الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

 (باب التكبير)
قال الشافعي: رضي الله عنه: " والتكبير كَمَا كَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في الصلوات (قال) فأجب أَنْ يَبْدَأَ الْإِمَامُ فَيَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا نَسَقًا وَمَا زَادَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَحَسَنٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ السُّنَّةُ الْمَأْثُورَةُ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَنَّهُ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا نَسَقًا فَيَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كثيرا، وسبحان الله بكرا وَأَصِيلًا، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، ونصر عبده، وسبحان الله وَحْدَهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ كَانَ حَسَنًا، وَمَا زَادَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَحَسَنٌ.
وَقَالَ أبو حنيفة يَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعَلَيْهِ عَمَلُ الناس في وقتنا، وما ذكرنا مِنَ الثَّلَاثِ النَّسَقِ أَوْلَى، لِأَنَّنَا رُوِّيْنَا عَنِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ عَلَى الصَّفَا مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الزِّيَادَةِ، وَلِأَنَّهَا تَكْبِيرَاتٌ زِيدَتْ شِعَارًا لِلْعِيدِ فَكَانَتْ وِتْرًا كَتَكْبِيرَاتِ الصَّلَاةِ، وَكَيْفَ كَبَّرَ جَازَ.

(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ فَاتَهُ شِيْءٌ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ قَضَى ثُمَّ كَبَّرَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يُكَبِّرُ مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ يَقْضِي مَا فَاتَهُ اتِّبَاعًا لِإِمَامِهِ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَمَكْحُولٍ وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَصَحُّ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ اتِّبَاعُ إِمَامِهِ فِي أَفْعَالِ صَلَاتِهِ وَلَيْسَ التَّكْبِيرُ مِنْهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ بِسَلَامِ الْإِمَامِ قد خرج من إمامته فلم يلزم الِاقْتِدَاءُ بِهِ، فَإِنْ كَبَّرَ مَعَ الْإِمَامِ بَعْدَ قَضَاءِ مَا فَاتَهُ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ مَا لَمْ يَقْصِدْ مُنَافَاةَ الصَّلَاةِ بِاتِّبَاعِ الْإِمَامِ، لِأَنَّ التَّكْبِيرَ مزاده كارها.

(2/500)


(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ويكبر خلف الفرائض والنوافل، قال المزني الذي قبل هذا عندي أَوْلَى بِهِ لَا يُكَبِّرُ إِلَّا خَلْفَ الْفَرَائِضِ ".
قال الماوردي: وهذا صحيح أما التكبير فسن لِلْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ، وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ.
وَقَالَ أبو حنيفة التَّكْبِيرُ سُنَّةٌ لِلرَّجُلِ الْمُقِيمِ دُونَ الْمَرْأَةِ، وَالْمُسَافِرِ وَمَا ذَكَرْنَا أَوْلَى، لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَلِتُكَبِّرُوا الله على ما هداكم} [البقرة: 185] .
وإذا صَحَّ أَنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ لِلْكَافَّةِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يُكَبِّرُ خَلْفَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ خَلْفَ الْفَرَائِضِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ الْمُزَنِيُّ مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا يُخَرِّجُونَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُكَبِّرُ خَلْفَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُكَبِّرُ خَلْفَ الْفَرَائِضِ دُونَ النَّوَافِلِ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ يُكَبِّرُ خَلْفَ الْفَرَائِضِ دُونَ النَّوَافِلِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَبِهِ جَرَى الْعَمَلُ تَوَارُثًا فِي الْأَمْصَارِ بين الأئمة، فمن قال تمهيدا لهم عما نَقْلِهِ الْمُزَنِيَّ مِنْ تَكْبِيرِهِ خَلْفَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ غَلِطَ فِي النَّقْلِ مِنَ التَّنْبِيهِ إِلَى التَّكْبِيرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ غَلِطَ فِي الْمَعْنَى دُونَ الرِّوَايَةِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالتَّكْبِيرِ خَلْفَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ مَا تَعَلَّقَ بِالزَّمَانِ فِي لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ، دُونَ مَا تَعَلَّقَ بِالصَّلَوَاتِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ، وَقَالَ آخَرُونَ، بَلِ النَّوَافِلُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا سُنَّ مُنْفَرِدًا فَلَا يُكَبَّرُ خَلْفَهُ.
وَالثَّانِي: مَا سُنَّ فِي جَمَاعَةٍ كَالِاسْتِسْقَاءِ وَالْخَسُوفَيْنِ فَهَذَا يُكَبَّرُ خَلْفَهُ، وَلَهُ أَرَادَ الشَّافِعِيُّ تَشْبِيهًا بِالْفَرَائِضِ، فَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا هَلْ يُكَبَّرُ خَلْفَ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُكَبَّرُ لِفِعْلِهِ فِي جَمَاعَةٍ.
وَالثَّانِي: لَا يُكَبَّرُ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ صَلَاةً شَرْعِيَّةً ذَاتَ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ، وَإِنَّمَا هِيَ دُعَاءٌ وَتَرَحُّمٌ فَلَوْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَضَاهَا بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَمْ يُكَبِّرْ خَلْفَهَا، وَلَوْ ذَكَرَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ صَلَّاهَا فَائِتَةً قَضَاهَا، وَكَبَّرَ خَلْفَهَا، لِأَنَّ التَّكْبِيرَ من سنة الوقت.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ شَهِدَ عَدْلَانِ فِي الْفِطْرِ بِأَنَّ الْهِلَالَ كَانَ بِالْأَمْسِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الزَّوَالِ صَلَّى بِالنَّاسِ الْعِيدَ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ لم يصلوا لأنه

(2/501)


عمل في وقت وإذا جاوزه لم يعمل في غيره كعرفة وقال في كتاب الصيام وأحب إن ذكر فيه شيئا وإن لم يكن ثابتا أن يعمل من الغد ومن بعد الغد (قال المزني) قوله الأول أولى به لأنه احتج فقال لو جاز أن يقضي كان بعد الظهر أجوز وإلى وقته أقرب (قال المزني) وهذا من قوله على صواب أحد قوليه عندي دليل وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عِنْدَ الْإِمَامِ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ وَقَدْ أَصْبَحُوا صِيَامًا عَلَى الشَّكِّ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ بِأَنَّهُمَا رَأَيَا الْهِلَالَ مِنَ اللَّيْلِ، فَإِنْ صَحَّتْ عَدَالَتُهُمَا قَبْلَ الزَّوَالِ أَفْطَرَ وَصَلَّى بِالنَّاسِ، لأن ذلك وقت للصلاة، ما لم تزول الشَّمْسُ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ تَصِحَّ عَدَالَتُهُمَا إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ فَإِنَّهُ يُفْطِرُ وَيَأْمُرُ النَّاسَ بِهِ، وَفِي إِعَادَةِ الصَّلَاةِ مِنَ الْغَدِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ لَا تُعَادُ، لِأَنَّهَا صَلَاةُ نَافِلَةٍ سُنَّ لَهَا الْجَمَاعَةُ فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ بِالْفَوَاتِ كَصَلَاةِ الْخُسُوفِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا تُعَادُ مِنَ الْغَدِ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ دائبة فَوَجَبَ أَنْ لَا تَسْقُطَ بِفَوَاتِ وَقْتِهَا كَالْفَرَائِضِ، وَقَدْ رَوَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ بِقَضَائِهَا مِنَ الْغَدِ، إِلَّا أَنَّ فِي الحديث اضطراب وَلَوْلَا اضْطِرَابُهُ لَأُعِيدَتِ الصَّلَاةُ مِنَ الْغَدِ قَوْلًا وَاحِدًا.
فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عِلَّةِ تَأْخِيرِهَا إِلَى الْغَدِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قوله أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَأْخِيرِهَا تَعَذُّرُ اجْتِمَاعِ النَّاسِ لِتَفَرُّقِهِمْ وَعَدَمِ عِلْمِهِمْ، فَعَلَى هَذَا إِذَا كَانَ الْبَلَدُ لَطِيفًا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُ أَهْلِهِ بَعْدَ الزَّوَالِ مِنْ يَوْمِهِمْ صُلِّيَتْ فِي الْيَوْمِ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى وَقْتِهَا الْغَالِبِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَأْخِيرِهَا إِلَى الْغَدِ، أَنْ يُؤْتَى بِهَا فِي وَقْتِهَا الْمَسْنُونَةِ فِيهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الزَّوَالِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهَا فِي الْيَوْمِ بِحَالٍ.

(فَصْلٌ)
: إِذَا كَانَ الْعِيدُ فِي يَوْمِ الْجُمْعَةِ فَعَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ أَنْ يُصَلُّوا الْجُمْعَةَ، وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ تَرْكُهَا، كَمَا قَالَ بِهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا وَالْفُقَهَاءُ كَافَّةً، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ قَدْ سَقَطَ عَنْهُمْ فَرْضُ الْجُمْعَةِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْجُمُعَةُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ " وَلِأَنَّ الْعِيدَ سُنَّةٌ وَالْجُمْعَةَ فَرْضٌ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْفَرْضِ بِالسُّنَّةِ، فَأَمَّا أَهْلُ السَّوَادِ فَفِي سُقُوطِ الْجُمْعَةِ عَنْهُمْ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِمْ كَأَهْلِ الْمِصْرِ.

(2/502)


والوجه الثاني: وهو نص الشافعي أنه سَقَطَتْ عَنْهُمْ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال لأهل العوالي: " وفي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ قَدِ اجْتَمَعَ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا عِيدَانِ، فَمَنْ شَاءَ أَنْ يَنْصَرِفَ فَلَيَنْصَرِفْ فإنا مُجَمِّعُونَ " وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَهْلِ الْمِصْرِ وَالسَّوَادِ: أَنَّ أَهْلَ السَّوَادِ إِذَا انْصَرَفُوا بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ شَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَوْدُ، لِبُعْدِ دَارِهِمْ وَلَا يَشُقُّ عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ لِقُرْبِ دَارِهِمْ.

(2/503)