الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

 (بَابُ صَلَاةِ الْإِمَامِ قَاعِدًا بقيامٍ وَقَائِمًا بقعودٍ)
(مسألة)
: قال الشافعي وَأُحِبُّ لِلْإِمَامِ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعِ الْقِيَامَ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ فَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا وَصَلَّى الَّذِينَ خَلْفَهُ قِيَامًا أَجْزَأَتْهُ وَإِيَّاهُمْ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ وَفِعْلُهُ الْآخِرُ ناسخٌ لِفِعْلِهِ الْأَوَّلِ وَفَرَضَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى الْمَرِيضِ أَنْ يُصَلِّيَ جَالِسًا إِذَا لَمْ يَقْدِرْ قَائِمًا وَعَلَى الصَّحِيحِ أَنْ يُصَلِّيَ قَائِمًا فَكُلٌّ قَدْ أَدَّى فَرْضَهُ
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ
يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُصَلِّيَ قَائِمًا لِمَرَضِهِ وَعَجْزِهِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَيْهِمْ مَنْ يُصَلِّي بِهِمْ قَائِمًا لِأَمْرَيْنِ
أَحَدُهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَخْلَفَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الصَّلَاةِ فِي مَرَضِهِ فَقَالَ مرُوا بِلَالًا فَلْيُؤَذِّنْ ومُرُوا أَبَا بكرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ
وَالثَّانِي: أَنَّ صَلَاةَ الْقَائِمِ أَكْمَلُ مِنْ صَلَاةِ الْقَاعِدِ مِنَ الْإِلْبَاسِ عَلَى الرَّاجِلِ فَلَا يَدْرِي إِذَا رَآهُ جَالِسًا أَهُوَ فِي مَكَانِ قِيَامٍ، أَوْ جُلُوسٍ
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأَصْحَابِهِ قَاعِدًا فِي مَوْضِعِهِ
فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ
أَحَدُهَا: أَنَّ أَكْثَرَ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مَرَضِهِ الِاسْتِخْلَافُ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا صَلَّى قاعداً مرتين أو ثلاث فكان الاقتداء بأكثر أفعاله الأولى
وَالثَّانِي: أَنَّ خُرُوجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مَرَضِهِ وَصَلَاتَهُ قَاعِدًا بِأَصْحَابِهِ إِنَّمَا كَانَ لِيَعْهَدَ إِلَيْهِمْ، أَلَا تَرَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: احْمِلُوني حَتَّى أَعْهَدَ إِلَى النَّاسِ
وَالثَّالِثُ: أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُبَايِنٌ لِسَائِرِ أُمَّتِهِ فِي فَضِيلَةِ الِائْتِمَامِ بِهِ، لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ مِنْ أَنْ يُقِرَّ عَلَى خَطَأٍ فَكَانَتِ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ، وَهُوَ قَاعِدٌ أَفْضَلَ مِنَ الصَّلَاةِ خَلْفَ غَيْرِهِ وَهُوَ قَائِمٌ فَإِنْ صَحَّ أَنَّ الْأَوْلَى لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ فَصَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ، وَعَلَى الْمَأْمُومِينَ أَنْ يُصَلُّوا قِيَامًا إِذَا قَدَرُوا، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ
وَقَالَ مَالِكٌ: إِمَامَةُ الْقَاعِدِ غَيْرُ جَائِزَةٍ وَعَلَى مَنْ صَلَّى خَلْفَهُ الْإِعَادَةُ

(2/306)


وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ إِمَامَةُ الْقَاعِدِ جَائِزَةٌ، وَيُصَلِّي مَنْ خَلْفَهُ قَاعِدًا وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَرْبَعَةٌ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَقَيْسُ بْنُ قَهْدٍ، فَمَنْ قَالَ بِقَوْلِ مَالِكٍ اسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ عَنِ الشَّعْبِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِسًا " وَلِأَنَّ المأموم إذا أكمل ما إِمَامِهِ بِرُكْنٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ الِائْتِمَامُ بِهِ القارئ بِالْأُمِّيِّ
وَاسْتَدَلَّ مَنْ نَصَرَ قَوْلَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ بِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَكِبَ فَرَسًا فَصُرِعَ مِنْهُ فَجُحِشَ شِقُّهُ الْأَيْمَنُ فَصَلَّى قَاعِدًا وَصَلَّيْنَا خَلْفَهُ قِيَامًا، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا، وَإِذَا رَكَعَ فاركعوا، وإذا صلى قائماً فَصَلُّوا قُعُودًا أَجْمَعِينَ
وَبِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ركب فرساً فصرع فوقع على جِزع نَخْلَةٍ، فَانْفَكَّتْ قَدَمُهُ فَجِئْنَاهُ نعودُه وَهُوَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَصَلَّى التَّطَوُّعَ فَصَلَّيْنَا خَلْفَهُ ثُمَّ جِئْنَاهُ مَرَّةً أُخْرَى وَهُوَ يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ فَصَلَّيْنَا خَلْفَهُ قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْنَا أَنِ اقْعُدُوا فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا أَجْمَعِينَ وَلَا تَفْعَلُوا كَمَا تَفْعَلُ الفُرس بعُظمائها
وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ مِنَ الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ رِوَايَةً مُسْتَفِيضَةً، وَنَقْلًا متواتراً: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ فِي مَرَضِهِ فَصَلَّى بِالنَّاسِ ثُمَّ وَجَدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خِفَّةً فَخَرَجَ يَتَوَكَّأُ عَلَى الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَالْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَتَنَحْنَحَ النَّاسُ أَبَا بكر فتأخر قليلا، وَكَانَ هَذَا فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، بَلْ رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى وَمَاتَ فِي يَوْمِهِ فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ أَوْلَى وَذَلِكَ سنه على أن قوله مَنْسُوخٌ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالْقُعُودِ خَلْفَ الْقَاعِدِ ثُمَّ يُقِرُّهُمْ بِالْقِيَامِ خَلْفَهُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ خَاصَّةً أَنْ يُقَالَ: كُلُّ مَنْ صَحَّ مِنْهُ الصَّلَاةُ صَحَّ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا كَالْقَائِمِ قِيَاسًا عَلَى الْقَائِمِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا بِمَا اسْتَدَلَّ بِهِ أَحْمَدُ عَلَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قعوداً أجمعين "، فموضع الدليل منه تجوز إِمَامَةِ الْقَاعِدِ، وَلَيْسَ عَلَى وُجُوبِ الْقِيَامِ عَلَى الْمَأْمُومِ مَانِعٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْخَبَرِ فِي جَوَازِ إِمَامَةِ الْقَاعِدِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَحْمَدَ خَاصَّةً، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: وَلِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْقِيَامِ فَلَمْ يُجِزْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ قَاعِدًا
أَصْلُهُ: إِذَا كان إمامه قائماً، أو كان منفرداً، ولا اتِّبَاعَ الْإِمَامِ لَا يُسْقِطُ عَنْهُ رُكْنًا مُقَرَّرًا عَلَيْهِ وَلَا يُلْجِئُهُ إِلَى مَا لَا يَلْزَمُهُ فِي حَالِ الْعَجْزِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَلَا يُسْقِطُهُمَا اتِّبَاعُ الْإِمَامِ وَلَا يَحْمِلُهُمَا إِلَى الْإِيمَاءِ

(2/307)


وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدُكُمْ بَعْدِي جَالِسًا " فَحَدِيثٌ مُرْسَلٌ رَوَاهُ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ، وَكَانَ مِمَّنْ يَقُولُ بِالتَّنَاسُخِ وَالرَّجْعَةِ، وَيَتَظَاهَرُ بِسَبِّ السَّلَفِ الصَّالِحِ، فَلَمْ يَجِبْ قَبُولُ خَبَرِهِ، وَلَوْ وَجَبَ قَبُولُ خَبَرِهِ لَمْ يَجِبِ الْعَمَلُ بِهِ، لِأَنَّهُ مُرْسَلٌ، وَلَوْ سُلِّمَ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِهِ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ أَوْ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى صَلَاةِ الْقَارِئِ خَلْفَ الْأُمِّيِّ
قُلْنَا: فِي الْأُمِّيِّ كَلَامٌ، وَلَوْ سَلَّمْنَا لَمْ يَصِحَّ قِيَاسُهُ، لِأَنَّ الْإِمَامَ قَدْ تَحَمَّلَ القراءة موثراً فِي إِمَامَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فَقْدُ الْقِيَامِ مُؤَثِّرًا فيها

(فصل)
: فأما المضطجع إذا صلى مؤمناً بِقِيَامٍ وَقُعُودٍ فَصَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْقِيَامِ جَائِزَةٌ
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَجُوزُ للقائم أن يأتم بالمومئ " قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ أَوْ فِي الْفِعْلِ الَّذِي يَصِحُّ مِنْهُ، فَإِنِ ائْتَمَّ بِهِ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهَا لَمْ يَصِحَّ الصَّلَاةُ دُونَ بَعْضٍ
وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ هُوَ: أَنَّ عَجْزَ الْإِمَامِ عَنِ الْأَرْكَانِ الْكَامِلَةِ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ جَوَازِ الْإِمَامَةِ، وَلَا مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ مِنَ الْأَرْكَانِ الْمَفْرُوضَةِ، إِذَا عَجَزَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِهَا انْتَقَلَ إِلَى بَدَلِهَا وَصَارَ الْبَدَلُ مَعَ الْعَجْزِ قَائِمًا مَقَامَ الرُّكْنِ الْمَفْرُوضِ فَجَازَتْ إِمَامَتُهُ، وَصَلَاةُ مَنْ أَمَّهُ
فَإِنْ قِيلَ: الْإِيمَاءُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، لِأَنَّ بَدَلَ الشيء يكون من غيره، ولا يجوز جُزْءًا مِنْ أَجْزَائِهِ كَالتُّرَابِ مَعَ الْمَاءِ، وَالْكَفَّارَاتِ، فَلَمَّا كَانَ الْإِيمَاءُ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْهَا
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِيمَاءَ هُوَ نَفْسُهُ رُكُوعٌ وَسُجُودٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْهُمَا وَلَيْسَ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ يَقْدِرُ عَلَى الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِانْحِنَاءِ فِي رُكُوعِهِ وَهُوَ رَاكِعٌ، وَإِنَّمَا كَانَ رُكُوعُهُ دُونَ رُكُوعِ الْقَادِرِ عَلَى الِانْحِنَاءِ، وَلَا يُقَالُ إِنَّمَا يأتي به من الرجوع هُوَ جُزْءٌ مِنْهُ كَذَا فِي الْإِيمَاءِ
الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْجُزْءُ مِنَ الشيء بدلاً عنه كالقعود هو جُزْءٌ مِنَ الْقِيَامِ،

(2/308)


لِأَنَّ الْقِيَامَ هُوَ الِانْتِصَابُ بِأَعْلَى الْبَدَنِ، ثُمَّ كَانَ الْقُعُودُ بَدَلًا عَنِ الْقِيَامِ كَذَلِكَ الْإِيمَاءُ بدل من الرجوع والسجود
فأما الجواب عن قوله ليس يَخْلُو أَنْ يَكُونَ ائْتَمَّ بِهِ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ، أَوْ فِيمَا يَصِحُّ لَهُ مِنْهَا فَهُوَ أَنْ يُقَالَ بَلِ ائْتَمَّ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ، أَوْ فِيمَا يَصِحُّ لَهُ مِنْهَا فَهُوَ أَنْ يقال: يَتَضَمَّنُهَا فَمَا قَدَرَ عَلَيْهِ أَتَى بِهِ، وَمَا عَجَزَ عَنْهُ أَتَى بِبَدَلِهِ، عَلَى أَنَّ هَذَا التقسيم فيه، وإجماعنا على صحة ائتمانه به فسقط عنا

(مسألة)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " فَإِنْ صَلَّى الْإِمَامُ لِنَفْسِهِ جَالِسًا رَكْعَةً، ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ قَامَ فَأَتَمَّ صَلَاتَهُ، فَإِنْ تَرَكَ الْقِيَامَ أَفْسَدَ عَلَى نَفْسِهِ وَتَمَّتْ صَلَاتُهُمْ إِلَّا أَنْ يَعْلَمُوا بِصِحَّتِهِ وَتَرْكِهِ الْقِيَامَ فِي الصَّلَاةِ فَيَتَّبِعُوهُ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ
إِذَا صَلَّى الْإِمَامُ رَكْعَةً جَالِسًا لِمَرَضِهِ وَعَجْزِهِ ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ وَيَبْنِيَ عَلَى صَلَاتِهِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إِذَا قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَلَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهَا، وَهَذَا غَلَطٌ، لأنه بقيامه قد انتقل من حالة النقض إِلَى حَالَةِ التَّمَامِ وَانْتِقَالُ الْمُصَلِّي مِنْ أَنْقَصِ حَالَتِهِ إِلَى أَكْمَلِهَا لَا يُبْطِلُ صَلَاتَهُ كَالْمُتَنَفِّلِ رَاكِبًا إِذَا نَزَلَ فَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ، فَإِنْ قِيلَ: يَبْطُلُ هَذَا بِالْمُسْتَحَاضَةِ إِذَا انْقَطَعَ دَمُهَا فِي الصَّلَاةِ قَدِ انْتَقَلَ مِنْ حَالَةِ النَّقْصِ إِلَى حَالَةِ الْكَمَالِ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا الْبِنَاءُ، وَصَلَاتُهَا بَاطِلَةٌ
فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا السُّؤَالُ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ بِانْقِطَاعِ دَمِهَا قَدِ انْتَقَلَتْ مِنْ حَالَةِ الْكَمَالِ إِلَى حَالَةِ النَّقْصِ، لِأَنَّهَا وَدَمُهَا جَارِي أَحْسَنُ حَالًا مِنْهَا بَعْدَ انْقِطَاعِهِ أَلَا تَرَاهَا مَعَ جَرَيَانِ دَمِهَا لَا يَلْزَمُهَا إِزَالَةُ نَجَسِهِ عَنْهَا، وَإِذَا انْقَطَعَ لَمْ يَجُزْ لَهَا الصَّلَاةُ إِلَّا بَعْدَ طَهَارَتِهَا وَإِزَالَةِ نَجَاسَتِهَا فَهَذَا الْجَوَابُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَأَمَّا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ فَإِنَّهُ يقول: تبني المستحاضة على صلاتها فإن انْقَطَعَ دَمُهَا، فَسَقَطَ عَنْهُ الْجَوَابُ، وَلِأَنَّ كُلَّ حال جاز أن يبن الْمُصَلِّي فِيهَا لِانْتِقَالِهِ مِنْ حَالِ الْكَمَالِ إِلَى حال النقص جاز أن يبني من حالة الانتقاص إلى حالة الْكَمَالِ
أَصْلُهُ: الْمَسْتُورُ الْعَوْرَةِ إِذَا سُلِبَ فِي صَلَاتِهِ مَا كَانَ مَسْتُورًا بِهِ

(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا المصلي مضطجعاً مؤمناً إِذَا قَدَرَ عَلَى الْقُعُودِ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْعُدَ وَيَبْنِيَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ لَزِمَهُ أَنْ يَقُومَ وَيَبْنِيَ عَلَى الْمَاضِي مِنْ صَلَاتِهِ وَقَدْ أَجْزَأَهُ

(2/309)


وَقَالَ أبو حنيفة إِذَا قَدَرَ الْمُومِئُ عَلَى القيام أو القعود بطلت صلاته، وكذلك الْعُرْيَانُ إِذَا وَجَدَ ثَوْبًا، وَالْأُمِّيُّ إِذَا تَعَلَّمَ الْفَاتِحَةَ قَالَ: لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى شَرْطٍ مِنْ شرائط الصلاة عَجْزِهِ عَنْهُ فَوَجَبَ أَنْ تَبْطُلَ صَلَاتُهُ كَالْمُسْتَحَاضَةِ إِذَا انْقَطَعَ دَمُهَا
وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ: وَهُوَ أَنَّهُ قَدَرَ عَلَى رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ بَعْدَ عَجْزِهِ عَنْهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَبْطُلَ صَلَاتُهُ أَصْلًا
أَصْلُهُ: إِذَا قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ، وَلِأَنَّ الْقُعُودَ بَدَلٌ عَنِ الْقِيَامِ، وَالِاضْطِجَاعَ بَدَلٌ عَنِ القعود، فلما تقرر أن القاعد عَلَى الْقِيَامِ يَنْتَقِلُ إِلَى الْمُبْدَلِ، وَيَبْنِي عَلَى صلاته كذلك المضطجع إذا قدر على العقود يَنْتَقِلُ إِلَى مُبْدَلِهِ، وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْمُسْتَحَاضَةِ فَهُوَ مُنْتَقَضٌ بِالْقَاعِدِ إِذَا قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ
وَالْمَعْنَى فِي بُطْلَانِ صَلَاةِ الْمُسْتَحَاضَةِ، كَوْنُهَا مُحْدِثَةً فِي تَضَاعِيفِ الصَّلَاةِ فَخَالَفَتِ الْعَاجِزَ إِذَا صَحَّ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَى الْعَاجِزِ الْمُضْطَجِعِ أَنْ يَقُومَ إِذَا قَدَرَ وَيَبْنِيَ عَلَى صَلَاتِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقُمْ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ تَعَمَّدَ الْجُلُوسَ فِي وضع الْقِيَامِ فَوَجَبَ أَنْ يُبْطِلَ صَلَاتَهُ، كَمَا لَوْ كَانَ قَائِمًا فَقَعَدَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْقُعُودِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا يُبْطِلُ صَلَاتَهُ لَكِنْ تَصِيرُ نَفْلًا، وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ، فَإِذَا بطلت صلاة الإمام بترك القيام ولا يعلم المؤموم بِحَالِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ وَصَلَاتُهُ مُجْزِئَةٌ، لِأَنَّ قُدْرَةَ الْإِمَامِ عَلَى الْقِيَامِ أَمْرٌ يَخْفَى عَلَيْهِمْ فَلَمْ يُكَلَّفُوا الْوُصُولَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ فَصَارُوا كَمَنْ صَلَّى خَلْفَ جُنُبٍ وهم لا يعلموا بِحَالِهِ، وَإِنْ عَلِمُوا قُدْرَتَهُ عَلَى الْقِيَامِ أَخْرَجُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ إِمَامَتِهِ وَبَنَوْا عَلَى صَلَاتِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ إِمَامَتِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ، كَمَنْ صَلَّى خَلْفَ جُنُبٍ وَهُوَ يعلم بجنايته

(مسألة)
: قَالَ الشافعيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَكَذَلِكَ إِنْ صَلَّى قَائِمًا رَكْعَةً ثُمَّ ضعُف عَنِ الْقِيَامِ أَوْ أصابته عِلّة مانعةُ فَلَهُ أَنْ يَقْعُدَ وَيَبْنِيَ عَلَى صلاته "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ
إِذَا أَحْرَمَ الْإِمَامُ بِالصَّلَاةِ قَائِمًا لِصِحَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ، ثُمَّ عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ لِعِلَّةٍ أَصَابَتْهُ أَوْ لِضَعْفٍ غَلَبَ عَلَيْهِ، فَلَهُ أَنْ يَقْعُدَ وَيَبْنِيَ عَلَى صَلَاتِهِ جَالِسًا وَيُجْزِئُهُ، لِأَنَّهُ لَوِ افْتَتَحَهَا جَالِسًا لِعَجْزِهِ كَانَ لَهُ إِتْمَامُهَا وَهُوَ جَالِسٌ فَكَانَ مَا افْتَتَحَهُ قَائِمًا، ثُمَّ طَرَأَ الْعَجْزُ فِي بَعْضِهِ أَوْلَى بِإِتْمَامِهِ، فَإِنْ عجز عن القعود لغلبة عليه ووهي قُوَاهُ اضْطَجَعَ وَيُتِمُّ صَلَاتَهُ مُومِيًا وَأَجْزَأَهُ

(مَسْأَلَةٌ)
: قال: " وَإِنْ صَلَّتْ أَمَةٌ رَكْعَةً مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ وَرَكَعَتْ ثُمَّ أُعتقت فَعَلَيْهَا أَنْ

(2/310)


تَسْتَتِرَ إِنْ كَانَ الثَّوْبُ قَرِيبًا مِنْهَا،، وَتَبْنِيَ عَلَى صَلَاتِهَا، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ، أَوْ كَانَ الثَّوْبُ بَعِيدًا مِنْهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهَا "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ حُكْمَ الْعَوْرَاتِ وَتَفْصِيلَهَا وَدَلَّلْنَا عَلَى إِيجَابِ سَتْرِهَا، وَذَكَرْنَا عَوْرَةَ الرَّجُلِ، وَعَوْرَةَ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ، وَعَوْرَةَ الْأَمَةِ، فَإِذَا تَقَرَّرَتْ تِلْكَ الْجُمْلَةُ فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ رَأْسَ الْأَمَةِ وَشَعْرَهَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ وَأَنَّ صَلَاتَهَا مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ جَائِزَةٌ، لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يَلْزَمُهُ سَتْرُ عَوْرَتِهِ وَرَأْسُ الْأَمَةِ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ وَلَمْ يَلْزَمْهَا سَتْرُهُ، فَإِذَا صَلَّتِ الْأَمَةُ بَعْضَ الصَّلَاةِ وَرَأْسُهَا مَكْشُوفٌ ثُمَّ أُعْتِقَتْ قَبْلَ تَمَامِهَا فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهَا تَغْطِيَةُ رَأْسِهَا لِكَوْنِهَا حُرَّةً فَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهَا إلا مستورة
وإذ تقرر الأمر على هذا فليس يخلوا حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ واحدة لِمَا تَسْتُرُ رَأْسَهَا أَوْ عَادِمَةً، فَإِنْ عَدِمَتْ مَا تَسْتُرُ بِهِ بَنَتْ عَلَى صَلَاتِهَا وَأَجْزَأَتْهَا سَوَاءٌ عَلِمَتْ بِعِتْقِهَا أَمْ لَا، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْعُرْيَانِ الَّذِي لَا يَجِدُ ثوباً فيصلي عريان، ولا إعادة عليه وإن كانت واحدة لِمَا تَسْتَتِرُ بِهِ فَلَهَا حَالَانِ
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَعْلَمَ عِتْقَهَا فِي الصَّلَاةِ
وَالثَّانِي: أَنْ لَا تعلم به إلا بعد تَقْضِيَ تِلْكَ الصَّلَاةَ، فَإِنْ عَلِمَتْ بِعِتْقِهَا فِي الصَّلَاةِ فَلَيْسَ يَخْلُو الثَّوْبُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا، فَإِنْ كان الثوب قريباً وجب عليه تَنَاوُلُهُ وَالِاسْتِتَارُ بِهِ، فَإِذَا اسْتَتَرَتْ بِهِ فِي الْحَالِ بَنَتْ عَلَى صَلَاتِهَا مَا لَمْ يَكُنْ فِي أَخْذِهِ اسْتِدْبَارُ الْقِبْلَةِ، لِأَنَّهُ عَمَلٌ قَلِيلٌ فَأَمَّا إِنِ اسْتَدْبَرَتِ الْقِبْلَةَ فِي أَخْذِهَا فَصَلَاتُهَا بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ الِاسْتِدْبَارَ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ بَعِيدًا، أَوْ كَانَ قَرِيبًا فَلَمْ تَأْخُذْهُ مُضِيَّ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ وَبُعْدِهِ فَصَلَاتُهَا بَاطِلَةٌ
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بِمَاذَا بَطَلَتْ صَلَاتُهَا عَلَى وَجْهَيْنِ
إِنَّمَا بَطَلَتْ صَلَاتُهَا بِرُؤْيَةِ الثَّوْبِ كَمَا يَبْطُلُ تَيَمُّمٌ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ رُؤْيَةُ الثَّوْبِ تُبْطِلُ الصَّلَاةَ كَالْمُتَيَمِّمِ لَوَجَبَ أَنْ تَبْطُلَ صَلَاتُهَا وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ قَرِيبًا كَالْمُتَيَمِّمِ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ صَلَاتِهَا وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ قَرِيبًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ الثَّوْبِ لَا تُبْطِلُ الصَّلَاةَ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ صَلَاتَهَا إِنَّمَا بَطَلَتْ بِالْمُضِيِّ لِأَخْذِ الثَّوْبِ وَتَطَاوُلِ الْعَمَلِ فِيهِ
فَإِنْ قِيلَ فَيَلْزَمُكُمْ عَلَى هَذَا أَنَّهَا ما لم تمضي فَهِيَ عَلَى صَلَاتِهَا حَتَّى تَمْضِيَ وَإِنْ دُفِعَ الثَّوْبُ إِلَيْهَا فَاسْتَتَرَتْ بِهِ بَنَتْ عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهَا وَأَجْزَأَهَا

(2/311)


وَالْجَوَابُ: أَنَّهَا تَمْضِي لِأَخْذِ الثَّوْبِ وَلَا انْتَظَرَتْ من تناولها إياه فَصَلَاتُهَا بَاطِلَةٌ وَإِنْ لَمْ يَمْضِ فَهُوَ فِي حُكْمِ مَنْ مَضَى، لَكِنْ إِنِ انْتَظَرَتْ مَنْ تناولها الثوب فناولها إِيَّاهُ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ شَيْءٍ فِي الصَّلَاةِ ولا إحداث عمل فيها طَوِيلٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ
أَحَدُهُمَا: قد بطلت صلاتها، ولأن الِانْتِظَارَ عَمَلٌ طَوِيلٌ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ إِنَّ صَلَاتَهَا لَا تَبْطُلُ، وَتَبْنِي عَلَى مَا مَضَى وَيُجْزِئُهَا، لِأَنَّ الِانْتِظَارَ لَيْسَ بفعل يبطل الصلاة كالراكع إِذَا أَحَسَّ بِالدَّاخِلِ فَانْتَظَرَهُ جَازَ، وَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ فَإِنْ قِيلَ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الثَّوْبِ فِي وُجُوبِ أَخْذِهِ، وَبُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِتَرْكِهِ، وَبَيْنَ الْمُتَيَمِّمِ إِذَا رَأَى الْمَاءَ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ، وَلَا بَطَلَتْ بِرُؤْيَتِهِ صَلَاتُهُ؟ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ
أَحَدُهَا: أَنَّ فِعْلَ الطَّهَارَةِ يَجِبُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالصَّلَاةِ، فإن أحرام بها سقط فرضها، فإن أرحم بِهَا ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ فِي وَقْتٍ سَقَطَ عَنْهُ فِعْلُ الطَّهَارَةِ فِيهِ وَلَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِعْمَالُهُ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ يَجِبُ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا وَجَدَ الثَّوْبَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا وَجَبَ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ فِي زَمَانٍ يَجِبُ عَلَيْهِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ فِيهِ، فَإِنْ قِيلَ: لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ اسْتِصْحَابُ الطَّهَارَةِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ كَمَا يَلْزَمُهُ سَتْرُ الْعَوْرَةِ فِي جَمِيعِ أَجْزَائِهَا
قِيلَ: إِنَّمَا يَسْتَصْحِبُ حُكْمَ الطَّهَارَةِ مَعَ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لَا الطَّهَارَةَ، وَهُوَ فِي الثَّوْبِ يَسْتَعْمِلُ السِّتْرَ مَعَ أَفْعَالِهَا، لَا حُكْمَ السِّتْرِ فَافْتَرَقَا
وَالْفَرْقُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ استدامة الثوب كابتدائه في الحكم بدلة أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ، وَهُوَ لَابِسُهُ حَنِثَ وَاسْتِدَامَةُ الطَّهَارَةِ مُخَالِفَةٌ لِابْتِدَائِهَا فِي الْحُكْمِ بِدَلَالَةِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَتَطَهَّرُ وَهُوَ مُتَطَهِّرٌ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ وُجُودُ الثَّوْبِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ كَوُجُودِهِ فِي ابْتِدَائِهَا، فَلَزِمَهُ اسْتِعْمَالُهُ وَلَمْ يَكُنْ وُجُودُ الْمَاءِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ كَوُجُودِهِ فِي ابْتِدَائِهَا فَلَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِعْمَالُهُ
وَالْفَرْقُ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ قَدْ أَتَى بِبَدَلِ الْمَاءِ فَجَازَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ اسْتِعْمَالُهُ، وَالْعُرْيَانُ لَمْ يَأْتِ بِالسِّتْرِ وَلَا بِبَدَلِهِ، لِأَنَّ الْعُرْيَ لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنِ السِّتْرِ فَلَزِمَهُ اسْتِعْمَالُهُ لِعَدَمِ الْبَدَلِ، كَالْمُسْتَحَاضَةِ إذا انقطع حيضها لما لم تأتي بِالطَّهَارَةِ عَنِ النَّجَاسَةِ، وَلَا بِبَدَلِ الطَّهَارَةِ لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، أَنْ لَا تَعْلَمَ الْأَمَةُ بِعِتْقِهَا إِلَّا بَعْدَ إِتْمَامِ الصَّلَاةِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْصُوصُهُ أَنَّ الْإِعَادَةَ عَلَيْهَا وَاجِبَةٌ، كَمَنْ صَلَّى وَهُوَ جُنُبٌ، أَوْ مُحْدِثٌ، فَلَمْ يَعْلَمْ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، وَقَدْ خَرَجَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ آخَرُ: إِنَّهُ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهَا، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا مِنْ أَيْنَ خَرَجَ هَذَا الْقَوْلُ

(2/312)


فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُتَيَمِّمِ إِذَا صَلَّى بَعْدَ طَلَبِ الْمَاءِ، ثُمَّ عَلِمَ بِهِ أَنَّهُ فِي رَحْلِهِ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ: فِي الْمُسَافِرِينَ إِذَا رَأَوْا سَوَادًا وَظَنُّوهُمْ عَدُوًّا فَصَلَّوْا صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ ثُمَّ بَانَ لَهُمْ أَنَّهُمْ إِبِلٌ أَوْ وَحْشٌ والله أعلم

(مسألة)
: قال المُزنيّ: " وَكَذَلِكَ الْمُصَلِّي عُرياناً لَا يَجِدُ ثَوْبًا ثُمَّ يَجِدُهُ، وَالْمُصَلِّي خَائِفًا ثُمَّ يَأْمَنُ، وَالْمُصَلِّي مَرِيضًا يُومِئُ ثُمَّ يَصِحُّ أَوْ يُصَلِّي وَلَا يُحْسِنُ أُمَّ الْقُرْآنِ ثُمَّ يُحْسِنُ إِنَّ مَا مَضَى جَائِزٌ عَلَى مَا كُلِّفَ وَقَابَضَ عَلَى مَا كُلِّفَ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذِهِ مَسَائِلُ قَصَدَ الْمُزَنِيُّ بِإِيرَادِهَا نَصَّ قَوْلِهِ فِي الْمُتَيَمِّمِ إِذَا رَأَى الْمَاءَ فِي صَلَاتِهِ أَنَّهَا تَبْطُلُ وَالْجَوَابُ فِيهَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ التَّيَمُّمِ لَا يَصِحُّ، وَالْفَرْقُ بينهما قد مضى، فإذا وجد المصلي عريان فِي تَضَاعِيفِ صَلَاتِهِ ثَوْبًا فَعَلَيْهِ أَخْذُهُ، كَالْأَمَةِ سَوَاءً عَلَى مَا مَضَى مِنَ التَّقْسِيمِ وَالْجَوَابِ، وَكَذَلِكَ الْخَائِفُ إِذَا صَلَّى مُومِيًا ثُمَّ أَمِنَ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ أَمِنًا، وَأَجْزَأَهُ؛ فَأَمَّا الْأُمِّيُّ إِذَا تَعَلَّمَ الْفَاتِحَةَ فِي بَعْضِ الصَّلَاةِ فِيمَا مَضَى مِنْهَا فَتُجْزِئُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ بِهَا فِي بَقِيَّةِ الصَّلَاةِ، فَأَمَّا الرَّكْعَةُ الَّتِي تَعَلَّمَ فِيهَا الْفَاتِحَةَ فَلَيْسَ يَخْلُو حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أقسام:
[القسم الْأَوَّلُ] إِمَّا أَنْ يَتَعَلَّمَ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَلَا يَلْزَمُهُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِيهَا لِأَنَّهُ تَعَلَّمَهَا بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِهَا، فَصَارَ كَمَا لَوْ تَعَلَّمَهَا بَعْدَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَتَعَلَّمَهَا قَبْلَ الرُّكُوعِ وَقَبْلَ الْإِتْيَانِ بِبَدَلِهَا، فَعَلَيْهِ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِيهَا لِإِدْرَاكِ مَحَلِّهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَعَلَّمَهَا قَبْلَ الرُّكُوعِ وَبَعْدَ الْإِتْيَانِ بِبَدَلِهَا، فَعَلَيْهِ قِرَاءَتُهَا كَمَا لَوْ لَمْ يَأْتِ بِبَدَلِهَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي إِدْرَاكِ الْمَحَلِّ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْمُبَدِّلِ " الْمُتَيَمِّمِ " إِذَا رَأَى الْمَاءَ قَبْلَ دُخُولِهِ في الصلاة "
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَعَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ أَنْ يؤدِّبُوا أَوْلَادَهُمْ، ويُعلّموهم الطهارة وَيَضْرِبُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذَا عقلُوا "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ يَلْزَمُ الْآبَاءَ حَتْمًا وَاجِبًا أَنْ يُعَلِّمُوا صِبْيَانَهُمُ الطَّهَارَةَ وَالصَّلَاةَ إِذَا عَقَلُوا وهم إذا بلغوا سبع سنين، ويلزموهم أَنْ يَضْرِبُوهُمْ عَلَى تَرْكِهَا حِينَ الْبُلُوغِ، وَهُوَ فِي الْجَوَارِي لِتِسْعٍ وَالْغِلْمَانِ لِعَشْرٍ
وَأَصْلُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنُوا قُوا أنفسَكُم وأَهليكُم ناراً}

(2/313)


[التحريم: 6] . وَرَوَى عُمَرُ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَده أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مُرُوهم بِالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ "، وَلِأَنَّ فِي تَعْلِيمِهِمْ ذَلِكَ قَبْلَ بُلُوغِهِمْ إِلْفًا لَهَا وَاعْتِيَادًا لفِعلها، وَفِي إِهْمَالِهِمْ وَتَرْكِ تَعْلِيمِهِمْ مَا لَيْسَ يَخْفَى ضَرَرُهُ مِنَ التَّكَاسُلِ عَنْهَا عِنْدَ وُجُوبِهَا، وَالِاسْتِيحَاشِ مِنْ فِعْلِهَا وَقْتَ لُزُومِهَا، فَأَمَّا تَعْلِيمُهُمْ ذَلِكَ لِدُونِ سَبْعِ سِنِينَ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ في الغالب لَا يَضْبِطُونَ تَعْلِيمَ مَا يَعْلَمُونَ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى فِعْلِ مَا يُؤْمَرُونَ، فَإِذَا بَلَغُوا سَبْعًا مَيَّزُوا وَضَبَطُوا مَا عَلِمُوا، وَتَوَجَّهَ فَرْضُ التَّعْلِيمِ عَلَى آبَائِهِمْ، لَكِنْ لَا يَجِبُ ضَرْبُهُمْ عَلَى تَرْكِهَا، وَإِذَا بَلَغُوا عَشْرًا وَجَبَ ضَرْبُهُمْ عَلَى تَرْكِهَا ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَلَا مُمْرِضٍ، فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُؤْمَنُ عَلَيْهِمُ التَّلَفُ مِنْ ضَرْبِهَا، فَإِذَا بَلَغُوا الْحُلُمَ صَارُوا مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ وَتَوَجَّهَ نَحْوَهُمُ الْخِطَابُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ فِعْلُ الطَّهَارَةِ والصلاة وجميع العبادات

(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَمَنِ احْتَلَمَ أَوْ حَاضَ أَوِ اسْتَكْمَلَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً لَزِمَهُ الْفَرْضُ
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. أَمَّا الْبُلُوغُ فِي الْغِلْمَانِ، فَقَدْ يَكُونُ بِالسِّنِّ وَالِاحْتِلَامِ، فَأَمَّا الِاحْتِلَامُ فَهُوَ الْإِنْزَالُ، وَهُوَ الْبُلُوغُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59] . وَأَمَّا السِّنُّ فَإِذَا اسْتَكْمَلَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً صَارَ بَالِغًا لِحَدِيثِ ابْنِ عمر وخالفه أبو حنيفة فِي سِنِّ الْبُلُوغِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ " الْحَجِّ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَأَمَّا غِلَظُ الصَّوْتِ، وَاخْضِرَارُ الشَّارِبِ، وَنُزُولُ الْعَارِضَيْنِ، فليس ببلوغ لا يختلف، فأما إِنْبَاتُ الشَّعْرِ فِي الْعَانَةِ فَإِنْ كَانَ زَغَبًا لَمْ يَكُنْ بُلُوغًا، وَإِنْ كَانَ شَعْرًا قَوِيًّا كان بلوغاً في المشركين، ولما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَكَّمَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَحَكَمَ بِقَتْلِ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي، وَسَبَى الذَّرَارِيَّ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِذَلِكَ، وَقَالَ: " لَقَدْ حَكَمْتَ بِحُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ أَرْقِعَةٍ، يَعْنِي: سَبْعَ سموات. قَالَ وَكُنَّا نَكْشِفُ مُؤْتَزَرَهُمْ فَمَنْ أَنْبَتَ قَتَلْنَاهُ، وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ جَعَلْنَاهُ فِي الذَّرَارِيِّ. فَأَمَّا حُكْمُنَا فِي بُلُوغِ الْمُشْرِكِينَ بِالْإِنْبَاتِ فَهَلْ هُوَ بُلُوغٌ فِيهِمْ حَقِيقَةً أَوْ دَلَالَةٌ عَلَى بُلُوغِهِمْ، عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بُلُوغٌ فِيهِمْ
وَالثَّانِي: أنه دلالة على بلوغهم، فإن قُلْنَا: إِنَّهُ بُلُوغٌ فِيهِمْ كَانَ بُلُوغًا فِي الْمُسْلِمِينَ كَالِاحْتِلَامِ، وَإِذَا قُلْنَا دَلَالَةٌ فِيهِمْ فَهَلْ يَكُونُ دَلَالَةً فِي الْمُسْلِمِينَ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:

(2/314)


أَحَدُهُمَا: يَكُونُ دَلَالَةً فِيهِمْ
وَالثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ لَا يَكُونُ دَلَالَةً وَلَا يَحْكُمُ فِي بُلُوغِهِمْ
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ التُّهْمَةَ تَلْحَقُ الْمُسْلِمَ فِي الْإِنْبَاتِ إِذَا جُعِلَ بُلُوغًا، لِأَنَّهُ يَسْتَفِيدُ فِيهِ تَخْفِيفَ أَحْكَامِهِ فَلَهُ حَجْرُهُ وَالتَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ، وَقَبُولُ شَهَادَتِهِ وَكَوْنُهُ مِنْ أهل الولايات، والكافر غير منهم لِأَنَّ أَحْكَامَهُ تُغَلَّظُ فَيُقْتَلُ إِنْ كَانَ حَرْبِيًّا، وَلَا يُقَرُّ عَلَى دِينِهِ إِنْ كَانَ وَثَنِيًّا، وَتُؤْخَذُ جِزْيَتُهُ إِنْ كَانَ كِتَابِيًّا
وَالثَّانِي: أَنَّ الضَّرُورَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى جَعْلِ الْإِنْبَاتِ بُلُوغًا فِي الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى أَنْسَابِهِمُ الَّتِي لَا تُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِمْ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ تَدْعُ الضَّرُورَةُ إِلَى جَعْلِ الْإِنْبَاتِ بُلُوغًا فِيهِمْ، فَأَمَّا الْجَارِيَةُ فَتَبْلُغُ بِجَمِيعِ مَا يَبْلُغُ بِهِ الْغُلَامُ وَتَبْلُغُ أَيْضًا بِشَيْئَيْنِ آخَرَيْنِ: وَهُمَا الْحَيْضُ وَالْحَمْلُ
فَأَمَّا الْحَيْضُ فَبُلُوغٌ، لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فَلَا يَحِلُّ أَنْ يُنظر إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا "
وَأَمَّا الْحَمْلُ فَيُعْلَمُ بِهِ سِنُّ الْبُلُوغِ إِلَّا أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ بُلُوغٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلق من ماءٍ دافق يخرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلب وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 45، 46] فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْحَمْلَ يُخْلَقُ مِنْ مَاءٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَتَرَائِبِ النِّسَاءِ، فَعُلِمَ بِالْحَمْلِ وُجُودُ الْإِنْزَالِ مِنْهَا
فَأَمَّا الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ فَيَكُونُ بَالِغًا بِالسِّنِّ، فَأَمَّا الْحَيْضُ وَالْإِنْزَالُ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحِيضَ
وَالثَّانِي: أَنْ يُنْزِلَ
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَجْمَعَ الْأَمْرَيْنِ الْحَيْضَ وَالْإِنْزَالَ. فَأَمَّا الْحَيْضُ وَحْدَهُ فَلَا يَكُونُ بُلُوغًا فِيهِ بِحَالٍ، سَوَاءٌ خَرَجَ دَمُ الْحَيْضِ مِنْ فَرْجِهِ أَوْ ذَكَرِهِ أَوْ مِنْهُمَا، وَأَمَّا الْإِنْزَالُ وَحْدَهُ، فَإِنْ كَانَ مِنْ ذَكَرِهِ لَمْ يَكُنْ بُلُوغًا لِجَوَازِ كَوْنِهِ امْرَأَةً، وَإِنْ كَانَ مِنْ فَرْجِهِ لَمْ يَكُنْ بُلُوغًا لِجَوَازِ كَوْنِهِ رَجُلًا؛ وَإِنْ كَانَ مِنْ فَرْجِهِ وَذَكَرِهِ مَعًا كَانَ بُلُوغًا يَقِينًا؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ رَجُلًا فَقَدْ بَلَغَ بِالْإِنْزَالِ مِنْ ذَكَرِهِ، وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً فَقَدْ بَلَغَتْ بِالْإِنْزَالِ مِنْ فَرْجِهَا، وَأَمَّا الْإِنْزَالُ وَالْحَيْضُ إِذَا اجْتَمَعَا فَإِنْ كَانَا مَعًا مِنْ فَرْجِهِ لَمْ يَكُنْ بُلُوغًا وَإِنْ كَانَا مَعًا مِنْ ذَكَرِهِ لَمْ يَكُنْ بُلُوغًا، وَإِنْ كَانَ الْإِنْزَالُ مِنْ ذَكَرِهِ وَدَمُ الْحَيْضِ مِنْ فَرْجِهِ فمذهب الشافعي أنه بلوغ لجمع بَيْنَ بُلُوغِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " " إِنْ أَنْزَلَ وَحَاضَ لَمْ يَكُنْ بُلُوغًا " وَلَيْسَ هَذَا قَوْلًا ثَانِيًا، وَإِنَّمَا لَهُ أَحَدُ تَأْوِيلَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَالَ أَنْزَلَ أَوْ حَاضَ، فَأَسْقَطَ الْكَاتِبُ أَلِفًا وَإِنْ كَانَا مَعًا مِنْ أَحَدِ الْفَرْجَيْنِ

(2/315)