الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

باب فرض الإبل السائمة
قال الشافعي رضي الله عنه: " أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ الْمُثَنَّى بْنِ أَنَسٍ أَوِ ابْنِ فُلَانِ بن أنس شك الشافعي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ هَذِهِ الصَّدَقَةُ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على المسلمين التي أمر الله جل وعز بها فَمَنْ سُئِلَهَا عَلَى وَجْهِهَا فَلْيُعْطِهَا وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلَا يُعْطِهِ فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ فَمَا دُونَهَا الْغَنَمُ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وثلاثين ففيها بنت مخاضٍ فإن لم تكن بنت مخاضِ فابن لبونٍ ذكر فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمسٍ وأربعين ففيها بنت ليونٍ أنثى فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين ففيها حقه طروقة الجمل فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين ففيها ابنتا لبون فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائةٍ ففيها حقتان طروقتا الجمل ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّمَا بَدَأَ الشَّافِعِيُّ بِزَكَاةِ الْإِبِلِ لِأَمْرَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا غَالِبُ أَمْوَالِهِمْ، فَبَدَأَ بِهَا لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ أَعْدَادَ نُصُبِهَا أسنان الواجب فيها فصعب ضَبْطُهُ، فَبَدَأَ بِذِكْرِهِ لِتَقَعَ الْعِنَايَةُ بِمَعْرِفَتِهِ، ثُمَّ رَوَى الشَّافِعِيُّ مَا قَدَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ نُصُبِهَا، وَأَبَانَهُ مِنْ فَرْضِهَا، وَأَثْبَتَهُ فِي صَحِيفَةٍ، وَأَخَذَ بِهَا عُمَّالُهُ فِي حَيَاتِهِ، وَاقْتَدَى بها خلفاؤه رضي الله عنهم من بعده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَجُمْلَةُ مَنْ رَوَى فَرِيضَةَ الصَّدَقَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُسْتَوْفَاةً أَرْبَعَةٌ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَمْرُو بْنُ حَزْمٍ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَأَخَذَ الشَّافِعِيُّ بِرِوَايَةِ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ، دُونَ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ لِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ.
أَحَدُهَا: أَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَصَحُّ سَنَدًا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَابْنِ حَزْمٍ، وَلِأَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ وَارِدٌ مِنْ طَرِيقَيْنِ.

(3/74)


أَحَدُهُمَا: مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي صَدْرِ الْبَابِ عَنْ الْمُثَنَّى بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ.
وَالثَّانِي: رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، رَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طريقين ثابتين.
أحدهما: عن يونس بن يزيد عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
وَالثَّانِي: عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَوَارِدٌ مِنْ طَرِيقَيْنِ ضَعِيفَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ عَاصِمٌ ضَعِيفًا، وَالْآخَرُ الْحَارِثُ الْأَعْوَرُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ الْحَارِثُ ضَعِيفًا وَكَانَ الشَّعْبِيُّ إِذَا رَوَى عَنِ الْحَارِثِ قَالَ: أَخْبَرَنِي الْحَارِثُ الْأَعْوَرُ وَكَانَ وَاللَّهِ كَذَّابًا، وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَارِدٌ مِنْ طَرِيقَيْنِ غَيْرِ ثَابِتَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَبُو بَكْرِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ.
وَالثَّانِي: يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ الْأَيْلِيُّ قَالَ: أَقْرَأَنِي سَالِمٌ كِتَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الَّذِي عِنْدَ آلِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ حَدِيثُ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَصَحَّ سَنَدًا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَابْنِ حَزْمٍ، كَانَ الْأَخْذُ بِهِمَا، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِمَا أولى.

(3/75)


وَالثَّانِي: أَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ عَمِلَ عَلَيْهِ إِمَامَانِ، أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ كَرَّمَ اللَّهُ وجهيهما، ولم يعملا على رواية علي عليه السلام وَابْنِ حَزْمٍ أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا اتُّفِقَ عَلَى تَرْكِهِ، وَهُوَ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ: خَمْسُ شِيَاهٍ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ مُجْمَعٌ عَلَى العمل به.
فإن قيل: لما خَصَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الزكاة بأن كتبها في صحيفة دون سائرها من الْفُرُوضِ، مِنَ الصَّلَاةِ وَمَوَاقِيتِهَا، وَالصِّيَامِ وَأَحْكَامِهِ، وَالْحَجِّ ومناسكه، ولا اقتصر على القول كَمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْقَوْلِ فِي غَيْرِهِ.
قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ ونصبها، ومقاديرها، الواجب فِيهَا وَأَسْنَانَ الْمَأْخُوذِ مِنْهَا، لَمَّا طَالَ وَصَعُبَ احْتَاجَ إِلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ، دُونَ سَائِرِهِمْ، فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً، بِخِلَافِ الْفُرُوضِ الْمُتَرَادِفَةِ عَلَى الْكَافَّةِ، أَوْدَعَ ذَلِكَ كِتَابًا لِيَكُونَ أَحْفَظَ لَهُ، وَأَضْبَطَ، فَكَانَتْ نُسْخَةُ ذَلِكَ فِي قِرَابِ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ، أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَخَذَهَا مِنْ قِرَابِ سَيْفِهِ فَكَانَ يَعْمَلُ عَلَيْهَا مُدَّةَ حَيَاتِهِ، ثُمَّ مَاتَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَعَمِلَ بِهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مدة حياته.

فَصْلٌ
أَوَّلُ مَا ابْتَدَأَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي نُسْخَتِهِ أَنْ كَتَبَ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى إِثْبَاتِ التَّسْمِيَةِ فِي ابْتِدَاءِ الْكُتُبِ، وَدَلَّ عَلَى نَسْخِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ، مِنْ قَوْلِهِمْ بِاسْمِكِ اللَّهُمَّ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي ابْتِدَاءِ الْكُتُبِ، وَأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأْ فِيهِ بحمد الله تعالى فهو أبتر " يريد لمن يبدأ فيه بحمد اللَّهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ قَالَ هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ، فَبَدَأَ بِإِشَارَةِ التَّأْنِيثِ، لِأَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهَا مُؤَنَّثًا، وَقَوْلُهُ فَرِيضَةُ، يَعْنِي نُسْخَةُ فَرِيضَةِ الصَّدَقَةِ، فَحَذَفَ ذكر النسخة وأقام الفريضة مَقَامِهَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اسْمَ الصَّدَقَةِ وَالزَّكَاةِ وَاحِدٌ، بِخِلَافِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أبو حنيفة ثُمَّ قَالَ: الَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى الْمُسْلِمِينَ، يَعْنِي: الَّتِي قَدَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، كَمَا يُقَالُ فَرَضَ الْقَاضِي النَّفَقَةَ أَيْ قَدَّرَهَا، بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ، الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهَا، فَكَانَ فِي ذَلِكَ بَيَانٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَهَا، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قدرها، ثم أكد ذلك ما روي عن ضمام بن ثعلبة أَنَّهُ قَامَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِنَا؟ فَقَالَ: اللَّهُ أَمَرَنِي بِذَلِكَ وَقَوْلُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: فمن يسألها فَلْيُعْطِهَا، يُرِيدُ مَنْ سَأَلَكُمُ الزَّكَاةَ مِنَ الْوُلَاةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَثْبَتُّهُ، وَكَانَ عَدْلًا، فَأَعْطُوهُ ثم قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلَا يُعْطِهِ " يُرِيدُ مَنْ

(3/76)


سُئِلَ فَوْقَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَالْحُكْمُ فِيهِ أَنْ يُنْظَرَ، فَإِنْ كَانَ طَالِبُ الزِّيَادَةِ مُتَأَوِّلًا بِطَلَبِهَا، كالمالكي الذي يرى أخذ الكبيرة من الصِّغَارِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمْنَعَهُ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَلَا يُعْطِهِ " رَاجِعًا إِلَى الزِّيَادَةِ، وَإِنْ كَانَ طالب الزيادة غير متأول فيها، والزيادة لا وجه له في الاجتهاد بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَلَا يُعْطِهِ " فِيهِ لِأَصْحَابِنَا جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الزِّيَادَةِ، فَعَلَى هَذَا يُعْطِيهِ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ وُلِّيَ عَلَيْكُمْ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا مَا أَقَامَ فِيكُمْ كِتَابَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْجُمْلَةِ مِنَ الْوَاجِبِ وَالزِّيَادَةِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ الْوَاجِبَ وَلَا الزِّيَادَةَ، لِأَنَّهُ بِطَلَبِ الزِّيَادَةِ فَاسِقٌ، وَالْفَاسِقُ لَا وِلَايَةَ لَهُ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَطِيعُوهُمْ مَا أَطَاعُوا اللَّهَ سُبْحَانَهُ، فَإِذَا عَصَوُا اللَّهَ تَعَالَى فَلَا طَاعَةَ لَهُمْ عَلَيْكُمْ " ثُمَّ ابتدأ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بذكر الإبل فقال: " فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ فَمَا دُونَهَا الْغَنَمُ "، فَكَانَ هَذَا تَفْسِيرًا مِنْ وَجْهٍ، وَإِجْمَالًا مِنْ وَجْهٍ، فَالتَّفْسِيرُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ فَمَا دُونَهَا إِلَّا الْغَنَمُ، وَالْإِجْمَالُ أَنَّهُ لَا يُدْرَى قَدْرُ الْوَاجِبِ فِيهَا، ثُمَّ قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ ذَلِكَ مُفَسِّرًا لِهَذَا الْإِجْمَالِ، " فِي كُلِّ خمسٍ شَاةٌ " فَكَانَ هَذَا بَيَانًا لِابْتِدَاءِ النِّصَابِ، وَقَدْرِ الْوَاجِبِ فِيهِ.

فَصْلٌ
لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ العلماء أن أول النصاب فِي الْإِبِلِ خَمْسٌ، وَأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا شَاةٌ، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فِي كُلِّ خمسٍ شاةٌ " وَلِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " ليس فيما دون خمس ذودٍ من الإبل صدقة " والذوذ مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى التِّسْعَةِ فَإِذَا صَارَتْ عَشْرًا فما فوق صرة من الإبل، فإذا بلغت مائة قيل هنيدة، وَيُقَالُ هُنَيْدِيَّةٌ، فَإِذَا نَقَصَتْ إِبِلُ الرَّجُلِ عَنْ خَمْسٍ فَلَا شَيْءَ فِيهَا، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا فَفِيهَا شَاةٌ إِلَى تِسْعٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ عَشْرًا إلى أربع عشرة ففيها شاتان فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسَ عَشْرَةَ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ، إِلَى تِسْعَ عَشْرَةَ، فَإِذَا بَلَغَتْ عِشْرِينَ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ، إِلَى أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، وَهِيَ غَايَةُ الْعَدَدِ الَّذِي يَجِبُ فِي فَرِيضَةِ الْغَنَمِ.
فَأَمَّا صفة هذه الشياه، وهي كُلُّ شَاةٍ يَجُوزُ أُضْحِيَّتُهَا إِمَّا جَذَعَةٌ مِنَ الضَّأْنِ أَوْ ثَنِيَّةٌ مِنَ الْمَعْزِ، وَلَا وَجْهَ لِمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا، كُلُّ مَا انْطَلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ شَاةٍ أَجْزَأَتْ وَإِنْ لَمْ تُجْزِ فِي الضَّحَايَا، لِأَنَّ مُطْلَقَ هَذَا الِاسْمِ فِي الشرع يتناول ما قيد وصفه من الضَّحَايَا كَالدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ فِي الْحَجِّ، ثُمَّ لِأَصْحَابِنَا فِي هَذِهِ الشَّاةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا تجزي ذكراً وأنثى كَالضَّحَايَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ.

(3/77)


والثاني: أنها لا تجزي إلا أنثى كالواجبة فِي الزَّكَاةِ.
وَالثَّالِثُ: وَبِهِ قَالَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ، أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْإِبِلُ إِنَاثًا لَمْ تُجْزِ الشَّاةُ إِلَّا أُنْثَى، وَإِنْ كَانَتْ ذُكُورًا أَجْزَأَ ذَكَرًا وَأُنْثَى، اعْتِبَارًا بِوَصْفِ الْمَالِ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْكِرَامِ كَرِيمٌ، وَمِنَ اللِّئَامِ لَئِيمٌ، فَأَمَّا الْوَقْصُ فَهُوَ مَا بَيْنَ النِّصَابَيْنِ كالأربعة إلى الخمس وَالْعَشَرَةِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ البويطي، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ محمد بن الحسن، أَنَّ الْفَرْضَ مَأْخُوذٌ مِنْ جَمِيعِهِ، فَتَكُونُ الشَّاةُ مَأْخُوذَةً مِنَ التِّسْعَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أبو حنيفة وأبو يوسف، أَنَّ الشَّاةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْخَمْسِ، وَالْوَقْصَ الزَّائِدَ عَلَى ذَلِكَ عَفْوٌ، وَسَنَذْكُرُ تَوْجِيهَ الْقَوْلَيْنِ، وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِمَا فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ سبحانه، وإذا صَارَتِ الْإِبِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ، انْتَقَلَ الْفَرْضُ مِنَ الْغَنَمِ إِلَى الْإِبِلِ، وَوَجَبَ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ، وَبِهِ قَالَ كَافَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ، إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، أَنَّ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ خَمْسُ شِيَاهٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَعِشْرِينَ، فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ، اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ شُعْبَةَ وَزُهَيْرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ خَمْسُ شياه، وفي ستة وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ " وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَيْرُ ثَابِتَةٍ وَالْحِكَايَةُ عَنْ عَلِيٍّ وَالشَّعْبِيِّ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، وَلَوْ سَلَّمْنَا هَذِهِ الرِّوَايَةَ لَكَانَتْ رِوَايَةُ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فِي خمسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مخاضٍ " أَوْلَى مِنْ وُجُوهٍ.
أَحَدُهَا: ثِقَةُ الرُّوَاةِ، وَصِحَّةُ الْإِسْنَادِ.
وَالثَّانِي: اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ مُتَّصِلٌ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَشَكُّهُمْ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ أَوْ مُتَّصِلٌ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لأن زهيراً يقول: أجبته عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَكَانَ الْحَدِيثُ الْمُتَّصِلُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إجماعاً أولى.
والثالث: أنه رواية أنس وابن عمر معول على جميعها، وَحَدِيثُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُتَّفَقٌ عَلَى تَرْكِ بَعْضِهِ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ أَشْبَهُ بِأُصُولِ الزكاة من حديث عليّ عليه السلام، لأنه سَائِرَ النُّصُبِ لَا تَقْتَرِنُ حَتَّى يَتَخَلَّلَهَا وَقْصٌ لَا يُؤَثِّرُ فِي الزَّكَاةِ، فَأَمَّا صِفَةُ بِنْتِ مَخَاضٍ، فَهِيَ: الَّتِي لَهَا سَنَةٌ كَامِلَةٌ وَقَدْ دَخَلَتْ فِي الثَّانِيَةِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِنْتَ مَخَاضٍ، لِأَنَّ أُمَّهَا قَدْ مَخَضَتْ

(3/78)


بِغَيْرِهَا، أَيْ: حَمَلَتْ، وَالْمَاخِضُ: الْحَامِلُ، وَهَذَا السِّنُّ هو أولى للانتفاع بالإبل، لأن ما دون ذلك لا انتفاع بِهِ فِي الْغَالِبِ، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ النَّاقَةَ إِذَا وَضَعَتْ وَلَدَهَا لِدُونِ وَقْتِهِ وَأَوَانِهِ قِيلَ خدجت الناقة وقيل: سمي خديج إذا وَضَعَتْهُ لِوَقْتِهِ وَزَمَانِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ نَاقِصُ الْخَلْقِ في نفسه، قيل: أخدجت الناقة، وسمي مخدوج، فَإِذَا وَضَعَتْهُ تَامًا قِيلَ لَهُ هُبَعٌ وَرُبَعٌ، ثُمَّ فَصِيلٌ، ثُمَّ مَلِيلٌ، ثُمَّ حُوَارٌ، ثُمَّ جاسر فإذا تم سَنَةً قِيلَ ابْنُ مَخَاضٍ لِلذَّكَرِ، وَبِنْتُ مَخَاضٍ للأنثى.

فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ بِنْتِ مَخَاضٍ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فَهِيَ فَرْضُهَا، إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، فإذا لَمْ يَكُنْ فِي إِبِلِهِ بِنْتُ مَخَاضٍ وَكَانَ في إبله ابن لبون ذكراً، أُخِذَ مِنْهُ ابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ مَعَ وُجُودِ بِنْتِ مَخَاضٍ، وهذا غلط.
وقال أبو حنيفة يجوز أن يأخذ مِنْهَا ابْنُ لَبُونٍ مَعَ وُجُودِ بِنْتِ مَخَاضٍ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ ابن لبون مع وجود بنت مخاض في ماله، قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ " فَشَرْطُ أَخْذِ ابْنِ لَبُونٍ مَعَ عَدَمِ بِنْتِ مَخَاضٍ، فَاقْتَضَى أَنْ لَا يُؤْخَذُ مَعَ وُجُودِهَا، فلو لم يكن في ماله بنت خاض، وَلَا ابْنُ لَبُونٍ فَابْتَاعَ ابْنَ لَبُونٍ، جَازَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ، وَقَالَ مَالِكٌ يَلْزَمُهُ أَنْ يَبْتَاعَ بِنْتَ مَخَاضٍ، فَإِنِ ابْتَاعَ ابْنَ لَبُونٍ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ، وَهَذَا غَلَطٌ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ، وَلِأَنَّ كل من يَجُوزُ إِخْرَاجُهُ إِذَا كَانَ لَهُ مَالِكًا يَجُوزُ إخراجه إذا ابتاعه، قياساً على ابن مخاض، فلو لم يكن فِي مَالِهِ جَمِيعًا، وَأَرَادَ السَّاعِي مُطَالَبَتَهُ بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ، فَفِي كَيْفِيَّةِ مُطَالَبَتِهِ بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ:
أحدهما: يخير فِي الْمُطَالَبَةِ بَيْنَ بِنْتِ مَخَاضٍ وَابْنِ لَبُونٍ ذَكَرٍ، لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي الْأَدَاءِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يطالبه ببنت مخاض لأنه الْأَصْلُ، فَإِنْ جَاءَ بِابْنِ لَبُونٍ أُخِذَ مِنْهُ، فلو أَعْطَى حِقًّا ذَكَرًا بَدَلًا مِنْ بِنْتِ مَخَاضٍ عِنْدَ عَدَمِهَا، فَفِي جَوَازِ قَبُولِهِ مِنْهُ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا يُقْبَلُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ أَعْلَى سِنًّا مِنَ ابن لبون وأنفع، والوجه الثاني وهو مذهب ضَعِيفٌ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الزَّكَاةِ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ وَاحِدَةً وَبَلَغَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ، فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ، وَهِيَ الَّتِي لَهَا سَنَتَانِ كَامِلَتَانِ وَدَخَلَتْ فِي الثَّالِثَةِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ، لِأَنَّ أُمَّهَا قَدْ وَضَعَتْ وَدَرَّ لَبَنُهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ شَرْطًا فِيهَا، وَلَا فِي بِنْتِ مَخَاضٍ، بَلْ الِاسْمُ وَاقِعٌ عَلَيْهِمَا وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْأُمُّ مَاخِضًا وَلَا لَبُونًا، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ بِنْتُ لَبُونٍ فَأَعْطَى بَدَلَهَا حِقًّا لَمْ يَجُزْ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَجُوزُ إِخْرَاجُهُ قِيَاسًا عَلَى ابْنِ لَبُونٍ، وَهَذَا خَطَأٌ.

(3/79)


والفرق بينهما: أن الحق مقارب لبنت اللبون في المنفعة والحمل، ثم يختص ببعض الزكاة فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُهُ بَدَلًا مِنْهَا لِنَقْصِهِ، وَابْنُ اللبون وإن كان فيه بعض الذُّكُورَةِ فَفِيهِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْمَنْفَعَةِ وَالِامْتِنَاعِ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ مَا لَيْسَ فِي بِنْتِ مَخَاضٍ، فَجَازَ أَخْذُهُ بَدَلًا مِنْهَا.

فَصْلٌ
: فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ وَاحِدَةً، فَبَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ، فَفِيهَا حِقَّةٌ، إِلَى السِّتِّينَ، وَالْحِقَّةُ: الَّتِي لَهَا ثَلَاثُ سِنِينَ وَقَدْ دَخَلَتْ فِي الرَّابِعَةِ وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ، لِأَنَّهَا قَدِ اسْتَحَقَّتْ أَنْ يَطْرُقَهَا الْفَحْلُ، وَقِيلَ بَلْ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا قَدِ اسْتَحَقَّتْ أَنْ تُرْكَبَ، وَيُحْمَلَ عَلَيْهَا الْحُمُولَةُ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَبَلَغَتْ إِحْدَى وَسِتِّينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ. والجذعة: التي مالها أَرْبَعُ سِنِينَ وَقَدْ دَخَلَتْ فِي الْخَامِسَةِ وَقَدْ خَرَجَ جَمِيعُ أَسْنَانِهَا.
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ جَذَعَةً لِأَنَّ أَسْنَانَهَا لَمْ تَسْقُطْ فَيُبَدَّلُ عَلَيْهَا، والجذعة أعلى الأسنان الواجبة على الزَّكَاةِ، وَيُقَالُ لِمَا زَادَ عَلَى الْجَذَعِ ثَنِيٌّ، ثُمَّ رُبَاعٌ، ثُمَّ سَدِيسٌ، ثُمَّ بَازِلٌ، ثُمَّ مُخَلَّفُ عَامٍ، وَمُخَلَّفُ عَامَيْنِ، وَالْجَذَعُ هُوَ نِهَايَةُ الْإِبِلِ فِي الْحُسْنِ وَالدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَالْقُوَّةِ، وَمَا زاد عليه وجوع، كَالْكِبَرِ وَالْهَرَمِ، فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ وَاحِدَةً فَبَلَغَتْ سِتًّا وَسَبْعِينَ، فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ إِلَى تِسْعِينَ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَبَلَغَتْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ، فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْفَحْلِ، ثُمَّ لَا يَزَالُ ذَلِكَ فَرْضُهَا إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى المائة وَعِشْرِينَ، تَغَيَّرَ هَذَا الِاعْتِبَارُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فَهِيَ نَصُّ الْخَبَرِ، وَإِجْمَاعُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، فَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ، إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ إِلَى سِتِّينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَسِتِّينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فإذا بلغت ستة وسبعين ففيها بنت لَبُونٍ إِلَى تِسْعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ فَفِيهَا حِقَّتَانِ إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ يَسْتَقِرُّ الفرض لما زاد على الحقاق وبنات اللبون.
فصل
: قال الشافعي فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ.
وَهُوَ صَحِيحٌ.
وَهُوَ نَصُّ الْحَدِيثِ فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ، فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَالْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ: لَا اعْتِبَارَ بِالزِّيَادَةِ حَتَّى تَكُونَ خَمْسًا، فَتَبْلُغُ مِائَةً وَخَمْسًا وَعِشْرِينَ، فَيَكُونَ فِيهَا حِقَّتَانِ وَبِنْتُ مَخَاضٍ، فَالْحِقَّتَانِ فِي مِائَةٍ، وَبِنْتُ

(3/80)


مَخَاضٍ فِي خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ وَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ الْقَاسِمِ عَنْهُ: لَا اعْتِبَارَ بِالزِّيَادَةِ حَتَّى تَكُونَ عَشْرًا فَتَبْلُغَ مِائَةً وَثَلَاثِينَ، فَيَكُونَ فِيهَا حِقَّتَانِ وَبِنْتُ لَبُونٍ.
وَقَالَ أبو حنيفة وَصَاحِبَاهُ: يَسْتَأْنِفُ الْفَرْضَ بَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ، فَيَكُونُ فِي مِائَةٍ وَخَمْسٍ وَعِشْرِينَ حِقَّتَانِ وَشَاةٌ، وَفِي مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ، حِقَّتَانِ وَشَاتَانِ، وَفِي مِائَةٍ وَخَمْسٍ وَثَلَاثِينَ حِقَّتَانِ وَثَلَاثُ شِيَاهٍ، وَفِي مِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ حِقَّتَانِ وَأَرْبَعُ شِيَاهٍ، وَفِي مِائَةٍ وَخَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ حِقَّتَانِ وَبِنْتُ مَخَاضٍ، وَفِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ ثَلَاثُ حِقَاقٍ، كَقَوْلِنَا ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ فَرْضَ الشِّيَاهِ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِرِوَايَةِ زُهَيْرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بن ضمرة عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ عَلَى الْمِائَةِ وَعِشْرِينَ استؤنفت الفريضة، في كل خمس شاة، ولرواية أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَتَبَ إِلَيْهِ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ إِلَى الْيَمَنِ: وَفِيهِ الْعَقْلُ، وَالْأَسْنَانُ، وَنُصُبُ الزَّكَوَاتِ، فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَفِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ، قَالُوا وَلِأَنَّ الشَّاةَ فَرْضٌ يَتَكَرَّرُ قَبْلَ الْمِائَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَكَرَّرَ بَعْدَهَا كَالْحِقَاقِ وبنات اللبون، قالوا: وَلِأَنَّكُمْ إِذَا أَوْجَبْتُمْ بِالْوَاحِدَةِ الزَّائِدَةِ عَلَى الْمِائَةِ وَعِشْرِينَ ثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ لَمْ تَنْفَكُّوا مِنْ مخالفة الخبر ومخالفة أُصُولِ الزَّكَوَاتِ، لِأَنَّكُمْ إِنْ قُلْتُمْ إِنَّ ثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ تَجِبُ فِي مِائَةٍ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ، فَقَدْ خَالَفْتُمُ الْخَبَرَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ " وَأَنْتُمْ أَوْجَبْتُمْ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ وَثُلُثٍ، وَإِنْ قُلْتُمْ إِنَّ بَنَاتِ اللَّبُونِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَإِنَّ الْوَاحِدَةَ الزَّائِدَةَ وَقْصٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا الْفَرْضُ، خَالَفْتُمْ أُصُولَ الزَّكَوَاتِ لِأَنَّ كُلَّ مُغَيِّرٍ لِلْفَرْضِ فِي أُصُولِ الزَّكَوَاتِ يَتَعَلَّقُ الْفَرْضُ بِهِ، وَيَكُونُ الْفَرْضُ مَأْخُوذًا مِنْهُ وَمِنَ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ، كَالسَّادِسِ وَالثَّلَاثِينَ وَالسَّادِسِ وَالْأَرْبَعِينَ وَالْوَاحِدِ الزَّائِدِ عَلَى السِّتِّينَ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: فإذا بلغت أحد وَتِسْعِينَ فَفِيهَا حِقَّتَانِ إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، وَالدَّلَالَةُ فِي هَذَا الْخَبَرِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِقَّتَانِ إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، وَإِلَى غَايَةٍ وَحَدٍّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ بَعْدَ الْحَدِّ وَالْغَايَةِ بِخِلَافِهِ قَبْلَهُ.
وَالثَّانِي قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ " فَاقْتَضَى ظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ قَلِيلُ الزِّيَادَةِ وَكَثِيرُهَا مُغَيِّرًا لِلْفَرْضِ عَلَى مَا أَبَانَهُ مِنْ وُجُوبِ بِنْتِ لَبُونٍ فِي أَرْبَعِينَ وَحِقَّةٍ فِي خَمْسِينَ، فَإِنْ قِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِذَا زَادَتْ عَلَى الْمِائَةِ وَعِشْرِينَ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ "، لأن حُكْمِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ إِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ، وَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسِينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ، لِأَنَّهُ

(3/81)


أَرَادَ بِذَلِكَ جُمْلَتَهَا مِنَ الزِّيَادَةِ وَالْمَزِيدُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مِنْهَا بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ يَبْطُلُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ بِخِلَافِهِ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِي مِائَةٍ وَسِتِّينَ حِقَّتَانِ وَبِنْتُ لَبُونٍ، فَالْحِقَّتَانِ فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، وَبِنْتُ اللَّبُونِ فِي الْأَرْبَعِينَ الزَّائِدَةِ، وَفِي الْمِائَةِ وَسَبْعِينَ ثَلَاثُ حِقَاقٍ، وَهَذَا قَوْلٌ قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى خِلَافِهِ، فَكَانَ التَّأْوِيلُ الْمُؤَدِّي إِلَيْهِ بَاطِلًا بِالْإِجْمَاعِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَإِذَا زَادَتْ " شَرْطٌ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ " حُكْمٌ وَالْحُكْمُ رَاجِعٌ إِلَى الْجُمْلَةِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَلَيْسَ لَهُ اخْتِصَاصٌ بِبَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ رِوَايَةُ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ وَسُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ عَلَى الْمِائَةِ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ " فَكَانَ هَذَا نَصًّا يُبْطِلُ كُلَّ تَأْوِيلٍ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ، هُوَ أَنَّ الشَّاةَ أَحَدُ طَرَفَيِ الْإِيجَابِ فِي الْإِبِلِ قَبْلَ الْمِائَةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ كَالْجَذَعَةِ، وَلِأَنَّ بِنْتَ مَخَاضٍ سِنٌّ لَا يَتَكَرَّرُ قَبْلَ المائة فوجب أن لا يعود بعد المائة كالجذعة، فثبت بهذين القياسين انتفاء وجوب الشاة وبنت المخاض بعد المائة، ثم نقول بابتداء لما ذكرنا، ولأنها نصب مختلفة الترتيب فِي اسْتِفْتَاحِ الْفَرِيضَةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَعُودَ تَرْتِيبُهَا الْأَوَّلُ فِيمَا بَعْدُ كَالْغَنَمِ، وَلِأَنَّا وَجَدْنَا النُّصُبَ الَّتِي قَبْلَ الْمِائَةِ أَقْرَبَ إِلَى فَرْضِ الْغَنَمِ مِنَ النُّصُبِ الَّتِي بَعْدَ الْمِائَةِ، فَلَمَّا لَمْ تَعُدِ الشَّاةُ إِلَى النُّصُبِ الَّتِي هِيَ أقرب إليها، فالتي لَا تَعُودَ إِلَى النُّصُبِ الَّتِي هِيَ أَبْعَدُ منها أولى، فأما الجواب على ما اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ الْخَبَرِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَرْجِيحٌ.
وَالثَّانِي: اسْتِعْمَالٌ، فَأَمَّا التَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مَا رَوَيْنَا مِنَ الْأَخْبَارِ، فَمِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ مَا رَوَيْنَاهُ أَصَحُّ إِسْنَادًا، وَأَوْثَقُ رِجَالًا.
وَالثَّانِي: أَنَّ بِهِ عَمِلَ الْإِمَامَانِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ خبرنا متفق على اسْتِعْمَالِ بَعْضِهِ، فَالْمُتَّفَقُ عَلَى مَا اسْتُعْمِلَ مِنْهُ فيما دون المائة والعشرين، والمختلف منه فيما زاد على ذلك، وغيرهم مُتَّفَقٌ عَلَى تَرْكِ بَعْضِهِ، مُخْتَلَفٌ فِي اسْتِعْمَالِ بَعْضِهِ، فَمَا اتُّفِقَ عَلَى تَرْكِهِ مِنْهُ: إِيجَابُ خَمْسِ شِيَاهٍ، وَمَا اخْتُلِفَ فِي اسْتِعْمَالِهِ مِنْهُ فما زاد على المائة وعشرين.

(3/82)


وَالرَّابِعُ: أَنَّ خَبَرَنَا مُسْنَدٌ، وَخَبَرَهُمْ يُوقَفُ مَرَّةً، وَيُسْنَدُ أُخْرَى، فَكَانَ خَبَرُنَا أَوْلَى وَأَمَّا الِاسْتِعْمَالُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الَّذِي رَوَاهُ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " اسْتُؤْنِفَتِ الْفَرِيضَةُ " وَقَوْلُهُ " فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ " مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالِاسْتِئْنَافِ ابْتِدَاءَ الْفَرِيضَةِ فَلَا يَكُونُ لَهُ حُكْمٌ، وَقَوْلُهُ اسْتُؤْنِفَتِ الْفَرِيضَةُ، يُرِيدُ بِهِ اسْتِئْنَافَهَا عَلَى غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَرْتِيبِهَا، وَهُوَ الَّذِي أَبَانَهُ بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ اسْتُؤْنِفَتِ الفريضة في كل خمس شاة فإسناد مِنْ غَيْرِ أَعْيَانِهَا كَأَنَّهُ مَلَكَ مِائَةً وَعِشْرِينَ ثم استأنفت فِي حَوْلِهَا خَمْسًا أَوْ عَشْرًا مِنْ غَيْرِ بناتها، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ بِهَذَا الْحَوْلِ وَيُخْرِجَ مَنْ كُلِّ خَمْسٍ شَاةً، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ ذَكَرَهُ أَبُو حَامِدٍ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّا نَقُولُ إِنَّ الشَّاةَ قَدْ تُؤْخَذُ بَعْدَ المائة بين الستين، على أنا عَارَضْنَاهُمْ بِمِثْلِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّكُمْ لَا تَنْفَكُّونَ من مخالفة الخبر وأصول الزَّكَاةِ: فَالْجَوَابُ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ ثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْكُلِّ أَعْنِي مِنَ المائة والإحدى والعشرين، ولم يخالف الْخَبَرَ لَكِنْ خَصَّصْنَاهُ، وَمَذْهَبُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ، أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، وَالْوَاحِدَةُ الزَّائِدَةُ عليها لا يتعلق الفرض عليها، تَمَسُّكًا بِالْخَبَرِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةً لِلْأُصُولِ، لِأَنَّا قَدْ وَجَدْنَا فِي الْأُصُولِ مَنْ يُغَيِّرُ فَرْضَ غَيْرِهِ، وَلَا يُغَيِّرُ فَرْضَ نَفْسِهِ، فَمِنْهُمُ الْأَخَوَانِ يُغَيِّرَانِ فَرْضَ الْأُمِّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السدس، ولا يغيران حال نفسيهما وَالْعَبْدُ إِذَا وَطِئَ حُرَّةً بِنِكَاحٍ حَصَّنَهَا وَجَعَلَ فَرْضَهَا الرَّجْمَ، وَلَمْ يُغَيِّرْ فَرْضَ نَفْسِهِ فِي الْحَدِّ.

فَصْلٌ
: فَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ لِصِحَّةِ مَذْهَبِهِ بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ عَلَى مائةٍ وَعِشْرِينَ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حقة " وكان المعتبر في الزيادة اجتماع الثلاث حقاق وَبَنَاتُ اللَّبُونِ، وَذَلِكَ لَا يَجْتَمِعُ فِي أَقَلِّ مِنْ مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ، وَهَذَا خَطَأٌ بِدَلَالَةِ مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ وَاحِدَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ، ثُمَّ يَبْطُلُ ما ذكره مِنَ اجْتِمَاعِ الْحِقَاقِ وَبَنَاتِ اللَّبُونِ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ لَا غَيْرَ، وَبِمِائَةٍ وَسِتِّينَ فَفِيهَا أَرْبَعُ بَنَاتِ لَبُونٍ لَا غَيْرَ، وَأَمَّا حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ فَلَا يَرْجِعُ إِلَى خَبَرٍ وَلَا أَثَرٍ وَلَا نَظَرٍ، فَبَطَلَ قَوْلُهُ وأما ابن جرير الطبري فله مذهب خامس أَنَّ الْمُصَدِّقَ بِالْخِيَارِ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ وَعِشْرِينَ بَيْنَ ثَلَاثِ بَنَاتِ لَبُونٍ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَبَيْنَ حِقَّتَيْنِ وَشَاةٍ، كَمَا قَالَ أبو حنيفة وَهَذَا خَطَأٌ فَاحِشٌ لِأَنَّنَا قَدْ أَسْقَطْنَا مَا رَوَاهُ أبو حنيفة، وَأَسْقَطَ أبو حنيفة مَا رَوَيْنَاهُ، وَأَسْقَطَ ابْنُ جَرِيرٍ الْخَبَرَيْنِ جَمِيعًا،

(3/83)


لِأَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ أَنَّ فَرْضَهُ بَنَاتُ اللَّبُونِ لَمْ يَجُزِ اعْتِبَارُ الشَّاةِ، وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ فَرْضَهُ الشَّاةُ لَمْ يَجُزِ اعْتِبَارُ بَنَاتِ اللَّبُونِ فَاعْتِبَارُهُمَا إِسْقَاطُهُمَا.

فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوَاحِدَةَ الزائدة على مائة وعشرين بغير الْفَرْضَ مُوجِبَةٌ لِثَلَاثِ بَنَاتِ لَبُونٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الزَّائِدَةِ إِذَا كَانَتْ بَعْضَ وَاحِدَةٍ، هَلْ تُغَيِّرُ الْفَرِيضَةَ أَمْ لَا فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ يَتَغَيَّرُ بِهَا الْفَرْضُ، فَيَجِبُ فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَسُدُسٍ ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَدِيثِ أَنَسٍ " فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وفي كل خمسين حقة " فجعل تغير الْفَرْضِ مُعْتَبَرًا بِالزِّيَادَةِ وَالزِّيَادَةُ لَا تَخْتَصُّ بِكَثِيرٍ دُونَ قَلِيلٍ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَعَامَّةُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ أَصَحُّ أن الفرض لا يتغير إلا بتغير كَامِلٍ، فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ بَعْضَ تَغْيِيرٍ لَمْ يَتَغَيَّرِ الْفَرْضُ بِهَا، وَوَجَبَ فِيهَا حِقَّتَانِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: " فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ "، وَلِأَنَّهُ وَقْصٌ مُحَدَّدٌ فِي الشَّرْعِ فَوَجَبَ إِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ أَقَلَّ مِنْ بَعِيرٍ كَامِلٍ أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ الْفَرْضُ بِهَا كَسَائِرِ الْأَوْقَاصِ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْفَرْضَ يَتَغَيَّرُ بِمَا زَادَ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ عَلَى اخْتِلَافِ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ فِي اعْتِبَارِ كَثِيرِ الزِّيَادَةِ وَقَلِيلِهَا، وَاعْتِبَارِ بَعِيرٍ كَامِلٍ يَزِيدُ عَلَيْهَا، فَفِيهَا بَعْدَ وُجُوبِ الزِّيَادَةِ ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ إِلَى مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ، فَإِذَا اسْتَكْمَلَتْ مِائَةً وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ وَحِقَّةٌ، أَمَّا بِنْتَا لَبُونٍ فَفِي ثَمَانِينَ، وَأَمَّا الْحِقَّةُ فَفِي خَمْسِينَ، ثُمَّ ذَلِكَ فَرْضُهَا إِلَى مِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ وَحِقَّتَانِ إِلَى مِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ إِلَى مِائَةٍ وَسِتِّينَ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا أَرْبَعُ بَنَاتِ لَبُونٍ إِلَى مِائَةٍ وَسَبْعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا حِقَّةٌ وَثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ إِلَى مِائَةٍ وَثَمَانِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا حِقَّتَانِ وَبِنْتَا لَبُونٍ إِلَى مِائَةٍ وَتِسْعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ وَبِنْتُ لَبُونٍ إِلَى مِائَتَيْنِ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا أَرْبَعُ حِقَاقٍ أو خمس بنات لبون.

مسألة:
قال الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ جَذَعَةً وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ منه ويجعل معها شاتين إن استيسرتا عليه أو عشرين درهماً فإذا بلغت عليه الحقة وليست عنده حقة وعنده جذعة فإنها تقبل منه الجذعة ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين " (قال الشافعي) حديث أنس بن مالك ثابت من جهة حماد بن سلمة وغيره عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وروي عن ابن عمر أن هذه نسخة كتاب عمر في الصدقة التي كان يأخذ عليها فحكي هذا المعنى من أوله إلى قوله " فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خمسين حقة، (قال الشافعي) وبهذا كله نأخذ ".

(3/84)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ صَحِيحٌ.
وَأَصْلُهُ: أَنَّ مَنْ وَجَبَتِ الْفَرِيضَةُ فِي مَالِهِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، فَلَهُ الصُّعُودُ فِي السِّنِّ وَالْأَخْذِ أَوِ النُّزُولُ وَالرَّدِّ وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ أَنْ يَبْتَاعَ الْفَرْضَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ فِي كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ جَذَعَةً وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ أُخِذَتْ مِنْهُ، وَيَجْعَلُ مَعَهَا إِنِ اسْتَيْسَرَ شَاتَيْنِ، أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ حِقَّةً وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ جذعة أخذها وأعطاه المصدق شاتين، أو أعطاه المصدق عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَذَكَرَ مِثْلَ هَذَا فِي كُلِّ فَرِيضَةٍ، وَلِأَنَّ أَمْرَ الزَّكَاةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُوَاسَاةِ وَالرِّفْقِ بِرَبِّ الْمَالِ وَالْمَسَاكِينِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْفَرْضُ مَوْجُودًا فِي مَالِهِ جَعَلَ لَهُ الصُّعُودَ وَالنُّزُولَ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ وَرِفْقًا بِهِ، إِذْ فِي تَكْلِيفِهِ ابْتِيَاعَ الْفَرْضِ مَشَقَّةٌ لَاحِقَةٌ، فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الصُّعُودِ فِي السِّنِّ وَالْأَخْذِ وَالنُّزُولِ فِيهَا وَالرَّدِّ، فَالْوَاجِبُ فِي كُلِّ سِنٍّ شَاتَانِ أَوْ عِشْرُونَ دِرْهَمًا وَبِهِ قَالَ كَافَّةُ الْفُقَهَاءِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَّهُ أَوْجَبَ فِي كُلِّ سِنٍّ شَاتَيْنِ، أَوْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ خلفاً بِأَنَّ نِصَابَ الدَّرَاهِمِ لَمَّا كَانَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَنِصَابُ الْغَنَمِ أَرْبَعِينَ كَانَتْ قِيمَةُ كُلِّ شَاةٍ مِنْهَا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الشَّاتَانِ فِي مُقَابَلَةِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَهَذَا مَذْهَبٌ يَدْفَعُهُ نَصُّ الْحَدِيثِ الثَّابِتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، عَلَى مَا رَوَيْنَاهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَكَانَ مُطْرَحًا، وَلَيْسَ نُصُبُ الزَّكَوَاتِ بَعْضُهَا مُقَدَّرًا بِقِيمَةِ بَعْضٍ، لِأَنَّ نِصَابَ الْبَقَرِ ثَلَاثُونَ، وَالْغَنَمِ أَرْبَعُونَ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْبَقَرَةَ فِي الشَّرْعِ مُقَدَّرَةٌ فِي الضَّحَايَا بِسَبْعٍ مِنَ الْغَنَمِ، وَنِصَابَ الْإِبِلِ خَمْسٌ، وَهِيَ فِي الضَّحَايَا كَالْبَقَرِ فَعُلِمَ بِذَلِكَ فَسَادُ اعْتِبَارِهِ وَعُدُولِهِ عَنِ النَّصِّ لِسُوءِ اخْتِيَارِهِ.

فَصْلٌ
: إِذَا تَمَهَّدَ وُجُوبُ شَاتَيْنِ أَوْ عشرين درهماً في كل شيء زَائِدٍ أَوْ نَاقِصٍ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى شَرْحِ الْمَذْهَبِ وَالتَّفْرِيعِ عَلَيْهِ فَنَقُولُ: إِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفَرِيضَةُ وَكَانَتْ فِي مَالِهِ مَوْجُودَةً، فَلَيْسَ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهَا إِلَى الصُّعُودِ فِي الْأَسَنِّ وَالْأَخْذِ، ولا النزول فيها، ولا الرد لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَرَطَ فِي جَوَازِ الْعُدُولِ عَنِ الْفَرِيضَةِ عَدَمَهَا فِي الْمَالِ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ومن بلغت صدقته جذعة ولم تكن عنده وعنده حقة أخذت منه " فلو وَجَبَتْ عَلَيْهِ حِقَّةٌ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ بِنْتُ لبون أخذت منه، وأخذ معها شاتان أو عشرون دِرْهَمًا، وَالْخِيَارُ إِلَيْهِ فِي دَفْعِ مَا اسْتَيْسَرَ عَلَيْهِ مِنَ الشَّاتَيْنِ أَوِ الْعِشْرِينَ دِرْهَمًا، لِتَخْيِيرِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ حِقَّةٌ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ جَذَعَةٌ أُخِذَتْ مِنْهُ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ الْمُصَدِّقُ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَلَهُ الْخِيَارُ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ لِلْمَسَاكِينِ فِي دَفْعِ مَا كَانَ فَقْدُهُ أَقَلَّ ضَرَرًا عَلَيْهِمْ، فَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِنْتُ مخاض وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ فَأَعْطَى ابْنَ لَبُونٍ لِيَقُومَ مَقَامَ بنت مخاض، وأعطى الجيران كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ:

(3/85)


أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، لِأَنَّ ابْنَ اللَّبُونِ فِي حُكْمِ بِنْتِ الْمَخَاضِ عِنْدَ عَدَمِهَا، فَصَارَ كَمُعْطِي بِنْتَ مَخَاضٍ، وَالْجُبْرَانِ بَدَلًا مِنْ بِنْتِ لَبُونٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ ابْنَ اللَّبُونِ أُقِيمَ مقامه بِنْتِ مَخَاضٍ إِذَا كَانَتْ هِيَ الْفَرْضَ، وَالْفَرْضُ هَاهُنَا بِنْتُ لَبُونٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْخَذَ مكانها ذكر أو جبرها.

فَصْلٌ
: فَلَوِ اخْتَلَفَ الْمُصَدِّقُ وَرَبُّ الْمَالِ فِي الصُّعُودِ فِي السِّنِّ وَالنُّزُولِ فِيهَا فَقَالَ الْمُصَدِّقُ أَصْعَدُ إِلَى السِّنِّ الْأَعْلَى وَأُعْطِي شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ أَنْزِلُ إِلَى السن الأدنى وأعطى شاتين وعشرين درهماً ففيه وجهان: ظاهر مذهب الشافعي فيهما: أَنَّ الْخِيَارَ لِلْمُصَدِّقِ فَيَأْخُذُ الْأَعْلَى وَيُعْطِي شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، لِأَنَّهُ أَقْوَى يَدًا فِي أَخْذِ الْأَفْضَلِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِيُ أَنَّ الْخِيَارَ لِرَبِّ الْمَالِ فَيُعْطِي الْأَدْنَى فِي السِّنِّ وَيُعْطِي شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، لِأَنَّهُ أَقْوَى تَصَرُّفًا فِي مَالِهِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافُ الْمُصَدِّقِ وَرَبِّ الْمَالِ فِي أَخْذِ الْحِقَاقِ، وَبَنَاتِ اللَّبُونِ مِنْ ثمانين مِنَ الْإِبِلِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ وَأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، فَلَوْ قَالَ الْمُصَدِّقُ آخُذُ الْأَدْنَى وَآخُذُ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ أُعْطِي الْأَعْلَى وَآخُذُ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُصَدِّقُ وَاجِدًا لِمَا يُعْطِيهِ فَالْخِيَارُ لَهُ، ويأخذ الأدنى من شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَلِرَبِّ الْمَالِ الْخِيَارُ مع الشاتين والعشرين درهماً، فإن كَانَ الْمُصَدِّقُ وَاجِدًا لِمَا يُعْطِيهِ إِنْ أَخَذَ الْأَعْلَى كَانَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ أَحَدُهُمَا الْخِيَارُ لِلْمُصَدِّقِ، وَالثَّانِي لِرَبِّ الْمَالِ.
فَصْلٌ
: وَيَجُوزُ لَهُمَا النُّزُولُ مِنْ بِنْتِ لَبُونٍ إِلَى بِنْتِ مَخَاضٍ، كَمَا جَازَ لَهُمَا النُّزُولُ مِنَ الْحِقَّةِ إِلَى بِنْتِ لَبُونٍ، وَلَا يَجُوزُ لَهُمَا النُّزُولُ مِنْ بِنْتِ مَخَاضٍ إِلَى سِنٍّ هُوَ أَدْنَى مِنْهَا، وَلَكِنْ يَجُوزُ الصُّعُودُ مِنْ بِنْتِ مَخَاضٍ إِلَى بِنْتِ لَبُونٍ، كَمَا يَجُوزُ الصُّعُودُ مِنْ بِنْتِ لَبُونٍ إِلَى حِقَّةٍ، وَيَجُوزُ الصُّعُودُ مِنْ حِقَّةٍ إِلَى جَذَعَةٍ، فَأَمَّا الصُّعُودُ مِنَ الْجَذَعَةِ إِلَى الثَّنِيَّةِ فَإِنْ دَفَعَهَا رَبُّ الْمَالِ مُتَطَوِّعًا بِفَضْلِهَا قُبِلَتْ مِنْهُ لَا يُخْتَلَفُ، كَمَا يُقْبَلُ فِي الْغَنَمِ فَوْقَ الْجِذَاعِ وَالثَّنَايَا، وَإِنْ دَفَعَهَا لِيَأْخُذَ فَضْلَ السِّنِّ الزَّائِدِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ جَوَازُهُ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِتَقَارُبِهِمَا فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْفَضِيلَةِ.
فَصْلٌ
: إِذَا كَانَتْ إِبِلُهُ إحدى وستين بنت مخاض، فأعطى واحد مِنْهَا وَهِيَ بِنْتُ مَخَاضٍ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تؤخذ فَرْضًا، وَلَا يُكَلَّفُ غَيْرَهَا جُبْرَانًا، لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِجْحَافِ بِهِ.

(3/86)


وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ مِنْهُ، لِأَنَّهَا فرض بعضٍ هذه الجملة إلى أن يعطي جبراناً من الْجَذَعَةِ فَتُؤْخَذُ حِينَئِذٍ مَعَ الْجُبْرَانِ.

فَصْلٌ
: إِذَا لم تكن الفريضة موجودة في ماله وأراد أَنْ يَصْعَدَ سِنِينَ وَيَأْخُذَ أَرْبَعَ شِيَاهٍ أَوْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَنْزِلَ سِنِينَ وَيُعْطِيَ أَرْبَعَ شِيَاهٍ أَوْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، أَوْ أراد أن يصعد بثلاثة أسنان أو ينزل بثلاثة أَسْنَانٍ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ السِّنُّ الَّذِي يَلِي الْفَرِيضَةَ غَيْرَ مَوْجُودٍ فِي مَالِهِ، كَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ جَذَعَةٌ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ وَلَا حِقَّةٌ وَكَانَتْ عِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ، فَهَذَا لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ وَيُؤْخَذُ مَعَهَا إِمَّا أَرْبَعُ شِيَاهٍ أَوْ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بنت مخاض فلم يكن عنده بنت مخاض ولا بنت لبون فكان عِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ، وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ أَرْبَعَ شِيَاهٍ، أَوْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، هَذَا مَا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ الْمَذْهَبُ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدَّرَ جُبْرَانَ السِّنِّ الْوَاحِدِ بِشَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ درهماً تنبيهاً على السنين والثلاثة توخياً للرفق وطلب المواساة.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعَ وُجُودِ السِّنِّ الَّذِي يَلِي الْفَرِيضَةَ، فَفِي جَوَازِ الِانْتِقَالِ إلى السن الثاني وَجْهَانِ.
أَحَدُهُمَا: جَوَازُهُ اعْتِبَارًا بِالتَّنْبِيهِ عَلَى مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ لَا يَجُوزُ لِوُجُودِ مَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْفَرِيضَةِ كَمَا لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنِ الْفَرِيضَةِ إِلَى غَيْرِهَا مَعَ وُجُودِهَا.
فَصْلٌ
: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْخِيَارَ فِي دَفْعِ الشَّاتَيْنِ أَوِ الْعِشْرِينَ دِرْهَمًا لِمُعْطِيهَا دُونَ آخِذِهَا، فَإِنْ كَانَ الْمُعْطِي رَبَّ الْمَالِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ دَفْعِ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَإِنْ كَانَ الْمُصَدِّقَ كَانَ بِالْخِيَارِ على معنى النظر للمساكين، ليس على دَفْعِ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَإِنْ كَانَ الْمُعْطِي رَبَّ الْمَالِ أَوِ الْمُصَدِّقَ، فَإِنْ أَرَادَ دَفْعَ شَاةٍ وَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خيره بين شاتين وعشرين دِرْهَمًا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْعَلَ لِنَفْسِهِ خِيَارًا ثالثاً، وكما لَا يَجُوزُ لِلْمُكَفِّرِ أَنْ يُبَعِّضَ كَفَّارَةً، فَيُخْرِجُ بَعْضَهَا كِسْوَةً، وَبَعْضَهَا طَعَامًا، لَكِنْ لَوِ انْتَقَلَ إِلَى سِنِينَ جَازَ أَنْ يُعْطِيَ شَاتَيْنِ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، لِأَنَّهُمَا فَرْضَانِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُ نَفْسِهِ، كَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ فَكَفَّرَ عَنْ أحديهما بالكسوة وعن الأخرى بالإطعام ".

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ إِلَّا بِالْحَوْلِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.

(3/87)


الْأَمْوَالُ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَضْرُبٍ: مَالٌ نَامٍ بِنَفْسِهِ، وَمَالٌ مُرْصَدٌ لِلنَّمَاءِ، وَمَالٌ غَيْرُ نَامٍ بِنَفْسِهِ، فَأَمَّا النَّامِي بِنَفْسِهِ، فَمِثْلُ الْمَوَاشِي وَالْمَعَادِنِ وَالزَّرْعِ وَالثِّمَارِ، وَأَمَّا الْمُرْصَدُ لِلنَّمَاءِ وَالْمُعَدُّ لَهُ فَمِثْلُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَعُرُوضِ التِّجَارَاتِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمَالَيْنِ: أَنَّ النَّمَاءَ فِيمَا هُوَ نَامٍ بِنَفْسِهِ تَابِعٌ لِلْمِلْكِ لَا لِلْعَمَلِ، وَالنَّمَاءَ فِيمَا كَانَ مرصد النماء تَابِعٌ لِلْعَمَلِ وَالتَّقَلُّبِ لَا لِلْمِلْكِ، أَلَا تَرَى: أَنَّهُ لَوْ غَصَبَ مَاشِيَةً فَنَتَجَتْ أَوْ نَخْلًا فَأَثْمَرَتْ كَانَ النِّتَاجُ وَالثَّمَرَةُ لِرَبِّ الْمَاشِيَةِ، وَالنَّخْلِ دُونَ الْغَاصِبِ، وَلَوْ غَصَبَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فنمت بالتقلب والتجارة كان النماء الزايد لِلْغَاصِبِ دُونَ رَبِّ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَأَمَّا الَّذِي ليس بنام في نفسه ولا مرصداً لِلنَّمَاءِ، فَهُوَ كُلُّ مَالٍ كَانَ مُعَدًّا لِلْقِنْيَةِ، كَالْعَبْدِ الْمُعَدِّ لِلْخِدْمَةِ، وَالدَّابَّةِ الْمُعَدَّةِ لِلرُّكُوبِ، وَالثَّوْبِ الْمُعَدِّ لِلُّبْسِ، فَأَمَّا مَا لَا يُرْصَدُ لِلنَّمَاءِ، وَلَا هُوَ نَامٍ فِي نَفْسِهِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ إِجْمَاعًا، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صدقة " فنص عليها تَنْبِيهًا عَلَى مَا كَانَ فِي مَعْنَى حُكْمِهَا، وَأَمَّا الْمَالُ النَّامِي بِنَفْسِهِ، فَيَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يَتَكَامَلُ نَمَاؤُهُ بِوُجُودِهِ، وَقِسْمٌ لَا يَتَكَامَلُ نَمَاؤُهُ إِلَّا بِمُضِيِّ مُدَّةٍ بَعْدَ وُجُودِهِ، فَأَمَّا مَا يَتَكَامَلُ نَمَاؤُهُ بِوُجُودِهِ فَمِثْلُ الزَّرْعِ وَالثَّمَرَةِ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْلُ إِجْمَاعًا، وَعَلَيْهِ أَدَاءُ زَكَاتِهِ بعد حصاد زرعة، ودياسه، وجداد ثمرته، وجفافها، والتزام المؤن فيها، وما لا يتكامل نماؤه إلا بمضي مدة بعد وجوده، فمثل المواشي والحكم فِيهَا وَفِيمَا أُرْصِدَ لِلنَّمَاءِ مِثْلُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَعُرُوضِ التِّجَارَاتِ وَاحِدٌ لَا زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَكَافَّةِ التَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ.
وَقَالَ عَبْدُ الله بن عباس: إذا استفاد مالاً بهبة، أو بميراث أَوْ بِالْعَطَاءِ لَزِمَتْهُ زَكَاتُهُ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ يُعْتَبَرُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يُزَكِّي الْعَطَاءَ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ، قَالَا، لِأَنَّ نَمَاءَ ذَلِكَ مُتَكَامِلٌ بِوُجُودِهِ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى حَوْلٍ كَالرِّكَازِ وَغَيْرِهِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا رِوَايَةُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لا زكاة على مالٍ حتى يحول عَلَيْهِ الْحَوْلُ ".
وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ فِي الْمَالِ الْمُسْتَفَادِ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ ".

(3/88)


وَلِأَنَّ زَكَاةَ الْأَمْوَالِ وَجَبَتْ لِنَمَائِهَا فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ زَمَانُ النَّمَاءِ وَهُوَ الْحَوْلُ مُعْتَبَرًا فِيهَا، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ نِعْمَةً وَتَطْهِيرًا وَالْجِزْيَةَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ نِقْمَةً وَصَغَارًا، فَلَمَّا لَمْ تَجِبِ الْجِزْيَةُ إِلَّا بِالْحَوْلِ لَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ إلا بالحول، وإذا ثَبَتَ أَنَّ النِّصَابَ وَالْحَوْلَ مُعْتَبَرٌ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَهَلْ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ بِهِمَا أَوْ بِشَرْطٍ ثَالِثٍ يَنْضَمُّ إِلَيْهِمَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْإِمْلَاءِ: إِنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ بِهِمَا وَبِشَرْطٍ ثَالِثٍ، وَهُوَ إِمْكَانُ الْأَدَاءِ فَيَكُونُ وُجُوبُهَا بِثَلَاثَةِ شَرَائِطَ، بِالنِّصَابِ، وَالْحَوْلِ، وَإِمْكَانِ الْأَدَاءِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي:
قَالَهُ فِي " الْأُمِّ ": إِنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ بِشَرْطَيْنِ لَا غَيْرَ: النِّصَابُ وَالْحَوْلُ، فَأَمَّا إِمْكَانُ الْأَدَاءِ فَمِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ، وَسَنُفَرِّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ بِمَا يُوَضِّحُ عَنْهُمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ شيءٌ ولا فيما بين الفريضتين شيءٌ وإن وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِنْتُ مخاضٍ فَلَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ فابن لبون ذكر فإن جاء بابن لبون وابنة مخاض لم يكن له أن يأخذ ابن لبون ذكر وابنة مخاضٍ موجودةٍ وإبانة أن فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خمسين حقة أن تكون الإبل مائة وإحدى وعشرين فيكون فيها ثلاث بنات لبون وليس في زيادتها شيء حتى تكمل مائة وثلاثين فإذا كملتها ففيها حقة وابنتا لبون وليس في زيادتها شيء حتى تكمل مائة وأربعين فإذا كملتها ففيها حقتان وابنة لبون وليس في زيادتها شيء حتى تكمل مائة وخمسين فإذا كملتها ففيها ثلاث حقاق ولا شيء في زيادتها حتى تكمل مائة وستين فإذا كملتها ففيها أربع بنات لبون وليس في زيادتها شيء حتى تكمل مائة وسبعين فإذا كملتها ففيها حقة وثلاثة بنات لبون ولا شيء في زيادتها حتى تبلغ مائة وثمانين فإذا بلغتها ففيها حقتان لبون وليس في زيادتها شيء حتى تبلغ مِائَةٍ وَتِسْعِينَ فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ وابنة لبون ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ نِصَابَ الْإِبِلِ خَمْسٌ وَلَا شَيْءَ، فِيمَا دُونَهَا، وَدَلَّلْنَا عَلَيْهِ، فإذا بلغت كالإبل خمساً ففيها شاة، وهي فرض إلى تسع، والأربعة الزَّائِدَةُ عَلَى الْخَمْسِ تُسَمَّى وَقْصًا، وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الشَّاةِ هَلْ تَجِبُ فِيهَا وَفِي الْخَمْسِ، أَوْ تَجِبُ فِي الْخَمْسِ وَحْدَهَا والوقص عَفْوٌ، وَكَذَا كُلُّ وَقْصٍ بَيْنَ فَرْضَيْنِ، فَفِيهِ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْإِمْلَاءِ: وَالْبُوَيْطِيُّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ محمد بن الحسن: أَنَّ الشَّاةَ واجبة في الخمس، وهي النصاب، والوقص الذي عَلَيْهَا عَفْوٌ، وَكَذَا فَرَائِضُ الزَّكَوَاتِ فِي الْمَوَاشِي

(3/89)


كلها مأخوذة من الأوقاص والنصب، وَالْأَوْقَاصُ الزَّائِدَةُ عَلَيْهَا عَفْوٌ لَيْسَ لَهَا فِي الْوُجُوبِ مَدْخَلٌ.
وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فِي خَمْسٍ شَاةٌ " وَفِيهِ دَلِيلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أحدهما: أَوْجَبَ الشَّاةَ فِيهَا فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ غَيْرَ واجبة في الزائد عليها.
والثاني: أن الشاة في خمس والوقص الزَّائِدَ عَلَيْهَا دُونَ خَمْسٍ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي فَرَائِضِ الْغَنَمِ فِي مِائَتَيْنِ وَوَاحِدَةٍ ثَلَاثُ شِيَاهٍ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الْمِائَةِ شَيْءٌ، وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ وَلِأَنَّهُ وَقْصٌ قَصَّرَ عَنِ النِّصَابِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَتَعَلَّقَ بِهِ الزَّكَاةُ كَالْأَرْبَعَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَعَلَّقَ بِهِ الْوُجُوبُ لَكَانَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الزِّيَادَةِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الزِّيَادَةِ لَمْ يَكُنْ تَعَلُّقٌ بِالْوُجُوبِ، وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أبي العباس، رِوَايَةَ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ فَمَا دُونَهَا الْغَنَمُ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ " فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَفِيهِ دَلَالَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ فَمَا دُونَهَا الْغَنَمُ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ، فَإِذَا وَجَبَتِ الغنم في الأربعة والعشرين كلها فوجب أن لا يختلف الإيجاب بِبَعْضِهَا.
وَالثَّانِي: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ، فَذَكَرَ النِّصَابَ وَالْوَقْصَ، وَأَضَافَ الْفَرِيضَةَ الْوَاجِبَةَ إِلَيْهِمَا، وَلِأَنَّهَا زِيَادَةٌ مِنْ جِنْسِ ماله الذي يجزي فِي حُكْمِ حَوْلِهِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الزَّكَاةُ فِي جَمِيعِهِ كَالْخَامِسِ وَالْعَاشِرِ، وَلِأَنَّ تَعَلُّقَ الْحُكْمِ بِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ لَا يَمْنَعُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ مِنْ تعلق الحكم به، وبالزيادة معها أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُحْرِمَ لَوْ حَلَقَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ وَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ، وَلَوْ حَلَقَ جَمِيعَ رَأْسِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الدَّمُ، وَلَوْ سَرَقَ رُبُعَ دِينَارٍ قُطِعَ، وَلَوْ سَرَقَ أَلْفَ دِينَارٍ قُطِعَ ذَلِكَ الْقَطْعَ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْقَطْعَ وَجَبَ فِي رُبُعِ دِينَارٍ دُونَ الزيادة لعدم تأثيرها، ولأن الدَّمَ وَجَبَ فِي ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ دُونَ مَا زَادَ عَلَيْهَا، كَذَلِكَ الْوَقْصُ الزَّائِدُ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُوبُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الزِّيَادَةِ تَأْثِيرٌ.

فَصْلٌ
: الْقَوْلُ فِي إِمْكَانِ الْأَدَاءِ هَلْ هو شرط في الوجوب أو الضمان؟
فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى التفريع عليهما وعلى اختلاف قوله فِي إِمْكَانِ الْأَدَاءِ هَلْ هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ أَوْ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ؟ لِأَنَّهُمَا أَصْلَانِ مُتَّفِقَانِ، وَفِي كُلِّ أَصْلٍ مِنْهُمَا قَوْلَانِ، وَلَيْسَ لهذين القولين تَأْثِيرٌ مَعَ بَقَاءِ الْمَالِ وَسَلَامَتِهِ، وَإِنَّمَا تَأْثِيرُهُمَا مع تلف المال وعطيه، وَلَيْسَ يَخْلُو حَالُ تَلَفِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ،

(3/90)


فَإِنْ كَانَ تَلَفُ الْمَالِ قَبْلَ الْحَوْلِ، فَحُكْمُ التألف منه حكم ما لا يُوجَدْ، فَإِنْ تَلِفَ جَمِيعُ الْمَالِ فَلَا زَكَاةَ، وَإِنْ تَلِفَ بَعْضُهُ اعْتُبِرَ حُكْمُ بَاقِيهِ إِذَا حال حوله، فإذا بَلَغَ نِصَابًا زَكَّاهُ، وَإِنْ نَقَصَ عَنْ نِصَابٍ فَلَا زَكَاةَ، فَهَذَا حُكْمُ التَّالِفِ قَبْلَ الْحَوْلِ.
وَأَمَّا التَّالِفُ بَعْدَ الْحَوْلِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتْلَفَ بَعْدَ الْحَوْلِ وَبَعْدَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ، فَهَذَا الزَّكَاةُ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ، سَوَاءٌ تَلِفَ بَعْضُ المال أو جميعه، سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ أَوْ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ، لِأَنَّهُ بِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُهَا وَحَرُمَ عَلَيْهِ إِمْسَاكُهَا، وصار بعد الأمانة ضامناً ك " الوديعة " الَّتِي يَجِبُ رَدُّهَا فَيَضْمَنُهَا الْمُودَعُ بِحَبْسِهَا.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ إِخْرَاجَهَا عِنْدَهُ عَلَى التَّرَاخِي لَا عَلَى الْفَوْرِ، فَيُخْرِجُهَا مَتَى شَاءَ وَهَذَا غَلَطٌ، بَلْ إِخْرَاجُهَا عَلَى الْفَوْرِ، لِأَنَّ مَا وَجَبَ إِخْرَاجُهُ وَأَمْكَنَ أَدَاؤُهُ لَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُهُ، كَالْوَدَائِعِ وَسَائِرِ الْأَمَانَاتِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّلَفُ بَعْدَ الْحَوْلِ وَقَبْلَ إمكان الأداء، فذلك ضربان:
أحدهما: إن تلف جَمِيعُ الْمَالِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا لَا يَخْتَلِفُ، سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ أَوْ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ، لِأَنَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّ إِمْكَانَ الْأَدَاءِ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فَقَبْلَ الْإِمْكَانِ لَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ فَقَدْ وَجَبَتِ الزَّكَاةُ بِالْحَوْلِ غَيْرَ أَنَّهَا فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ لِلْمَسَاكِينِ لَا يَضْمَنُهَا إِلَّا بِالْإِمْكَانِ، وإن كَانَتْ فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهَا بالتلف ك " الوديعة ".
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتْلَفَ بَعْضُ الْمَالِ وَيَبْقَى بعضه، فعند ذلك يتضح تبيين القولين في كل وَاحِدٍ مِنَ الْأَصْلَيْنِ، وَسَنَذْكُرُ لِفُرُوعِهِمَا وَبَيَانِ تَأْثِيرِهِمَا فَصْلَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: فِي الْغَنَمِ.
وَالثَّانِي: فِي الْإِبِلِ لنبني عليهما جميع الفروع، فأما الفضل فِي الْغَنَمِ فَهُوَ: أَنْ يَكُونَ مَعَهُ ثَمَانُونَ شاة يحول عليها الحول ثم تتلف منها أربعون قبل إمكان الأداء وتبقى الأربعون، فَهَذَا تَرْتِيبٌ عَلَى الْأَصْلَيْنِ فِي إِمْكَانِ الْأَدَاءِ وعفو الأوقاص، وإن قلنا: إن إمكان الأداء مند شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فَعَلَيْهِ شَاةٌ كَامِلَةٌ لِوُجُودِ الْإِمْكَانِ وَهُوَ يَمْلِكُ أَرْبَعِينَ، وَمَا تَلِفَ قَبْلَ الْإِمْكَانِ كَمَا لَمْ يَكُنْ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ، وَإِنَّ الْوُجُوبَ بِالْحَوْلِ انْبَنَى ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي الْوَقْصِ هَلْ لَهُ مَدْخَلٌ فِي الْوُجُوبِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا: لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْوُجُوبِ، وَإِنَّ الشَّاةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْأَرْبَعِينَ وَالزِّيَادَةَ عَلَيْهَا عَفْوٌ فَعَلَيْهِ شَاةٌ أَيْضًا، لِأَنَّ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُوبُ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْوَقْصَ دَاخِلٌ فِي الْوُجُوبِ وَإِنَّ الشَّاةَ مأخوذة

(3/91)


مِنَ الْكُلِّ فَعَلَيْهِ نِصْفُ شَاةٍ، لِأَنَّ الشَّاةَ وجبت في ثمانين، فتلف نصفها أمانة لِتَلَفِ نِصْفِ الْمَالِ، وَوَجَبَ نِصْفُهَا لِبَقَاءِ نِصْفِ الْمَالِ، فَحَصَلَ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: شَاةٌ.
وَالثَّانِي: نِصْفُ شَاةٍ.
وَلَوْ حَالَ الْحَوْلُ وَمَعَهُ ثَمَانُونَ فَتَلِفَ مِنْهَا قَبْلَ الْحَوْلِ سِتُّونَ، وَبَقِيَ عِشْرُونَ، فَيُخْرِجُ زَكَاتَهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: لَا زَكَاةَ فِيهَا إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ فِيهَا نِصْفَ شَاةٍ إِذَا قيل إن الإمكان من شرائط الضمان، وإن الشَّاةَ وَجَبَتْ فِي الْأَرْبَعِينَ وَالزِّيَادَةَ عَلَيْهَا عَفْوٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ فِيهَا رُبُعَ شَاةٍ إِذَا قيل إن الإمكان من شرائط الضمان، وإن الشَّاةَ وَجَبَتْ فِي الثَّمَانِينَ لِبَقَاءِ رُبُعِهَا وَتَلَفِ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهَا، فَهَذَا فَصْلٌ فِي الْغَنَمِ يُوَضِّحُ جَمِيعَ فُرُوعِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ وَبَدَأْنَا بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مَوْضِعُهُ، لِأَنَّهُ أَبْيَنُ وَالتَّفْرِيعُ عَلَيْهَا أَسْهَلُ.
وَأَمَّا الْفَصْلُ فِي الْإِبِلِ فَيَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: قَسْمٌ يَكُونُ فَرِيضَةَ الْغَنَمِ، وَقِسْمٌ يَكُونُ فَرِيضَةَ الْإِبِلِ، وَجَوَازُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَالٌّ عَلَى وُجُوبِ الْآخَرِ، لَكِنْ فِي ذِكْرِهِمَا زِيَادَةُ بيان.
فأما فريضة الْغَنَمُ، فَكَرَجُلٍ كَانَ مَعَهُ تِسْعٌ مِنَ الْإِبِلِ حَالَ حَوْلُهَا، ثُمَّ تَلِفَ مِنْهَا أَرْبَعٌ قَبْلَ إمكان الأداء وبقي خمسة، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْإِمْكَانَ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ فَعَلَيْهِ شَاةٌ، لِأَنَّ الْوُجُوبَ حَدَثَ وَهُوَ يَمْلِكُ خَمْسًا، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْوُجُوبَ بِالْحَوْلِ وَالْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الشَّاةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْخَمْسِ وَالزِّيَادَةَ عَلَيْهَا عَفْوٌ، فَعَلَيْهِ شَاةٌ أَيْضًا، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الشَّاةَ مَأْخُوذَةٌ من التسع فعليه خَمْسَةِ أَتْسَاعِ الْمَالِ، فَحَصَلَ فِي قَدْرِ زَكَاتِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: شَاةٌ كَامِلَةٌ.
وَالثَّانِي: خَمْسَةُ أَتْسَاعِ شاة، فلو حال حول عَلَى تِسْعٍ مِنَ الْإِبِلِ ثُمَّ تَلِفَ مِنْهَا قَبْلَ الْإِمْكَانِ خَمْسٌ وَبَقِيَ أَرْبَعٌ، فَفِي زَكَاتِهَا ثلاثة أوجه:
أحدها: لا زكاة فيها، إذا قِيلَ إِنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ.
وَالثَّانِي: فِيهَا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ شَاةٍ إِذَا قِيلَ إِنَّ الإمكان من شرائط الضمان، لأن الشَّاةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْخَمْسِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ فِيهَا أَرْبَعَةَ أَتْسَاعِ شَاةٍ إِذَا قِيلَ إِنَّ الشَّاةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ التِّسْعِ.

(3/92)


وَأَمَّا الْإِبِلُ الَّتِي فَرِيضَتُهَا مِنْهَا: فَكَرَجُلٍ مَعَهُ خمسة وَثَلَاثُونَ مِنَ الْإِبِلِ حَالَ حَوْلُهَا، ثُمَّ تَلِفَ منها قبل الإمكان عشرة، وَبَقِيَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فَعَلَيْهِ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ: فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ بِنْتَ مَخَاضٍ وَجَبَتْ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَالزِّيَادَةَ عَلَيْهَا عَفْوٌ، فَعَلَيْهِ أَيْضًا بِنْتُ مَخَاضٍ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهَا وَجَبَتْ فِي الْخَمْسِ وَالثَّلَاثِينَ فَعَلَيْهِ خَمْسَةُ أَسْبَاعِ بِنْتِ مَخَاضٍ، لِبَقَاءِ خَمْسَةِ أسباع المال، وفي قدر زكاتها وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: بِنْتُ مَخَاضٍ.
وَالثَّانِي: خَمْسَةُ أَسْبَاعِ بِنْتِ مَخَاضٍ فَلَوْ حَالَ حَوْلُهُ عَلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ مِنَ الْإِبِلِ، ثُمَّ تَلِفَ مِنْهَا قَبْلَ الإمكان خمسة عشر وبقي خمس وعشرون، فَفِي قَدْرِ زَكَاتِهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَرْبَعُ شِيَاهٍ، إِذَا قِيلَ إِنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ.
وَالثَّانِي: أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ بِنْتِ مَخَاضٍ، إِذَا قيل إن الإمكان من شرائط الضمان وإن بِنْتَ مَخَاضٍ وَجَبَتْ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ.
وَالثَّالِثُ: أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ بِنْتِ مَخَاضٍ، إِذَا قِيلَ إِنَّهَا وجبت في خمس وثلاثين لبقاء أربعة أتساع الْمَالِ وَعَلَى هَذَا، وَقِيَاسُهُ يَكُونُ جَوَابُ مَا يَتَفَرَّعُ مِنَ الْمَسَائِلِ عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ وَبِاللَّهِ تعالى التوفيق.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْنِ فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَإِنْ كَانَتْ أَرْبَعُ حِقَاقٍ مِنْهَا خَيْرًا مِنْ خَمْسِ بَنَاتِ لَبُونٍ أَخَذَهَا الْمُصَدِّقُ وإن كانت خمس بنات لبون خيراً منها أَخَذَهَا لَا يَحِلُّ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِبِلَ إِذَا بَلَغَتْ مائتين إِمَّا أَرْبَعُ حِقَاقٍ أَوْ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْمَالِ إِلَّا أَحَدُ الْفَرْضَيْنِ أَخَذَهُ الْمُصَدِّقُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَفْضَلَ مِنْهُ، لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرُ أَصْحَابِهِ، حِقَاقًا كَانَتْ أَوْ بَنَاتِ لَبُونٍ، فَأَمَّا إِذَا اجْتَمَعَ الْفَرْضَانِ مَعًا فِي الْمَالِ: فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْفَرْضَ فِي أَحَدِهِمَا إِمَّا أَرْبَعُ حِقَاقٍ أَوْ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ وَخَرَّجَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا قَوْلًا ثَانِيًا لِلشَّافِعِيِّ مِنْ كَلَامٍ ذَكَرَهُ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّ الْمُصَدِّقَ يَأْخُذُ الْحِقَاقَ لَا غَيْرَ، وَلَيْسَ تَخْرِيجُ هَذَا الْقَوْلِ صَحِيحًا، بَلْ مَذْهَبُهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ لَمْ يَخْتَلِفْ فِي جَوَازِ أَخْذِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرْضَيْنِ مَعَ وُجُودِ الْآخَرِ، لِتَعْلِيقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْفَرْضَ بِهِمَا، ثُمَّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَلَى الْمُصَدِّقِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَخْذِ أَفْضَلِهِمَا، فَإِنْ كَانَتِ الْحِقَاقُ أَفْضَلَ أَخَذَهَا، وَإِنْ كَانَتْ بَنَاتُ لَبُونٍ أَفْضَلَ أَخَذَهَا وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يمنعه.

(3/93)


وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ الْخِيَارُ إِلَى رَبِّ الْمَالِ فِي دَفْعِ الْحِقَاقِ إِنْ شَاءَ أَوْ بَنَاتِ اللَّبُونِ إِنْ شَاءَ، كَمَا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِيمَا بَيْنَ السِّنِينَ بَيْنَ شَاتَيْنِ، أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ أَصَحُّ، لِأَنَّ الْمَالَ إِذَا اشْتَمَلَ عَلَى صِنْفَيْنِ جَيِّدٍ وَرَدِيءٍ لَمْ يَجُزْ إِخْرَاجُ فَرْضِهِ مِنَ الرَّدِيءِ، وَلَزِمَ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْجَيِّدِ، كَمَا لَوِ اجْتَمَعَ فِي مَالِهِ صِحَاحٌ وَمِرَاضٌ أَوْ صِغَارٌ وَكِبَارٌ، فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ فِي الْخِيَارِ عَلَى الدَّرَاهِمِ، أَوِ الشَّاتَيْنِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوِ الشَّاتَيْنِ مُتَعَلِّقَةٌ بِذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ دُونَ ماله، ومن لزمه في الذمة أخذ حقتين كَانَ مُخَيَّرًا فِي دَفْعِ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَالْفَرْضُ فِي الْحِقَاقِ أَوْ بَنَاتِ اللَّبُونِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَالِ لَا بِالذِّمَّةِ، فَكَانَ الْخِيَارُ فِي الْأَخْذِ إِلَى مُسْتَحَقِّهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِرَبِّ الْمَالِ الْعُدُولُ إِلَى الْعِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوِ الشَّاتَيْنِ إِلَى ابْتِيَاعِ الْفَرِيضَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الدَّرَاهِمِ أَوِ الشَّاتَيْنِ، وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ لِرَبِّ الْمَالِ الْعُدُولُ عَنْ هَذَيْنِ الْفَرْضَيْنِ إِلَى غَيْرِهِمَا لم يكن مخيراً فيهما.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " فإن أخذ من رَبُّ الْمَالِ الصِّنْفَ الْأَدْنَى كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أن يخرج الفضل فيعطيه أهل السهمان فإن وجد أحد الصنفين ولم يجد الآخر الذي وجد ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَلَى الْمُصَدِّقِ أَنْ يَأْخُذَ أَفْضَلَ الْفَرْضَيْنِ من المال إذا اجتمعا فيه، فإن أخذا دونهما أو أقلهما دفعه لِلْمَسَاكِينِ فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَأْخُذَ عَنِ اجتهاد.
والثاني: عن غَيْرِ اجْتِهَادٍ فَإِنْ أَخْذَهُ عَنِ اجْتِهَادٍ فَقَدَ أجزأ رَبَّ الْمَالِ، لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ، وَهَلْ عَلَيْهِ إخراج الفضل أم لا؟ على وجهين:
أحدهما: إِخْرَاجُ الْفَضْلِ الَّذِي بَيْنَ السِّنِينَ، لِأَنَّهُ أَعْطَى دُونَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فَكَانَ كَمَنْ أَعْطَاهُ شَاةً وَعَلَيْهِ شَاتَانِ:
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ الْفَضْلِ وَقَدْ أَجْزَأَهُ مَا أَدَّاهُ، لِأَنَّهُ لَوْ وجب عليه إخراج الفضل بعد أداء الغرض لاقتضى أن لا يقع المؤدي موقع الآخر، ولو لم يقع موقع الآخر لَوَجَبَ رَدُّهُ، فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ رَدُّهُ دَلَّ عَلَى إِجْزَائِهِ، وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ انْفَصَلَ عَنْ هَذَا بِأَنْ قَالَ: إِنَّمَا لَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّهُ لأنه بعض ما وجب عليه، والمصدق إن أَخَذَ بَعْضَ الْوَاجِبِ كَانَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْبَاقِي وَلَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّ مَا أَخَذَ وَإِنْ كَانَ المصدق في الأصل قد أخذ ذلك من غير اجتهاد، فهل يجزي ذَلِكَ رَبَّ الْمَالِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:

(3/94)


أحدهما: لا يجزئه، لِأَنَّهُ أَعْطَى غَيْرَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، فَكَانَ كَمَنْ دَفَعَ ابْنَ لَبُونٍ مَعَ وُجُودِ بِنْتِ مَخَاضٍ، فَعَلَى هَذَا عَلَيْهِ دَفْعُ الْأَفْضَلِ، وَلَهُ اسْتِرْجَاعُ مَا دَفَعَ، فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا أَخَذَهُ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا أَخَذَ قِيمَتَهُ مِنْ مَالِ من استهلكه.
والوجه الثاني: يجزئه ذَلِكَ، لِأَنَّ أَخْذَ الْأَفْضَلِ وَجَبَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُبْطِلَ حُكْمًا ثَبَتَ بالنص، فعلى هذا يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْفَضْلِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا أَحَدُهُمَا يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ الْفَضْلِ وَالثَّانِي لَا يَلْزَمُهُ.

فَصْلٌ
: فَإِذَا أَرَادَ إِخْرَاجَ الْفَضْلِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ، لَمْ تَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أن يَقْدِرَ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ، أَوْ لَا يَقْدِرُ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ إِمَّا لِقِلَّةِ الْفَضْلِ، أَوْ لِتَعَذُّرِ الْحَيَوَانِ، أَجْزَأَهُ إِخْرَاجُهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْحَيَوَانِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أحدهما: لا يجزئه غَيْرُ الْحَيَوَانِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى إِخْرَاجِ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ، فَعَلَى هَذَا يُصْرَفُ الْفَضْلُ فِي شَاةٍ أَوْ بَعِيرٍ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ كاملاً، ولا يَصْرِفُهُ فِي جُزْءٍ مِنْهُ عَلَى حَسَبِ الْفَضْلِ، وَلَا يَجُوزُ صَرْفُ الْفَضْلِ فِي بَقَرَةٍ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ فَرَائِضِ الْإِبِلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ إخراج الفضل دراهم أو دنانير إن قَدَرَ عَلَى الْحَيَوَانِ، لِأَنَّ ذَلِكَ تَلَافِي نَقْصٍ وليس بقيم كَالشَّاتَيْنِ وَالْعِشْرِينَ دِرْهَمًا الْمَأْخُوذَةِ بَيْنَ السِّنِينَ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الدَّرَاهِمِ أو الدنانير إِلَى الْعُرُوضِ وَالسِّلَعِ، وَلَكِنْ لَوْ عَدَلَ إِلَى الْحَيَوَانِ أَجْزَأَهُ لَا يُخْتَلَفُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُفَرِّقُ الْفَرِيضَةَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا نَقْلُ الْمُزَنِيِّ وَنَقْلُ الرَّبِيعِ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " وَلَا يُفَارِقُ الْفَرِيضَةَ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَقْلَ الرَّبِيعِ هُوَ الصَّحِيحُ، وَنَقْلَ الْمُزَنِيِّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَخْطَأَ فِيهِ أَوْ حَذَفَ الْأَلِفَ منه اسْتِخْفَافًا كَمَا حُذِفَتْ مِنْ صَالِحٍ وَعُثْمَانَ، فَيَكُونَ مَعْنَى نَقْلِ الرَّبِيعِ " وَلَا يُفَارِقُ الْفَرِيضَةَ " أَيْ: إذا وجد السن الواجب فِي الْمَالِ لَا يُفَارِقُهَا وَيَعْدِلُ إِلَى سِنٍّ أَعْلَى وَيُعْطِي أَوْ أَدْنَى وَيَأْخُذُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ النَّقْلَيْنِ صحيحان، ومعناهما مختلف، فمعنى قول الرَّبِيعِ مَا ذَكَرْنَا، وَمَعْنَى نَقْلِ الْمُزَنِيِّ " وَلَا يُفَرِّقُ الْفَرِيضَةَ " إِذَا كَانَ مَعَهُ مِائَتَانِ مِنَ الْإِبِلِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَرِّقَ فَرْضَهَا فَيَأْخُذَ بَعْضَهُ حِقَاقًا وَبَعْضَهُ بَنَاتِ لَبُونٍ، بَلْ إِمَّا أن

(3/95)


يَأْخُذَ أَرْبَعَ حِقَاقٍ، أَوْ خَمْسَ بَنَاتِ لَبُونٍ، فَتَكُونُ رِوَايَةُ الرَّبِيعِ مِنَ الْمُفَارَقَةِ، وَرِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ مِنَ التَّفْرِيقِ.

فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِذَا كَانَ مَعَهُ مِائَتَانِ مِنَ الْإِبِلِ فِيهَا خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَثَلَاثُ حِقَاقٍ، أُخِذَتْ مِنْهُ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ، فَإِنْ أَعْطَى ثَلَاثَ حِقَاقٍ وَبِنْتَ لَبُونٍ مَعَ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مُفَارَقَةَ الْفَرْضِ إِلَى غَيْرِهِ مَعَ وُجُودِهِ وَلَوْ كَانَ فِي مَالِهِ أَرْبَعُ بَنَاتِ لَبُونٍ وَحِقَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَيْسَ فِي مَالِهِ غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِنْ أَعْطَى هَذِهِ الْأَرْبَعَ مَعَ الْحِقَّةِ وأخذ شاتين مع عِشْرِينَ دِرْهَمًا جَازَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَعْدِلْ عَنِ الْفَرْضِ الْمَوْجُودِ فِي مَالِهِ، وَإِنْ أَعْطَى حِقَّةً وَثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ مَعَ سِتِّ شِيَاهٍ أَوْ سِتِّينَ دِرْهَمًا، كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرْنَا تَوْجِيهَهُمَا.
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ فَأَمَّا إِذَا كان معه أربع مائة مِنَ الْإِبِلِ، فَإِنْ أَعْطَى ثَمَانِيَ حِقَاقٍ جَازَ، وَإِنْ أَعْطَى عَشْرَ بَنَاتِ لَبُونٍ جَازَ، وَإِنْ أعطى أربع حقاق أو خمس بَنَاتِ لَبُونٍ جَازَ أَيْضًا عَلَى مَنْصُوصِ الشَّافِعِيِّ وَمَذْهَبِ عَامَّةِ أَصْحَابِهِ.
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، كَمَا لَا يَجُوزُ فِي الْمِائَتَيْنِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَفْرِيقَ الْفَرِيضَةِ، وَهَذَا غَلَطٌ.
والفرق بينهما: أن المائتين نصاب فرضه أخذ نسق فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَرِّقَ كَالْكَفَّارَةِ الْوَاحِدَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَ بَعْضَهَا كِسْوَةً وَبَعْضَهَا طعاماً، والأربع مائة نصابان لها فَرْضَانِ فَجَازَ تَفْرِيقُهُمَا كَالْكَفَّارَتَيْنِ إِذَا فَرَّقَهُمَا فَأَطْعَمَ عن أحديهما وكسا عن الأخرى.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ الْفَرْضَانِ مَعِيبَيْنِ بمرضٍ أَوْ هيامٍ أَوْ جَرَبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَسَائِرُ الْإِبِلِ صحاح قيل له إِنْ جِئْتَ بِالصِّحَاحِ وَإِلَّا أَخَذْنَا مِنْكَ السِّنَّ الَّتِي هِيَ أَعْلَى وَرَدَدْنَا أَوِ السِّنَّ الَّتِي هي أسفل وأخذنا والخيار في الشاتين أو العشرين درهماً، إلى الذي أعطى ولا يختار الساعي إلا ما هو خير لأهل السهمان وكذلك إن كانت أعلى بسنين أو أسفل فالخيار بين أربع شياه أو أربعين درهماً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا كَانَ مَعَهُ مائتان من الإبل صحاحاً، وكان الفرضان حقاً فِيهِمَا مَعِيبَيْنِ بِمَرَضٍ أَوْ هُيَامٍ، وَهُوَ دَاءٌ يَأْخُذُ الْإِبِلَ فِي أَجْوَافِهَا فَلَا تَزَالُ تَكْرَعُ الْمَاءَ عِطَاشًا حَتَّى تَمُوتَ قَالَ الشَّاعِرُ:
(الْقَوْمُ هيمٌ وَالْأَدَاوَى يُبَّسُ ... أَنْ تَرِدِ الْمَاءَ بِمَاءٍ أَكْيَسُ)

أَوْ جَرَبٌ، وَهُوَ الدَّاءُ الْمَعْرُوفُ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْرِجَ الْفَرْضَ مَعِيبًا مَعَ صِحَّةِ مَالِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيه) {البقرة: 267) وَرَوَى أَنَسُ بن

(3/96)


مَالِكٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا كَتَبَ لَهُ إِلَى الْبَحْرِينِ، كَانَ له فِي كِتَابِهِ لَا تَأْخُذْ هَرِمَةً، وَلَا ذَاتَ عَيْبٍ.
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ فِي كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَلَا تَأْخُذْ هَرِمَةً وَلَا ذَاتَ عوارٍ، وَلِأَنَّ أَمْرَ الزَّكَوَاتِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُعَادَلَةِ بَيْنَ الْمَسَاكِينِ، وَأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، وَالرِّفْقِ بِهِمَا، فَلَمَّا لَمْ يَأْخُذْ مِنَ الْمَعِيبِ صَحِيحًا رِفْقًا بِرَبِّ الْمَالِ، لَمْ يَأْخُذْ مِنَ الصَّحِيحِ مَعِيبًا رِفْقًا بِالْمَسَاكِينِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْمَعِيبِ فِيهَا، قِيلَ لِرَبِّ الْمَالِ أنت بالخيار أَنْ تَأْتِيَنَا بِفَرْضِهَا مِنْ غَيْرِهَا، إِمَّا أَرْبَعُ حِقَاقٍ، أَوْ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ تُشْبِهُ مَالَكَ، وبين أن نأخذ منك السن الأعلى، أو تعطي السِّنَّ الْأَدْنَى وَتَأْخُذَ، فَإِنْ صَعِدَ إِلَى السِّنِّ الْأَعْلَى وَهُوَ الْجَذَاعُ، صَعِدَ إِلَيْهَا مِنَ الْحِقَاقِ لا من بنات اللبون، لأنه إِذَا صَعِدَ مِنْ بَنَاتِ اللَّبُونِ صَعِدَ إِلَى الْحِقَّةِ وَهِيَ فَرْضُهُ، وَإِنْ أَرَادَ النُّزُولَ نَزَلَ مِنْ بَنَاتِ اللَّبُونِ إِلَى بَنَاتِ الْمَخَاضِ، وَلَا يَنْزِلُ مِنَ الْحِقَاقِ إِلَيْهَا لِمَا ذَكَرْنَا.
فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: فَإِنْ كَانَ الْفَرْضَانِ مَعِيبَيْنِ بِمَرَضٍ أَوْ هُيَامٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَسَائِرُ الْإِبِلِ صِحَاحٌ، فَيَعْنِي وَبَاقِي الْإِبِلِ صِحَاحٌ، لِأَنَّ لَفْظَةَ سَائِرٍ إِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضِعِ كُلٍّ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ، وَإِلَّا فَهِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِيمَا بَقِيَ حَقِيقَةً، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إذا أكلتم فاسئروا " أي فبقوا وَقَالَ الْأَعْشَى:
(بَانَتْ وَقَدْ أَسْأَرَتْ فِي النَّفْسِ حَاجَتَهَا ... بَعْدَ ائْتِلَافٍ وَخَيْرُ الْقَوْلِ مَا نَفَعَا)

وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِمَا بَقِيَ فِي الْإِنَاءِ سُؤْرٌ.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَأْخُذُ مَرِيضًا وَفِي الْإِبِلِ عَدَدٌ صحيحٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ:
إِذَا كَانَتْ إِبِلُهُ صِحَاحًا وَمِرَاضًا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُؤْخَذَ زَكَاتَهَا مِرَاضًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الدَّلِيلِ، وَوَجَبَ أَنْ تُؤْخَذَ زَكَاتُهَا مِنَ الصِّحَاحِ اعْتِبَارًا بِقَدْرِ مَالِهِ.
مِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ يَكُونَ مَعَهُ ثَلَاثُونَ مِنَ الْإِبِلِ نِصْفُهَا صِحَاحٌ وَنِصْفُهَا مِرَاضٌ، يَكُونُ فرضها بنت مخاض، فقال: كَمْ تُسَاوِي بِنْتُ مَخَاضٍ مِنْ مِرَاضِهَا، فَيُقَالُ: مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَيُقَالُ: كَمْ تُسَاوِي بِنْتُ مَخَاضٍ من صِحَاحِهَا، فَيُقَالُ ثَلَاثُمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَيُؤْخَذُ نِصْفُ الْمِائَةِ وَهُوَ خَمْسُونَ وَنِصْفُ الثَّلَاثِمِائَةِ وَهُوَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ فتضيفهما فَيَكُونَانِ مِائَتَيْنِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ بِنْتُ مَخَاضٍ مِنَ الصِّحَاحِ، وَثَمَنُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ فِيمَا زَادَ وَنَقَصَ.

(3/97)


مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه:
وإن كانت كلها معيبة لم يكلفه صحيحاً من غيرها ويأخذ جبر المعيب.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَانَ جَمِيعُ مَالِهِ مَعِيبًا لَمْ يُكَلَّفْ زَكَاتَهَا صَحِيحًا سَلِيمًا، وَأُخِذَتْ زَكَاتُهَا مِنْهَا، وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ لَا تُؤْخَذُ إِلَّا الصَّحِيحَةُ عَنِ الْمِرَاضِ، وَالْكَبِيرَةُ عَنِ الصِّغَارِ، احْتِجَاجًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا تأخذ هَرِمَةٌ وَلَا ذَاتُ عوارٍ " وَهَذَا غَلَطٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ " يَسِّرْ وَلَا تُعَسِّرْ، وَبَشِّرْ وَلَا تُنَفِّرْ، فَإِنْ أَطَاعُوكَ بِالصَّدَقَةِ فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ " وَلِرِوَايَةِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْغَاضِرِيِّ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " ثَلَاثٌ مَنْ عَمِلَهَا طَعِمَ طَعْمَ الْإِيمَانِ: مَنْ عَبَدَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وأخرج زكاة ماله طيبة بها نفسه رافدة عليه كل عام ولم يخرج الدرنة ولا الشرط اللئيمة ولكن أخرج وَسَطَ الْمَالِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَسْلُبْكُمْ خيره، ولم يأمركم بشره " ولأن كل ما تُؤْخَذُ زَكَاتُهُ مِنْ جِنْسِهِ لَا يُكَلَّفُ إِخْرَاجَ زَكَاتِهِ مِنْ غَيْرِهِ، كَالْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ لَا يُكَلَّفُ مِنَ التَّمْرِ الرَّدِيءِ إِخْرَاجَ الْجَيِّدِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَأْخُذْ هَرِمَةً وَلَا ذَاتَ عوارٍ " فَالْمُرَادُ بِهِ الْمَالُ السَّلِيمُ.

فَصْلٌ
: فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ زَكَاتَهَا صِحَاحًا مِنْ غَيْرِ مَالِهِ فقد قال الشافعي " يأخذ خير المعيب " واختلف أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَى الْكَلَامَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَوْجَبَ أَخْذَ خَيْرِ الْمَعِيبِ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ، وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّهُ لَا يَطَّرِدُ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ أَرَادَ بذلك أخذ خير الفرضين وهي الْحِقَاقِ وَبَنَاتِ اللَّبُونِ وَلَمْ يُرِدْ خَيْرَ جَمِيعِ الْمَالِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ أَرَادَ بِخَيْرِ الْمَعِيبِ أَوْسَاطَهَا، كَمَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاس) {آل عمران: 110) يَعْنِي: وَسَطًا، لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {كَذَلَكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) {البقرة: 143) وَمَنْ قَالَ بِهَذَا السهم فِي اعْتِبَارِ الْأَوْسَطِ وَجْهَانِ:

(3/98)


أحدهما: أوسطها عيباً.
مثال ذلك: أن يَكُونُ بِبَعْضِهَا عَيْبٌ وَاحِدٌ، وَبِبَعْضِهَا عَيْبَانِ، وَبِبَعْضِهَا ثلاث عيوب، فيأخذ ما له عَيْبَانِ.
وَالثَّانِي: أَوْسَطُهَا فِي الْقِيمَةِ.
مِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ بَعْضِهَا مَعِيبًا خَمْسِينَ وَقِيمَةُ بعضها مِائَةً، وَقِيمَةُ بَعْضِهَا مَعِيبًا مِائَةً وَخَمْسِينَ، فَيَأْخُذَ مِنْهَا مَا قِيمَتُهُ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، لِأَنَّهُ أَوْسَطُهَا قِيمَةً فَحَصَلَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ أَصَحُّهَا وَأَوْلَاهَا مَا قَالَهُ ابْنُ خَيْرَانَ إِنَّهُ يَأْخُذُ خَيْرَ الْفَرْضَيْنِ لَا غَيْرَ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ " فَقَالَ: يَأْخُذُ خير المعيب من السن التي وجبت عليه.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُهَا غَلَطًا، وَأَضْعَفُهَا: يَأْخُذُ خَيْرَ الْمَالِ كُلِّهِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: يَأْخُذُ أَوْسَطَهَا عَيْبًا.
وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: يَأْخُذُ أَوْسَطَهَا قِيمَةً، قَالَ الشَّافِعِيُّ نَصًّا فِي كِتَابِ الْأُمِّ: وَإِذَا كَانَ جميع ماله مراضاً والفرض منها مَوْجُودًا، لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى الصُّعُودِ وَأَخْذِ الْجُبْرَانِ، وَلَا إِلَى النُّزُولِ وَدَفْعِ الْجُبْرَانِ، لِوُجُودِ السِّنِّ الْمَفْرُوضِ، وَلَوْ كَانَ الْفَرْضُ مَعْدُومًا فِي مَالِهِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَنْزِلَ إِلَى سِنٍّ أَدْنَى وَيُعْطِيَ مَعَهَا شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا جُبْرَانًا لِلسِّنِّ النَّاقِصِ جَازَ، لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ قَبُولُهُ فِي الْجُبْرَانِ عَنْ سِنٍّ صَحِيحٍ جَازَ قَبُولُهُ عَنْ سِنٍّ مَرِيضٍ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَصْعَدَ إِلَى سِنٍّ أَعْلَى وَيَأْخُذَ الْجُبْرَانَ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ ذَلِكَ جُبْرَانٌ فِي سِنٍّ صَحِيحٍ، فَلَمْ يَجُزْ لِلْمُصَدِّقِ أَنْ يَجْعَلَهُ جُبْرَانًا فِي سِنٍّ مَرِيضٍ، فَإِنْ أَعْطَى الْأَعْلَى مُتَطَوِّعًا بِالزِّيَادَةِ جَازَ قَبُولُهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا وجبت عليه جذعةٌ لم يكن له أن يأخذ منه مَاخِضًا إِلَا أَنْ يَتَطَوَّعَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كما قال إن كَانَ فَرْضُ إِبِلِهِ جَذَعَةً لَمْ يَجُزْ لِلسَّاعِي أن يأخذ مَاخِضًا، سَوَاءً كَانَتْ إِبِلُهُ حَوَامِلَ، أَوْ حَوَائِلَ إِلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهَا فَيَجُوزُ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُ لِزِيَادَتِهَا، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ لَا يجوز الْمَاخِضَ بِحَالٍ لِقَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ الله عنه لساعيه: لا تأخذ الربا، وَلَا الْمَاخِضَ، وَلَا فَحْلَ الْغَنَمِ، وَلِأَنَّ الْحَمْلَ نَقْصٌ فِي الْحَيَوَانِ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ دَفَعَ الْغُرَّةَ حَامِلًا فِي دِيَةِ الْجَنِينِ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ، وَلَوِ اشْتَرَى أَمَةً فَظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ كَانَ لِلْمُشْتَرِي رَدُّهَا بِهِ، وَإِذَا كَانَ عَيْبًا يُوجِبُ الرَّدَّ لَمْ يَجُزْ قَبُولُهُ فِي الزَّكَاةِ وهذا خطأ.

(3/99)


وَدَلِيلُنَا مَا رَوَى أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُصَدِّقًا، فَأَتَيْتُ رَجُلًا فَجَمَعَ لِي مَالَهُ، فَوَجَدَ قَدْ وَجَبَتْ فِيهِ بِنْتُ مَخَاضٍ، فَقُلْتُ لَهُ: صَدَقَتُكَ بِنْتُ مَخَاضٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَا دَرَّ فِيهَا وَلَا نَسْلَ خُذْ هَذِهِ النَّاقَةَ السَّمِينَةَ الْكَوْمَاءَ فَفِيهَا دَرٌّ وَنَسْلٌ، فَقُلْتُ لَمْ يَأْمُرْنِي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ مِنْكَ قَرِيبٌ فَائْتِهِ وَاسْأَلْهُ فَأَتَاهُ وَسَأَلَهُ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ذَاكَ الْوَاجِبُ فَإِنْ تَطَوَّعْتَ بَخَيْرٍ مِنْهُ آجَرَكَ اللَّهُ وَقَبِلْنَاهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ الْأَمْرَيْنِ، وَأَنَّ قَبُولَهُ جَائِزٌ، وَلِأَنَّ الْحَمْلَ فِي الْبَهَائِمِ زِيَادَةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ دِيَاتِ الْإِبِلِ تَتَغَلَّظُ به وتتخفف بعدمه، وإن كان تزايداً وجب أن يكون قبوله جايزاً، فأما نهي عمر رضي الله عنه عنها فَمَعْنَاهُ: إِذَا لَمْ يَرْضَ مَالِكُهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّهُ نَقْصٌ فِي الْحَيَوَانِ، فَهُوَ نَقْصٌ فِي الْآدَمِيَّاتِ، وَزِيَادَةٌ فِي الْبَهَائِمِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى فَرَّقْنَا بَيْنَ قَبُولِ الْمَاخِضِ فِي الزَّكَاةِ، وَبَيْنَ قَبُولِ الْغُرَّةِ فِي الْحَامِلِ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ، فَإِذَا صَحَّ أَنَّ قَبُولَ الْمَاخِضِ إِذَا تَطَوَّعَ بِهَا جَائِزٌ: فَلَيْسَ لِلسَّاعِي أَخْذُهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَطَوَّعَ رَبُّ الْمَالِ بِهَا وَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ غيرها إلى سن أعلى، ويأخذ، أو إلى سِنٍّ أَسْفَلَ وَيُعْطِيَ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَرَقَهَا الْفَحْلُ لَمْ يَلْزَمْهُ دَفْعُهَا كَالْمَاخِضِ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهَا إِلَى سِنٍّ غَيْرِهَا، وَلَوْ دَفَعَ فِي الْغُرَّةِ أَمَةً مَوْطُوءَةً لَزِمَ قَبُولُهَا فَإِنْ قِيلَ: لِمَ جَعَلْتُمْ طَرْقَ الْفَحْلِ لِلْجَذَعَةِ كَالْحَمْلِ، ولم تجعلوا وطأ الْأَمَةِ فِي الْغُرَّةِ كَالْحَمْلِ؟
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ ضِرَابَ الْبَهَائِمِ غَالِبُهُ الْعُلُوقُ، فَكَانَ وَجُودُهُ كَوُجُودِ الْحَمْلِ، وَلَيْسَ الْغَالِبُ من وطئ الْآدَمِيَّاتِ الْعُلُوقَ فَلَمْ يَكُنْ وُجُودُهُ كَوُجُودِ الْحَمْلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَمْلَ فِي الْغُرَّةِ نَقْصٌ يُمْكِنُ الْوَلِيُّ اسْتِدْرَاكَهُ بِرَدِّهِ إِذَا ظَهَرَ، وَالْحَمْلَ فِي الْجَذَعَةِ زِيَادَةٌ لَا يُمْكِنُ رَبُّ الْمَالِ اسْتِدْرَاكَهَا إِذَا ظَهَرَتْ، لِاقْتِسَامِ الْمَسَاكِينِ لَهَا وَاللَّهُ تَعَالَى أعلم.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَتْ إِبِلُهُ مَعِيبَةً وَفَرِيضَتُهَا شَاةً، وَكَانَتْ أَكْثَرَ ثَمَنًا مِنْ بَعِيرٍ مِنْهَا، قِيلَ لَكَ الْخِيَارُ فِي أَنْ تُعْطِيَ بَعِيرًا مِنْهَا تَطَوُّعًا مَكَانَهَا، أَوْ شَاةً مِنْ غَنَمِكَ تَجُوزُ أُضْحِيَّةً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ مَعَهُ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ مِرَاضٌ أَوْ عِجَافٌ لَا تُسَاوِي جَمَاعَتُهَا، أَوْ وَاحِدٌ مِنْهَا شَاةً، فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِخْرَاجِ شَاةٍ، أَوْ وَاحِدٍ مِنْهَا.

(3/100)


وَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ: عَلَيْهِ إِخْرَاجُ شَاةٍ عَنْهَا، ولا يجزئه إِخْرَاجُ وَاحِدٍ مِنْهَا، تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " في كل خمس من الإبل شاة " وَلِأَنَّ الْبَعِيرَ بَدَلٌ مِنَ الشَّاةِ، وَالْأَبْدَالُ فِي الزَّكَوَاتِ لَا تَجُوزُ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " خُذِ الْبَعِيرَ مِنَ الْإِبِلِ، وَالشَّاةَ مِنَ الْغَنَمِ " فَكَانَ نَصُّ الْخَبَرِ وَاعْتِبَارُ الْأُصُولِ يَقْتَضِيَانِ إِخْرَاجَ الفرضين مِنْ جِنْسِ الْمَالِ، أُخِذَتِ الشَّاةُ مِنَ الْخَمْسِ على وجه الترفيه والرفق، فإذا لَمْ يَخْتَرِ التَّرْفِيهَ بِإِخْرَاجِ الشَّاةِ، وَأَرَادَ الرُّجُوعَ إلى حكم الإبل، كَانَ ذَلِكَ لَهُ، وَلِأَنَّ كُلَّ فَرِيضَةٍ تُؤْخَذُ مِنْ جُمْلَةٍ جَازَ أَخْذُهَا مِنْ بَعْضِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ، كَأَخْذِ الْجَذَعَةِ بَدَلًا مِنْ بِنْتِ مَخَاضٍ، وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فِي كُلِّ خمسٍ شَاةٌ " فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ عَلَى وَجْهِ التَّرْفِيهِ وَالرِّفْقِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ ذَلِكَ بَدَلٌ، وَالْبَدَلُ قِيمَةٌ، فَغَلَطٌ لِأَنَّا لَسْنَا نَقُولُ إِنَّهُ بَدَلٌ وَإِنَّمَا نَقُولُ إِنَّهُ فَرْضٌ ثَانٍ، وَلَهُ إِسْقَاطُهُ بِمَا هُوَ مِثْلُهُ، فَيَكُونُ فِي الْخَمْسِ فَرْضَانِ، أَعْلَى وَهُوَ بَعِيرٌ، وَأَدْنَى وَهُوَ شَاةٌ، فَإِذَا أَخْرَجَ بَعِيرًا فَقَدْ أَخْرَجَ أَعْلَى فَرْضِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَعِيرُ أَوْسَطَهَا أَوْ أَدْوَنَهَا، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَثُرَتْ عُيُوبُهُ فَهُوَ أَكْثَرُ مَنْفَعَةً مِنْ شَاةٍ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْبَعِيرِ الْمُخْرَجِ مِنَ الْخَمْسِ هَلْ جَمِيعُهُ وَاجِبٌ؟ أَوْ خُمُسُهُ وَالْبَاقِي تَطَوُّعٌ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ جَمِيعَهُ وَاجِبٌ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ إِبِلُهُ عَشْرًا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ شَاتَيْنِ أَوْ بَعِيرَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ خُمُسَهُ وَاجِبٌ وَبَاقِيهِ تَطَوُّعٌ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ إِبِلُهُ عَشْرًا كَانَ الْخِيَارُ بَيْنَ بَعِيرٍ وَاحِدٍ أَوْ شَاتَيْنِ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي التَّمَتُّعِ إِذَا أَخْرَجَ فِي هَدْيِ تَمَتُّعِهِ بَدَنَةً بَدَلًا مِنَ الشَّاةِ، فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ جَمِيعَ الْبَدَنَةِ وَاجِبٌ، وَالثَّانِي أَنَّ سُبُعَهَا وَاجِبٌ وَبَاقِيهَا تَطَوُّعٌ.

مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رضي الله عنه: " فإن كانت غنمه معزاً فَثَنِيَّةٌ أَوْ ضَأْنًا فَجَذَعَةٌ وَلَا أَنْظُرُ إِلَى الأغلب في البلد لأنه إنما قيل إن عليه شاةً من شاء بلده تجوز في صدقة الغنم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الشَّاةِ الْمَأْخُوذَةِ من الخمس، أو بين الشاتين يشتمل عل ثَلَاثَةِ فُصُولٍ:
أَحَدُهَا: فِي السِّنِّ.
وَالثَّانِي: فِي الْجِنْسِ.
وَالثَّالِثُ: فِي النَّوْعِ.

(3/101)


فَأَمَّا السِّنُّ الَّذِي لَا يَجُوزُ دُونَهُ فَهُوَ مَا تَجُوزُ أُضْحِيَتُهُ إِنْ كَانَتْ ضَأْنًا فَجَذَعَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ مِعْزَى فَثَنِيَّةٌ، لِمَا رُوِيَ عَنْ سويد بن غفلة قال أتانا مصدق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقال: نهينا عن أخذ الرَّاضِعِ، وَأُمِرْنَا بِالْجَذَعِ مِنَ الضَّأْنِ، وَالثَّنِيِّ مِنَ الْمَعِزِ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِسَاعِيهِ: وَخُذِ الْجَذَعَةَ وَالثَّنِيَّةَ.
وَأَمَّا الْجِنْسُ فَالْمُرَاعَى فِيهِ غَنَمُ الْبَلَدِ لَا غَنَمُ الْمَالِكِ، فَإِنْ كَانَ مَكِّيًّا فَمِنْ غَنَمِ مَكَّةَ ضَأْنًا أو معزى، فإن أخرج غَيْرَ الْمَكِّيَّةِ لَمْ تُجْزِهِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ مِثْلَ الْمَكِّيَّةِ أَوْ فَوْقَهَا، وَإِنْ كَانَ بَصْرِيًّا فَمِنْ غَنَمِ الْبَصْرَةِ ضَأْنًا أَوْ مِعْزَى، فَإِنْ أَخْرَجَ مِنْ غَيْرِ الْبَصْرِيَّةِ لَمْ تُجْزِهِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ مِثْلَ الْبَصْرِيَّةِ أَوْ فَوْقَهَا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ مَا أُطْلِقَ ذِكْرُهُ مِنْ غَيْرِ وَصْفٍ فَوَصْفُهُ مَحْمُولٌ عَلَى غَالِبِ الْبُلْدَانِ كَأَثْمَانِ الْمَبِيعَاتِ.
وَأَمَّا النَّوْعُ فَالْمُزَكِّي مُخَيَّرٌ فِيهِ بَيْنَ الضَّأْنِ وَالْمِعْزَى، وَلَا اعْتِبَارَ بِغَالِبِ غَنَمِ الْبَلَدِ، وَقَالَ مَالِكٌ اعْتِبَارُ غَنَمِ الْبَلَدِ وَاجِبٌ فِي النَّوْعِ كَمَا كَانَ وَاجِبًا فِي الْجِنْسِ، فإن كان غَنَمِ الْبَلَدِ الضَّأْنَ لَمْ آخُذِ الْمَعِزَ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ الْمَعِزَ لَمْ آخُذِ الضَّأْنَ، وَهَذَا غلط، لأن النوع قد ورد الشرع بِتَحْدِيدِ أَصْلِهِ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ جَمِيعِهِ، فَلَمْ يَحْتَجْ مَعَ وُرُودِ الشَّرْعِ بِهِ إِلَى اعْتِبَارِ غَالِبِ البلد، وكان هذا الخلاف الْجِنْسِ الْمُطْلَقِ ذِكْرُهُ فِي الشَّرْعِ.

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وإذا كانت إبله كراماً لم يأخذ منه الصَّدَقَةَ دُونَهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ لِئَامًا لَمْ يكن لنا أن نأخذ مِنْهَا كِرَامًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّمَا أَرَادَ كِرَامَ الْجِنْسِ، كَالْبُخْتِ النَّجَّارِيَّةِ وَالْعِرَابِ الْمَجِيدِيَّةِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ تُؤْخَذَ زَكَاتُهَا كِرَامًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} (البقرة: 267) وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَالُهُ لِئَامًا لَمْ يُكَلَّفْ زَكَاتَهَا كِرَامًا، كَذَلِكَ إِذَا كَانَ مَالُهُ كِرَامًا لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا لِئَامًا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ كِرَامَ الْوَصْفِ فَكَانَتْ سماناً لم تؤخذ زَكَاتُهَا إِلَّا سِمَانًا، فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ كِرَامَ السِّنِّ فَكَانَتْ جِذَاعًا وَثَنَايَا وَكَانَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ، لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهَا إِلَّا بِنْتُ مَخَاضٍ مِنْ جِنْسِهَا، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا جَذَعَةٌ وَلَا ثَنِيَّةٌ، وَلِأَنَّ زِيَادَةَ السِّنِّ تَجْرِي مَجْرَى زِيَادَةِ الْعَدَدِ، فَلَوْ أُخِذَتِ الْجَذَعَةُ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ إِذَا كانت جذاعاً لبطل اعتبار النصب، ولا يستوي فَرْضُ قَلِيلِ الْإِبِلِ وَكَثِيرِهَا، وَكَرَامَةُ الْجِنْسِ لَا تَجْرِي مَجْرَى زِيَادَةِ الْعَدَدِ، وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي زِيَادَةِ الْفَرْضِ، فَلِذَلِكَ وَقَعَ بَيْنَهُمَا الْفَرْقُ.

(3/102)


مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا عد عَلَيْهِ السَّاعِي فَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ حَتَّى نَقَصَتْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي الْإِمْكَانِ هَلْ هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، أَوْ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ.
فأحد قوليه هو مَذْهَبُهُ فِي الْقَدِيمِ إِمْكَانُ الْأَدَاءِ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ إِمْكَانَ الْأَدَاءِ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ، وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْقَدِيمِ شَيْئَانِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِمْكَانَ مَعْنًى إذا تلف المال قبل وجود سَقَطَ ضَمَانُ الزَّكَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ كَالْحَوْلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ إِمْكَانَ الْأَدَاءِ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ لَا مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ، كَالصَّلَاةِ الَّتِي تَجِبُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ، وَإِمْكَانِ الْأَدَاءِ وَالْحَجِّ الَّذِي يَجِبُ بِالِاسْتِطَاعَةِ، وَإِمْكَانِ الْأَدَاءِ، وَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ، وَوَجْهُ قَوْلِهِ فِي الجديد: أن الإمكان مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا زكاة على مالٍ حتى يحول عليه الْحَوْلُ " فَجَعَلَ الْحَوْلَ غَايَةً فِي الْوُجُوبِ، وَالْحُكْمُ بَعْدَ الْغَايَةِ بِخِلَافِهِ قَبْلَهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَوْ أَتْلَفَ مَالَهُ قَبْلَ الْحَوْلِ لَمْ يَضْمَنْ زَكَاتَهُ، وَلَوْ أَتْلَفَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ وَقَبْلَ الْإِمْكَانِ ضَمِنَ زَكَاتَهُ، فَعُلِمَ أَنَّ الْإِمْكَانَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْوُجُوبِ.

فَصْلٌ
: فَأَمَّا صِفَةُ الْإِمْكَانِ، فَإِنْ كَانَ مَالًا بَاطِنًا كَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، فإمكان الأداء بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ: إِمَّا بِمُطَالَبَةِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ، أَوْ بِحُضُورِ أَهْلِ السُّهْمَانِ وَإِنْ كَانَ مَالًا ظَاهِرًا كَالْمَوَاشِي وَالثِّمَارِ. فَعَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ " إِنَّ إِمْكَانَ الْأَدَاءِ فِيهِ بِمُطَالَبَةِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ لَا غَيْرَ ".
وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي الْجَدِيدِ: إِنَّهُ كَالْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ، يَكُونُ إِمْكَانُ أَدَائِهِ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ: إِمَّا بِمُطَالَبَةِ الْإِمَامِ، أَوْ بِحُضُورِ أهل السهمان.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله: " وإن فَرَّطَ فِي دَفْعِهَا فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ إِخْرَاجَ الزَّكَاةِ بَعْدَ الْإِمْكَانِ عَلَى الْفَوْرِ، فَمَتَى أَمْكَنَهُ إِخْرَاجُهَا فَلَمْ يُخْرِجْهَا حَتَّى هَلَكَ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا.

(3/103)


وَقَالَ أبو حنيفة إِخْرَاجُهَا عَلَى التَّرَاخِي فَإِنْ تَلِفَ الْمَالُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ تَلَفُهَا بِجِنَايَةٍ مِنْهُ، أَوْ يَكُونَ السَّاعِي قَدْ طَالَبَ بِهَا فَمَنَعَهُ، قَالَ: لِأَنَّ الزَّكَاةَ إِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَانَتْ فِي يَدِهِ أَمَانَةً كالوديعة، والودائع لا يضمنها إلا بجناية، أبو بِمُطَالَبَةِ رَبِّهَا بِهَا، فَيَمْنَعُهُ فَكَذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ، قال: ولأن الزكاة حق للمساكين فهم غَيْرُ مُعَيَّنِينَ وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَهَا عَنْ قَوْمٍ ويصرفها في آخرين، وإذا لم يتعين مستحقها لَمْ يَلْزَمْهُ الضَّمَانُ بِحَبْسِهَا، وَهَذَا خَطَأٌ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: هُوَ أَنَّهُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهُ بِوُجُودِ الْمَالِ، فَإِذَا وَجَبَ لَمْ يَسْقُطْ وُجُوبُهُ بَعْدَ الْإِمْكَانِ بِتَلَفِ الْمَالِ، كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ عَنْ عَبِيدِهِ، إِذَا مَاتُوا، وَكَالْحَجِّ إِذَا تَلِفَ مَالُهُ بَعْدَ إِمْكَانِ أَدَائِهِ، وَلِأَنَّهَا زكاة قدر على أدائها بعد وجودها، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ ضَمَانُهَا، كَمَا لَوْ طَالَبَهُ السَّاعِي بِهَا، وَلِأَنَّ تَعْيِينَ الْمُسْتَحِقِّينَ بِالْوَصْفِ يَجْرِي مجرى تعيين للمستحقين بالاسم، فإذا ألزمه الضَّمَانُ بِمَنْعِ مُسْتَحِقِّيهَا بِالِاسْمِ وَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الضمان بمنع مستحقيها بالوصف، فأما قوله: إِنَّهَا كَالْوَدِيعَةِ لَا يَضْمَنُ إِلَّا بِجِنَايَةٍ، أَوْ مَنْعٍ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ.
فَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: تَأْخِيرُهَا بَعْدَ إِمْكَانِ أَدَائِهَا جِنَايَةٌ مِنْهُ عَلَيْهَا، عَلَى أَنَّ مِنَ الْوَدَائِعِ مَا يَجِبُ ضمانها من غير مطالبته، وَهِيَ مَا لَمْ يَعْلَمْ رِضَا مَالِكِهَا بِإِمْسَاكِهَا، كَالثَّوْبِ إِذَا طَارَ بِهِ الرِّيحُ إِلَى دَارِ رَجُلٍ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، إِذَا لَمْ يُبَادِرْ بِرَدِّهِ، وإعلامه، وكموت ربه الْوَدِيعَةِ، يُوجِبُ عَلَى الْمُودِعِ رَدَّهَا عَلَى الْوَارِثِ، فَإِنْ لَمْ يَرُدَّهَا أَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا ضَمِنَهَا، كَذَلِكَ الزَّكَاةُ لَيْسَ يُعْلَمُ رِضَا مُسْتَحِقِّهَا بحبسها، فوجب أن يلزمه ضمانها، وأما قوله إِنَّ مُسْتَحِقَّهَا غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَهَا عَنْ قَوْمٍ وَيَصْرِفَهَا فِي آخَرِينَ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لأنه إنما يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَهَا عَنْ قَوْمٍ إِلَى غَيْرِهِمْ إِذَا حَضَرَ جَمِيعُ الْمَسَاكِينِ، فَأَمَّا إِذَا حَضَرَ بَعْضُهُمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْبِسَهَا عَمَّنْ حَضَرَ لِيَدْفَعَهَا إِلَى مَنْ لَمْ يَحْضُرْ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ ضَمِنَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وما هلك أو نقص في يدي الساعي فهو أمين حدثنا إبراهيم بن محمد قال حدثنا حرمي بن يونس بن محمد عن أبيه عن حماد بن سلمة عن ثمامة بن عبد الله أنس عن أنس مِثْلِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
إِذَا أَخَذَ السَّاعِي زَكَاةَ الْأَمْوَالِ فَتَلِفَتْ فِي يَدِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، وَقَدْ بَرِئَتْ ذِمَمُهُمْ فيها، لِأَنَّ السَّاعِيَ وَكِيلٌ لِلْمَسَاكِينِ فِي قَبْضِ الزَّكَاةِ، لِأَنَّ حَقَّهُ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَالْوَكِيلُ إِذَا اسْتَوْفَى فِي حَقِّ مُوَكِّلِهِ بَرِئَ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ الْحَقُّ، سَوَاءٌ وَصَلَ ذَلِكَ إِلَى الْمُوَكِّلِ أَمْ لا، فأما الساعي فإن كان لَمْ يُفَرِّطْ فِيمَا بِيَدِهِ وَإِنَّمَا حَبَسَهَا لِجَمِيعِ الْفُقَرَاءِ أَوْ لِلْكَشْفِ عَنْ أَحْوَالِهِمْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ فَرَّطَ أَوْ تَعَدَّى أَوْ حَبَسَهَا مَعَ وُجُودِ مُسْتَحِقِّيهَا لَزِمَهُ ضَمَانُهَا، كَتَفْرِيطِ الْأُمَنَاءِ

(3/104)


فَإِنْ قِيلَ فَالْوَكِيلُ إِذَا حَبَسَ مَالَ مُوَكِّلِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطَالَبَ بِهِ لَمْ يَضْمَنْ، فَهَلَّا كَانَ السَّاعِي كَذَلِكَ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِمَالِهِ، فَإِذَا أَمْسَكَ عَنِ الْمُطَالَبَةِ بِهِ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى الرِّضَا بِتَرْكِهِ، وَلَيْسَ لِلْمَسَاكِينِ مُطَالَبَةُ السَّاعِي بِمَا فِي يَدِهِ، فَلَمْ يَكُنْ إِمْسَاكُهُمْ دَلِيلًا عَلَى الرِّضَا بِتَرْكِهِ، فَأَمَّا رَبُّ الْمَالِ إِذَا أَخْرَجَ زَكَاةَ مَالِهِ فَتَلِفَتْ من يَدِهِ بَعْدَ إِمْكَانِهِ وَقَبْلَ دَفْعِهِ لَمْ يُجْزِهِ ذَلِكَ وَلَزِمَهُ الضَّمَانُ، لِأَنَّهُ فَائِتٌ عَنْ نَفْسِهِ وَالزَّكَاةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِذِمَّتِهِ.

(3/105)