الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

 (بَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ وَالْجَمْعِ فِي السَّفَرِ)
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا سَافَرَ الرَّجُلُ سَفَرًا يَكُونُ سِتَّةً وَأَرْبَعِينَ ميلاً بالهاشمي فله أن يقصر الصلاة سافر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أميالاً فقصر وقال ابن عباس أقصر إلى جدة وإلى الطائف وعسفان. قال الشافعي وأقرب ذلك إلى مكة ستة وأربعون ميلاً بالهاشمي وسافر ابن عمر إلى ريم فقصر قال مالك وذلك نحو من أربعة برذ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، جُمْلَةُ الْأَسْفَارِ عَلَى أربع أَضْرُبٍ، وَاجِبٌ، وَطَاعَةٌ، وَمُبَاحٌ وَمَعْصِيَةٌ
فَالسَّفَرُ الْوَاجِبُ كَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْجِهَادِ وَالطَّاعَةِ، وَالسَّفَرِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَزِيَارَةِ الْوَالِدَيْنِ
وَالْمُبَاحُ سَفَرُ التِّجَارَةِ
وَالْمَعْصِيَةُ السَّفَرُ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ وَإِخَافَةِ السُّبُلِ
فَأَمَّا سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْصُرَ فِيهِ وَلَا يُفْطِرَ، وَالْكَلَامُ فِيهِ يَأْتِي فِيمَا بَعْدُ
وَأَمَّا السَّفَرُ الْوَاجِبُ وَالطَّاعَةُ وَالْمُبَاحُ فَيَجُوزُ فِيهِ الْقَصْرُ، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَهُوَ مَذْهَبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ لَا يَجُوزُ الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ إِلَّا فِي السَّفَرِ الْوَاجِبِ وَهُوَ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَالْجِهَادُ، تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] . فَوَرَدَتِ الْآيَةُ بِإِبَاحَةِ الْقَصْرِ بِشَرْطِ الْخَوْفِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَقَصَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ، فَلَمْ يَجُزِ الْقَصْرُ فِي غَيْرِهِ قَالُوا وَلِأَنَّ الصَّوْمَ وَالْإِتْمَامَ وَاجِبٌ، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ لَا يَجُوزُ إِلَى غَيْرِ وَاجِبٍ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ تَرْكُهُ إِلَى وَاجِبٍ كَتَرْكِ التَّسَتُّرِ لِلْخِتَانِ، وَهَذَا غَلَطٌ
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ سَأَلْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُلْتُ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى الْقَصْرَ فِي الْخَوْفِ فَمَا بَالُنَا نَقْصُرُ فِي غَيْرِ الْخَوْفِ؟ فَقَالَ قَدْ عَجِبْتُ مِمَّا قَدْ عَجِبْتَ

(2/358)


مِنْهُ فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " الْقَصْرُ رُخْصَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ " فَأَخْبَرَ أَنَّ الْقَصْرَ فِي غَيْرِ الْخَوْفِ صَدَقَةٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه سافر أيناً فَقَصَرَ الصَّلَاةَ "
فَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِالْآيَةِ فَهِيَ وَإِنِ اقْتَضَتْ جَوَازَ الْقَصْرِ فِي الْجِهَادِ فَالسُّنَّةُ تَقْتَضِي جَوَازَهُ فِي غَيْرِ الْجِهَادِ، فَاسْتَعْمَلْنَاهُمَا مَعًا، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْوَاجِبِ إِلَى غَيْرِ وَاجِبٍ فَمُنْتَقَضٌ بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا الْفِطْرُ، لِأَنَّ دَاوُدَ يُجَوِّزُهُ فِي السَّفَرِ الْمُبَاحِ وَهُوَ تَرْكُ وَاجِبٍ إِلَى غَيْرِ وَاجِبٍ، وَالثَّانِي الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي الْمَطَرِ جَائِزٌ وَهُوَ تَرْكُ وَاجِبٍ إِلَى غَيْرِ وَاجِبٍ

(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ الْمُبَاحِ كَجَوَازِ قَصْرِهِ فِي الْوَاجِبِ فَلَا يَجُوزُ إِلَّا فِي سَفَرٍ مَحْدُودٍ؛ لِأَنَّ الرُّخَصَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالسَّفَرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: ضَرْبٌ مِنْهَا يَتَعَلَّقُ بِسَفَرٍ مَحْدُودٍ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ، الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ ثَلَاثًا، وَضَرْبٌ مِنْهَا يَتَعَلَّقُ بِطَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ، وَهُوَ شَيْئَانِ التَّيَمُّمُ وَالصَّلَاةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَيْنَمَا تَوَجَّهَتْ، وَضَرْبٌ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ
قَالَ فِي الْقَدِيمِ: يَجُوزُ فِي طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ إِلْحَاقًا بِالتَّيَمُّمِ وَصَلَاةِ النَّافِلَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي سَفَرٍ مَحْدُودٍ إِلْحَاقًا بِالْقَصْرِ وَالْفِطْرِ
وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ يَجُوزُ الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ فِي طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ، تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] فَأَطْلَقَ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَلَمْ يُقَدِّرْهُ بِحَدٍّ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَرِوَايَةُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَافَرَ فَرْسَخًا فَقَصَرَ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى الْحَلْبَةِ فَرَجَعَ مِنْ يَوْمِهِ وَقَصَرَ، وَقَالَ إِنَّمَا فَعَلْتُ هَذَا لِأُعْلِّمَكُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ
وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ " وَذَلِكَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الطَّائِفِ وَعُسْفَانَ
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، قِيلَ قَدْ رَوَيْنَاهُ مُسْنَدًا عَنْهُ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّ الْخَبَرَ إِذَا رُوِيَ مَوْقُوفًا وَمُسْنَدًا حُمِلَ الْمَوْقُوفُ عَلَى أَنَّهُ مَذْهَبُ الرَّاوِي، وَالْمُسْنَدُ عَلَى أَنَّهُ قَوْلُ

(2/359)


النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْقَصْرِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَا يَجُوزُ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ لَا يَجُوزُ فِي أَقَلَّ مِنْ يَوْمَيْنِ، فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ مَحْدُودٌ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ حَدِّهِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَّقَ الْقَصْرَ بِالسَّفَرِ وَمَنَعَ مِنْهُ فِي الْحَضَرِ، فَكَانَ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا لُحُوقُ الْمَشَقَّةِ فِي السَّفَرِ وَعَدَمُهَا فِي الْحَضَرِ، وَالسَّفَرُ الْقَصِيرُ لَا تَلْحَقُ الْمَشَقَّةُ فِيهِ غَالِبًا، فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهِ الْقَصْرُ، فَأَمَّا عُمُومُ الْآيَةِ فَمَحْمُولٌ عَلَى السَّفَرِ الْمَحْدُودِ بِدَلِيلِنَا
وَأَمَّا الْخَبَرُ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ سَفَرُهُ طَوِيلًا، وَإِنَّمَا قَصَرَ فِي الْفَرْسَخِ الْأَوَّلِ لِيُعْلَمَ جَوَازُهُ قَبْلَ قَطْعِ الْمَسَافَةِ الْمَحْدُودَةِ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَالْمَرْوِيُّ عَنْهُ غَيْرُهُ، فَلَمْ يَصِحَّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لِلرِّوَايَتَيْنِ

(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ سَفَرَ الْقَصْرِ مَحْدُودٌ فَحَدُّهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ، وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، لِأَنَّ الْبَرِيدَ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ وَهُوَ ثمانية وأربعون ميلاً، لأن الْفَرْسَخَ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ، وَالْمِيلُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ قَدَمٍ، وَذَلِكَ عَلَى سَيْرِ النَّقْلِ وَدَبِيبِ الْأَقْدَامِ مَسَافَةُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ سَيْرًا مُتَّصِلًا، وَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ وَمَعَانٍ متفقة، فقال في هذا الموضوع سِتَّةً وَأَرْبَعِينَ مِيلًا بِالْهَاشِمِيِّ يُرِيدُ إِذَا لَمْ يُعَدَّ الْمِيلُ فِي الِابْتِدَاءِ وَالْمِيلُ فِي الِانْتِهَاءِ
وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ أَرْبَعِينَ مِيلًا يُرِيدُ أَمْيَالَ بَنِي أُمَيَّةَ، وَقَالَ فِي " الْإِمْلَاءِ " لَيْلَتَيْنِ قَاصِدَتَيْنِ يُرِيدُ سِوَى اللَّيْلَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا فَهَذَا وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُهُ فَمَعَانِيهِ مُتَّفِقَةٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَقَاوِيلَ مختلفة وتحقيق ذلك مرحلتان كل مرحة ثَمَانِيَةُ فَرَاسِخَ عَلَى غَالِبِ الْعَادَةِ فِي سَيْرِ النَّقْلِ وَدَبِيبِ الْأَقْدَامِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عباس وَإِسْحَاقُ
وَقَالَ أبو حنيفة، وَالثَّوْرِيُّ: لَا يَجُوزُ الْقَصْرُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِ مَرَاحِلَ وَهِيَ مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَأَحْمَدُ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ مَسْعُودٍ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لا يجل لامرأةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ ثلاثة أيامٍ إلا مع ذي محرمٍ "
قال الماوردي: فَلَمَّا جَعَلَ الْمَحْرَمَ شَرْطًا فِي الثَّلَاثَةِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ شَرْطًا فِيمَا دُونَهَا عُلِمَ

(2/360)


أَنَّ الثَّلَاثَةَ حَدُّ السَّفَرِ وَمَا دُونَهَا لَيْسَ بِسَفَرٍ، إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ تُسَافِرَ بِغَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ. وَبِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " يمسح المسافر ثلاثة أيامٍ ولياليهن " فَقَصَدَ بِإِدْخَالِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ جِنْسَ الْمُسَافِرِ فَأَبَاحَهُمُ الْمَسْحَ ثَلَاثًا، فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ لَا يُكَرِّرُ الْمَسْحَ ثَلَاثًا لَيْسَ بِمُسَافِرٍ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الثَّلَاثَةَ أَقَلُّ الْكَثِيرِ وَأَكْثَرُ الْقَلِيلِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ فِي قَلِيلِ السَّفَرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَقَلُّ الْكَثِيرِ وَهُوَ الثَّلَاثُ حَدًّا لَهُ
وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] فَاقْتَضَى هَذَا الظَّاهِرُ جَوَازَ الْقَصْرِ فِي جَمِيعِ السَّفَرِ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ مِنْ مُسَافِرِهِ دُونَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ
وَرَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ وَذَلِكَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى عَسَفَانَ "
وَلِأَنَّهَا مَسَافَةٌ تُلْحِقُ الْمَشَقَّةَ فِي قَطْعِهَا غَالِبًا، فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ الْقَصْرُ فِيهَا كَالثَّلَاثِ، وَلِأَنَّهَا مَسَافَةٌ تُسْتَوْفَى فِيهَا أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عَلَى وَجْهِ التَّكْرَارِ فِي الْعَادَةِ، فَجَازَ لَهُ الْقَصْرُ فِيهَا كَالثَّلَاثِ، وَلِأَنَّهُ زَمَانُ مَضْرُوبِ الْمَسْحِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ حَدَّ السَّفَرِ لِلْقَصْرِ كَالثَّلَاثِ، وَلِأَنَّ كُلَّ زَمَانٍ تَكَرَّرَتْ فِيهِ الْفَرِيضَةُ الْوَاحِدَةُ لَمْ يَكُنْ حَدُّ السَّفَرِ الْقَصْرَ كَالْأُسْبُوعَيْنِ فِي تَكْرَارِ الْجُمُعَتَيْنِ
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَحِلُّ لامرأةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ ثَلَاثَةَ أيامٍ إِلَّا مَعَ ذِي محرمٍ "
فَقَدْ رُوِيَ مَسَافَةَ يَوْمٍ، وَرُوِيَ مَسَافَةَ يَوْمَيْنِ فَلَمَّا اخْتَلَفَتْ فِيهِ الرِّوَايَاتُ لَمْ يَجُزِ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ
وَأَمَّا حَدِيثُ الْمَسْحِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى مَسْحِ الثَّلَاثِ فِي مَسَافَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِذَا سَارَ مَا فِي ثَلَاثٍ
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ الثَّلَاثُ أَقَلُّ حَدِّ الْكَثِيرِ فَلَا يَصِحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الثَّلَاثَ فِي الشَّرْعِ مُعْتَبَرَةٌ بِحُكْمِ مَا دُونَهَا لَا بِحُكْمِ مَا زَادَ عَلَيْهَا كَشَرْطِ الْخِيَارِ، وَحَدِّ الْمُقَامِ، وَاسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّ فَاقْتَضَى أَنْ يُعْتَبَرَ بِهَا فِي السَّفَرِ حُكْمُ مَا دُونَهَا وَنَحْنُ كَذَا نَقُولُ
وَالثَّانِي: أَنَّ اعْتِبَارَ الثَّلَاثِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالزَّمَانِ، وَالِاعْتِبَارُ فِي السَّفَرِ بِالسَّيْرِ لَا بِالزَّمَانِ، فَلَمْ يَكُنْ لِاعْتِبَارِهِ فِي الثَّلَاثِ وَجْهٌ

(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَصْرَ يَجُوزُ فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا، فَلَا اعْتِبَارَ بِالزَّمَانِ مَعَهَا إِذَا كَانَ قَدْرُ الْمَسَافَةِ مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ الزَّمَانَ قَدْ يُوجَدُ خَالِيًا

(2/361)


مِنَ السَّيْرِ فَلَمْ يَصِحَّ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ، فَلَوْ أَسْرَعَ فِي سَيْرِهِ وَسَارَ هَذِهِ الْمَسَافَةَ فِي يَوْمٍ أَوْ بَعْضِهِ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ لِوُجُودِ الْمَعْنَى الْمُبِيحِ وَهُوَ الْمَسَافَةُ الْمَحْدُودَةُ

(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وأكره ترك القصر رغبة عن السنة، فأما أنا فلا أحب أن أقصر في أقل من ثلاثة أيامٍ احْتِيَاطًا عَلَى نَفْسِي وَإِنَّ تَرْكَ الْقَصْرِ مُبَاحٌ لو قصر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأتم
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ
وَالْمُسَافِرُ عِنْدَنَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي سَفَرِهِ وَبَيْنَ إِتْمَامِهَا أَرْبَعًا كَالْحَضَرِ فَيَكُونُ مَا أَتَمَّهُ مِنْ سَفَرِهِ صَلَاةُ حَضَرٍ لَا صَلَاةَ سَفَرٍ هَذَا مَذْهَبُنَا، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَمِنَ التَّابِعِينَ أَبُو قِلَابَةَ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَبُو ثَوْرٍ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ الْقَصْرُ فِي السَّفَرِ وَاجِبٌ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنْ أَتَمَّ الصَّلَاةَ أَفْسَدَهَا وَأَجْمَعُوا: أَنَّهُ لَوْ صَلَّى خَلْفَ مُقِيمٍ أَتَمَّ وَلَمْ يَقْصُرْ وَاسْتَدَلُّوا بِرِوَايَةِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَرَضَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ فَأَخْبَرَ أَنَّ فَرْضَ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ لَا غَيْرَ
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ رَكْعَتَانِ فَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: صَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لِلظَّاعِنِ رَكْعَتَانِ وَلِلْمُقِيمِ أَرْبَعٌ "
وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " خَيْرُ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ سَافَرُوا قَصَرُوا الصَّلَاةَ وَأَفْطَرُوا "

(2/362)


فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ شَرُّهُمْ مَنْ أَتَمَّ الصَّلَاةَ وَلَمْ يُفْطِرْ
وَهَذَا وَصْفٌ لَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ تَرَكَ الْمُبَاحَ وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ تَرَكَ الْوَاجِبَ
قَالُوا: وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَذَلِكَ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَتَمَّ الصَّلَاةَ بِمِنًى فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالصَّحَابَةُ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: قَدْ تَأَهَّلْتُ بِمَكَّةَ
فَلَمَّا تَبَيَّنَ الْمَعْنَى الَّذِي أَتَمَّ لِأَجْلِهِ وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ مُقِيمًا عُلِمَ أَنَّ الْقَصْرَ وَاجِبٌ لِاعْتِذَارِهِ، قَالُوا وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ رُدَّتْ إِلَى رَكْعَتَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا كَالْجُمُعَةِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ وَاجِبَةً أَوْ غَيْرَ وَاجِبَةٍ: فَبَطَلَ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَهَا جَازَ وَالْوَاجِبُ لَا يَسْقُطُ إِلَى غَيْرِ وَاجِبٍ، وَإِذَا قِيلَ إِنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ لَمْ يَجُزْ فِعْلُهَا كَالْمُصَلِّي الصُّبْحَ أَرْبَعًا. وَهَذَا خَطَأٌ
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] فَأَخْبَرَ تَعَالَى بِوَضْعِ الْجُنَاحِ عَنَّا فِي الْقَصْرِ، وَالْجُنَاحُ الْإِثْمُ، وَهَذَا مِنْ صِفَةِ الْمُبَاحِ لَا الْوَاجِبِ، فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] . وَالسَّعْيُ وَاجِبٌ
قِيلَ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى سَبَبٍ وَهُوَ أَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كَانَتْ لَهَا عَلَى الصَّفَا صَنَمٌ اسْمُهُ أَسَافُ، وَعَلَى الْمَرْوَةِ صَنَمٌ اسْمُهُ نَائِلَةُ فَكَانَتْ تَطَّوَّفُ حَوْلَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ تَقَرُّبًا إِلَى الصَّنَمَيْنِ فَظَنَّ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ السَّعْيَ حَوْلَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ غَيْرَ جَائِزٍ فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِإِبَاحَتِهِ وَإِنَّهُ وَإِنْ شَابَهَ أَفْعَالَ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ السَّعْيُ الَّذِي وَرَدَتْ فِيهِ الْآيَةُ مُبَاحًا وَغَيْرَ وَاجِبٍ لِأَنَّ السَّعْيَ الْوَاجِبَ: بَيْنَهُمَا وَالْآيَةُ وَارِدَةٌ بِالسَّعْيِ بِهِمَا
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ وَإِنْ تَضَمَّنَتِ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَالْمُرَادُ بِهَا الْمُبَاحُ لَا الْوَاجِبُ؛ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ قَبْلَ وُجُوبِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا وَإِنَّمَا كَانَ مُبَاحًا أَلَا تَرَى إِلَى مَا رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي لَا أَرَى أَنْ لَا جناحٍ عَلَيَّ إِذَا لَمْ أَطُفْ بِهِمَا، فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: بِئْسَ مَا قُلْتَ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ سَنَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ ذَلِكَ
فَإِنْ أَرَادَ [بِهِ] قَصْرَ هَيْئَاتِ الصَّلَاةِ وَتَحْقِيقَ أَفْعَالِهَا لَا تَقْصِيرَ أَعْدَادِ رَكَعَاتِهَا قيل هذا

(2/363)


تَأْوِيلٌ قَبِيحٌ يَدْفَعُهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ، وَيُبْطِلُهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ لِأَنَّ يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى الْقَصْرَ فِي الْخَوْفِ فَمَا بَالُنَا نَقْصُرُ فِي غَيْرِ الْخَوْفِ؟ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " الْقَصْرُ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ " فَقَدْ فَهِمَتِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنَ الْآيَةِ مَعَ ظُهُورِهِ عَلَى أَنَّ قَصْرَ الْهَيْئَاتِ لَا تَخْتَصُّ بِالْخَوْفِ أَوِ السَّفَرِ الْمَشْرُوطِ فِي الْآيَةِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ قَصْرُ الْأَعْدَادِ، وَمِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مَا رَوَاهُ عَطَاءٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي سَفَرِهِ يُتِمُّ وَيَقْصُرُ وَيَصُومُ وَيُفْطِرُ
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمَّا انْصَرَفْنَا قَالَ لِي: يَا عَائِشَةُ مَاذَا صَنَعْتِ فِي سَفَرِكِ قُلْتُ أَتْمَمْتُ مَا قَصَرْتُ وَصُمْتُ مَا أَفْطَرْتُ فَقَالَ أَحْسَنْتِ
فَدَلَّ ذَلِكَ من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ وَالْفِطْرَ رُخْصَةٌ
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَمِنَّا الْمُتِمُّ وَمِنَّا الْمُقْصِرُ. وَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ. فَلَمْ يَعِبِ الْمُتِمُّ عَلَى الْمُقْصِرُ وَلَا الْمُقْصِرُ عَلَى الْمُتِمِّ وَلَا الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ، وَلِأَنَّهُ أَتَى بِغَرَضِ الْإِقَامَةِ فِيمَا يَصِحُّ فِعْلُهُ مُنْفَرِدًا فَوَجَبَ أَنْ يجز بِهِ
أَصْلُهُ: التَّمَامُ فِي الصَّلَاةِ خَلْفَ الْمُقِيمِ
ولأنه عذر بغير فَرْضَ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنَ الْإِتْيَانِ بِغَرَضِ الرَّفَاهِيَةِ كَالْمَرَضِ وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَفْرُوضَةٌ فَصَحَّ أَنْ تُؤَدَّى فِي السَّفَرِ فَرْضَ الْحَضَرِ
أَصْلُهُ: الصَّلَوَاتُ الَّتِي لَا تُقْصَرُ وَهِيَ الْمَغْرِبُ وَالصُّبْحُ. وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا صَلَاةُ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ لَوْ صَلَّاهَا فِي سَفَرٍ لَمْ تُجْزِهِ عَنْ فَرْضِهِ، وَلِأَنَّ الْأَعْذَارَ الْمُؤَثِّرَةَ فِي الصَّلَاةِ تَخْفِيفًا إِنَّمَا تُؤَثِّرُ فِيهَا رُخْصَةً لَا وُجُوبًا كَالْمَرَضِ، وَلِأَنَّ السَّفَرَ إِذَا اقْتَضَى رِفْقًا فِي الصَّلَاةِ كَانَ ذَلِكَ رُخْصَةً لَا عَزِيمَةً كَالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ؛ وَلِأَنَّ مَنْ جَازَ مِنْهُ الْقَصْرُ صَحَّ مِنْهُ الْإِتْمَامُ كَالْمُسَافِرِ إِذَا صَلَّى خَلْفَ مُقِيمٍ، وَلِأَنَّ كُلَّ رَكَعَاتٍ اسْتَوْفَاهَا فِي فَرْضِهِ خَلْفَ الْإِمَامِ وَجَبَ إِذَا انْفَرَدَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الرَّكَعَاتُ فَرْضَهُ كَالْمُقِيمِ

(2/364)


فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَفِيهِ جَوَابَانِ
أَحَدُهُمَا: أَنَّ ظَاهِرَ الْأَحَادِيثِ يَقْتَضِي جَوَازَ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَيْنِ، وَهَذَا مُسَلَّمٌ بِإِجْمَاعٍ وَإِنَّمَا تَقُولُ إِنَّ الْمُسَافِرَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْتِيَ بِصَلَاةِ السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ أَوْ بِصَلَاةِ الْحَضَرِ أَرْبَعًا
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا: مَا لَا يَجُوزُ النُّقْصَانُ مِنْهُ وَهُوَ رَكْعَتَانِ فِي السَّفَرِ وَأَرْبَعٌ فِي الْحَضَرِ
وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِمَا رَوَاهُ مِنْ قَوْلِهِ: " خَيْرُ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ إِذَا سَافَرُوا أَفْطَرُوا وَقَصَرُوا ". فَهَذَا حَدِيثٌ مَوْقُوفٌ عَلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فَلَمْ يَلْزَمْ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْفِطْرِ، وَالْقَصْرِ ثُمَّ لَوْ صَامَ جَازَ، كَذَلِكَ إِذَا أَتَمَّ
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ فَخَطَأٌ كَيْفَ يَكُونُ إِجْمَاعًا وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأَنَسٌ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ خالفوا
أما عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَإِنَّهَا أَتَمَّتْ وَأَمَّا أَنَسٌ فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ قَصَرَ لَمْ يَعِبْ عَلَى مَنْ أَتَمَّ
وَأَمَّا سَعْدٌ فَلَمْ يَكُنْ يَقْصُرُ فِي سَفَرِهِ
وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَرَوَى الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ عَابَ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْإِتْمَامَ بِمِنًى ثُمَّ صَلَّى فَأَتَمَّ. فَقِيلَ لَهُ إِنَّكَ تَعِيبُ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْإِتْمَامَ وَتُتِمُّ فَقَالَ الْخِلَافُ شَرٌّ، فَعُلِمَ أَنَّ إِنْكَارَهُمْ عَلَيْهِ تُرِكَ لِلْأَفْضَلِ لَا الْوَاجِبِ
لِأَنَّ الصَّحَابِيَّ لَا يَتْبَعُ إِمَامَهُ فِيمَا لَا يجوز فعله
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْجُمُعَةِ. فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَجُزِ الزِّيَادَةُ فِيهَا بِالْإِتْمَامِ وَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَلَمَّا جَازَ لِلْمُسَافِرِ الزِّيَادَةُ فِيهَا بِالْإِتْمَامِ لَمْ يَجِبِ الِاقْتِصَارُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ الزِّيَادَةَ فِيهَا عَلَى رَكْعَتَيْنِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَاقْتَضَى بُطْلَانَ الصَّلَاةِ بِهَا
فَالْجَوَابُ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الزِّيَادَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ غَيْرَ وَاجِبَةٍ لَمْ تُجِبْ عَلَيْهِ الْإِتْمَامَ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ الصُّبْحَ خَلْفَ الْمُصَلِّي الظُّهْرِ إِذَا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ سَلَّمَ وَلَمْ يَتْبَعْ إِمَامَهُ فِي الزِّيَادَةِ لِأَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ
وَلَمَّا كَانَ الْمُسَافِرُ يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ إِمَامِهِ الْمُقِيمِ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، عُلِمَ أنها واجبة

(2/365)


فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ وَاجِبَةً فَلِمَ جَوَّزْتُمْ تَرْكَهَا إِذَا قَصَرَ
قُلْنَا: نَحْنُ عَلَى مَا جَوَّزْنَا لَهُ تَرْكَ وَاجِبٍ، وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنْتَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ تَأْتِيَ بِصَلَاةِ حَضَرٍ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَبَيْنَ أَنْ تَأْتِيَ بِصَلَاةِ سَفَرٍ رَكْعَتَيْنِ وَأَيَّهُمَا فَعَلَ فَقَدْ فَعَلَ الْوَاجِبَ وَأَجْزَاهُ عَنِ الْآخَرِ كَمَا تَقُولُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِتْمَامَ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ جَائِزٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْأَفْضَلِ وَالْأَوْلَى عَلَى مَذْهَبَيْنِ
أَحَدُهُمَا: الْقَصْرُ أَفْضَلُ اقْتِدَاءً بِأَكْثَرِ أَفْعَالِ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَكْثَرُ أَفْعَالِهِ الْقَصْرُ، وَلِيَكُونَ مِنَ الْخِلَافِ خَارِجًا وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ. إِنَّ الْإِتْمَامَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْإِتْمَامَ عَزِيمَةٌ وَالْقَصْرَ رُخْصَةٌ وَالْأَخْذُ بِالْعَزِيمَةِ أَوْلَى، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ مِنَ الْفِطْرِ وَغَسْلَ الرِّجْلَيْنِ أَفْضَلُ مِنَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: وَأَكْرَهُ تَرْكَ الْقَصْرِ رَغْبَةً عَنِ السُّنَّةِ، وَالرَّاغِبُ عَنْهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
رَاغِبٌ بِتَأْوِيلٍ وَهَذَا غَيْرُ كَافِرٍ وَلَا فَاسِقٍ كَمَنْ لَا يَقُولُ بِأَخْبَارِ الْأَحَادِ وَلَهُ أَرَادَ الشَّافِعِيُّ وَرَغِبَ عَنْهَا زَاهِدًا فِيهَا بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ بِعِلْمِ وُرُودِ السَّنَّةِ بِالْقَصْرِ وَلَا يَقُولُ بِهَا فَهُوَ كَافِرٌ، فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: فَأَمَّا أَنَا فَأُحِبُّ أَنْ لَا أَقْصُرَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ احْتِيَاطًا عَلَى نَفْسِي وَإِنَّ تَرْكَ الْقَصْرِ مُبَاحٌ لِي فَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّهُ أَفْتَى بِمَا قَامَتْ عَلَيْهِ الدَّلَالَةُ عِنْدَهُ ثُمَّ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ احْتِيَاطًا لَهَا مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ أَنْ لَا يَقْصُرَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِيَكُونَ مِنَ الخلاف خارجاً وبالاستظهار آخذاً

(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُقْصَرُ إِلَّا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ فَأَمَّا الصُّبْحُ وَالْمَغْرِبُ فَلَا يُقْصَرَانِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا صَحِيحٌ وَهُوَ مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْقَصْرَ فِي الصَّلَوَاتِ الرُّبَاعِيَّاتِ وَهِيَ ثَلَاثٌ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَعِشَاءُ الْآخِرَةِ، فَأَمَّا الْمَغْرِبُ وَالصُّبْحُ فَلَا يُقْصَرَانِ
وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَى مَسْرُوقٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى إِلَيَّ كُلَّ صلاةٍ مِثْلَهَا إِلَّا الْمَغْرِبَ فَإِنَّهَا وترٌ وَالصُّبْحَ لِطُولِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا وَكَانَ إِذَا سَافَرَ رَدَّهَا إِلَى أَصْلِهَا
وَلِأَنَّ الْقَصْرَ تَنْصِيفُ الصَّلَاةِ وَالْإِتْيَانُ بِشَطْرِهَا
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: " وَضَعْتُ عَنْ عِبَادِي شَطْرَ الصَّلَاةِ فِي سَفَرِهِمْ "

(2/366)


فَلَمْ يَكُنْ قَصْرُ الْمَغْرِبِ، لِأَنَّ نِصْفَهَا رَكْعَةٌ وَنِصْفُ رَكْعَةٍ وَرَكْعَةٌ وَنِصْفٌ لَا تَكُونُ صَلَاةً فَإِنْ أُضِيفَ إِلَيْهَا نِصْفُ رَكْعَةٍ صَارَتْ شَفْعًا. وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى رَكْعَةٍ لَمْ يَكُنْ شَطْرُ الْمَغْرِبِ
فَأَمَّا الصُّبْحُ فَلَمْ يَجُزْ قَصْرُهَا إِلَى رَكْعَةٍ لِأَنَّهَا مَقْصُورَةٌ وَالْمَقْصُورُ لَا يُقْصَرُ. وَإِنَّمَا يصح قصر الرباعيات لا مكان تَنْصِيفِهَا بِالْقَصْرِ بَعْدَ إِتْمَامِهَا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَهُ أَنْ يُفْطِرَ فِي أَيَّامِ رَمَضَانَ فِي سَفَرِهِ وَيَقْضِيَ. فَإِنْ صَامَ فِيهِ أَجْزَأَهُ وَقَدْ صام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في رمضان في سفر "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ كُلُّ مَنْ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ فِي سَفَرِهِ جَازَ لَهُ الْفِطْرُ فِيهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فعدةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ، وَلِمَا رَوَى حَمْزَةُ بْنُ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيُّ قَالَ كُنْتُ رَجُلًا أَسْرُدُ الصَّوْمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصُومُ فِي سَفَرِي أَوْ أفطر فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ
فَإِنْ أفطر في سفره فعله الْقَضَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فعدةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] وَإِنْ صَامَ فِيهِ أَجْزَأَهُ وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ لَا يَصِحُّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ فإن صام [فيه] لَمْ يُجْزِهِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ تعلقاً بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الصَّوْمُ بِرًّا لَمْ يُجْزِهِ عَنْ فَرْضِهِ لِأَنَّ الصَّوْمَ قُرْبَةٌ
وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ "
فَلَمَّا كَانَ عَلَى الْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ الْقَضَاءُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَى الصَّائِمِ فِي السَّفَرِ القضاء لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَبَّهَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِحَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ: " إِنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ "

(2/367)


وَلِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي سَفَرِهِ يَصُومُ وَيُتِمُّ وَيَقْصُرُ
وَلِحَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَلِأَنَّ الْفِطْرَ رُخْصَةٌ وَالصَّوْمَ عَزِيمَةٌ وَفِعْلُ الْعَزِيمَةِ أَوْلَى مِنَ الْأَخْذِ بِالرُّخْصَةِ وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ فَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ أَوْلَى مِنَ الْفِطْرِ وَأَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ مَضْمُونٌ بِالْقَضَاءِ وَفَوَاتُهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ، فَأَمَّا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ " فَهَذَا وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَرَّ بِرَجُلٍ وَقَدْ أَحْدَقَ بِهِ النَّاسُ، فَسَأَلَ عَنْهُ فَقِيلَ مُسَافِرٌ قَدْ أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ " وَعِنْدَنَا أَنَّ مَنْ أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ فَفِطْرُهُ أَوْلَى بِهِ
وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ " فَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ لَمْ يَرَ الْفِطْرَ فِي السَّفَرِ جائز

(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ نَوَى السَّفَرَ فَلَا يَقْصُرُ حَتَّى يُفَارِقَ الْمَنَازِلَ إِنْ كَانَ حَضَرِيًّا وَيُفَارِقُ مَوْضِعَهُ إِنْ كَانَ بَدَوِيًّا "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ
إِذَا نَوَى سَفَرًا يَقْصُرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ فِي بَلَدِهِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ قَبْلَ إِنْشَاءِ السَّفَرِ وَهُوَ قَوْلُ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ
قَالَ عَطَاءٌ وَالْأَسْوَدُ وَالْحَارِثُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ إِذَا نَوَى السَّفَرَ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ فِي مَنْزِلِهِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ قَالُوا: لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ مُقِيمًا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ، وَهَذَا خَطَأٌ
وَالدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101]
فَأَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى الْقَصْرَ لِلضَّارِبِ فِي الْأَرْضِ وَالْمُقِيمُ لَا يُسَمَّى ضَارِبًا
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا خَرَجَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ صَلَّى الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ فَأَتَمَّ وَصَلَّى الْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَقَصَرَ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدَّمَ النِّيَّةَ لِسَفَرِهِ قَبْلَ الزَّوَالِ ثُمَّ أَتَمَّ الظُّهْرَ لِأَنَّهُ صَلَّاهَا قَبْلَ خُرُوجِهِ
وَلِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ إِذَا دَخَلَ بُنْيَانَ بَلَدِهِ عِنْدَ قُدُومِهِ مِنْ سَفَرِهِ إِجْمَاعًا وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ الْقَصْرُ فِي ابْتِدَاءِ خُرُوجِهِ قَبْلَ مُفَارَقَةِ بُنْيَانِ بَلَدِهِ حِجَاجًا

(2/368)


وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ الْقَصْرَ فِي السَّفَرِ وَالسَّفَرُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَسْفَارِ وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنِ الْوَطَنِ، وَقِيلَ بَلْ سُمِّيَ سَفَرًا لِأَنَّهُ يُسْفِرُ عن أخلاق السفر وَالْمُقِيمُ فِي بَلَدِهِ وَإِنْ خَرَجَ عَنْ مَنْزِلِهِ لَا يُسَمَّى مُسَافِرًا لِأَنَّ الْمُقِيمَ قَدْ يَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِهِ لِلتَّصَرُّفِ فِي أَشْغَالِهِ وَإِنْ لَمْ ينوي سَفَرًا فَكَذَلِكَ إِذَا انْتَقَلَ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيِ الْبَلَدِ إِلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ لَمْ يُسَمَّ مُسَافِرًا لِأَنَّهُ قَدْ نُسِبَ إِلَى الْبَلَدِ بِالْمُقَامِ فِي الطَّرَفِ الَّذِي انْتَقَلَ إِلَيْهِ كَمَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ بِالْمُقَامِ فِي الطَّرَفِ الَّذِي انْتَقَلَ عَنْهُ وَإِذَا لَمْ يَنْطَلِقِ اسْمُ السَّفَرِ عَلَيْهِ قَبْلَ مُفَارَقَةِ بَلَدِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ لِعَدَمِ الشَّرْطِ الْمُبِيحِ لَهُ
فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُ قَدْ يَصِيرُ مُقِيمًا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، فَغَلَطٌ بَلْ هما متفقان في المعنى لأنه لابد من الْإِقَامَةِ مِنَ الْفِعْلِ مِعَ النِّيَّةِ وَهُوَ اللُّبْثُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ سَائِرًا مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا أَوْ فِي سَفِينَةٍ وَنَوَى الْإِقَامَةَ كَانَتِ النِّيَّةُ لَغْوًا وَجَازَ لَهُ الْقَصْرُ حَتَّى يَنْوِيَ الْإِقَامَةَ مَعَ اللُّبْثِ فَكَذَلِكَ فِي السَّفَرِ
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ قَبْلَ مُفَارَقَةِ بَلَدِهِ فَإِنْ كَانَ بَلَدُهُ ذَا سُورٍ فَفَارَقَ سُورَهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سُورٌ فَفَارَقَ آخِرَ بُنْيَانِهِ وَإِنْ قَلَّ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنْ كَانَ سَفَرُهُ نَهَارًا لَمْ يَقْصُرْ حَتَّى يَدْخُلَ اللَّيْلُ وَإِنْ كَانَ لَيْلًا لَمْ يَقْصُرْ حَتَّى يَدْخُلَ النَّهَارُ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ مَعْ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ما وري عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ بِالْعَقِيقِ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ وَيَقْصُرُ بِذِي طُوًى إِذَا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ
فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْقَصْرِ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْبُنْيَانِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُسَافِرِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَضَرِيًّا أَوْ بَدَوِيًّا
فَأَمَّا الْحَضَرِيُّ فَإِنْ كان يسكن بلد أَوْ قَرْيَةً لَمْ يَقْصُرْ إِلَّا بَعْدَ مُفَارَقَةِ بُنْيَانِهِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ
وَالْفَرْقُ بَيْنَ اتِّصَالِ الْبُنْيَانِ بِالْعُمْرَانِ وَبَيْنَ اتِّصَالِهِ بِالْخَرَابِ لِأَنَّ بَيْنَ جَامِعِ البصرة ومريدها وَالْعَقِيقِ خَرَابَاتٍ دَارِسَةً قَدْ غَطَّى سِرْبَهَا وَكُلَّ مَنْ حَوَاهُ سُورُهَا مُقِيمٌ بِالْبَصْرَةِ وَمَنْسُوبٌ إِلَيْهَا. فَإِذَا خَرَجَ مِنْ سُورِ الْبَلَدِ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ. وَإِنِ اتَّصَلَ سُورُ الْبَلَدِ بِبُنْيَانِ الْبَسَاتِينِ كَمَنْ خَرَجَ مِنَ الْبَصْرَةِ مِنْ دَرْبِ سُلَيْمَانَ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ، وَإِنْ كَانَتْ بُنْيَانُ الْبَسَاتِينِ متصلاً بالسور،

(2/369)


لِأَنَّ هَذِهِ الْبُنْيَانَ لَمْ تُبْنَ لِلِاسْتِيطَانِ وَإِنَّمَا بُنِيَتْ لِلِانْتِفَاعِ وَالِارْتِفَاقِ فَهِيَ كَ " أَرْضِ الْبَسَاتِينِ "، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُقِيمًا إِذَا كَانَ فِي بُنْيَانٍ يَلْبَثُ فِيهِ لِلِاسْتِيطَانِ أَهْلُ الْبَلَدِ
فَأَمَّا إِذَا كَانَ فِي قَرْيَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِقَرْيَةٍ أُخْرَى فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْقَرْيَتَيْنِ انْفِصَالٌ وَلَوْ كَذِرَاعٍ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ إِذَا فَارَقَ بُنْيَانَ قَرْيَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا انْفِصَالٌ وَاتَّصَلَ بُنْيَانُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ حَتَّى يُفَارِقَ مَنَازِلَ الْقَرْيَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا بِالِاتِّصَالِ كَالْبَلَدِ الْجَامِعِ لِقَبِيلَتَيْنِ
فَأَمَّا أَهْلُ الْبَسَاتِينِ وَمَكَانِ الْقُصُورِ كَسَاكِنِي دِجْلَةِ والبصرة وَأَنْهَارِهَا الَّذِينَ لَا يَجْمَعُهُمْ بَلَدٌ وَلَا تَضُمُّهُمْ قَرْيَةٌ وَإِنَّمَا يَسْتَوْطِنُونَ قُصُورَ الْبَسَاتِينِ فَلَهُمُ الْقَصْرُ إِذَا فَارَقُوا الْمَوْضِعَ الْمَعْرُوفَ بَيْنَهُمْ

(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الْبَدَوِيُّ فَلَهُ حَالَانِ
أَحَدُهُمَا: فِي صَحْرَاءَ
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي وادٍ، فَإِنْ كَانَ فِي صحراء اعتبرت حَالُ الْخِيَمِ، فَإِنْ كَانَتْ حَيًّا وَاحِدًا وَبَطْنًا مُنْفَرِدًا لَمْ يَقْصُرْ حَتَّى يُفَارِقَ جَمِيعَ خِيَامِ الْحَيِّ سَوَاءٌ اجْتَمَعَتْ أَوْ تَفَرَّقَتْ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْحَيِّ دَارٌ لِأَهْلِهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْخِيَمُ أَحْيَاءً مُخْتَلِفَةً وَبُطُونًا مُتَفَرِّقَةً فَإِنْ تَمَيَّزَتْ خِيَمُهُمْ فَكَانَ لكل بطن منهم حي منفرداً وَخِيَامٌ مُتَمَيِّزَةٌ قَصَرَ إِذَا فَارَقَ خِيَامَ قَوْمِهِ وَبُيُوتَ حَيِّهِ، وَإِنِ اخْتَلَطَتِ الْبُطُونُ وَلَمْ تَتَمَيَّزِ الْخِيَامُ لَمْ يَقْصُرْ حَتَّى يُفَارِقَ الْخِيَامَ كُلَّهَا فَإِذَا فَارَقَهَا قَصَرَ حينئذٍ كَمَا قُلْنَا فِي الْقَرْيَتَيْنِ إِذَا اتَّصَلَتَا
فَإِنْ كَانَ فِي وَادٍ فإن أَرَادَ أَنْ يَسْلُكَ طُولَهُ قَصَرَ إِذَا فَارَقَ خيام قومه كالصحراء، وأن يَسْلُكَ عَرْضَهُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمْ يَقْصُرْ حَتَّى يَقْطَعَ عَرْضَ الْوَادِي فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَ الجواب في ظاهره ومنعه من القصر حتى يقطع عرض الوَادِي، وَإِنْ فَارَقَ خِيَامَ قَوْمِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ وَتَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ يَدُلُّ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قال: لأن عرض الْوَادِي دَارٌ لَهُمْ أَوْ كَالدَّارِ لَهُمْ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ يَقْصُرُ إِذَا فَارَقَ خِيَامَ قومهم وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ، وَحَمَلَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ حَتَّى يقطع عرض الوادي: إذا كانت خيام قومي مُتَّصِلَةً بِعَرْضِهِ
(فَصْلٌ)
: إِذَا فَارَقَ الْمُسَافِرُ بُنْيَانَ بَلَدِهِ ثُمَّ عَادَ إِلَى مَنْزِلِهِ لِحَاجَةٍ ذَكَرَهَا أَوْ أَمْرٍ عَرَضِيٍّ وَأَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ فِي مَنْزِلِهِ أَوْ بَلَدِهِ حَتَّى يُفَارِقَ آخِرَ بُنْيَانِهِ لِأَنَّهُ اسْتَقَرَّ بِرُجُوعِهِ فِي دَارِ إِقَامَتِهِ فَلَوْ سَافَرَ مِنَ الْبَصْرَةِ وَهِيَ وَطَنُهُ إِلَى الْكُوفَةِ يَنْوِي الْمُقَامَ بِهَا فَحِينَ قَرُبَ مِنَ الْكُوفَةِ بَدَا لَهُ مِنَ الْمُقَامِ شيئاً وَأَرَادَ الِاجْتِيَازَ فِيهَا إِلَى بَلَدٍ آخَرَ جَازَ أَنْ يَقْصُرَ بِالْكُوفَةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لَهُ دَارُ إِقَامَةٍ، فَلَوْ رَجَعَ إِلَى الْبَصْرَةِ وَهِيَ وَطَنُهُ يُرِيدُ الِاجْتِيَازَ فِيهَا إِلَى بَلَدٍ آخَرَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ بِالْبَصْرَةِ وَإِنْ كَانَ غَيَّرَ الْمُقَامَ فِيهَا لِأَنَّهَا دَارُ إِقَامَتِهِ
فَأَمَّا إِذَا خَرَجَ مِنْ بَلَدِهِ بِنِيَّةِ الْحَجِّ ثُمَّ بَدَا لَهُ فِي سَفَرِهِ مِنَ التَّوَجُّهِ فِي حَجِّهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ

(2/370)


يَقْصُرَ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي عَيَّنَ النِّيَّةَ فِيهِ حَتَّى يُفَارِقَهُ لِأَنَّهُ بِتَغَيُّرِ النِّيَّةِ صَارَ مُقِيمًا وَالْمُقِيمُ إِذَا نَوَى السَّفَرَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ إِلَّا بَعْدَ مُفَارَقَةِ مَوْضِعِهِ، فَإِذَا فَارَقَ مَوْضِعَهُ وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَلَدِهِ مَسَافَةُ الْقَصْرِ جَازَ أَنْ يَقْصُرَ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ نَوَى السَّفَرَ فَأَقَامَ أَرْبَعَةَ أيامٍ أَتَمَّ الصلاة واحتج فيمن أقام أربعةٌ يتم بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال يُقِيمُ الْمُهَاجِرُ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا وبأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أقام بمنى ثلاثاً يقصر وقدم مكة فأقام قبل خروجه إلى عرفة ثلاثاً يقصر ولم يحسب اليوم الذي قدم فيه لأنه كان فيه سائراً ولا يوم التروية الذي خرج فيه سائراً وأن عمر أجلى أهل الذمة من الحجاز وضرب لمن يقدم منهم تاجراً مقام ثلاثة أيام فأشبه ما وصفت أن يكون ذلك مقام السفر وما جاوزه مقام الإقامة وروي عن عثمان بن عفان من أقام أربعاً أتم وعن ابن المسيب أقامة أربعٍ أتم "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ
وَأَمَّا الْمُسَافِرُ إِذَا قَصَدَ بَلَدًا وَكَانَ الْبَلَدُ غَايَةَ سَفَرٍ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ مَتَى دَخَلَ ذَلِكَ الْبَلَدَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ لِأَنَّ سَفَرَهُ قَدِ انْقَطَعَ بِدُخُولِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْمُقَامَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إِنِ اسْتَطَابَ بَلَدًا فِي طَرِيقِهِ فَنَوَى الِاسْتِيطَانَ فِيهِ لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ وَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَنْتَهِ سَفَرُهُ وَلَا نَوَى الِاسْتِيطَانَ فِيهِ لَكِنْ نَوَى أَنْ يُقِيمَ فِيهِ مُدَّةً، فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمُدَّةُ دُونَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ وَإِنْ نَوَى مُقَامَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سِوَى الْيَوْمِ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ وَالْيَوْمِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ
وقال أبو حنيفة: يقصر إلى أَنْ يَجْمَعَ مُقَامَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ دَخَلَ مَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ الرَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَخَرَجَ مِنْهَا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّامِنُ وَكَانَ يَقْصُرُ بِمَكَّةَ
فَعُلِمَ أَنَّ الْأَرْبَعَةَ لَيْسَتْ حَدًّا لِمُدَّةِ الْإِقَامَةِ
قَالُوا: وَلِأَنَّهُ تَحْدِيدٌ لِمُدَّةِ الْإِقَامَةِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا إِتْمَامُ الصَّلَاةِ، وَلَا يُصَارُ إِلَيْهَا إِلَّا بِالتَّوْقِيفِ. وَالْإِجْمَاعِ. وَالتَّوْقِيفُ مَعْدُومٌ وَالْإِجْمَاعُ حَاصِلٌ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَمَا دُونَهُ مُخْتَلِفٌ فَلَمْ يَجْعَلْهُ مُدَّةً لِلْإِقَامَةِ قَالُوا: وَلِأَنَّهَا مُدَّةٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا إِلْزَامُ الصَّلَاةِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ أَقَلُّهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا قِيَاسًا عَلَى أَقَلِّ الطُّهْرِ
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ

(2/371)


الصَّلاةِ} [النساء: 101] . فَأَبَاحَ الْقَصْرَ بِشَرْطِ الضَّرْبِ وَالْعَازِمُ عَلَى إِقَامَةِ أَرْبَعَةٍ غَيْرُ ضَارِبٍ فِي الْأَرْضِ فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَسْتَبِيحَ الْقَصْرَ، وَلِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ مُدَّةُ الْإِقَامَةِ وَمَا دُونَهَا مُدَّةُ السَّفَرِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حِينَ أَوْجَبَ الْهِجْرَةَ حَرَّمَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ الْمُقَامَ بِمَكَّةَ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثة "، فَاسْتَثْنَى الثَّلَاثَ وَجَعَلَهَا مُدَّةَ السَّفَرِ، فَعُلِمَ أَنَّ مَا زَادَ عَلَيْهَا مُدَّةُ الْإِقَامَةِ، وَأَجْلَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَهْلَ الذِّمَّةِ عَنِ الْحِجَازِ وَجَعَلَ لِمَنْ قَدِمَ مِنْهُمْ تَاجِرًا مُقَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَدَلَّتِ السُّنَّةُ وَالْأَثَرُ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ حَدُّ السَّفَرِ وَمَا فَوْقَهَا حَدُّ الْإِقَامَةِ، وَلِأَنَّهَا أَيَّامٌ لَا يَسْتَوْعِبُهَا الْمُسَافِرُ بِالْمَسْحِ الْوَاحِدِ فَلَمْ يَجُزِ الْقَصْرُ إِذَا أَقَامَهَا كَالْخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَلِأَنَّهَا أَيَّامٌ تَزِيدُ عَلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا مُسَافِرًا وَلَا عَازِمًا كالخمسة عشر، لأنها مُدَّةٌ لَا يَجُوزُ لِلذِّمِّيِّ أَنْ يُقِيمَهَا فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَصَارَتْ كَالشَّهْرِ
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَصْرِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. فَغَيْرُ حُجَّةٍ لِأَنَّا نُجِيزُ الْقَصْرَ أَرْبَعًا وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَصَرَ ثَلَاثًا سِوَى يَوْمِ دُخُولِهِ وَيَوْمِ خُرُوجِهِ فَبَطَلَ اسْتِدْلَالُهُمْ بِهِ. أَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ تَحْدِيدَ مدة القصر لا يصار إليها إلا بالتوقف أَوْ إِجْمَاعٍ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي الْمُسَافِرِ إِلَى كَمْ يَقْصُرُ وَإِجْمَاعُنَا وَإِيَّاهُمْ مُنْعَقِدٌ عَلَى جَوَازِهِ فِي الْأَرْبَعِ وَالْخِلَافِ مِنْهُ وَفِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا فَلَمْ يَجُزِ الْقَصْرُ فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا إِلَّا بِتَوْقِيفٍ أَوْ إِجْمَاعٍ
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ مَعَنَا فِي الْمَسْأَلَةِ تَوْقِيفًا. وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يُقِيمُ الْمُهَاجِرُ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا "
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى أَقَلِّ الطُّهْرِ، فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ أَقَلَّ الطُّهْرِ دُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَهُوَ أَنْ تَطْهُرَ مِنْ حَيْضِهَا ثُمَّ تَضَعُ حَمْلَهَا بَعْدَ يَوْمٍ وَتَرَى دَمَ النِّفَاسِ، فَيَكُونُ طُهْرُهَا الْيَوْمَ الَّذِي بَيْنَ حَيْضِهَا وَوَضْعِهَا وَإِنَّمَا أَقَلُّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا إِذَا كَانَ بَيْنَ حَيْضَيْنِ عَلَى إِلْزَامِ الصَّلَاةِ، وَإِتْمَامُهَا لَا يَتَعَلَّقُ بِمُدَّةٍ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَزْمِ عَلَى أَنْ لَا يُعَدَّ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَكُلُّ مَنْ نَوَى مُقَامَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ كَوَامِلَ سِوَى يَوْمِ دُخُولِهِ وَيَوْمِ خُرُوجِهِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ إِتْمَامُ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا يُحْسَبُ عَلَيْهِ يَوْمُ دُخُولِهِ وَيَوْمُ خُرُوجِهِ لِأَنَّ السَّفَرَ يَجْمَعُ السَّيْرَ وَالنُّزُولَ وَالتِّرْحَالَ فَلَمْ يُحْسَبْ عَلَيْهِ يَوْمُ دُخُولِهِ لِأَنَّهُ فِيهِ نَازِلٌ وَلَا يَوْمُ خُرُوجِهِ لِأَنَّهُ فِيهِ رَاحِلٌ، وَلِأَنَّ الْمُسَافِرَ لَا يَتَّصِلُ مَسِيرُهُ فِي جَمِيعِ يَوْمِهِ وَإِنَّمَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِالسَّيْرِ فِي بَعْضِهِ وَالْمُنَاخُ وَالِاسْتِرَاحَةُ فِي بَعْضِهِ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يُحْتَسَبْ يَوْمُ دُخُولِهِ وَيَوْمُ خُرُوجِهِ لِوُجُودِ السَّيْرِ فِي بَعْضِهِ فَلَوْ دَخَلَ الْبَلَدَ لَيْلًا وَنَوَى مُقَامَ أَرْبَعَةٍ فَقَدْ حَكَى أَبُو حَامِدٍ عَنِ الدَّارِكِيِّ أنه لا

(2/372)


يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ لَيْلَةُ دُخُولِهِ وَلَا الْيَوْمُ الَّذِي بَعْدَهَا، وَإِنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ فِي " الْأُمِّ " عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَإِذَا نَوَى مُقَامَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا أَتَمَّ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّيْلَةَ تَابِعَةٌ لِيَوْمِهَا وَالْيَوْمَ تَابِعٌ لَهَا، فَلَمَّا لَمْ يَحْتَسِبْ لَيْلَةَ الدُّخُولِ لِوُجُودِ السَّيْرِ فِي بَعْضِهَا لَمْ يَحْتَسِبِ الْيَوْمَ الَّذِي بَعْدَهَا لأنه تبع لها

(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا جَاوَزَ أَرْبَعًا لِحَاجَةٍ أَوْ مَرَضٍ وَهُوَ عَازِمٌ عَلَى الْخُرُوجِ أَتَمَّ وَإِنْ قَصَرَ أَعَادَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي خوفٍ أَوْ حربٍ فَيَقْصُرُ قَصْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عام الفتح لحرب هوازن سبعة عشرة أو ثمانية عَشْرَةَ (وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ) إِنْ أَقَامَ عَلَى شَيْءٍ يَنْجَحُ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ أَنَّهُ لَا يَزَالُ يقصر ما لم يجمع مكثاً أقام الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ سَبْعَ عَشْرَةَ أَوْ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ يَقْصُرُ حَتَّى خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ (قَالَ المزني) ومشهور عن ابن عمر أنه أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر يقول أخرج اليوم وأخرج غداً (قال المزني) فإذا قصر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في حربه سبع عشرة أو ثماني عشرة ثم ابن عمر ولا عزم على وقت إقامة فالحرب وغيرها سواءٌ عندي في القياس وقد قال الشافعي ولو قاله قائل كان مذهباً "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا دَخَلَ الْمُسَافِرُ بَلَدًا أَوْ قَرْيَةً أَوْ نَزَلَ أَرْضًا أَوْ قَبِيلَةً وَلَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ بَلْ كَانَ يَنْتَظِرُ حَالًا يَرْجُوهَا أَوْ حَاجَةً يُنْجِزُهَا ثُمَّ يَخْرُجُ وَكَانَ يَرْجُو حُصُولَهَا فِي قَلِيلِ الزَّمَانِ وَكَثِيرِهِ فَهَذَا لَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُحَارِبًا
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُحَارِبٍ:
فَإِنْ كَانَ مُحَارِبًا يَنْتَظِرُ أَنْ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا وَيَخْرُجَ فَلَهُ أَنْ يَقْصُرَ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أقم بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ لِحَرْبِ هَوَازِنَ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ
فَإِذَا جَاوَزَ ذَلِكَ فَفِي جَوَازِ الْقَصْرِ قَوْلَانِ: نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي " الْإِمْلَاءِ ":
أَحَدُهُمَا: يَقْصُرُ مَا دَامَتِ الْحَرْبُ قَائِمَةً، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا قَصَرَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ لِبَقَاءِ الْحَرْبِ، وَلِأَنَّهُ مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَأَقَامَ بِأَذْرَبِيجَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَقْصُرُ الصلاة وأما أنس بن مالك أقام بِنَيْسَابُورَ سَنَتَيْنِ يَقْصُرُ وَأَمَّا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ فَأَقَامَ بِفَارِسَ سَنَتَيْنِ

(2/373)


وَقَصَرَ، وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَقَالَ إِنَّا نَكُونُ عَلَى حَرْبٍ فَيَكْثُرُ مقامنا أفنقصر فَقَالَ أَقْصُرْ وَإِنْ بَقِيتُ عَشْرَ سِنِينَ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَقْصُرُ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ إِتْمَامَ الصَّلَاةِ عَزِيمَةٌ، وَالْقَصْرَ رُخْصَةٌ فِي السَّفَرِ وَالْمُقِيمُ غَيْرُ مُسَافِرٍ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ إِلَّا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي قَامَ الدَّلِيلُ عَلَيْهَا فَكَانَ مَا سِوَاهَا عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ فِي وُجُوبِ الْإِتْمَامِ، وَإِنَّمَا قَصَرَ ابْنُ عُمَرَ بِأَذْرَبِيجَانَ؛ لِأَنَّهُ إِقْلِيمٌ يَجْمَعُ بُلْدَانًا شَتَّى وَقُرًى مُخْتَلِفَةً كَالْعِرَاقِ فَكَانَ يَنْتَقِلُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ وَمِنْ قَرْيَةٍ إِلَى قَرْيَةٍ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ يَقْصُرُ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْمُحَارِبِ إِذَا لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ، فَأَمَّا إِنْ نَوَى فِي الْحَرْبِ إِقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَصَحُّهُمَا: لَا يَقْصُرُ وَعَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ؛ لِأَنَّهَا مُدَّةُ الْإِقَامَةِ وَقَدْ نَوَاهَا وَصَارَ بِهَا مُقِيمًا، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَقْصُرَ إِذَا كَانَ مُقِيمًا؛ لِأَنَّهُ مُحَارِبٌ لَجَازَ لِلْمُسْتَوْطِنِ فِي بَلَدِهِ أَنْ يَقْصُرَ إِذَا كَانَ مُحَارِبًا
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَقْصُرُ؛ لِأَنَّ أَعْذَارَ الْحَرْبِ تُخَالِفُ مَا سِوَاهَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَقْصُرُ إِلَى سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا
وَالثَّانِي: يَقْصُرُ مَا دَامَتِ الْحَرْبُ قَائِمَةً
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَكُونَ مُحَارِبًا وَإِنَّمَا يَنْتَظِرُ بِمُقَامِهِ خُرُوجَ قَافِلَةٍ تِجَارِيَّةٍ أَوْ بَيْعَ مَتَاعٍ أَوْ زَوَالَ مَرَضٍ ثُمَّ يَخْرُجُ فَهَذَا يقصر تماماً أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ كَوَامِلَ سِوَى يَوْمِ دُخُولِهِ
وَإِنَّمَا قُلْنَا يَقْصُرُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ لِأَنَّ الْإِتْمَامَ لَا يَجِبُ إِلَّا بِالْعَزْمِ عَلَى الْإِقَامَةِ أَوْ بِوُجُودِ فِعْلِ الْإِقَامَةِ
فَإِذَا لَمْ يَعْزِمْ عَلَى الْإِقَامَةِ قَصَرَ إِلَّا أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ فِعْلُ الْإِقَامَةِ وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ
وَإِذَا أَكْمَلَهَا سِوَى يَوْمِ دُخُولِهِ فَهَلْ يَقْصُرُ أَمْ لَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ:
مِنْهَا قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ؛ وَقَوْلٌ ثَالِثٌ مُخَرَّجٌ
أَحَدُ الْأَقَاوِيلِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ لِأَنَّ فِعْلَ الْإِقَامَةِ آكَدُ مِنَ الْعَزْمِ عَلَى الْمُقَامِ لِأَنَّ الْفِعْلَ إِذَا وُجِدَ تَحَقَّقَ، وَقَدْ يَعْزِمُ عَلَى الْمُقَامِ وَلَا يَصِيرُ مُقِيمًا، فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ بِالْعَزْمِ عَلَى إِقَامَةِ أَرْبَعٍ يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ كَانَ بِإِقَامَةِ أَرْبَعَةٍ أَوْلَى أَنْ يَلْزَمَهُ الْإِتْمَامُ
وَالْقَوْلُ الثاني: وهو قول فِي " الْإِمْلَاءِ " يَقْصُرُ إِلَى سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَصَرَ هَذِهِ الْمُدَّةَ تَوَقُّعًا لِانْجِلَاءِ الْحَرْبِ عِنْدَ اشْتِغَالِهِ بِهَا. وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي غَيْرِ الْمُحَارِبِ إِذَا تَوَقَّعَ إِنْجَازَ أَمْرِهِ وَتَقَضِّيَ أَشْغَالِهِ

(2/374)


وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ تَخْرِيجُ الْمُزَنِيِّ: لَهُ أَنْ يَقْصُرَ مَا كَانَ مُقِيمًا عَلَى تَنْجِيزِ أَمْرِهِ وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قِيَاسًا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمُحَارِبِ بِعِلَّةٍ أَنَّهُ مُسَافِرٌ عَازِمًا عَلَى الرَّحِيلِ عِنْدَ تَنْجِيزِ أَمْرِهِ فَجَازَ لَهُ الْقَصْرُ كَ " الْمُحَارِبِ " أَوْ قِيَاسًا عَلَى مَا دُونَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ
فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْمُقِيمِ لِعُذْرٍ يَرْجُو زَوَالَهُ
فَأَمَّا إِذَا أَقَامَ غَيْرَ مُحَارِبٍ وَلَا مَشْغُولٍ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فِي إِقَامَةٍ وَلَا رَحِيلٍ فَهَذَا يَقْصُرُ تَمَامَ أَرْبَعٍ ثُمَّ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ إِقَامَتَهُ بَعْدَ أَرْبَعٍ أَوْكَدُ مِنْ عَزْمِهِ عَلَى مُقَامِ أَرْبَعٍ لِأَنَّهُ قَدْ حَقَّقَ ذَلِكَ بِفِعْلِهِ

(فَصْلٌ)
: فَإِذَا مَرَّ الْمُسَافِرُ فِي طَرِيقِهِ بِبَلَدٍ لَهُ فِيهَا دَارٌ أَوْ مَالٌ أَوْ ذُو قَرَابَةٍ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ فِيهِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَصَرَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مُدَّةَ مُقَامِهِ بِمَكَّةَ وَمَعَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَلَهُمْ بِمَكَّةَ دُورٌ وَمَالٌ وَقَرَابَةٌ، فَإِنْ دَخَلَ بَلَدًا أَوْ نَوَى إِنْ لَقِيَ فُلَانًا أَنْ يُقِيمَ فِيهِ شَهْرًا فَإِنْ لَقِيَهُ قَبْلَ أَرْبَعَةٍ صَارَ مُقِيمًا وَوَجَبَ عَلَيْهِ إِتْمَامُ الصَّلَاةِ لِأَنَّ سَفَرَهُ قَدِ انْتَهَى بِلِقَائِهِ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ بَعْدَ انْتِهَاءِ سَفَرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَلْقَهُ وَلَا رَآهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَهَا تَمَامَ أَرْبَعَةٍ ثُمَّ يُتِمُّ فِيمَا بَعْدُ
وَلَوْ سَافَرَ فِي ضَالَّةٍ لَهُ أَوْ عَبْدٍ آبِقٍ لِيَرْجِعَ أَيْنَ وَجَدَهُ فَبَلَغَ غَايَةً تُقْصَرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ فِي سَفَرِهِ بُلُوغَ هَذِهِ الْغَايَةِ، وَإِنَّمَا عَلَّقَهُ بِوُجُودِ الضَّالَّةِ وَجَعَلَ مَوْضِعَ وُجُودِهَا غَايَةَ سَفَرِهِ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَجِدَهَا مَعَ السَّاعَاتِ فَصَارَ كَمَنْ سَافَرَ إِلَى مَكَانٍ لَا يُقْصَرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةُ، فَإِذَا وَجَدَ ضَالَّتَهُ وَأَرَادَ الرُّجُوعَ إِلَى بَلَدِهِ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ إِذَا أَخَذَ فِي الرُّجُوعِ وَكَانَتِ الْمَسَافَةُ يُقْصَرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ حِينَ سَافَرَ فِي طَلَبِ ضَالَّتِهِ وَرَدِّ آبِقِهِ نَوَى الْقَصْرَ إِلَى بَلَدٍ تُقْصَرُ إِلَى مِثْلِهِ الصَّلَاةُ كَانَ لَهُ الْقَصْرُ، فَإِنْ وَجَدَ ضَالَّتَهُ فِي الطَّرِيقِ وَعَزَمَ عَلَى الرُّجُوعِ كَانَ كَالْمُسَافِرِ إِذَا بَدَا لَهُ فِي طَرِيقِهِ مِنْ إِتْمَامِ سَفَرِهِ
فَلَوْ كَانَ سَائِرًا فِي الْبَحْرِ فَمَنَعَتْهُ الرِّيحُ مِنَ الْخُطُوفِ وَالسَّيْرِ حَتَّى رَسَتِ السَّفِينَةُ مَكَانَهَا أَوْ أَقَامَتِ انْتِظَارَ السُّكُونِ لِلرِّيحِ وَإِمْكَانَ السَّيْرِ فَهَذَا فِي حُكْمِ التَّاجِرِ إذا أقام لبيع متاعه أو إنجازه أَمْرِهِ فَلَهُ أَنْ يَقْصُرَ تَمَامَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ كَوَامِلَ وَفِيمَا بَعْدَ الْأَرْبَعِ عَلَى الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ. وَإِنِ اسْتَقَامَتْ لَهُمُ الرِّيحُ فَسَارَتِ السَّفِينَةُ عَلَى مَكَانِهَا جَازَ لَهُ الْقَصْرُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ سَيْرِهَا، فَإِنْ رَجَعَتِ الرِّيحُ فَرَكَدَتْ إِلَى مَوْضِعِهَا الْأَوَّلِ قَصَرَ تَمَامَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ فِيمَا بَعْدُ على الأقاويل الثلاثة أنه لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَحْبِسَهَا الرِّيحُ فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ أَوْ فِي غَيْرِهِ نَصَّ الشَّافِعِيُّ على ذلك في " الأم "

(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ خَرَجَ فِي آخِرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ قَصَرَ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْوَقْتِ لَمْ يَقْصُرْ (قَالَ المزني) أشبه بقوله أن يتم لأنه يقول إن أمكنت المرأة الصلاة فلم تصل حتى حاضت أو أغمي عليها لزمتها وإن لم تمكن لم تلزمها فكذلك إذا دخل عليها وقتها

(2/375)


وهو مقيم لزمته صلاة مقيم وإنما تجب عنده بأول الوقت والإمكان وإنما وسع له التأخير إلى آخر الوقت "
قال الماوردي: وهذا كما قال إذا الرَّجُلُ الْمُقِيمُ لَا يَخْلُو حَالُ سَفَرِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إِمَّا أَنْ يُسَافِرَ قَبْلَ وَقْتِ الصَّلَاةِ، أَوْ يُسَافِرَ بَعْدَ الْوَقْتِ، أَوْ يُسَافِرَ فِي الْوَقْتِ فَإِنْ سَافَرَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ فِي سَفَرِهِ فَلَهُ قَصْرُ تِلْكَ الصَّلَاةِ إِجْمَاعًا، وَإِنْ سَافَرَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَجَبَ عَلَيْهِ إِتْمَامُ تِلْكَ الصَّلَاةِ فِي سَفَرِهِ فَلَهُ قَصْرُ تِلْكَ الصَّلَاةِ إِجْمَاعًا، وَإِنْ سَافَرَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَجَبَ عَلَيْهِ إِتْمَامُ تِلْكَ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْصُرَهَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ
وَإِنْ سَافَرَ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُسَافِرَ فِي أَوَّلِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَقَبْلَ إِمْكَانِ أَدَائِهَا فَلَهُ أَنْ يَقْصُرَهَا فِي سَفَرِهِ. لَا خِلَافَ بَيْنِ أَصْحَابِنَا إِلَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يَحْيَى الْبَلْخِيِّ
وَإِنَّمَا جَازَ لَهُ الْقَصْرُ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الصَّلَاةَ فِي وَقْتِهَا مُسَافِرًا فَجَازَ لَهُ الْقَصْرُ قِيَاسًا عَلَى مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ فِي سَفَرِهِ
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُسَافِرَ وَقَدْ مَضَى مِنَ الْوَقْتِ أَرْبَعُ ركعات، مذهب الشَّافِعِيِّ وَكَافَّةِ أَصْحَابِنَا لَهُ أَنْ يَقْصُرَهَا وَلَا يَلْزَمُهُ إِتْمَامُهَا، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ عَلَيْهِ إِتْمَامُهَا وَلَا يَجُوزُ لَهُ قَصْرُهَا تَعَلُّقًا بِشَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِدُخُولِ الْوَقْتِ وَإِمْكَانِ الْأَدَاءِ، فَإِذَا أَمْكَنَهُ الْأَدَاءُ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَهُوَ مُقِيمٌ، فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ تَامَّةً، وإذا وجبت عليه الصلاة تامة لم تجز لَهُ الْقَصْرُ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: الْحَيْضُ أَقْوَى فِي إِسْقَاطِ الصَّلَاةِ مِنَ السَّفَرِ؛ لِأَنَّهُ يُسْقِطُ الصَّلَاةَ بِأَسْرِهَا وَالسَّفَرَ يُسْقِطُ شَطْرَهَا، فَلَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ الْحَيْضَ إِذَا طَرَأَ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَإِمْكَانِ الْأَدَاءِ وَجَبَتِ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا وَلَمْ يَكُنِ الْحَيْضُ مُغَيِّرًا لِحُكْمِهَا، كَانَ حُدُوثُ السَّفَرِ بَعْدَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ أَوْلَى أَنْ لَا يُغَيِّرَ حُكْمَ الصَّلَاةِ. وَهَذَا خَطَأٌ وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] وَلِأَنَّهُ سَافَرَ يَحِلُّ لِمِثْلِهِ الْقَصْرُ فَوَجَبَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُؤَدِّيًا لِلصَّلَاةِ أَنْ يَجُوزَ لَهُ قَصْرُهَا، أَصْلُهُ إِذَا سَافَرَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الصَّلَاةِ أَوَّلَ الْوَقْتِ وَاسْتِقْرَارَ وُجُوبِهَا بِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ وَقَدْرِ الصَّلَاةِ، وَكَيْفِيَّةِ أَدَائِهَا مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْأَدَاءِ، أَلَا تَرَى لَوْ زَالَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَبْدٍ أَوْ مَرِيضٍ كَانَ فَرْضُهُمَا الظُّهْرُ أَرْبَعًا فَإِنْ عَتَقَ الْعَبْدُ وَبَرَأَ الْمَرِيضُ وَالْوَقْتُ بَاقٍ لَزِمَهُمَا الْجُمُعَةُ، وَلَوْ دَخَلَ الْوَقْتُ وَهُوَ صَحِيحٌ كَانَ فَرْضُهُ الْجُمُعَةَ، فَإِنْ مَرِضَ فِي الْوَقْتِ قَبْلَ حُضُورِ الْجُمُعَةِ كَانَ فَرْضُهُ الظُّهْرَ أَرْبَعًا اعْتِبَارًا

(2/376)


بِحَالِ الْأَدَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَعًا، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي حَالِ أَدَائِهَا مُسَافِرًا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ مُقِيمٌ، وَفِي هَذَا جَوَابٌ لِمَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ وُجُوبِ الصَّلَاةِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْحَيْضِ فَغَيْرُ لَازِمٍ لِأَنَّ الْحَيْضَ إِذَا طَرَأَ مَنَعَ مِنَ الْأَدَاءِ وَإِذَا طَهُرَتْ وَجَبَ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ، وَالسَّفَرُ إِذَا طَرَأَ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْأَدَاءِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْقَصْرِ لِوُجُودِ الْأَدَاءِ وَعَدَمِ الْقَضَاءِ فَافْتَرَقَا
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يُسَافِرَ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ قَدْرُ أَدَائِهَا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ جَوَازُ قَصْرِهَا، وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ بن سلمة يتم لا يَقْصُرُ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ لِيَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ التَّمَامُ وَفَارَقَ أَوَّلَ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ، وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لِفَرْقِهِ بَيْنَ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ مَعَ وُجُودِ الْأَدَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَجْهٌ
وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ: أَنْ يُسَافِرَ فِي آخِرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَقَدْ بَقِيَ مِنْهُ مِقْدَارُ رَكْعَةٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي كُتُبِهِ وَعَلَيْهِ عَامَّةُ أَصْحَابِهِ يُتِمُّ الصَّلَاةَ وَلَا يَقْصُرُهَا لِعَدَمِ الْأَدَاءِ فِي جَمِيعِهَا
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ. وَبِهِ قَالَ أبو علي بن خيران يجوز قصرها، ولأن الصَّلَاةَ قَدْ تَجِبُ بِآخِرِ الْوَقْتِ فِي أَصْحَابِ الْعُذْرِ وَالضَّرُورَاتِ كَوُجُوبِهَا فِي أَوَّلِهِ فَاقْتَضَى أَنْ يستويا في جواز القصر

(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْقَصْرَ مَعَ الْإِحْرَامِ فَإِنْ أَحْرَمَ وَلَمْ يَنْوِ الْقَصْرَ كَانَ عَلَى أَصْلِ فَرْضِهِ أَرْبَعٌ وَلَوْ كَانَ فَرْضُهَا رَكْعَتَيْنِ مَا صلى مسافر خلف مقيم (قال المزني) ليس هذا بحجةٍ وكيف يكون حجة وهو يجيز صلاة فريضة خلف نافلة وليست النافلة فريضةً ولا بعض فريضةٍ وركعتا المسافر فرضٌ وفي الأربع مثل الركعتين فرض "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يَجُوزُ قَصْرُ الصَّلَاةِ إِلَّا بِثَلَاثِ شَرَائِطَ، السَّفَرُ لِأَنَّ الْحَاضِرَ لَا يقصرُ، وَأَنْ يَكُونَ مُؤَدِّيًا لِلصَّلَاةِ لَا قَاضِيًا وَأَنْ يَنْوِيَ الْقَصْرَ مَعَ الْإِحْرَامِ، فَمَنْ أَخَلَّ بِشَرْطٍ مِنْهَا أَوْ لَمْ يَنْوِ الْقَصْرَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ بِهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ
وَقَالَ الْمُزْنِيُّ الْقَصْرُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ مَعَ الْإِحْرَامِ بَلْ إِذَا أَطْلَقَ النِّيَّةَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ نَاوِيًا لِلْقَصْرِ مَعَ سَلَامِهِ جَازَ، وَإِنْ سَلَّمَ غَيْرُنَا وكان كمن سلم في صلاته لَا تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ مَعَ أَوَّلِ الْعِبَادَةِ، أَلَا تَرَى لَوْ نَوَى الطَّهَارَةَ عَنْ غَسْلِ وَجْهِهِ كَانَ لَهُ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَإِنْ لَمْ يُقَدِّمِ النِّيَّةَ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ غَلَطٌ لِأَنَّا مُتَّفِقُونَ عَلَى وُجُوبِ النِّيَّةِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي مَحَلِّهَا، وَكُلُّ صَلَاةٍ افْتَقَرَتْ إِلَى النِّيَّةِ فَإِنَّ مَحَلَّ تِلْكَ النِّيَّةِ فِيهَا الْإِحْرَامُ، قِيَاسًا على نية

(2/377)


الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَقْصُورَةٌ مِنْ أَرْبَعٍ إِلَى رَكْعَتَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ فِي انْتِهَائِهَا مَوْجُودًا وَابْتِدَائِهَا كَالْجُمُعَةِ

(فَصْلٌ)
: إِذَا أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ يَنْوِي الْإِتْمَامَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ وَلَزِمَهُ الْإِتْمَامُ، وَقَالَ الْمَغْرِبِيُّ يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ وَإِنْ نَوَى التَّمَامَ، قَالَ لِأَنَّ السَّفَرَ يَتَعَلَّقُ بِهِ رُخْصَةُ الْقَصْرِ وَالْفِطْرِ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يُفْطِرَ فِيهِ وَإِنْ نَوَى الصِّيَامَ جَازَ أَنْ يَقْصُرَ فِيهِ وَإِنْ نَوَى الْإِتْمَامَ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِ وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ إِجْمَاعَ الْفُقَهَاءِ هُوَ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِصَلَاةِ الْحَضَرِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ صَرْفُهَا إِلَى صَلَاةِ السَّفَرِ
أَصْلُهُ إِذَا أَحْرَمَ وَهُوَ مُقِيمٌ ثُمَّ صَارَ مُسَافِرًا بِسَيْرِ السَّفِينَةِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الصَّوْمِ فَلَا يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ مَضْمُونٌ بِالْقَضَاءِ فَلَمْ يَتَحَتَّمْ عَلَيْهِ الصَّوْمُ بِدُخُولِهِ فِيهِ وَالْقَصْرُ لَا يُضَمَّنُ بالقضاء فتحتم عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ بِدُخُولِهِ فِيهِ فَلَوْ أَحْرَمَ نَاوِيًا لِلْقَصْرِ ثُمَّ نَوَى الْإِتْمَامَ لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ، لِأَنَّ نِيَّةَ الْإِتْمَامِ قَدْ رَفَعَتِ حُكْمَ الرُّخْصَةِ، فَلَوْ أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ ثُمَّ شَكَّ هَلْ دَخَلَ فِيهَا بِنِيَّةِ الْقَصْرِ أَوِ الْإِتْمَامِ لَزِمَهُ أَنْ يتم، لِأَنَّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الصَّلَاةِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْأَخْذُ بِالْأَكْثَرِ كَمَا لَوْ شَكَّ هَلْ بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاتِهِ رَكْعَةٌ أَوْ رَكْعَتَانِ، فَإِنْ ذَكَرَ ذَلِكَ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنَ الصَّلَاةِ أَنَّهُ كَانَ قَدْ دَخَلَ فِيهَا بِنِيَّةِ الْقَصْرِ لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ وَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ لِأَنَّهُ بِالشَّكِّ قَدْ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ، وَمَنْ لَزِمَهُ إِتْمَامُ صَلَاةٍ هُوَ فِيهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ قَصْرُهَا

(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ نَسِيَ صَلَاةً فِي سَفَرٍ فَذَكَرَهَا فِي حَضَرٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا صَلَاةَ حَضَرٍ لِأَنَّ عِلَّةَ الْقَصْرِ هِيَ النَّيَّةُ وَالسَّفَرُ فَإِذَا ذَهَبَتِ العلة القصر ذهب وَإِذَا نَسِيَ صَلَاةً حَضَرٍ فَذَكَرَهَا فِي سفرٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا أَرْبَعًا لِأَنَّ أَصْلَ الْفَرْضِ أَرْبَعٌ فَلَا يُجْزِئُهُ أَقَلُّ مِنْهَا وَإِنَّمَا أَرْخَصَ لَهُ فِي الْقَصْرِ مَا دَامَ وَقْتُ الصَّلَاةِ قَائِمًا وَهُوَ مسافرٌ فَإِذَا زَالَ وَقْتُهَا ذَهَبَتِ الرُّخْصَةُ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ
وَهَذَا الْفَصْلُ يَشْمَلُ أَرْبَعَ مَسَائِلَ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَنْسَى صلاة ثم يذكرها في حضر ققيها قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ يَقْصُرُهَا إِنْ شَاءَ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ تُؤَدَّى وَتُقْصَرُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَضَاؤُهَا مِثْلَ أَدَائِهَا أَصْلُهُ إِذَا نَسِيَهَا فِي الْحَضَرِ وَذَكَرَهَا فِي السَّفَرِ فَإِنَّهُ يَقْضِيهَا تَامَّةً لِأَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ تَامَّةً
وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ بَدَلٌ وَالْأَبْدَالُ فِي الْأُصُولِ مِثْلُ مُبْدَلَاتِهَا أَوْ أَخَفُّ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي " الْأُمِّ " وَ " الْإِمْلَاءِ " عَلَيْهِ إِتْمَامُهَا

(2/378)


أَرْبَعَةً، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَرْدُودَةٌ إِلَى رَكْعَتَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا كَالْجُمُعَةِ وَلِأَنَّ الْعُذْرَ الْمُغَيِّرَ لِلْفَرْضِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ مَعَ وُجُودِهِ كَالْمَرَضِ، وَلِأَنَّهُ مُقِيمٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ مُسَافِرٍ أَصْلُهُ إِذَا نَوَى الْإِقَامَةَ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ الْمُسَافِرَ إِنَّمَا جُوِّزَ لَهُ الْقَصْرُ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي التَّمَامِ، فَإِذَا صَارَ مُقِيمًا فَقَدْ زَالَتِ الْمَشَقَّةُ فَوَجَبَ أَنْ يَزُولَ التَّخْفِيفُ كَالْمُضْطَرِّ لَمَّا جُوِّزَ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ حَرُمَ عَلَيْهِ أَكْلُهَا عِنْدَ زَوَالِ الضَّرُورَةِ كَ " الْمُتَيَمِّمِ " وَلِأَنَّ السَّفَرَ يُبِيحُ قَصْرَ الصَّلَاةِ إِلَى شَطْرِهَا كَمَا يُبِيحُ بِالتَّيَمُّمِ قَصْرَ الطَّهَارَةِ إِلَى شَطْرِهَا. فَلَمَّا لَمْ يُسْتَبَحْ تَيَمُّمُ السَّفَرِ بعد انقضاء السفر لم يستبح قضاء السَّفَرِ بَعْدَ انْقِضَاءِ السَّفَرِ
(وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ)
: أَنْ تَفُوتَهُ فِي سَفَرٍ ثُمَّ يَذْكُرُهَا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا فِي السَّفَرِ فَفِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْإِمْلَاءِ لَهُ قَصْرُهَا إِنْ شَاءَ وَهُوَ أَصَحُّ، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الِاعْتِبَارُ إِمَّا بِحَالِ الْوُجُوبِ أَوْ بِحَالِ الْأَدَاءِ وَأَيُّهُمَا كَانَ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ فِي الْحَالَيْنِ مَعًا، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ تُؤَدَّى وَتُقْصَرُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَضَاؤُهَا مِثْلَ أَدَائِهَا أَصْلُهُ مَا ذَكَرْنَا
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ عَلَيْهِ إِتْمَامُهَا أَرْبَعًا؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ تُفْعَلُ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا قَضَاءً فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ قَصْرُهَا أَصْلُهُ إِذَا نَسِيَهَا فِي الْحَضَرِ ثُمَّ ذَكَرَهَا فِي السَّفَرِ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا، لِأَنَّ وَقْتَ الْجَمْعِ وَقْتٌ لَهُمَا مَعًا فَلِذَلِكَ جَازَ قَصْرُهَا، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَرْدُودَةٌ إِلَى رَكْعَتَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا كَالْجُمُعَةِ
(وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ)
: أَنْ يَنْسَى صَلَاةً فِي حَضَرٍ ثُمَّ يَذْكُرُهَا فِي حَضَرٍ فَلَا خِلَافَ أَنَّ عَلَيْهِ إِتْمَامَهَا وَإِنْ سَافَرَ فِيمَا بَعْدُ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الِاعْتِبَارُ بِحَالِ الْوُجُوبِ فَهُوَ فِيهِ حَاضِرٌ وَإِنْ كَانَ بِحَالِ الْأَدَاءِ فَهُوَ فِيهِ حَاضِرٌ وَلَا اعْتِبَارَ بِحَالَةٍ حَادِثَةٍ فِيمَا بَعْدُ
(وَالْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ)
: أَنْ يَنْسَى صَلَاةً فِي حَضَرٍ ثُمَّ يَذْكُرُهَا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا فِي السَّفَرِ فَعَلَيْهِ إِتْمَامُهَا أَرْبَعًا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَغْلَطُ فَيُجِيزُ لَهُ قَصْرَهَا اعْتِبَارًا بِحَالِ الْأَدَاءِ وهذا خطأ، لأن الصلاة قد استقر عليها فرضها أَرْبَعًا بِخُرُوجِ الْوَقْتِ فَلَمْ يَجُزْ لْهُ قَصْرُهَا وَقْتَ الْقَضَاءِ، كَمَا أَنَّ مَنْ نَسِيَ ظُهْرَ الْخَمِيسِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقْضِيَهَا بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ

(فَصْلٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي " الْإِمْلَاءِ ": وَإِذَا نَسِيَ الظُّهْرَ فِي الْحَضَرِ فَلَمْ يَذْكُرْهَا حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ سَافَرَ وَذَكَرَ فِي سَفَرِهِ أَنَّهُ نَسِيَ الظُّهْرَ وَوَقْتُ الْعَصْرِ باقٍ لَمْ يَجُزْ لْهُ قَصْرُ الظُّهْرِ، لِأَنَّ وَقْتَهَا قَدْ فَاتَ فِي الْحَضَرِ وَمَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَهُوَ حَاضِرٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْصُرَهَا إِذَا سَافَرَ، قَالَ: وَإِنْ نَسِيَ الظُّهْرَ فِي السَّفَرِ حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ صَارَ حَاضِرًا

(2/379)


فَذَكَرَ فِي الْحَضَرِ أَنَّهُ نَسِيَ الظُّهْرَ وَوَقْتُ الْعَصْرِ بَعْدُ بَاقٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْصُرَ الظُّهْرَ، قَالَ لِأَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ فِي السَّفَرِ وَقْتُ الْعَصْرِ وَالظُّهْرِ جَمِيعًا فَإِذَا ذَكَرَهَا فِي وَقْتِ الْعَصْرِ وَهُوَ حَاضِرٌ كَانَ كَمَا ذَكَرَهَا فِي وَقْتِهَا وَهُوَ حَاضِرٌ فَصَلَّى أَرْبَعًا صَلَاةَ حضر، لأنه مؤدٍ لا قاضي، فَلَوْ نَسِيَ صَلَاةَ ظُهْرٍ لَا يَدْرِي أَصَلَاةُ سَفَرٍ أَمْ صَلَاةُ حَضَرٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا صَلَاةَ حَضَرٍ لِيَكُونَ عَلَى يَقِينٍ

(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ أَحْرَمَ يَنْوِي الْقَصْرَ ثُمَّ نَوَى الْمُقَامَ أَتَمَّهَا أَرْبَعًا وَمَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمَسَافِرِينَ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ بِنِيَّةِ الْقَصْرِ ثُمَّ نَوَى الْمُقَامَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ إِتْمَامَ الصَّلَاةِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ قَصْرُهَا
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى التَّمَامِ بِنِيَّةِ الْقَصْرِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ صَلَّى رَكْعَةً ضَمَّ إِلَيْهَا أُخْرَى وَكَانَتْ نَافِلَةً ثُمَّ اسْتَفْتَحَ صَلَاةَ الْإِقَامَةِ أَرْبَعًا وَهَذَا غَلَطٌ وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ صَلَاتِهِ وَوُجُوبُ إِتْمَامِهَا أَرْبَعًا أَنَّ الْقَصْرَ رُخْصَةٌ سَبَبُهَا السَّفَرُ فَوَجَبَ إِذَا زَالَ سَبَبُهَا وَهُوَ السَّفَرُ أن نزول رُخْصَةُ الْقَصْرِ كَالْمَرِيضِ يُصَلِّي قَاعِدًا لِعَجْزِهِ ثُمَّ يَلْزَمُهُ الْقِيَامُ لِزَوَالِ مَرَضِهِ وَكَالْأَمَةِ تُصَلِّي مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ لِرِقِّهَا ثُمَّ يَلْزَمُهَا تَغْطِيَةُ رَأْسِهَا لِعِتْقِهَا
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا قُلْتُمْ إِنَّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ قَصْرًا اعْتِبَارًا بِحَالِ الْإِحْرَامِ كَالْمُتَيَمِّمِ إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ، قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا يَمْنَعُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ حُكْمِهِمَا وَهُوَ أَنَّ خُرُوجَ الْمُتَيَمِّمِ مِنْ صَلَاتِهِ لِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ يَبْطُلُ عَلَيْهِ مَا مَضَى فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَمَنْ نَوَى الْإِقَامَةَ إِذَا أَتَمَّ لَمْ يَبْطُلْ عَلَيْهِ مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ فَجَازَ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّمَامُ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ تَتِمُّ وَتُقْصَرُ فَوَجَبَ إِذَا زَالَ سَبَبُ قَصْرِهَا أَنْ يَلْزَمَهُ الْبِنَاءُ عَلَى التَّمَامِ. أَصْلُهُ إِذَا أَحْرَمَ الْجُمُعَةَ ثُمَّ خَرَجَ وَقْتُهَا
(وَالْفَصْلُ الثَّانِي)
: أَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا صَلَّى خَلْفَ مُقِيمٍ وَجَبَ عَلَى الْمُسَافِرِ أَنْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ أَرْبَعًا وبه قال أبو حنيفة ومالك. وقال أبو دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَطَاوُسٍ إِنَّ الْمُسَافِرَ يَقْصُرُ وَلَا يَلْزَمُهُ التَّمَامُ بِصَلَاتِهِ خَلْفَ مُقِيمٍ
لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَى الْمُسَافِرِ أَنْ يُتِمَّ إِذَا صَلَّى خَلْفَ مُقِيمٍ اعْتِبَارًا بِحَالِ إِمَامِهِ لَجَازَ لِلْمُقِيمِ أَنْ يَقْصُرَ إِذَا صَلَّى خَلْفَ مُسَافِرٍ اعْتِبَارًا بِحَالِ إِمَامِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ لِلْمُقِيمِ أَنْ يَقْصُرَ الصَّلَاةَ خَلْفَ الْمُسَافِرِ اعْتِبَارًا بِحَالِ نَفْسِهِ وَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ الْمُسَافِرَ أَنْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ خَلْفَ الْمُقِيمِ اعْتِبَارًا بِحَالِ نَفْسِهِ، وَلِأَنَّهُ مؤدٍ لِلصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ فَجَازَ أَنْ يَقْصُرَهَا كَالْمُنْفَرِدِ
وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا "

(2/380)


وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنْ صَلَّيْنَا مَعَكُمْ صَلَّيْنَا أَرْبَعًا وَإِنْ صَلَّيْنَا فِي بُيُوتِنَا صَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ ذَلِكَ سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وَلِأَنَّهُ مُؤْتَمٌّ بِمُقِيمٍ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّمَامُ كَمَنْ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الظُّهْرَ
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ وَجَبَ عَلَى الْمُسَافِرِ أَنْ يُتِمَّ خَلْفَ الْمُقِيمِ لَجَازَ لِلْمُقِيمِ أَنْ يَقْصُرَ خَلْفَ الْمُسَافِرِ
فَهُوَ أَنْ يُقَالَ الْإِتْمَامُ عَزِيمَةٌ وَالْقَصْرُ رُخْصَةٌ عَلَى صِفَتِهِ فَلَمْ يَجُزْ لِلْمُقِيمِ تَرْكُ الْعَزِيمَةِ وَالْأَخْذُ بِالرُّخْصَةِ تَبَعًا لِإِمَامِهِ وَوَجَبَ عَلَى الْمُسَافِرِ تَرْكُ الرُّخْصَةِ وَالْأَخْذُ بِالْعَزِيمَةِ تَبَعًا لِإِمَامِهِ عِنْدَ عَدَمِ الصِّفَةِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُنْفَرِدِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُؤْتَمٍّ بِمُتَمِّمٍ فَلِذَلِكَ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ

(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَصْلَيْنِ فَصُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِي مُسَافِرٍ صَلَّى خَلْفَ مُسَافِرٍ وَاسْتَفْتَحَا الصَّلَاةَ جَمِيعًا بِنِيَّةِ الْقَصْرِ ثُمَّ إِنَّ الْإِمَامَ نَوَى الْإِقَامَةَ فِي حَالِ صَلَاتِهِ، فَعَلَى الْإِمَامِ وَعَلَى مَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمَأْمُومِينَ أَنْ يُتِمُّوا الصَّلَاةَ أَرْبَعًا، وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَلْزَمُ الْمَأْمُومِينَ أَنْ يُتِمُّوا لِأَنَّ صَلَاتَهُمْ قَدِ انْعَقَدَتْ مَقْصُورَةً خَلْفَ مُسَافِرٍ فَلَمْ يَتَغَيَّرْ فَرْضُهُمْ بِنِيَّةِ إِمَامِهِمْ وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ " وَلِأَنَّهُ مُؤْتَمٌّ بِمُتَمِّمٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّمَامُ، أَصْلُهُ إِذَا أحرم بالصلاة خلف مقيم

(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَحْرَمَ فِي مركبٍ ثُمَّ نَوَى السَّفَرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ نَزَلَ فِي مَرْكَبٍ فِي بلد إقامته والمركب واقفاً قَدْ تَهَيَّأَ لِلسَّفَرِ، وَأَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ ثُمَّ خُطِفَ الْمَرْكَبُ وَسَارَ فَصَارَ الرَّاكِبُ مُسَافِرًا فِي حَالِ صَلَاتِهِ فَعَلَيْهِ إِتْمَامُ الصَّلَاةِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَصْرُهَا وَهُوَ مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ كَافَّةً إِلَّا مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ فَجَوَّزَ لَهُ الْقَصْرَ وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ عِبَادَةٌ تَخْتَلِفُ بِالْحَضَرِ وَالسَّفَرِ فَوَجَبَ إِذَا اجْتَمَعَ فِيهَا الْحَضَرُ وَالسَّفَرُ أَنْ يَغْلِبَ حُكْمُ الحضر، أصله إذا أنشأ صوم فِي الْحَضَرِ ثُمَّ سَافَرَ، وَلِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ فِي الصَّلَاةِ حُكْمُ الْإِقَامَةِ وَالسَّفَرِ وَجَبَ الْأَخْذُ بِالْأَكْثَرِ كَمَا لَوْ شَكَّ هَلْ صَلَّى ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا
لَيْسَ لِرَاكِبِ السَّفِينَةِ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرِيضَةَ قَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقِيَامِ لِكَثْرَةِ الزِّحَامِ صَلَّى قَاعِدًا لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ وَأَعَادَ إِذَا قَدَرَ
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَتِ السَّفِينَةُ مَرْبُوطَةً لَمْ تَجُزِ الْفَرِيضَةُ إِلَّا قَائِمًا وَإِنْ كَانَتْ سَائِرَةً أَجْزَأتهُ الْفَرِيضَةُ قَاعِدًا تَعَلُّقًا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم " فجوز

(2/381)


فِي الظَّاهِرِ صَلَاةَ الْقَاعِدِ وَجَعَلَ الْقِيَامَ أَفْضَلَ مِنْهُ، قَالُوا: وَلِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ سَائِرَةً فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ وَفَرْضُ الْقِيَامِ يَسْقُطُ بِزَوَالِ حَالِ الِاسْتِقْرَارِ كَالرَّاكِبِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ يُصَلِّي رَاكِبًا وَيَجْزِيهِ
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَزِمَهُ فَرْضُ الْقِيَامِ فِي غَيْرِ السَّفِينَةِ لَزِمَهُ فَرْضُ الْقِيَامِ فِي السَّفِينَةِ، أَصْلُهُ إِذَا صَلَّى فِي سَفِينَةٍ مَرْبُوطَةٍ، وَلِأَنَّهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ فِي السَّفِينَةِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِرَاءَةِ
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْخَبَرِ فَمَحْمُولٌ عَلَى النَّافِلَةِ، لِأَنَّ صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، فَأَمَّا الْفَرِيضَةُ فَلَا، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا أَجْزَأَهُ كَالْقَائِمِ فِي الْأَجْرِ سَوَاءً
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ كَالْخَائِفِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْخَوْفَ عُذْرٌ طَرَأَ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ غَيْرِهِ دُونَ أَنْ يُنْسَبَ الْخَوْفُ إِلَى فِعْلِهِ، وَرُكُوبُ السَّفِينَةِ مِنْ فِعْلِهِ، وَالْعُذْرُ الدَّاخِلُ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِهِ فَلَمَّا افْتَرَقَا فِي الْمَعْنَى افْتَرَقَا في الإعادة والله أعلم

(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ أَحْرَمَ خَلْفَ مقيمٍ أَوْ خَلْفَ مَنْ لَا يَدْرِي فَأَحْدَثَ الْإِمَامُ كَانَ عَلَى الْمُسَافِرِ أَنْ يُتِمَّ أَرْبَعًا وَإِنْ أَحْدَثَ إِمَامٌ مسافرٍ بِمُسَافِرِينَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ فَإِنْ عَلِمَ الْمَأْمُومُ أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إِلَّا رَكْعَتَانِ وَإِنْ شَكَّ لَمْ يُجْزِهِ إِلَّا أَرْبَعٌ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ خَلْفَ مُقِيمٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ سَوَاءٌ أَدْرَكَ مَعَهُ جَمْعَ الصَّلَاةِ أَوْ أَدْرَكَ قَدْرَ الْإِحْرَامِ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً أَتَمَّ، وَإِنْ أَدْرَكَ دُونَ الرَّكْعَةِ قَصَرَ، قَالَ: لِأَنَّهُ أَدْرَكَ مَعَهُ مَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ التَّمَامُ كَالْجُمُعَةِ
وَهَذَا خَطَأٌ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: أَنَّهُ مُؤْتَمٌّ بِمُتَمِّمٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّمَامُ، أَصْلُهُ إِذَا أَدْرَكَ مَعَهُ رَكْعَةً، وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْنًى إِذَا طَرَأَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ لَزِمَهُ التَّمَامُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ إِذَا طَرَأَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّمَامُ
أَصْلُهُ: إِذَا نَوَى الْإِقَامَةَ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْجُمُعَةِ وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي إِدْرَاكِ الْجُمُعَةِ انْتِقَالًا مِنَ الْكَمَالِ إِلَى النُّقْصَانِ، وَهُوَ رَكْعَتَانِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ ظُهْرًا أَرْبَعًا، فَاعْتُبِرَ فِيهِ إِدْرَاكٌ كَامِلٌ وَهُوَ رَكْعَةٌ وَفِي التَّمَامِ انْتِقَالٌ مِنَ النُّقْصَانِ إِلَى التَّمَامِ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ إِلْزَامُ الصَّلَاةِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ إِدْرَاكُ جُزْءٍ وَإِنْ قَلَّ كَإِدْرَاكِ الْوَقْتِ لَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ إِلْزَامُ الصَّلَاةِ اعْتُبِرَ فِيهِ إِدْرَاكُ جُزْءٍ وَإِنْ قَلَّ

(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَى الْمُسَافِرِ خَلْفَ الْمُقِيمِ أَنْ يُتِمَّ فَلَيْسَ يَخْلُو حَالُ الْمُسَافِرِ إِذَا أتم برجل من أحد أربعة أقسام:

(2/382)


[الأول] إما أن يعلم أنه مقيم [والثاني] أو يغلب على ظنه أنه مقيم
الثالث أو يعلم أنه مسافر الرابع أَوْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مُسَافِرٌ
فَإِنْ عَلِمَهُ مُقِيمًا كَانَ عَلَيْهِ التَّمَامُ لِمَا ذَكَرْنَا
وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مُقِيمٌ كَأَنْ رَآهُ مُسَافِرًا أَوْ عَلَيْهِ لِبَاسُ الْحَضَرِ فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ مُقِيمٌ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا فَعَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ سَوَاءٌ كَانَ الْإِمَامُ مُقِيمًا أَوْ مُسَافِرًا بِقَصْرٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ ظَاهِرُ أَمْرِهِ الْإِقَامَةَ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ بِنِيَّةِ التَّمَامِ وَالصَّلَاةُ إِذَا انْعَقَدَتْ تَامَّةً لَمْ يَجُزْ قَصْرُهَا
وَإِنْ عَلِمَهُ مُسَافِرًا أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مُسَافِرٌ بِأَنْ رَآهُ حَاضِرًا وَعَلَيْهِ ثِيَابُ السَّفَرِ فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ مُسَافِرٌ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا فَيَجُوزُ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ أَنْ يَنْوِيَ السَّفَرَ أَوِ الْقَصْرَ قَطْعًا، أَوْ يَقُولَ إِنْ قَصَرَ إِمَامِي قَصَرْتُ، فَإِذَا نَوَى أَحَدٌ هَذَيْنِ ثُمَّ وَجَدَ إِمَامَهُ مُتِمًّا فَعَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ، وَإِنْ وَجَدَهُ قَدْ قَصَرَ جَازَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ ظَاهِرُ حَالِ الْإِمَامِ فِي هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ أَنَّهُ مُسَافِرٌ كَانَ دَاخِلًا عَلَى جَوَازِ الْقَصْرِ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالظَّاهِرِ، وَمَنْ دَخَلَ عَلَى جَوَازِ الْقَصْرِ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالظَّاهِرِ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ كَمَا لَوْ دَخَلَ بِالْعِلْمِ، لِأَنَّ الْوُصُولَ إِلَى مَعْرِفَةِ حَالِهِ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مُقِيمٌ فَيَلْزَمُهُ التَّمَامُ وَإِنْ بَانَ مُسَافِرًا لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى جَوَازِ الْقَصْرِ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالظَّاهِرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَهُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ في ليلة الشك امرأة أو عبداً فَنَوَى صِيَامَهُ ثُمَّ صَحَّ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ لِدُخُولِهِ فِيهِ بِاسْتِدْلَالٍ، وَلَوْ صَامَهُ بِغَيْرِ استدلال لم يجزه

(فصل: [مسألة الكتاب] )
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حَالِ الْأَئِمَّةِ فَصُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِي مُسَافِرٍ صَلَّى خَلْفَ مُسَافِرٍ ثُمَّ أَحْدَثَ الْإِمَامُ قَبْلَ تَمَامِ الصَّلَاةِ، فَلَا تَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا بِالْعِلْمِ أَوْ يَغْلِبُهُ الظَّنُّ وَإِمَّا أَنَّ يَكُونَ مَجْهُولَ الْحَالِ فَلَيْسَ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ إِقَامَتُهُ مِنْ سَفَرِهِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْإِمَامُ مُقِيمًا أَوْ مَجْهُولَ الْحَالِ، فَعَلَى الْمَأْمُومِ أَنْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ أَرْبَعًا وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مُسَافِرًا فَإِنْ عَلِمَ الْمَأْمُومُ أَنَّ الْإِمَامَ نَوَى التَّمَامَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ نَوَى الْقَصْرَ جَازَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ، وَطَرِيقُ الْعِلْمِ بِحَالِهِ أَنْ يُخْبِرَهُ إِمَّا قَبْلَ إِحْرَامِهِ أَوْ بَعْدَ حَدَثِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهِ هَلْ نَوَى الْقَصْرَ أَوِ التَّمَامَ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْصُوصُهُ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ الْأَصْحَابِ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ، يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ إِمَامِهِ الْمُسَافِرِ أَنَّهُ قَدْ نَوَى الْقَصْرَ فَجَازَ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِظَاهِرِ حَالِهِ وَيَقْصُرَ
قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَلَوْ كَانَ الْمُحْدِثُ هُوَ الْمَأْمُومَ وَلَمْ يَعْلَمْ حَالَ إِمَامِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ

(2/383)


قَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يُحْدِثَ الْمَأْمُومُ فَيَلْزَمُهُ التَّمَامُ وَبَيْنَ أَنْ يُحْدِثَ الْإِمَامُ فَلَا يَلْزَمُهُ التَّمَامُ أَنَّ الْإِمَامَ فَعَلَ فِعْلًا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى إِتْمَامِهِ مِنْ قَصْرِهِ وَهُوَ مَا يَظْهَرُ مِنْ حَالِهِ عِنْدَ مَلَامِهِ فَإِذَا أَحْدَثَ الْمَأْمُومُ وَهُوَ شَاكٌّ فِي إِمَامِهِ لَزِمَهُ التَّمَامُ لِوُجُودِ مَا يَكُونُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ، وَإِذَا أَحْدَثَ الْإِمَامُ لَمْ يَكُنِ الِاسْتِدْلَالُ بِفِعْلِهِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ، وَكَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرِ حَالِهِ، وَهُوَ السَّفَرُ، فَجَازَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ خَطَأٌ، وَالتَّمَامُ عَلَى الْمَأْمُومِ وَاجِبٌ فِي كِلَا الْمَسْأَلَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَوَى الْإِتْمَامَ فَلَا يُجْزِئُهُ الْقَصْرُ، وَيَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ، وَبِالشَّكِّ لَا يَسْتَبِيحُ الْقَصْرَ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْإِتْمَامُ كَمَنْ شَكَّ هَلْ نَوَى الْقَصْرَ أَمْ لَا

(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ رَعَفَ وَخَلْفَهُ مُسَافِرُونَ وَمُقِيمُونَ فَقَدَّمَ مُقِيمًا كَانَ عَلَى جَمِيعِهِمْ وَعَلَى الرَّاعِفِ أَنْ يُصَلُّوا أَرْبَعًا لِأَنَّهُ لَمْ يُكْمِلْ وَاحِدٌ مِنْهُمُ الصَّلَاةَ حَتَّى كَانَ فِيهَا فِي صَلَاةِ مُقِيمٍ (قَالَ المزني) هذا غلط الراعف يبتدئ ولم يأتم بمقيم فليس عليه ولا على المسافر إتمام ولو صلى المستخلف بعد حدثه أربعاً لم يصل هو إلا ركعتان لأنه مسافر لم يأتم بمقيم "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي مُسَافِرٍ صَلَّى بِمُسَافِرِينَ وَمُقِيمِينَ فَرَعَفَ فِي تَضَاعِيفِ صَلَاتِهِ وَقَبْلَ سَلَامِهِ فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَالْإِمْلَاءِ أَنَّ صَلَاتَهُ لَا تَبْطُلُ بِالرُّعَافِ، وَإِنْ غَسَلَ رُعَافَهُ وَعَادَ قَرِيبًا بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ - وَهُوَ الصَّحِيحُ - قَدْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ بِالرُّعَافِ فَعَلَى هَذَا لَهُمْ حَالَانِ: حَالٌ يَسْتَخْلِفُ عَلَيْهِمْ مَنْ يُصَلِّي بِهِمْ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِمْ وَحَالٌ يُتِمُّوا الصَّلَاةَ لِأَنْفُسِهِمْ، فَإِنْ صَلَّوْا لِأَنْفُسِهِمْ صَلَّى المقيمون أربعاً والمسافرون ركعتين إن شاؤوا الْقَصْرَ وَكَانَ الْإِمَامُ الرَّاعِفُ بِالْخِيَارِ إِذَا اسْتَأْنَفَ الصَّلَاةَ بَيْنَ أَنْ يُتِمَّ أَوْ يَقْصُرَ
وَإِنْ صَلَّوْا بِإِمَامٍ مُسْتَخْلَفٍ فَلَهُ حَالَانِ
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَخْلِفَهُ الْإِمَامُ الرَّاعِفُ
وَالثَّانِي: أَنْ يَسْتَخْلِفُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ، فَإِنِ اسْتَخْلَفَهُ الْإِمَامُ الرَّاعِفُ لَمْ تَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا أَوْ مُقِيمًا، فَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا وَنَوَى الْقَصْرَ صَلَّى هُوَ وَمَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمُسَافِرِينَ رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّى الْمُقِيمُونَ أَرْبَعًا وَكَانَ لِلْإِمَامِ الرَّاعِفِ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ إِنْ شَاءَ الْقَصْرَ، وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا وَجَبَ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمُقِيمِينَ وَالْمُسَافِرِينَ أَنْ يُصَلُّوا أَرْبَعًا لِائْتِمَامِهِمْ بِمُقِيمٍ، فَأَمَّا الْإِمَامُ الرَّاعِفُ: فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ أَرْبَعًا
قَالَ الْمُزَنِيُّ: هَذَا غَلَطٌ يَجِبُ أَنْ يَلْزَمَهُ الْإِتْمَامُ لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ لَمْ يَدْخُلْ فِي صَلَاةِ مُقِيمٍ
فَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَجْوِبَةٍ

(2/384)


أَحَدُهَا: وَهُوَ جَوَابُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَضْمُونَةٌ عَلَى أَنَّ الرَّاعِفَ حِينَ غَسَلَ رُعَافَهُ رَجَعَ فَأَحْرَمَ خَلْفَ الْمُقِيمِ فَلَزِمَهُ الْإِتْمَامُ، وَلَوْ لَمْ يَرْجِعْ وَصَلَّى لِنَفْسِهِ مُنْفَرِدًا جَازَ لَهُ الْقَصْرُ كَمَا قَالَ الْمُزَنِيُّ
قَالَ: وَتَعْلِيلُ الشافعي يدل على هذا وهو قوله لأنه كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمْ يُكْمِلِ الصَّلَاةَ حَتَّى حَمَلَ فِيهَا فِي صَلَاةِ مُقِيمٍ. فَهَذَا جَوَابٌ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: وَهُوَ جَوَابُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ الشَّافِعِيَّ إِنَّمَا لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ الرُّعَافَ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ فَإِذَا اسْتَخْلَفَ مُقِيمًا فِي صَلَاةٍ هُوَ فِيهَا لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ لِأَنَّهُ صَارَ مُؤْتَمًّا بِمُتَمِّمٍ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ
وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: وَهُوَ جَوَابُ بَعْضِهِمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا سَوَاءٌ عَادَ فَدَخَلَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ أَمْ لَا وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ، لِأَنَّهُ أَصْلٌ وَالْإِمَامُ الْمُسْتَخْلَفُ فَرْعُهُ وَالْفَرْعُ لَا يَكُونُ أَوْكَدَ حَالًا مِنْ أَصْلِهِ، فَلَمَّا وَجَبَ عَلَى الْفَرْعِ الْإِتْمَامُ كَانَ الْأَصْلُ به أولى
وإذا كان الراعف قد استخلفه الْقَوْمَ مَكَانَهُ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجَوَابَ عَلَى مَا مَضَى مِنَ اسْتِخْلَافِ الرَّاعِفِ لَهُ سَوَاءٌ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الرَّاعِفَ إِذَا لَمْ يَسْتَخْلِفْهُ فَلَهُ أَنْ يَقْصُرَ بِكُلِّ حَالٍ أَعْنِي الرَّاعِفَ لِأَنَّ الْمُسْتَخْلَفَ وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا فَلَيْسَ بِفَرْعٍ لِلرَّاعِفِ فَيَلْزَمُهُ حُكْمُ صَلَاتِهِ فِي الْإِتْمَامِ، فَعَلَى هَذَا لَوِ اسْتَخْلَفَ الْمُقِيمُونَ مُقِيمًا وَالْمُسَافِرُونَ مُسَافِرًا جَازَ وَصَلَّى الْمُقِيمُونَ مَعَ إِمَامِهِمْ أَرْبَعًا وَصَلَّى الْمُسَافِرُونَ مَعَ إِمَامِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوِ افْتَرَقُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ وَأَكْثَرَ وَقَدَّمَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ إِمَامًا جَازَ وَلَوْ كَانَ إِمَامُهُمْ قَبْلَ الْحَدَثِ وَاحِدًا إِذَا قِيلَ بِجَوَازِ الِاسْتِخْلَافِ. نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ

(فَصْلٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ صَلَاةِ الْخَوْفِ: " وَإِذَا صَلَّى الْإِمَامُ بِطَائِفَةٍ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ ثُمَّ أَحْدَثَ فَاسْتَخْلَفَ مُقِيمًا لَمْ يَحْضُرِ الرَّكْعَةَ أَتَمَّتِ الطَّائِفَةُ الْأُولَى وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ أَرْبَعًا، فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ أَلْزَمَ الطَّائِفَةَ الْأُولَى الْإِتْمَامُ وَقَدْ فَارَقَتِ الْإِمَامَ وَخَرَجَتْ مِنْ صَلَاتِهِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ قِيلَ: الْمَسْأَلَةُ مُصَوَّرَةٌ فِي الْإِمَامِ إِذَا أَحْدَثَ قَبْلَ الِاعْتِدَالِ وَالطَّائِفَةُ الْأُولَى مَعَهُ لِأَنَّهُمْ يُفَارِقُونَهُ بَعْدَ الِاعْتِدَالِ فَلِذَلِكَ لَزِمَهُمُ الْإِتْمَامُ لِحُصُولِهِمْ خَلْفَ مُقِيمٍ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ حَدَثُهُ بَعْدَ الِاعْتِدَالِ لَمْ يَلْزَمِ الطَّائِفَةَ الْأُولَى لِخُرُوجِهِمْ مِنْ إِمَامَتِهِ
(فَصْلٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْإِمْلَاءِ: وَإِذَا دَخَلَ الْمُسَافِرُ بَلَدًا وَصَلَّى صَلَاةَ السَّفَرِ خَلْفَ إِمَامٍ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ لَزِمَ الْمُسَافِرَ أَنْ يُتِمَّ أَرْبَعًا، قَالَ لِأَنَّهُ صَلَّى خَلْفَ مُقِيمٍ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ وَإِنْ كَانَتْ مَقْصُورَةً فَهِيَ فَرْضُ الْإِقَامَةِ وَالْإِمَامُ فِيهَا مُقِيمٌ فَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ لَوْ صَلَّى

(2/385)


الْمُسَافِرُ الظُّهْرَ خَلْفَ إِمَامٍ مُقِيمٍ يُصَلِّي الصُّبْحَ لَمْ يَجُزْ لِلْمُسَافِرِ الْقَصْرُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ أَرْبَعًا لِأَنَّهُ حَصَلَ مُؤْتَمًّا بِمُقِيمٍ

(فَصْلٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْإِمْلَاءِ: وَإِذَا اسْتَفْتَحَ بِنِيَّةِ التَّمَامِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا عَلَى نَفْسِهِ وَوَقْتُ الصَّلَاةِ بَاقٍ لَزِمَهُ أَنْ يستأنفها تامة ولا يجوز له قصرها لأنه إِتْمَامَهَا قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ فَصَارَ كَمَا لَوْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ إِتْمَامُهَا بِفَوَاتِ الْوَقْتِ، وَلَكِنْ لَوِ افْتَتَحَهَا بِنِيَّةِ التَّمَامِ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِهَا مُحْدِثًا جَازَ إِذَا اسْتَأْنَفَهَا أَنْ يَقْصُرَ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْعَقِدْ إِحْرَامُهُ مَعَ الْحَدَثِ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ إِتْمَامُهَا بِالْفِعْلِ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمَّا وَقَعَ بَاطِلًا لَمْ يَكُنْ لَهُ حُكْمٌ فَصَارَ كَمَنْ نَوَى الْإِتْمَامَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنَ الْقَصْرِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ
(فَصْلٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: " وَإِذَا أَحْرَمَ مُسَافِرٌ بِمُسَافِرٍ وَنَوَيَا جَمِيعًا الْقَصْرَ ثُمَّ سَهَا الْإِمَامُ فَصَلَّى أَرْبَعًا سَاهِيًا يَظُنُّهَا رَكْعَتَيْنِ كَانَ عَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ لِأَنَّ فَرْضَهُ رَكْعَتَانِ وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِمَا سَهْوٌ، وَلَوْ ذَكَرَ سَهْوَهُ فِي الثَّالِثَةِ أَتَى بِسُجُودِ السَّهْوِ وَسَلَّمَ وَوَجَبَ عَلَى الْمَأْمُومِ أَنْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ أَرْبَعًا لِأَنَّ إِتْمَامَهَا قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِاعْتِقَادِهِ أَنَّ إِمَامَهُ قَدْ نَوَى الْإِتْمَامَ، وَإِنْ عَلِمَ الْمَأْمُومُ أَنَّ الْإِمَامَ قَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ سَاهِيًا لَمْ يَتْبَعْهُ، فَإِنْ تَبِعَهُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ كَمَنْ تَبِعَ إِمَامًا قَامَ إِلَى خامسة "

(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا كَانَ لَهُ طَرِيقَانِ يَقْصُرُ فِي أَحَدِهِمَا وَلَا يَقْصُرُ فِي الْآخَرِ فَإِنْ سَلَكَ الْأَبْعَدَ لِخَوْفٍ أَوْ حُزُونَةٍ فِي الْأَقْرَبِ قَصَرَ وَإِلَّا لَمْ يَقْصُرْ وَفِي الْإِمْلَاءِ إِنْ سَلَكَ الْأَبْعَدَ قَصَرَ " (قَالَ الْمُزَنِيُّ) " وَهَذَا عِنْدِي أَقْيَسُ لِأَنَّهُ سَفَرٌ مُبَاحٌ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَرَادَ قَصْدَ بَلَدٍ لَهُ إِلَيْهِ طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا قَرِيبُ الْمَسَافَةِ لَا يُقْصَرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةُ. وَالْآخَرُ بَعِيدُ الْمَسَافَةِ يَقْصُرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةُ فَإِنْ سَلَكَ الْأَقْصَرَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ لِقُرْبِ مَسَافَتِهِ، وَإِنْ سَلَكَ الْأَبْعَدَ فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْلُكَهُ لِعُذْرٍ أَوْ غَرَضٍ مِثْلُ عَدُوٍّ فِي الْأَقْرَبِ يَخَافُهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ لِصٍّ يَخَافُهُ عَلَى مَالِهِ أَوْ طَالِبِ خِفَارَةٍ أَوْ سُلُوكِ عَقَبَةٍ شَدِيدَةٍ أَوْ يَخَافُ قِلَّةَ مَاءٍ أَوْ مَرْعًى أَوْ يَكُونُ لَهُ فِي الْأَبْعَدِ غَرَضٌ كَزِيَارَةِ قَرَابَةٍ أَوْ قَضَاءِ حَاجَةٍ أَوْ يَعْرِفُ خَيْرَ مَتَاعٍ فَهَذَا يَقْصُرُ فِي سُلُوكِ الْأَبْعَدِ إِنْ شَاءَ لَا يَخْتَلِفُ كَمَنْ لَا طَرِيقَ لَهُ سِوَاهُ
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ فِي الْأَقْرَبِ عُذْرٌ وَلَا فِي الْأَبْعَدِ غَرَضٌ، فَفِي جَوَازِ قَصْرِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْإِمْلَاءِ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] ، وَلِأَنَّهَا مَسَافَةٌ يُقْصِرُ مِثْلُهَا الصَّلَاةَ فَجَازَ أَنْ يَقْصُرَ

(2/386)


أَصْلُهُ: إِذَا كَانَ لَهُ عُذْرٌ أَوْ غَرَضٌ، وَلِأَنَّ صِحَّةَ الْأَغْرَاضِ وَحُدُوثَ الْأَعْذَارِ لَا تُعْتَبَرُ فِي الْأَسْفَارِ إِذَا كَانَتْ مُبَاحَةً، أَلَا تَرَاهُ لَوْ سَافَرَ لِلنُّزْهَةِ وَالشَّهْوَةِ وَاخْتَارَ لَذَّةَ قَلْبِهِ وَطَلَبَ مُرَادِهِ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَعْذُورًا كَذَلِكَ هَذَا
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ فِي سُلُوكِ الْأَبْعَدِ لِأَنَّ الْبَلَدَ الَّذِي قَصَدَهُ فِي حُكْمِ الْإِقَامَةِ لِقُرْبِ الْمَسَافَةِ، وَإِذَا سَلَكَ الْأَبْعَدَ صَارَ كَأَنَّهُ قد طول المسافة لأجل القصر وتطول الْمَسَافَةِ لِأَجْلِ الْقَصْرِ يَمْنَعُ مِنَ الْقَصْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ مَسَافَةً لَا يَقْصُرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةَ فِي مُدَّةٍ تَقْصُرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ وَهُوَ أَنْ يَقْطَعَ عَشَرَةَ أَمْيَالٍ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ، فَكَذَلِكَ إِذَا سَافَرَ إِلَى بَلَدٍ لَا يَقْصُرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةَ فِي طَرِيقٍ يَقْصُرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ وَالْقَوْلُ الأول أصح

(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَيْسَ لِأَحَدٍ سَافَرَ فِي مَعْصِيَةٍ أَنْ يَقْصُرَ وَلَا يَمْسَحُ مَسْحَ الْمُسَافِرِ فَإِنْ فَعَلَ أَعَادَ ولا تخفيف على من سفره في معصية "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا سَافَرَ منشأ لِسَفَرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ كَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَإِخَافَةِ السَّبِيلِ وَالسَّعْيِ بِالْفَسَادِ أَوْ خَرَجَ بَاغِيًا عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ أَوْ أَبَقًا مِنْ شِدَّةٍ أَوْ هَارِبًا مِنْ حَقٍّ لَزِمَهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى بَذْلِهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَرَخَّصَ بِشَيْءٍ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ بِحَالٍ
قَالَ: لَا يَقْصُرُ مِنْ صَلَاتِهِ وَلَا يُفْطِرُ فِي صِيَامِهِ وَلَا يَمْسَحُ ثَلَاثًا عَلَى خُفِّهِ وَلَا يَتَنَفَّلُ عَلَى الرَّاحِلَةِ حَيْثُ مَا تَوَجَّهَتْ وَلَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ إِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَقَالَ أبو حنيفة وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْمُزَنِيُّ: الْعَاصِي فِي سَفَرِهِ كَالطَّائِعِ فِي اسْتِبَاحَةِ الرُّخَصِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ هَارِبٍ مِنْ طَائِعٍ أَوْ عَاصٍ، وَلِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ شَطْرَ الصَّلَاةِ " قالوا: ولأنه كُلَّ صَلَاةٍ جَازَ الِاقْتِصَارُ فِيهَا عَلَى رَكْعَتَيْنِ اسْتَوَى فِي فِعْلِهَا الطَّائِعُ وَالْعَاصِي كَالْجُمُعَةِ وَالصُّبْحِ
قَالُوا: وَلِأَنَّ لِلْمُقِيمِ رُخْصَةً وَلِلْمُسَافِرِ رُخْصَةً فَلَوْ مَنَعَتِ الْمَعْصِيَةُ مِنْ رُخْصَةِ الْمُسَافِرِ لَمَنَعَتْ مِنْ رُخْصَةِ الْمُقِيمِ، فَلَمَّا جَازَ لِلْمُقِيمِ أَنْ يَتَرَخَّصَ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا جَازَ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَتَرَخَّصَ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا، وَقَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَوْ أَنْشَأَ سَفَرًا فِي طَاعَةٍ مِنْ حَجٍّ أَوْ جِهَادٍ ثُمَّ جَعَلَهُ مَعْصِيَةً لِسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ جَازَ أَنْ يَسْتَبِيحَ رُخَصَ السَّفَرِ، كَذَلِكَ إِذَا أَنْشَأَ سَفَرَهُ عَاصِيًا
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنْ يَقُولَ: لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ فَجَازَ أَنْ يَسْتَبِيحَ الرُّخَصَ مَعَ الْمَعْصِيَةِ كَمَا لَوْ طَرَأَتِ الْمَعْصِيَةُ فِي سَفَرِهِ قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلْعَاصِي أَنْ يَتَيَمَّمَ فِي سَفَرِهِ إِجْمَاعًا وَلَمْ تَمْنَعْهُ الْمَعْصِيَةُ مِنَ التَّيَمُّمِ كَذَلِكَ لَا تَمْنَعُهُ مِنْ سَائِرِ الرُّخَصِ كالقصر وغيره

(2/387)


قَالُوا: وَلِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَوْ مَنَعَتْهُ مِنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فِي سَفَرِهِ لَاسْتَبَاحَ بِالْمَعْصِيَةِ قَتْلَ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ إِذَا امْتَنَعَ مِنْ أَكْلِهَا أَفْضَى بِهِ الْجُوعُ إِلَى التَّلَفِ وَقَتْلُ النَّفْسِ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] ، ولأن معصيته لَمَّا لَمْ تُبِحْ لَهُ قَتْلَ غَيْرِهِ لَمْ تُبِحْ لَهُ قَتْلَ نَفْسِهِ
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] فَأَطْلَقَ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ عُمُومًا ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ جُمْلَةِ التَّحْرِيمِ مُضْطَرًّا لَيْسَ بِعَاصٍ فَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} [المائدة: 3] أَيْ غَيْرَ مُرْتَكِبٍ لِمَعْصِيَةٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَاصِي الْمُضْطَرُّ كَالطَّائِعِ الَّذِي لَيْسَ بِمُضْطَرٍّ فِي تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ عَلَيْهِمَا لِعُمُومِ التَّحْرِيمِ
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173] . فَحَرَّمَ الْمَيْتَةَ تَحْرِيمًا عَامًّا، وَاسْتَثْنَى مِنْهُ مُضْطَرًّا غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: غَيْرُ بَاغٍ عَلَى الْإِمَامِ وَلَا عَادٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} [المائدة: 3] أَيْ: غَيْرَ مُرْتَكِبٍ لِتَنَاوُلِ مَا زَادَ عَلَى سَدِّ رَمَقِهِ، وَبِقَوْلِهِ غَيْرَ بَاغٍ أَيْ غَيْرَ طَالِبٍ لِأَكْلِ مَا لَا حَاجَةَ لَهُ إِلَيْهِ وَبِقَوْلِهِ، وَلَا عَادٍ، أَيْ: لَا مُتَعَمِّدٍ فِيهَا بَعْدَ سَدِّ رَمَقِهِ
قِيلَ عَنْ هَذَا جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: اسْتِعْمَالُهُ فِي الْأَمْرَيْنِ وَحَمْلٌ عَلَى الْعُمُومِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَرْضِيُّ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ الْمَيْتَةَ لِمُضْطَرٍّ غَيْرِ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَى مَنْ زَادَ عَلَى سَدِّ رَمَقِهِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ وَالْإِبَاحَةُ لِمُضْطَرٍّ عَلَى حَقٍّ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا عَدَمُ الْمَعْصِيَةِ
وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا: هُوَ أَنَّ رُخَصَ السَّفَرِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالسَّفَرِ وَمَنُوطَةٌ بِهِ فَلَمَّا كَانَ سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ مَمْنُوعًا مِنْهُ لِأَجْلِ الْمَعْصِيَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنَ الرُّخَصِ مَمْنُوعًا مِنْهُ لِأَجْلِ المعصية
فإن قيل: هذا باطل بما جَرَحَ نَفْسَهُ فَعَجَّزَهُ عَنِ الْقِيَامِ، يَجُوزُ لَهُ أن يصلي قاعداً ووإن كَانَ الْجُرْحُ مَعْصِيَةً، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إِذَا ضَرَبَتْ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْ مَا فِيهِ فَإِنَّهُ تَسْقُطُ عَنْهَا الصَّلَاةُ فِي مُدَّةِ النِّفَاسِ وَإِنْ كَانَ الضَّرْبُ مَعْصِيَةً، قُلْنَا جَوَازُ الْقُعُودِ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ وَالْعَجْزُ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مَعْصِيَةٍ وَإِنَّمَا هُوَ مُتَوَلِّدٌ عَنِ الضَّرْبِ الَّذِي هُوَ معصية، وكذلك الصلاة إنما تقسط بِوُجُودِ النِّفَاسِ وَلَيْسَ النِّفَاسُ مَعْصِيَةً وَإِنَّمَا هُوَ مُتَوَلِّدٌ عَنِ الْإِسْقَاطِ الْحَادِثِ عَنْ سَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ فَلِذَلِكَ مَا جَوَّزْنَاهُ وَسَبَبُ هَذِهِ الرُّخَصِ هُوَ السَّفَرُ لَا غَيْرَ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ

(2/388)


مَعْصِيَةٌ لِأَنَّ السَّفَرَ حَرَكَاتُهُ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا مُعَاقِبٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْلِبَ التَّخْفِيفَ وَالرُّخَصَ، وَلِأَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّفَرِ مِنْ رُخْصَةِ تَخْفِيفٍ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِيهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ مَعُونَةً لَهُمْ وَقُوَّةً عَلَى سَفَرِهِمْ، وَالْعَاصِي لَا يَسْتَحِقُّ الْمَعُونَةَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَبِيحَ الرُّخْصَةَ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ مَانِعًا مِنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ لِأَجْلِ الْمَعْصِيَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنْ سَائِرِ الرُّخَصِ لِأَجْلِ الْمَعْصِيَةِ، وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ السَّبَبَ الْمَحْظُورَ لَا يُسْقِطُ شَيْئًا مِنْ فَرْضِ الصَّلَاةِ كَالْخَوْفِ بِالْقِتَالِ الْمَحْظُورِ لَا يُبِيحُ صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَلِأَنَّ الرُّخَصَ إِذَا اسْتُبِيحَتْ بِشَرْطٍ وَكَانَ الشَّرْطُ مَرْدُودًا بِالشَّرْعِ صَارَ مَفْقُودًا كَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لَمَّا شُرِطَ فِي عَوْدِهَا إِلَى الْأَوَّلِ نِكَاحُ زَوْجٍ ثَانٍ ثُمَّ كَانَ نِكَاحُ الزَّوْجِ الثَّانِي لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِفَسَادِهِ كَانَ وَجُودُهُ كَعَدَمِهِ فِي تَحْرِيمِهَا عَلَى الْأَوَّلِ كَذَلِكَ الْقَصْرُ لَمَّا كَانَ مَشْرُوطًا بِالسَّفَرِ وَكَانَ سَفَرُهُ لِمَعْصِيَةٍ مَرْدُودًا بِالشَّرْعِ صَارَ كَالْمَعْدُومِ وَإِذَا عُدِمَ السَّفَرُ حُرِّمَتِ الرُّخْصَةُ
فَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِالْآيَةِ وَالْخَبَرِ فَأَدِلَّتُنَا مُخَصَّصَةٌ لَهُمَا، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْجُمُعَةِ وَالصُّبْحِ فَوَصْفُ الْعِلَّةِ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْأَصْلِ عِنْدَنَا وَفِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ عِنْدَهُمْ، عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْجُمُعَةِ وَفِي الصُّبْحِ أَنَّ الِاقْتِصَارَ فِيهِمَا عَلَى رَكْعَتَيْنِ لَا يَخْتَصُّ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ فَلَا يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ طَاعَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ وَلَمَّا كَانَتْ رُخَصُ السَّفَرِ بِسَبَبٍ حَادِثٍ مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ السَّفَرُ وَقَعَ الْفَرْقُ فِيهِ بَيْنَ طَاعَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ فَاسْتَبَاحَ الرُّخَصَ مَعَ الطَّاعَةِ وَمَنَعَ مِنْهَا مَعَ الْمَعْصِيَةِ وَأَمَّا جَمْعُهُمْ بَيْنَ مَعْصِيَةِ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ فِي جَوَازِ اسْتِبَاحَةِ الرُّخَصِ فَقَدْ كَانَ أَبُو سَعِيدٍ الِاصْطَخْرِيُّ يَمْنَعُ الْمُقِيمَ مِنْهَا كَمَا يَمْنَعُ الْمُسَافِرَ وَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي حَظْرِ الرُّخَصِ عَلَيْهِمَا فَعَلَى هَذَا بَطَلَ اسْتِدْلَالُهُمْ بِهِ وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ الْمُقِيمَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَرَخَّصَ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْإِقَامَةَ نَفْسَهَا لَيْسَتْ مَعْصِيَةً لِأَنَّهَا كَفٌّ وَإِنَّمَا الْفِعْلُ الَّذِي تُوقِعُهُ فِي الْإِقَامَةِ مَعْصِيَةٌ، فَلَمَّا لَمْ تَكُنِ الْإِقَامَةُ مَعْصِيَةً لَمْ تَمْنَعِ الرُّخَصَ وَالسَّفَرُ فِي نَفْسِهِ مَعْصِيَةٌ لِأَنَّهُ فِعْلٌ وَحَرَكَةٌ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الْمَعَاصِي فَكَانَتْ مَعْصِيَةً، وَإِذَا كَانَ السَّفَرُ مَعْصِيَةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبِيحَ الرُّخَصَ
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تَكُونُ نَفْسُ الْإِقَامَةِ مَعْصِيَةً وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ الْإِقَامَةَ لِزِنًا أَوْ قَتْلِ إِنْسَانٍ
قِيلَ: لَا تكون الإقامة معصية وإنما المعصية هو الْعَزْمُ عَلَى الْفِعْلِ وَمَا نَوَاهُ مِنَ الزنا وَالْقَتْلِ، أَلَا تَرَاهُ يُعَاقَبُ عَلَى عَزْمِهِ، وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى نِيَّةِ مُقَامِهِ وَالسَّفَرُ حَرَكَاتٌ هُوَ عَلَيْهَا مُعَاقِبٌ فَعُلِمَ أَنَّ السَّفَرَ مَعْصِيَةٌ وَالْإِقَامَةَ لَيْسَتْ بِمَعْصِيَةٍ
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّنْ أَحْدَثَ الْمَعْصِيَةَ فِي سَفَرِهِ وَقَدْ أَنْشَأَهُ طَائِعًا فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ فِيهِ نَصٌّ وَلِأَصْحَابِنَا فِيهِ وَجْهَانِ:

(2/389)


أحدهما: وهو قول أبو الْقَاسِمِ الدَّارِكِيِّ وَعَزَاهُ لِأَصْحَابِنَا، لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَرَخَّصَ كَالْمُنْشِئِ لِسَفَرِهِ فِي مَعْصِيَةٍ فَعَلَى هَذَا سَقَطَ اسْتِدْلَالُهُمْ بِهِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا يَجُوزُ أَنْ يَتَرَخَّصَ لِأَنَّ الَّذِي جَلَبَ لَهُ هَذِهِ الرُّخَصَ إِحْدَاثُ السَّفَرِ وَإِحْدَاثُهُ لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً وَفِي مَسْأَلَتِنَا إِحْدَاثُهُ مَعْصِيَةٌ فَافْتَرَقَا فِي اسْتِبَاحَةِ الرُّخَصِ
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ التَّيَمُّمِ فَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُنَا فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ وَلَكِنْ هَلْ يَلْزَمُهُ إِعَادَةُ الصَّلَاةِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُعِيدُ فَعَلَى هَذَا لَا تَخْفِيفَ
وَالثَّانِي: لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الرُّخَصِ أَنَّ الرُّخْصَ يُخَيَّرُ بَيْنَ فِعْلِهَا وَتَرْكِهَا، وَالتَّيَمُّمُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ تَرْكِهِ وَفِعْلِهِ وَإِنْ تركه كان عاصياً يتركه وَلَوْ تَرَكَ الرُّخْصَةَ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا بِتَرْكِهَا فَافْتَرَقَا
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ فِي مَنْعِ الْمُضْطَرِّ الْعَاصِي مِنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ إِتْلَافَ نَفْسِهِ وَحِرَاسَةُ نَفْسِهِ وَاجِبٌ، قُلْنَا: إِذَا اضْطُرَّ إِلَى أَكْلِهَا وهو عاصي وَجَبَ عَلَيْهِ أَكْلُهَا لِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ إِلَّا بَعْدَ إِحْدَاثِ التَّوْبَةِ، كَمَا أَنَّ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ، وَهُوَ مُحْدِثٌ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ فِعْلُ الصَّلَاةِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهَا مُحْدِثًا إِلَّا بَعْدَ الطَّهَارَةِ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهَا كَمَا أَنَّ الْمُضْطَرَّ الْعَاصِيَ قَادِرٌ عَلَى التَّوْبَةِ
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَاصِيَ مَمْنُوعٌ فِي سَفَرِهِ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ كُلِّهَا فَفِي جَوَازِ مَسْحِهِ عَلَى خُفِّهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ وَالْمَسْحُ يَوْمًا وَلَيْلَةً رُخْصَةٌ لِلْمُقِيمِ،
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ أن يمسح على خفيه أصلاً، لأنه عاصي فِي سَفَرِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَرَخَّصَ
وَلَيْسَ مِنْ حَيْثُ كَانَ لِلْمُقِيمِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَهُوَ مُقِيمٌ ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَأْكُلُهَا مسافراً عاصياً بسفره

(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ صَلَّى مُسَافِرٌ بِمُقِيمِينَ وَمُسَافِرِينَ فَإِنَّهُ يُصَلِّي والمسافرون ركعتين ثم يسلم بهم وأمر المقيمين أن يتموا أربعاً وكل مسافر فله أن يتم وإنما رخص له أن يقصر الصلاة إن شاء فإن أتم فله الإتمام وكان عثمان بن عفان يتم الصلاة "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ

(2/390)


إِذَا اجْتَمَعَ مُسَافِرُونَ وَمُقِيمُونَ فَأَرَادُوا الصَّلَاةَ جَمَاعَةً فإن كان فيهم إمام الوقت أن سُلْطَانُ الْبَلَدِ فَهُوَ أَوْلَاهُمْ بِالْإِمَامَةِ مُقِيمًا كَانَ أَوْ مُسَافِرًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ إِمَامٌ وَلَا سُلْطَانٌ وَاسْتَوَوْا فِي الْفِقْهِ وَالْقِرَاءَةِ فَإِمَامَةُ المقيم أولى لأمرين:
أحدهما: أن يُتِمُّ الصَّلَاةَ وَالْإِتْمَامُ أَفْضَلُ
وَالثَّانِي: لِأَنَّهُ يَسْتَوِي مَنْ خَلْفَهُ فَيَكُونُ فَرَاغُهُمْ عَلَى سَوَاءٍ فَلِهَذَيْنِ كَانَتْ إِمَامَةُ الْمُقِيمِ أَوْلَى فَإِنْ قَدَّمُوا مُسَافِرًا جَازَ وَإِنْ كَانَ الْمُقِيمُ أَوْلَى، وَهَلْ تُكْرَهُ إِمَامَتُهُ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ لَهُمْ لِخُرُوجِهِ مِنَ الصَّلَاةِ قَبْلَهُمْ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ لَا يُكْرَهُ لَهُمْ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ بِخِلَافِ الْمُقِيمِ فِي إِبَاحَةِ الرُّخْصَةِ وَلَيْسَ اسْتِبَاحَةُ الرُّخْصَةِ نَقْصًا فِيهِ، فَإِذَا أَمَّهُمْ صَلَّى وَمَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمُسَافِرِينَ رَكْعَتَيْنِ إِنْ أَحَبُّوا الْقَصْرَ وَوَجَبَ عَلَى مَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمُقِيمِينَ أَنْ يُتِمُّوا الصَّلَاةَ أَرْبَعًا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْصُرُوا لِأَنَّ فَرْضَهُمُ الْإِتْمَامُ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى بِقَوْمٍ ثُمَّ قَالَ: أَتِمُّوا يَا أَهْلَ مَكَّةَ
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أنه صلاة بِقَوْمٍ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ أَتِمُّوا أَيُّهَا الْمُقِيمُونَ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ
وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَالَ الشافعي، اختيروا أَنْ يَأْمُرَ الْمُقِيمِينَ بِإِتْمَامِ الصَّلَاةِ أَرْبَعًا، فَلَوْ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ قَبْلَ إِحْرَامِهِمْ كَانَ أَوْلَى لِأَنَّهُ رُبَّمَا جَهِلَ بَعْضُهُمْ فَسَلَّمَ بِسَلَامِهِ وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَرَادَ الْمُقِيمُونَ إِتْمَامَ صَلَاتِهِمْ أَرْبَعًا بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ فَاسْتَخْلَفَ الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ وَاحِدًا مِنْهُمْ لِيُتِمَّ بِهِمْ أَوْ قَدَّمُوا أَحَدَهُمْ وَقِيلَ بِجَوَازِ الِاسْتِخْلَافِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ فَفِي جَوَازِ هَذَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ إِذَا خَرَجَ مِنْهَا قَبْلَ تَمَامِ صَلَاتِهِ جَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ إِذَا خَرَجَ مِنْهَا قَبْلَ تَمَامِ صَلَاتِهِمْ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ الِاسْتِخْلَافُ عَلَيْهِمْ وَيُتِمُّونَ الصَّلَاةَ فُرَادَى؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَافَى مَعَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَقَدْ صَلَّى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالنَّاسِ رَكْعَةً فَصَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَكْعَةً فَلَمَّا فَرَغَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَتَمَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَؤُمَّ الْمُغِيرَةَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِخْلَافَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ جَوَازِ الِاسْتِخْلَافِ قَبْلَ فَرَاغِ

(2/391)


الْإِمَامِ هُوَ أَنَّ كَمَالَ الْجَمَاعَةِ لَمْ يَحْصُلْ بِخُرُوجِ الْإِمَامِ قَبْلَ الْفَرَاغِ فَجَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ لِتَكْمُلَ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ، وَإِذَا خَرَجَ مِنْهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ فَقَدْ حَصَلَ لَهُمْ كَمَالُ الْجَمَاعَةِ فَلَمْ يَجُزِ الِاسْتِخْلَافُ بَعْدَ الْكَمَالِ، فَأَمَّا جَوَازُ إِتْمَامِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ فَالْكَلَامُ فِيهِ مَعَ الْمُخَالِفِ قَدْ تَقَدَّمَ
فَأَمَّا صَلَاةُ النَّافِلَةِ فِي السَّفَرِ فمستحبة وغير مكروهة، وقد حكى الشافعي عن شَاذَّ مِنَ الْفُقَهَاءِ كَرَاهَتَهَا لِأَنَّهُ لَمَّا رَخَّصَ لِلْمُسَافِرِ فِي تَرْكِ بَعْضِ الْفَرْضِ مَنَعَ مِنَ النَّفْلِ وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَتَنَفَّلُ عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي السَّفَرِ لِأَنَّ مَسْنُونَاتِ السَّفَرِ ضَرْبَانِ ضَرْبٌ يَتَخَلَّلُهَا وَضَرْبٌ يَتَعَقَّبُهَا، فَلَمَّا جَازَ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَأْتِيَ بِالْمَسْنُونِ فِي حَالِ فَرْضِهِ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالْقُنُوتِ وَغَيْرِهِ جَازَ أن يأتي بالمسنون عقيب فرضه

(مسألة)
: وَاحْتَجَّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَمَعَ فِي سَفَرِهِ إِلَى تَبُوكَ بَيْنَ الظُّهْرِ والعصر والمغرب والعشاء جميعاً وأن ابن عمر جمع بين المغرب والعشاء في وقت العشاء وأن ابن عباس قال ألا أخبركم عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي السَّفَرِ؟ كَانَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي وقت الزوال وإذا سافر قبل الزَّوَالِ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ العصر في وقت العصر (قال الشافعي) وأحسبه في المغرب والعشاء مثل ذلك وهكذا فعل بعرفة لأنه أرفق به تقديم العصر ليتصل له الدعاء وأرفق به بالمزدلفة تأخير المغرب ليتصل له السفر فلا ينقطع بالنزول للمغرب لما في ذلك من التضييق على الناس فَدَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على أن من له القصر فله الجمع كما وصفت والجمع بين الصلاتين في أي الوقتين " شاء
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا سَافَرَ الرَّجُلُ سَفَرًا تُقْصَرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةُ جَازَ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي وَقْتِ أَيِّهِمَا شَاءَ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَجْمَعُ إِلَّا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ بِعَرَفَاتٍ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ فِي وَقْتِ عِشَاءِ الْآخِرَةِ بِمُزْدَلِفَةَ مُسَافِرًا كَانَ أَوْ مُقِيمًا حَاضِرًا، وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] فَأَوْجَبَ فِعْلَهَا فِي أَوْقَاتِهَا وَمَنَعَ مِنْ تَأْخِيرِهَا وَتَقْدِيمِهَا، وَالْجَمْعُ تَأْخِيرٌ أَوْ تَقْدِيمٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنْهُ، وَرِوَايَةُ قَتَادَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تَفْرِيطَ فِي النَّوْمِ إِنَّمَا التَّفْرِيطُ أَنْ يُؤَخِّرَ صَلَاةً حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ صَلَاةٍ أُخْرَى " فَأَخْبَرَ أَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ إِلَى غَيْرِ وَقْتِهَا تَفْرِيطٌ
قَالَ: وَلِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ لَا يَجُوزُ للمقيم الجمع بينهما مع زوال العذر، فيجب أن لا

(2/392)


يَجُوزَ لِلْمُسَافِرِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِالسَّفَرِ كَالْعَصْرِ مَعَ الْمَغْرِبِ وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَفْرُوضَةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يجوز للمسافر أن يجمع بينها وبين غدها كَالصُّبْحِ. قَالَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِنَ الْكَبَائِرِ. قَالَ: وَعُمَرُ لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ فِيمَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ أَوْ يَسُوغُ فِي الِاجْتِهَادِ مَعَ مُشَاهَدَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أَسْفَارِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِأَحْوَالِ صَلَاتِهِ رَأْيًا وَاجْتِهَادًا وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ إِمَّا تَوْقِيفًا أَوْ إِجْمَاعًا، وهذا الذي قالوا خَطَأٌ وِالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي السَّفَرِ كَانَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي الزَّوَالِ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَصْرِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ
وَرَوَى اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَنَحْنُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَسَارَ فَلَمَّا أَمْسَى قُلْنَا الصَّلَاةَ فَسَارَ حَتَّى غَابَ الشَّفَقُ وَتَصَوَّبَتِ النُّجُومُ ثُمَّ نَزَلَ وَجَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ يُصَلِّي صَلَاتِي هَذِهِ وَيَقُولُ: يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ لَيْلٍ أَيْ بَعْدَ مُضِيِّ هَوِيٍّ مِنَ اللَّيْلِ
وَلِأَنَّهُ سَفَرٌ يَجُوزُ فِيهِ الْقَصْرُ فَجَازَ فِيهِ الْجَمْعُ كَالْحَجِّ، وَلِأَنَّ كُلَّ رُخْصَةٍ جَازَتْ فِي سَفَرِ الْحَجِّ جَازَتْ فِي السَّفَرِ الْمُبَاحِ كَ " الْقَصْرِ " لِأَنَّ فِعْلَ الصلاة أكد مِنْ وَقْتِهَا وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِلسَّفَرِ تَأْثِيرٌ فِي تَرْكِ بَعْضِ الصَّلَاةِ فَلَأَنْ يَكُونَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي تَرْكِ الْوَقْتِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْعِبَادَةَ قَدْ تَتَحَتَّمُ فِي الْحَضَرِ فِي وَقْتٍ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا عَنْهُ ثُمَّ يَجُوزُ لَهُ تَأْخِيرُهَا فِي السَّفَرِ، يُبَيِّنُ ذَلِكَ تَرْكُ الْوَقْتِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ وَهُوَ الْفِطْرُ كَذَلِكَ الصَّلَاةُ وَإِنْ تَحَتَّمَ وَقْتُهَا فِي الْحَضَرِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجُوزَ تَأْخِيرُهَا عَنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي السَّفَرِ
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّ وَقْتَ الْجَمْعِ يَكُونُ وَقْتًا لَهُمَا، أَلَا تَرَاهُ يَكُونُ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ فَخَبَرُنَا خَاصٌّ إِذِ الْوَصْفُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، لِأَنَّ الْمُقِيمَ قَدْ يَجْمَعُ
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَصْفَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لِأَنَّ الْمُقِيمَ قَدْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا

(2/393)


وَالثَّانِي: أَنَّ خِلَافَنَا فِي السَّفَرِ هَلْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْجَمْعِ أَمْ لَا؟ وَكَيْفِيَّةُ الْجَمْعِ فَرْعٌ لَهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَدَّ الْأَصْلُ إِلَى فَرْعِهِ، عَلَى أَنَّ الرُّخْصَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالصَّلَاةِ لِأَجْلِ السَّفَرِ رُخْصَتَانِ الْقَصْرُ وَالْجَمْعُ فَلَمَّا اخْتَصَّ بِالْقَصْرِ بَعْضُ الصَّلَاةِ دُونَ بَعْضٍ كَذَلِكَ الرُّخْصَةُ الْأُولَى وَهِيَ الْجَمْعُ، ثُمَّ نَقُولُ إِنَّ الْمَعْنَى فِي الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَجُوزُ جَمْعُهَا إِلَى غَيْرِهَا فَلَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ الصُّبْحُ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُجْمَعَ إِلَى غَيْرِهَا لِأَنَّ الَّتِي قَبْلَهَا الْعِشَاءُ وَهِيَ تُجْمَعُ إِلَى الْمَغْرِبِ وَالَّتِي بَعْدَهَا الظُّهْرُ وَهِيَ تُجْمَعُ إِلَى الْعَصْرِ، فَأَمَّا مَا رَوَاهُ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مِنَ الْكَبَائِرِ. فَهَذَا غَيْرُ ثَابِتٍ وَإِنَّمَا الثَّابِتُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِغَيْرِ عُذْرٍ مِنَ الْكَبَائِرِ وَالسَّفَرُ عُذْرٌ فَكَيْفَ يَصِحُّ مَا رَوَوْهُ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَحَدِيثُ الْجَمْعِ مُسْتَفِيضٌ فِي الصَّحَابَةِ بِرِوَايَةِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَا يَدْفَعُونَهُ وَلَا يُنْكِرُونَهُ حَتَّى رَوَاهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الثَّابِتَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا رَوَيْنَاهُ
فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ الْجَمْعِ فِي سَفَرِ الْقَصْرِ فَفِي جَوَازِهِ فِي قَصِيرِ السَّفَرِ وَجْهَانِ:
أَصَحُّهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ لَا يَجْمَعُ لِأَنَّهُ سَفَرٌ لَا يَجُوزُ فِيهِ الْقَصْرُ فَلَمْ يَجُزْ فِيهِ الْجَمْعُ كَسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ
وَالثَّانِي: وَهُوَ تَخْرِيجُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا فِي الْقَدِيمِ يَجُوزُ لَهُ الْجَمْعُ فِي قَصِيرِ السَّفَرِ كَجَوَازِهِ فِي طَوِيلِهِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا يَمْنَعُ مِنْ تَخْرِيجِ هَذَا الْقَوْلِ. فَإِنْ صَحَّ فَوَجْهُهُ أَنْ يُقَالَ لَمَّا جَازَ الْجَمْعُ فِي الْحَضَرِ بِالْعُذْرِ كَجَوَازِهِ بِالسَّفَرِ اقْتَضَى أَنْ لَا يَقَعَ الْفَرْقُ فِيهِ بَيْنَ طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ كالتيمم وأكل الميتة

(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يُؤَخِّرُ الْأُولَى عَنْ وَقْتِهَا إِلَّا بِنِيَّةِ الْجَمْعِ وَإِنْ صَلَّى الْأُولَى فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا وَلَمْ يَنْوِ مَعَ التَّسْلِيمِ الْجَمْعَ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْجَمْعُ فَإِنْ نَوَى مَعَ التَّسْلِيمِ الْجَمْعَ كان له الجمع (قال المزني) هذا عندي أولى من قوله في الجمع في المطر في مسجد الجماعات بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء لا يجمع إلا من افتتح الأولى بنية الْجَمْعُ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا أَرَادَ الْمُسَافِرُ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ إِلَى وَقْتِ الْعَشَاءِ، وَإِنْ شَاءَ قَدَّمَ الْعَصْرَ إِلَى وَقْتِ الظُّهْرِ وَالْعَشَاءِ إِلَى وَقْتِ الْمَغْرِبِ فَإِذَا أَرَادَ تَأْخِيرَ الْأُولَى مِنْهُمَا إِلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ لَمْ يَجُزْ لَهُ تَأْخِيرُهُ إِلَّا بِنِيَّةِ الْجَمْعِ، لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا قَدْ يَكُونُ تَارَةً مَعْصِيَةً، وَهُوَ أَنْ يُؤَخِّرَهَا عَامِدًا لِغَيْرِ جَمْعٍ، وَقَدْ يَكُونُ تَارَةً مُبَاحًا وَهُوَ أَنْ يُؤَخِّرَهَا لِلْجَمْعِ

(2/394)


وَصُورَةُ التَّأْخِيرَيْنِ سَوَاءٌ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ نِيَّةِ الْجَمْعِ مَعَ التَّأْخِيرِ لِيُمَيِّزَ بَيْنَ تَأْخِيرِ المعصية وغير المعصية، فإذ نَوَى الْجَمْعَ بِتَأْخِيرِ الظُّهْرِ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ قَدَّمَ الظُّهْرَ فَصَلَّاهَا أَوَّلًا ثُمَّ الْعَصْرَ بَعْدَهَا وَلَمْ يَتَنَفَّلْ بَيْنَهُمَا بَلْ يَأْتِي بِالْعَصْرِ عَقِبَ الظُّهْرِ مِنْ غَيْرِ تَطَاوُلٍ وَلَا فَصْلٍ فَإِذَا أَتَى بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ أَعْنِي تَقْدِيمَ الظُّهْرِ وَقُرْبَ الزَّمَانِ صَحَّ لَهُ الْجَمْعُ وَكَانَ مُؤَدِّيًا لِكِلَا الصَّلَاتَيْنِ، لِأَنَّ وَقْتَ الْجَمْعِ وَقْتُ الصَّلَاتَيْنِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ
وَإِنْ أَخَلَّ بِأَحَدِ الشَّرْطَيْنِ وَهُوَ قُرْبُ الزَّمَانِ فَصَلَّى الظُّهْرَ أَرْبَعًا ثُمَّ تَنَفَّلَ أَوْ صَبَرَ زَمَنًا طَوِيلًا ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ لَمْ يَكُنْ جَامِعًا بَيْنَهُمَا وَكَانَ قَاضِيًا لِلظُّهْرِ مُؤَدِّيًا لِلْعَصْرِ وَلَا يَكُونُ بِذَلِكَ عَاصِيًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَلَّى الْعَصْرَ فِي وَقْتِهَا وَالظُّهْرُ قَدْ كَانَ لَهُ تَأْخِيرُهَا، وَإِنْ كَانَ إِخْلَالُهُ بِالشَّرْطِ الْآخَرِ: وَهُوَ أَنْ يُقَدِّمَ الْعَصْرَ أَوَّلًا ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْرَ بَعْدَهَا فَلَا يَكُونُ جَامِعًا بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ وَيُجْزِئُهُ الصَّلَاتَيْنِ مَعًا
ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ صَلَّى الظُّهْرَ عُقَيْبَ الْعَصْرِ مِنْ غَيْرِ تَطَاوُلٍ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ نَسِيَ صَلَاةَ الظُّهْرِ ثُمَّ ذَكَرَهَا وَقَدْ دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ، الْأَوْلَى أَنْ يُقَدِّمَ صَلَاةَ الظُّهْرِ، وَجَائِزٌ أَنْ يُقَدِّمَ صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَإِنْ تَطَاوَلَ الزَّمَانُ كَأَنَّهُ صَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ صَبَرَ زَمَانًا طَوِيلًا ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ فَهَذَا عَاصٍ لِتَأْخِيرِ الظُّهْرَ بَعْدَ الْعَصْرِ إِذَا تَطَاوَلَ الزَّمَانُ؛ لِأَنَّ لَهُ تَأْخِيرَهَا إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ بِنِيَّةِ الْجَمْعِ، وَيَجُوزُ لَهُ تَقْدِيمُ الْعَصْرِ عَلَيْهَا إِذَا تَرَكَ الْجَمْعَ وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَأْخِيرُهَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ فَإِنْ أَخَّرَهَا كَانَ عَاصِيًا وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ يَكُونُ الْجَوَابُ مِنْ إِخْلَالِهِ بِالشَّرْطَيْنِ مَعًا فَهَذَا الْكَلَامُ فِي تَأْخِيرِ الظُّهْرِ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ وَكَذَلِكَ الْمَغْرِبُ إِلَى وَقْتِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ

(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا إِنْ أَرَادَ تَقْدِيمَ الْعَصْرِ إِلَى وَقْتِ الظُّهْرِ فَلَا يَصِحُّ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِثَلَاثِ شَرَائِطَ:
أَحَدُهَا: تَقْدِيمُ صَلَاةِ الظُّهْرِ أَوَّلًا ثُمَّ يَفْعَلُ الْعَصْرَ بَعْدَهَا لِأَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ لَيْسَ بِوَقْتٍ لِلْعَصْرِ لَا فِي الْأَدَاءِ وَلَا فِي الْقَضَاءِ، وَإِنَّمَا تَقْدِيمُ الْعَصْرِ إِلَى وَقْتِ الظُّهْرِ فِي الْجَمْعِ تَبَعًا لَهَا فَإِنْ قَدَّمَ الْعَصْرَ عَلَى الظُّهْرِ أَجْزَأَتْهُ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَلَمْ تُجْزِهِ صَلَاةُ الْعَصْرِ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْجَمْعِ يَمْنَعُ مِنْ تَقْدِيمِ الصَّلَاةِ عَلَى وَقْتِهَا
وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَنْوِيَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي الْأُولَى مِنْهُمَا
وَقَالَ الْمُزَنِيُّ هَذَا الشَّرْطُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَالنِّيَّةُ فِي الْجَمْعِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ قُرْبُ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا، قَالَ: لِأَنَّ السَّفَرَ يَرْفَعُ نِيَّةَ الْجَمْعِ وَيَقْطَعُ حُكْمَ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَكُنْ لِتَقْدِيمِ النِّيَّةِ وَجْهًا يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ قَالَ: وَلِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ مع كونه جبر لِلصَّلَاةِ لَوْ سَهَا عَنِ الْإِتْيَانِ بِهِ قَبْلَ السَّلَامِ كَانَ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ قُرْبَ الْفَصْلِ وَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى تَقْدِيمِ النِّيَّةِ قَبْلَ السَّلَامِ، فَلَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ أَوْلَى

(2/395)


وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ غَلَطٌ: وَنِيَّةُ الْجَمْعِ فِي الصَّلَاةِ الْأُولَى وَاجِبَةٌ وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ هُوَ أَنَّ الصَّلَاتَيْنِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ، بِدَلَالَةِ أَنَّهُ إِذَا طَالَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا لَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ وَالصَّلَاةُ الْوَاحِدَةُ لابد مِنْ وُجُودِ النِّيَّةِ فِي ابْتِدَائِهَا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا مَعَ إِمْكَانِ فِعْلِهَا فِي الْحَالِ إِلَّا بِنِيَّةِ الْجَمْعِ كَانَ تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا مَعَ تَعَذُّرِ فِعْلِهَا أَوْلَى بِإِيجَابِ نِيَّةِ الْجَمْعِ لَهَا. وَإِنْ شِئْتَ حَرَّرْتَ ذَلِكَ قِيَاسًا فَقُلْتَ: لِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ مَجْمُوعَتَانِ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا فَوَجَبَ أَنْ لَا تَصِحَّ إِلَّا بِنِيَّةِ الْجَمْعِ
أَصْلُهُ: إِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا
فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ رَفْعِ نِيَّةِ الْجَمْعِ وَانْقِطَاعِ حُكْمِ الصَّلَاةِ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا فَدَعْوَى غَيْرُ مَدْلُولٍ عَلَيْهَا وَلَا مُوَافَقٍ عَلَى صِحَّتِهَا، إِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَتَعَقَّبْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا أَوْ يُشَارِكُهَا فِي حُكْمِهَا، أَلَا تَرَاهُ لَوْ نَسِيَ مِنْ أَرْكَانِهَا رُكْنًا مِنْ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ أَتَى بِهِ وَلَمْ يَكُنِ السَّلَامُ رَافِعًا لِحُكْمِهِ. كَذَلِكَ أَيْضًا لَا يَكُونُ السَّلَامُ رَافِعًا لِنِيَّةِ الْجَمْعِ، وَأَمَّا سُجُودُ السَّهْوِ فَإِنَّمَا لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى النِّيَّةِ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِالنِّيَّةِ مَعَ الْإِحْرَامِ، لأنه يَنْوِي الصَّلَاةَ بِفُرُوضِهَا وَمَسْنُونِهَا وَسُجُودُ السَّهْوِ يَدُلُّ عَلَى الْمَسْنُونِ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى نِيَّةٍ مُجَرَّدَةٍ، لِأَنَّ نِيَّةَ الصَّلَاةِ قَدْ تَضَمَّنَتْهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ نِيَّةَ الْجَمْعِ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبَةٌ فَفِي مَحَلِّهَا قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَعَ الْإِحْرَامِ، فَإِنْ نَوَى الْجَمْعَ بعد إحرامه لم يجزه لأن الرخصة المتعقلة بِالصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ رُخْصَتَانِ قَصْرٌ وَجَمْعٌ فَلَمَّا لَمْ تُجْزِئْهُ نِيَّةُ الْقَصْرِ إِلَّا مَعَ الْإِحْرَامِ لَمْ تُجْزِ نِيَّةُ الْجَمْعِ إِلَّا مَعَ الْإِحْرَامِ وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنْ يَقُولَ: لِأَنَّهَا رُخْصَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ فَافْتَقَرَتْ إِلَى النِّيَّةِ مَعَ الْإِحْرَامِ كَالْقَصْرِ وَلِأَنَّ الْجَمْعَ جَمْعَانِ، جَمْعٌ هُوَ تَأْخِيرُ الْأُولَى إِلَى الثَّانِيَةِ، وَجَمْعٌ هُوَ تَقْدِيمُ الثَّانِيَةِ إِلَى الْأُولَى، فَلَمَّا وَجَبَتْ نِيَّةُ أَحَدِ الْجَمْعَيْنِ مَعَ التَّأْخِيرِ اقْتَضَى أَنْ تَجِبَ نِيَّةُ الْجَمْعِ الثَّانِي مَعَ التَّقْدِيمِ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ نَوَى بَعْدَ إِحْرَامِهِ وَقَبْلَ سَلَامِهِ أَجْزَأَهُ، لِأَنَّ الْجَمْعَ هُوَ الضَّمُّ وَالْمُتَابَعَةُ وَوَقْتُ الضَّمِّ حَالُ السَّلَامِ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَنْوِيَ الْجَمْعَ فِي غَيْرِ وَقْتِ الضَّمِّ وَهُوَ وَقْتُ الْإِحْرَامِ، كَانَ يُجْزِئُهُ إِذَا نَوَى الْجَمْعَ فِي وَقْتِ الضَّمِّ وَحِينَ الْفَرَاغِ أَوْلَى. وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ إِذَا نَوَى بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْأُولَى لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَقْتِ الضَّمِّ لِيَقْضِيَ الْأُولَى بِالْفَرَاغِ مِنْهَا فَلَا يَكُونُ جَامِعًا بَيْنَهُمَا فَهَذَا تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَحَلِّ النِّيَّةِ
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: الِاتِّصَالُ وَالْمُوَالَاةُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَرَاخَى فِعْلُ الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا عَنْ فِعْلِ الْأُولَى لِيَصِحَّ الضَّمُّ وَالْمُتَابَعَةُ وَإِنْ تَرَاخَى فِعْلُ الثَّانِيَةِ أَوْ تَطَاوَلَ أَوْ تَنَفَّلَ بَيْنَهُمَا أَوْ أَذَّنَ بَطَلَ الْجَمْعُ وَأَجْزَأَتْهُ الْأُولَى ولم تجزه الثانية ووجب عليه تأخير ما إِلَى وَقْتِهَا، وَلَكِنْ لَوْ أَقَامَ بَيْنَهُمَا

(2/396)


جَازَ لَأَنَّ الْإِقَامَةَ عَمَلٌ يَسِيرٌ، فَلَوْ كَانَ مُتَيَمِّمًا وَجَبَ عَلَيْهِ طَلَبُ الْمَاءِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْأُولَى، فَإِنْ قَرُبَ عَلَيْهِ زَمَانُ الطَّلَبِ جَازَ لَهُ الْجَمْعُ وَإِنْ تَطَاوَلَ بَطَلَ الْجَمْعُ

(مسألة)
: وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَمَعَ بِالْمَدِينَةِ فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ قَالَ مَالِكٌ أَرَى ذَلِكَ فِي مَطَرٍ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَالسُّنَّةُ فِي الْمَطَرِ كَالسُّنَّةِ فِي السَّفَرِ (قال المزني) والقياس عندي إن سلم ولم ينو الجمع فجمع في قرب ما سلم بقدر ما لو أراد الجمع كان ذلك فصلاً قريباً بينهما أن له الجمع لأنه لا يكون جمع الصلاتين إلا وبينهما انفصال فكذلك كل جمع وكذلك كل من سها فسلم من اثنتين فلم يطل فصل ما بينهما أنه يتم كما أتم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقد فصل ولم يكن ذلك قطعاً لاتصال الصلاة في الحكم فكذلك عندي إيصال جمع الصلاتين أن لا يكون التفريق بينهما إلا بمقدار ما لا يطول
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ
الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي الْحَضَرِ فِي حَالِ الْمَطَرِ جَائِزٌ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ
وَقَالَ أبو حنيفة: الْجَمْعُ فِي الْحَضَرِ غَيْرُ جَائِزٍ تَعَلُّقًا بِمَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى بُطْلَانِ الْجَمْعِ فِي السَّفَرِ
وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِهِ فِي الْحَضَرِ: رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بين الطهر وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ جَمِيعًا مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ. قَالَ مَالِكٌ أَرَى ذَلِكَ فِي الْمَطَرِ
وَرَوَى مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي الْحَضَرِ فِي الْمَطَرِ
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ جَمَعَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ وَلَا مَطَرٍ
قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَلَّى الْأُولَى فِي آخِرِ أَوْقَاتِهَا وَصَلَّى الثَّانِيَةَ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِهَا. فَاتَّصَلَ فِعْلُهُمَا فِي وَقْتَيْهِمَا جَمِيعًا فَقِيلَ جَمَعَ
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا التَّأْوِيلُ يَرْجِعُ عَلَيْكُمْ فِيمَا رَوَيْتُمْ مِنْ جَمْعِهِ فِي الْمَطَرِ قِيلَ: لَا يَصِحُّ هَذَا التَّأْوِيلُ لِمَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ مِنَ الْجَمْعِ فِي الْمَطَرِ لِمَا رُوِيَ مِنْ نَقْلِ السَّبَبِ فِي جَوَازِ جَمْعِهِ وَهُوَ الْمَطَرُ، وَالْمَطَرُ لَا يَخْتَصُّ بِجَوَازِ فِعْلِ الْأُولَى فِي آخِرِ وَقْتِهَا وَالثَّانِيَةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا بَلْ يَجُوزُ ذلك في المطر وغيره على أن هذا التَّأْوِيلَ سَاغَ لَنَا فِي رِوَايَتِهِمْ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْجَمْعِ فِي الْحَضَرِ فِي غَيْرِ الْمَطَرِ فَتَأَوَّلْنَا بِهَذَا اسْتِعْمَالًا لِلرِّوَايَةِ وَلَيْسَ الْإِجْمَاعُ مَانِعًا مِنْ

(2/397)


جَوَازِ الْجَمْعِ فِي المطر فَلَمْ يَسُغِ اسْتِعْمَالُ هَذَا التَّأْوِيلِ فِي رِوَايَتِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِ الرَّاوِي وَلَا مَطَرٍ. أَبِي لَا يُصِيبُهُ الْمَطَرُ لِكَوْنِهِ مُسْتَظِلًّا تَحْتَ سَقْفٍ.
فَإِذَا وَضَحَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ جَوَازِ الْجَمْعِ فِي الْمَطَرِ: فَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي الْمَطَرِ بَيْنَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ لِإِدْرَاكِ الْمَشَقَّةِ فِي مَطَرِ اللَّيْلِ وَعَدَمِهَا فِي مَطَرِ النَّهَارِ، وَهَذَا غَلَطٌ يُوَضِّحُهُ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي الْحَضَرِ وَفِي الْمَطَرِ وَلِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي السَّفَرِ فَجَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْحَضَرِ كَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ

(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْجَمْعِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ جَازَ لَهُ تَقْدِيمُ الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا إِلَى وَقْتِ الْأُولَى بِأَرْبَعِ شَرَائِطَ: مِنْهَا الثَّلَاثَةُ الْمَاضِيَةُ فِي جَمْعِ السَّفَرِ وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: اسْتِدَامَةُ الْمَطَرِ وَقْتَ إِحْرَامِهِ بِالْأُولَى إِلَى دُخُولِهِ فِي الثَّانِيَةِ، فَإِنِ انْقَطَعَ الْمَطَرُ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الثَّانِيَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا، فَلَوْ أَحْرَمَ بِالْأُولَى وَلَا مَطَرَ ثُمَّ جَاءَ الْمَطَرُ فِي تَضَاعِيفِهَا قُبَيْلَ خُرُوجِهِ مِنْهَا وَاسْتَدَامَ ذَلِكَ إِلَى وَقْتِ الْخُرُوجِ مِنْهَا وَأَمْكَنَهُ الدُّخُولُ فِي الثَّانِيَةِ مَعَ بَقَاءِ الْمَطَرِ فَفِي جَوَازِ الْجَمْعِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى جَوَازِ نِيَّةِ الْجَمْعِ فِي حَالِ الصَّلَاةِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِوُجُودِ الْعُذْرِ حَالَ الْجَمْعِ
وَالثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ شَرَعَ فِيهَا وَهُوَ مِنْ أَهْلِ غَيْرِ الْجَمْعِ، وَلَكِنْ لَوِ افْتَتَحَ الْأُولَى وَالْمَطَرُ قَائِمٌ ثُمَّ انْقَطَعَ فِي خِلَالِهَا ثُمَّ اتَّصَلَ إِلَى أَنْ دَخَلَ فِي الثَّانِيَةِ صَحَّ لَهُ الْجَمْعُ لِوُجُودِ الْعُذْرِ فِي الطَّرَفَيْنِ فَهَذَا إِذَا أَرَادَ تَقْدِيمَ الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا إِلَى وَقْتِ الْأُولَى
فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ تَأْخِيرَ الْأُولَى مِنْهُمَا إِلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ فَفِي جَوَازِ ذَلِكَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ يَجُوزُ لِأَنَّ كُلَّ مَعْنَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي وَقْتِ الْأُولَى مِنْهُمَا جُوِّزَ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ كَالسَّفَرِ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ ": لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا لِأَنَّ الْجَمْعَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالنِّيَّةِ مَعَ وُجُودِ الْعُذْرِ فِي حَالِ الْجَمْعِ وَهُوَ عِنْدَ شُرُوعِهِ فِي الثَّانِيَةِ وَهُوَ يَتَيَقَّنُ بَقَاءَ الْمَطَرِ إِلَى وَقْتِ الْجَمْعِ لِأَنَّ انْقِطَاعَهُ لَيْسَ إِلَى اخْتِيَارِهِ فَجَازَ تَأْخِيرُ الْأُولَى إِلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ فِي السَّفَرِ وَلَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُهَا فِي الْمَطَرِ
(فَصْلٌ)
: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِأَجْلِ الْمَطَرِ فِي الْمَسْجِدِ فَأَمَّا إِذَا

(2/398)


أَرَادَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي مَنْزِلِهِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ وَكَانَ بَيْنَهُمَا سَابَاطٌ يَرْفَعُ عَنْهُ أَذَى الْمَطَرِ فَفِي جَوَازِ ذَلِكَ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي " الْإِمْلَاءِ ": يَجُوزُ لَهُ الْجَمْعُ فِي جَمَاعَةٍ وَفُرَادَى لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي الْمَطَرِ وَقَدْ كَانَ مَنْزِلُهُ فِي الْمَسْجِدِ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ ": لَا يَجُوزُ لَهُ الْجَمْعُ لَا فِي جَمَاعَةٍ وَلَا مُنْفَرِدًا؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا يَجُوزُ لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ وَمَا يَلْحَقُهُ مِنْ أَذَى الْمَطَرِ وَإِذَا عَدِمَ هَذَا الْمَعْنَى امْتَنَعَ جَوَازُ الْجَمْعِ، وَمَا رُوِيَ مِنْ جَمْعِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَعَلَّهُ كَانَ وَهُوَ فِي غَيْرِ مَنْزِلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ وَلَمْ يَكُنْ مَنْزِلُ جَمِيعِ نِسَائِهِ فِي الْمَسْجِدِ وَإِنَّمَا كَانَ مَنْزِلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَحْدَهَا فِيهِ

(فَصْلٌ)
: لَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِ الْمَطَرِ وَكَثِيرِهِ فِي جَوَازِ الْجَمْعِ إِذَا كَانَ قَلِيلُهُ يَبُلُّ الثَّوْبَ لِحُصُولِ الْأَذَى بِهِ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَبُلَّ الثَّوْبَ لِقِلَّتِهِ كَالطَّلِّ وَالرَّذَاذِ لَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ لِعَدَمِ الْأَذَى بِهِ وَأَمَّا الْجَمْعُ فِي الثَّلْجِ فَإِنْ كَانَ يَذُوبُ مَعَ سُقُوطِهِ جَازَ كَالْمَطَرِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَذُوبُ لَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ، لِأَنَّهُ كَالْغُبَارِ وَأَمَّا الْبَرَدُ فَقَلَّ مَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ الْمَطَرِ الَّذِي يَبُلُّ الثَّوْبَ وَإِنْ قَلَّ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ جَازَ لَهُ الْجَمْعُ. بَلْ هُوَ بِجَوَازِ الْجَمْعِ أَوْلَى لِأَنَّ الْأَذَى بِهِ أَعْظَمُ
فأما الجمع في الزلازل والرياح والعاصفة وَالظُّلْمَةِ الْمُدْلَهِمَّةِ فَغَيْرُ جَائِزٍ وَكَذَلِكَ فِي الْعَتْمَةِ وَالْأَمْرَاضِ وَالْخَوْفِ الْعَامِّ لِوُجُودُ كُلِّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ جَمَعَ فِي شَيْءٍ غَيْرِ الْمَطَرِ وَأَمَّا الْوَحْلُ فَقَدَ جَوَّزَ مَالِكٌ الْجَمْعَ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَطَرٌ وَعِنْدَنَا الْجَمْعُ لِأَجْلِ الْوَحْلِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ عُذْرَ الْمَطَرِ يُؤْذِي مِنْ جِهَتَيْنِ: مِنْ أَعْلَى، وَمِنْ أَسْفَلَ، وَالْوَحْلُ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالرُّخْصَةُ إِذَا أُبِيحَتْ لِمَعْنَيَيْنِ لَمْ يَجُزْ تَعَلُّقُهَا بِأَحَدِهِمَا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

(2/399)