الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

 (كتاب الجمعة وغيرها من أمرها)
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحْمَدٍ قَالَ حَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْخَطْمِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا مِنْ بَنِي وَائِلٍ يَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إِلَّا امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا أَوْ مَمْلُوكًا "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ
الْجُمُعَةُ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] . فَأَوْجَبَ السَّعْيَ إِلَيْهَا، وَأَوْجَبَ تَرْكَ الْبَيْعِ لِأَجْلِهَا ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الذَّمِّ لِمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة: 11]
وكان سبب ذلك ما وري أَنَّ رَبَاحَ بْنَ رَبِيعَةَ بْنِ صَيْفِيٍّ وَهُوَ ابْنُ أَخِي أَكْثَمَ بْنِ صَيْفِيٍّ، قَالَ للنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْيَهُودِ يَوْمٌ، وَلِلنَّصَارَى يَوْمٌ، فَلَوْ كَانَ لَنَا يوم، فنزلت سورة الجمعة
وقال سبحانه على سبيل " القسم " فِي سُورَةِ الْبُرُوجِ {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 3] قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: الشَّاهِدُ: الْجُمُعَةُ، وَالْمَشْهُودُ: يَوْمُ عَرَفَةَ، وَقَدْ رَوَاهُ عَطَاءٌ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
فَهَذَا دَلِيلُ الْكِتَابِ

(2/400)


وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي ضَلَّ عَنْهُمْ، فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ، النَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، فَالْيَوْمُ لَنَا، وَلِلْيَهُودِ غَدًا، وَلِلنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ "
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: " تُوبُوا إِلَى رَبِّكُمْ عَزَ وَجَلَّ قَبْلَ أَنْ تَمُوتُوا، وَبَادِرُوا إِلَى رَبِّكُمْ سُبْحَانَهُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْجُمُعَةَ فِي عَامِي هَذَا، فِي شَهْرِي هَذَا، فِي سَاعَتِي هَذِهِ، فَرِيضَةً مَكْتُوبَةً، فَمَنْ تَرَكَهَا فِي حَيَاتِي أَوْ بَعْدَ مَمَاتِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ جُحُودًا بِهَا، وَاسْتِخْفَافًا بِحَقِّهَا، فَلَا جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ شَمْلًا، وَلَا بَارَكَ لَهُ فِي أَمْرِهِ، أَلَا لَا صَلَاةَ لَهُ. أَلَا لَا صَوْمَ لَهُ، أَلَا لَا حَجَّ لَهُ، أَلَا لَا زَكَاةَ لَهُ، أَلَا لَا صَدَقَةَ لَهُ، أَلَا وَلَا بِرَّ لَهُ، فَمَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ
وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ، إِلَّا مَرِيضًا، أَوْ مُسَافِرًا، أَوِ امْرَأَةً، أَوْ صَبِيًّا، أَوْ مَمْلُوكًا "
وَرَوَى أَبُو الْجَعْدِ الضَّمْرِيُّ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَتْرُكُ الْجُمُعَةَ رَجُلٌ ثَلَاثًا تَهَاوُنًا بِهَا إِلَّا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ "
وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلَاثًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ نَبَذَ الْإِسْلَامَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ "
وَكَانَ ابْتِدَاءَ أَمْرِ الْجُمُعَةِ مَا حَكَاهُ أَهْلُ السِّيَرِ، وَنَقَلَهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ، أَنَّ رَسُولَ

(2/401)


الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَبْلَ هِجْرَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَنَفَذَ إِلَيْهَا وَهُوَ بِمَكَةَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ أَمِيرًا عَلَيْهَا، وَأَمَرَهُ أَنْ يُقِيمَ الْجُمُعَةَ، وَكَانَ يُدْعَى الْقَارِئَ، فَخَرَجَ مُصْعَبٌ مِنْ مَكَّةَ حَتَى وَرَدَ الْمَدِينَةَ، فَنَزَلَ عَلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، وَكَانَ مِنَ النُّقَبَاءِ فَأَخْبَرَهُ بِأَمْرِ الْجُمُعَةِ وَأَحَبَّ مُصْعَبٌ أَنْ يُشَرِّفَ أَسْعَدَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَلَّى الصَّلَوَاتِ بِنَفْسِهِ، فَصَلَّى أَسْعَدُ بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ، فَيَ حَيِّ بَنِي بَيَاضَةَ بأمر مصعب " وكانت أول جمعة صليت في الإسلام، فإن قيل فلم أمر مصعباً بإقامتها بالمدينة، ولم يصلها هو وأصحابه بمكة؟ قِيلَ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قِلَّةُ أَصْحَابِهِ عَنِ الْعَدَدِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمْعَةُ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا دُونَ الْأَرْبَعِينَ حَتَّى تَمُّوا بِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنه. والثاني: وكأنه أشهر أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْجُمْعَةِ إِظْهَارَهَا وَانْتِشَارَ أَمْرِهَا، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَائِفًا مِنْ قُرَيْشٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى مُجَاهَرَتِهِمْ بِهَا، فَلِذَلِكَ لَمْ يُصَلِّهَا، عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْعَةُ، قَبْلَ الْهِجْرَةِ، لَمْ تُفْرَضْ عَلَى الْأَعْيَانِ، ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَى الْأَعْيَانِ بَعْدَ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ لِأَنَّ جَابِرًا سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ عَلَى مِنْبَرِهِ بِالْمَدِينَةِ " إِنَّ اللَّهَ عَزَ وَجَلَّ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْجُمُعَةَ فِي عَامِي هَذَا، فِي شَهْرِي هَذَا، فِي سَاعَتِي هَذِهِ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجُمْعَةَ لَمْ تَكُنْ فَرْضًا قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ
وَقَدْ كَانَ يَوْمُ الْجُمْعَةِ يُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَرُوبَةَ، قَالَ الشَّاعِرُ:
(نَفْسُ الْفِدَاءِ لِأَقْوَامٍ هُمُ خَلَطُوا ... يَوْمَ الْعَرُوبَةِ أَوْرَادًا بِأَوْرَادِ)

وَكَانُوا يُسَمُّونَ الْأَحَدَ أَوَّلَ، وَالِاثْنَيْنِ أَهْوَنَ، وَالثُّلَاثَاءَ جُبَارًا، وَالْأَرْبِعَاءَ دُبَارًا، وَالْخَمِيسَ مُؤْنِسًا، وَالْجُمْعَةَ عَرُوبَةَ
قَالَ الشَّاعِرُ:
(أُؤَمِّلُ أَنْ أَعِيشَ وَإِنَّ يَوْمِي ... بِأَوَّلَ أَوْ بِأَهْوَنَ أَوْ جُبَارِ)

(أَوِ التَّالِي دُبَارَ فَإِنْ أَفُتْهُ ... فَمُؤْنِسَ أَوْ عَرُوبَةَ أَوْ شيار)

(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْجُمْعَةَ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ، فَوُجُوبُهَا مُعْتَبَرٌ بِسَبْعِ شَرَائِطَ، وَهِيَ الْبُلُوغُ، وَالذُّكُورِيَّةُ، وَالْعَقْلُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْإِسْلَامُ، وَالصِّحَّةُ، وَالِاسْتِيطَانُ، فَهَذِهِ سبع

(2/402)


شَرَائِطَ تُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِ الْجُمْعَةِ اثْنَانِ مِنْهُمَا شرط في وجوب الجمعة وجوازها والخمسة الباقية شرط فِي وُجُوبِهَا دُونَ جَوَازِهَا
فَأَمَّا الشَّرْطَانِ اللَّذَانِ هما شرط في وجوبها وجوازها فيهما: الْعَقْلُ وَالْإِسْلَامُ؛ لِأَنَّ فَقْدَ الْعَقْلِ يُمْنَعُ مِنَ التَّكَلُّفِ، وَعَدَمَ الْإِسْلَامِ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْعَمَلِ. ثُمَّ النَّاسُ فِي الْجُمْعَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ؛ ضَرْبٌ تَجِبُ عَلَيْهِمُ الْجُمْعَةُ وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ، وَضَرْبٌ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ وَتَنْعَقِدُ بِهِمْ، وَضَرْبٌ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ
فَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِي تَجِبُ عَلَيْهِمْ، وَيَلْزَمُهُمْ إِتْيَانُهَا، وَتَنْعَقِدُ بِهِمْ إِذَا حَضَرُوا فَهُمُ: الَّذِينَ قَدْ وُجِدَتْ فِيهِمُ الشَّرَائِطُ السَّبْعَةُ
وَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِي تَجِبُ عَلَيْهِمْ وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ فَهُمُ الْمُقِيمُونَ فِي غَيْرِ أَوْطَانِهِمْ، كَرَجُلٍ دَخَلَ بِالْبَصْرَةِ فَنَوَى أَنْ يُقِيمَ فِيهَا سَنَةً لِطَلَبِ عِلْمٍ، أَوْ تِجَارَةٍ ثُمَّ يَعُودُ إِلَى وَطَنِهِ، فَهَؤُلَاءِ تَجِبُ عَلَيْهِمُ الْجُمْعَةُ لِمُقَامِهِمْ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي انْعِقَادِ الْجُمْعَةِ بِهِمْ فَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمْعَةُ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ انْعَقَدَتْ بِهِ الْجُمْعَةُ كَالْمُسْتَوْطِنِ
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ تَجِبُ عَلَيْهِمُ الْجُمْعَةُ وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا حَجَّ حِجَّةَ الْوَدَاعِ، وَأَقَامَ يَوْمَ عَرَفَةَ يوم الجمعة، فلم يُصَلِّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الجمعة، ولا أمر بها أهل مكة
وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَمُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ اجْتَمَعَا عِنْدَ الرَّشِيدِ، فَسَأَلَ الرَّشِيدُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِعَرَفَةَ، هَلْ كَانَتْ جُمْعَةً أَوْ ظُهْرًا؟ فَقَالَ: جُمْعَةٌ: لِأَنَّهُ خَطَبَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ جُمْعَةٍ لَأَخَّرَ الْخُطْبَةَ. ثُمَّ سَأَلَ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: كَانَتْ ظُهْرًا؛ لِأَنَّهُ أَسَرَّ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، وَلَوْ كَانَتْ جُمْعَةً لَجَهَرَ، فَقَالَ الرَّشِيدُ: صَدَقْتَ. وَقَدْ نُقِلَتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ عَنْ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وأبي يوسف رَحِمَهُ اللَّهُ
وَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِينَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ وَتَنْعَقِدُ بِهِمْ فَهُمُ: الْمَرْضَى، وَإِنَّمَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي حضورها، وَانْعَقَدَتْ بِهِمُ الْجُمْعَةُ إِذَا حَضَرُوهَا لِزَوَالِ عُذْرِهِمْ
وَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِينَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ حُضُورُهَا وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ إِذَا حَضَرُوا فَهُمْ ثَلَاثَةُ

(2/403)


أَصْنَافٍ: النِّسَاءُ، وَالْعَبِيدُ، وَالْمُسَافِرُونَ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَثْنَاهُمْ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَغَيْرِهِ، فِي أَنَّهَا لَمْ تَنْعَقِدْ بِهِمْ إِذَا حَضَرُوهَا خِلَافَ الْمَرِيضِ؛ لِبَقَاءِ أَعْذَارِهِمْ وَإِنْ حَضَرُوهَا، وَهُوَ الْأُنُوثَةُ وَالرِّقُّ، والسفر، وزوال عذر المريض إذا حضر

(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَتَجِبُ الْجُمْعَةُ عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ وَإِنْ كَثُرَ أَهْلُهُ حَتَى لَا يَسْمَعَ أَكْثَرُهُمُ النِّدَاءَ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ تَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ الْجَامِعِ وَعَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ خَارِجًا مِنَ الْمِصْرِ إِذَا سمع النداء وكان المنادي صيتاً وكان ليس بأصم مستمعاً والأصوات هادئة والريح ساكنة ولو قلنا حتى يسمع جميعهم ما كان على الأصم جمعة ولكن إذا كان لهم السبيل إلى علم النداء بمن يسمعه منهم فعليهم الجمعة لقول الله تبارك وتعالى {إذا نودي للصلاة} الآية " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ
أَمَّا أَهْلُ الْبَلَدِ فَعَلَيْهِمُ الْجُمْعَةُ وَلَا اعْتِبَارَ بِسَمَاعِهِمُ النِّدَاءَ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ مِنَ الْبَلَدِ مَوْضِعٌ لِلنِّدَاءِ، وَمَحَلٌّ لِإِقَامَةِ الْجُمْعَةِ فِيهِ، وَلَيْسَ لَهَا اخْتِصَاصٌ بِمَوْضِعٍ دُونَ مَوْضِعٍ؛ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ سَقَطَ اعْتِبَارُ النِّدَاءِ، وَوَجَبَ عَلَى جَمِيعِهِمْ حُضُورُ الْجُمْعَةِ وَإِنْ كَثُرُوا
وَأَمَّا مَنْ كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ فَعَلَى ثلاثة أضرب: [الأول] ضرب تلزمهم الجمعة بأنفسهم فحسب، [الثاني] وضرب لا تلزمهم بأنفسهم وتلزمهم بغيرهم. [الثالث] وَضَرْبٌ لَا تَلْزَمُهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَلَا بِغَيْرِهِمْ
فَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِينَ تَلْزَمُهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ: فَهُمْ أَهْلُ قَرْيَةٍ مُسْتَوْطِنُونَ، فِيهَا أَرْبَعُونَ رَجُلًا أَحْرَارًا بَالِغِينَ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمْعَةُ، فَهَؤُلَاءِ عَلَيْهِمْ إِقَامَتُهَا، وَسَوَاءٌ قَرُبُوا مِنَ الْمِصْرِ أَوْ بَعُدُوا سَمِعُوا النِّدَاءَ أَوْ لَمْ يَسْمَعُوا؛ لِأَنَّ شَرَائِطَ الْجُمْعَةِ قَدْ كَمُلَتْ فِيهِمْ، فَإِنْ تَرَكُوا إِقَامَتَهَا فِي مَوْضِعِهِمْ، وَقَصَدُوا البلد فصلوا الجمعة مع أهله فقد أساؤوا بِتَرْكِ إِقَامَتِهَا فِي مَوْضِعِهِمْ وَأَجْزَأَهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ أَتَوْا بِالصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِمْ
وَأَمَّا الَّذِينَ لَا تَلْزَمُهُمُ الْجُمْعَةُ بِأَنْفُسِهِمْ وَلَا بِغَيْرِهِمْ: فَهُوَ أَنْ يَكُونُوا أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ، عَلَى مَسَافَةٍ لَا يَبْلُغُهُمْ سَمَاعُ النِّدَاءِ، فَلَا تَلْزَمُهُمْ إِقَامَتُهَا بِأَنْفُسِهِمْ لِنُقْصِهِمْ عَنِ الْأَرْبَعِينَ، وَلَا بِغَيْرِهِمْ، لِأَنَّ نِدَاءَ الْجُمْعَةِ لَا يَبْلُغُهُمْ
وَأَمَّا الَّذِينَ لَا تلزمهم إقامتها بِأَنْفُسِهِمْ وَتَلْزَمُهُمْ بِغَيْرِهِمْ: فَهُوَ أَنْ يَكُونُوا أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ، عَلَى مَسَافَةٍ يَسْمَعُونَ نِدَاءَ الْجُمْعَةِ مِنَ الْمِصْرِ، فَهَؤُلَاءِ تَجِبُ عَلَيْهِمُ الْجُمْعَةُ، وَيَلْزَمُهُمْ إِتْيَانُهَا فِي الْمِصْرِ، وَاعْتِبَارُ سَمَاعِ النِّدَاءِ بِأَنْ تَكُونَ الرِّيحُ سَاكِنَةً، وَالْأَصْوَاتُ هَادِئَةً، وَيَقِفَ الْمُؤَذِّنُ فِي طَرَفِ الْبَلَدِ أَوْ عَلَى سُورَةٍ مِنْ جانبه، ويكون صيتاً ولا يكون المستمع أصماً، فإذا سمعوا

(2/404)


النِّدَاءَ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ فَقَدْ لَزِمَهُمْ حُضُورُ الْجُمْعَةِ. هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ كَانُوا إِذَا صَلَّوُا الْجُمْعَةَ فِي الْمِصْرِ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَأْوُوا بِاللَّيْلِ فِي مَنَازِلِهِمْ لَزِمَتْهُمُ الْجُمْعَةُ، وَإِنْ لَمْ يمكنهم أن لا يأووا لَيْلًا فِي مَنَازِلِهِمْ فَلَا جُمْعَةَ عَلَيْهِمْ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إِنْ كَانُوا عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ لَزِمَتْهُمُ الْجُمْعَةُ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى أَكْثَرَ لَمْ تَلْزَمْهُمْ
وَقَالَ رَبِيعَةُ: إِنْ كَانُوا عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ لَزِمَتْهُمُ الْجُمْعَةُ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى أَكْثَرَ لَمْ تَلْزَمْهُمْ وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: إِنْ كَانُوا عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ لَزِمَتْهُمُ الْجُمْعَةُ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى أَكْثَرَ لَمْ تَلْزَمْهُمْ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا جُمْعَةَ عَلَى مَنْ كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ بِحَالٍ قَرُبَ أَوْ بَعُدَ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا جُمْعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إِلَّا عَلَى أَهْلِ مِصْرٍ جَامِعٍ " فَنَفَى وُجُوبَ الْجُمْعَةِ عَمَّنْ كَانَ فِي غَيْرِ مِصْرٍ جَامِعٍ، قَالَ: وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُقِيمُ الْجُمْعَةَ بِالْمَدِينَةِ فَلَا يَدْعُو أَهْلَ العوالي والسواد، وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ لَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِهَا، قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ لَا تَجِبُ فِيهِ صَلَاةُ الْجُمْعَةِ لَا تَجِبُ عَلَى أَهْلِهِ الجمعة، قياساً على من لم يَسْمَعُ النِّدَاءَ
قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ سَمَاعُ النِّدَاءِ فِي الْبَلَدِ شَرْطًا فِي وُجُوبِ الْجُمْعَةِ لِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعُوهُ، وجب أن يبطل الاعتبار به فيمن خارج البلد، فلا تجب عليهم الجمعة وإن سمعوه، قَالَ: وَلِأَنَّ مَا قَرُبَ مِنَ الْبَلَدِ فِي حُكْمِ مَا بَعُدَ عَنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَوَى السَّفَرَ، وَفَارَقَ بُنْيَانَ الْبَلَدِ، جَازَ لَهُ الْقَصْرُ وَالْمَسْحُ ثَلَاثًا كَمَا لَوْ بَعُدَ عَنْهُ، فَلَمَّا لَمْ تَجِبِ الْجُمْعَةُ عَلَى مَنْ بَعُدَ لَمْ تَجِبْ عَلَى مَنْ قَرُبَ
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا وَفَسَادِ قَوْلِهِ: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] . فَكَانَ عُمُومُ الظَّاهِرِ يَقْتَضِي إِيجَابَ السَّعْيِ إِلَيْهَا عِنْدَ سَمَاعِ النِّدَاءِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ النِّدَاءَ عَلَمًا لَهَا، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ عموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إِلَّا امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا أَوْ مَمْلُوكًا ". فَاسْتَثْنَى بَعْدَ عُمُومِ الْإِيجَابِ مَنْ لَا تَلْزَمُهُ الْجُمْعَةُ مِنَ الْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ، وَالْمَمْلُوكِ، فَدَخَلَ مَنْ كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ فِي عُمُومِ الْإِيجَابِ، وَلَمْ يَدْخُلْ خُصُوصَ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالِاعْتِمَادُ عَلَى هَذِهِ الدَّلَالَةِ جَيِّدٌ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مَا رَوَى قَبِيصَةُ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الطَّائِفِيِّ

(2/405)


عن أبي سلمة بْنِ نُبَيْهٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هَارُونَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " تَجِبُ الْجُمْعَةُ عَلَى كُلِّ مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ ". وَهَذَا نَصٌّ فِيمَنْ كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ؛ لِأَنَّ سَمَاعَ النِّدَاءِ فِي أَهْلِ الْمِصْرِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، فَإِنْ قِيلَ الْخَبَرُ مَوْقُوفٌ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، غَيْرُ مُسْنَدٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قُلْنَا: أَبُو دَاوُدَ رَوَاهُ عَنْ سُفْيَانَ مَوْقُوفًا على عبد الله بن عمروا بْنِ الْعَاصِ وَقَدْ أَسْنَدَهُ قَبِيصَةُ وَهُوَ ثِقَةٌ، وَالْخَبَرُ عِنْدَنَا إِذَا رَوَاهُ رَاوٍ تَارَةً مَوْقُوفًا وَتَارَةً مُسْنَدًا، حُمِلَ الْمَوْقُوفُ عَلَى فَتْوَاهُ وَحُمِلَ الْمُسْنَدُ عَلَى رِوَايَتِهِ
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَسْمَعُونَ النِّدَاءَ فَلَا يَحْضِرُونَ الْجُمْعَةَ أَوْ لَيَطْبَعَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى قُلُوبِهِمْ ". وَلِأَنَّ أبا حنيفة خَالَفَ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: الاعتبار بسماع النداء وابن عمر وأبا هريرة وأنس قالوا: إن الاعتبار بالإيواء إلى الوطن. ولم يرو عنهم غير هذا. وَالصَّحَابَةَ إِذَا أَجْمَعَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَسْأَلَةٍ فإحداث قول ثالث محرم، كما إذا أجمعوا على قول واحد كان إحداث قول ثان محرماً، وَلِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ سَمَاعِ النِّدَاءِ مَعَ ارْتِفَاعِ الْعَوَارِضِ، فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ الْجُمْعَةُ كَأَهْلِ الْمِصْرِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَفْرُوضَةٌ فَلَمْ يُخْتَصَّ بِهَا أَهْلُ الأمصار كالظهر، ولأنها عبادة عَلَى الْبَدَنِ شَرْطٌ فِيهَا الْحُرِّيَّةُ، فَجَازَ أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهَا قَطْعُ مَسَافَةٍ كَالْحَجِّ
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ " لَا جُمُعَةَ إِلَّا عَلَى أَهْلِ مِصْرٍ جَامِعٍ " فَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَوْقُوفٌ عَلَيْهِ، وَلَوْ صَحَّ مُسْنَدًا لَحُمِلَ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعِ النِّدَاءَ، وَخُصَّ بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْجُمُعَةُ عَلَى كُلِّ مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ " لِأَنَّهُ عَامٌّ، وَهَذَا خَاصٌّ مِنْهُ
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَأْمُرْ أَهْلَ الْعَوَالِي وَالسَّوَادِ بِهَا فَبُهْتٌ مَعَ نَصِّ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَهُمْ بِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وَرَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ نَدَبَهُمْ إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ "
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ فَالْمَعْنَى فِي أَصْلِهِ: أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ شِعَارُ الْجُمْعَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَمَّا بَطَلَ اعْتِبَارُ النِّدَاءِ فِي الْبَلَدِ بَطَلَ اعْتِبَارُهُ خَارِجَ الْبَلَدِ وَهُوَ نِدَاءُ الْجَامِعِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي أَهْلِ الْبَلَدِ وَلَا فِي الْخَارِجِينَ عَنْهُ، وَالنِّدَاءُ الَّذِي اعْتَبَرْنَاهُ خارج البلد اعتبرناه في البلد هو النِّدَاءُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْهُ فَاسْتَوَيَا

(2/406)


وَأَمَّا قَوْلُهُمْ مَا قَرُبَ مِنَ الْبَلَدِ فِي حُكْمِ مَا بَعُدَ عَنْهُ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَوَى سَفَرَ مَا قَرُبَ لَمْ يَقْصُرْ، وَلَوْ نَوَى سَفَرَ مَا بَعُدَ جَازَ أَنْ يَقْصُرَ، فَعُلِمَ أَنَّ حُكْمَ مَا قَرُبَ قَدْ يُخَالِفُ حُكْمَ مَا بَعُدَ. فَإِذَا صَحَّ مَا ذكرناه فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى جَمِيعِ مَنْ خَالَفَنَا

(فَصْلٌ)
: قال الشافعي في كتاب " الأم ": " وإذا خرب البلد، وتهدم بُنْيَانُهُ، وَبَقِيَ فِيهِ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمْعَةُ، وَهُمْ مُقِيمُونَ عَلَى عِمَارَةِ مَا خَرِبَ، وَبِنَاءِ مَا انْهَدَمَ، لَزِمَتْهُمُ الْجُمْعَةُ، لِأَنَّهُمْ مُسْتَوْطِنُونَ "
(فَصْلٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ دُونَ الْأَرْبَعِينَ وَفِي الْقَرْيَةِ أَرْبَعُونَ مِمَّنْ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمْعَةُ، وَكَانَ يَبْلُغُ أَهْلَ الْبَلَدِ النِّدَاءُ، لَزِمَهُمُ السَّعْيُ إِلَى الْقَرْيَةِ، لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِسَمَاعِ النِّدَاءِ، فَلَوْ كَانَ فِي الْبَلَدِ دُونَ الْأَرْبَعِينَ، وَفِي الْقَرْيَةِ دُونَ الْأَرْبَعِينَ وَكَانُوا إِذَا اجمتعوا أَرْبَعِينَ فَصَاعِدًا، لَمْ تَلْزَمْهُمُ الْجُمْعَةُ، لِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ إِذَا سَعَى إِلَى الْآخَرِينَ خَرَجُوا مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُسْتَوْطِنِينَ، فَلَمْ يَصِحَّ انْعِقَادُ الجمعة بهم

(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن كَانَتْ قَرْيَةً مُجْتَمِعَةَ الْبِنَاءِ وَالْمَنَازِلِ وَكَانَ أَهْلُهَا لَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا شِتَاءً وَلَا صَيْفًا إِلَّا ظَعْنَ حَاجَةٍ وَكَانَ أَهْلُهَا أَرْبَعِينَ رَجُلًا حُرًّا بَالِغًا غَيْرَ مَغْلُوبٍ عَلَى عَقْلِهِ وَجَبَتْ عَلَيْهِمُ الجمعة واحتج بما لا يثبته أهل الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حين قدم المدينة جمع بأربعين رجلاً وعن عبيد الله بن عبد الله أنه قال " كل قرية فيها أربعون رجلاً فعليهم الجمعة " ومثله عن عمر بن عبد العزيز "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي المكان الذي تَنْعَقِدُ فِيهِ الْجُمْعَةُ، وَالثَّانِي: فِي الْعَدَدِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمْعَةُ
فَأَمَّا الْمَكَانُ: فَمَذْهَبُنَا أَنَّهَا تَنْعَقِدُ فِي الْأَمْصَارِ، وَالْقُرَى إِذَا كَانَتِ الْقَرْيَةُ مُجْتَمِعَةَ الْبِنَاءِ، وَكَانَ لَهَا عَدَدٌ تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمْعَةُ، وَهُمْ أَرْبَعُونَ لَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا شِتَاءً وَلَا صَيْفًا إِلَّا ظَعْنَ حَاجَةٍ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجِبِ الْجُمْعَةُ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى، وَلَا تَصِحُّ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ فِيهَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِصْرًا جَامِعًا، فَيَلْزَمُهُمْ إِقَامَتُهَا. وَحَدُّ الْمِصْرِ عِنْدَهُ: أَنْ يَكُونَ فِيهِ إِمَامٌ يُقِيمُ الْحُدُودَ، وَقَاضٍ يُنَفِّذُ الْأَحْكَامَ، وَجَامِعٌ وَمِنْبَرٌ، وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمِنْ نَصِّ قَوْلِهِ اسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إِلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ " قَالُوا: وَلِأَنَّ فَرْضَ الْجُمْعَةِ عَلَى أَهْلِ السَّوَادِ وَالْقُرَى مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَمَا عُمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى لَا يَجُوزُ أَنْ يبينه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيَانًا خَاصًّا، بَلْ يُشَرِّعُهُ شَرْعًا عَامًّا، وَلَا يُنْقَلُ آحَادًا بَلْ يُنْقَلُ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا، وَذَلِكَ معدوم

(2/407)


قَالُوا: وَلِأَنَّهُ مَوْضِعٌ لَا تُقَامُ فِيهِ الْحُدُودُ فِي الْغَالِبِ. فَوَجَبَ أَلَّا تَصِحَّ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ فِيهِ، كَالْمَفَاوِزِ وَالْبَوَادِي
وَدَلِيلُنَا مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الظَّوَاهِرِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " جمعوا حيث كنتم " ولم يخض بَلَدًا مِنْ قَرْيَةٍ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَتَبَ إِلَى قَرْيَةٍ مُزَنِيَّةٍ أَنْ يُصَلُّوا الْجُمْعَةَ وَالْعِيدَيْنِ وَرُوِيَ أَنَّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ صَلَّى أَوَّلَ جُمْعَةٍ فِي الْإِسْلَامِ بِالْمَدِينَةِ، فِي حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ، بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ الْخَضَمَاتُ وَلَمْ يَكُنْ مِصْرًا، وَكَانُوا أَرْبَعِينَ رَجُلًا وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ أَوَّلَ جُمْعَةٍ جُمِّعَتْ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْمَدِينَةِ بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْبَحْرِينِ تُسَمَّى جُوَاثَا وَلِأَنَّهَا إِقَامَةُ صَلَاةٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يكون من شرطها المصر، كسائر الصلوات، ولأنه مَعْقِلٌ يَسْتَوْطِنُهُ عَدَدٌ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمْعَةُ، فَجَازَ أَنْ يُقِيمُوا الْجُمْعَةَ قِيَاسًا عَلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ
الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جَامِعٍ " فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه على وهاء في إسناده ثم لَا يَصِحُّ لأبي حنيفة الِاسْتِدْلَالُ بِهِ، لِأَنَّهُ يَقُولُ لَوْ أَنَّ إِمَامًا أَقَامَ الْحُدُودَ، وَقَاضِيًّا نَفَّذَ الْأَحْكَامَ فِي قَرْيَةٍ وَجَبَ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ فِيهَا، وَلَوْ خَرَجَ عَنِ الْمِصْرِ الْإِمَامُ وَالْقَاضِي وَلَمْ يَسْتَخْلِفَا، لَمْ تَلْزَمْهُمْ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ، فَلَمْ يَعْتَمِدْ عَلَى ظَاهِرِ الْخَبَرِ فِي اعْتِبَارِ الْمِصْرِ، وبطل أن يكون له فيه دلالة ثُمَّ يَسْتَعْمِلَهُ، فَنَقُولُ لَا جُمْعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إِلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ الْعَدَدَ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمْعَةُ
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ مَا يَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَيَانُهُ عَامًّا، وَلَا يَرِدُ بِهِ النَّقْلُ آحَادًا، فَيُقَالُ لَهُمْ يَجُوزُ عِنْدَنَا أَنْ يَكُونَ بَيَانُهُ خَاصًّا، وَيَرِدُ النَّقْلُ بِهِ آحَادًا، فَلَمْ نُسَلِّمْ لَكُمْ هَذِهِ الدَّلَالَةَ، عَلَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَيَانُهُ عَامًّا إِذَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَمْ يَرِدْ لَهُ فِي الْكِتَابِ ذِكْرٌ وَلَا بَيَانُ حُكْمٍ، وَقَدْ وَرَدَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى بِإِيجَابِ الْجُمْعَةِ، فَلَا يَلْزَمُهُمْ عَلَى مَذْهَبِهِمْ أَنْ يَكُونَ بَيَانُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامًّا، عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد عم البيان، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى مِنْبَرِهِ: " اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْجُمُعَةَ فِي عَامِي هَذَا فِي شَهْرِي هَذَا، فِي سَاعَتِي هَذِهِ، فَرِيضَةً مَكْتُوبَةً " وَلَيْسَ فِي الْبَيَانِ أَعَمُّ مِنْ هَذَا
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْبَوَادِي: فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُمْ غَيْرُ مُسْتَوْطِنِينَ
فَإِذَا ثَبَتَ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ فِي الْقُرَى إِذَا اسْتَوْطَنَهَا عَدَدٌ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمْعَةُ وَكَانُوا مُجْتَمِعِي الْمُنَازِلِ اعْتُبِرَتْ حَالُ مَنَازِلِهِمْ: فَإِنْ كَانَتْ مَبْنِيَّةً بِالْآجُرِّ وَالْجَصِّ أَوْ بِاللَّبِنِ وَالطِّينِ، أَوْ بِالْخَشَبِ الْوَثِيقِ، فَعَلَيْهِمْ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ خِيَامًا أَوْ بُيُوتَ شَعَرٍ، أَوْ مِنْ سَعَفٍ، أو

(2/408)


قَصَبٍ، فَلَا جُمْعَةَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ هَذِهِ الْمَنَازِلَ لَيْسَتْ أَوْطَانًا ثَابِتَةً، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانُوا أَهْلَ مُنَازِلَ مُتَفَرِّقَةٍ وَبُنْيَانٍ مُتَبَاعِدَةٍ غَيْرِ مُجْتَمِعَةٍ، وَلَا مُتَّصِلَةٍ، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ فِي حُكْمِ الْمُقِيمِينَ، لَا الْمُسْتَوْطِنِينَ، لِأَنَّ الْأَوْطَانَ مَا اجْتَمَعَتْ، وَالْجُمْعَةَ لَا تنعقد بالمقيم حتى يكون مستوطناً

(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْعَدَدُ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمْعَةُ فَأَرْبَعُونَ رَجُلًا مَعَ الْإِمَامِ عَلَى الْأَوْصَافِ الْمُتَقَدِّمَةِ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، تَنْعَقِدُ بِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، لِأَنَّ الْعَدَدَ الَّذِي بَقِيَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ انْفِضَاضِ النَّاسِ عَنْهُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَصَلَّى بِهِمُ الْجُمْعَةَ، عَلَى مَا رَوَاهُ جَابِرٌ وَفِي ذَلِكَ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} وقال أبو حنيفة رحمه الله تَنْعَقِدُ بِأَرْبَعَةٍ أَوْ ثَلَاثَةٍ
وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَالْمُزَنِيُّ، لِأَنَّهَا جَمَاعَةٌ وَاجِبَةٌ، فَافْتَقَرَتْ إِلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، وَإِمَامٌ يُجَمِّعُ بِهِمْ، فَصَارُوا أَرْبَعَةً، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وأبو يوسف: تَنْعَقِدُ بِثَلَاثَةٍ: إِمَامٌ وَاثْنَانِ لِأَنَّهُمْ أَقَلُّ الْجَمْعِ مَعَ الْإِمَامِ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَأَبُو ثَوْرٍ: تَنْعَقِدُ بِاثْنَيْنِ إِمَامٍ وَآخَرَ، كَمَا تَنْعَقِدُ بِهِمَا صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا حَدَّ فِي عَدَدِهِمْ مُعْتَبَرٌ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ بِأَوْطَانِهِمْ، فَإِذَا كَانَتْ قَرْيَةً مُجْتَمِعَةَ الْمَنَازِلِ، لَهَا أَزِقَّةٌ، وَفِيهَا أَسْوَاقٌ وَمَسْجِدٌ، فَعَلَيْهِمُ الْجُمْعَةُ، قَلُّوا أَوْ كَثُرُوا، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ فِعْلُهَا فِي غَيْرِ الْأَوْطَانِ وَإِنْ كَانَ الْعَدَدُ مَوْجُودًا عُلِمَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْأَوْطَانِ. فَهَذِهِ جُمْلَةُ مَذَاهِبِ مَنْ خَالَفَنَا فِي عَدَدِهِمْ، وَتَعْلِيلُ مَذْهَبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ اسْتَدَلُّوا جَمِيعًا عَلَى إِبْطَالِ مَذْهَبِنَا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " تَجِبُ الْجُمْعَةُ فِي جَمَاعَةٍ "، وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَالدِّلَالَةُ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ: مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ قَائِدَ أَبِي بَعْدَ ذَهَابِ بَصَرِهِ، فَكَانَ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ إِنَّكَ تَتَرَحَّمُ عَلَى أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ إِذَا سَمِعْتَ النِّدَاءَ فَقَالَ: نَعَمْ، إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ صَلَّى بِنَا الْجُمْعَةَ فِي حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ، فِي نَقِيعٍ يُقَالُ لَهُ نَقِيعُ الْخَضَمَاتِ، فَقُلْتُ: كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: كُنَّا أَرْبَعِينَ رَجُلًا. وَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذَا: هُوَ أَنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ قَدْ كَانَ وَرَدَ الْمَدِينَةَ قَبْلَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَكَانَ فِي الْمُسْلِمِينَ قِلَّةٌ، فَلَمَّا اسْتَكْمَلُوا أَرْبَعِينَ أَمَرَ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ فَصَلَّى بِهِمُ الْجُمْعَةَ عَلَى مَا بَيَّنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَعُلِمَ أَنَّ تَأْخِيرَهَا إِنَّمَا كَانَ انْتِظَارًا لِاسْتِكْمَالِ هَذَا الْعَدَدِ، وَأَنَّهُ شَرْطٌ فِي انْعِقَادِهَا، لِأَنَّ فَرْضَهَا قَدْ كَانَ نَزَلَ بِمَكَّةَ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ مُضْطَرِبٌ، لَا يَصِحُّ لَكُمْ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، لِأَنَّهُ يُرْوَى

(2/409)


تَارَةً أَنَّ مُصْعَبًا صَلَّى بِالنَّاسِ، وَيُرْوَى تَارَةً أُخْرَى أَنَّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ صَلَّى بِهِمْ، وَرُوِيَ تَارَةً بِالْمَدِينَةِ، وَتَارَةً بِبَنِي بَيَاضَةَ، فَلِأَجْلِ اضْطِرَابِهِ وَاخْتِلَافِ رِوَايَتِهِ لَمْ يَصِحَّ لَكُمْ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، قِيلَ الْحَدِيثُ صَحِيحٌ لَا اضْطِرَابَ فِيهِ، لِأَنَّ مُصْعَبًا كَانَ الْآمِرَ بِهَا، وَأَسْعَدُ الْفَاعِلَ لَهَا، فَمَنْ نَسَبَهَا إِلَى مُصْعَبٍ فَلِأَجْلِ أَمْرِهِ، وَمَنْ نَسَبَهَا إِلَى أَسْعَدَ فَلِأَجْلِ فِعْلِهِ، وَمَنْ رَوَى بِبَنِي بَيَاضَةَ فَعَيَّنَ مَوْضِعَ فِعْلِهَا، وَمَنْ رَوَى بِالْمَدِينَةِ فَنَقَلَ أَشْهَرَ مَوَاضِعِهَا، لِأَنَّ بَنِي بَيَاضَةَ مِنْ سَوَادِ الْمَدِينَةِ
وَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ غَلِطَ عَلَى الشَّافِعِيِّ، وَغَلِطَ أَصْحَابُنَا عَلَى الْمُزَنِيِّ، فَأَمَّا غَلَطُ الْمُزَنِيِّ عَلَى الشَّافِعِيِّ: فَهُوَ قَوْلُهُ وَاحْتَجَّ بِمَا لَا يُثْبِتُهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ، أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ جَمَّعَ بِأَرْبَعِينَ، وَهَذَا لَعَمْرِي حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَحْتَجَّ بِهِ، وَإِنَّمَا احْتَجَّ بِحَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ هَذَا الْمُقَدَّمِ
وَأَمَّا غَلَطُ أَصْحَابِنَا عَلَى الْمُزَنِيِّ فَهُوَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ أَرَادَ بِالْحَدِيثِ حَدِيثَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، لِأَنَّ مُحَمَّدًا كَانَ ضَعِيفًا، طَعَنَ فِيهِ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ فَقَالُوا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ضَعِيفًا، لِأَنَّ أَبَا دَاوُدَ قَدْ نَقَلَهُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَدْ أَتْقَنَهُ وَقَدْ روي هذا الحديث من جهة عبد الرازق
فَلَمْ يَكُنْ ضَعْفُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَادِحًا فِي صِحَّتِهِ، وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُمْ عَلَى الْمُزَنِيِّ، حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّهُ أَشَارَ بِضَعِيفِ الْحَدِيثِ إِلَى حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَغَلِطَ الْمُزَنِيُّ حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ
ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: مَا رَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ طَرِيفٍ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا اجْتَمَعَ أَرْبَعُونَ رَجُلًا فَعَلَيْهِمُ الْجُمُعَةُ وَسَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ يَتَوَاضَعُونَ الْحَدِيثَ "، وَلِأَنَّ فَرْضَ الْجُمْعَةِ قَدْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ظُهْرًا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نُقِلَ الْفَرْضُ إِلَى رَكْعَتَيْنِ عَلَى شَرَائِطَ وَأَوْصَافٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْسَخَ الظُّهْرُ، وَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ شَرْعًا ثَابِتًا لَمْ يَجُزْ الِانْتِقَالُ عَنْهُ إِلَّا بِدَلَالَةِ التَّوْقِيفِ أَوِ الْإِجْمَاعِ، وَلَا تَوْقِيفَ مَعَهُمْ فِيمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ وَلَا إِجْمَاعَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَرْضُهُ الظُّهْرَ، وَلِأَنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ فِي الْجُمْعَةِ إِجْمَاعًا، لِأَنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ بِوَاحِدٍ، وَإِذَا كَانَ الْعَدَدُ شَرْطًا مُعْتَبَرًا، وَلَيْسَ لبعض الأعداد مزية عَلَى بَعْضٍ، كَانَ مَا اعْتَبَرْنَا مِنْ عَدَدِ الْأَرْبَعِينَ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ

(2/410)


مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِي تَعْلِيقِ الْحُكْمِ، وَمَا دُونَهُ مِنَ الْأَعْدَادِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَدَدٌ قَدْ وُجِدَ فِي الشَّرْعِ جُمْعَةٌ انْعَقَدَتْ بِهِ، وَهُوَ حَدِيثُ أَسْعَدَ وَلَمْ يُوجَدْ فِي الشَّرْعِ جُمْعَةٌ انْعَقَدَتْ بِأَرْبَعَةٍ، فَكَانَ الْعَدَدُ الَّذِي طَابَقَ الشَّرْعَ أَوْلَى، وَبِهَذَا يَبْطُلُ مَا اعْتَلُّوا بِهِ لِمَذْهَبِهِمْ
ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى فَسَادِ مَا اعْتَبَرَهُ مِنَ الْعَدَدِ: أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ عَدَدٌ لَا تُبْنَى لَهُمُ الْأَوْطَانُ غَالِبًا، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَنْعَقِدَ بِهِمُ الْجُمْعَةُ كَالْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ
فَأَمَّا مَا اعْتَبَرَهُ مَالِكٌ فِي الْأَوْطَانِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْأَوْطَانَ وَالْعَدَدَ شَرْطَانِ مُعْتَبَرَانِ، فَلَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، عَلَى أَنَّ اعْتِبَارَ الْعَدَدِ أَوْلَى، لِأَنَّهُ مَعْنًى يَخْتَصُّ بِمَنْ وَجَبَ الْفَرْضُ عَلَيْهِ
فَأَمَّا مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَجِبُ الْجُمُعَةُ فِي جَمَاعَةٍ " فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّنَا نُوجِبُهَا فِي جَمَاعَةٍ، وَلَكِنِ اخْتَلَفْنَا فِي عَدَدِهَا، وَالْخَبَرُ لَا يَقْضِي عَلَى أَحَدِ الْأَعْدَادِ دُونَ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ لَهُمْ الِاحْتِجَاجُ بِهِ
وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى بِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا حِينَ انْفَضَّ عَنْهُ أَصْحَابُهُ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّ انْفِضَاضَهُمْ كَانَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ
وَقَدْ كَانَتِ انْعَقَدَتْ بِأَرْبَعِينَ، وَاسْتِدَامَةُ الْعَدَدِ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى نَذْكُرُهَا فِيمَا بَعْدُ إِنْ شاء الله تعالى

(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ خَطَبَ بِهِمْ وَهُمْ أَرْبَعُونَ ثُمَّ انْفَضُّوا عنه ثم رَجَعُوا مَكَانَهُمْ صَلَّوْا صَلَاةَ الْجُمُعَةِ وَإِنْ لَمْ يَعُودُوا حَتَّى تَبَاعَدَ أَحْبَبْتُ أَنْ يَبْتَدِئَ الْخُطْبَةَ فإن لم يفعل صلاها بِهِمْ ظُهْرًا "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ
وَأَمَّا الْخُطْبَتَانِ فَوَاجِبَتَانِ، وَشَرَائِطُ الْجُمْعَةِ مُعْتَبَرَةٌ فِيهِمَا فلا يجوز أن يخطبهما إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ، إِذَا حَضَرَهَا أَرْبَعُونَ فَصَاعِدًا، وَوَجَبَ أَنَّ الْخُطْبَةَ أَرْبَعُ كَلِمَاتٍ، نَذْكُرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا وَمَا سِوَاهُنَّ مِنْ سُنَنِهَا
فَإِنْ خَطَبَ فَأَتَى بِوَاجِبَاتِ الْخُطْبَةِ أَوْ بَعْضِهَا، وَالْعَدَدُ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِينَ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمُ الْجُمْعَةَ، وَإِنْ كَانُوا عِنْدَ إِحْرَامِهِ أَرْبَعِينَ، حَتَّى يَبْتَدِئَ الْخُطْبَةَ عَلَى أَرْبَعِينَ، وَيُحْرِمُ بِالصَّلَاةِ مِعِ أَرْبَعِينَ، وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ الْعَدَدُ مُعْتَبَرًا فِي الْخُطْبَةِ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي الصَّلَاةِ، تَعَلُّقًا بِأَنَّ الْأَذْكَارَ الَّتِي تَتَقَدَّمُ الصَّلَاةَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الِاجْتِمَاعُ كَالْأَذَانِ وَهَذَا خَطَأٌ
وَدَلِيلُنَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَطَبَ بِحَضْرَةِ أَصْحَابِهِ، وَقَالَ: " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي "، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنِ افْتَقَرَ إِلَى حُضُورِهِ فِي الصَّلَاةِ افْتَقَرَ إِلَى حُضُورِهِ فِي الْخُطْبَةِ كَالْإِمَامِ، وَلِأَنَّهَا أَذْكَارٌ

(2/411)


مِنْ شَرَائِطِ الْجُمْعَةِ، فَوَجَبَ إِذَا اخْتَصَّ بِهَا الْإِمَامُ أَنْ لَا يَنْفَرِدَ بِهَا عَنِ الْعَدَدِ كَالْقِرَاءَةِ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ خَالَفَتِ الْأَذَانَ، لِأَنَّهُ إِعْلَامٌ، فَجَازَ تَقَدُّمُهُ قَبْلَ حُضُورِ الْعَدَدِ، لِحُصُولِ الْإِعْلَامِ بِهِ، وَالْخُطْبَةُ عِظَةٌ، فَلَمْ يَجُزْ تَقَدُّمُهَا قَبْلَ حُضُورِ الْعَدَدِ، لِعَدَمِ الِاتِّعَاظِ بِهَا:

(فَصْلٌ)
: فَإِذَا وَضَحَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ، فَصُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ: أن يخطب بهم وهم أربعون فصاعد، ثُمَّ يَنْفَضُّوا عَنْهُ، لِعَارِضٍ مِنْ فِتْنَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، فَلَهُمْ حَالَانِ: حَالٌ: يَعُودُونَ بَعْدَ انْفِضَاضِهِمْ.
وَحَالٌ: لَا يَعُودُونَ، فَإِنْ لَمْ يَعُودُوا صَلَّى الْإِمَامُ ظُهْرًا أَرْبَعًا، وَكَذَلِكَ لَوْ عَادَ مِنْهُمْ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِينَ صَلَّى بِهِمْ ظُهْرًا، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمُ الْجُمْعَةَ، لِأَنَّ الْجُمْعَةَ لَا يَصِحُّ انْعِقَادُهَا بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ، وَإِنْ عَادُوا جَمِيعًا، أَوْ عَادَ مِنْهُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلًا، فَلَهُمْ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعُودُوا بَعْدَ زَمَانٍ قَرِيبٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَعُودُوا بَعْدَ زَمَانٍ بَعِيدٍ.
فَإِنْ قَرُبَ زَمَانُ عَوْدَتِهِمْ: بَنَى عَلَى مَا مَضَى، وَصَلَّى بِهِمْ جُمْعَةً، وَلَمْ يَكُنِ الْفَصْلُ الْيَسِيرُ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الْبِنَاءِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد أوقع في خطبته فصل يسير فَإِنَّهُ كَلَّمَ سُلَيْكًا وَقَتَلَةَ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ.
ثُمَّ بَنَى، وَلَمْ يَجْعَلْ لِلْفَصْلِ الْيَسِيرِ حُكْمًا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْفَصْلُ الْيَسِيرُ فِي الصَّلَاةِ مَانِعًا مِنَ الْبِنَاءِ عَلَيْهَا، كَانَ فِي الْخُطْبَةِ أَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنْ جَوَازِ الْبِنَاءِ عَلَيْهَا.
فَأَمَّا إِنْ بَعُدَ زَمَانُ عَوْدَتِهِمْ، اعْتُبِرَتْ مَا مَضَى مِنْ وَاجِبَاتِ الْخُطْبَةِ، فَلَا يخلو من أمرين: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ مَضَى جَمِيعُ الْوَاجِبَاتِ، أَوْ قَدْ مَضَى بَعْضُهَا، وَبَقِيَ بَعْضُهَا. فَإِنْ مَضَى بَعْضُ وَاجِبَاتِهَا: فَغَرَضُ الْخُطْبَةِ بَاقٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَى مَا مَضَى، لِأَنَّ بُعْدَ الزَّمَانِ قَدْ أَبْطَلَهُ كَالصَّلَاةِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ خُطْبَتَيْنِ، وَيُصَلِّيَ الْجُمْعَةَ رَكْعَتَيْنِ، إِذَا كَانَ الْوَقْتُ مُتَّسِعًا، لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ وَإِنْ مَضَى جَمِيعُ وَاجِبَاتِهَا: فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَحْبَبْتُ أَنْ يَبْتَدِئَ الْخُطْبَةَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ صَلَّى بِهِمْ ظُهْرًا أَرْبَعًا.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ أَصَحُّهَا وَأَوْلَاهَا أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَيَخْطُبُ اسْتِحْبَابًا لَا وَاجِبًا، لِأَنَّ فَرْضَ الْخُطْبَةِ قَدْ أَقَامَهُ مَرَّةً، فَلَمْ يَلْزَمْهُ إِقَامَتُهُ ثَانِيَةً، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَخْطُبْ صَلَّاهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا، لِأَنَّ الْخُطْبَةَ شَرْطٌ فِي إِقَامَةِ الْجُمْعَةِ فَإِذَا لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِئْنَافُ الْخُطْبَةِ لِإِتْيَانِهِ بِهَا، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَى الْخُطْبَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِبُعْدِ زَمَانِهَا، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا وَإِنِ اسْتَأْنَفَ الْخُطْبَةَ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ الْجُمْعَةَ رَكْعَتَيْنِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَهَا أَرْبَعًا

(2/412)


وَإِنَّمَا لَزِمَهُ الْجُمْعَةُ لِوُجُودِ شَرَائِطِهَا، وَهِيَ الْخُطْبَةُ مَعَ بَقَاءِ الْوَقْتِ وَكَمَالِ الْعَدَدِ، فَهَذَا أَحَدُ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ يَخْطُبُ وَاجِبًا لَا اسْتِحْبَابًا وَيُصَلِّي الْجُمْعَةَ لَا ظُهْرًا، لِأَنَّ الْوَقْتَ بَاقٍ، وَالْعَدَدَ مَوْجُودٌ، قَالَ: وَقَدْ أَخْطَأَ الْمُزَنِيُّ فِي نَقْلِهِ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: " أَحْبَبْتُ أَنْ يَبْتَدِئَ الْخُطْبَةَ " وَإِنَّمَا أَوْجَبْتُ وَيُصَلِّي بِهِمْ جُمْعَةً، قَالَ: وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ " فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ صَلَّى بِهِمْ ظُهْرًا أَرْبَعًا " أَرَادَ بِهِ: إِنْ لَمْ يعقد حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ وَهَذَا الْمَذْهَبُ وَإِنْ كَانَ لَهُ وَجْهٌ، فَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ مِنْهُ، وَقَدْ أَخْطَأَ في تخطئته الْمُزَنِيَّ، لِأَنَّ الرَّبِيعَ هَكَذَا نَقَلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَحْبَبْتُ، وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ أَحَدٌ " أَوْجَبْتُ " فَعُلِمَ أَنَّ الْمُزَنِيَّ لَمْ يُخْطِئْ فِي نَقْلِهِ، وَإِنَّمَا أَخْطَأَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي تَأْوِيلِهِ.
والمذهب الثالث: أنه إن كان العذر باقيا خطب استحبابا، وإن زال العذر خَطَبَ وَاجِبًا، وَهَذَا الْقَوْلُ لَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ عُذْرًا فِي سُقُوطِ الْخُطْبَةِ ابْتِدَاءً لَمْ يَكُنْ عُذْرًا فِي سُقُوطِهَا انتهاء.

(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنِ انْفَضُّوا بَعْدَ إِحْرَامِهِ بِهِمْ فَفِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا إِنْ بَقِيَ مَعَهُ اثْنَانِ حَتَى تَكُونَ صَلَاتُهُ صَلَاةَ جَمَاعَةٍ أَجْزَأَتْهُمُ الْجُمُعَةُ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَا تُجْزِئُهُمْ بِحَالٍ حَتَّى يَكُونَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ يكمل بهم الصلاة (قال المزني) قلت أنا ليس معني المنفرد في الجمعة ولا جماعة تجب بهم الجمعة عنده أقل من الأربعين فلو جازت باثنين لأنه احرم بالأربعين جازت بنفسه لأنه احرم بالأربعين فليس لهذا وجه في معناه هذا والذي هو أشبه به إن كان صلى ركعة ثم انفضوا صلى أخرى منفردا كما لو أدرك معه رجل ركعة صلى أخرى منفردا ولا جمعة له إلا بهم ولا لهم إلا به فأداؤه ركعة بهم كأدائهم ركعة به عندي في القياس ومما يدل على ذلك من قوله أنه لو صلى بهم ركعة ثم احدث بنوا وحدانا ركعة وأجزاتهم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: أَنْ يُحْرِمَ الْإِمَامُ بِصَلَاةِ الجمعة مع أربعين رجلا فصاعدا، ثم ينفضوا عَنْهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، لِعَارِضٍ مِنْ فِتْنَةٍ أَوْ غيرها، بعد سلامة الخطبة، فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ فِي افْتِتَاحِهَا وَاسْتَدَامَتِهَا، فَمَتَى نَقَصَ مِنَ الْأَرْبَعِينَ واحدا بَنَى عَلَى الظُّهْرِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ فِي افْتِتَاحِهَا، فَإِنْ بَقِيَ مَعَهُ بَعْدَ انْفِضَاضِهِمُ اثْنَانِ فَصَاعِدًا بَنَى عَلَى الْجُمْعَةِ.
وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " وَنَقَلَهُمَا المزني إلى هذا الوضع.

(2/413)


وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ: أَنَّهُ إن بقي معه بعد انعقادها بالأربعين واحدا بَنَى عَلَى الْجُمْعَةِ، وَإِنْ بَقِيَ وَحْدَهُ صَلَّى ظُهْرًا أَرْبَعًا.
فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ فِي افْتِتَاحِهَا وَاسْتَدَامَتِهَا وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقَاوِيلِ وَأَوْلَاهَا فَوَجْهُهُ: شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ اخْتَصَّ بالجمعة في افْتِتَاحُهَا فَإِنَّهُ يَجِبُ اسْتَدَامَتُهُ إِلَى إِثْبَاتِهَا، كَسَائِرِ الشروط مِنَ الْوَقْتِ وَالِاسْتِيطَانِ وَغَيْرِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ خُطْبَةَ الْجُمْعَةِ أَخَفُّ حُكْمًا مِنْ صَلَاةِ الْجُمْعَةِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الْجُمْعَةَ مَنْ لَمْ يَسْمَعِ الْخُطْبَةَ، فَلَمَّا كَانَ الْعَدَدُ شَرْطًا فِي اسْتِدَامَةِ الْخُطْبَةِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي اسْتِدَامَةِ الْجُمْعَةِ.
فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ فِي افْتِتَاحِهَا دُونَ اسْتَدَامَتِهَا وَمَتَى بَقِيَ مَعَهُ اثْنَانِ جَازَ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْجُمْعَةِ فَوَجْهُهُ: تَقْدِيمُ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْعَدَدَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي اسْتَدَامَتِهَا، ثُمَّ الدَّلَالَةُ عَلَى اعْتِبَارِ الِاثْنَيْنِ.
فَأَمَّا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْعَدَدَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الِاسْتِدَامَةِ فَهُوَ:
أَنَّ الْإِمَامَ لَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ ضَبْطُهُ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَهُوَ إِذَا أَحْرَمَ لَمْ يُمْكِنْهُ الِاحْتِرَازُ مِنَ انْفِضَاضِهِمْ، وَيُمْكِنُهُ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْعَدَدُ شَرْطًا فِي افْتِتَاحِهَا، لِعَدَمِ الْمَشَقَّةِ فِي اعْتِبَارِهِ وَلَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي الِاسْتِدَامَةِ لِإِدْرَاكِ الْمَشَقَّةِ فِيهِ، وَتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ، فَشَابَهَ النِّيَّةَ لَمَّا لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ اعْتِبَارُهَا مَعَ الْإِحْرَامِ كَانَ مُؤْخَذًا بِهَا، وَلَمَّا شَقَّ عَلَيْهِ اسْتَدَامَتُهَا فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ، لِأَنَّهَا قد تعذب عنه لم يكن مؤخذا بها إذا عذبت فِي أَثْنَائِهَا، وَلِهَذَا الْمَعْنَى فَارَقَ الْوَقْتَ، لِأَنَّ اعْتِبَارَ اسْتَدَامَتِهِ يُمْكِنُ، وَلِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَكُونُ شَرْطًا فِي ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ دُونَ اسْتَدَامَتِهَا وَإِثْبَاتِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ شَرْطٌ فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي اسْتَدَامَتِهَا، كَذَلِكَ الْعَدَدُ فِي الْجُمْعَةِ.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَدَدَ الْمُعْتَبَرَ فِي افْتِتَاحِهَا لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي اسْتَدَامَتِهَا فَالدَّلَالَةُ عَلَى اعْتِبَارِ الِاثْنَيْنِ، وَجَوَازِ إِتْمَامِ الْجُمْعَةِ بِهَا هُوَ:
أَنَّ الْجُمْعَةَ تَفْتَقِرُ إِلَى الْجَمَاعَةِ، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ الْكَامِلِ ثَلَاثَةٌ.
وَإِذَا قِيلَ إِنَّهُ مَتَى بَقِيَ مَعَهُ وَاحِدٌ جَازَ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَى الْجُمْعَةِ فَوَجْهُهُ: أَنَّهُ لَمَّا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ الْمُعْتَبَرُ فِي افْتِتَاحِهَا شَرْطًا فِي اسْتَدَامَتِهَا، وَافْتَقَرَتْ إِلَى الْجَمَاعَةِ، كَانَ أَقَلُّهَا فِي الشَّرْعِ اثْنَيْنِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ ".

(2/414)


فَعَلَى هَذَا هَلْ يُعْتَبَرُ فِي الْوَاحِدِ أَوِ الِاثْنَيْنِ وَصْفُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ حُرًّا، بالغا، مقيما. فإن كان عبدا أو امرأة صبيا أو مسافرا أو بَنَى عَلَى الظُّهْرِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَدَدٌ مُعْتَبَرٌ فِي صَلَاةِ الْجُمْعَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ أَوْصَافُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ كَالْأَرْبَعِينَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُ اعْتِبَارُ هَذَا الْوَصْفِ، وَمَتَى كَانَ الْبَاقِي عَبْدًا أَوِ امْرَأَةً أَوْ مُسَافِرًا جَازَ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَى الْجُمْعَةِ، لِأَنَّهُ لَمَّا عَدَلَ بِهِ عَنْ حُكْمِ الْعَدَدِ الْمُعْتَبَرِ فِي افْتِتَاحِ الْجُمْعَةِ إِلَى الْعَدَدِ الْمُعْتَبَرِ فِي صِحَّةِ الْجَمَاعَةِ لَمْ يَعْتَبِرْ وَصْفَ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ، وَاعْتَبَرَ حَالَ مَنْ تَصِحُّ بِهِ الْجَمَاعَةُ.
فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ خَرَّجَ قَوْلًا رَابِعًا: إِنَّهُ إِنْ كَانَ الْإِمَامُ قَدْ أَدْرَكَ مَعَهُمْ رَكْعَةً بَنَى عَلَى الْجُمْعَةِ، وَإِنْ أَدْرَكَ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ بَنَى عَلَى الظُّهْرِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة.
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَثْبَتَهُ، وَعَدَّهُ قَوْلًا رَابِعًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ، وَامْتَنَعَ مِنْ تَخْرِيجِهِ قَوْلًا رَابِعًا، فَمَنْ أَثْبَتَهُ فَوَجْهُهُ: أَنَّ الْجُمْعَةَ لَا تَنْعَقِدُ إِلَّا بِإِمَامٍ وَمَأْمُومٍ، فَلَمَّا جَازَ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْجُمْعَةِ إِذَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً، جَازِ لِلْإِمَامِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْجُمْعَةِ إِذَا أَدْرَكَ مَعَ الْمَأْمُومِينَ رَكْعَةً.
وَمَنْ أَنْكَرَ هَذَا الْقَوْلَ وَامْتَنَعَ مِنْ تَخْرِيجِهِ انْفَصَلَ عَنْ هَذَا، وَفَرَّقَ بَيْنَ حَالِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ، وَقَالَ: إِنَّمَا جَازَ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْجُمْعَةِ بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ مَعَ الْإِمَامِ لِانْعِقَادِ الْجُمْعَةِ وَحُصُولِهَا لِلْإِمَامِ، فَكَانَ تَابِعًا لِمَنْ كَمُلَتْ بِهِ، وَلَمْ يَجُزْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْجُمْعَةِ بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ مَعَ الْمَأْمُومِينَ، لِأَنَّهَا تَكْمُلُ بِعَدَدٍ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ تَابِعًا، وَلَا صِحَّةَ لَهُمْ فَتَصِحُّ لَهُ وَاللَّهُ أعلم.

(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو ركع مع الإمام ثم زحم فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى السُّجُودِ حَتَى قَضَى الْإِمَامُ سُجُودَهُ تَبِعَ الْإِمَامَ إِذَا قَامَ وَاعْتَدَّ بِهَا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْأُولَى فَلَمْ يُمْكِنْهُ السُّجُودُ حَتَّى يَرْكَعَ الْإِمَامُ فِي الثَّانِيَةِ لَمْ يكن له أن يسجد للركعة الْأُولَى إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ مِنْ إِمَامَتِهِ لِأَنَّ أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا سَجَدُوا لِلْعُذْرِ قَبْلَ رُكُوعِ الثَّانِيَةِ فَيَرْكَعُ مَعَهُ فِي الثَّانِيَةِ وَتَسْقُطُ الْأُخْرَى وَقَالَ فِي الإملاء فيها قولان: أحدهما لا يتبعه ولو ركع حتى يفرغ مما بقي عليه والقول الثاني: إن قضى ما فات لم يعتد به وتبعه فيما سواه (قال المزني) قلت أنا الأول عندي أشبه بقوله قياسا على أن السجود إنما يحسب له إذا جاء والإمام يصلي بإدراك الركوع ويسقط بسقوط إدراك الركوع وقد قال إن سها عن ركعة ركع الثانية معه ثم قضى التي سها عنها وفي هذا من قوله لأحد قوليه دليل وبالله التوفيق ".

(2/415)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ: فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ مَعَ الْإِمَامِ بِصَلَاةٍ الْجُمْعَةِ، وَرَكَعَ بِرُكُوعِهِ، ثُمَّ زُحِمَ عَنِ السُّجُودِ مَعَهُ، فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُمْكِنَهُ السُّجُودُ عَلَى ظَهْرِ إِنْسَانٍ، فَيَلْزَمُهُ السجود عيه، نَصَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ. لِمَا وَرَدَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِذَا زُحِمَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَسْجُدْ عَلَى ظَهْرِ آخَرَ وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، وَلِأَنَّ صِفَةَ السُّجُودِ فِي الْأَدَاءِ مُعْتَبَرَةٌ بِالْإِمْكَانِ كَالْمَرِيضِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يُمْكِنَهُ السُّجُودُ عَلَى ظَهْرِ إِنْسَانٍ حَتَّى يَرْفَعَ الْإِمَامُ مِنْ سُجُودِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَتَى سَجَدَ أَدْرَكَ رُكُوعَ الثَّانِيَةِ مِعِ الْإِمَامِ، فَهَذَا عَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ أَوَّلًا، ثُمَّ يَرْكَعَ مَعَ الْإِمَامِ، سَوَاءٌ أَدْرَكَهُ قَائِمًا فِي الثَّانِيَةِ، أَوْ رَاكِعًا فِيهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِ مُفَارَقَةُ الْإِمَامِ فِي أَفْعَالِهِ، وَإِنَّمَا أُخِذَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ فِيهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الَّذِينَ حَرَسُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي صَلَاتِهِ بِعُسْفَانَ سَجَدُوا بَعْدَ قِيَامِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - انه قال: " مهما أسبقتكم به إذا ركعت تدركوني إِذَا رَفَعْتُ لِأَنَّنِي بَدَّنْتُ " أَيْ كَبِرْتُ.
فَإِذَا سَجَدَ نُظِرَ فِي حَالِهِ: فَإِنْ أَدْرَكَ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ فِي الثَّانِيَةِ، وَالرُّكُوعَ مَعَ الْإِمَامِ قَبْلَ رَفْعِهِ مِنْهُ، صَحَّتْ صَلَاتُهُ. وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ:
فَإِنْ قِيلَ لَيْسَ عَلَى الْمَأْمُومِ أَنْ يَقْرَأَ خَلْفَ إِمَامِهِ فَقَدْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ أَيْضًا، وَإِنْ قِيلَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ خَلْفَ إِمَامِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَصَحُّهُمَا يُجْزِئُهُ، وَيَصِيرُ بِمَثَابَةِ مَنْ أَدْرَكَ إِمَامَهُ رَاكِعًا فَيَحْتَمِلُ عَنْهُ الْقِرَاءَةَ فِيهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ، لِأَنَّهُ قَدْ أَدْرَكَ مَحَلَّ الْقِرَاءَةِ، فَصَارَ كَالنَّاسِي.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَتَى سَجَدَ فَاتَهُ رُكُوعُ الثَّانِيَةِ مَعَ الْإِمَامِ، فَهَلْ يَأْتِي بِالسُّجُودِ أَوْ يَتْبَعُ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي (الْإِمْلَاءِ) وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة: يَأْتِي بِالسُّجُودِ الَّذِي عَلَيْهِ مِنَ الْأُولَى، وَلَا يَتْبَعُ الْإِمَامَ في ركوع الثانية ووجد هَذَا: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا صَلَاةَ لِمَنْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ " وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا سَجَدَ فاسجدوا "

(2/416)


فَأَمَرَ بِاتِّبَاعِهِ، وَاتِّبَاعُهُ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ، وَقَدْ فَعَلَ السُّجُودَ، فَوَجَبَ أَنْ يَتْبَعَهُ فِيهِ، فَيَأْتِيَ بِهِ، وَلِأَنَّ فِي اتِّبَاعِ الْإِمَامِ مُوَالَاةً بَيْنِ رُكُوعَيْنِ، وَإِيقَاعَ زِيَادَةٍ فِي الصَّلَاةِ لَا يُعْتَدُّ بِهَا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتْبَعَهُ، وَلَزِمَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا فَاتَهُ، وَلِأَنَّهُ إِذَا اشْتَغَلَ بِقَضَاءِ مَا عَلَيْهِ فَقَدِ انْتَقَلَ مِنْ فَرْضٍ إِلَى فَرْضٍ، وَهُوَ مِنَ الرُّكُوعِ إِلَى السُّجُودِ، وَإِذَا اشْتَغَلَ بِاتِّبَاعِ الْإِمَامِ فَقَدِ انْتَقَلَ مِنْ فَرْضٍ إِلَى مَا لَيْسَ بِفَرْضٍ، وَلَا نَفْلٍ، وَهُوَ الرُّكُوعُ الثَّانِي.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ: إِنَّهُ يَتْبَعُ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ وَلَا يَشْتَغِلُ بِالسُّجُودِ وَوَجْهُ هَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ولا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ " فَمَنَعَ مِنْ مُخَالَفَتِهِ فِي أَفْعَالِهِ الظَّاهِرَةِ، وَفِي اشْتِغَالِهِ بِالسُّجُودِ مُخَالَفَةٌ فِي أَفْعَالِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنْهُ، وَلِأَنَّ تَرْتِيبَ الصَّلَاةِ قَدْ سَقَطَ خَلْفَ الْإِمَامِ بِوُجُوبِ اتِّبَاعِهِ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ أَدْرَكَهُ سَاجِدًا أَوْ مُتَشَهِّدًا أَحْرَمَ وَتَبِعَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فَرْضِهِ عَقِبَ الْإِحْرَامِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ لَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا، فَكَذَا أَيْضًا يَلْزَمُهُ اتِّبَاعُهُ فِي الرُّكُوعِ وَإِنْ فَاتَهُ السُّجُودُ، وَلِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَوْ لَهَا عَنِ السُّجُودِ وَسَهَا حَتَّى رَكَعَ الْإِمَامُ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَتْبَعَهُ فِيهِ، وَلَا يَشْتَغِلَ بِالسُّجُودِ، فَكَذَلِكَ لَوْ أَدْرَكَهُ بِزِحَامٍ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، مَعَ كَوْنِهِ مَعْذُورًا فِيهِمَا.

(فَصْلٌ)
: وَإِذَا قُلْنَا: عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا فَاتَهُ مِنَ السُّجُودِ فَسَجَدَ نُظِرَ فِي حَالِهِ: فَإِنَّ سَجَدَ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ: فَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ رَكْعَةٌ يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ، وَيَأْتِي بِرَكْعَةٍ ثَانِيَةٍ، وَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ. وَإِنْ سَجَدَ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ أَوْ شَكَّ: لَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ، وَأَتَمَّهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا.
وَإِذَا قُلْنَا عَلَيْهِ أَنْ يَتْبَعَ الْإِمَامَ في الركوع فتبع وَرَكَعَ مَعَهُ وَسَجَدَ: فَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ رَكْعَةٌ، وَهَلْ هِيَ الثَّانِيَةُ بِكَمَالِهَا أَمِ الْأَوْلَى مَجْبُورَةٌ بِسُجُودِ الثَّانِيَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ هَا هُنَا إِنَّهَا الثَّانِيَةُ بِكَمَالِهَا دُونَ الْأُولَى، لِتَكُونَ الرَّكْعَةُ مُرَتَّبَةً لَا يَتَخَلَّلُهَا رُكُوعٌ مقصود ولا يعتد بِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي سُجُودِ السَّهْوِ إِنَّهَا الْأُولَى مَجْبُورَةٌ بِسُجُودِ الثَّانِيَةِ، لِأَنَّ مَا فَعَلَهُ فِي الْأَوْلَى قَدْ كَانَ مُعْتَدًّا بِهِ قَبْلَ زِحَامِهِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ أَتَى فِي الْأَوْلَى بِقِيَامٍ وَقِرَاءَةٍ لَمْ يَأْتِ بِهِمَا فِي الثَّانِيَةِ، فَكَانَتِ الْأُولَى أَوْلَى فِي الِاعْتِدَادِ بِهَا مِنَ الثَّانِيَةِ.
فَإِذَا قِيلَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ: إِنَّهَا الرَّكْعَةُ الثَّانِيَةُ بِكَمَالِهَا، فَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ رَكْعَةٌ يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ، فَيَأْتِي بِرَكْعَةٍ، وَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ.
وَإِذَا قِيلَ إِنَّهَا الْأُولَى مَجْبُورَةٌ بِسُجُودِ الثَّانِيَةِ فَهَلْ يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك الجمعة "

(2/417)


فَعَلَى هَذَا يَأْتِي بِرَكْعَةٍ أُخْرَى، وَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهُ لَا يُدْرِكُ الْجُمْعَةَ بِرَكْعَةٍ مُلَفَّقَةٍ مِنْ رَكْعَتَيْنِ، وَإِنَّمَا يُدْرِكُهَا بِرَكْعَةٍ كَامِلَةٍ غَيْرِ مُلَفَّقَةٍ، لِأَنَّ الْجُمْعَةَ كَامِلَةُ الْأَوْصَافِ، فَاعْتُبِرَ فِي إِدْرَاكِهَا رَكْعَةٌ كَامِلَةٌ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ، وَتَكُونُ ظُهْرًا فِي وَقْتِ الْجُمْعَةِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ مَنْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي وَقْتِ الْجُمْعَةِ مَعْذُورًا جَازَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ فَعَلَى قَوْلَيْنِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الزِّحَامِ هَلْ هُوَ مَعْذُورٌ بِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَعْذُورٌ بِهِ، فَعَلَى هَذَا يُتِمُّ صَلَاتَهُ ظُهْرًا أَرْبَعًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِيَ: أَنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ بِهِ، لِأَنَّ أَعْذَارَ الْجُمْعَةِ أَمْرَاضٌ مانعة، وليس الزحام منها، فَعَلَى هَذَا فِي صَلَاتِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْقَدِيمُ جَائِزَةٌ، وَيَبْنِي عَلَى الظُّهْرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ بَاطِلَةٌ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا.

(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا إِنْ أَمَرْنَاهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ السُّجُودِ فَخَالَفَ وَتَبَعِ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِفَرْضِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِهِ. فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِفَرْضِهِ وَأَنَّ مَا فَعَلَهُ مَعَ الْإِمَامِ لَا يَجُوزُ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، لِإِخْلَالِهِ بِرُكْنٍ مِنْ صَلَاتِهِ عَامِدًا، ثُمَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْإِحْرَامَ وَرَاءَ الْإِمَامِ: فَإِنْ أَدْرَكَهُ رَاكِعًا وَسَجَدَ مَعَهُ فَقَدْ أَدْرَكَ رَكْعَةً يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ، فَيَأْتِي بِرَكْعَةٍ أُخْرَى وَقَدْ تَمَّتْ صلاته. فإن لم يدركه راكعا أدركه سَاجِدًا أَوْ مُتَشَهِّدًا لَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ، وَصَلَّاهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا.
وَإِنْ كَانَ قَدْ تَبِعَ الْإِمَامَ جَاهِلًا بِالْحُكْمِ مُقَدِّرًا جَوَازَ ذَلِكَ أَلْغَى هَذَا الرُّكُوعَ، وَلَمْ يَعْتَدَّ بِهِ، لِأَنَّ فَرْضَهُ السُّجُودُ، وَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ بِهِ، لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ مِنْ جِنْسِهَا عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ، فَإِذَا سَجَدَ مَعَهُ احْتُسِبَ لَهُ بِهَذَا السُّجُودِ، وَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ رَكْعَةٌ مُلَفَّقَةٌ بِرُكُوعٍ مِنَ الْأُولَى وَسُجُودٍ مِنَ الثَّانِيَةِ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ، وَيَكُونُ الْجَوَابُ فِيهِ عَلَى مَا مَضَى فِي الْفَصْلِ قَبْلَهُ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا إِنْ أَمَرْنَاهُ بِاتِّبَاعِ الْإِمَامِ فِي الرُّكُوعِ، فَخَالَفَ وَاشْتَغَلَ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ مِنَ السُّجُودِ، لَمْ تَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِفَرْضِهِ أَوْ عَالِمًا بِهِ. فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِأَنَّ فَرْضَهُ اتِّبَاعُ الْإِمَامِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ، وَلَمْ يُعْتَدَّ بِمَا فَعَلَهُ مِنَ السُّجُودِ، وَتَبِعَ الْإِمَامَ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الصَّلَاةِ، فَإِذَا تَبِعَهُ نُظِرَ فِيمَا أَدْرَكَهُ مَعَهُ، فَلَا يَخْلُو فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُدْرِكَهُ رَاكِعًا فَيَرْكَعَ مَعَهُ وَيَسْجُدَ، فَهَذَا يَكُونُ كَمَنْ أُمِرَ بِاتِّبَاعِ الإمام فتبعه،

(2/418)


فَتَحْصُلُ لَهُ رَكْعَةٌ، وَلَا يُحْتَسَبُ لَهُ السُّجُودُ الَّذِي فَعَلَهُ، ثُمَّ هَلْ تَكُونُ هَذِهِ الرَّكْعَةُ الثَّانِيَةَ بِكَمَالِهَا أَوِ الْأُولَى مَجْبُورَةً بِسُجُودِ الثَّانِيَةِ؟ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الثَّانِيَةُ، فَعَلَى هَذَا يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا الْأُولَى مَجْبُورَةٌ بِسُجُودِ الثَّانِيَةِ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يُدْرِكُ بها الجمعة أم لا على الوجهبن. ثُمَّ الْجَوَابُ فِيهِ عَلَى تَرْتِيبِ مَا مَضَى.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُدْرِكَهُ فِي السُّجُودِ فَيَسْجُدَ مَعَهُ: فَهَذَا تَحْصُلُ لَهُ الرَّكْعَةُ الْأُولَى مَجْبُورَةً بِالثَّانِيَةِ وَجْهًا وَاحِدًا ثُمَّ هَلْ يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أبي إسحق يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ لَا يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ، وَيَكُونُ الْجَوَابُ فِيهِ عَلَى مَا مَضَى.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُدْرِكَهُ بَعْدَ السُّجُودِ مُتَشَهِّدًا، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتْبَعَهُ فِي التَّشَهُّدِ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ فَقَدْ بَقِيَ مِنَ الرَّكْعَةِ سَجْدَتَانِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَهُمَا بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ، وَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ رَكْعَةٌ، أَدْرَكَ بَعْضَهَا مَعَ الْإِمَامِ، فَهَذَا غَيْرُ مُدْرِكٍ لِلْجُمْعَةِ وَجْهًا وَاحِدًا، وَهَلْ يَبْنِي عَلَى الظُّهْرِ أَوْ يَسْتَأْنِفُهَا؟ عَلَى مَا مَضَى فِي الْجَوَابِ وَالتَّفْصِيلِ.
فَأَمَّا إِذَا اشْتَغَلَ بِالسُّجُودِ عَالِمًا أَنَّ فَرْضَهُ اتِّبَاعُ الْإِمَامِ فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ إِخْرَاجَ نَفْسِهِ مِنْ إِمَامَتِهِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا عَلَى الِائْتِمَامِ بِهِ.
فَإِنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى الِائْتِمَامِ بِهِ: فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، لِمَا عَمَدَهُ مِنْ فِعْلِ مَا لَيَسَ مِنْهَا، ثُمَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْإِحْرَامَ بِالصَّلَاةِ، فَإِنِ اسْتَأْنَفَهُ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ صَلَّى ظُهْرًا أَرْبَعًا وَإِنْ أَحْرَمَ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ، وَنَوَى الِائْتِمَامَ بِهِ فَإِنْ أَدْرَكَهُ فِي الرُّكُوعِ فَقَدْ أَدْرَكَ مَعَهُ رَكْعَةً يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّهَا رَكْعَةٌ غَيْرُ مُلَفَّقَةٍ، وَإِنْ أَدْرَكَهُ بَعْدَ رَفْعِهِ مِنَ الرُّكُوعِ بَنَى عَلَى الظُّهْرِ قَوْلًا وَاحِدًا.
وَإِنْ قَصَدَ إِخْرَاجَ نَفْسِهِ مِنْ إِمَامَتِهِ: فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ غَيْرِ الزِّحَامِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، وَيَبْنِي عَلَى الظُّهْرِ، وَيُجْزِئُهُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ غَيْرُ الزِّحَامِ فَهَلْ يَكُونُ الزِّحَامُ عُذْرًا لَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ عُذْرًا لَهُ، فَعَلَى هَذَا صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، وَيُتِمُّهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا.
وَالْوَجْهَ الثَّانِيَ: أَنَّهُ لَيْسَ بِعُذْرٍ، فَعَلَى هَذَا قَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيمَنْ أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ صَلَاةِ إِمَامِهِ غَيْرَ مَعْذُورٍ، فَلَهُ فِي صَلَاتِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ عَلَيْهِ أَنْ يستأنف صلاته ظهرا أربعا. والقول الثاني: جائز، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ هَذَا مُصَلِّيًا لِلظُّهْرِ فِي وَقْتِ الْجُمْعَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَيَكُونُ مَبْنِيًّا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي وَقْتِ الْجُمْعَةِ غَيْرَ مَعْذُورٍ: أَحَدُهُمَا:

(2/419)


وَهُوَ الْقَدِيمُ، صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، وَيُتِمُّهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ، صَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا.

(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا إِذَا زُحِمَ عَنِ السُّجُودِ فِي الْأُولَى، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى السُّجُودِ حَتَّى سَجَدَ الْإِمَامُ فِي الثَّانِيَةِ: فَهَذَا يَتْبَعُهُ فِي السُّجُودِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَيَكُونُ لَهُ رَكْعَةٌ مُلَفَّقَةٌ بِرُكُوعٍ مِنَ الْأُولَى وَسُجُودٍ مِنَ الثَّانِيَةِ، فَيَكُونُ الْجَوَابُ عَلَى مَا مَضَى. فَإِنْ أَحْرَمَ مَعَهُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، فَزُحِمَ عَنِ الرُّكُوعِ فِيهَا مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى رَكَعَ فِي الثَّانِيَةِ: فَهَذَا يَتْبَعُهُ فِي رُكُوعِ الثَّانِيَةِ، وَيَسْجُدُ مَعَهُ، وَتَحْصُلُ لَهُ رَكْعَةٌ، وَهِيَ الثَّانِيَةُ بِكَمَالِهَا وَجْهًا وَاحِدًا فَيَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ بِهَا، وَلَيْسَ هَذَا أَسْوَأَ حَالًا مِمَّنْ أَدْرَكَ الْإِحْرَامَ مَعَهُ فِي رُكُوعِ الثَّانِيَةِ.
فَلَوْ أَدْرَكَهُ رَاكِعًا فِي الثَّانِيَةِ فَرَكَعَ مَعَهُ، ثُمَّ زُحِمَ عَنِ السُّجُودِ فِيهَا حَتَّى جَلَسَ الْإِمَامُ مُتَشَهِّدًا: فَهَذَا يَشْتَغِلُ بِفِعْلِ السُّجُودِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَا يَتْبَعُ الْإِمَامَ فِي التَّشَهُّدِ، فَإِنْ سَجَدَ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ بَنَى عَلَى الظُّهْرِ.
وَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِيَارِهِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ: فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ: اخْتِيَارُهُ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: اخْتِيَارُهُ اتِّبَاعُ الْإِمَامِ. وَكَلَامُهُ مُحْتَمَلٌ. والله تعالى أعلم.

(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: وَإِنْ أَحْدَثَ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَقَدْ كَانَ دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ قَبْلَ حَدَثِهِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِهِمْ ركعتين وإن لم يكن أدرك معه التكبيرة صَلَّاهَا ظُهْرًا لِأَنَّهُ صَارَ مُبْتَدِئًا (قَالَ الْمُزَنِيُّ) قلت أنا يشبه أن يكون هذا إذا كان إحرامه بَعْدَ حَدَثِ الْإِمَامِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: مُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَصْلُهَا: جَوَازُ الِاسْتِخْلَافِ فِي الصَّلَاةِ، وَصِحَّةُ أدائها بإمامين قال الشافعي في ذلك قولان:
أحدهما: لا تجوز الصلاة بِإِمَامَيْنِ، وَلَا أَنْ يَخْطُبَ إِمَامٌ وَيُصَلِّيَ غَيْرُهُ، وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ، وَوَجْهُهُ: مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ أَحْرَمَ بِأَصْحَابِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ جُنُبٌ، فَانْصَرَفَ وَاغْتَسَلَ، وَرَجَعَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً، وَلَمْ يَسْتَخْلِفْ، وَلِأَنَّ الْمَأْمُومِينَ لَوْ أَدْرَكُوا الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ مَعَ الْإِمَامِ مِنْ صَلَاةِ الْجُمْعَةِ ثُمَّ سَلَّمَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَيْهِمْ مَنْ يُتِمُّ بهم ولا جاز لهم يَسْتَخْلِفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ إِجْمَاعًا، بَلْ يُتِمُّونَ فُرَادَى، كَذَلِكَ إِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ مِنْ خِلَالِهَا، وَفِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّهُ إِمَامٌ اسْتُخْلِفَ عَلَى مَأْمُومِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يصح، أصله ما ذكرنا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ الِاسْتِخْلَافُ فِي الصَّلَاةِ، وَيَجُوزُ أَدَاؤُهَا بِإِمَامَيْنِ، وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ وَوَجْهُهُ: مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَخْلَفَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مرضه، ليصلي

(2/420)


بالناس فأجرم بِهِمْ، ثُمَّ وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خِفَّةً فَخَرَجَ، وَوَقَفَ عَلَى يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَصَلَّى بِالنَّاسِ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِمْ، فَصَارَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَأْمُومًا بَعْدَ أَنْ كَانَ إِمَامًا.
فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ بِإِمَامَيْنِ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِإِمَامٍ وَمَأْمُومٍ، ثُمَّ تَقَرَّرَ أَنَّ حُكْمَ الْجَمَاعَةِ لَا يَتَغَيَّرُ بِبَدَلِ الْمَأْمُومِ، كَذَلِكَ لَا يَتَغَيَّرُ بِبَدَلِ الْإِمَامِ، وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّهُ شَخْصٌ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْجَمَاعَةِ، فَجَازَ أَنْ يَتَبَدَّلَ فِي الصَّلَاةِ كَالْمَأْمُومِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَجُوزُ أَنْ يَخْطُبَ إِمَامٌ وَيُصَلِّيَ غَيْرُهُ إِذَا كان من شَهِدَ الْخُطْبَةَ أَوْ عَهِدَ الْوَاجِبَ مِنْهَا، فَأَمَّا إذا لم يشهد الخطبة فلا يجوز استخلافها فِيهَا، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَجُوزُ اسْتِخْلَافُ مَنْ لَمْ يَشْهَدِ الْخُطْبَةَ كَمَا لَوْ أَحْدَثَ الْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ جَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ أَحْرَمَ قَبِلَ حَدَثِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ إِلَّا مَنِ اتَّصَلَ عَمَلُهُ بِعَمَلِهِ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا مَنْ أَحْرَمَ قَبِلَ حَدَثِهِ، وَمَنْ لَمْ يَشْهَدِ الْخُطْبَةَ لَمْ يَتَّصِلْ عَمَلُهُ بِعَمَلِهِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى جَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ الْمُحْدِثُ فِي الصَّلَاةِ مَنْ أَحْرَمَ قَبِلَ حَدَثِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ شَهِدَ الْخِطْبَةَ، لِاتِّصَالِ الْعَمَلَيْنِ، فَكَانَ فَرْقًا بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ.

(فَصْلٌ)
: وَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ القولين في جواز الصلاة بإمامين، فلا يَخْلُو حَالُ الصَّلَاةِ الَّتِي أَحْدَثَ الْإِمَامُ فِيهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ أَوْ غَيْرَهَا فَإِنْ كَانَتْ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ: وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الِاسْتِخْلَافَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَجُوزُ لَمْ يَخْلُ حَدَثُ الْإِمَامِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى أَوْ فِي الثَّانِيَةِ. فَإِنْ كَانَ حَدَثُهُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى: بَنَوْا عَلَى الظُّهْرِ، لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِنَا. وَإِنْ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ: فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ يَبْنُونَ عَلَى الظُّهْرِ، لِإِخْلَالِهِمْ بِاسْتِدَامَةِ الْجَمَاعَةِ الَّتِي هِيَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْجُمْعَةِ، وَعَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِ الْمُزَنِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الِانْفِضَاضِ يَبْنُونَ عَلَى الْجُمْعَةِ. فَإِذَا قُلْنَا يَجُوزُ الِاسْتِخْلَافُ فِي الصَّلَاةِ: فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ أَحْرَمَ بعد حدثه لا يختلف، لأنه لم يعلق صلاته بصلاته، وإنما يستخلف من أحرم قبل حَدَثِهِ، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَدَثُ الْإِمَامِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى أَوْ فِي الثَّانِيَةِ.
فَإِنْ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى: جَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ أَحْرَمَ قَبْلَ حَدَثِهِ، سَوَاءٌ كَانَ قَدْ أَدْرَكَ مَعَهُ الإحرام أو الركوع، وَيَبْنِي هَذَا الْإِمَامُ الْمُسْتَخْلَفُ وَمَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمَأْمُومِينَ عَلَى الْجُمْعَةِ.
فَإِنْ كَانَ حَدَثُهُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ: لَمْ تَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَدَثُهُ قَبْلَ الرُّكُوعِ أو بعد. فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الرُّكُوعِ: جَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ أَحْرَمَ قَبْلَ حَدَثِهِ، سَوَاءٌ أَدْرَكَ مَعَهُ الرَّكْعَةَ الْأُولَى أَمْ لَا، وَيَبْنِي هُوَ وَمَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمَأْمُومِينَ عَلَى الْجُمْعَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ يُدْرِكُ مَعَهُمْ مِنْهَا رَكْعَةً. وَإِنْ أَحْدَثَ بَعْدَ الرُّكُوعِ مِنَ الثَّانِيَةِ: فَإِنِ اسْتَخْلَفَ مَنْ أَدْرَكَ معه

(2/421)


الرَّكْعَةَ الْأُولَى أَوْ أَدْرَكَ مَعَهُ الرُّكُوعَ مِنَ الثَّانِيَةِ جَازَ، وَبَنَى هَذَا الْمُسْتَخْلَفُ وَمَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمَأْمُومِينَ عَلَى الْجُمْعَةِ.
وَإِنِ اسْتَخْلَفَ مَنْ أَحْرَمَ مَعَهُ بَعْدَ رُكُوعِهِ فِي الثَّانِيَةِ وَقَبْلَ حَدَثِهِ: فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ اسْتِخْلَافِهِ فَقَالَ بَعْضُ الْبَغْدَادِيِّينَ: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَا يكون مدركا للجمعة. وقال آخرون: وهو قال الْأَكْثَرِينَ إِنَّ اسْتِخْلَافَهُ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ مَعَهُ رُكُوعَ الثَّانِيَةِ.
وَلَعَلَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ صَلَاةِ الْجُمْعَةِ خَلْفَ الصَّبِيِّ الَّذِي تَصِحُّ لَهُ الْجُمْعَةُ.
وَإِذَا اسْتَخْلَفَهُ بَنَى هَذَا الْإِمَامُ عَلَى الظُّهْرِ، وَيُتِمُّ صلاته أربعا، وبنى المأمون عَلَى الْجُمْعَةِ، وَكَانُوا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَنْتَظِرُوهُ لِتَكْمُلَ صَلَاتُهُ ثُمَّ يُسَلِّمُ بِهِمْ، وَبَيْنَ أَنْ يُقَدِّمُوا رَجُلًا يُسَلِّمُ بِهِمْ، وَبَيْنَ أَنْ يُسَلِّمُوا لِأَنْفُسِهِمْ.

(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الصَّلَاةُ فَرْضًا غير الصلاة: جَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ فِيهَا مَنْ أَحْرَمَ بَعْدَ حَدَثِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُمْعَةِ: أَنَّهُ لَمَّا صَحَّ أَدَاءُ الْفَرْضِ مُنْفَرِدًا صَحَّ اسْتِخْلَافُهُ مَنْ لَمْ يُعَلِّقْ صَلَاتَهُ بِصَلَاتِهِ، وَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ أَدَاءُ الْفَرْضِ مُنْفَرِدًا لَمْ يَصِحَّ اسْتِخْلَافُهُ مَنْ لَمْ يُعَلِّقْ صَلَاتَهُ بِصَلَاتِهِ.
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا نُظِرَ فِي حَدَثِ الْإِمَامِ: فَإِنْ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ فِيهَا: فَاسْتَخْلَفَ مَنْ أَحْرَمَ قَبْلَ حَدَثِهِ أَوْ بَعْدَهُ جَازَ. وَإِنْ كَانَ حَدَثُهُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ أَوْ بَعْدَ رُكُوعِهِ فِي الْأُولَى: فَإِنِ اسْتَخْلَفَ مَنْ أَحْرَمَ بَعْدَ حَدَثِهِ لَمْ يَجُزْ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ أَحْرَمَ بَعْدَ حَدَثِهِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَيَجُوزُ وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَلَا يَجُوزُ هُوَ: أَنَّ هَذَا الْمُحْرِمَ بَعْدَ حَدَثِهِ يَبْنِي عَلَى صَلَاةِ نَفْسِهِ لَا عَلَى صَلَاةِ الْأَوَّلِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَقَدِ اتَّفَقَ فِعْلُهُ وَفِعْلُ الْإِمَامِ الْمُحْدِثِ فَجَازَ اسْتِخْلَافُهُ، وَإِذَا كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ وَبَنَى عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ خَالَفَ فِعْلَ الْإِمَامِ الْمُحْدِثِ، لِأَنَّهَا لَهُ أُولَى، فَلِذَلِكَ لَمْ نُجِزْهُ.
أَوْ كَانَ قَدْ أَحْرَمَ قَبْلَ حَدَثِهِ بَنَى عَلَى صَلَاةِ الْمُحْدِثِ فَجَلَسَ فِي مَوْضِعِ جُلُوسِهِ وَقَامَ فِي مَوْضِعِ قِيَامِهِ فَجَازَ اسْتِخْلَافُهُ.
(فَصْلٌ)
: إِذَا صَلَّى الْإِمَامُ الْجُمْعَةَ بِأَصْحَابِهِ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ سَلَامِهِ أَنَّهُ جُنُبٌ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ خَلْفَهُ أَرْبَعُونَ فَصَلَّوْا أَجْزَأَتْهُمُ الصَّلَاةُ، وَأَعَادَ الْإِمَامُ صَلَاتَهُ ظُهْرًا، وَفِيهَا وَجْهٌ آخَرُ: أَنَّهُ لَا تجزئهم.
فإن كانوا مع الإمام أربعين لم تجزهم الصَّلَاةُ وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّهَا لَمْ تَنْعَقِدْ، وَاسْتَأْنَفُوا الْجُمْعَةَ، لِأَنَّ فَرْضَهُمْ لَمْ يَسْقُطْ.

(2/422)


(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا جُمُعَةَ عَلَى مُسَافِرٍ وَلَا عَبْدٍ وَلَا امْرَأَةٍ وَلَا مَرِيضٍ وَلَا مَنْ لَهُ عُذْرٌ وَإِنْ حَضَرُوهَا أَجْزَأَتْهُمْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
وَإِنَّمَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمُ الْجُمْعَةُ لِرِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَعَلَيْهِ الْجُمْعَةُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ إِلَّا امْرَأَةً أَوْ مُسَافِرًا أَوْ مَرِيضًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ مَمْلُوكًا ".
ثُمَّ مَنْ لَا جُمْعَةَ عَلَيْهِ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ إِذَا حَضَرُوهَا: وَهُمُ الصِّبْيَانُ، وَالنِّسَاءُ، وَالْمُسَافِرُونَ، وَمَنْ فِيهِمُ الرِّقُّ، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِمْ إِذَا حَضَرُوا لِبَقَاءِ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ سَقَطَتْ عَنْهُمُ الْجُمْعَةُ وَهُوَ: الرِّقُّ، وَالْأُنُوثِيَّةُ، وَالسَّفَرُ فَإِنْ صَلَّوُا الْجُمْعَةَ سَقَطَ فَرْضُهُمْ لِأَنَّ الْمَعْذُورَ إِذَا أَتَى بِفَرْضِ غَيْرِ الْمَعْذُورِ أُسْقِطَ فَرْضُهُ، كَالْمُسَافِرِ إِذَا أَتَمَّ الصَّلَاةَ وَصَامَ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَنْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ بِحُضُورِهَا وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا، بِالتَّأْخِيرِ عَنْهَا: وَهُوَ الْمَرِيضُ، وَمَنْ لَهُ عُذْرٌ بِإِطْفَاءِ حَرِيقٍ، أَوْ إِحْفَاظِ مَالٍ، أَوْ خَوْفٍ مِنْ سُلْطَانٍ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ فِعْلُهَا عليهم إذا حضروا لزوال أعذارهم.
(مسألة)
: قال الشافعي رحمة الله تعالي: " وَلَا أُحِبُّ لِمَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ بِالْعُذْرِ أَنْ يصلي حتى يتأخر انْصِرَافَ الْإِمَامِ ثُمَّ يُصَلِّي جَمَاعَةً فَمَنْ صَلَّى مِنَ الَّذِينَ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ الْإِمَامِ أَجْزَأَتْهُمْ وَإِنْ صَلَّى مَنْ عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ قَبْلَ الْإِمَامِ أَعَادَهَا ظُهْرًا بَعْدَ الْإِمَامِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. الْمُتَأَخِّرُونَ عَنْ حُضُورِ الْجُمْعَةِ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ تَأَخَّرُوا عَنْهَا لِعُذْرٍ. وَضَرْبٌ تَأَخَّرُوا عَنْهَا لِغَيْرِ عُذْرٍ.
فَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ عَنْهَا لِعُذْرٍ فَضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يُرْجَى زَوَالُ أَعْذَارِهِمْ: كَالْعَبْدِ الَّذِي يُرْجَى زَوَالُ رِقِّهِ، وَالْمُسَافِرِ الَّذِي يُرْجَى زَوَالُ سَفَرِهِ، وَالْمَرِيضِ الَّذِي يُرْجَى زَوَالُ مَرَضِهِ، فَيُخْتَارُ لَهُمْ أَنْ لَا يُصَلُّوا الظُّهْرَ إِلَّا بَعْدَ انْصِرَافِ الْإِمَامِ مِنْ صَلَاةِ الْجُمْعَةِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا زَالَتْ أَعْذَارُهُمْ فَحَضَرُوهَا، فَإِنْ صَلَّوُا الظُّهْرَ قَبْلَ انْصِرَافِ الْإِمَامِ أَجْزَأَهُمْ، فَلَوْ زَالَتْ أَعْذَارُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَالْجُمْعَةُ قَائِمَةٌ لَمْ يَلْزَمْهُمْ حُضُورُهَا.
وَضَرْبٌ لَا يُرْجَى زَوَالُ أَعْذَارِهِمْ: كَالنِّسَاءِ لَا يُرْجَى لَهُنَّ زَوَالُ الْأُنُوثِيَّةِ، فَيُخْتَارُ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا الظهر لأول وقتها، ولا ينتظروا انْصِرَافَ الْإِمَامِ، لِيُدْرِكُوا فَضِيلَةَ الْوَقْتِ.
وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ عَنْهَا بِغَيْرِ عُذْرٍ: فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا الظُّهْرَ قَبْلَ انْصِرَافِ الْإِمَامِ مِنْ صَلَاةِ الْجُمْعَةِ، لِأَنَّ فَرْضَهُمُ الْجُمْعَةَ لَا الظُّهْرَ، فَإِنْ صَلَّوُا الظُّهْرَ بَعْدَ انْصِرَافِ الْإِمَامِ أَجْزَأَهُمْ

(2/423)


ذَلِكَ قَضَاءً عَنْ فَرْضِهِمْ، وَإِنْ صَلَّوُا الظُّهْرَ قَبْلَ انْصِرَافِ الْإِمَامِ: فَإِنْ قَدَرُوا عَلَى حُضُورِ الْجُمْعَةِ لَزِمَهُمْ حُضُورُهَا، لِبَقَاءِ فَرْضِهِمْ، وَإِنْ فَاتَهُمْ حُضُورُهَا فَهَلْ تُجْزِئُهُمْ صَلَاةُ الظُّهْرِ الَّتِي صَلَّوْهَا قَبْلَ انْصِرَافِ الْإِمَامِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ تُجْزِئُهُمْ وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ لَا تُجْزِئُهُمْ، وَعَلَيْهِمْ أَنْ يُعِيدُوا ظُهْرًا بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مُخَرَّجَانِ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي صَلَاةِ الْجُمْعَةِ هَلْ هِيَ ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ بِشَرَائِطَ أَوْ هِيَ فَرْضٌ مَشْرُوعٌ بِذَاتِهِ؟ فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ وَهُوَ الْقَدِيمُ: إِنَّهَا ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ بِشَرَائِطَ، بِدَلَالَةِ أَنَّ مَنْ فَاتَهُ الْجُمْعَةُ قَضَاهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا، وَلَوْ كَانَتْ فَرْضًا بِذَاتِهِ قَضَاهَا جُمْعَةً كَالْأَدَاءِ فَعَلَى هَذَا تُجْزِئُهُ صَلَاةُ الظُّهْرِ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ الْجَدِيدُ: إِنَّ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ فَرْضٌ مَشْرُوعٌ بِذَاتِهِ، وَلَيْسَتْ بَدَلًا مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ، لِأَنَّ الْإِبْدَالَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: بَدَلٌ مُرَتَّبٌ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ إِلَيْهِ إِلَّا بِالْعَجْزِ عَنِ الْمُبْدَلِ كَالتَّيَمُّمِ وَالرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ، وَبَدَلٌ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَصْلِ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ، فَلَوْ كَانَتِ الجمعة بدل مِنَ الظُّهْرِ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا بِتَرْكِهَا إِلَى الظُّهْرِ، وَلَكَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَهُمَا، فَعَلَى هَذَا لَا تُجْزِئُهُ صَلَاةُ الظُّهْرِ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ.

(فَصْلٌ)
: إِذَا صَلَّى الْمَعْذُورُ ظُهْرًا قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ جَازَ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي جَمَاعَةٍ، وَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا لَهُ، لَكِنْ تُكْرَهُ لَهُ الْمُظَاهَرَةُ بِفِعْلِ الجماعة خوف التهمة، سَوَاءٌ كَانَ عُذْرُهُ ظَاهِرًا كَالسَّفَرِ وَالرِّقِّ، أَوْ كَانَ بَاطِنًا كَالْمَرَضِ وَالْخَوْفِ، وَكَرِهَ أبو حنيفة أن يصلي جماعة ظاهرا باطنا.

(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ومن مرض له ولد أو والد فرآه مَنْزُولًا بِهِ أَوْ خَافَ فَوْتَ نَفْسِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَدَعَ الْجُمُعَةَ وَكَذَلِكَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذُو قَرَابَةٍ وَكَانَ ضَائِعًا لَا قَيِّمَ لَهُ غَيْرُهُ أَوْ لَهُ قَيَّمٌ غَيْرُهُ لَهُ شُغْلٌ عَنْهُ فِي وَقْتِ الْجُمُعَةِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَدَعَ لَهُ الْجُمْعَةَ تَرَكَهَا ابْنُ عُمَرَ لِمَنْزُولٍ بِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
حُضُورُ الْجُمْعَةِ يَسْقُطُ بِالْعُذْرِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يُجِبْ فَلَا صَلَاةَ لَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ ".
وَالْعُذْرِ ضربان: عام، خاص.
فَأَمَّا الْعَامُّ فَكَالْأَمْطَارِ، وَخَوْفِ الْفِتَنِ، وَحَذَرِ السُّلْطَانِ وَأَمَّا الْخَاصُّ: فَكَالْخَوْفِ مِنْ ظُلْمِ ذِي يَدٍ قَوِيَّةٍ مِنْ سُلْطَانٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ يَخَافُ تَلَفَ مَالٍ هُوَ مُقِيمٌ عَلَى حِفْظِهِ، أَوْ يَخَافُ مَوْتَ مَنْزُولٍ بِهِ، مِنْ ذِي نَسَبٍ أَوْ سَبَبٍ أَوْ مَوَدَّةٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ لَهُ قَيِّمٌ أَمْ لَا، قَدْ رُوِيَ عَنْ

(2/424)


عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَحِمُّ لِلْجُمْعَةِ فَاسْتُخْرِجَ عَلَى سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، فَتَرَكَ الْجُمْعَةَ وَذَهَبَ إِلَى سَعِيدٍ.
فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْزُولًا بِهِ، وَكَانَ مَرِيضًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَرَضُ شَدِيدًا مُخَوِّفًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ، وَإِنْ كَانَ مَرَضًا شَدِيدًا فَإِنْ كَانَ وَالِدًا أَوْ وَلَدًا كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ عَنِ الْجُمْعَةِ، سَوَاءٌ كَانَ لَهُ قَيِّمٌ أَمْ لَا، لِاخْتِصَاصِ الْوَلَدِ بِفَضْلِ الْبِرِّ، وَالْوَالِدِ بِفَضْلِ الْحُنُوِّ.
وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ عَدَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَيِّمٌ بِأَمْرِهِ كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ فِي تَرْكِ الْجُمْعَةِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ قَيِّمٌ سِوَاهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحُضُورُ.
فَأَمَّا إِنْ كَانَ عَلَيْهِ حَقٌّ ثَابِتٌ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي الذِّمَّةِ كَالْأَمْوَالِ: فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَدَائِهِ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا، وَكَانَ بِالتَّأْخِيرِ عَاصِيًا، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا بِهِ وَخَافَ مِنْ يَدِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَمَقَالِهِ كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ عَنْهَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ عَلَى يَدِهِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ، وَلَا الصُّلْحُ عَلَيْهِ، كَحَدِّ الزِّنَا، وَقَطْعِ السَّرِقَةِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ، وَعَلَيْهِ الْحُضُورُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ، وَالصُّلْحُ عَلَيْهِ، وَالْمُفَادَاةُ بِالْمَالِ، فَهَذَا عُذْرٌ فِي التَّأْخِيرِ، لِيَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى مَالٍ.
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ: إِنَّ كُلَّ مَا كَانَ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ عَنِ الْجَمَاعَةِ كَانَ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ عن الجمعة.

(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَنْ طَلَعَ لَهُ الْفَجْرُ فَلَا يُسَافِرْ حَتَى يُصَلِّيَهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. فَمَنْ أَرَادَ إِنْشَاءَ السَّفَرِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: حَالَانِ يَجُوزُ لَهُ إِنْشَاءُ السَّفَرِ فِيهِمَا، وَحَالٌ لَا يَجُوزُ لَهُ إِنْشَاءُ السَّفَرِ فِيهَا، وَحَالٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا.
فَأَمَّا الْحَالَانِ فِي جَوَازِ السَّفَرِ:
فَأَحَدُهُمَا: قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْيَوْمِ. وَالثَّانِيَةُ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمْعَةِ لِيَقْضِيَ الْفَرْضَ، فَإِذَا بَدَأَ بِإِنْشَاءِ السَّفَرِ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ جَازَ.
وَأَمَّا الْحَالُ الَّتِي لَا يَجُوزُ لَهُ إِنْشَاءُ السَّفَرِ فِيهَا: فَهِيَ مِنْ وَقْتِ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى أَنْ يَفُوتَ إِدْرَاكُ الْجُمْعَةِ، لِتَعَيُّنِ فَرْضِهَا، وَإِمْكَانِ فِعْلِهَا.

(2/425)


وَأَمَّا الْحَالُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا: فَهِيَ مِنْ بَعْدِ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى زَوَالِ الشَّمْسِ، فَفِي جَوَازِ إِنْشَاءِ السَّفَرِ فِيهِ قَوْلَانِ.
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَالزُّبَيْرُ بْنُ العوام وأبو عبيد بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَكْثَرُ التَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ: يُجَوِّزُ أَنْ يَبْتَدِئَ فِيهِ السَّفَرَ، لِرِوَايَةِ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَهَّزَ جَيْشَ مَؤْتَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَأَذِنَ لَهُمْ فِي الْخُرُوجِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَتَأَخَّرَ عَنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ لِلصَّلَاةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا الَّذِي أَخَّرَكَ عَنْهُمْ؟ قَالَ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَزْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، فَرَاحَ مُنْطَلِقًا.
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَافَرَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا بِهَيْئَةِ السَّفَرِ وَهُوَ يَقُولُ: لَوْلَا الْجُمْعَةُ لَسَافَرْتُ. فَقَالَ: اخْرُجْ، فَإِنَّ الْجُمْعَةَ لَا تَمْنَعُ مِنَ السَّفَرِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَائِشَةُ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: لَا يَجُوزُ لَهُ إِنْشَاءُ السَّفَرِ فِيهِ حَتَّى يُصَلِّيَ الْجُمْعَةَ، لِأَنَّ هَذَا زَمَانٌ قَدْ يَتَعَلَّقُ حُكْمُ السَّعْيِ فِيهِ لِمَنْ بَعُدَتْ دَارُهُ عَنِ الْمَسْجِدِ فِي الْمِصْرِ أَوْ مَا قَارَبَهُ إِذَا كَانَ لَا يُدْرِكُ الْجُمْعَةَ إِلَّا بِالسَّعْيِ فِيهِ، فَكَانَ حُكْمُ هَذَا الزَّمَانِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى وَقْتِ الزَّوَالِ كَحُكْمِ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ فِي وُجُوبِ السَّعْيِ فِيهِمَا، فَوَجَبَ أَنْ يستوي حكمهما في تحريم السفر فيهما والله أعلم.

(2/426)


(بَابُ الْغُسْلِ لِلْجُمْعَةِ وَالْخُطْبَةِ وَمَا يَجِبُ فِي صلاة الجمعة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالسُّنَّةُ أَنْ يَغْتَسِلَ لِلْجُمُعَةِ كُلُّ مُحْتَلِمٍ وَمَنِ اغْتَسَلَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَجْزَأَهُ وَمَنْ تَرَكَ الْغُسْلَ لَمْ يُعِدْ لِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " من توضأ فيها وَنِعْمَتْ وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا كَمَا قَالَ. غُسْلُ الْجُمْعَةِ، سُنَّةٌ مُخْتَارَةٌ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَنْ غَسَلَ وَاغْتَسَلَ، وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَشَهِدِ الْخُطْبَةَ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ.
وَفِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَسَلَ وَاغْتَسَلَ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: غَسَلَ أَعْضَاءَ وُضُوئِهِ، واغْتَسَلَ فِي جَمِيعِ بَدَنِهِ،
وَالثَّانِي: غَسَّلَ زَوْجَتَهُ لِمُبَاشَرَتِهَا، وَاغْتَسَلَ هُوَ لِنَفْسِهِ. وَزَمَانُ الْغُسْلِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى رَوَاحِهِ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَوَقْتُ الرَّوَاحِ أَفْضَلُ، وَقَبْلَهُ يُجْزِئُ، وَقَبْلَ الْفَجْرِ لَا يُجْزِئُ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ فِي كِتَابِ " الطَّهَارَةِ " وَذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِيهِ فَأَغْنَى عَنْ إعادته.

(مسألة)
: قال الشافعي رحمة الله تعالى: " فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ وَجَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ وأذن المؤذنون فَقَدِ انْقَطَعَ الرُّكُوعُ فَلَا يَرْكَعُ أَحَدٌ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ رَكَعَ فَيَرْكَعَ وروي أن سليكا الغطفاني دخل المسجد والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يخطب فقال له " أركعت؟ " قال: لا قال: " فصل ركعتين " وأن أبا سعيد الخدري ركعهما ومروان يخطب وقال ما كنت لأدعهما بعد شَيْءٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ،
وَجُمْلَةٌ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَقْتُ الْجُمْعَةِ.
وَالثَّانِيَةِ: جَوَازُ التَّنَفُّلِ فِيهِ.

(2/427)


فَأَمَّا وَقْتُ الْجُمْعَةِ فَهُوَ وَقْتُ الظُّهْرِ سَوَاءً: مِنْ بَعْدِ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، فَإِنْ صَلَّاهَا قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ خُطِبَ لَهَا أَوْ أُذِّنَ لَمْ يُجْزِهِ، وَأَعَادَ ذَلِكَ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: إِنَّ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ جَائِزَةٌ.
اسْتِدْلَالًا بِمَا رَوَاهُ إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ بن الأكوع عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي الْجُمْعَةَ فَيَنْصَرِفُ وَلَيْسَ لِلْحِيطَانِ فَيْءٌ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ: رِوَايَةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي الْجُمُعَةَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ وَرَوَى الْمُطَلِّبُ بْنُ حَنْطَبٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يصلي الجمعة وقد فاء في الْحِيطَانِ ذِرَاعًا أَوْ أَكْثَرَ.
وَلِأَنَّهَا ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزُ فِعْلُهَا إِلَّا فِي وَقْتٍ يَجُوزُ فِيهِ فِعْلُ الْإِتْمَامِ، قِيَاسًا عَلَى صَلَاةِ السَّفَرِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ: فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ، لِأَنَّ الشَّمْسَ تَزُولُ فِي الصَّيْفِ بِالْحِجَازِ وَلَيْسَ لِلشَّمْسِ فِي الْحِيطَانِ ظِلٌّ، وَإِنْ كَانَ فَهُوَ شَيْءٌ يَسِيرٌ. فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فَإِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ " فَصَحِيحٌ، وَأَرَادَ بِهِ الْأَذَانَ الثَّانِيَ الَّذِي يَجِبُ بِهِ السَّعْيُ وَيَحْرُمُ عِنْدَهُ الْبَيْعُ، وَفِيهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله وذروا البيع} . [سورة الجمعة: 9] .
فَأَمَّا الْأَذَانُ الْأَوَّلُ فَهُوَ مُحْدَثٌ، لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَا عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَاخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ مَنْ أَحْدَثَهُ وَأَمَرَ بِهِ:
فَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ الْيَمَانِيِّ وَالسَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَمَرَ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ كَثُرَ النَّاسُ فِي أَيَّامِهِ وَحَكَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَ بِهِ، وَقَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ مُعَاوِيَةُ. فَاتْرُكْهُ لَا بَأْسَ،

(2/428)


(فصل)
: فأما جواز التنعل يَوْمَ الْجُمْعَةِ: فَمَا لَمْ يَظْهَرِ الْإِمَامُ، وَيَجْلِسْ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَمُسْتَحَبٌّ لِمَنِ ابْتَدَأَ دُخُولَ الْمَسْجِدِ، وَلِمَنْ كَانَ مُقِيمًا فِيهِ أَنْ يَتَنَفَّلَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ.
فَأَمَّا إِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَدْ حَرُمَ عَلَى مَنْ فِي الْمَسْجِدِ أَنْ يَبْتَدِئَ بِصَلَاةِ النَّافِلَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي صلاة خففها وجلس، وَهَذَا إِجْمَاعٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] فإنها نَزَلَتْ فِي الْخُطْبَةِ، فَسَمَّى الْخُطْبَةَ قُرْآنًا، لِمَا يَتَضَمَّنُهَا مِنَ الْقُرْآنِ.
فَأَمَّا مَنِ ابْتَدَأَ دُخُولَ الْمَسْجِدِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَالْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَالسُّنَّةُ عِنْدَنَا أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، وَلَا يَزِيدَ عَلَيْهِمَا، تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ فِيمَنْ يَجْلِسُ مِنْهُ وَقَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ: لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْكَعَ وَالْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] وَالصَّلَاةُ تُضَادُّ الْإِنْصَاتَ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ دَخَلَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلَا صَلَاةَ وَلَا كَلَامَ حَتَّى يَفْرُغَ ".
قَالُوا: وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يَمْنَعُ مِنَ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنْهُ كَالْكَلَامِ قَالُوا: وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ حَضَرَ الْخُطْبَةَ كَانَ مَمْنُوعًا مِنَ الصَّلَاةِ كَالْجَالِسِ إِذَا أَتَى بِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ.
وَدَلِيلُنَا: مَا رَوَى أَبُو ذَرٍّ قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَالِسٌ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ بَيْنَ كَتِفَيَّ وَقَالَ لِي: " إِنَّ لِكُلِ شَيْءٍ تَحِيَّةً، وَتَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ أَنْ تُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ إِذَا دَخَلْتَ، قُمْ فَصَلِّ " فَكَانَ هَذَا عَلَى عُمُومِهِ.
وَرَوَى أَبُو سُفْيَانَ عَنْ جابر بن عبد الله أن سليك الْغَطَفَانِيَّ دَخَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَخْطُبُ، فَجَلَسَ فَقَالَ لَهُ: قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ تَجَوَّزْ فِيهِمَا.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمْعَةِ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلَا يَقْعُدْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ثُمَّ يَجْلِسْ ".
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ دَخَلَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَمَرْوَانُ يَخْطُبُ، فَقَامَ لِيَرْكَعَ، فَقَامَ إِلَيْهِ

(2/429)


الْأَحْرَاسُ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ قَائِمًا، فَلَمَّا فَرَغَ قِيلَ لَهُ: إِنَّ الْقَوْمَ هَمُّوا بِكَ، فَقَالَ مَا كُنْتُ لِأَدَعَهُمَا بَعْدَ شَيْءٍ رَأَيْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: وَمَا رَأَيْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ فَقَالَ: دَخَلَ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يخطب، وعليه هيئة بَذَّةٌ، وَقَدِ اسْتَتَرَ بِخِرْقَةٍ، فَقَالَ: قُمْ فَارْكَعْ، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ، فَأَلْقَوُا الثِّيَابَ، فَأَعْطَاهُ مِنْهَا ثَوْبَيْنِ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ حَثَّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَتَصَدَّقَ الرَّجُلُ بِأَحَدِ ثَوْبَيْهِ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقال ألا تروق إِلَى هَذَا.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا أَمَرَهُ بِالصَّلَاةِ لِيَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ إِذَا رَأَوْهُ.
قِيلَ: هَذَا فَاسِدٌ بِفِعْلِ رَاوِي الْحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَلِأَنَّ الأمر بالصدفة لَا يُبِيحُ فِعْلَ الْمَحْظُورِ.
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْآيَةِ فَمَخْصُوصٌ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَمَجْهُولٌ، وَإِنْ صَحَّ كَانَ مَخْصُوصًا
وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْجَالِسِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ إِنَّمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الدَّاخِلَ يَأْتِي بِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ فِي الْخُطْبَةِ الْأَوْلَى أَوِ الثَّانِيَةِ، فَإِذَا دَخَلَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنَ الْخُطْبَتَيْنِ وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْكَعَ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ ".

(مسألة)
: قال الشافعي رحمة الله تعالى: " وَيُنْصِتُ النَّاسُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
لَيْسَ يَخْتَلِفُ قَوْلُهُ فِي الْإِنْصَاتِ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي وُجُوبِهِ، فَلَهُ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ إنَّ الْإِنْصَاتَ وَاجِبٌ، فَمَنْ تَكَلَّمَ عَامِدًا كَانَ عَاصِيًا، وَمَنْ تَكَلَّمَ جَاهِلًا كَانَ لَاغِيًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] وَلرِوَايَةِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: إذ قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْتُ.
وَلِمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَالَ صَهْ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ فَقَدْ لَغَا، وَمَنْ لَغَا فَلَا جمعة له.

(2/430)


وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ دَخَلَ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَخْطُبُ فَجَلَسَ إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، فَكَلَّمَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، فَظَنَّ أَنَّهُ عَنْ مَوْجِدَةٍ، فَلَمَّا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ قَالَ مَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ: إِنْ تَكَلَّمْتَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلَا جُمْعَةَ لَكَ، فَدَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخْبَرَهُ بِهِ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: صدق أبي، أو قال أَطِعْ أُبَيًّا.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَنْ تَكَلَّمَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ كَانَ كَالْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا وَمَنْ قَالَ أَنْصِتْ فَلَا جُمُعَةَ لَهُ، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ عَلَى الْخَاطِبِ إِظْهَارُهَا إِلَّا وَتَعَلَقَّ عَلَيْهِمْ وُجُوبُ اسْتِمَاعِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا حَظَرَ عَلَى الشَّاهِدِ كِتْمَانَ الشَّهَادَةِ كَانَ ذَلِكَ عَلَمًا عَلَى إِيجَابِ اسْتِمَاعِهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ إنَّ الْإِنْصَاتَ مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَلَّمَ سُلَيْكًا وَلَوْ حَرُمَ عَلَيْهِ الْكَلَامُ لَمْ يَتَكَلَّمْ، وَإِذَا لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ الْكَلَامُ خَاطِبًا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمَأْمُومِ الْإِنْصَاتُ مُسْتَمِعًا، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث لجماعه من أَصْحَابَهُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى أبي الربيع بن أبي الحقيق وكان ألب عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بخيبر وَأَمَرَهُمْ بِقَتْلِهِ، فَرَجَعُوا وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَخْطُبُ، فَلَمَّا رَآهُمْ مُقْبِلِينَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَفْلَحَتِ الْوُجُوهُ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَوَجْهُكَ أَفْلَحُ. فَقَالَ: أَقَتَلْتُمُوهُ؟ قَالُوا نَعَمْ، فَقَالَ: أَرُونِي سَيْفَهُ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ، وَقَالَ: هَذَا طَعَامُهُ فِي ذُبَابِهِ.
وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا قام والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَخْطُبُ فَقَالَ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَا أَعْدَدْتَ لِقِيَامِ السَّاعَةِ؟ فَقَالَ لَا شَيْءَ وَاللَّهِ غَيْرَ أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ.
وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الإنصات لها لكان واجبا إِبْلَاغُهَا بِرَفْعِ الصَّوْتِ بِهَا وَاجِبًا، فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْإِمَامِ إِبْلَاغُهَا، لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمَأْمُومِينَ الْإِنْصَاتُ لَهَا، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَا يُفْسِدُهَا الْكَلَامُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُحَرَّمَ فِيهَا الْكَلَامُ كَالطَّوَافِ وَالصِّيَامِ.

(فَصْلٌ)
: وَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَأَوَّلُ زَمَانِ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ إِذَا ابْتَدَأَ الْإِمَامُ بِالْخُطْبَةِ، بِخِلَافِ الرُّكُوعِ الَّذِي يَحْرُمُ عِنْدَ ظُهُورِ الإمام.

(2/431)


وَقَالَ أبو حنيفة: يَحْرُمُ الْكَلَامُ عِنْدَ ظُهُورِ الْإِمَامِ كَالرُّكُوعِ.
قَالَ: لِأَنَّ الصَّلَاةَ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ، وَالْكَلَامُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ وَلَا طَاعَةٍ، فَإِذَا حَرُمَ الرُّكُوعُ عِنْدَ ظُهُورِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ كَانَ تَحْرِيمُ الْكَلَامِ عِنْدَ ظُهُورِهِ أَوْلَى.
وَدَلِيلُنَا: إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الْمَنْقُولُ مِنْ وَجْهَيْنِ: قَوْلٌ وَفِعْلٌ أَمَّا الْفِعْلُ: فَمَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرْكَعُونَ حَتَّى يَصْعَدَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمِنْبَرَ، فإذا صعد قطعوا الركوع، ويتكلمون حتى يبتدأ بِالْخُطْبَةِ فَإِذَا ابْتَدَأَ بِهَا قَطَعُوا الْكَلَامَ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ: فَمَا رُوِيَ عَنْهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا أَخَذَ الْإِمَامُ فِي الْكَلَامِ حَرُمَ الْكَلَامُ، وَلِأَنَّ الرُّكُوعَ لَا يُمْكِنُ قَطْعُهُ مَعَ الْخُطْبَةِ إِلَّا بَعْدَ تَمَامِهِ، فَقَدَّمَ تَحْرِيمَ الرُّكُوعِ لِيَكُونَ مَا بَيْنَ ظُهُورِ الْإِمَامِ وَخُطْبَتِهِ زَمَانُ تَمَامِ الرُّكُوعِ، وَالْكَلَامُ يُمْكِنُ قَطْعُهُ مَعَ الْخُطْبَةِ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ تَحْرِيمُهُ إِلَى زَمَانٍ يَتَقَدَّمُ الْخُطْبَةَ.
وَلَا فَرْقَ فِي تَحْرِيمِ الْكَلَامِ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَالْأَصَمِّ وَالسَّمِيعِ، كُلُّهُمْ فِي الْإِنْصَاتِ سَوَاءٌ، وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ: أَنْصِتُوا فَإِنَّ حَظَّ الْمُنْصِتِ الَّذِي لَمْ يَسْمَعْ كَحَظِّ الْمُنْصِتِ السامع والله أعلم.

(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَخْطُبُ الْإِمَامُ قَائِمًا خُطْبَتَيْنِ، يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا جَلْسَةً خَفِيفَةً، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا فَيَخْطُبُ جَالِسًا ولا بأس بالكلام ما لم يخطب ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. خُطْبَةُ الْجُمْعَةِ وَاجِبَةٌ، وَهِيَ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا، لَا يَصِحُّ أَدَاءُ الْجُمْعَةِ إِلَّا بِهَا، فَهُوَ مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ، كَافَّةً إِلَّا الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ فَإِنَّهُ شَذَّ عَنِ الْإِجْمَاعِ وَقَالَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ وَاجِبَةً، لِأَنَّ الْجُمْعَةَ قَدْ تَصِحُّ لِمَنْ لَمْ يَحْضُرِ الْخُطْبَةَ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمْ يَصِحَّ إِدْرَاكُ الْجُمْعَةِ إِلَّا بِهَا. وَهَذَا خَطَأٌ، وَيُوَضِّحُهُ إِجْمَاعُ مَنْ قَبْلَ الْحَسَنِ وَبَعْدَهُ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] فَكَانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ أَمْرَهُ بِالسَّعْيِ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ يَتَضَمَّنُ الْخُطْبَةَ والصلاة، فاقتضى أن يكون الأمر بها وَاجِبًا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الذِّكْرَ مُجْمَلٌ يَفْتَقِرُ إِلَى بَيَانٍ، وَقَدْ بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَلِكَ: بِأَنْ خَطَبَ خُطْبَتَيْنِ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَأَكَّدَهُ بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي ".
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَتَعَلَّقَ إِدْرَاكُ الْجُمْعَةِ بِحُضُورِهَا فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لَأَنَّ

(2/432)


الرَّكْعَتَيْنِ وَاجَبَتَانِ بِإِجْمَاعٍ، ثُمَّ لَا يَتَعَلَّقُ إِدْرَاكُ الْجُمْعَةِ بِهَا، لَوْ أَدْرَكَ رَكْعَةً صَحَّتْ لَهُ الْجُمْعَةُ، فَكَذَلِكَ الْخُطْبَةُ.

(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْخُطْبَةِ فَوُجُوبُهَا يَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: قَوْلٌ يَأْتِي ذِكْرُهُ وَتَفْصِيلُهُ.
وَالثَّانِي: فِعْلٌ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: قِيَامٌ فِي الْأُولَى، وَجِلْسَةٌ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا، وَقِيَامٌ فِي الثَّانِيَةِ إِلَى انْقِضَائِهَا، فَإِنْ تَرَكَ الْقِيَامَ فِي الْأُولَى أَوْ فِي الثَّانِيَةِ، أَوْ تَرَكَ الْجَلْسَةَ بَيْنَهُمَا، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ جمعة قال الشافعي رحمه الله: فلوا أَتَى بِالْقِيَامَيْنِ وَلَمْ يَجْلِسْ وَسَكَتَ لَمْ تُجْزِهِمُ الْجُمْعَةُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا تَفْتَقِرُ الْخُطْبَةُ إِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقِيَامَيْنِ وَالْجُلُوسِ، وَكَيْفَ مَا خَطَبَ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا أَجْزَأَهُ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ: بِأَنَّهُ ذِكْرٌ لِلصَّلَاةِ يَتَقَدَّمُهَا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ شَرْطِهِ الْقِيَامُ كَالْأَذَانِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَلْسَةَ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ بِأَنْ قَالَ: الْخُطْبَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى جَلْسَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: مُتَقَدِّمَةٌ وَالثَّانِيَةُ مُتَوَسِّطَةٌ، فَلَمَّا لَمْ تجب الأولى منهما لم تجب الثانية. وهذا خَطَأٌ. وَدَلِيلُنَا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} (الجمعة: 295) .
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمُ انْفَضُّوا عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَالِ قِيَامِهِ فِي الْخُطْبَةِ. فَاقْتَضَى أَنْ يكون القيام واجبا فيهما، ليستحقوا الذي بتركه فيه، وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَخْطُبُ الْخُطْبَتَيْنِ قَائِمًا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِجَلْسَةٍ.
وَرَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَخْطُبُ قَائِمًا، ثُمَّ يَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ قَائِمًا، وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَطَبَ قَاعِدًا فَقَدْ كَذَبَ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ صَلَاةٍ وَلِأَنَّ الْخُطْبَتَيْنِ أُقِيمَتَا مَقَامَ رَكْعَتَيْنِ، وَالْقِيَامُ مِنْ شَرْطِ الصَّلَاةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِ الْخُطْبَةِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْأَذَانِ: فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لَمْ يَكُنْ الْقِيَامُ فِيهِ وَاجِبًا، وَلَمَّا وَجَبَتِ الْخُطْبَةُ وَجَبَ الْقِيَامُ فِيهَا.
وَأَمَّا جَمْعُهُ بَيْنَ الْجَلْسَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ يُوجِبُ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ، وأبو

(2/433)


حنيفة يُسْقِطُ وُجُوبَهُمَا مَعًا، وَالصَّحِيحُ وُجُوبُ الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى، لِأَنَّ الْأُولَى لَيْسَتْ مِنَ الْخُطْبَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ جِلْسَةُ اسْتِرَاحَةٍ، وَالثَّانِيَةُ مِنَ الْخُطْبَةِ وأزيدت لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْقِيَامِ، فَكَانَتْ وَاجِبَةً كَالْجَلْسَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ.
وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّهُ لَمْ يقل بمذهب أبي حنيفة وغيره وحكى الطحاوي أنه لم يقل بمذهب الشافعي رحمة الله غَيْرُهُ.

(فَصْلٌ)
: فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا عَاجِزًا عَنِ الْقِيَامِ خَطَبَ جَالِسًا، وَفَصَلَ بَيْنَهُمَا بِسَكْتَةٍ بَدَلًا مِنَ الْجَلْسَةِ، فَإِنْ لَمْ يَسْكُتْ وَوَصَلَ الثَّانِيَةَ جَالِسًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: لَا يُجْزِئُهُ، لِأَنَّ هَذِهِ السَّكْتَةَ وَاجِبَةٌ، لِكَوْنِهَا بَدَلًا مِنْ جَلْسَةٍ وَاجِبَةٍ، وَمَنْ أَخَلَّ بِوَاجِبٍ فِي خُطْبَتِهِ لَمْ تُجْزِ الْجُمْعَةُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُجْزِئُهُ، لِأَنَّهُ قَدْ تَخَلَّلَ كَلَامَهُ سَكَتَاتٌ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ، فَلَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ فَخَطَبَ قَاعِدًا لَمْ تُجْزِهِ وَإِيَّاهُمْ إِذَا عَلِمُوا بِحَالِهِ. فَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا بحاله أجزائهم دُونَهُ. فَلَوْ خَطَبَ جَالِسًا وَذَكَرَ مَرَضًا يُعْجِزُهُ عَنِ الْقِيَامِ فَقَوْلُهُ مَقْبُولٌ، وَهُوَ عَلَى نَفْسِهِ مَأْمُونٌ، وَلَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا مَعَهُ الْجُمْعَةَ إِلَّا أَنْ يَعْلَمُوهُ قَادِرًا، وَيَعْتَقِدُوا خِلَافَ قَوْلِهِ، فَلَا يجوز لهم اتباعه.

(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُحَوِّلُ النَّاسُ وُجُوهَهُمْ إِلَى الْإِمَامِ، وَيَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ ".
وَهَذَا صَحِيحٌ. وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا ذَلِكَ لِمَنْ قَرُبَ مِنْهُ أَوْ بَعُدَ عَنْهُ اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ، وَلِأَنَّهُ مُقْبِلٌ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ مِنَ الْأَدَبِ إِقْبَالُهُمْ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ مَقْصُودَ الْخُطْبَةِ الْمَوْعِظَةُ وَالْوَصِيَّةُ، وَفِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ فَوَاتُ هَذَا الْمَعْنَى. وَيُخْتَارُ لِلْمُسْتَمِعِ أَنْ يجلس محتبيا.
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِذَا فَرَغَ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ يقرأ في الأولى بِأُمِّ الْقُرْآنِ يَبْتَدِئُهَا بِ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم " وَبِسُورَةِ الْجُمُعَةِ وَيَقْرَأُ فِي الثَّانِيَةِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَ " إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ " ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُصَلِّي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ويجهر الإمام بالقراءة ولا يقرأ من خلفه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ رَكْعَتَانِ مَفْرُوضَتَانِ لَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِمَا، وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهُمَا، لِلْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ، وَالْفِعْلِ الْمَحْكِيِّ، وَالْإِجْمَاعِ الْعَامِّ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْأُولَى بَعْدَ الْفَاتِحَةِ بِسُورَةِ الْجُمْعَةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ إِذَا جَاءَكَ

(2/434)


الْمُنَافِقُونَ، لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِذَلِكَ، وَلِأَخْذِ الصَّحَابَةِ بِهِ وَلِأَنَّ فِي الْأُولَى تَرْغِيبًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَفِي الثَّانِيَةِ تَحْذِيرًا لِلْمُنَافِقِينَ.
فَإِذَا قَرَأَ فِي الْأُولَى بِسَبِّحْ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِالْغَاشِيَةِ جَازَ، وَقَدْ رَوَى النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقْرَأُ بِهِمَا فِي الْجُمْعَةِ وَالْعِيدَيْنِ. وَالْأُولَى أولى، وبما قرأ جاز.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا أُحِبُّ أَنْ يُخَالِفَ تَرْتِيبَ الْمُصْحَفِ فِيمَا يَقْرَأُهُ مِنَ السُّورَتَيْنِ.
وَيَجْهَرُ الْإِمَامُ بِالْقِرَاءَةِ، لِمَا روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ إِلَّا الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ " وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مَوْقُوفًا.
فَأَمَّا المأمومين فأحد قوليه فيهم: أنهم ينصتون ولا يقرأون والقول الثاني: وهو الجديد أنهم يقرأون الْفَاتِحَةَ لَا غَيْرَ وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ.

(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " مَتَى دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ الْإِمَامُ مِنَ الْجُمُعَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّهَا ظُهْرًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ إِذَا أَحْرَمَ الْإِمَامُ بِصَلَاةِ الْجُمْعَةِ فِي وَقْتِهَا، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الْعَصْرِ قَبْلَ سَلَامِهِ مِنْهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُتِمَّهَا جُمْعَةً، لَكِنْ يُتِمُّهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا بِتَحْرِيمِ الْجُمْعَةِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ يَجُوزُ أَنْ يُتِمَّهَا جُمْعَةً إِذَا دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْنِفَهَا فِيهِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ يَجُوزُ أَنْ يُتِمَّهَا جُمْعَةً، وَيَجُوزَ أَنْ يَسْتَأْنِفَهَا فِيهِ.
وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة قَدْ بَطَلَتِ الصَّلَاةُ بِدُخُولِ وَقْتِ الْعَصْرِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتِمَّهَا ظُهْرًا وَلَا جُمْعَةً.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا ".
قَالَ: وَلِأَنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ كَمَا أَنَّ الْوَقْتَ شَرْطٌ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَأْتِيَ بِبَعْضِ الْجُمْعَةِ مَعَ الْعَدَدِ وَبَاقِيهَا بِلَا عَدَدٍ جَازَ أَنْ يَأْتِيَ بِبَعْضِهَا فِي الْوَقْتِ وَبِبَاقِيهَا فِي خَارِجِ الْوَقْتِ. والدلالة

(2/435)


عَلَيْهِ: هُوَ أَنَّهُ وَقْتٌ يَحِلُّ فِيهِ أَدَاءُ الْعَصْرِ بِكُلِّ حَالٍ فَلَمْ يَجُزْ أَدَاءُ الْجُمْعَةِ فِيهِ، أَصْلُهُ: إِذَا أَرَادَ اسْتِئْنَافَ الْجُمْعَةِ فِيهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَقْتٍ لَمْ يَصِحَّ فِيهِ كُلُّ الْجُمْعَةِ لَمْ يَصْحَّ فِيهِ جُزْءٌ مِنْهَا، قِيَاسًا عَلَى الزَّوَالِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ: فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الْجُمْعَةِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْعَدَدِ: فَإِنْ قَاسَهُ عَلَى الْمَأْمُومِ إِذَا أَدْرَكَ رَكْعَةً فَإِنَّمَا جَازَ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَى الْجُمْعَةِ لِأَدَاءِ الْجُمْعَةِ بِالْعَدَدِ الْكَامِلِ، فَكَانَ بَالِغًا لَهُمَا، وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَمْ يُؤَدِّ الْجُمْعَةَ فِي وَقْتِهَا، فَلَمْ يَجُزِ الْبِنَاءُ عَلَيْهَا، وَإِنْ قَاسَهُ عَلَى الْإِمَامِ قُلْنَا فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَبْنِي عَلَى الظُّهْرِ، فَعَلَى هَذَا قَدِ اسْتَوَيَا.
وَالثَّانِي: يَبْنِي عَلَى الْجُمْعَةِ فَعَلَى هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الِاحْتِرَازَ مِنَ انْفِضَاضِ الْعَدَدِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَلَمْ يَكُنْ مُفَرِّطًا فِي فَوَاتِهِ، فَجَازَ أَنْ يُتِمَّهَا جُمْعَةً، وَالِاحْتِرَازُ مِنْ خُرُوجِ الْوَقْتِ مُمْكِنٌ، فَكَانَ مُفَرِّطًا فِي فَوَاتِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُتِمَّهَا جُمْعَةً.

(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ يَبْنِي ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنْ وَقْتَ الظُّهْرِ مماذج لِوَقْتِ الْعَصْرِ، فَلِذَلِكَ جَوَّزَ اسْتِئْنَافَ الْجُمْعَةِ فِيهِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ، فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ مِنْ نَصِّ قَوْلِهِ بِأَنْ قَالَ: بِأَنَّهَا تَحْرِيمَةٌ أَوْجَبَتِ الْجُمْعَةَ، فَلَمْ يَجُزْ بِنَاءُ الظُّهْرِ عَلَيْهَا، أَصْلُهُ إِذَا كَانَ الْوَقْتُ بَاقِيًا، قَالَ: وَلِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ، لَيْسَتْ إِحْدَاهُمَا هِيَ الْأُخْرَى وَلَا بَعْضُهَا، بِدَلَالَةِ أَنَّ الْجُمْعَةَ يُجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا، وَتُخْتَصُّ بِشَرَائِطَ لَا يُخْتَصُّ الظُّهْرُ بِهَا، وَإِذَا صَحَّ أَنَّهُمَا صَلَاتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ لَمْ يَجُزْ بِنَاءُ أَحَدِهِمَا عَلَى تَحْرِيمَةِ الْأُخْرَى، كَالصُّبْحِ وَالظُّهْرِ.
وَهَذَا خَطَأٌ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: أَنَّهُمَا صَلَاتَانِ يَسْقُطُ فَرْضُ أَحَدِهِمَا بِفِعْلِ الْأُخْرَى، فَجَازَ أَنْ يُبْنَى التَّمَامُ مِنْهُمَا عَلَى الْمَقْصُورِ، أَصْلُهُ إِذَا أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ مُسَافِرًا ثُمَّ صَلَّى مُقِيمًا، وَلِأَنَّ الْجُمْعَةَ ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ بِشَرَائِطَ فَوَجَبَ إِذَا انْخَرَمَ بَعْضُ شَرَائِطِهَا أَنْ لَا تَبْطُلَ، وَتَعُودَ إِلَى حُكْمِ أَصْلِهَا أَرْبَعًا، كَمَا أَنَّ صَلَاةَ السَّفَرِ إِذَا انْخَرَمَ بَعْضُ شَرَائِطِهَا لَمْ تَبْطُلْ، وَعَادَتْ إِلَى حُكْمِ أَصْلِهَا أَرْبَعًا، وَلِأَنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ كَمَا أَنَّ الْوَقْتَ شَرْطٌ، فَلَمَّا لَمْ تَبْطُلِ الْجُمْعَةُ بِفَقْدِ أَحَدِهِمَا، وَهُوَ الْعَدَدُ إِذَا نَقَصَ، لَمْ تَبْطُلْ بِفَقْدِ الْآخَرِ، وَهُوَ الْوَقْتُ إِذَا خَرَجَ وَإِذَا لَمْ تَبْطُلْ لَمْ يَصِحَّ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَى الْجُمْعَةِ لِأَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْوَقْتِ قَضَاءٌ، وَالْجُمْعَةُ لَا تُقْضَى.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ إِذَا كَانَ الْوَقْتُ بَاقِيًا: فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِئْنَافُ الْجُمْعَةِ فِيهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الظُّهْرِ، وَلَمَّا لَمْ يَجُزِ اسْتِئْنَافُ الْجُمْعَةِ بَعْدَ الْوَقْتِ جَازَ الْبِنَاءُ عَلَى الظُّهْرِ.

(2/436)


وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُمَا صَلَاتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ: فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَانِعٍ مِنْ بِنَاءِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْأُخْرَى كَصَلَاةِ السَّفَرِ.

(فَصْلٌ)
: إِذَا شَكَّ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ هَلْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الْعَصْرِ أَمْ لَا؟ بَنَى عَلَى الْجُمْعَةِ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الْيَقِينِ.
وَلَوْ طَرَأَ الشَّكُّ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا لَمْ تَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ، كَمَنْ تَيَقَّنَ الطُّهْرَ ثُمَّ شَكَّ فِي الحدث والله أعلم.

(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ومن أدرك مع الإمام ركعة بسجدتين أتمهما جُمُعَةً وَإِنْ تَرَكَ سَجْدَةً فَلَمْ يَدْرِ أَمِنَ الَّتِي أَدْرَكَ أَمِ الْأُخْرَى حَسَبَهَا رَكْعَةً وَأَتَمَّهَا ظهرا لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة " ومعنى قوله إن لم تفته ومن لم تفته صلى ركعتين وأقلها ركعة بسجدتيها ".
قال الماوردي: وهذا كما قال. قَالَ إِذَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الْجُمْعَةِ فَقَدْ أَدْرَكَ بِهَا الْجُمْعَةَ فَيَأْتِي بِرَكْعَةٍ أُخْرَى وَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ أَدْرَكَ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ لَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ، وَأَتَمَّهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا، هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الزُّهْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وزفر، ومحمد بن الحسن.
وَذُكِرَ عَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ وَمَكْحُولٍ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ إِلَّا بِإِدْرَاكِ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ بِدُونِ الرَّكْعَةِ، حَتَّى لَوْ أَدْرَكَ مَعَهُ الْإِحْرَامَ قَبْلَ سَلَامِهِ بَنَى عَلَى الْجُمْعَةِ، وَبِهِ قَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ استدلالا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا " فَوَجَبَ أَنْ يَقْضِيَ مَا فَاتَهُ لِحُصُولِ مَا أَدْرَكَهُ.
قَالُوا: وَلِأَنَّهُ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي حَالٍ هُوَ فِيهَا بَاقٍ عَلَى الْجُمْعَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُدْرِكًا لَهَا كَالرَّكْعَةِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ تَعَيَّنَ فَرْضُهُ بِالْإِتْمَامِ فَإِنَّ إِدْرَاكَ آخِرِ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ كَإِدْرَاكِ أَوَّلِهَا، أَصْلُهُ الْمُسَافِرُ خَلْفَ الْمُقِيمِ يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ بِإِدْرَاكِ آخِرِ الصَّلَاةِ، كَمَا يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ بَادَرَاكِ أَوَّلِهَا.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: مَا رَوَاهُ يَاسِينُ بْنُ معاذ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي

(2/437)


هُرَيْرَةَ قَالَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك الْجُمُعَةَ وَمَنْ أَدْرَكَ أَقَلَّ مِنْهَا صَلَّاهَا ظُهْرًا ".
وَرَوَى ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ رَكْعَتَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً فَلْيُضِفْ إِلَيْهَا أُخْرَى، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ رَكْعَةً فَلْيُصَلِّ أَرْبَعًا ". وَلِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ مِنَ الْجُمْعَةِ مَا يُعْتَدُّ بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ، أَصْلُهُ الْإِمَامُ إِذَا انْفَضُّوا عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَةً. وَقَالَ أبو حنيفة - وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالِنَا -: يَبْنِي عَلَى الظُّهْرِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا " فَهُوَ أَنْ يُقَالَ وَقَدْ رُوِيَ " وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا " فَإِنْ كَانَ الْقَضَاءُ حُجَّةً عَلَيْنَا فَالتَّمَامُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ، فَيَسْقُطَانِ جَمِيعًا، أَوْ يُسْتَعْمَلَانِ مَعًا، فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَاقْضُوا " إِذَا أَدْرَكُوا رَكْعَةً، وَ " أَتِمُّوا " إِذَا أَدْرَكُوا دُونَ الرَّكْعَةِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرَّكْعَةِ: فَالْمَعْنَى فِي إِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ: أَنَّهَا مِمَّا يُعْتَدُّ بِهِ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى صَلَاةِ الْمُسَافِرِ خَلْفَ الْمُقِيمِ فَفِيهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّمَامَ خَلْفَ للمقيم لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْجَمَاعَةِ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ إِدْرَاكُ مَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي جَمَاعَةٍ، وَالْجُمْعَةُ مِنْ شَرْطِهَا الْجَمَاعَةُ، فَاعْتُبِرَ فِي إِدْرَاكِهَا إِدْرَاكُ مَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي جَمَاعَةٍ.
وَالثَّانِي أَنَّ الْمُسَافِرَ خَلْفَ الْمُقِيمِ يَنْتَقِلُ مِنْ إِسْقَاطٍ إِلَى إِيجَابٍ، وَمِنْ نُقْصَانٍ إِلَى كَمَالٍ، فَكَانَ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ فِي الْإِدْرَاكِ سَوَاءً، كَإِدْرَاكِ آخِرِ الْوَقْتِ، وَفِي الْجُمْعَةِ يَنْتَقِلُ مِنْ إِيجَابٍ إِلَى إِسْقَاطٍ، وَمِنْ كَمَالٍ إِلَى نُقْصَانٍ، فَلَمْ يَنْتَقِلْ إِلَّا بِشَيْءٍ كَامِلٍ فَسَقَطَ مَا قَالُوهُ.

(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ إِدْرَاكَ الْجُمْعَةِ يَكُونُ بِرَكْعَةٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُدْرِكَهُ قَارِئًا فِي قِيَامِ الثَّانِيَةِ أَوْ رَاكِعًا فِيهَا، فِي أَنَّهُ يَكُونُ مُدْرِكًا لِرَكْعَةٍ يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ.
فَأَمَّا إِنْ أَدْرَكَهُ رَافِعًا مِنْ رُكُوعِ الثَّانِيَةِ فَهُوَ غَيْرُ مُدْرِكٍ لِلْجُمْعَةِ، وَلَا يُعْتَدُّ لَهُ بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ صَلَّى ظُهْرًا أَرْبَعًا.
فَلَوْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مَعَ الْإِمَامِ، وَقَامَ فَأَتَى بِرَكْعَةٍ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ، ثُمَّ تَيَقَّنَ أَنَّهُ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ إِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَرَكَهَا مِنَ الثَّانِيَةِ أَتَى بِهَا، وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ، وَسَلَّمَ مِنْ جُمْعَةٍ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَرَكَهَا مِنَ الْأُولَى، كَانَتِ الْأُولَى مَجْبُورَةً بِسَجْدَةٍ مِنَ الثَّانِيَةِ، وَتُبْطُلُ الثَّانِيَةُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ تَمَامَ أَرْبَعٍ، وَيَسْجُدَ لِلسَّهْوِ وَيُسَلِّمَ مِنْ ظهر.
وإن شك في تَرَكَهَا مِنَ الْأُولَى أَوِ الثَّانِيَةِ؟ عَمِلَ عَلَى أَسْوَأِ أَحْوَالِهِ، وَأَسْوَأُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَهَا مِنَ الْأُولَى فَيَجْبُرَهَا بِالثَّانِيَةِ وَيَبْنِيَ عَلَى الظهر. والله أعلم.

(2/438)


(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَحُكِيَ فِي أَدَاءِ الْخُطْبَةِ اسْتِوَاءُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي تَلِي الْمُسْتَرَاحَ قَائِمًا ثُمَّ سلم وجلس على المستراح حتى فرغ المؤذنون ثم قام فخطب الأولى ثُمَّ جَلَسَ ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ الثَّانِيَةَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
يُخْتَارُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْتِيَ الْجُمْعَةَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ الصَّلَاةُ، وَلَا يُبَكِّرَ، اتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَاقْتِدَاءً بِالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَيَدْخُلَ الْمَسْجِدَ مَنْ أَقْرَبِ أَبْوَابِهِ إِلَى الْمِنْبَرِ، فَإِذَا دَخَلَ تَوَجَّهَ نَحْوَ مِنْبَرِهِ مِنْ غَيْرِ رُكُوعٍ وَلَا تَنَفُّلٍ، وَيُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ الْمِنْبَرُ مِنَ الْقِبْلَةِ عَلَى يَمِينِ مُسْتَقْبِلِهَا وَيَسَارِ مُسْتَدْبِرِهَا فَإِذَا انتهى إليه رقا خَاشِعًا مُسْتَكِينًا، غَيْرَ عَجِلٍ وَلَا مُبَادِرٍ، فَإِنْ كان المنبر صغيرا وقف منه على الدار الَّتِي تَلِي الْمُسْتَرَاحَ وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا وَقَفَ على الدرجة السابقة، وَقَدْ كَانَ مِنْبَرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَلَاثَ دَرَجٍ فَكَانَ يَقِفُ مِنْهُ عَلَى الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ الَّتِي تَلِي الْمُسْتَرَاحَ، ثُمَّ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقِفُ عَلَى الثَّانِيَةِ، دُونَ مَوْقِفِ، رَسُولِ اللَّهِ بِدَرَجَةٍ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَوَقَفَ عَلَى الْأُولَى، دُونَ مَوْقِفِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِدَرَجَةٍ، ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَصَعِدَ إِلَى الثَّانِيَةِ، وَوَقَفَ عَلَيْهَا، وَهُوَ مَوْقِفُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ جَاءَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَجَعَ إِلَى الثَّالِثَةِ فَوَقَفَ عَلَيْهَا، وَهِيَ مَوْقِفُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
ثُمَّ إِنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمَ قَلَعَ الْمِنْبَرَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ وَزَادَ فِيهِ سِتَّ دَرَجٍ، فَصَارَ عَدَدُ دَرَجِهِ تِسْعًا، وَكَانَ الْخُلَفَاءُ يَرْتَقُونَ إِلَى الدَّرَجَةِ السَّابِعَةِ، السِّتَّةُ الَّتِي زَادَهَا مَرْوَانُ، وَالسَّابِعَةُ هِيَ أَوَّلُ مَرَاتِبِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ.
وَأَيْنَ وَقَفَ مِنَ الْمِنْبَرِ جَازَ، فَإِذَا انْتَهَى الْإِمَامُ إِلَى مَوْقِفِهِ اسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةَ، وَاسْتَقْبَلَ النَّاسَ، وَسَلَّمَ قَائِمًا، ثُمَّ جَلَسَ.
وَقَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة: السَّلَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ غَيْرُ مَسْنُونٍ. وَهَذَا خَطَأٌ، لِرِوَايَةِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا دَنَا مِنَ الْمِنْبَرِ سَلَّمَ، ثُمَّ صَعِدَ وَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّاسِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ جَلَسَ، فَإِذَا جَلَسَ أَخَذَ الْمُؤَذِّنُونَ فِي الْأَذَانِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأُحِبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ وَاحِدٌ، فَإِذَا أَذَّنَ جَمَاعَةٌ جَازَ.
وَهَذِهِ الْجَلْسَةُ مُسْتَحَبَّةٌ وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً.
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ أَوْجَبَهَا.

(2/439)


وَعَنْ أبي حنيفة: أَنَّهُ مَنَعَ مِنْهَا، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَصَحُّ.
فَإِذَا فَرَغَ الْمُؤَذِّنُ مِنَ الْأَذَانِ قَامَ فَخَطَبَ قَائِمًا خُطْبَتَيْنِ، يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا جَلْسَةً خَفِيفَةً.
فَإِنْ خَطَبَ عَلَى غَيْرِ مِنْبَرٍ جَازَ، لَكِنْ يَقِفُ مِنَ الْقِبْلَةِ عَلَى يَسَارِ مُسْتَقْبَلِهَا وَيَمِينِ مُسْتَدْبِرِهَا، بِخِلَافِ خُطْبَتِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَأَيْنَ وقف جاز.

(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وروي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا خَطَبَ اعْتَمَدَ عَلَى عَنَزَتِهِ اعْتِمَادًا وقيل على قوس (قال) وأجب أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَحْبَبْتُ أَنْ يُسَكِّنَ جَسَدَهُ وَيَدَيْهِ إِمَّا بِأَنْ يَجْعَلَ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى أَوْ يُقِرَّهُمَا فِي مَوْضِعِهِمَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا لَهُ الِاعْتِمَادَ عَلَى شَيْءٍ لِرِوَايَةِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا خَطَبَ الْعِيدَ اعْتَمَدَ عَلَى قَوْسٍ أَوْ عَصًا. لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْكَنُ لِرُوعِهِ، وَأَهْدَأُ لِجَوَارِحِهِ، وَأَمَدُّ لِصَوْتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَأَسْدَلَ يَدَيْهِ أَوْ حَطَّهُمَا تَحْتَ صَدْرِهِ جَازَ.
فَأَمَّا لُبْسُ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ فَكِلَاهُمَا جَائِزٌ، قَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَلْبَسُ الْبَيَاضَ، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ الْأَرْبَعَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يعتم بعمامة سوداء، ويرتدي بردا أسحمي، وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ السَّوَادَ بَنُو الْعَبَّاسِ فِي خِلَافَتِهِمْ شِعَارًا لَهُمْ، وَلِأَنَّ الرَّايَةَ الَّتِي عُقِدَتْ لِلْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ كَانَتْ سَوْدَاءَ، وَكَانَتْ رَايَاتُ الْأَنْصَارِ صَفْرَاءَ فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَلْبَسَ السَّوَادَ إِذَا كَانَ السُّلْطَانُ لَهُ مُؤْثِرًا لِمَا فِي تَرْكِهِ من مخالفته وتغير شعاره.
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيُقْبِلُ بِوَجْهِهِ قَصْدَ وَجْهِهِ، وَلَا يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. من سنة الخطيب أَنْ يَسْتَدْبِرَ بِهَا الْقِبْلَةَ، وَيَسْتَقْبِلَ بِهَا النَّاسَ، لِرِوَايَةِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا خَطَبَ يَسْتَقْبِلُنَا بِوَجْهِهِ وَنَسْتَقْبِلُهُ بِوُجُوهِنَا، وَلِأَنَّهُ يَعِظُهُمْ بِخُطْبَتِهِ، وَيُوصِيهِمْ بِتَقْوَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَمُرَاقِبَتِهِ، وكان إقباله

(2/440)


عَلَيْهِمْ أَبْلَغَ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا وَاسْتِقْبَالُهُمْ بِوَجْهِهِ أَبْلَغَ فِي الِاسْتِمَاعِ لَهَا، وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْصِدَ بوجهه قصد وجهه، ولا يلتفت يمينا ولا شِمَالًا وَلَا يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُهُ أَئِمَّةُ هَذَا الْوَقْتِ، مِنَ الِالْتِفَاتِ يَمِينًا وَشِمَالًا فِي الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لِيَكُونَ مُتَّبِعًا لِلسُّنَّةِ، آخِذًا بِحُسْنِ الْأَدَبِ، لِأَنَّ فِي إِعْرَاضِهِ عَمَّنْ أَقْبَلَ إِلَيْهِ، وَقَصَدَ بِوَجْهِهِ إِلَيْهِ، قُبْحَ عِشْرَةٍ، وَسُوءَ أَدَبٍ، وَلِأَنَّهُ إِذَا أَقْبَلَ بِوَجْهِهِ قَصْدَ وَجْهِهِ عَمَّ الْحَاضِرِينَ سَمَاعُهُ، وإذا التفت يمينا قصر عن سماعه يُسْرَتِهِ، وَإِذَا الْتَفَتَ شِمَالًا قَصَّرَ عَنْ سَمَاعِ يَمْنَتِهِ.
فَإِنْ خَالَفَ السُّنَّةَ فَأَعْرَضَ عَنْهُمْ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، أَجَزَاهُمْ وَإِيَّاهُ بِحُصُولِ تَبْلِيغِهَا، وَالْغَرَضِ الْمَقْصُودِ منها كالأذان الذي من سنته استقبال القبلة به، وَيُجْزِي وَإِنِ اسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةَ بِهِ.

(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وأجب أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ حَتَّى يُسْمَعَ وَأَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ مُتَرَسِّلًا مُبِيَّنًا مُعْرَبًا بِغَيْرِ مَا يُشْبِهُ الْعِيَّ وَغَيْرِ التَّمْطِيطِ وَتَقْطِيعِ الْكَلَامِ وَمَدِّهِ، وَلَا مَا يُسْتَنْكَرُ مِنْهُ وَلَا الْعَجَلَةِ فِيهِ عَلَى الإفهام ولا ترك الإفصاح بالقصد وليكن كلامه قصيرا بليغا جامعا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: الْمَقْصُودُ بِالْخُطْبَةِ شيئان: الموعظة، والإبلاغ، فينبغي للإمام أن يرفع صوته بالخطبة ليحصل الإبلاغ، وَيَقْصِدُ بِمَوْعِظَتِهِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: إِيرَادُ الْمَعْنَى الصَّحِيحِ، وَاخْتِيَارُ اللَّفْظِ الْفَصِيحِ وَاجْتِنَابُ مَا يَقْدَحُ فِي فَهْمِ السَّامِعِ، مِنْ تَمْطِيطِ الْكَلَامِ وَمَدِّهِ، أَوِ الْعَجَلَةِ فِيهِ عَنْ إِبَانَةِ لَفْظِهِ، أَوْ رَكْبِ مَا يُسْتَنْكَرُ مِنْ غَرِيبِ الْكَلَامِ وَإِعْرَابِهِ. وَلَا يُطِيلُ إِطَالَةً تُضْجِرُ، وَلَا يُقَصِّرُ تَقْصِيرًا يُبْتِرُ، وَيَعْتَمِدُ فِي كُلِّ زَمَانٍ عَلَى ذِكْرِ مَا يَلِيقُ بِالْحَالِ بَعْدَ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى، ويصلي على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي خُطْبَتِهِ، فَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَطَبَ فَقَالَ: إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمُدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَسْتَنْصِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ غَوَى حَتَّى يَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ. وَقَالَ فِي خُطْبَةٍ أُخْرَى عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا عَرَضٌ حَاضِرٌ، يَأْكُلُ مِنْهُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، أَلَا وَإِنَّ الْآخِرَةَ أَجَلٌ صَادِقٌ، يقضي فيها ملك قادر، ألا وَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ بِحَذَافِيرِهِ فِي الْجَنَّةِ، أَلَا وإن الشر كله بحذافيره في النار ألا فاعلموا وَأَنْتُمْ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى حَذَرٍ، اعْلَمُوا أَنَّكُمْ مَعْرُوضُونَ عَلَى أَعْمَالِكُمْ، فَمَنْ يَعْمَلْ مثقال ذرة خير يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَأَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ خُطْبَةٍ مِنْهُمَا أن

(2/441)


يحمد الله ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ويوصي بتقوى الله وَطَاعَتِهِ وَيَقْرَأَ آيَةً فِي الْأُولَى وَيَحْمَدَ اللَّهَ ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ويوصي بتقوى الله ويدعو في الآخرة لأن معقولا أن الخطبة جمع بعض الكلام من وجوه إلى بعض وهذا من أوجزه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. أَقَلُّ مَا يُجْزِي مِنَ الْخُطْبَةِ، وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا دُونَهُ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: حَمْدُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالصَّلَاةُ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَالْوَصِيَّةُ بِتَقْوَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقِرَاءَةُ آيَةٍ.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا ذَكَرَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَوْ سُبْحَانَ اللَّهِ، أَوْ اللَّهُ أَكْبَرُ، فَقَدْ أَجْزَأَهُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (الجمعة: 9)
فَكَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ " ذِكْرِ اللَّهِ " سُبْحَانَهُ الْخُطْبَةَ، فَاقْتَضَى الْعُمُومُ جَوَازَ أَيِّ ذِكْرٍ كَانَ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ " فَسَمَّاهُ خَطِيبًا بِهَذَا الْقَدْرِ. قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَعِدَ الْمِنْبَرَ لِيَخْطُبَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، ثُمَّ أُرْتِجَ عَلَيْهِ. فَنَزَلَ دَرَجَةً وَقَالَ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَا يُعِدَّانِ لِهَذَا الْمَقَامِ مَقَالَةً، وَإِنِّي مَا أَعْدَدْتُ لَهُ مَقَالًا، وَإِنَّكُمْ إِلَى إِمَامٍ فعال، أحوج منكم إلى إمام قوال، وسأعد مَا أَقُولُ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ، ثُمَّ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَصَلَّى الْجُمْعَةَ، فَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصحابة. ولأن أي ما ذكرناه غير مجز وَلِأَنَّهُ ذُكِرَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ، فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِيَ مِنْهُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الذِّكْرِ كَتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: فِعْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْوَارِدُ عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: " فَاسْعَوْا إلى ذكر الله " سُبْحَانَهُ، وَفِعْلُهُ الْمَنْقُولُ خُطْبَةٌ بِجَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَصَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمْ يَجُزْ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا دُونَهُ، وَلِأَنَّ الْخُطْبَةَ عِنْدَ الْعَرَبِ وَالْمُتَعَارَفِ فِي الشرع إنما هي جمع كلام اختلف أَلْفَاظُهُ وَمَعَانِيهِ، وَهُوَ بِمُجَرَّدِ الذِّكْرِ لَا يَكُونُ خَطِيبًا عُرْفًا وَلَا شَرْعًا، وَلِأَنَّ الْجُمْعَةَ ظُهْرٌ مَقْصُورٌ بِشَرَائِطَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ فِي شَرَائِطِهَا إِلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا فِعْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَوْ مَا يُجْمَعُ عَلَى كَوْنِهِ شَرْطًا، وَمَا ذَكَرْنَاهُ ثَابِتٌ بِهِمَا جَمِيعًا، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ لِصَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُجْزِيَ مِنْهَا مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الذِّكْرِ كَالْأَذَانِ.
الْجَوَابُ: أَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الذِّكْرَ فِيهَا مُجْمَلٌ. أَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " بئس الخطيب

(2/442)


أَنْتَ " فَحُجَّةٌ لَنَا، لِأَنَّهُ نَفَى أَنْ يَكُونَ خَطِيبًا، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ لِيَصِحَّ اقْتِرَانُ الِاسْمِ بِهِ، كما نهى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ فَسَمَّاهُ نِكَاحًا لِيُلْحِقَ الْفَسَادَ بِهِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَفِيهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أُرْتِجَ عَلَيْهِ بَعْدَ إِتْيَانِهِ بِالْوَاجِبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي خُطْبَةِ الْبَيْعَةِ، وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ: فَلَا يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ بِهِمَا، فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْإِحْرَامِ: انْعِقَادُ الصَّلَاةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْخُطْبَةِ: الْمَوْعِظَةُ، وَبِمُجَرَّدِ الذِّكْرِ لَا يَكُونُ وَاعِظًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الذِّكْرَ لَا يُجْزِئُ فَلَا بُدَّ فِي الْخُطْبَةِ الْأُولَى مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ وَهِيَ: حَمْدُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالصَّلَاةُ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَالْوَصِيَّةُ بِتَقْوَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقِرَاءَةُ آيَةٍ. وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ أَقَلُّ الْخُطْبَةِ كَأَقْصَرِ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ، وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ: إِنْ حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى، وَصَلَّى عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَوَعَظَ، أَجْزَأَهُ. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَقَاوِيلَ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَكْثَرُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْإِمْلَاءِ مُجْمَلٌ وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْأُمِّ مُفَسَّرٌ. وَأَمَّا الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ فَتَجْمَعُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ أَيْضًا: حَمْدُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالصَّلَاةُ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَالْوَصِيَّةُ بِتَقْوَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالدُّعَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَدَلًا مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَى.
وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ خُطْبَةَ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَتْ تَجْمَعُ الْحَمْدَ، وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والوعظ، والقراءة في احديهما وَالدُّعَاءَ فِي الْأُخْرَى، فَاقْتَصَرْنَا مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَقَلِّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْأَخِيرَةِ بِآيَةٍ، لِتَكُونَ مُمَاثِلَةً لِلْأُولَى، وَيَقُولَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ، فَإِنْ قَرَأَ فِي الْأُولَى وَتَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأَخِيرَةِ جَازَ، وَلَوْ قَرَأَ فِي الْأَخِيرَةِ وَتَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُولَى جَازَ، فَقَدْ غَلِطَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَقَالَ: لَا يُجْزِئُهُ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْمَبْسُوطِ عَلَى جَوَازِهِ فَقَالَ: وَلَوْ قَرَأَ فِي الْأُولَى أَوْ قَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى أَوْ قَرَأَ بَيْنَ ظَهَرَانَيْ ذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً أَجْزَأَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ قَرَأَ قَبْلَ الْخُطْبَةِ أَوْ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا أَجْزَأَهُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَدَّمَ بَعْضَ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى بَعْضٍ أَجْزَأَهُ، لَأَنَّ التَّرْتِيبَ فِيهَا غَيْرُ وَاجِبٍ. نَصَّ عليه الشافعي.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الطَّهَارَةُ لِلْخُطْبَةِ فَمَأْمُورٌ بِهَا، فَإِنْ خَطَبَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ فَقَدْ أَسَاءَ وَفِي إجزائه قولان:

(2/443)


أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ يُجْزِئُهُ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْقَدِيمِ: " وَإِذَا أَحْدَثَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ أَحْبَبْتُ أَنْ يَنْزِلَ، وَيَتَطَهَّرَ، وَيَعُودَ لِيَبْنِيَ عَلَى خُطْبَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْزِلْ وَمَضَى عَلَى خُطْبَتِهِ فَقَدْ أَسَاءَ وَأَجْزَأَهُ ". وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّهُ ذِكْرٌ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهَا، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ الطَّهَارَةُ مِنْ شَرْطِهِ كَالْأَذَانِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ لَا تُجْزِئُهُ إِلَّا بِطَهَارَةٍ، لِأَنَّ الْخُطْبَتَيْنِ أُقِيمَا مَقَامَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ كَانَتِ الطَّهَارَةُ مِنْ شَرْطِ الرَّكْعَتَيْنِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مِنْ شَرْطِ الْخُطْبَتَيْنِ.

(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا حُصِرَ الْإِمَامُ لُقِّنَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَالْإِمَامُ إِذَا حُصِرَ فِي خُطْبَتِهِ وَأُرْتِجَ عَلَيْهِ فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ إِذَا فُتِحَ عَلَيْهِ زَالَ حَصْرُهُ وَمَضَى فِي خُطْبَتِهِ أَوْ فِي قِرَاءَتِهِ فَهَذَا يُلَقَّنُ، وَيُفْتَحُ عَلَيْهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ فَأُرْتِجَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ أَفِيكُمْ أُبَيٌّ " قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ هَلَّا ذَكَّرْتَنِي، فَقَالَ مَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ يَرَى أَبَيًّا يُلَقِّنُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وروي عن علي ابن أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ " إِذَا اسْتَطْعَمَكُمُ الْإِمَامُ فَأَطْعِمُوهُ ". قِيلَ مَعْنَاهُ: إِذَا أُرْتِجَ عَلَى الْإِمَامِ فَلَقِّنُوهُ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ مِمَّنْ إِذَا فُتِحَ عَلَيْهِ ازْدَادَ حَصْرُهُ، وَإِذَا تُرِكَ اسْتَدْرَكَ غَلَطَهُ، فَهَذَا يُتْرَكُ وَلَا يُلَقَّنُ، وَهُوَ مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السلام " إذا حصر الإمام فلا تلقنه ".
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا قَرَأَ سَجْدَةً فَنَزَلَ فَسَجَدَ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ كَمَا لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ (قَالَ) واجب أن يقرأ في الآخرة بآية ثم يقول أستغفر الله لي ولكم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَالْأَوْلَى بِالْإِمَامِ أَنْ لَا يَقْرَأَ فِي خُطْبَتِهِ آيَةَ سَجْدَةٍ، فَإِنْ قَرَأَ وَأَمْكَنَهُ السُّجُودُ عَلَى مِنْبَرِهِ فَعَلَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ السُّجُودُ عَلَى مِنْبَرِهِ فَإِنْ نَزَلَ وَسَجَدَ جَازَ، وَإِنْ تَرَكَ السُّجُودَ وَمَضَى فِي خُطْبَتِهِ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَطَبَ وَسَجَدَ، ثُمَّ قَرَأَ بَعْدَ ذَلِكَ سَجْدَةً فَتَأَهَّبَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ فَلَمْ يَسْجُدْ، وَقَالَ: عَلَى رِسْلِكُمْ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَكْتُبْهَا عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ نَشَاءَ.

(2/444)


فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْأَمْرَيْنِ فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَنْزِلَ لِلسُّجُودِ، لِأَنَّ السُّجُودَ سُنَّةٌ وَالْخُطْبَةَ وَاجِبَةٌ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ الْوَاجِبُ اشْتِغَالًا بِالسُّنَّةِ.

(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ سَلَّمَ رَجُلٌ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ كَرِهْتُهُ وَرَأَيْتُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ لِأَنَّ الرَّدَّ فَرْضٌ وينبغي تشميت العاطس لأنها سنة وقال في القديم لا يشمته ولا يرد السلام إلا إشارة (قال المزني) رحمه الله قلت: أنا الجديد أولى به لأن الرد فرض والصمت سنة والفرض أولى من السنة وهو يقول إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كلم قتله ابن أبي الحقيق في الخطبة وكلم سليكا الغطفاني وهو يقول يتكلم الرجل فيما يعنيه ويقول لو كانت الخطبة صلاة ما تكلم فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قال المزني) وفي هذا دليل على وما وصفت، وبالله التوفيق ".
قال الماوردي: وهذا صحيح. قد ذكرنا حكم الْإِنْصَاتَ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ وَأَنَّهُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَاجِبٌ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ اسْتِحْبَابٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَحُكْمُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ فِي وُجُوبِ الْإِنْصَاتِ أَوِ اسْتِحْبَابِهِ سَوَاءٌ. نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ.
فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فَالْكَلَامُ كُلُّهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: مَا يَلْزَمُهُ فِي غَيْرِهِ.
وَالثَّانِي: مَا يَعْنِيهِ فِي نَفْسِهِ.
وَالثَّالِثُ: مَا لَا يَلْزَمُهُ فِي غَيْرِهِ وَلَا يَعْنِيهِ فِي نَفْسِهِ.
فَأَمَّا مَا يَلْزَمُهُ فِي غَيْرِهِ: كَإِنْذَارِ ضَرِيرٍ قَدْ كَادَ أَنْ يَتَرَدَّى فِي بِئْرٍ أَوِ الْإِنْذَارِ مِنْ سَبُعٍ أَوْ حَرِيقٍ.
وَأَمَّا مَا يَعْنِيهِ فِي نَفْسِهِ: كَالرَّجُلِ الَّذِي قَامَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يَخْطُبُ فَقَالَ هَلَكَتِ الْمَوَاشِي، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَنَا.
فَهَذَانِ الضَّرْبَانِ غَيْرُ مُحَرَّمَيْنِ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ لَا يَخْتَلِفُ.
فَأَمَّا مَا لَا يَلْزَمُهُ فِي غَيْرِهِ وَلَا يَعْنِيهِ فِي نَفْسِهِ: كَالْمُحَادَثَةِ وَالِاسْتِخْبَارِ فَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ الْكَلَامِ، وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنَّهْيِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
فَأَمَّا رَدُّ السَّلَامِ وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الرَّدَّ وَالتَّشْمِيتَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ.

(2/445)


وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّدَّ وَالتَّشْمِيتَ حَرَامٌ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ لَكِنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ إِشَارَةً بِيَدِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْكَلَامُ كَانَ مُحَرَّمًا وَرَدُّ السَّلَامِ وَاجِبٌ، قِيلَ: لِأَنَّ الْإِنْصَاتَ وَاجِبٌ عَلَى الْأَعْيَانِ، وَالرَّدَّ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَفُرُوضُ الْأَعْيَانِ أَوْكَدُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ رَدَّ السَّلَامِ مُحَرَّمٌ وَتَشْمِيتَ الْعَاطِسِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، لِأَنَّ السَّلَامَ وَضَعَهُ فَيَ غَيْرِ مَوْضِعِهِ بِاخْتِيَارِهِ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ الرَّدَّ عَلَيْهِ، وَالْعَاطِسَ عَطَسَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَلَمْ يَكُنْ مَنْسُوبًا إِلَى وَضْعِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فاستحق التشميت.

(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " والجمعة خلف كل إمام صَلَّاهَا مِنْ أَمِيرٍ وَمَأْمُورٍ وَمُتَغَلِّبٍ عَلَى بَلَدٍ وَغَيْرِ أَمِيرٍ جَائِزَةٌ وَخَلْفَ عَبْدٍ وَمُسَافِرٍ كَمَا تُجْزِئُ الصَّلَاةُ فِي غَيْرِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
صَلَاةُ الْجُمْعَةِ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى حُضُورِ السُّلْطَانِ، وَمَنْ أَدَّاهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِشَرَائِطِهَا انْعَقَدَتْ بِهِ، وَذَهَبَ أبو حنيفة إِلَى أَنَّ الْجُمْعَةَ لَا تَنْعَقِدُ إِلَّا بِحُضُورِ السُّلْطَانِ أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ مِنْ قَاضٍ أَوْ شُرْطِيٍّ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُقِيمُهَا بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَنْ يُوَلِّيهِ إِقَامَتَهَا مِنْ قِبَلِهِ، وَبِهِ جَرَى الْعَمَلُ فِي عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَعَهْدِ خُلَفَائِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَكَانَ ذَلِكَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: " فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ " قَالُوا: وَلِأَنَّهُ فَرْضٌ يَلْزَمُ الْكَافَّةَ لَا يُقِيمُهُ إِلَّا وَاحِدٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقِيمَهُ إِلَّا السُّلْطَانُ كَالْحُدُودِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَوِ اسْتَوَى السُّلْطَانُ وَغَيْرُهُ فِي جَوَازِ إِقَامَتِهَا لَاسْتَوَيَا فِي الِاخْتِيَارِ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى إِمَامَةِ السُّلْطَانِ أَوْلَى دَلِيلٍ عَلَى عَدَمِ تَسَاوِيهِمَا فِي جَوَازِ الْإِمَامَةِ.
وَدَلِيلُنَا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ " وَقِيلَ إِنَّ عليا بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى بِالنَّاسِ الْجُمْعَةَ وَالْعِيدَ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَحْصُورٌ، وَلَمْ يَكُنْ حِينَ صَلَّاهَا إِمَامًا وَلَا أَمِيرًا، وَقَدْ أَخْرَجَ النَّاسُ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ عَنِ الْمَدِينَةِ وَكَانَ أَمِيرًا عَلَيْهَا، وَقَدَّمُوا أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ، فَصَلَّى بِهِمُ الْجُمْعَةَ وَأَخْرَجُوا الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ عَنِ الْكُوفَةِ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَيْهَا، وَقَدَّمُوا ابْنَ مَسْعُودٍ، فَصَلَّى بِهِمُ الْجُمْعَةَ فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى جَوَازِهَا بِغَيْرِ سُلْطَانٍ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ عَلَى الْبَدَنِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَفْتَقِرَ إِقَامَتُهَا إِلَى سُلْطَانٍ، كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ مِنَ الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ إِقَامَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بنفسه: فلذلك بَيَانٌ لِأَفْعَالِهَا، لِأَنَّ الْبَيَانَ إِذَا وَقَعَ بِالْفِعْلِ لَمْ تُعْتَبَرْ فِيهِ صِفَاتُ الْفَاعِلِ، وَلَوِ اعْتُبِرَ كَوْنُهُ سُلْطَانًا لَاعْتُبِرَ كَوْنُهُ نَبِيًّا.
وَقِيَاسُهُمْ عَلَى الْحُدُودِ لَا يَصِحُّ، لِمَا يُتَخَوَّفُ مِنَ التَّحَامُلِ فِي الْحُدُودِ لِطَلَبِ التَّشَفِّي،

(2/446)


وَذَلِكَ مَأْمُونٌ فِي الْجُمْعَةِ، عَلَى أَنَّ الْجُمْعَةَ قَدِ اسْتَوَى فِي وُجُوبِهَا الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْحُدُودِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَمَّا كَانَتْ جُمُعَتُهُ أَوْلَى دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَصِحُّ إِلَّا بِهِ: فَغَلَطٌ، لِأَنَّنَا قَدَّمْنَا جُمُعَتَهُ تَرْجِيحًا مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى، فَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى نَفْيِ الْجَوَازِ مِنْ غَيْرِهِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ إِتْيَانَهَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ سُلْطَانٍ فَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ " خَلْفَ كُلِّ أَمِيرٍ " أَرَادَ بِهِ: الْإِمَامَ، وَقَوْلُهُ " أَوْ مَأْمُورٍ " أَرَادَ بِهِ مَنْ يُقِيمُهَا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَقَوْلُهُ " أَوْ مُتَغَلِّبٍ عَلَى بَلَدٍ " أَرَادَ بِهِ: الْخَارِجِيَّ وَمَنْ تَغَلَّبَ عَلَى الْإِمَامِ الْعَادِلِ، وَقَوْلُهُ " وَغَيْرِ أَمِيرٍ " أَرَادَ بِهِ: الْعَامِّيَّ الَّذِي لَيْسَ بِإِمَامٍ وَلَا نَائِبٍ عَنْ إِمَامٍ ولا متغلب عليه.

(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْجُمْعَةُ خَلْفَ الْعَبْدِ فَجَائِزٌ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَصِحُّ الْجُمْعَةُ خَلْفَ الْعَبْدِ لِعَدَمِ كَمَالِهِ. وَدَلِيلُنَا: مَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدًا كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْجُمْعَةَ وَالصَّلَوَاتِ بِالرَّبَذَةِ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمْ يُنْكِرْ إِمَامَتَهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا لِلرِّجَالِ فِي غَيْرِ الْجُمْعَةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا لَهُمْ فِي الْجُمْعَةِ كَالْحُرِّ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الصَّبِيُّ الْمُرَاهِقُ فَفِي جَوَازِ الِائْتِمَامِ بِهِ فِي الْجُمْعَةِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْإِمْلَاءِ يَجُوزُ الِائْتِمَامُ بِهِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " يؤمكم أقرأكم ".
وَالثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ لَا يَجُوزُ الِائْتِمَامُ بِهِ فِي الْجُمْعَةِ وَإِنْ جَازَتْ فِي غَيْرِ الْجُمْعَةِ، لِوُجُوبِ الْجَمَاعَةِ لَهَا، فَلَمْ تَصِحَّ إِقَامَتُهَا إِلَّا بِكَامِلٍ يَلْزَمُهُ الْفَرْضُ. فَإِذَا جَازَتْ إِمَامَةُ الْعَبْدِ وَإِمَامَةُ الصَّبِيِّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَمْ تَنْعَقِدِ الْجُمْعَةُ إِلَّا بِأَرْبَعِينَ أَحْرَارٍ بَالِغِينَ سِوَى الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ، وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ حُرًّا بَالِغًا انْعَقَدَتْ بِأَرْبَعِينَ رَجُلًا مَعَ الْإِمَامِ.
وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا تَصِحُّ الْجُمْعَةُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ زَائِدًا عَلَى الْأَرْبَعِينَ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْصُوصُهُ في جميع كتبه خلاف هذا.

(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يُجَمَّعُ فِي مِصْرٍ وَإِنْ عَظُمَ وَكَثُرَتْ مَسَاجِدُهُ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ مِنْهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. لَا تَنْعَقِدُ جُمْعَتَانِ فِي مِصْرٍ، وَلَا يَجُوزُ إِقَامَتُهَا إِلَّا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وأبي حنيفة.
وَقَالَ أبو يوسف: إِذَا كَانَ الْبَلَدُ حَارَتَيْنِ انْعَقَدَتْ فِيهِ جُمْعَتَانِ. وَقَالَ محمد بن الحسن: تَنْعَقِدُ جُمْعَتَانِ فِي كُلِّ بَلَدٍ وَلَا تَنْعَقِدُ ثَلَاثُ جُمَعٍ. وَأَجْرَوْا ذَلِكَ مُجْرَى صَلَاةِ الْعِيدِ. وهذا غلط.

(2/447)


وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: أَنَّ الْجُمْعَةَ وَشَرَائِطَهَا مُرْتَبِطٌ بِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَحْدُودٌ فِيهِ، فَلَا يُتَجَاوَزُ حُكْمُهَا عَنْ شَرْطِهِ وَفِعْلِهِ، فَكَانَ مِمَّا وَصَفَ بِهِ الْجُمْعَةَ وَجَعَلَهُ شَرْطًا لَهَا أَنْ عَطَّلَ لَهَا الْجَمَاعَاتِ وَأَقَامَهَا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَعِنْدَ انْتِشَارِ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَتِهِمْ ثُمَّ جَرَى عَلَيْهِ الْخُلَفَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بَعْدَهُ، وَلَوْ جَازَتْ فِي مَوْضِعَيْنِ لَأَبَانَ ذَلِكَ وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً إِمَّا بِقَوْلِهِ أَوْ بِفِعْلِهِ، وَلِأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَصِحَّ انْعِقَادُهَا فِي كل مسجد إلحاقا بصلاة الجماعة، أولا يَصِحَّ انْعِقَادُهَا إِلَّا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ اخْتِصَاصًا لَهَا بِتَعْطِيلِ الْجَمَاعَةِ إِذْ لَيْسَ أَصْلٌ ثَابِتٌ تُرَدُّ إِلَيْهِ، فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ انْعِقَادُهَا فِي كُلِّ مَسْجِدٍ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ انْعِقَادُهَا إِلَّا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ.
وَلِأَنَّهُ مِصْرٌ انْعَقَدَتْ فِيهِ الْجُمْعَةُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ فِيهِ غَيْرُهَا كَالْجُمْعَةِ الثَّالِثَةِ. وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالسَّعْيِ عِنْدَ إِقَامَتِهَا، فَلَوْ جَازَ إِقَامَتُهَا فِي مَوْضِعَيْنِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ السَّعْيُ إِلَيْهِمَا، إِذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِالسَّعْيِ إِلَيْهِ مِنَ الْآخَرِ، وَسَعْيُهُ إِلَيْهِمَا مُسْتَحِيلٌ، وَإِلَى أَحَدِهِمَا غَيْرُ جَائِزٍ، فَدَلَّ عَلَى فَسَادِهِ.
وَلِأَنَّ الْجُمْعَةَ مِنَ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ الَّتِي شُرِطَ فِيهَا الْعَدَدُ وَالْجَمَاعَةُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَنْعَقِدَ فِي مَوْضِعَيْنِ، كَمَا لَا تَنْعَقِدُ الْبَيْعَةُ لِإِمَامَيْنِ.

(فَصْلٌ)
: إِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا فَالْبِلَادُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: مَا كَانَ مُدُنًا مُتَقَارِبَةً وَقُرًى مُتَدَانِيَةً اتَّصَلَتْ بُنْيَانُهَا وَاجْتَمَعَتْ مَسَاكِنُهَا كَبَغْدَادَ فَيَجُوزُ أَنْ تُقَامَ فِيهِ الْجُمْعَةُ فِي مَوْضِعَيْنِ وَأَكْثَرَ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ أَهْلِهَا، وَقَدْ دَخَلَ الشَّافِعِيُّ بَغْدَادَ فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي مِنَ الْبِلَادِ: مَا كَانَ مِصْرًا لَمْ يُضَمَّ إِلَيْهِ غَيْرُهُ، وَيُمْكِنُ جَمِيعَهُمْ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ كَالْكُوفَةِ فَهَذَا الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ تُقَامَ الْجُمْعَةُ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ مِنَ الْبِلَادِ: مَا كَانَ مِصْرًا لَمْ يُضَمَّ إِلَيْهِ غَيْرُهُ وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ جَمِيعَهُمْ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنْهُ لِسَعَتِهِ وَكَثْرَةِ أَهْلِهِ كَالْبَصْرَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِقَامَةِ الْجُمْعَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْهُ عَلَى وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِمَا سَبَقَ مِنَ الدَّلَالَةِ، وَيُصَلِّي النَّاسُ إِذَا ضَاقَ بِهِمْ الشَّوَارِعِ وَالْأَفْنِيَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَفْتَى بِهِ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ تَجُوزُ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ فِي مَوَاضِعَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجُزْ لِأَهْلِ هَذَا الْمِصْرِ الْعَظِيمِ أَنْ

(2/448)


يُصَلُّوا إِلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ لَطَالَ اتِّصَالُ الصُّفُوفِ، وَلَخَرَجَ عَنْ حَدِّ الْمُتَعَارَفِ، وَخَفِيَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ الْإِمَامِ، لِأَنَّ الْإِمَامَ إِنْ كَبَّرَ عَلَى الْعَادَةِ لَمْ يَصِلِ التَّكْبِيرُ إِلَى آخِرِهِمْ إِلَّا بَعْدَ تَكْبِيرِهِ لِرُكْنٍ ثَانٍ، فَيَلْتَبِسُ عَلَيْهِمُ التَّكْبِيرُ، وَتَخْتَلِطُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ، وَإِنْ كَبَّرَ وَانْتَظَرَ بُلُوغَ التَّكْبِيرِ إِلَى آخِرِهِمْ طَالَ الزَّمَانُ، وَتَفَاحَشَ الِانْتِظَارُ، فَدَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى إِقَامَتِهَا فِي مَوَاضِعَ. فَزَعَمَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ الْجَوِينَ غَيْرُ الْبَصْرَةِ، وَأَنَّهَا كَانَتْ فِي الْأَصْلِ دَسْكَرَةً وَأُضِيفَتْ إِلَى الْبَصْرَةِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ جَازَ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ بِهَا وجها واحدا والله أعلم.

(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَأَيُّهَا جُمِّعَ فِيهِ فَبَدَأَ بِهَا بَعْدَ الزَّوَالِ فَهِيَ الْجُمُعَةُ وَمَا بَعْدَهَا فَإِنَّمَا هِيَ ظُهْرٌ يصلونها أربعا لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ومن بعده صلوا في مسجده وحول المدينة مساجد لا نعلم أحدا منهم جمع إلا فيه ولو جاز في مسجدين لجاز في مساجد العشائر ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
إِذَا أُقِيمَتْ جمعتان في مصر واحدا قَدْ مُنِعَ أَهْلُهُ مِنْ إِقَامَةِ جُمْعَتَيْنِ فِيهِ فلهما حالان:
أحدهما: أن تتفق أَوْصَافِهِمَا. وَالثَّانِي: أَنْ تَخْتَلِفَ.
فَإِنِ اتَّفَقَتْ أَوْصَافُهُمَا فَكَانَا سَوَاءً فِي الْكَثْرَةِ، وَإِذْنِ السُّلْطَانِ، أَوْ حُضُورِ نَائِبٍ عَنْهُ، أَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمُ السُّلْطَانُ، وَلَا حَضَرَ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ، فَهُمَا حِينَئِذٍ فِي الْأَوْصَافِ سَوَاءٌ، فَيُعْتَبَرُ السَّبْقُ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا فِي السَّبْقِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَا فِيهِ سَوَاءً.
وَالثَّانِي: أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَيَتَعَيَّنَ
وَالثَّالِثُ: أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ أَحَدَهُمْ قَدْ سَبَقَ وَقَدْ أُشْكِلَ
وَالرَّابِعُ: أَنْ لَا يُعْلَمَ هَلْ صَلَّيَا مَعًا أَوْ كَانَ أَحَدُهُمْ أَسْبَقَ.
فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَسْتَوِيَا فَلَا يَسْبِقُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ: فَقَدْ بَطَلَتِ الْجُمْعَتَانِ مَعًا، وَعَلَيْهِمْ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ قَوْلًا وَاحِدًا لَا يَخْتَلِفُ، وَإِنَّمَا بَطَلَتَا مَعًا لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ إِقَامَتُهَا وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ أَبْطَلْنَاهُمَا مَعًا، كَمَنْ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ فِي حَالِهِ.
وَالْقِسْمِ الثَّانِي: أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا وَيَتَعَيَّنَ فَالْجُمْعَةُ لِلسَّابِقِ، وَيُعِيدُ الْآخِرُ ظُهْرًا أَرْبَعًا، لِأَنَّ انْعِقَادَ الْجُمْعَةِ لِلسَّابِقِ يَمْنَعُ مِنَ انْعِقَادِهَا لِلثَّانِي، كَالْوَلِيَّيْنِ إِذَا أَنْكَحَا وَسَبَقَ بِالْعَقْدِ أَحَدُهُمَا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا وَيُشْكِلَ السَّابِقُ مِنْهُمَا فَعَلَيْهِمَا جَمِيعًا إِعَادَةُ الصَّلَاةِ،

(2/449)


وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِمَا لِحُصُولِ الْجُمْعَةِ لَهُمَا فِي الظَّاهِرِ، فَلَمْ يَجُزْ إِبْطَالُهَا بِالشَّكِّ الطَّارِئِ وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الْيَقِينَ ثُبُوتُ الْجُمْعَةِ فِي الذِّمَّةِ، وَالشَّكَّ طَارِئٌ فِي سُقُوطِهَا عَنِ الذِّمَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفَرْضُ بَاقِيًا لَا يَسْقُطُ إِلَّا بِيَقِينٍ.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِعَادَةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِمَا فَهَلْ يُعِيدَانِ جُمْعَةً أَوْ ظُهْرًا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي كِتَابِ الْأُمِّ:
أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِمْ إِعَادَةُ الْجُمْعَةِ، لِأَنَّ فَرْضَهَا لَمْ يَسْقُطْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِيَ: عَلَيْهِمْ إِعَادَةُ الظُّهْرِ، لِأَنَّ الْجُمْعَةَ قَدْ أُقِيمَتْ مَرَّةً، وَلَيْسَ جَهْلُنَا بِأَيِّهِمَا الْجُمْعَةُ جَهْلًا بِأَنَّ فِيهِمَا جُمْعَةً، وَإِذَا أُقِيمَتِ الْجُمْعَةُ مَرَّةً وَاحِدَةً لَمْ يَجُزْ إِقَامَتُهَا ثَانِيَةً.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يُشْكِلَ الْأَمْرُ فِيهِمَا، فَلَا يُعْلَمُ هَلْ صَلَّيَا مَعًا أَوْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَعَلَيْهِمَا جَمِيعًا إِعَادَةُ الْجُمْعَةِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا قَدْ صَلَّيَا مَعًا، فَلَا تنعقد الجمعة لواحد منهما.

(فصل)
: وإذا اختلف أَوْصَافُهُمَا فَكَانَ أَحَدُهُمَا أَعْظَمَ لِحُضُورِ السُّلْطَانِ أَوْ مَنْ يَسْتَنِيبُهُ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا فِي السَّبْقِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَسْبِقَ الْأَعْظَمُ ثُمَّ يَتْلُوهُ الْأَصْغَرُ: فَالْجُمْعَةُ لِلْأَعْظَمِ السَّابِقِ، وَيُعِيدُ الْأَصْغَرُ ظُهْرًا أَرْبَعًا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِيَ: أَنْ يَسْبِقَ الْأَصْغَرُ ثُمَّ يَتْلُوهُ الْأَعْظَمُ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجُمْعَةَ لِلْأَصْغَرِ السَّابِقِ، لِأَنَّ السُّلْطَانَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي انْعِقَادِهَا، فَلَمْ يَكُنْ حُضُورُهُ مُؤَثِّرًا، وَوَجَبَ اعْتِدَادُ الْجُمْعَةِ لِلْأَسْبَقِ مِنْهُمَا، فَعَلَى هَذَا يُعِيدُ أَهْلُ الْأَعْظَمِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْجُمْعَةَ للأعظم وَإِنْ كَانَ مَسْبُوقًا، لِأَنَّ فِي تَصْحِيحِ جُمْعَةِ الْأَصْغَرِ إِذَا كَانَ سَابِقًا افْتِيَاتًا عَلَى السُّلْطَانِ، وَتَعْطِيلًا لَجُمْعَتِهِ، وَإِشْكَالًا عَلَى النَّاسِ فِي قَصْدِ مَا تَصِحُّ بِهِ الْجُمْعَةُ، وَلَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى إِفْسَادِ الصَّلَاةِ بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى السَّبْقِ طَمَعًا فِي حُصُولِ الْجُمْعَةِ، وَلَكَانَ ذَلِكَ مُؤَدِّيًا إِلَى أَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَ أَرْبَعُونَ فَأَقَامُوا الْجُمْعَةَ فِي مَسْجِدٍ لَا تَظْهَرُ إِقَامَتُهَا ظُهُورًا عَامًّا أَنْ يَمْتَنِعَ السُّلْطَانُ وَبَاقِي النَّاسِ مِنْ إِقَامَتِهَا، فَلِهَذِهِ الْأُمُورِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْفَسَادِ وَجَبَ تَصْحِيحُ جُمْعَةِ الْأَعْظَمِ وَإِنْ كَانَ مَسْبُوقًا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُصَلِّيَاهَا مَعًا وَلَا يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجُمْعَةَ لِلْأَعْظَمِ وَعَلَى أَهْلِ الْأَصْغَرِ أَنْ يُعِيدُوا ظُهْرًا أَرْبَعًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ لَا جُمْعَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَعَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَأْنِفُوا إِقَامَتَهَا فِيهِ ثَانِيَةً.

(2/450)


الْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا وَيُشْكِلَ: فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ الْجُمْعَةُ لِلْأَعْظَمِ إِذَا اعْتَبَرْنَا حُضُورَ السُّلْطَانِ دُونَ السَّبْقِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا جُمْعَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا اعْتَبَرْنَا السَّبْقَ، فَعَلَى هَذَا تَلْزَمُهُمُ الْإِعَادَةُ، قَوْلًا وَاحِدًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا قَدْ صليا معا.

(فصل)
: فأما ما يعتبر في السَّبْقِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ وَذَكَرُهُ الْمُزَنِيُّ فِي " جَامِعِهِ " إِنَّ اعْتِبَارَ السَّبْقِ: بِالْإِحْرَامِ، فَأَيُّهُمَا أَحْرَمَ أَوَّلًا كَانَ سَابِقًا وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ أَسْبَقَ سَلَامًا، لِأَنَّ الْجُمْعَةَ تَنْعَقِدُ بِالْإِحْرَامِ، وَإِذَا انْعَقَدَتْ بِهِ مَنَعَتْ مِنَ انْعِقَادِ غَيْرِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالسَّلَامِ، فَأَيُّهُمَا سَلَّمَ أَوَّلًا كَانَ سَابِقًا وَإِنْ كَانَ الْأَخِيرُ أَسْبَقَ إِحْرَامًا، لِأَنَّ سُقُوطَ الْفُرُوضِ يَكُونُ بِصِحَّةِ الْأَدَاءِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْفَرَاغِ دُونَ الْإِحْرَامِ. والأول أصح.

(2/451)


(باب التبكير إلى الجمعة)
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أنبأنا سفيان بن عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهُرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أقرن وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قرب بيضة قال فإذا خرج الْإِمَامُ حَضَرَتِ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَالْبُكُورُ إِلَى الْجُمْعَةِ مُسْتَحَبٌّ بِدَلِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61] وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ بَكَّرَ وَابْتَكَرَ وَغَسَلَ وَاغْتَسَلَ وَغَدَا وَانْتَظَرَ وَأَنْصَتَ وَلَمْ يَلْغُ كَانَتْ كَفَارَةً لَهُ مِنَ الْجُمُعَةِ " وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " بَكَّرَ " يَعْنِي فِي الزَّمَانِ. وَ " ابْتَكَرَ " يَعْنِي فِي الْمَكَانِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ حَضَرَتِ الْمَلَائِكَةُ يَكْتُبُونَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، حَتَّى إِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ طُوِيَتِ الصُّحُفُ " يَعْنِي الصُّحُفَ الَّتِي يُكْتَبُ فِيهَا، وَلِأَنَّهُ إِذَا بَكَّرَ مُنْتَظِرًا لِلصَّلَاةِ كَانَ فِي حُكْمِ الْمُصَلِّينَ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِنَّ أَحَدَكُمْ فِي الصَّلَاةِ مَا كَانَ يَعْمِدُ لِلصَّلَاةِ " فَلِذَلِكَ اخْتَرْنَا لَهُ الْبُكُورَ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَوَّلِ زَمَانِ الْبُكُورِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَهُوَ أَوَّلُ الْيَوْمِ الثَّانِي.
وَالثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ، لِيَكُونَ مَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ زَمَانَ غُسْلٍ وَتَأَهُّبٍ.
فَإِذَا بَكَّرَ فِي الزَّمَانِ فَيُخْتَارُ أَنْ يُبَكِّرَ فِي الْمَكَانِ، فَيَجْلِسَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ، قَالَ

(2/452)


الشَّافِعِيُّ: وَلَا فَضْلَ لِلْمَقْصُورَةِ عَلَى غَيْرِهَا، لِأَنَّهُ شَيْءٌ مُحْدَثٌ، قِيلَ إِنَّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَهُ مُعَاوِيَةُ وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا الصَّفَّ الْأَوَّلَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى " وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النداء والصف الأول ثم لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا ".
وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " أن الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ عَلَى الْإِمَامِ ثُمَّ عَلَى الصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ ثُمَّ عَلَى الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الذين يلونهم ".

(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَأُحِبُّ التَّبْكِيرَ إِلَيْهَا وَأَنْ لَا تُؤْتَى إِلَّا مَشْيًا لَا يَزِيدُ عَلَى سَجِيَّةِ مِشْيَتِهِ وَرُكُوبِهِ وَلَا يُشَبِّكُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ لِقُوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَإِنَّ أَحَدَكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ يَعْمِدُ إِلَى الصَّلَاةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. يُكْرَهُ الرُّكُوبُ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَيُخْتَارُ إِتْيَانُهَا مَشْيًا، لِمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ قَالَ: " مَا رَكِبَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي عِيدٍ وَلَا جِنَازَةٍ قَطُّ ". وَلِمَا فِيهِ مِنْ أَذَى النَّاسِ وَمُزَاحَمَتِهِمْ، وَيُخْتَارُ إِذَا مَشَى أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى سَجِيَّتِهِ فِي مِشْيَتِهِ، وَقَدْ حُكِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَسْعَى إِلَى الْجُمْعَةِ سَعْيًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْعَوْا إلى ذكر الله} وَهَذَا عِنْدَ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ، وَهُوَ عِنْدَنَا مَكْرُوهٌ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ إِلَى الْجُمُعَةِ وَتَسْعَوْنَ سَعْيًا فَأْتُوهَا وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا ". وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِجَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ: " ائْتِ الْجُمُعَةَ عَلَى هِينَتِكَ " فَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْرَؤُهَا: فَامْضُوا إلى ذكر الله، ومن قرأها " فاسعوا " قَالَ أَرَادَ بِهِ الْقَصْدَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] وَقَالَ قيس بن الأسلت:
(أسعى على جل بَنِي مَالِكٍ ... كُلُّ امْرِئٍ فِي شَأْنِهِ سَاعِي)

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ كَانَ مَعْنَاهُ السَّعْيُ لَسَعَيْتُ حَتَّى يَسْقُطَ رِدَائِي. وَيُخْتَارُ لِمَنْ تَوَجَّهَ إِلَى الْجُمْعَةِ أَنْ لَا يَشْتَغِلَ بِغَيْرِ قَصْدِهِ، وَلَا يَعْبَثَ بِيَدِهِ، وَلَا يُشَبِّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا انْتَظَرَ أَحَدُكُمُ الصَّلَاةَ فَلَا يُشَبِّكْ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ يَعْمِدُ إِلَيْهَا ".

(2/453)


(باب الهيئة إلى الجمعة)
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ السَّبَّاقِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي جُمْعَةٍ مِنَ الْجُمَعِ " يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ إِنَّ هَذَا يَوْمٌ جَعَلَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِيدَا لِلْمُسْلِمِينَ فَاغْتَسِلُوا وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طِيبٌ فَلَا يَضُرُّهُ أَنْ يَمَسَّ مِنْهُ وَعَلَيْكُمْ بالسواك ". (قال الشافعي) رحمه الله تعالى وَأُحِبُّ أَنْ يَتَنَظَّفَ بِغُسْلٍ وَأَخْذِ شَعْرٍ وَظُفْرٍ وَعِلَاجٍ لِمَا يَقْطَعُ تَغْيِيرَ الرِّيحِ مِنْ جَمِيعِ جسده وسواك ويستحسن ثيابه ما قدر عليه ويطيبها اتباعا للسنة ولئلا يؤذي أحدا قاربه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. قَدْ ذَكَرْنَا اسْتِحْبَابَ غُسْلِ الْجُمْعَةِ وَالْبُكُورِ إِلَيْهَا لَكِنْ يُخْتَارُ ذَلِكَ بَعْدَ حَلْقِ الشَّعْرِ، وَتَقْلِيمِ الْأَظَافِرِ وَتَنْظِيفِ الْجَسَدِ مِنَ الْوَسَخِ، وَعِلَاجِ مَا يَقْطَعُ الرَّائِحَةَ والمؤذية مِنَ الْجَسَدِ، وَالسِّوَاكِ، وَمَسِّ الطِّيبِ، وَلُبْسِ أَنْظَفِ الثِّيَابِ لِيَكُونَ عَلَى أَحْسَنِ هَيْئَةٍ وَأَجْمَلِ زِيٍّ، لِمَا رَوَى الشَّافِعِيُّ مِنَ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، وَلِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَاسْتَاكَ، وَلَبِسَ أَحَسَنَ ثِيَابِهِ، وَمَسَّ طِيبًا إِنْ وَجَدَهُ، وَأَتَى الْجُمُعَةَ، وَلَمْ يَتَخَطَّ رِقَابَ النَّاسِ، وَأَنْصَتَ حَتَى يَخْرُجَ الْإِمَامُ، كَانَتْ كَفَارَتُهُ مِنَ الْجُمْعَةِ إِلَى الَّتِي تَلِيهَا ".
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 16] .

(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَأَحَبُّ مَا يُلْبَسُ إِلَيَّ الْبَيَاضُ فَإِنْ جَاوَزَهُ بِعُصَبِ الْيَمَنِ وَالْقَطَرِيِّ وَمَا أَشْبَهَهُ مِمَّا يُصْنَعُ غَزْلُهُ وَلَا يُصْبَغُ بَعْدَ مَا يُنْسَجُ فَحَسَنٌ وأكره للنساء الطيب وما يشتهون به وأحب للإمام من حسن الهيئة أكثر وأن يعتم ويرتدي ببرد فإنه يقال كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يعتم ويرتدي ببرد ".

(2/454)


قال الماوردي: بعدما ينسج، فحسن. الباب إلى آخره وَهَذَا كَمَا قَالَ. يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ تَكُونَ ثِيَابُ جُمْعَتِهِ وَعِيدِهِ أَجْمَلَ مِنْ ثِيَابِهِ فِي سَائِرِ أَيَّامِهِ، لِأَنَّهُ يَوْمُ زِينَةٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: مَا عَلَى أَحَدِكُمْ لَوِ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ جُمْعَتِهِ سِوَى ثَوْبَيْ مَهِنَتِهِ.
وَيُخْتَارَ من الثياب البياض، فيلبسه أحياءكم وَكَفِّنُوا بِهَا مَوْتَاكُمْ فَإِنِ اسْتَحْسَنَ لُبْسَ غَيْرِ الْبَيَاضِ فَالْمُخْتَارُ مِنْهُ مَا صُبِغَ غَزْلُهُ قَبْلَ نسجه كالحلل، والأبراد والقطري، وعصب اليمين، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَرْتَدِي بِرِدَاءٍ أَسْحَمِيٍّ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَعْتَمَّ وَيَرْتَدِيَ، اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْعَمَائِمُ تِيجَانُ الْعَرَبِ ".
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْتَعْمَلَ مِنَ الطيب ما كان ذكي الرَّائِحَةِ خَفِيَّ اللَّوْنِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " طِيبُ الرَّجُلِ مَا ظَهَرَ رِيحُهُ وَبَطُنَ لَوْنُهُ، وَطِيبُ الْمَرْأَةِ مَا ظَهَرَ لَوْنُهُ وَبَطُنَ رِيحُهُ ". وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ مِنْ حُسْنِ الْهَيْئَةِ وَجَمَالِ الزِّيِّ أَكْثَرُ مِمَّا يُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ لِأَنَّهُ مُتَّبَعٌ.
فَأَمَّا النِّسَاءُ فَمَنْ كَانَتْ ذَاتَ هَيْئَةٍ وَجِمَالٍ مُنِعَتْ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْجُمْعَةِ، صِيَانَةً لَهَا، وَخَوْفًا مِنَ الِافْتِتَانِ بِهَا، فَأَمَّا غَيْرُ ذَوَاتِ الْهَيْئَاتِ فَلَا يُمْنَعْنَ، وَيَخْرُجْنَ غَيْرَ مُتَزَيِّنَاتٍ، وَلَا مُتَطَيِّبَاتٍ، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَلْيَخْرُجْنَ تَفِلَاتٍ ".

(فَصْلٌ)
: يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ إِمَامًا لَا يَصِلُ إِلَى مُصَلَّاهُ إِلَّا بِالتَّخَطِّي، أَوْ يَكُونَ مَأْمُومًا لَا يَجِدُ مَوْضِعًا وَيَرَى أَمَامَهُ فُرْجَةً، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَخَطَّى لِلضَّرُورَةِ صَفًّا أَوْ صَفَّيْنِ.
وَإِنَّمَا كَرِهْنَا التَّخَطِّيَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَذَى، وَسُوءِ الْأَدَبِ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ أَبْصَرَ رَجُلًا يَتَخَطَّى النَّاسَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ لَهُ: آنَيْتَ وَآذَيْتَ. يَعْنِي أَنَّهُ أبطأ بالمجيء

(2/455)


وَآذَى النَّاسَ بِتَخَطِّي رِقَابِهِمْ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: " لَأَنْ أُصَلِّيَ بِحَرَّةٍ رَمْضَاءَ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ " وَأَغْلَظُ فِي الْكَرَاهَةِ أَنْ يَتَخَطَّى رِقَابَهُمْ بِنَعْلِهِ.

(فَصْلٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " وَأَكْرَهُ أَنْ يُقِيمَ غَيْرَهُ مِنْ مَجْلِسِهِ لِيَجْلِسَ فِي مَوْضِعِهِ، لِمَا لِلْأَوَّلِ مِنْ حَقِّ السَّبْقِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يُقِيمَنَّ أَحَدُكُمُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ حَتَّى يَخْلُفَهُ فِيهِ وَلْيَقُلْ تَوَسَّعُوا وَتَفَسَّحُوا " فَإِنْ قَامَ الرَّجُلُ لَهُ مُخْتَارًا عَنْ مَجْلِسِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يُكْرَهْ لَهُ الْجُلُوسُ فِيهِ، وَكَرِهْنَا ذَلِكَ لِلْقَائِمِ إِلَّا أَنْ يَعْدِلَ لِمِثْلِ مَجْلِسِهِ أَوْ خَيْرٍ مِنْهُ لِقُرْبِهِ مِنَ الْإِمَامِ، فَلَوْ بَعَثَ رَجُلًا يَأْخُذُ لَهُ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ مَوْضِعًا لَمْ يُكْرَهْ لَهُ ذَلِكَ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ كَانَ يَبْعَثُ بِغُلَامِهِ لِيَأْخُذَ لَهُ مَوْضِعًا، فَإِذَا جَاءَ جَلَسَ فِيهِ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا جَلَسَ فِي مَوْضِعٍ ثُمَّ أَرَادَ الِانْتِقَالَ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ كَرِهْنَا لَهُ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى مَوْضِعٍ أَفْضَلَ مِنْ مَوْضِعِهِ، أَوْ يَكُونَ قَدْ غَلَبَهُ النُّعَاسُ فَأَرَادَ الِانْتِقَالَ لِطَرْدِ النَّوْمِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يُكْرَهُ لَهُ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا جَلَسَ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ لِعَارِضٍ، ثُمَّ عَادَ وَقَدْ سَبَقَهُ غَيْرُهُ إِلَى مَوْضِعِهِ فَالسَّابِقُ إِلَى الْمَوْضِعِ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْعَائِدِ إِلَيْهِ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَنَحَّى لَهُ عَنِ الْمَوْضِعِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا قَامَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ ثم عاد إليه فهو أحق به ".
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْبَيْعُ قَبْلَ أَذَانِ الْجُمْعَةِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، فَأَمَّا بَعْدَ الْأَذَانِ فَمَكْرُوهٌ لِنَهْيِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ لِمَنْ لَزِمَهُ الذَّهَابُ إِلَى الْجُمْعَةِ، أَمَّا مَنْ لَمْ يَلْزَمْهُ الذَّهَابُ إِلَيْهَا فَمُبَاحٌ لَهُ الْبَيْعُ، وَإِنْ بَاعَ لِمَنْ لزمه الذهاب إليها فمكروه، ويكره لا يَلْزَمُهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ عَاوَنَهُ عَلَى مَحْظُورٍ، إِلَّا أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ وَالْبَيْعُ لا يبطل بحال وإن كن مَحْظُورًا، لِأَنَّ الْحَظْرَ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِنَفْسِ الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِاشْتِغَالِهِ عَنِ الذَّهَابِ.
(فَصْلٌ)
: رَوَى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ فَلْيَتَصَدَّقْ بِدِينَارٍ أَوْ بِنِصْفِ دِينَارٍ ".
وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ تَرَكَ الْجُمْعَةَ غَيْرَ مَعْذُورٍ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَذَا الْقَدْرِ، وَلَا يَلْزُمُهُ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ بِثَابِتٍ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَجِبُ فِيهَا الْكَفَّارَةُ بِحَالٍ.

(2/456)


(فَصْلٌ)
: وَتُخْتَارُ الزِّيَادَةُ مِنْ عَمَلِ الْخَيْرِ، وَالْإِكْثَارِ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي لَيْلَةِ الْجُمْعَةِ وَيَوْمِهَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِنَّ أَقْرَبَكُمْ مِنِّي فِي الْجَنَّةِ أَكْثَرُكُمْ صَلَاةً عَلَيَّ أَلَا فَأَكْثِرُوا مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيَّ فِي اللَّيْلَةِ الْغَرَّاءِ وَالْيَوْمِ الْأَزْهَرِ ". قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَعْنِي لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ وَيَوْمَ الْجُمْعَةِ.
وَيُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ سُورَةِ الْكَهْفِ لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ وَيَوْمَ الْجُمْعَةِ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَرَأَهَا وُقِيَ فِتْنَةَ الدَّجَّالِ.
والله المعين وبالله التوفيق.

(2/457)