الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

 (بَابُ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَصِفَةِ الْأَئِمَّةِ)
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَصَلَاةُ الْأَئِمَّةِ مَا قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ما صليت خلف أحد قط أخف ولا أَتَمُّ صَلَاةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ " فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمُ السَّقِيمَ وَالضَّعِيفَ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، يَحْتَاجُ الْإِمَامُ أَنْ يُخَفِّفَ الصَّلَاةَ عَلَى مَنْ خَلْفَهُ بَعْدَ أَنْ يَأْتِيَ بِوَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ وَمَسْنُونَاتِهَا وَهَيْئَاتِهَا، لِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ ما صليت خلف أحد قط أخف ولا أَتَمَّ مِنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَرَوَى الْأَعْرَجُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ خَلْفَهُ السَّقِيمَ وَالضَّعِيفَ، فَإِذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ فَلْيُطِلْ كَيْفَ شَاءَ " وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ أَخَفَّ النَّاسِ صَلَاةً فِي تَمَامٍ، وَرُوِيَ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنِّي لَأَهُمُّ أَنْ أُطِيلَ الْقِرَاءَةَ فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ مِنْ آخِرِ الْمَسْجِدِ فَأُخَفِّفُ رَحْمَةً لَهُ ". وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْكَرَ عَلَى مُعَاذٍ حِينَ قَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَقَالَ أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ؟ أَيْنَ أَنْتَ مِنْ سُورَةِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، فَأَمَّا إِنْ صَلَّى مُنْفَرِدًا فَالْخِيَارُ إِلَيْهِ وَالْإِطَالَةُ بِهِ أَوْلَى، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ " وَإِذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ فَلْيُطِلْ كَيْفَ شَاءَ " وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ إِمَامًا يُصَلِّي بِجَمَاعَةٍ فِي مَسْجِدٍ أَوْ رِبَاطٍ لَا يُخَالِطُهُمْ غَيْرُهُمْ وَلَا يَسْتَطْرِقُهُمُ الْمَارَّةُ، جَازَ أَنْ يُطِيلَ الصَّلَاةَ بِهِمْ إِذَا اخْتَارُوا
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " وَيَؤُمُّهُمْ أَقْرَؤُهُمْ وَأَفْقَهُهُمْ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " يؤم القوم أقرؤهم " فإن لم يجتمع ذلك في واحد فإن قدم أفقههم إذا كان يقرأ ما يكتفي به في الصلاة فحسن، وإن قدم أقرؤهم إذا علم ما يلزمه فحسن، ويقدم هذا على أن منهما وإنما قيل يؤمهم أقرؤهم أسن من مضى كانوا يسلمون كباراً فيتفقهون قبل أن يقرؤوا ومن بعدهم كانوا يقرؤون صغاراً قبل أن يتفقهوا فإن استووا أمهم أسنهم فإن استووا فقدم ذو النسب فحسن وقال في القديم فإن استووا فأقدمهم هجرة وقال فيه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الأئمة من قريش "

(2/351)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يتقدم إلى الإمامة من جميع أَوْصَافَهَا، وَهِيَ خَمْسَةٌ: الْقِرَاءَةُ وَالْفِقْهُ وَالنَّسَبُ وَالسِّنُّ وَالْهِجْرَةُ بَعْدَ صِحَّةِ الدِّينِ وَحُسْنِ الِاعْتِقَادِ، فَمَنْ جَمَعَهَا وَكَمُلَتْ فِيهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ مِمَّنْ أَخَلَّ بِبَعْضِهَا؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ مَنْزِلَةُ اتِّبَاعٍ وَاقْتِدَاءٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مُتَحَمِّلُهَا كَامِلَ الْأَوْصَافِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهَا، فَإِنْ لَمْ تَجْتَمِعْ فِي وَاحِدٍ فَأَحَقُّهُمْ بِالْإِمَامَةِ مَنِ اخْتَصَّ بِأَفْضَلِهَا، وَأَوَّلُهَا الْفِقْهُ وَالْقِرَاءَةُ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ، وَأَحَقُّ بِالتَّقَدُّمِ مِنَ الشَّرَفِ وَالسِّنِّ وَالْهِجْرَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْأَقْرَأُ وَالْأَفْقَهُ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ مِنَ الشَّرَفِ وَالسِّنِّ وَقَدِيمِ الْهِجْرَةِ إِذَا لَمْ يَكُونُوا فُقَهَاءَ وَلَا قُرَّاءَ، لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " وَلِمَا رَوَى أَبُو مَسْعُودِ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْبَدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَحَقُّ النَّاسِ بِالْإِمَامَةِ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءٌ فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، وَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً ". وَإِنَّ الْفِقْهَ وَالْقِرَاءَةَ يَخْتَصَّانِ بِالصَّلَاةِ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ مِنْ شَرَائِطِهَا وَالْفِقْهَ لِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهَا وَالنَّسَبُ وَالسِّنُّ لَا تَخْتَصُّ بِهِ الصَّلَاةُ، فَكَانَ تَقْدِيمُ مَا اخْتَصَّ بِالصَّلَاةِ أَوْلَى فَإِذَا ثَبَتَ صَحَّ بِمَا ذَكَرْنَا تَقْدِيمُ الْأَقْرَأِ أَوِ الْأَفْقَهِ، فَالْفَقِيهُ إِذَا كَانَ يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ مِنَ الْقَارِئِ؛ لِأَنَّ مَا يَجِبُ مِنَ الْقِرَاءَةِ مَحْصُورٌ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْفِقْهِ غَيْرُ محصور؛ لكثرة أحكامها، ووقوع حوادثها
وإن قِيلَ هَذَا يُخَالِفُ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَؤُمُّكُمْ أَقْرَؤُكُمْ " قُلْنَا هَذَا غَيْرُ مُخَالِفٍ لَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خِطَابٌ لِلصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ خَارِجٌ عَلَى حَسَبِ حَالِهِمْ، وَكَانَ أَقْرَؤُهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَفْقَهَهُمْ، بِخِلَافِ هَذَا الزَّمَانِ؛ لأنهم كانوا يتفقهون ثم يقرؤون ومن في زماننا يقرؤون ثُمَّ يَتَفَقَّهُونَ
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: مَا كَانَتْ تَنْزِلُ السُّورَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا وَنَعْلَمُ أَمْرَهَا وَزَجْرَهَا وَنَهْيَهَا، وَالرَّجُلُ الْيَوْمَ يَقْرَأُ السُّورَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا وَلَا يَعْرِفُ مِنْ أَحْكَامِهَا شَيْئًا، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: ما كنا نجوز على عشرة أيام حَتَّى نَعْرِفَ حَلَالَهَا وَحَرَامَهَا وَأَمْرَهَا وَنَهْيَهَا، فَإِذَا تَقَرَّرَ تَقْدِيمُ الْأَفْقَهِ ثُمَّ الْأَقْرَأُ فَاسْتَوَوْا فِي الْفِقْهِ وَالْقِرَاءَةِ فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّ ذَا النَّسَبِ الشَّرِيفِ أَوْلَى مِنْ ذِي الْهِجْرَةِ الْقَدِيمَةِ
وهل يكون أولى من ذي النسب عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ ذَا النَّسَبِ الشَّرِيفِ أَوْلَى مِنَ الْمُسِنِّ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الأئمة من

(2/352)


قريش " وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قَدِّمُوا قُرَيْشًا وَلَا تَتَقَدَّمُوهَا، وَتَعَلَّمُوا مِنْهَا وَلَا تُعَلِّمُوهَا "
وَالْقَوْلُ الثَّانِي قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّ الْمُسِنَّ أَوْلَى مِنْ ذِي النَّسَبِ لِرِوَايَةِ مَالِكٍ عَنِ الْحُوَيْرِثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ أَتَيَاهُ أَذِّنَا وَأَقِيمَا وَلْيَؤُمَّكُمَا أكبركما " وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الشَّيْبُ وَقَارٌ وَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ (إِنِّي لَأَسْتَحِي مِنْ عَبْدِي وَأَمَتِي يَشِيبَانِ فِي الْإِسْلَامِ أَنْ أُعَذِّبَهُمَا بِالنَّارِ) وَلِأَنَّ الْمُسِنَّ أَسْكَنُ نَفْسًا وَأَكْثَرُ خُشُوعًا لِكَثْرَةِ صَلَاتِهِ وَقِلَّةِ شَهَوَاتِهِ، فَإِنِ اسْتَوَتْ أَحْوَالُهُمْ وَاتَّفَقَتْ أَصْوَاتُهُمْ فَهُمْ فِي الْإِمَامَةِ سَوَاءٌ
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ يُقَدَّمُ أَحْسَنُهُمْ وَجْهًا لِرِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَؤُمُّكُمْ أَحْسَنُكُمْ وَجْهًا، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يَكُونَ أحسنكم خلقاً "

(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ أَمَّ مَنْ بَلَغَ غَايَةً فِي خِلَافِ الْحَمْدِ مِنَ الدِّينِ أَجْزَأَ، صَلَّى ابْنُ عُمَرَ خَلْفَ الْحَجَّاجِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَقَدْ نَصَّ الْكَلَامُ وَذَكَرْنَا أَنَّ مَنِ ائْتَمَّ بِفَاسِقٍ لَمْ يُعِدْ وَأَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، إِذَا لَمْ يُخْرِجْ نَفْسَهُ مِنَ الْمِلَّةِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " سَيَأْتِي مِنْ بَعْدِي أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ أَوْقَاتِهَا فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، وَاجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ سُنَّةً " فَلَمَّا جَوَّزَ الصَّلَاةَ خَلْفَهُ وَمُؤَخِّرُ الصَّلَاةِ عَمْدًا فَاسِقٌ، دَلَّ عَلَى صِحَّةِ إِمَامَتِهِ وَجَوَازِ الِائْتِمَامِ بِهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّتْ إِمَامَتُهُ فِي النَّافِلَةِ صَحَّتْ فِي الْفَرِيضَةِ كَالْعَدْلِ
وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ أَكَانَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ إِذَا صَلَّيَا خَلْفَ مروان بن لحكم يُعِيدَانِ الصَّلَاةَ فَقَالَ: لَا مَا كَانَا يَزِيدَانِ عَلَى الصَّلَاةِ مَعَهُ غَيْرَ النَّوَافِلِ
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَتَقَدَّمُ أَحَدٌ فِي بَيْتِ رَجُلٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا فِي وِلَايَةِ سُلْطَانٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَلَا فِي بَيْتِ رَجُلٍ أَوْ غَيْرِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى تَأَذِّيهِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كما قال

(2/353)


إِذَا حَضَرَ جَمَاعَةٌ بَيْتَ رَجُلٍ فَلَيْسَ لَهُمُ الصَّلَاةُ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِالتَّصَرُّفِ فِي مَنْزِلِهِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُمْ فِي الصَّلَاةِ فَهُوَ أَحَقُّهُمْ بِالْإِمَامَةِ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ وَالسِّنِّ وَالشَّرَفِ، إِذَا كَانَ يُحْسِنُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا تَصِحُّ بِهِ إِمَامَتُهُ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَإِنْ أَمَّهُمْ أَوْ أَذِنَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ جَمَعُوا وَإِلَّا صَلَّوْا فُرَادَى وَلَمْ يَجْمَعُوا
وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةُ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَحَقُّ النَّاسِ بِالْإِمَامَةِ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا، وَلَا يَؤُمُّ رَجُلٌ رَجُلًا فِي بَيْتِهِ وَلَا فِي وِلَايَةِ سُلْطَانِهِ وَلَا يَجْلِسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ". وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أَسَدٍ أَنَّهُ قَالَ جَاءَنِي أَبُو ذَرٍّ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَلَمَّا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ تَقَدَّمَ أَبُو ذَرٍّ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: وَذَا كَرَبِّ الْبَيْتِ وَهُوَ أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ: كَذَلِكَ يَا ابْنَ مَسْعُودٍ؟ قَالَ: نَعَمْ رَبُّ الْبَيْتِ
وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ صَاحِبُ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ

(فَصْلٌ)
: فَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الدَّارِ أُمِّيًّا اعْتُبِرَتْ حَالُهُمْ، فَإِنْ كَانُوا مِثْلَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِإِمَامَتِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا أَقْرَأَ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْإِمَامَةِ وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَإِنْ أَذِنَ لِأَحَدِهِمْ فَهُوَ أَحَقُّ بِإِمَامَتِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ صَلَّوْا فُرَادَى، وَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الدَّارِ امْرَأَةً فَلَا حَقَّ لَهَا فِي الْإِمَامَةِ، إِلَّا أن يكونوا نساء ليس لهن أن يأموا بِإِحْدَاهُنَّ إِلَّا بِإِذْنِهَا، وَلَوْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا اسْتُؤْذِنَ وَلِيُّهُ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُمْ جَمَعُوا، وَإِلَّا صَلَّوْا فُرَادَى، فَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الدَّارِ عَبْدًا فَإِنْ كَانَ سَيِّدُهُ حَاضِرًا فَهُوَ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَالْعَبْدُ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا فَهُوَ أَوْلَى بِالتَّصَرُّفِ مِنْ غَيْرِهِ، فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَهُوَ أَحَقُّ مِنْ سَيِّدِهِ لِأَنَّهُ أَمْلَكُ بِالتَّصَرُّفِ مِنْهُ، فَلَوْ حَضَرَ رَبُّ الدَّارِ وَمُسْتَأْجِرُهَا فَمُسْتَأْجِرُهَا أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ مِنْ رَبِّهَا، لِأَنَّهُ أَمْلَكُ مِنْهُ لِمَنَافِعِهَا، فَلَوْ حَضَرَ إِمَامُ الْوَقْتِ أَوْ سُلْطَانُ الْبَلَدِ مَنْزِلَ رَجُلٍ فَفِي أَحَقِّهِمْ بِالْإِمَامَةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: رَبُّ الدَّارِ أَحَقُّ بِهَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَبُّ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ، لِأَنَّهُ مَالِكُهَا وَأَحَقُّ النَّاسِ بِمَنَافِعِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَحَقَّ النَّاسِ بِالْإِمَامَةِ فِيهَا لِكَوْنِ الْإِمَامَةِ تَصَرُّفًا فِيهَا
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ وَعَلَيْهِ نَصَّ فِي الْجَدِيدِ وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ الْإِمَامَ وَالسُّلْطَانَ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ مِنْ رَبِّ الدَّارِ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِمَامَةِ عَامَّةٌ وَوِلَايَةَ رَبِّ الدَّارِ خَاصَّةٌ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ رَاعِي الْجَمَاعَةِ ووالٍ عَلَى الْكَافَّةِ، وَرَبُّ الدَّارِ مِنْ جُمْلَةِ رَعِيَّتِهِ، وَدَاخِلٌ تَحْتَ وِلَايَتِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ فِي الْإِمَامَةِ الَّتِي هِيَ عَمُودُ الْوِلَايَةِ

(2/354)


(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا إِمَامُ الْعَصْرِ فَهُوَ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ فِي أَعْمَالِهِ مِنْ سَائِرِ رَعِيَّتِهِ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمُ التَّقَدُّمُ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَكَذَلِكَ وَالِي الْبَلَدِ وَسُلْطَانُهُ أَحَقُّ بِإِمَامَتِهِ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِهِ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَلَا فِي سُلْطَانِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ " وَلِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عُمُومِ وِلَايَتِهِ وَكَوْنِ الْجَمَاعَةِ مِنْ رَعِيَّتِهِ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْ رَعِيَّتِهِ أَنْ يُنَصِّبَ نَفْسَهُ إِمَامًا لِجَامِعِ الْبَلَدِ إِلَّا بِإِذْنِ سُلْطَانِهِ لما في ذلك من الاستهانة به، وإلا فتيان عليه في ولايته وَإِنْ عُدِمَ السُّلْطَانُ فَارْتَضَى أَهْلُ الْبَلَدِ بِتَقْدِيمِ أَحَدِهِمْ جَازَ، فَأَمَّا مَسَاجِدُ الْعَشَائِرِ وَالْأَسْوَاقِ فَيَجُوزُ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَنْدُبَ نَفْسَهُ لِلْإِمَامَةِ فِيهَا وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنِ السُّلْطَانَ، لِمَا فِي اسْتِئْذَانِهِ مِنَ التَّعَذُّرِ الْمُفْضِي إِلَى تَرْكِ الْجَمَاعَةِ، فَإِذَا انْتُدِبَ أَحَدُهُمْ لِإِمَامَةِ مَسْجِدِهِ وَعُرِفَ بِهِ وَرَضِيَتِ الْجَمَاعَةُ بِإِمَامَتِهِ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ التَّقَدُّمُ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ حَضَرَ مَسْجِدَ مَوْلًى لَهُ فَقِيلَ لَهُ تَقَدَّمْ فَقَالَ لِمَوْلَاهُ تَقَدَّمْ فَإِنَّكَ إِمَامُ الْمَسْجِدِ

(2/355)