجابته إليها، كما لو كان لا ضرر فيها على أحد في القسمة. ولأنه يطلب ما ينتفع به فوجبت إجابته إليه وإن كان فيها ضرر على غيره، كما لو كان له دين على غيره ولا يملك من عليه الدين إلا قدر الدين.
وإن طلب القسمة من يستضر بها، وامتنع الآخر منها.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجبر الممتنع عليها - وبه قال أبو حنيفة - لأنها قسمة فيها ضرر على بعض الشركاء دون بعض، فأجبر الممتنع منهما عليها، كما لو كان الضرر على الممتنع وحده.
والثاني: لا يجبر الممتنع منهما عليها، وهو المذهب؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن إضاعة المال» ، وفي هذه القسمة إضاعة المال. ولأنه يطلب ما يستضر به، وإجابته على ذلك سفه، فلم تجب. هذا ترتيب أصحابنا العراقيين.
وقال الخراسانيون: إن دعا إلى القسمة من يستضر بها، وامتنع منها من لا يستضر بها.. لم يجبر الممتنع وجها واحدا. وإن دعا إليها من لا يستضر بها من الشركاء، وامتنع منها من يستضر بها.. فهل يجبر الممتنع؟ فيه وجهان.
إذا ثبت هذا: فإن كان نصف الدار لواحد، ونصفها لعشرة: لكل واحد منهم نصف عشرها، وطلب العشرة أن يقسموا نصيبهم من الدار مجموعا، وامتنع صاحب النصف.. أجبر على ذلك؛ لأنها قسمة لا ضرر فيها. وكذلك: إذا طلب صاحب النصف أن يفرد نصيبه عن العشرة.. أجبر شركاؤه على ذلك.

[مسألة طلب إزالة الشيوع في الأعيان المشتركة]
] : إذا كان بين رجلين أعيان مشتركة، فطلب أحدهما أن تقسم كل عين على الانفراد جزأين، وطلب الآخر أن تقوم كل عين ويأخذ كل واحد منهم أعيانا منها بقيمتها.. نظرت:

(13/133)


فإن كان المشترك دارا واحدة فيها بيوت، وطلب أحدهما أن يقسم كل بيت جزأين، وطلب الآخر أن تقسم البيوت بالقيمة فيأخذ كل واحد منهم بيوتا بالقيمة.. قدم قول من دعا إلى القسمة بالقيمة؛ لأن قسمة كل بيت جزأين تنقص به قيمته ومنفعته.
وإن كان المشترك بينهما دورا متفرقة، وطلب أحدهما أن تقسم كل دار بانفرادها، وطلب الآخر أن تجعل كل دار نصيبا.. قدم قول من دعا إلى أن تقسم كل دار بانفرادها، سواء كانت الدور في محلة أو في محال، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (إن كانت الدور في محال.. قدم قول من دعا إلى قسمة كل دار وحدها-كما قلنا- فإن كانت الدور في محلة واحدة.. قدم قول من دعا إلى أن يجعل كل دار نصيبا) .
وقال أبو يوسف ومحمد: إن كان الحظ في أن تقسم كل دار.. قسمت كل دار، وإن كان الحظ في أن تجعل كل دار نصيبا.. جعلت كل دار نصيبا.
دليلنا: أنها قسمة تتضمن نقل حقه من عين إلى عين غيرها فلم يجبر عليها، كما لو كانت الدور في محال، على مالك، وعلى أبي يوسف ومحمد: كما لو كان الحظ في قسمة كل دار.
إذا ثبت هذا: فإن كان بينهما خان ذو بيوت ومساكن.. جازت قسمته وإفراد بعض المساكن عن بعض؛ لأنه يجري مجرى الدار الواحدة فيها بيوت. وإن كان بينهما دكاكين.. فهي كالدور. وأما إذا كان بينهما عضائد صغار متلاصقة -وهي البيوت من الدكاكين في الأسواق التي سكنها التجار- فطلب أحدهما أن تقسم بالقيمة، وامتنع الآخر.. فهل يجبر الممتنع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجبر؛ لأن هذه العضائد تجري مجرى الدار فيها بيوت، أو تجري

(13/134)


مجرى الخان فيها بيوت، ومعلوم أن كل من دعا إلى أن يجعل كل بيت في الدار أو الخان نصيبا.. فإنه يجاب إلى ذلك، فكذلك هذا مثله.
والثاني: لا يجبر الممتنع؛ لأن كل عضادة مسكن، ولأنها أعيان متميزة فلا يقسم بعضها في بعض، كالدور المتفرقة.
فعلى هذا: إن كانت كل عضادة مما يمكن قسمتها جزأين.. قسمت كل عضادة، وإن كان لا يمكن ذلك إلا بضرر يلحق في القسمة أو المنفعة.. لم تقسم.

[فرع تقسيم الدار ذات علو وسفل]
وإن كان بينهما دار فيها علو وسفل، فطلب أحدهما أن يجعل العلو والسفل بينهما، وامتنع الآخر.. أجبر الممتنع؛ لأن البناء في الأرض يجري مجرى الغراس في الأرض؛ لأنهما يتبعان في البيع والشفعة، ولو كان بينهما أرض فيها غراس، فطلب أحدهما أن تقسم الأرض والغراس بينهما، وامتنع الآخر.. أجبر الممتنع.
وإن طلب أحدهما أن يجعل العلو نصيبا والسفل نصيبا ويقرع بينهما، فإن رضي الآخر.. جاز ويكون الهواء لصاحب العلو، وله أن يحمل على علوه ما لا يضر بصاحب السفل. وإن امتنع أحدهما من هذه القسمة.. لم يجبر؛ ولأن العلو تبع للسفل، فلم يجز أن يجعل التابع متبوعا، ولأن العلو والسفل كالدارين المتجاورتين، ثم لو كان بينهما داران متجاورتان، وطلب أحدهما أن تجعل كل دار نصيبا، وامتنع الآخر.. لم يجبر الممتنع، فكذلك هذا مثله.
وإن طلب أحدهما أن يقسم السفل بينهما ويترك العلو على الإشاعة، وامتنع الآخر.. لم يجبر على ذلك؛ لأن القسمة تراد لتمييز حق أحدهما عن حق الآخر، وإذا كان العلو مشتركا.. لم يحصل التمييز؛ لأنهما قد يقتسمان فيحصل ما لأحدهما على ما للآخر فلا يتميز الحقان. وإن تراضيا على ذلك.. جاز.

(13/135)


[مسألة تقاسما عرصة جدار أو نفس الجدار]
وإن كان بينهما حائط فهدماه وأرادا قسمة عرصته، فإن تراضيا على أن يكون لأحدهما نصف الطول في كمال العرض، أو نصف العرض في كمال الطول.. جاز. وإن طلب أحدهما قسمة طوله فيكون لأحدهما نصف طوله في كمال عرضه، وامتنع الآخر.. أجبر الممتنع، ويكون لكل واحد منهما ما خرجت عليه قرعته. فإن أراد كل واحد منهما أن يبني فيما خرج له.. جاز. فإن بقي بينهما فرجة.. لم يجبر من هي في ملكه على سدها.
وإن طلب أحدهما أن يكون لأحدهما نصف العرض في كمال الطول، وامتنع الآخر.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجبر على ذلك؛ لأن هذه القسمة لا تدخلها القرعة؛ لأنا لو أقرعنا بينهما.. لم نأمن أن يخرج نصيب أحدهما مما يلي ملك الآخر، فلم يجبر الممتنع منهما عليها، كالقسمة التي فيها رد.
والثاني: يجبر الممتنع، وهو الأصح؛ لأنها قسمة لا ضرر فيها، فأشبهت قسمة الطول في كمال العرض، ويخالف القسمة التي فيها الرد؛ لأن دخول الرد فيها يجعلها بيعا، والبيع لا يجبر عليه من امتنع منه.
فعلى هذا: إذا قسم بينهما.. لم يقرع بينهما، ولكن يجعل لكل واحد منهما ما يلي ملكه.
وإن طلب أحدهما أن يقسم طولها في كمال عرضها، وطلب الآخر أن يقسم عرضها في كمال طولها، فإن قلنا: لا يجبر من امتنع من قسمة عرضها في كمال طولها.. أجبر من دعا إلى قسمة طولها في كمال عرضها. وإن قلنا: يجبر من امتنع من قسمة عرضها في كمال طولها.. لم يجبر أحدهما، بل يتركان حتى يصطلحا؛ لأن قول أحدهما ليس بأولى من قول الآخر.

(13/136)


وأن أرادا قسمة الحائط بينهما، فإن تراضيا على قسمة طوله في كمال عرضه، أو على قسمة عرضه في كمال طوله.. جاز.
وإن طلب أحدهما أن يقسم عرضه في كمال طوله، وامتنع الآخر.. لم يجبر؛ لأن الحائط إن قطع.. كان في ذلك إتلاف. وإن لم يقطع وعلم على نصف العرض علامة ليضع عليه ما يريده.. جاز، فإن وضع على جميع الحائط.. كان منتفعا في نصيب شريكه.
وإن طلب أحدهما أن يقسم طوله في كمال عرضه فامتنع الآخر.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يجبر الممتنع؛ لأن الحائط إن قطع.. فقد أتلف جزء من الحائط، فلم يجبر الممتنع من ذلك عليه، كما لو كان بينهما ثوب فطلب أحدهما قطعه نصفين.
والثاني: يجبر الممتنع، وهو الأصح، كما يجبر على قسمة العرصة لذلك. فعلى هذا: إن كان القطع يضر بالحائط.. لم يقطع، ويجعل بين النصيبين علامة، وإن كان القطع لا يضر به.. قطع بمنشار إن كان لبنا أو طينا، كالثوب إذا كان قطعه لا يضره.

[مسألة قسمة الأرض المشتركة]
وإن كان المشترك أرضا.. قال أصحابنا: وإن كانت قراحا واحد- وأحسبهم أرادوا بالقراح الذي نسميه الجول- فإن كانت متساوية الأجزاء، قيمة الذراع في أولها كقيمة الذراع في وسطها وفي آخرها.. فإنها تقسم بالتعديل بالأجزاء.
وإن كان فيها نخل وكرم وشجر.. قال ابن الصباغ: فإنه يقسم بالتعديل،

(13/137)


ولا يجب قسم كل جنس على حدته؛ لأن القراح واحد، فهو بمنزلة الدار يكون فيها البناء والأبواب؛ فإنه لا يجب قسمة كل نوع منها، بل تقسم جميعها، كذلك هذا مثله.
وإن كانت أجزاء الأرض مختلفة، بأن كانت قيمة كل ذراع من أولها يساوي درهمين، وقيمة ذراع من أوسطها يساوي درهما، وقيمة ذراع من آخرها يساوي نصف درهم، أو في بعض الأرض نخل أو كرم أو شجر وبعضها بياض، أو بعضها يسقى بالسيح وبعضها يسقى بالناضح.. نظرت: فإن أمكن التسوية بين الشركاء في جيدها ورديئها، وشجرها وبياضها، وما يسقى بالسيح والناضح بالتعديل بالأجزاء.. قسمت بالتعديل بالأجزاء.
وإن لم تمكن قسمة ذلك بالتعديل بالأجزاء.. فقد ذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، وأكثر أصحابنا: أنها تقسم بينهم بالتعديل بالقيمة - على ما يأتي بيانه - فإن امتنع أحدهم من ذلك.. أجبر عليه؛ لأنه ليس فيه أكثر من اختلافها في القيمة، وذلك لا يمنع من القسمة، كما قلنا في الدار الواحدة.
وذكر الشيخ أبو إسحاق: إذا كانت الأرض ثلاثين جريبا، وقيمة عشرة أجربة

(13/138)


من جيدها كقيمة عشرين جريبا من رديئها، فدعا أحدهما إلى قسمتها بالتعديل بالقيمة - ومعناه: أن تكون العشرة الأجربة نصيبا والعشرون جريبا نصيبا - ففيه قولان:
أحدهما: يجبر الممتنع؛ لوجود التساوي بينهما في القيمة.
والثاني: لا يجبر؛ لتعذر التساوي في الذرع. وأحسبه أراد بذلك: إذا كان في الجول الواحد، وأراد بـ: (الجريب) : أذرعا معلومة عندهم، فإن كان أراد هذا.. فهو خلاف ما مضى؛ لأنهم قالوا: يقسم بالتعديل بالقيمة، وقد ذكر الشيخ أبو إسحاق في غير هذا الموضع: أن الأرض تعدل بالقيمة، ولعله أراد على القول الأول، وهو المشهور.
فإذا قلنا بالأول.. ففي أجرة القاسم وجهان:
أحدهما: يلزم على كل واحد منهما نصفها؛ لأنهما متساويان في أصل الملك.
والثاني: يجب على من خرجت له العشرة ثلث الأجرة، وعلى الآخر ثلثاها؛ لتفاضلهما في المأخوذ بالقسمة.
وإن أمكن قسمة الأرض بالرد وأمكن قسمتها بالتعديل، فدعا أحدهما إلى أن تقسم بالرد ودعا الآخر إلى أن تقسم بالتعديل بالقيمة، فإن كانت أرضا بين شريكين نصفين،

(13/139)


وذرعها ستمائة ذراع، وقيمة مائتي ذراع من أولها أربعمائة درهم، وقيمة الأربعمائة الذراع الباقية منها أربعمائة درهم، كل مائة ذراع تساوي مائة درهم، فطلب أحدهما أن يجعل مائتا ذراع من أولها جزءا، وتكون الأربعمائة الذراع الباقية جزءا، ودعا الآخر إلى أن يجعل ثلاثمائة ذراع من أولها جزءا وقيمته خمسمائة درهم، والثلاثمائة الذراع الباقية من آخرها جزءا وقيمته ثلاثمائة درهم، فمن خرج له الثلاثمائة الذراع من أولها رد على الآخر مائة درهم، فإن قلنا: إن من امتنع من قسمة التعديل بالقيمة يجبر عليها.. وجب إجابة من قال: تجعل مائتا ذراع من أولها جزءا، والباقي منها جزءا. وإن قلنا: لا يجبر من امتنع من قسمة التعديل بالقيمة.. لم يجبر هاهنا أحدهما، بل يتركان إلى أن يتراضيا على القسمة.
وإن كانت الأرض أقرحة.. قال ابن الصباغ: فإن أبا إسحاق ذكر في " الشرح ": إذا كانت متجاورة.. جرت مجرى القراح الواحد، وجاز أن يقسم قراح في نصيب شريك وقراح في نصيب شريك آخر قسمة الإجبار.
وقال غيره من أصحابنا: إنما تجري الأقرحة مجرى القراح الواحد في ذلك إذا كان شربها واحدا وطريقها واحدا، فأما إذا كان لكل واحد شرب منفرد وطريق منفرد.. لم يقسم بعضها في بعض قسمة الإجبار.
قال ابن الصباغ: وهذا أشبه بكلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعالى.

[فرع قسمة الأرض المزروعة]
وإن كانت بينهما أرض مزروعة، فطلب أحدهما قسمة الأرض دون الزرع، وامتنع الآخر.. أجبر الممتنع، سواء كان الزرع بذرا لم يخرج أو قد خرج؛ لأن الزرع في الأرض كالقماش في الدار، والقماش في الدار لا يمنع من قسمتها، فكذلك الزرع في الأرض.

(13/140)


فإن طلب أحدهما قسمة الزرع دون الأرض، وامتنع الآخر.. نظرت: فإن كان الزرع بذرا لم يخرج.. لم يجبر الممتنع؛ لأنه مجهول. وكذلك إن كان الزرع قد ظهر واشتد حبه.. لم يجبر الممتنع أيضا؛ لأنه لا يمكن خرصه.
وإن كان الزرع قد ظهر ولم يصر حبا.. فحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال: لا يجبر الممتنع؛ لأنه لا يمكن تعديله. وحكى عن القاضي أبي الطيب أنه قال: إن قلنا: إن القسمة بيع.. لم يجبر؛ لأنه لا يمكن بيعه إلا بشرط القطع. وإن قلنا: إن القسمة فرز الحقين.. جازت قسمته - قال: وهذا أشبه؛ لأنه إذا أمكن تعديله مع الأرض.. أمكن تعديله وحده.
وأما إذا طلب أحدهما قسمة الأرض والزرع.. لم يجبر الممتنع؛ لأن الزرع لا يمكن تعديله. فإن تراضيا على ذلك.. نظرت:
فإن كان بذرا لم يخرج، أو كان الزرع قد صار حبا مشتدا.. لم يجز؛ لأنه مجهول.
وإن كان قد ظهر ولا ربا فيه.. صحت القسمة في الزرع مع الأرض تبعا لها، كما لا يجوز بيعه مع الأرض من غير شرط القطع تبعا للأرض.

[مسألة أحوال قسمة القراح الواحد من الأرض]
وإذا أريد قسمة القراح الواحد من الأرض.. فلا تخلو من أربعة أحوال:
إما أن تكون الأرض متساوية الأجزاء والأنصباء متساوية، أو تكون الأرض مختلفة الأجزاء والأنصباء متساوية، أو تكون الأرض متساوية الأجزاء والأنصباء مختلفة، أو تكون الأرض مختلفة الأجزاء والأنصباء مختلفة.
فـ[الأول] : إن كانت الأرض متساوية الأجزاء والأنصباء متساوية؛ بأن تكون أرضا بين رجلين نصفين، أو بين ثلاثة أثلاثا، وقيمة الذراع في أولها كقيمة الذراع في

(13/141)


جميعها.. فهاهنا تعدل بالأجزاء في المساحة، فإن كانت بين ثلاثة أثلاثا وكانت ستمائة ذراع.. جعل كل مائتي ذراع منها جزءا ويقرع بينهم، ويمكن هاهنا إخراج الأسماء على الأجزاء، أو إخراج الأجزاء على الأسماء.
فأما إخراج الأسماء على الأجزاء فهو: أن يكتب اسم كل شريك في رقعة، وتكون الرقاع متساوية، ثم تدرج كل رقعة في بندقة من شمع أو طين وتجفف، ثم تترك في حجر رجل لم يحضر الكتابة والبندقة، ويقال له: أخرج بندقة على الجزء الأول، فإذا أخرج عليه بندقة.. كسرت ونظر اسم من فيها من الشركاء، فمن خرج فيها اسمه.. كان له ذلك الجزء، ثم يخرج بندقة على الجزء الثاني من الأرض، ثم تكسر البندقة فينظر من فيها اسمه فيكون له الجزء الثاني من الأرض، ويتعين الجزء الثالث للشريك الثالث، ولا يفتقر إلى إخراج البندقة عليه ولا إلى كسرها؛ لأنه لا فائدة في ذلك.
وأما إخراج الأجزاء على الأسماء فهو: أن يكتب في رقعة: الجزء الأول، وفي الثانية: الجزء الثاني، وفي الثالثة: الجزء الثالث، وتجعل عليها البنادق كما مضى، ثم تكتب أسماء الشركاء في ثلاثة مواضع، في كل موضع اسم واحد، ثم يأمر رجلا لم يحضر الكتابة والبندقة أن يخرج ببندقة على اسم أحد الشركاء أو عليه بنفسه إذا لم يكتب أسماءهم، فيكسر البندقة وينظر اسم أي أجزاء الأرض فيها، فيكون لمن خرجت على اسمه أو عليه بنفسه، ثم تخرج بندقة على اسم الشريك الثاني أو عليه بنفسه وتكسر البندقة وينظر أي اسم أجزاء الأرض فيها وتكون لمن خرجت على سهمه أو عليه، ويتعين الجزء الثالث على الشريك الثالث ولا يفتقر إلى إخراج البندقة الثالثة على اسمه ولا عليه؛ لأنه لا فائدة في ذلك.

(13/142)


و [الثاني] : إن كانت الأرض مختلفة الأجزاء والأنصباء متساوية؛ بأن تكون الأرض بين ثلاثة أثلاثا، قيمة الذراع من أول الأرض تساوي درهمين، وقيمة الذراع من وسطها تساوي درهما، وقيمة الذراع في آخرها تساوي نصف درهم، فلا يمكن تعديلها هاهنا بتساوي المساحة في الأجزاء ولكن تعدل بالقيمة، فينظر كم قيمة جميع الأرض، وينظر كم قدر ثلث القيمة وإلى أي موضع تنتهي من الأرض قليلا كان أو كثيرا فيجعل جزءا، ثم ينظر إلى أي موضع ينتهي من الأرض ما قيمته قيمة الثلث أيضا فيجعل جزءا، ثم يجعل الباقي جزءا، ثم يقرع بينهم على ما مضى في التي قبلها من كتب الأسماء والأجزاء.
و [الثالث] : إن كانت الأجزاء متساوية والأنصباء مختلفة؛ بأن تكون أرض متساوية الأجزاء بالقيمة بين ثلاثة، لرجل النصف، وللثاني الثلث، وللثالث السدس.. فإنها تقسم بينهم على أقل السهام، وهي السدس، فتعدل الأرض بالمساحة بالأجزاء ستة أجزاء، فإن كانت ستمائة ذراع.. جعل كل مائة ذراع جزءا، ويعلم عليه بعلامة، ويكتب عليه أسماء الشركاء، ويجعل في بنادق - على ما مضى- وتخرج بندقة على الجزء الأول ثم ينظر من فيها، فإن خرج فيها اسم صاحب السدس.. أخذه، ثم تخرج بندقة على الجزء الثاني ثم ينظر من فيها، فإن خرج اسم صاحب الثلث فيها.. أخذ الثاني والثالث، وتعينت الأجزاء الثلاثة الباقية لصاحب النصف، وإن خرج على الجزء الثاني اسم صاحب النصف.. أخذ الثاني والثالث والرابع، وتعين الجزء الخامس والسادس لصاحب الثلث. وإنما قلنا: يأخذه وما يليه؛ لئلا يتبعض حقه فيستضر بذلك. وكم يكتب هاهنا من الرقاع؟ فيه وجهان:
أحدهما: تكتب ثلاث رقاع لا غير، فيكتب اسم كل واحد في رقعة؛ لأن صاحب النصف والثلث إنما يأخذ جزءا واحدا بالقرعة، وما يليه يأخذه بغير قرعة، فلا فائدة في كتب ما زاد عليه.
والثاني - وهو المنصوص -: (أن يكتب ست رقاع، فيكتب اسم صاحب النصف في

(13/143)


ثلاث رقاع، واسم صاحب الثلث في رقعتين، واسم صاحب السدس في رقعة) ؛ لأن لصاحبي النصف والثلث مزية بكثرة الملك، فكان لهما مزية بكثرة الرقاع، ولأنه قد يكون لهما غرض في أن يأخذا من أول الأرض، فإذا كانت رقاعهما أكثر.. كان أقرب إلى خروج اسميهما. ولا يمكن في هذا القسم أن تكتب الأجزاء وتخرج على أسماء الشركاء؛ لأنا لو كتبنا الأجزاء وأخرجنها على الأسماء.. فربما خرج الجزء الثاني أو الخامس لصاحب السدس، فلا بد أن نقطع على صاحب النصف أو الثلث نصيبه، ولأنه ربما خرج الجزء الرابع لصاحب النصف فيقول: آخذه وجزأين بعده، ويقول الآخر: بل تأخذه وجزأين قبله، ولا مزية لقول بعضهم على بعض فيؤدي إلى الخصومة؛ فلذلك قلنا: لا يجوز إلا كتب الأسماء وإخراجها على الأجزاء على ما مضى.
و [الرابع] : إن كانت أجزاء الأرض مختلفة والأنصباء مختلفة؛ بأن كان هناك جريب قيمة أجزائه مختلفة بين ثلاثة، لواحد النصف والآخر الثلث وللثالث السدس.. فلا يمكن تعديلها بالمساحة في الأجزاء، ولكن تعدل بالقيمة، فينظر كم جميع قيمة الأرض؟ وينظر كم قدر سدس قيمتها؟ ويجعل ما قيمته ذلك من الأرض جزءا، ثم كذلك حتى تنتهي الستة الأجزاء، ويكتب أسماء الشركاء ويخرجها على الأجزاء على ما مضى في التي قبلها، ولا يمكن كتب الأجزاء وإخراجها على الأسماء؛ لما مضى في التي قبلها.

[مسألة قسمة المشترك غير الدور والأرض]
وإن كان المشترك غير الدور والأرض، فإن كان من أموال الربا.. فقد مضى حكمه.
وإن كان من غير أموال الربا، كالثياب والصفر والحديد وما أشبهه، فإن كانت أجناسا، فطلب أحد الشريكين أن يجعل أحد الجنسين جزءا والجنس الآخر جزءا،

(13/144)


وامتنع الآخر.. لم يجبر الممتنع؛ لأن الأغراض تختلف في ملك الأجناس.
وإن طلب أحدهما أن تقسم العين الواحدة من ذلك جزأين، وامتنع الآخر، فإن كانت قيمتها لا تنقص بذلك، كالثياب الغليظة وما أشبهها.. أجبر الممتنع على ذلك. وإن كانت قيمتها تنقص بذلك، كالثياب الرقيقة..لم يجبر الممتنع على ذلك؛ لأن فيه ضررا. فإن تراضيا على ذلك وقسماها.. جاز.
وإن طلب أحدهما أن يعدل الجنس الواحد بالقيمة وأمكن تعديله بذلك، وامتنع الآخر.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي علي بن خيران وأبي علي بن أبي هريرة -: أنه لا يجبر الممتنع؛ لأنها أعيان متفرقة، فلا يجبر على قسمة بعضها ببعض، كالدور.
والثاني - وهو قول أكثر أصحابنا، وهو المذهب -: أنه يجبر على ذلك؛ لأنه لا يمكن قسمتها من غير ضرر إلا بذلك، فوجبت قسمتها كذلك، كالدار الواحدة.
وإن كان المشترك حيوانا غير الرقيق، فإن كان أجناسا.. لم يقسم جنس في جنس إلا بالتراضي، وإن طلب أحدهما أن يقسم الجنس الواحد بعضه ببعض بالتعديل بالقيمة وامتنع الآخر.. فهل يجبر الممتنع؟ على الوجهين في التي قبلها.
وإن كان رقيقا.. فقد ذكر الشيخ أبو إسحاق: أنها على الوجهين، كغير الرقيق.
وقال ابن الصباغ: يجبر الممتنع وجها واحدا - وبه قال أبو يوسف ومحمد - لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جزأ العيد الستة الذين أعتقهم الرجل في مرض موته ثلاثة أجزاء وأقرع بينهم» ، ولأن الرقيق لما وجب تكميل الحرية فيه.. دخلته قسمة الإجبار بالقيمة، بخلاف غيره.
وقال أبو حنيفة: (الرقيق لا يقسم؛ ولأنه تختلف منافعه) .
ودليلنا عليه: الخبر، ولأنه يمكن تعديله بالقيمة، كسائر الأموال.

(13/145)


[مسألة قسمة المنافع المشتركة والمهايأة]
وإن كان المشترك بينهما منفعة؛ بأن أوصي لهما بمنفعة دار أو أرض أو عبد، فطلب أحدهما أن يتهايآها فينتفع بها أحدهما مدة والآخر مدة، وامتنع الآخر.. لم يجبر.
ومن أصحابنا من قال: يجبر على ذلك، كما يجبر على قسمة الأعيان.
والمذهب الأول؛ لأن حق كل واحد منهما متعجل في المنفعة، فلم يجبر على تأخير حقه في المهايأة بخلاف الأعيان؛ فإنها لا يتأخر بها حقه. فإن تراضيا على ذلك.. جاز، ويختص كل واحد منهما بالمنفعة في المدة التي اتفقا عليها.
فإن كان ذلك عبدا وكسب كسبا معتادا.. كان ذلك الكسب لمن هو في يومه، وإن كسب كسبا نادرا، كاللقطة والركاز.. ففيه قولان:
أحدهما: أنه لمن هو في يومه؛ لأنه كسب له، فكان له كالكسب المعتاد.
والثاني: لا يكون له، بل يكون بين الشريكين؛ لأن المهايأة بيع؛ لأنه يبيع حقه في الكسب في يوم شريكه بحق شريكه من الكسب في يومه، والبيع لا يدخل فيه إلا ما يقدر على تسليمه في العادة، والنادر لا يقدر عليه في العادة، فلم يدخل.
فعلى هذا: لا يحسب على الذي هو في يومه في المدة التي كسب فيها ذلك من مدته.

[فرع طلب المهايأة في الدار والأرض المشتركة]
وإن كان بينهما دار أو أرض، فطلب أحدهما المهايأة ولم يطلب قسمتها، وامتنع الآخر.. لم يجبر الممتنع.
وقال مالك وأبو حنيفة: (يجبر) .

(13/146)


دليلنا: أن الأصل مشترك بينهما، فلا يجبر الممتنع على أن ينفرد أحدهما ببعض المنفعة مع اشتراكهما في الأصل؛ لأن التمييز لا يحصل بذلك.

[فرع انتفع أحدهما بالمهايأة ثم هلكت العين]
] : وإن تهايآه، فانتفع أحدهما مدة، ثم هلكت العين قبل أن ينتفع الآخر بها مثله.. رجع عليه بحصته من أجرة مثلها لا بما انتفع بها.

[مسألة طلبا من الحاكم قسمة مشترك في أيديهما واعتبار البينة]
إذا كان في يد رجلين شيء فترافعا إلى الحاكم لينصب من يقسمه بينهما، فإن أقاما بينة أنه ملكهما.. نصب الحاكم قاسما يقسمه بينهما، وإن لم يقيما بينة على ملكه.. ففيه طريقان:
[الطريق الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: يجوز له أن يبعث قاسما يقسم بينهما؛ لأن الظاهر من أيديهما الملك.
فعلى هذا: يكتب في كتاب القسم: قسمت ذلك بينهما بغير بينة لهما، بل بدعواهما.
والثاني: لا يجوز أن يبعث من يقسم بينهما؛ لأنه قد يكون ملكا لغيرهما، فإذا قسمه الحاكم بينهما.. كان حجة لهما في الملك.
و [الطريق الثاني] : من أصحابنا من قال: لا يجوز له أن يبعث من يقسم بينهما قولا واحدا؛ لما ذكرناه.
وحيث قال: (يبعث من يقسم بينهما) حكاه عن غيره.
وقال أبو حنيفة: (إن كان غير العقار.. قسمه، وإن كان عقارا ولم ينسباه إلى

(13/147)


الميراث.. قسمه بينهما، وإن نسباه إلى الميراث.. لم يقسمه بينهما حتى يقيما البينة على موته وعدد ورثته) .
دليلنا عليه: ما مضى، ولا فرق بين العقار وغيره، فلا معنى للتفرقة بينهما.

[مسألة ادعاء أحد الشريكين الغلط بالقسمة]
إذا كان بينهما أرض فاقتسماها، ثم ادعى أحدهما غلطا في القسمة عليه.. نظرت: فإن قسمت بينهما قسمة إجبار؛ بأن نصب الحاكم بينهما قاسما فقسمها.. لم يقبل قول المدعي من غير بينة؛ لأن الظاهر صحة القسمة وأداء الأمانة فيها، فهو كالحاكم إذا ادعى المحكوم عليه غلطا في الحكم. فإن أقاما المدعي شاهدين عدلين من أهل المعرفة بالقسمة بالغلط عليه.. نقضت القسمة، كما لو حكم الحاكم بما يخالف النص. وإن لم يقم المدعي بينة.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، فيحلف أنه لا فضل معه له، أو لا يستحق عليه ما يدعيه ولا شيئا منه.
وإن كان ذلك في غير قسمة الإجبار.. نظرت:
فإن اقتسما بأنفسهما.. لم يقبل قول المدعي؛ لأنه إن كان كاذبا.. فلا حق له، وإن كان صادقا.. فيجوز أن يكون قد رضي بدون حقه. فإن أقام على ذلك بينة.. لم يسمع ما يدعيه؛ لأنه رضي بأخذ حقه ناقصا.
وإن نصبا قاسما، أو وكلا من يقسم بينهما، فإن قلنا: إنه يفتقر إلى تراضيهما بقسمته بعد القسمة.. لم تقبل دعواه ولا تسمع بينته بالغلط في ذلك؛ لأنه قد رضي بأخذ حقه ناقصا. وإن قلنا: إنه لا يفتقر إلى تراضيهما بقسمته بعد القسمة.. قبلت دعواه إذا أقام بينة، وإن لم يقم بينة.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه.
وإن اقتسما قسمة فيها رد.. لم يقبل قول المدعي للغلط على المذهب؛ لأنها تفتقر إلى تراضيهما بها بعد القسمة، وتقبل الدعوى فيها على قول الإصطخري بالبينة.

(13/148)


[فرع تنازع المقتسمان]
فإن تنازع المقتسمان في بيت في دار اقتسماها، وادعى كل واحد منهما أنه خرج في سهمه ولا بينة.. تحالفا ونقضت القسمة، كالمتبايعين.
فإن قال القاسم في حال القسمة: قسمت بينهما وعدلت السهام بينهما وخرج لفلان كذا.. قبل قوله؛ لأنه يملك القسمة فقبل قوله فيها، كالحاكم في حال ولايته.
وإن انصرف القاسم وقال: قسمت بينهما وخرج لفلان كذا، ولفلان كذا، أو ادعى أحدهما القسمة وأنكرها الآخر فشهد القاسم للمدعي.. فهل تقبل شهادته؟ فيه وجهان، كالحاكم إذا قال بعد العزل: حكمت لفلان بكذا.
وإن تقاسما وخرج بما صار لأحدهما عيب لم يعلم به.. كان له فسخ القسمة، كما قلنا في البيع.

[مسألة اقتسما أرضا وفيها مستحق لغيرهما]
إذا اقتسم الشريكان أرضا، ثم استحق شيء منها.. نظرت:
فإن كان المستحق قطعة بعينها من الأرض، فإن كانت من نصيب أحدهما.. بطلت القسمة؛ لأنها إذا خرجت من نصيبه.. بقي معه أقل من حقه. وإن كانت القطعة من النصيبين، فإن كان في نصيب أحدهما منها أكثر مما في نصيب الآخر.. بطلت القسمة؛ لما مضى.
وإن كان في نصيب كل واحد منهما نصفها.. لم تبطل القسمة؛ لأن ما بقي لكل واحد منهما بعد المستحق هو قدر حقه.
وإن كان المستحق مشاعا؛ بأن اقتسما أرضا بينهما نصفين، فبان أن الآخر ثلثها.. بطلت القسمة في المستحق، وهل تبطل في الباقي.. اختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو علي بن أبي هريرة: فيه قولان، بناء على تفريق الصفقة في البيع.
وقال أبو إسحاق: تبطل القسمة قولا واحدا؛ لأنه بان أن الشركاء ثلاثة، فإذا

(13/149)


اقتسم الشريكان دون الثالث.. لم يصح، ولأنهما إذا اقتسما.. فلا بد أن يحدثا ما يتميز به نصيب كل واحد منهما عن نصيب الآخر وذلك في حق المستحق، فكان له نزعه فتعود الإشاعة.

[فرع اقتسام التركة قبل تأدية الديون ونحوها]
إذا اقتسم الورثة التركة قبل قضاء الدين عن الميت، فإن قلنا: إن القسمة بيع.. فهل تصح القسمة؟ يبنى ذلك على جواز بيع التركة قبل قضاء الدين، وفيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد وابن الصباغ، وحكاهما الشيخ أبو إسحاق هنا وجهين، وقد مضى ذكرهما في (التفليس) .
فإن قلنا: لا يصح البيع.. لم تصح القسمة أيضا.
وإن قلنا: يصح البيع.. صحت القسمة، فإن قضى الورثة الدين.. استقرت القسمة، وإلا.. نقضت القسمة.
وإن قلنا: إن القسمة فرز النصيبين.. صحت القسمة قولا واحدا، فإن قضى الورثة الدين.. استقرت القسمة قولا واحدا، وإن لم يقضوا الدين.. نقضت القسمة.
وأما إذا اقتسم الورثة التركة، ثم بان أن الميت قد كان أوصى لوصية تخرج من ثلثه، فإن كانت الوصية بشيء معين من التركة.. لم يجز، أو بجزء مشاع منها.. فهو كما لو اقتسم التركة، ثم استحق شيء منها على ما مضى.
وإن كانت الوصية بشيء مبهم.. فهو كما لو اقتسم الورثة، ثم ظهر على الميت دين على ما مضى.
والله أعلم

(13/150)