الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

 (باب صلاة خسوف الشمس والقمر)
قال الشافعي رضي الله عنه: " فِي أَيِ وَقْتٍ خَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي نِصْفِ النَّهَارِ أَوْ بَعْدَ الْعَصْرِ فَسَوَاءٌ وَيَتَوَجَّهُ الْإِمَامُ حَيْثُ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ فَيَأْمُرُ بِالصَّلَاةِ جَامِعَةً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا الْأَصْلُ فِي صَلَاةِ الْخُسُوفِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ والشمس والقمر تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] فَاحْتَمَلَ ذَلِكَ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ وَرَدَ فِي الْمَنْعِ مِنَ السُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَمْرًا وَرَدَ بِالسُّجُودِ عِنْدَ حدوث معنى هاتين الآيتين، فأحتج إِلَى بَيَانٍ، فَبَيَّنَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِصَلَاتِهِ عِنْدَ خُسُوفِهَا دُونَ سَائِرِ الْآيَاتِ، وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي اليوم الذي مات فيه إِبْرَاهِيمَ ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ خَسَفَتْ بِمَوْتِهِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ خَطَبَ وَقَالَ " إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَر آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْرَغُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَالصَّلَاةِ " فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَأَيُّ وَقْتٍ خَسَفَتْ فِيهِ الشَّمْسُ مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ أَوْ بَعْدَ الْعَصْرِ صَلَّى فِيهِ، لِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَهَا سَبَبٌ تُصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ حَيْثُ تُصَلَّى الْجُمْعَةُ، لَا حَيْثُ تُصَلَّى الْأَعْيَادُ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى فِي مَسْجِدِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مِنْ فَوَاتِ الصَّلَاةِ بِتَجَلِّي الْخُسُوفِ إِذَا خَرَجَ، فَإِذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ نَادَى " الصَّلَاةَ جَامِعَةً " بِلَا أَذَانٍ ولا إقامة والله تعالى أعلم.

(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ثم يكبروا وَيَقْرَأُ فِي الْقِيَامِ الْأَوَّلِ بَعْدَ أُمِّ الْقُرْآنِ بسورة البقرة إن كان يحفظها أو قدرها من القرآن إن كان لا يحفظها ثم يركع فيطيل ويجعل ركوعه قدر قراءة مائة آية من سورة البقرة ثُمَّ يَرْفَعُ فَيَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ربنا لك الحمد ثم يقرأ بأم القرآن وقدر مِائَتَيْ آيَةٍ مِنَ الْبَقَرَةِ ثُمَّ يَرْكَعُ بِقَدْرِ ما يلي ركوعه الأول ثم يرفع فيسجد

(2/504)


سجدتين ثم يقوم في الركعة الثانية فيقرأ بأم القرآن وقد مِائَةٍ وَخَمْسِينَ آيَةً مِنَ الْبَقَرَةِ ثُمَّ يَرْكَعُ بقدر سبعين آية من البقرة ثم يرفع فيقرأ بأم القرآن وقدر مِائَةَ آيَةٍ مِنَ الْبَقَرَةِ ثُمَّ يَرْكَعُ بِقَدْرِ خمسين آية من البقرة ثم يرفع ثم يسجد وإن جاوز هذا أو قصر عنه فإذ قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ أَجْزَأَه "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ صَلَاةُ الْخُسُوفِ رَكْعَتَانِ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْهُمَا رُكُوعَانِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَإِسْحَاقُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: رَكْعَتَانِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ مِنْ غير ركوع زائد استدلالا براوية الحسن عن أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى صَلَاةَ الْخُسُوفِ رَكْعَتَيْنِ كَصَلَاتِكُمْ هَذِهِ وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ صَلَّى هَذِهِ الصَّلَاةَ كَأَحَدِ صَلَاةٍ صَلَّيْتُمُوهَا قَالَ وَلِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا، وَعَلَى كِلَا الْحَالَيْنِ لَيْسَ لَهَا نَظِيرٌ فِيهِمَا بِرُكُوعٍ زَائِدٍ قَالَ: وَلِأَنَّ الصَّلَوَاتِ تَخْتَلِفُ فِي أَعْدَادِ رَكَعَاتِهَا وَلَا تَخْتَلِفُ فِي زِيَادَةِ أَرْكَانِهَا، فَكَانَ مَذْهَبُكُمْ مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ الْمُقَرَّرَةِ فِيهَا.
وِالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالنَّاسُ مَعَهُ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا قَدْرَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا ثُمَّ رَفَعَ وقام قياما طويلا وهو دون الْأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونُ الركوع الأول ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونُ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونُ الْأَوَّلِ ثُمَّ رَفَعَ ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ قَامَ إِلَى الثَّانِيَةِ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا دُونَ قِيَامِهِ الْأَوَّلِ ثُمَّ سَاقَ الْخَبَرَ إِلَى آخِرِهِ وَرَوَتْ عَمْرَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى الْخُسُوفَ رَكْعَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَيْنِ وروي مثل ذلك جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَسُمْرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ نَفْلٍ يُسَنُّ فِيهَا اجْتِمَاعُ الْكَافَّةِ فَوَجَبَ أَنْ تَخْتَصَّ بِمَعْنًى تُبَايِنُ بِهِ غَيْرَهَا مِنَ النَّوَافِلِ كَالْعِيدِ وَالِاسْتِسْقَاءِ الْمُخْتَصِّ بِزِيَادَةِ التَّكْبِيرَاتِ.

(2/505)


فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ رِوَايَتِهِمْ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَرْجِيحٌ.
وَالثَّانِي: اسْتِعْمَالٌ فَأَمَّا التَّرْجِيحُ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أوجه.
أحدهما: أَنَّ أَخْبَارَنَا أَكْثَرُ رُوَاةً وَأَصَحُّ إِسْنَادًا.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا أَزْيَدُ وَأَكْثَرُ عَمَلًا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ عَمَلُ الْأَئِمَّةِ وَفِعْلُ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، قَدْ عَمِلَ بِهِ عُمَرُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِالْمَدِينَةِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ بِالْبَصْرَةِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ بِالْمَدِينَةِ، فَكَانَ الْعَمَلُ بِأَخْبَارِنَا أَوْلَى لِمَا تَضَمَّنَهَا مِنَ التَّرْجِيحِ، وَأَمَّا الاستعمال فمن ثلاثة أوجه:
أحدهما: اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الرَّاوِي وَقَوْلِهِ كَصَلَاتِكُمْ هَذِهِ أَيْ: يَتَضَمَّنُهَا رُكُوعٌ وَسُجُودٌ بِخِلَافِ الْجِنَازَةِ، وَقَوْلِهِ فِي الْخَبَرِ الْآخَرِ " كَأَحَدِ صَلَاةٍ صَلَّيْتُمُوهَا " يَعْنِي: مِنْ صَلَاةِ الْخُسُوفِ.
وَالثَّانِي: تَسْلِيمُ الرِّوَايَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا وَحَمْلُهَا عَلَى الْجَوَازِ، وَحَمْلُ مَا رُوِّينَاهُ عَلَى الْأَفْضَلِ وَالْمَسْنُونِ، كَمَا تَوَضَّأَ مَرَّةً لِيَدُلَّ عَلَى الْجَوَازِ، وَثَلَاثًا لِيَدُلَّ عَلَى الْأَفْضَلِ.
وَالثَّالِثُ: حَمْلُ رِوَايَتِهِمْ عَلَى أَنَّ الْخُسُوفَ تَجَلَّى سَرِيعًا وَلَمْ يَطُلْ، فَرَكَعَ رُكُوعًا وَاحِدًا، وَحَمْلُ رِوَايَتِنَا عَلَى أَنَّهُ أَطَالَ فَرَكَعَ رُكُوعَيْنِ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ رَكَعَ رُكُوعًا وَاحِدًا ليدل على الجواز، والسنة، فالأولى أن يركع ركوعين في تطويل الخسوف وتجليه فالسنة في طويل الخسوف ركوعان وَفِي قَصِيرِهِ رُكُوعٌ وَاحِدٌ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ كُلُّ ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الْمُبَاحِ، لَيْسَ بَعْضُهُ بِأَوْلَى مِنْ بَعْضٍ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ الْخُسُوفَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا، وَلَيْسَ فِي أَحَدِهِمَا رُكُوعٌ زَائِدٌ، فَيُقَالُ الصَّلَوَاتُ قَدْ تَخْتَلِفُ فِي هَيْئَاتِهَا وأركانا، وَلِكُلِّ صَلَاةٍ هَيْئَةٌ تَخْتَصُّ بِهَا، فَلِصَلَاةِ الْعِيدِ هَيْئَةٌ، وَلِصَلَاةِ الْخُسُوفِ هَيْئَةٌ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا مُبْطِلًا لِمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ فِي صَلَاةِ الْخُسُوفِ تَغْيِيرُ هَيْئَاتِهَا، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُبْطِلًا لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ لِتَغْيِيرِ هَيْئَاتِهَا وَاخْتِلَافِ أَوْصَافِهَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ الصَّلَاةَ تَخْتَلِفُ فِي أَعْدَادِ رَكَعَاتِهَا، إِلَّا فِي زِيَادَةِ أَرْكَانِهَا فَوَاضِحُ الْفَسَادِ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ أَعْدَادِهَا تُوجِبُ زِيَادَةَ أَرْكَانِهَا، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ زِيَادَةُ مَعْنَى يَقْتَضِي الِانْفِصَالَ عَنْهُ.

(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا صِفَةُ الصَّلَاةِ وَكَيْفِيَّتُهَا، فَهُوَ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالْإِحْرَامِ نَاوِيًا صَلَاةَ الْخُسُوفِ، ثُمَّ يَتَوَجَّهَ وَيَسْتَعِيذَ، وَيَقْرَأَ الْفَاتِحَةَ يَبْتَدِئُهَا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَيَقْرَأُ بَعْدَهَا بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ إِنْ كَانَ يُحْسِنُهَا، أَوْ بِقَدْرِهَا مِنْ غَيْرِهَا عَلَى مَا قَرَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رِوَايَتِهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَطَالَ الْقِيَامَ الْأَوَّلَ بِنَحْوٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ بِقَدْرِ مِائَةِ آيَةٍ، يُسَبِّحُ

(2/506)


فِي رُكُوعِهِ وَلَا يَقْرَأُ، ثُمَّ يَرْفَعُ فَيَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ يَبْتَدِئُهَا بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَهَلْ يَسْتَعِيذُ قَبْلَهَا أَمْ لَا، عَلَى وَجْهَيْنِ ثُمَّ يَقْرَأُ بِقَدْرِ مِائَتَيْ آيَةٍ مِنَ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ يَرْكَعُ بِقَدْرِ ثَمَانِينَ آيَةً دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ يَرْفَعُ فَيَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَيَكُونُ فِي رَفْعِ رَأْسِهِ مِنَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ مُكَبِّرًا، وَفِي الثَّانِي قَائِلًا سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ لَا يُطِيلُ فِيهِمَا، ثُمَّ يَقُومُ إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَيَسْتَعِيذُ، ثُمَّ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ يَبْتَدِئُهَا بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثُمَّ يَقْرَأُ بِقَدْرِ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ آيَةً مِنَ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ يَرْكَعُ بِقَدْرِ سَبْعِينَ آيَةً، ثُمَّ يَرْفَعُ مُكَبِّرًا، وَهَلْ يَسْتَعِيذُ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ؟ ثُمَّ يَقْرَأُ مِائَةَ آيَةٍ مِنَ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ يَرْكَعُ بِقَدْرِ خَمْسِينَ آيَةً يُسَبِّحُ، ثُمَّ يَرْفَعُ يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ لَا يُطِيلُ فِيهِمَا، ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ، هَكَذَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَقَدْ حَكَى الْبُوَيْطِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ صَلَّى بِالْبَصْرَةِ لِخُسُوفِ الْقَمَرِ، وَقَرَأَ فِي الْقِيَامِ الْأَوَّلِ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَفِي الثَّانِي بِسُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَفِي الثَّالِثِ بِسُورَةِ النِّسَاءِ، وَفِي الرَّابِعِ بِسُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ، وَكَيْفَ قَرَأَ أَجَزْأَهُ، وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْفَاتِحَةِ جَازَ، وَلَوْ نَسِيَ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْقِيَامِ الثَّانِي مِنَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى حَتَّى سَجَدَ عَادَ فَانْتَصَبَ قَائِمًا وَقَرَأَ وَرَكَعَ وَسَجَدَ ثُمَّ قَامَ إلى الثانية، وسجد للسهو، فلو أدركه مؤتمر فِي الرُّكُوعِ الثَّانِي لَمْ يُعْتَدَّ لَهُ بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ، لِأَنَّ مَا فَاتَهُ مِنْهَا أَكْثَرُهَا، فَصَارَ بِخِلَافِ مَنْ أَدْرَكَهُ رَاكِعًا فِي فَرْضٍ، فَلَوْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَسَائِرِ النَّوَافِلِ مِنْ غَيْرِ رُكُوعٍ زَائِدٍ، فَإِنْ تَأَوَّلَ مَذْهَبَ أبي حنيفة فَلَيْسَ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ، وَإِنْ سهَا وَكَانَ شَافِعِيًّا فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ.

(فَصْلٌ)
: فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى مَا وَصَفْنَا خَطَبَ خُطْبَتَيْنِ:
وَقَالَ مَالِكٌ، وأبو يوسف، لَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَخْطُبَ لَهَا.
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَسُمُرَةَ بْنُ جُنْدَبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى الْخُسُوفَ ثُمَّ خَطَبَ وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ نَفْلٍ سُنَّ لَهَا اجْتِمَاعُ الْكَافَّةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ من شرطها الخطبة كالعيدين.

(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُسَرُّ فِي خُسُوفِ الشَّمْسِ بِالْقِرَاءَةِ لِأَنَّهَا مِنْ صلاة النهار واحتج بأن ابن عباس قال خسفت الشمس فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والناس معه فقام قياما طويلا قال نحوا من سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا ثُمَّ رفع فقام قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونُ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ ثُمَّ ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا

(2/507)


وَهُوَ دُونُ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم رفع فقام قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونُ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ ثُمَّ ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم سجد ثم انصرف وقد تجلت الشمس فقال " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله " ووصف عن ابن عباس أنه قال كنت إِلَى جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فما سمعت منه حرفا لأنه أسر ولو سمعه ما قدر قراءته وروي أن ابن عباس صلى في خسوف القمر ركعتين في كل ركعة ركعتين ثم ركب فخطبنا فقال إنما صليت كما رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يصلي قال وبلغنا عن عثمان أنه صلى في ركعة ركعتين ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا صَلَاةُ كُسُوفِ الْقَمَرِ فَالْجَهْرُ فِيهَا مَسْنُونٌ إِجْمَاعًا لِأَنَّهَا مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ، فَأَمَّا صَلَاةُ خُسُوفِ الشَّمْسِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُسَرُّ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ.
وَقَالَ أبو يوسف ومحمد وَإِسْحَاقُ: يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ. اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى لِخُسُوفِ الشَّمْسِ فَجَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ نَفْلٍ كَالْعِيدَيْنِ.
وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَاةَ خُسُوفِ الشَّمْسِ فَلَمْ أَسْمَعْ مِنْهُ وَلَا حَرْفًا، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ نَهَارٍ يُفْعَلُ مِثْلُهَا فِي اللَّيْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ صِفَتِهَا الْإِسْرَارُ كَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لِخُسُوفِ أَحَدِ النَّيِّرَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ سُنَّتُهَا كَسُنَّةِ الصَّلَوَاتِ الرَّاتِبَةِ فِي وَقْتِهَا.
أَصْلُهُ: خُسُوفُ الْقَمَرِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَدْ رُوِّينَا عَنْهَا خِلَافَهُ، عَلَى أَنَّنَا نَحْمِلُ قَوْلَهَا جَهَرَ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ:
إِمَّا عَلَى أَنَّهُ جَهَرَ بِالْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ أَسْمَعَ نَفْسَهُ وَذَلِكَ يُسَمَّى جَهْرًا، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا أَسَرَّ مَنْ أَسْمَعَ نَفْسَهُ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ فَمُعَارَضٌ بِقِيَاسِنَا وَهُوَ أولى لشهادة الأصول له.

(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنِ اجْتَمَعَ عِيدٌ وَخُسُوفٌ وَاسْتِسْقَاءٌ وَجِنَازَةٌ بُدِئَ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَضَرَ الإمام أمر من يقوم به وَبُدِئَ بِالْخُسُوفِ ثُمَّ يُصَلّي الْعِيد ثُمَّ أُخِّرَ الاستسقاء إلى يوم آخر وإن خاف فوت العيد صلاها وخفف ثم خرج منها إلى صلاة الخسوف ثم يخطب للعيد وللخسوف ولا يضره أن يخطب بعد الزوال لهما

(2/508)


وإن كان في وقت الجمعة بدأ بصلاة الخسوف وخفف فقرأ في كل ركعة بأم القرآن وقل هو الله أحد وما أشبهها ثم يخطب للجمعة ويذكر فيها الخسوف ثم يصلي الجمعة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنْ يَجْتَمِعَ عِيدٌ وَخُسُوفٌ، وَاسْتِسْقَاءٌ، وَجِنَازَةٌ، فَالْأَوْلَى تَأْخِيرُ الِاسْتِسْقَاءِ، لِإِمْكَانِ فِعْلِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، ثُمَّ يَبْدَأُ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ إِنْ حَضَرَتْ، لِتَأْكِيدِهَا، وَلِمَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْمُبَادَرَةِ بِهَا، مَعَ مَا يُخَافُ مِنْ تَغْيِيرِ الْمَيِّتِ وَالتَّأَذِّي بِهِ، ثُمَّ يُصَلِّي الْخُسُوفَ، ثُمَّ الْعِيدَ بَعْدَهُ، لِأَنَّ بَقَاءَ وقت للعيد مُتَيَقَّنٌ إِلَى زَوَالِ الشَّمْسِ، وَبَقَاءَ الْخُسُوفِ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ، وَرُبَّمَا أَسْرَعَ تَجَلِّيهِ، فَإِنْ ضَاقَ وَقْتُ الْعِيدِ وَعَلِمَ أَنَّهُ إِنِ اشْتَغَلَ بِصَلَاةِ الْخُسُوفِ لَمْ يُدْرِكْ صَلَاةَ الْعِيدِ بَدَأَ بِصَلَاةِ الْعِيدِ أَوَّلًا، ثُمَّ صَلَّى الْخُسُوفَ بَعْدَهَا، لِأَنَّ فَوَاتَ الْعِيدِ مُتَيَقَّنٌ وَبَقَاءَ الْخُسُوفِ مُجَوِّزٌ، فَكَانَتِ الْبِدَايَةُ بِمَا يُتَيَقَّنُ فَوَاتُهُ أَوْلَى، فَإِذَا صَلَّى الْعِيدَ لَمْ يَخْطُبْ، وَصَلَّى لِلْخُسُوفِ، ثُمَّ خَطَبَ لَهُمَا بَعْدَ الزَّوَالِ، لِأَنَّ خُطْبَةَ الْعِيدِ سُنَّةٌ، فَجَازَ فِعْلُهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ خُطْبَةُ الْجُمْعَةِ، لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ، فَلَمْ يَجُزْ فِعْلُهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: تَصَوُّرُ الشَّافِعِيِّ اجْتِمَاعَ الْخُسُوفِ وَالْعِيدِ مُحَالٌ، لِأَنَّ الْعِيدَ إِمَّا أَنْ يكون في أول للشهر إِنْ كَانَ فِطْرًا، أَوْ فِي الْعَاشِرِ إِنْ كَانَ نَحْرًا، وَالْخُسُوفَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ إِنْ كَانَ لِلشَّمْسِ، وَفِي الرَّابِعَ عَشَرَ إِنْ كَانَ لِلْقَمَرِ، فَاسْتَحَالَ اجْتِمَاعُ الْخُسُوفِ والعيد.
قيل عن هذا أجوبة.
أحدهما: أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَكُنْ غَرَضُهُ فِي هَذَا تَصْحِيحَ وُقُوعِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ غَرَضُهُ الْكَشْفَ عَنْ مَعَانِي الْأَحْكَامِ بِإِيقَاعِ التَّفْرِيعِ فِي الْمَسَائِلِ لِيَتَّضِحَ الْمَعْنَى، وَيَتَّسِعَ الْفَهْمُ، وَبِذَلِكَ جَرَتْ عَادَةُ الْعُلَمَاءِ فِي تَفْرِيِعِ الْمَسَائِلِ، حَتَّى قَالُوا فِي الْفَرَائِضِ مِائَةُ جَدَّةٍ وَخَمْسُونَ أُخْتًا، وَإِنْ كَانَ وُجُودُ ذَلِكَ مُسْتَحِيلًا.
جَوَابٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ تكلم على ما يقتضيه قَوْلُ أَهْلِ النُّجُومِ الَّذِي لَا يُسَوِّغُ قَبُولَ قَوْلِهِمْ، وَقَدْ نَقَلَ الْوَاقِدِيُّ وَأَهْلُ السِّيَرِ أَنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ فِي الْيَوْمِ الذي مات فيه إبراهيم بن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَكَانَ الْيَوْمَ الْعَاشِرَ مِنَ الشَّهْرِ، وَرَوَى ذَلِكَ عَلْقَمَةُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقِيلَ كَانَ الْيَوْمَ الْعَاشِرَ مِنْ رَمَضَانَ، وَقِيلَ الْعَاشِرَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَقِيلَ الشَّمْسُ خَسَفَتْ يَوْمَ مَاتَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ.
جَوَابٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَتِ الْعَادَةُ فيما ذكروا فقد ينقص عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ وَوُجُودِ أَشْرَاطِهَا، فَبَيَّنَ الْحُكْمَ فِيهَا قَبْلَ وُجُودِهَا، فَلَوِ اجْتَمَعَ عِيدٌ وَخُسُوفٌ وَجُمْعَةٌ وَضَاقَ وَقْتُ الْجَمِيعِ بَدَأَ بِالْعِيدِ أَوَّلًا، لِتَعْجِيلِ فَوَاتِهِ، ثُمَّ الْجُمْعَةِ، لِأَنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ، ثُمَّ الْخُسُوفِ،

(2/509)


فَلَوْ تَعَجَّلَ وَقْتَ الْخُسُوفِ بَدَأَ بِالصَّلَاةِ لَهُ وَلَمْ يَخْطُبْ، ثُمَّ صَلَّى الْعِيدَ، ثُمَّ خَطَبَ لِلْجُمْعَةِ وَذَكَرَ فِيهَا الْخُسُوفَ وَالْعِيدَ، ثُمَّ صَلَّى الْعِيدَ، ثُمَّ خَطَبَ لِلْجُمْعَةِ وَذَكَرَ فِيهَا الْخُسُوفَ والعيد، ثم صلى الجمعة.

(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ خَسَفَ الْقَمَرُ صَلَّى كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ لِأَنَّهَا صَلَاةُ اللَّيْلِ فَإِنْ خَسَفَ بِهِ فِي وَقْتِ قُنُوتٍ بَدَأَ بِالْخُسُوفِ قَبْلَ الوتر وقبل ركعتي الفجر وإن فاتتا لأنهما صَلَاةُ انْفِرَادٍ وَيَخْطُبُ بَعْدَ صَلَاةِ الْخُسُوفِ لَيْلًا وَنَهَارًا وَيَحُضُّ النَّاسَ عَلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُهُمْ بِالتَّوْبَةِ والتقرب إلى الله عز وجل ويصلي حيث يصلي الجمعة لا حيث يصلي الْأَعْيَادَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، السُّنَّةُ فِي كُسُوفِ الْقَمَرِ أَنْ يُصَلِّي لَهَا جَمَاعَةً كَخُسُوفِ الشَّمْسِ.
وَقَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة يُصَلِّي النَّاسُ أَفْرَادًا، لِأَنَّهَا مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ.
وَدَلِيلُنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَى لِخُسُوفِ الشَّمْسِ جَمَاعَةً، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ فَرَاغِهِ: " إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْرَغُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَإِلَى الصَّلَاةِ " وَأَشَارَ إِلَى الصَّلَاةِ الَّتِي فَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ، وَكَانَتْ بَيَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ) {فصلت: 37) .
وَرَوَى الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ صَلَّى بِالْبَصْرَةِ لِكُسُوفِ الْقَمَرِ في جماعة، ثم ركب بعيره وخطب، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ لَمْ أَبْتَدِعْ هَذِهِ الصَّلَاةَ بِدَعَةً، وَإِنَّمَا فَعَلْتُ كَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَفْعَلُ، وَلِأَنَّهُ خُسُوفٌ سُنَّ لَهُ الصَّلَاةُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ سُنَّتِهَا الْجَمَاعَةُ كَخُسُوفِ الشَّمْسِ، ولأنهما صلاتان يتجانسان، فَإِذَا سُنَّ الْإِجْمَاعُ لِأَحَدِهِمَا سُنَّ لِلْأُخْرَى كَالْعِيدَيْنِ، وَيُجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ لِأَنَّهَا مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَيُخْطَبُ بَعْدَ الصَّلَاةِ كَمَا يُخْطَبُ فِي خُسُوفِ الشَّمْسِ.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فإن لم يصل حتى تغيب كَاسِفَةً أَوْ مُنْجَلِيَةً أَوْ خَسَفَ الْقَمَرُ فَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى تَجَلَّى أَوْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ لَمْ يُصَلِّ لِلْخُسُوفِ فَإِنْ غَابَ خَاسِفًا صَلَّى لِلْخُسُوفِ بعد الصبح ما لم تطلع الشمس ويخفف للفراغ قبل طلوع الشَّمْسُ فَإِنْ طَلَعَتْ أَوْ أَحْرَمَ فَتَجَلَّتْ أَتَمُّوهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا لَمْ يُصَلِّ لِخُسُوفِ الشَّمْسِ حَتَّى غَرَبَتْ لَمْ يُصَلِّ لَهَا لِفَقْدِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهَا بِذَهَابِ زَمَانِ الشَّمْسِ وَسُلْطَانِهَا، فَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ زَمَانُهَا لَكِنْ لم يصل

(2/510)


لَهَا حَتَّى تَجَلَّتْ سَقَطَتِ الصَّلَاةُ لَهَا لِفَقْدِ الصِّفَةِ الْمُوجِبَةِ لَهَا، فَإِنْ تَجَلَّى عَنْ بَعْضِهَا وَبَقِيَ بَعْضُهَا صَلَّى لِمَا بَقِيَ، لِوُجُودِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهَا، وَأَمَّا كُسُوفُ الْقَمَرِ إِذَا لَمْ يُصَلِّ لَهُ حَتَّى غَابَ كَاسِفًا فَلَهُ ثَلَاثَةُ أحوال:
أحدهما: أَنْ يَغِيبَ كَاسِفًا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَهَذَا يُصَلِّي لِبَقَاءِ سُلْطَانِ اللَّيْلِ، لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِبَقَاءِ الْوَقْتِ لَا بِبَقَاءِ الطُّلُوعِ، أَلَّا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَقِيَ خَاسِفًا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ لَمْ يُصَلِّ لَهُ لِفَوَاتِ وَقْتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْخُسُوفُ مَوْجُودًا.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَا يُصَلِّي لَهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَقَدْ سَقَطَتِ الصَّلَاةُ لِفَوَاتِ الْوَقْتِ بِذَهَابِ نُورِ الْقَمَرِ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَمَرُ طَالِعًا أَوْ غَائِبًا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يُصَلِّي لَهُ حَتَّى يَغِيبَ كَاسِفًا بَعْدَ الْفَجْرِ وَقَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ لَا يُصَلِّي لَهُ، لِأَنَّ الْقَمَرَ آيَةُ اللَّيْلِ كَمَا أَنَّ الشَّمْسَ آيَةُ النَّهَارِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12] فَلَمَّا لَمْ يُصَلِّ لِخُسُوفِ الشَّمْسِ إِذَا تَقَضَّى النَّهَارُ، لَمْ يُصَلِّ لِخُسُوفِ الْقَمَرِ إِذَا تَقَضَّى اللَّيْلُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ إنَّهُ يُصَلِّي لَهُ مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ، لِبَقَاءِ سُلْطَانِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِضَوْئِهِ، وَخَالَفَ الشَّمْسَ الَّذِي يَذْهَبُ ضَوْءُهَا بِدُخُولِ اللَّيْلِ، فَلَوْ لَمْ يَغِبِ الْقَمَرُ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ وَهُوَ عَلَى كُسُوفِهِ فَفِي الصَّلَاةِ لَهُ قَوْلَانِ أَيْضًا، كَمَا لَوْ غَابَ خَاسِفًا، فَلَوْ أَحْرَمَ بِصَلَاةِ الْخُسُوفِ فَتَجَلَّى قَبْلَ إِتْمَامِ الصَّلَاةِ، أَوْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَإِنَّهُ يُتَمِّمُ الصَّلَاةَ ولا تبطل بفوات الوقت.

(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فأن جللها سحاب أو حائل فهي على الخسوف حتى يستيقن تجلى جميعها وإذا اجْتَمَعَ أَمْرَانِ فَخَافَ فَوتَ أَحَدِهِمَا بَدَأَ بِالَّذِي يخاف فوته ثم رجع إلى الآخر وإن لم يقرأ في كل ركعة من الخسوف إلا بأم القرآن أجزأه ولا يجوز عندي تركها لمسافر ولا لمقيم بإمام ومنفردين ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا تَيَقَّنَ الْخُسُوفَ ثُمَّ جَلَّلَهُ سَحَابٌ أَوْ حَالَ دُونَهُ حَائِلٌ يمنع من النظر إليه فلو يعلم هل تجلى أمر لَا يُصَلِّي لَهُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْخُسُوفِ إِلَّا بَعْدَ تَيَقُّنِ تَجَلِّيهِ، فَلَوْ كَانَ الْقَمَرُ طَالِعًا غَيْرَ كَاسِفٍ فَغَابَ ضَوْءُهُ فَلَمْ يُعْلَمْ هَلْ ذَلِكَ لِكُسُوفِهِ أَوْ حَائِلٍ تَجَلَّلَهُ مِنْ سَحَابٍ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يُصَلِّ لَهُ، لِأَنَّ الأصل أنه غير كاسف.

(2/511)


قَالَ الشَّافِعِيُّ: " فَإِنِ اجْتَمَعَ أَمْرَانِ فَخَافَ فَوَاتَ أَحَدِهِمَا، بَدَأَ بِالَّذِي يَخَافُ فَوْتَهُ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْآخَرِ " وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ فِي صَلَاةِ الْخُسُوفِ عَلَى فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَحْدَهَا أَجْزَأَهُ.
وَصَلَاةُ الْخُسُوفِ سُنَّةٌ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ لِلْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ فِي جَمَاعَةٍ وَفُرَادَى، لِتَعَلُّقِهَا بِآيَةٍ عَامَّةٍ يَشْتَرِكُ فِيهَا الْكَافَّةُ، فَإِنْ صَلَّاهَا النِّسَاءُ فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ صَلَّاهَا الرِّجَالُ فُرَادَى لَمْ يُخْطَبْ بَعْدَهَا، لِأَنَّ الْخُطْبَةَ لِلْغَيْرِ ".

(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَلَا آمُرُ بصلاة فِي سِوَاهِمَا وَآمُرُ بِالصَّلَاةِ مُنْفَرِدِينَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، لَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُصَلِّيَ لِشَيْءٍ مِنَ الْآيَاتِ سِوَى خُسُوفِ الشَّمْسِ وَكُسُوفِ الْقَمَرِ، فَأَمَّا الزِّلَازِلُ وَالرِّيَاحُ وَالصَّوَاعِقُ وَانْقِضَاضُ الْكَوَاكِبِ فَلَا يُصَلَّى لِشَيْءٍ مِنْهُ، كَصَلَاةِ الْخُسُوفِ في جماعة لا فُرَادَى.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَيُصَلَّى جَمَاعَةً فِي كُلِّ آيَةٍ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ يُصَلَّى فُرَادَى.
وَمَذْهَبُنَا أَصَحُّ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - آيَاتٌ، مِنْهَا انْشِقَاقُ الْقَمَرِ، وَالزِّلَازِلُ وَالرِّيَاحُ وَالصَّوَاعِقُ، فَلَمْ يُصَلِّ لِشَيْءٍ مِنْهَا، وَصَلَّى لِلْخُسُوفِ. وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَتْ إِذَا هَبَّتْ رِيحٌ عَاصِفٌ اصْفَرَّ لَوْنُهُ " وَقَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحًا وَلَا تَجْعَلْهَا رِيحًا " وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الرِّيَاحَ رَحْمَةً وَالرِّيحَ نِقْمَةً، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ) {الروم: 46) فَكَانَتْ رَحْمَةً، وَقَالَ تَعَالَى {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا) {الأحزاب: 9) فَكَانَتْ نِقْمَةً، فَإِنْ تَنَفَّلَ النَّاسُ بِالصَّلَاةِ لِهَذِهِ الْآيَاتِ جَازَ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ خَيْرٌ مَوْضُوعٌ، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ صَلَّى جَمَاعَةً فِي زَلْزَلَةٍ.
فَقَالَ الشَّافِعِيُّ فَإِنْ صَحَّ قُلْتُ بِهِ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ إِنْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قُلْنَا بِهِ، وَإِلَى وَقْتِنَا هَذَا لَمْ يَصِحَّ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنْ صَحَّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قُلْنَا بِهِ، فَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا عَلَى مَذْهَبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنْ صَحَّ قُلْنَا بِهِ فِي الزَّلْزَلَةِ.
وَالثَّانِي: إِنْ صَحَّ قُلْنَا بِهِ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ.

(2/512)