الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

باب تعجيل الصدقة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أَخْبَرَنَا مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكَرًا فَجَاءَتْهُ إبلٌ مِنْ إبل الصدقة قال أبو رافع فأمرني أن أقضيه إياها (قال الشافعي) العلم يحيط أنه لَا يُقْضَى مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ وَالصَّدَقَةُ لَا تَحِلُّ لَهُ إِلَّا وَقَدْ تَسَلَّفَ لِأَهْلِهَا مَا يقضيه من مالهم وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في الحالف بالله " فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ " وعن بعض أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه كان يحلف ويكفر ثم يحنث وعن ابن عمر أنه كان يبعث بصدقة الفطر إلى الذي تجمع عنده قبل الفطر بيومين (قال) فبهذا نأخذ (قال المزني) ونجعل في هذا الموضع ما هو أولى به أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تسلف صدقة العباس قبل حلولها.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
يَجُوزُ عِنْدَنَا تَقْدِيمُ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ، وَالْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ.
وَقَالَ رَبِيعَةُ وَدَاوُدُ: لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا جَمِيعًا.
وقال أبو حنيفة: يجب تَقْدِيمُ الزَّكَاةِ دُونَ الْكَفَّارَةِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ دُونَ الزَّكَاةِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عبيد مِنْ أَصْحَابِنَا، وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ مِنْ تَقْدِيمِ الزَّكَاةِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا زكاة على مالٍ حتى يحول عليه الْحَوْلُ " فَنَفَى وُجُوبَ الزَّكَاةِ وَاسْمَهَا وَإِذَا كَانَ الِاسْمُ مَنْفِيًّا لَمْ يَكُنِ الْإِجْزَاءُ وَاقِعًا قَالُوا: وَلِأَنَّهُ تَعْجِيلُ زَكَاةٍ قَبْلَ وُجُوبِهَا فَوَجَبَ أَنْ لا تجوز الزروع والثمار، لأنها عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ فِعْلُهَا قَبْلَ وُجُوبِهَا كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ بِعَدَدٍ وَأَمَدٍ، فَالْعَدَدُ النِّصَابُ، وَالْأَمَدُ الْحَوْلُ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْعَدَدِ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْأَمَدِ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَفْتَقِرُ إِلَى مَنْ تَجِبُ لَهُ وَإِلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يتعجلها من تَجِبَ لَهُ وَهُوَ أَنْ يُعْطِيَ غَنِيًّا وَيَنْتَظِرَ فَقْرَهُ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَجِّلَهَا مَنْ تجب عَلَيْهِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا

(3/159)


ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مَا رَوَاهُ حُجَيَّةُ بْنُ عَدِيٍّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ الْعَبَّاسَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن تَعْجِيلِ صَدَقَتِهِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَرَوَى أَبُو الْبَخْتَرِيِّ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَسْلَفَ مِنَ الْعَبَّاسِ صَدَقَةَ عَامَيْنِ وَرَوَى مِقْسَمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: أَسْلَفَنَا الْعَبَّاسُ صَدَقَةَ الْعَامِ وَالْعَامِ الْمُقْبِلِ) فإذا قِيلَ فَتَعْجِيلُ زَكَاةِ عَامَيْنِ عِنْدَكُمْ لَا يَجُوزُ قُلْنَا فِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ جَوَازُ تَعْجِيلِهَا أَعْوَامًا إِذَا بَقِيَ بَعْدَ الْمُعَجَّلِ نِصَابٌ اسْتِدْلَالًا بِظَاهِرِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ أَكْثَرَ مِنْ عَامٍ وَاحِدٍ فَعَلَى هَذَا عَنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَجَّلَ ذَلِكَ فِي عَامَيْنِ مُتَوَالِيَيْنِ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ فِي رَأْسِ الْحَوْلِ زَكَاةَ الْعَامِ الْمَاضِي وَهِيَ وَاجِبَةٌ وَزَكَاةَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ وَهِيَ تَعْجِيلٌ، فَنَقَلَ الرَّاوِي أَنَّهُ استسلف منه زكاة عامين، ويدل على مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي صَدْرِ الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - استسلف من رجل بكراً، فلما جاءته إِبِلٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَقْضِيَهُ فَلَمَّا رَدَّ الْقَرْضَ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَدِ اقْتَرَضَ لِأَهْلِ الصَّدَقَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَ مَالَ الصَّدَقَةِ فِي غَيْرِ أَهْلِهَا، مَعَ أَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لَهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالدَّلَالَةُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّدَقَةَ إِذَا وَجَبَتْ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَجَبَتْ لَأَهِلَ السُّهْمَانِ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يَتَعَجَّلَهَا مَنْ تَجِبُ لَهُ قَبْلَ وُجُوبِهَا لَهُ، جَازَ أَنْ يُعَجِّلَهَا مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ قَبْلَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَرْضَ الْمُعَجَّلَ بَدَلٌ وَالزَّكَاةَ مُبْدَلٌ، فَلَمَّا جَازَ تَعْجِيلُ الْبَدَلِ عَنِ الزَّكَاةِ كَانَ تَعْجِيلُ الْمُبْدَلِ وَهِيَ الزَّكَاةُ أَوْلَى، لِأَنَّ الْمُبْدَلَ أَكْمَلُ حَالًا مِنَ الْبَدَلِ، فَكَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَائِلُ.

(3/160)


أَحَدُهَا: جَوَازُ تَعْجِيلِ الصَّدَقَةِ.
وَالثَّانِي: جَوَازُ قَرْضِ الْحَيَوَانِ.
وَالثَّالِثَ: جَوَازُ السَّلَمِ فِيهِ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ مَنِ اقْتَرَضَ حَيَوَانًا فَعَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِهِ، لِأَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: عَلَيْهِ رَدُّ قِيمَتِهِ كَالْغَصْبِ، فَإِنْ قِيلَ فَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ اقْتَرَضَ بَكَرًا فَرَدَّ رَبَاعِيًا وَذَلِكَ أَزْيَدُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَ مَالَ الصَّدَقَةِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، قِيلَ إِنْ كَانَ ذَلِكَ أَزْيَدَ فِي السِّنِّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنْقَصَ فِي الْجَوْدَةِ فَتَكُونَ زِيَادَةُ السِّنِّ مُقَابِلَةً لِنُقْصَانِ الْجَوْدَةِ، فَهَذَا جَوَابٌ، أَوْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مِمَّنْ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ، فَكَانَ مَا قَابَلَ دَيْنَهُ قَضَاءً وَمَا زَادَ عَلَيْهِ صَدَقَةً، وَهَذَا جَوَابٌ ثَانٍ، أو كان فَعَلَ ذَلِكَ لِيُرَغِّبَ النَّاسَ فِي قَرْضِ الْفُقَرَاءِ أو يجوز لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ هَذَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، وَهَذَا جَوَابٌ ثَالِثٌ، ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ طَرِيقِ المعنى: أنه حق في مال يجب لسببين يختصان به جاز تَقْدِيمُهُ عَلَى أَحَدِ سَبَبَيْهِ كَالْكَفَّارَةِ الَّتِي يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا بَعْدَ الْيَمِينِ وَقَبْلَ الْحِنْثِ.
وَقَوْلُنَا: حَقٌّ فِي مَالٍ احْتِرَازًا مِنْ صَوْمِ الْكَفَّارَةِ.
وَقَوْلُنَا يَجِبُ بِسَبَبَيْنِ احْتِرَازًا مِنَ الْأُضْحِيَةِ، وَقَوْلُنَا يَخْتَصَّانِ بِهِ احْتِرَازًا مِنَ الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ، لِأَنَّهُمَا لَا يَخْتَصَّانِ بِالزَّكَاةِ، وَالْحَوْلُ، وَالنِّصَابُ يَخْتَصَّانِ بِالزَّكَاةِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ، يَجِبُ بِالْحَوْلِ وَيَجِبُ بِغَيْرِ حَوْلٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ تَقْدِيمُ مَا يَجِبُ الحول قَبْلَ حَوْلِهِ كَالدِّيَةِ الَّتِي يَكُونُ عَمْدُهَا حَالًا وعطاها مُؤَجَّلًا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ أَجَلِهِ، وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ ضَرْبَانِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَحَقٌّ لِآدَمِيٍّ، وَحَقُّ الْآدَمِيِّ ضَرْبَانِ: حَقٌّ عَلَى بَدَنٍ، وَحَقٌّ فِي مَالٍ، فَمَا كَانَ عَلَى الْبَدَنِ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ، وَمَا كان في مال كَالدُّيُونِ يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ، كَذَلِكَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ضَرْبَانِ، حَقٌّ عَلَى بَدَنٍ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ، وَحَقٌّ في مال كالزكاة وَالْكَفَّارَةِ يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّ كُلَّ مَالٍ يَحُلُّ بِانْقِضَاءِ مُدَّةٍ يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ تِلْكَ الْمُدَّةِ كَالدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ، وَلِأَنَّ الْآجَالَ إِنَّمَا تَثْبُتُ رِفْقًا بِمَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ لَا يَرْتَفِقَ بِهِ وَيُؤَدِّيَ الْحَقَّ قَبْلَ أَجَلِهِ، فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ، وَأَرْفَقَ صَاحِبَ الْحَقِّ بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ الْإِجْزَاءُ فِي مَوْقِعِهِ الْجَوَابُ، أَمَّا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا زكاة على مالٍ حتى يحول عليه الْحَوْلُ " فَالْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْوُجُوبِ دُونَ الْإِجْزَاءِ بِدَلِيلِ مَا مَضَى.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ، فَقَدْ كَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هريرة يجمع بينهما، ويجيز تعجيل زكاة الزروع وَالثِّمَارِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ فِيهَا عَلَى غَالِبِ الْعَادَةِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَمْنَعُ مِنْ تَعْجِيلِ زَكَاتِهَا وَيُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِشَيْئَيْنِ.

(3/161)


أَحَدُهُمَا: أَنَّ الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ تَجِبُ زَكَاتُهَا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ وَتِلْكَ بِسَبَبَيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ حَالَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ عِنْدَ تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ مُخَالِفٌ لِحَالِهِ عِنْدَ وجوب الزكاة، لأنه عند التعجيل قصل وَبَلَحٌ وَالْمَوَاشِي فِي الْحَالَيْنِ سَوَاءٌ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فَالْمَعْنَى فِي الصَّلَاةِ أَنَّهَا مِنْ أَفْعَالِ الْأَبْدَانِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى النِّصَابِ فَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ قَدَّمَ الْحَقَّ قَبْلَ وُجُودِ أَحَدِ سَبَبَيْهِ، وَجَازَ قَبْلَ الْحَوْلِ وَبَعْدَ النِّصَابِ لِوُجُودِ أَحَدِ سَبَبَيْهِ كَالْكَفَّارَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إِلَى مَنْ تَجِبُ لَهُ قَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ لَمْ يَجُزْ أَخْذُهَا ممن تجب عليه قبل استحقاقها، ولا يجوز دفعها إلى من تجب له قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهَا عَلَى أَنَّ دَفْعَ الزَّكَاةِ إِلَى الأغنياء عيب لِأَنَّهُ مَالٌ مَصْرُوفٌ فِي ذَوِي الْحَاجَاتِ، وَهُوَ مَالٌ مَأْخُوذٌ مِنْ أَرْبَابِهِ عَلَى وَجْهِ الْمُوَاسَاةِ، وَقَدْ تُوجَدُ الْمُوَاسَاةُ فِي التَّعْجِيلِ وَلَا تُوجَدُ الْحَاجَةُ فِي الْغِنَى، فَأَمَّا تَعْجِيلُ زَكَاةِ الْفِطْرِ فَلَا تَجُوزُ قَبْلَ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَتَجُوزُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَقَبْلَ شَوَّالٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا تَسَلَّفَ الْوَالِي لَهُمْ فَهَلَكَ مِنْهُ قَبْلَ دَفْعِهِ إِلَيْهِمْ وَقَدْ فَرَّطَ أَوْ لَمْ يُفَرِّطْ فَهُوَ ضَامِنٌ فِي مَالِهِ لِأَنَّ فِيهِمْ أَهْلَ رشدٍ لَا يُوَلَّى عَلَيْهِمْ وَلَيْسَ كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ الَّذِي يَأْخُذُ لَهُ مَا لَا صَلَاحَ لَهُ إِلَّا بِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
إِذَا تعجل والي الزكاة زكاة رجل من مَالِهِ قَبْلَ حَوْلِهِ فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَعَجَّلَهَا بِاخْتِيَارِهِ وَنَظَرِهِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَتَعَجَّلَهَا بِمَسْأَلَةٍ فَإِنْ تَعَجَّلَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ بَلْ غَلَبَ فِي اجْتِهَادِهِ لِمَا رَأَى مِنْ حَالِ الْمَسَاكِينِ أَنْ يَسْتَسْلِفَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِمْ رَجَاءً لِمَصَالِحِهِمْ فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، وَلَا يَخْلُو حَالُ مَا تَعَجَّلَهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أقسام:
أحدها: إما أَنْ يَكُونَ قَدْ فَرَّقَهُ فِي أَهْلِ السُّهْمَانِ عِنْدَ أَخْذِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا فِي يَدِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ تَلِفَ فِي يَدِهِ فَأَمَّا إِنْ كَانَ قَدْ فَرَّقَهُ فِي أَهْلِ السُّهْمَانِ، فَلِلدَّافِعِ أَعْنِي رَبَّ الْمَالِ، وَلِلْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ أَعْنِي أَهْلَ السُّهْمَانِ عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَالْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ وَقَعَتِ الزَّكَاةُ مَوْقِعَهَا، وَأَجْزَأَتْ رَبَّ الْمَالِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِافْتِقَارِهِ وَالْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ مِمَّنْ

(3/162)


لَا يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ فَعَلَى الْوَالِي اسْتِرْجَاعُهَا مِمَّنْ دَفَعَهَا إِلَيْهِ وَرَدُّهَا عَلَى مَنْ أخرها منه.
والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِبَقَاءِ مَالِهِ وَالْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ مِمَّنْ لَا يستحق الزكاة والاستعانة فَعَلَى الْوَالِي اسْتِرْجَاعُهَا مِمَّنْ دَفَعَهَا إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهَا وَلَا يُرُدُّهَا عَلَى مَنْ أَخَذَهَا مِنْهُ، لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ لَكِنْ يُفَرِّقُهَا فِي أهلها ومستحقيها.
والحالة الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِافْتِقَارِهِ، وَالْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ لِبَقَاءِ فَقْرِهِ، فَلِلدَّافِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْوَالِي، وَيَرْجِعَ الْوَالِي بِهَا عَلَى مَنْ دفعها إليه، وهذا إِذَا كَانَ الْوَالِي قَدْ فَرَّقَهَا حِينَ أَخَذَهَا، فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ تَفْرِيقُهَا فِي أَهْلِ السُّهْمَانِ إِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ رَدَّهَا عَلَيْهِ، فَأَمَّا إِنْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ قَبْلَ الْحَوْلِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا، فَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ ضَمِنَها لِأَهْلِ السُّهْمَانِ، وَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ ضَمِنَهَا لِرَبِّ الْمَالِ، وَسَوَاءٌ تَلِفَتْ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ أَوْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وإن تلفت في يد السَّاعِي لِرَبِّ الْمَالِ، وَلَا لِأَرْبَابِ السُّهْمَانِ، لِأَنَّ يَدَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ يَدُ الْمَسَاكِينِ، وَمَا تَلِفَ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ قَبْلَ صَرْفِهِ إِلَيْهِمْ لَا يَضْمَنُهُ، وَلَا يَضْمَنُ لِرَبِّ الْمَالِ، لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَالَ الْحَوْلُ وَرَبُّ الْمَالِ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ لَكِنَّ السَّاعِيَ لَمْ يَصْرِفْهَا إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا حتى افتقر رب المال وتلفت الزَّكَاةُ فِي يَدِ السَّاعِي فَإِنْ لَمْ يُطَالِبْهُ بِرَدِّهِ إِلَيْهِ بَعْدَ فَقْرِهِ حَتَّى تَلِفَ فَلَا ضَمَانَ عَلَى السَّاعِي لِرَبِّ الْمَالِ، لِأَنَّ الْحَوْلَ قَدْ حَالَ، وَرَبُّ الْمَالِ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَلَا يَضْمَنُ لِلْفُقَرَاءِ لِأَنَّهُ أَمِينُهُمْ، وَإِنْ طَالَبَهُ رَبُّ الْمَالِ فَلَمْ يَرُدَّهُ أَوْ تَعَذَّرَ الرَّدُّ حَتَّى تَلِفَ فِي يَدِ السَّاعِي لَزِمَهُ ضَمَانُهُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَقَالَ أبو حنيفة لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِلَّا بِتَفْرِيطٍ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، ويكون مِنْ مَالِ أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَيُجْزِئُ ذَلِكَ رَبُّ المال احتجاجاً لشيئين.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ يَدَ الْوَالِي كَيَدِ أَهْلِ السُّهْمَانِ بِدَلِيلِ أَنَّ الزَّكَاةَ تَسْقُطُ عَنْ رَبِّ الْمَالِ بِدَفْعِهَا إِلَيْهِ كَمَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِدَفْعِهَا إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مَا تَلِفَ فِي أَيْدِي أَهْلِ السُّهْمَانِ مَضْمُونًا لَمْ يَكُنْ مَا تَلِفَ فِي يَدِ الْوَالِي مَضْمُونًا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَالِيَ فِي حَقِّ أَهْلِ السُّهْمَانِ بِمَنْزِلَةِ الْوَلِيِّ فِي حَقِّ الْيَتِيمِ، ثُمَّ كَانَ وَلِيُّ الْيَتِيمِ إِذَا تَعَجَّلَ لَهُ حَقًّا مُؤَجَّلًا لَمْ يَضْمَنْهُ، كَذَلِكَ وَالِي أَهْلِ السُّهْمَانِ إِذَا تَعَجَّلَ لَهُمْ حَقًّا مُؤَجَّلًا لَمْ يَضْمَنْهُ، وَهَذَا غَلَطٌ، وَدَلِيلُنَا شَيْئَانِ:

(3/163)


أَحَدُهُمَا: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شاكياً فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَمَّا الْعَبَّاسُ فَصَدَقَتُهُ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا " فَأَخْبَرَ أَنَّهَا في ضَمَانِهِ وَهُوَ مِمَّنْ لَا يُفَرِّطُ، فَثَبَتَ أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُفَرِّطْ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ دَلِيلُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ أَهْلَ السُّهْمَانِ أَهْلُ رُشْدٍ لَا يُوَلَّى عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ يَتَصَرَّفُونَ فِيمَا بِأَيْدِيهِمْ تَصَرُّفَ غَيْرِهِمْ، وَالْإِمَامُ وَالْوَلِيُّ مُتَصَرِّفٌ بِإِذْنِهِمْ، وَلَيْسَ كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ الَّذِي يَتَصَرَّفُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَلَا يتفرق الْيَتِيمُ فِي مَالِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَصَارَ وَالِي أهل السُّهْمَانِ كَالْوَكِيلِ يَضْمَنُ مَا أَخَذَهُ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ إِنَّ يَدَهَمْ كَيَدِهِ قبل صَحِيحٌ، لَكِنْ بَعْدَ الْوُجُوبِ عَلَى مَا أَذِنَ له، فأما فيما قيل فلا، فأما الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِ بَيْنَ وَلِيِّ الْيَتِيمِ وَوَالِي أَهْلِ السُّهْمَانِ فَمَا ذَكَرْنَا يُوجِبُ تَفْرِيقَ جَمْعِهِ بَيْنَهُمَا، يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْيَتِيمَ لَوْ نَهَى وَلِيَّهُ عَنْ تَعْجِيلِ حَقِّهِ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى نَهْيِهِ، لِأَنَّهُ مُوَلًّى عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ أَهْلُ السُّهْمَانِ، لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُوَلًّى عَلَيْهِمْ فَثَبَتَ بِذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَهَذَا الْكَلَامُ فِي أَحَدِ شَطْرَيِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنْ يُعَجِّلَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ.

فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِذَا تَعَجَّلَهَا بِمَسْأَلَةٍ فَلَا يَخْلُو حال من سأله من ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَبُّ الْمَالِ، وأهل السُّهْمَانِ، أَوْ هُمَا مَعًا، فَإِنْ سَأَلَهُ رَبُّ المال أن يتعجلها من دُون أَهْلِ السُّهْمَانِ فَلَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ صَرَفَهَا فِي أَهْلِ السُّهْمَانِ.
والثانية: أن تكون في يديه.
وَالثَّالِثَةُ: أَنْ تَكُونَ قَدْ تَلِفَتْ، فَإِنْ كَانَ قَدْ صَرَفَهَا فِي أَهْلِ السُّهْمَانِ فَلِلدَّافِعِ وَالْمَدْفُوعِ إليه أربعة أحول مَضَتْ.
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَالْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ فلا رجوع.
والحال الثانية: أن لا تجب على الدافع ولا يستحقها المدفوع إليه، فَلِلدَّافِعِ أَعْنِي رَبَّ الْمَالِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ أَعْنِي أَهْلَ السُّهْمَانِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْوَالِي، لِأَنَّهُ لَمَّا سَأَلَ الْوَالِي أَنْ يَتَعَجَّلَهَا مِنْهُ صَارَ الوالي في الدافع نَائِبًا عَنْهُ، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي يَدِ المدفوع إليها اسْتَرْجَعَهَا بِعَيْنِهَا، وَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتَهْلَكَهَا نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتْ ذَهَبًا أَوْ وَرِقًا

(3/164)


اسْتَرْجَعَ مِثْلَهَا، وَإِنْ كَانَتْ حَيَوَانًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا فِيمَنِ اقْتَرَضَ حَيَوَانًا هل يجب عليه رد مثله، أورد قِيمَتِهِ، أَحَدُهُمَا أَنْ يَسْتَرْجِعَ مِثْلَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَرْجِعَ قِيمَتَهُ:
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَالْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ مِمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ فَلِلدَّافِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا، وَعَلَيْهِ صَرْفُهَا فِي أَهْلِهَا وَمُسْتَحِقِّيهَا، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً اسْتَرْجَعَهَا بِعَيْنِهَا، وَهَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ دَفْعُهَا فِي الزَّكَاةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أحدهما: يدفعها بعينها ليعينها بِالتَّعْجِيلِ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ دَفْعِهَا أَوْ دَفْعِ غَيْرِهَا: لِأَنَّهَا بَعْدَ الِاسْتِرْجَاعِ مِنْ جُمْلَةِ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ قَدِ اسْتَهْلَكَهَا استرجع منه مثلها وجهاً واحداً.
والحالة الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عليه الزكاة والمدفوع إليه ممن يسحق الزكاة، فللدافع أن يرجع بها على المدفوع إليه، فإذا رَجَعَ بِهَا كَانَ لَهُ تَمَلُّكُهَا وَلَمْ يَلْزَمْهُ إِخْرَاجُهَا، لِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ قَدِ اسْتَهْلَكَهَا رَجَعَ عَلَيْهِ بِمِثْلِهَا إِنْ كَانَتْ ذَهَبًا أَوْ وَرِقًا، وَإِنْ كَانَتْ حَيَوَانًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ، لِأَنَّهُ يَسْتَرْجِعُهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ كَالْقِسْمِ الثَّانِي، وَخَالَفَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ الَّذِي يَكُونُ اسْتِرْجَاعُهُ لَهَا فِي حَقِّ الْفُقَرَاءِ، وَإِنْ كَانَتِ الزَّكَاةُ بَاقِيَةً فِي يَدِ الْوَالِي فَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا قَبْلَ الْحَوْلِ مَا لَمْ يُفَرِّقْهَا الْوَالِي، فَإِنْ فَرَّقَهَا فَلَا رُجُوعَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَتَغَيَّرَ حَالُهُ، أَوْ حَالُ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ عَلَى مَا مَضَى، وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِهَا عَلَى الْوَالِي قَبْلَ الْحَوْلِ مَا لَمْ يُفَرِّقْهَا، لِأَنَّهُ إِذَا سَأَلَ الْوَالِي تَعْجِيلَهَا فَالْوَالِي نَائِبٌ عَنْهُ، فَجَازَ أَنْ يَرْجِعَ فِي اسْتِنَابَتِهِ وَإِنْ تَلِفَتِ الزَّكَاةُ مِنْ يَدِ الوالي فلا ضمان على رب الْمَالِ إِلَّا بِتَفْرِيطٍ، لِأَنَّهُ لَمَّا سَأَلَهُ وَاسْتَنَابَهُ صار أمينه، الأمين غَيْرُ ضَامِنٍ مَا لَمْ يُفَرِّطْ، وَعَلَى رَبِّ المال إخراج الزكاة عند وُجُوبِهَا، لِأَنَّ مَا عَجَّلَهُ لَمْ يَصِلْ إِلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَلَا إِلَى مَنِ اسْتَنَابَهُ أَهْلُ السُّهْمَانِ، فَإِنْ كَانَ الْوَالِي قَدْ تَعَدَّى فِيهَا أَوْ فَرَّطَ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا فِي حَقِّ رَبِّ المال، ويضمن قيمة الحيوان وجهاً واحد، لِأَنَّهُ يَضْمَنُهُ ضَمَانَ غَصْبٍ فَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ إِذَا سَأَلَهُ رَبُّ الْمَالِ.

فَصْلٌ
: وَإِنْ سَأَلَهُ أَهْلُ السُّهْمَانِ أَنْ يَتَعَجَّلَ لَهُمْ دُونَ رَبِّ الْمَالِ فَعَلَى الْأَقْسَامِ الْمَاضِيَةِ، لِأَنَّ الْأَقْسَامَ فِيهَا مُتَمَاثِلَةٌ وَإِنَّمَا الْأَجْوِبَةُ مُخْتَلِفَةٌ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إِعَادَةِ الْأَقْسَامِ وَإِنْ تَكَرَّرَتْ لِيَصِحَّ تَقْسِيمُ الْمَسْأَلَةِ، وَيَبِينُ جَوَابُ كُلِّ قِسْمٍ، فَأَحَدُ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ: أَنْ يَكُونَ الْوَالِي قَدْ صَرَفَهَا فِي أَهْلِ السُّهْمَانِ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ فِي يَدِهِ.

(3/165)


والثالث: أن تكون قد تلفت من يَدِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ صَرَفَهَا فِي أَهْلِ السُّهْمَانِ فَلِلدَّافِعِ وَالْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ عَلَى مَا مَضَى، أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَا مَعًا مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ فَلَا يَرْجِعُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَا مَعًا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الزكاة فلرب المال أن يرجع بها على الْوَالِي، وَيَرْجِعَ بِهَا الْوَالِي عَلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ، بِخِلَافِ مَا مَضَى قَبْلُ؛ لِأَنَّ الْوَالِي هُوَ الْآخِذُ وَلَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْ رَبِّ الْمَالِ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ مَا أَخَذَهُ، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً اسْتَرْجَعَهَا بِعَيْنِهَا، وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً فَإِنْ كَانَتْ وَرِقًا أَوْ ذَهَبًا اسْتَرْجَعَ مِثْلَهَا، وَإِنْ كَانَتْ حَيَوَانًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ كَالْقَرْضِ، لِأَنَّهُ يَسْتَرْجِعُهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي حَقِّ أَهْلِ السُّهْمَانِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ وَالْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ لِلزَّكَاةِ فَعَلَى الْوَالِي اسْتِرْجَاعُهَا مِنَ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ، وَصَرْفُهَا فِي غَيْرِهِ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّهَا، وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ اسْتِرْجَاعُهَا، لِأَنَّ إِخْرَاجَهَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً اسْتَرْجَعَهَا الْوَالِي بِعَيْنِهَا وَصَرَفَهَا فِي مُسْتَحِقِّيهَا مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً اسْتَرْجَعَ مِثْلَهَا وَإِنْ كَانَتْ حَيَوَانًا، لِأَنَّهُ يَسْتَرْجِعُهَا فِي حَقِّ أَهْلِ السُّهْمَانِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَرْجِعَ مَا يُصْرَفُ مَصْرَفَ الزَّكَاةِ وَهُوَ الْعَيْنُ دُونَ الْقِيمَةِ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَالْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ، فَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْوَالِي، وَلِلْوَالِي أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً اسْتَرْجَعَهَا بِعَيْنِهَا، وَإِنْ تَلِفَتْ وَهِيَ حَيَوَانٌ فَعَلَى وَجْهَيْنِ كَالْقَرْضِ، لِأَنَّهُ يَسْتَرْجِعُهَا فِي حَقِّ رَبِّ الْمَالِ لَا فِي حَقِّ أَهْلِ السُّهْمَانِ.
أَحَدُهُمَا: يَسْتَرْجِعُ الْقِيمَةَ.
وَالثَّانِي: يَسْتَرْجِعُ الْمِثْلَ، وَإِنْ كَانَتِ الزَّكَاةُ فِي يَدِ الْوَالِي فَعَلَيْهِ صَرْفُهَا فِي أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا بِخِلَافِ مَا لَوْ سَأَلَهُ أَنْ يَتَعَجَّلَهَا إلا أن يتغير حاله عند الحول، لأن يد الوالي هاهنا يَدٌ لِأَهْلِ السُّهْمَانِ، وَهُنَاكَ يَدٌ لِرَبِّ الْمَالِ، وإن كانت الزكاة قد تلفت من يَدِ الْوَالِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُفَرِّطْ، وَهِيَ تَالِفَةٌ مِنْ مَالِ أَهْلِ السُّهْمَانِ، لأنه نائب عنهم، وقد أدى ذَلِكَ رَبُّ الْمَالِ، فَإِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُ رَبِّ المال عند الحلول كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْوَالِي، وَيَرْجِعَ بِهَا الْوَالِي فِي مَالِ أَهْلِ السُّهْمَانِ، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً اسْتَرْجَعَهَا بِعَيْنِهَا، وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً وَهِيَ حَيَوَانٌ فَعَلَى وَجْهَيْنِ، لِأَنَّهُ يَرْجِعُ بها في حق نفسه لا في ق أهل السهمان فهذا الكلام فيه إِذَا سَأَلَهُ أَهْلُ السُّهْمَانِ، وَلَوْ رَأَى الْإِمَامُ بِأَطْفَالِ الْمَسَاكِينِ حَاجَةً إِلَى التَّعْجِيلِ وَكَانُوا أَيْتَامًا فَاسْتَسْلَفَ لَهُمْ فَتَلِفَ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اسْتِسْلَافِهِ وَضَمَانِهِ على وجهين:

(3/166)


أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: لَيْسَ لِلْوَالِي أَنْ يَسْتَسْلِفَ لِغَيْرِ الْبَالِغِينَ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَإِنْ فَعَلَ كَانَ ضَامِنًا، لِأَنَّ لَهُمْ حقاً في خمس الخمس وسهماً فيه ليستغنون بِهِ عَنْ غَيْرِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هريرة: ليس لَهُ أَنْ يَسْتَسْلِفَ لَهُمْ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِنْ تَلِفَ، لِأَنَّهُمْ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّونَ أَخْذَ الزَّكَاةِ عند وجوبها فجاز تعجيلها فيهم قَبْلَ وُجُوبِهَا كَالْبَالِغِينَ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِلْوَالِي النظر على الْبَالِغِينَ مِنْهُمْ فَلَأَنْ يَكُونَ لَهُ النَّظَرُ عَلَى أَيْتَامِهِمْ أَوْلَى، وَيَقُومُ نَظَرُهُ لَهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ مَقَامَ إِذْنِهِمْ فِي التَّعْجِيلِ وَمَسْأَلَتِهِمْ.

فَصْلٌ
: وَإِنْ سَأَلَهُ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَتَعَجَّلَ مِنْهُ وَسَأَلَهُ أَهْلُ السُّهْمَانِ أَنْ يَتَعَجَّلَ لَهُمْ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ مَسْأَلَةُ رَبِّ الْمَالِ، كَمَا لَوْ تَفَرَّدَ بِمَسْأَلَتِهِ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ التَّقْسِيمِ وَالْجَوَابِ، لَأَنَّ التَّعْجِيلَ كَانَ بِاخْتِيَارِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوِ امْتَنَعَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ تُغَلِّبَ فِيهِ مَسْأَلَتَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ مَسْأَلَةُ أَهْلِ السُّهْمَانِ، كَمَا لَوْ تَفَرَّدُوا بِالْمَسْأَلَةِ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ التَّقْسِيمِ وَالْجَوَابِ، لِأَنَّهُمَا قد يتناوبا بِالْمَسْأَلَةِ وَانْفَرَدَ أَهْلُ السُّهْمَانِ بِالِارْتِفَاقِ فَوَجَبَ أَنْ يغلب فيه مسألتهم والله أعلم
بسم الله الرحمن الرحيم

صلى الله على سيدنا محمد وآله

قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ اسْتَسْلَفَ لِرَجُلَيْنِ بَعِيرًا فَأَتْلَفَاهُ وَمَاتَا قَبْلَ الْحَوْلِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمَا لِأَهْلِ السُّهْمَانِ لِأَنَّهُمَا لَمَّا لَمْ يَبْلُغَا الْحَوْلَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمَا فِي صدقةٍ قَدْ حَلَّتْ فِي حَوْلٍ لَمْ يَبْلُغَاهُ وَلَوْ مَاتَا بَعْدَ الْحَوْلِ كَانَا قَدِ اسْتَوْفَيَا الصَّدَقَةَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ: " لَوِ اسْتَسْلَفَ لِرَجُلَيْنِ بَعِيرًا " فَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْمَسْأَلَةِ، بَلْ لا فرق بين أن يستسلف لرجلين أو رجل أَوْ أَكْثَرَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَسْتَسْلِفَ بَعِيرًا أَوْ بَقَرَةً أَوْ شَاةً، وَالْجَوَابُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَجُمْلَتُهُ: أَنَّ الْوَالِيَ إِذَا تَعَجَّلَ مِنْ رَجُلٍ بَعِيرًا، وَدَفَعَهُ إِلَى فَقِيرٍ، لِمَا رأى من حاجته وشدة خلته، ثُمَّ مَاتَ الْفَقِيرُ، لَمْ يَخْلُ حَالُ مَوْتِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ.

(3/167)


إما أن يكون قبل موته أو بعده، أو شك هَلْ كَانَ مَوْتُهُ قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْحَوْلِ فَلَا تَرَاجُعَ، وَالزَّكَاةُ مجزئة، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ مُسْتَحِقِّي الزَّكَاةِ عِنْدَ وُجُوبِهَا، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْحَوْلِ: وَجَبَ اسْتِرْجَاعُهَا مِنْ تَرِكَتِهِ، لِأَنَّ تَعْجِيلَ الزَّكَاةِ مَوْقُوفٌ بَيْنَ الإجزاء والاسترجاع، وذلك لا يجزي رَبَّ الْمَالِ، فَكَانَ لَهُ الِاسْتِرْجَاعُ، وَقَالَ أبو حنيفة لَا يَجُوزُ لَهُ اسْتِرْجَاعُهَا، بَلْ تَكُونُ صَدَقَةَ تَطَوُّعٍ، فَجَعَلَهَا مَوْقُوفَةً بَيْنَ الْإِجْزَاءِ عَنِ الفرض أو التطوع، وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ إِسْقَاطُ الْفَرْضِ، فَإِذَا لَمْ يَسْقُطْ وَجَبَ اسْتِرْجَاعُهَا، كَمَنْ دَفَعَهَا إِلَى رَجُلٍ ظَاهِرُهُ الْإِسْلَامُ فَبَانَ كَافِرًا، كَانَ لَهُ اسْتِرْجَاعُهَا، لِأَنَّ إِسْقَاطَ الْفَرْضِ الْمَقْصُودِ بِالدَّفْعِ لَمْ يَحْصُلْ، كَذَلِكَ فِيمَا عَجَّلَ وَإِنْ شَكَّ فِي مَوْتِهِ هَلْ كَانَ قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ فَفِي جَوَازِ اسْتِرْجَاعِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تُسْتَرْجَعُ مِنْهُ اعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ فِي التَّعْجِيلِ، لِأَنَّهُ متردد بين أن يموت بعد الحول فتجزي، وقبل الحول فلا تجزي، وَفَرْضُ الزَّكَاةِ لَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تُسْتَرْجَعُ مِنْهُ اعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ فِي الِاسْتِرْجَاعِ، لِأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ الْحَوْلِ فَتُسْتَرْجَعُ، وَبَعْدَ الْحَوْلِ فَلَا تُسْتَرْجَعُ، وَمَا قَدْ ملك بالقبض فلا يجوز استرجاعها بالشك، فعلى هذا يجزي ذلك رب المال، لأنه الاسترجاع إذا لم يجب بالإخراج ثانية لا يَجِبْ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ الِاسْتِرْجَاعِ.

فَصْلٌ
: فَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الِاسْتِرْجَاعِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ مَا تَعَجَّلَهُ لِلْفَقِيرِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا أَوْ مَعْدُومًا، فَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا قال الشافعي: يعود بمثله، فأطلق هذا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَحِقَّ الرُّجُوعَ فِي حَقِّ أَهْلِ السُّهْمَانِ، فَيَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِمِثْلِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ لِأَنَّ الرُّجُوعَ مُسْتَحَقٌّ بِمَا يَنْصَرِفُ فِي الزكاة والزكاة لا تنصرف فيها إلا غير الْحَيَوَانِ دُونَ قِيمَتِهِ، فَلَمْ يَجُزِ الرُّجُوعُ إِلَّا بِالْحَيَوَانِ دُونَ قِيمَتِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَحِقَّ الرُّجُوعَ فِي حَقِّ رَبِّ الْمَالِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَعُودُ بِمِثْلِهِ حَيَوَانًا، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ الرِّفْقُ وَالْمُوَاسَاةُ، فَجَرَى مَجْرَى فَرْضِ الْحَيَوَانِ الَّذِي يُرْجَعُ فِيهِ بِالْمِثْلِ لَا بِالْقِيمَةِ.
وَالْوَجْهُ الثاني: وهو أقيس يَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ، وَحَمَلُوا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ يعود بمثله على ماله مِثْلٌ، فَإِذَا وَجَبَتِ الْقِيمَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَفِي اعْتِبَارِ زَمَانِ الْقِيمَةِ وَجْهَانِ:

(3/168)


أَصَحُّهُمَا: وَقْتُ الدَّفْعِ وَالتَّعْجِيلُ لِأَنَّهُ بِالدَّفْعِ مَلَكَ.
وَالثَّانِي: وَقْتُ التَّلَفِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا بعد الدفع لرجع بِهِ، فَإِذَا كَانَ تَالِفًا رَجَعَ بِقِيمَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مَا تَعَجَّلَهُ الْفَقِيرُ مَوْجُودًا بَعْدَ مَوْتِهِ، لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ زَائِدًا، أَوْ نَاقِصًا، أَوْ بِحَالِهِ لَمْ يَزِدْ وَلَمْ يَنْقُصْ، فَإِنْ كَانَ بِحَالِهِ اسْتُرْجِعَ مِنْهُ، فَإِنْ رَأَى الْوَالِي أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى وَارِثِهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ جَازَ وَإِنْ كَانَ زَائِدًا فَالزِّيَادَةُ ضَرْبَانِ: مُتَمَيِّزَةٌ، وَغَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ كَالسِّمَنِ وَالْكِبَرِ، فإنه يرجع به وزيادته؛ لأن الزيادة تميزت بمنع الْعَيْنَ، وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مُتَمَيِّزَةٌ كَاللَّبَنِ وَالنِّتَاجِ، رَجَعَ بِهِ دُونَ زِيَادَتِهِ، وَتَكُونُ الزِّيَادَةُ لِوَارِثِهِ، لِأَنَّ الْفَقِيرَ قَدْ مَلَكَ الْعَيْنَ بِالدَّفْعِ، فَكَانَتِ الزِّيَادَةُ حَادِثَةً عَنْ مِلْكِهِ، فَكَانَ أَمْلَكَ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ، كَالْمَبِيعِ إِذَا رُدَّ بِعَيْبٍ، وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا، فَالنُّقْصَانُ ضَرْبَانِ: مُتَمَيِّزٌ، وَغَيْرُ مُتَمَيِّزٍ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ كَالْمَرَضِ وَالْهُزَالِ، رَجَعَ بِهِ نَاقِصًا، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ أَرْشَ نُقْصَانِهِ، لِأَنَّهُ تَطَوَّعَ بِتَعْجِيلِهِ، فَإِنْ رَأَى الْوَالِي أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى وَارِثِهِ لَمْ يَجُزْ لِنَقْصِهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ النَّقْصِ عَلَى وَصْفِ مَالِ الدَّافِعِ، وَإِنْ كَانَ النَّقْصُ مُتَمَيِّزًا كَبَعِيرَيْنِ تَلِفَ أَحَدُهُمَا وَبَقِيَ الْآخَرُ، رَجَعَ بِالْبَاقِي وَبِمِثْلِ التَّالِفِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَبِقِيمَتِهِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي، وَفِي اعتبار قيمة زمانه وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَيْسَرَا قَبْلَ الْحَوْلِ فَإِنْ كَانَ يُسْرُهُمَا مما دفع إليهما فإنما بُورِكَ لَهُمَا فِي حَقِّهِمَا فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُمَا وإن كان يسرهما من غير ما أُخِذَ مِنْهُمَا مَا دُفِعَ إِلَيْهِمَا لِأَنَّ الْحَوْلَ لَمْ يَأْتِ إِلَّا وَهُمَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الصَّدَقَةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا، وَهُوَ أَنْ يَتَعَجَّلَ الْوَالِي الصَّدَقَةَ لَأَهْلِ السُّهْمَانِ، وَيَدْفَعَهَا إِلَى فَقِيرٍ أَوْ فَقِيرَيْنِ، فيستغني من تعجيلها، فَلَا يَخْلُو حَالُ اسْتِغْنَائِهِ وَيَسَارِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْحَوْلِ، أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْحَوْلِ فَلَا يَسْتَرْجِعُ مِنْهُ مَا تَعَجَّلَهُ، سَوَاءٌ كَانَ يَسَارُهُ مِمَّا تَعَجَّلَهُ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ وَقْتَ الْوُجُوبِ، وَإِنْ كَانَ يَسَارُهُ قَبْلَ الْحَوْلِ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَعَجَّلَهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ يَسَارُهُ مِمَّا تَعَجَّلَهُ لَمْ يَسْتَرْجِعْ مِنْهُ لِأَمْرَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَ الْحَوْلِ فَقِيرًا، جَازَ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ مَا يَسْتَغْنِي بِهِ، فَإِذَا كَانَ غَنِيًّا بِهِ فَلَا مَعْنَى لِاسْتِرْجَاعِهِ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ إِذَا اسْتَرْجَعَ مِنْهُ صَارَ فَقِيرًا يَسْتَحِقُّ أَخْذَ الزَّكَاةِ، فَلَا مَعْنَى لِأَخْذِهَا مِنْهُ وَرَدِّهَا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ يَسَارُهُ مِنْ غَيْرِ مَا تَعَجَّلَهُ وَجَبَ اسْتِرْجَاعُ مَا أَخَذَهُ، بِخِلَافِ قَوْلِ أبي

(3/169)


حنيفة؛ لِأَنَّهُ تَعَجَّلَ الزَّكَاةَ لِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِهَا، وَيَسَارُهُ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لَهَا، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ يَسَارُهُ مِمَّا تَعَجَّلَهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، الْمَعْنَيَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَاهُمَا قَبْلُ، فلو تعجلها وهو فقير فاستغنى عن غَيْرِهَا قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ افْتَقَرَ عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ فَفِي اسْتِرْجَاعِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا تُسْتَرْجَعُ لِأَنَّهُ فَقِيرٌ حَالَ الدَّفْعِ وَحَالَ الْوُجُوبِ.
وَالثَّانِي: تُسْتَرْجَعُ لِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ بِاسْتِغْنَائِهِ فَلَمْ يَجُزْ إِقْرَارُهَا فِي يَدِهِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَلَكِنْ لَوْ تَعَجَّلَهَا وَهُوَ غَنِيٌّ وَشَرَطَ أَنَّهُ إِنِ افْتَقَرَ عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ فَهِيَ لَهُ، فَحَالَ الْحَوْلُ وَهُوَ فَقِيرٌ لَمْ يَجُزْ وَوَجَبَ اسْتِرْجَاعُهَا مِنْهُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ الارتفاق بأخذها، والغني لا ترتفق بِهَا فَلَمْ تَقَعِ الزَّكَاةُ مَوْقِعَهَا، فَإِنْ قِيلَ: لَوْ أَوْصَى لِوَارِثٍ فَلَمْ يَمُتِ الْمُوصِي حَتَّى صَارَ الْمُوصَى لَهُ غَيْرَ وَارِثٍ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ، اعتباراً بحال الوجوب، فهلا قلتم لمن عَجَّلَ زَكَاتَهُ لِغَنِيٍّ ثُمَّ افْتَقَرَ عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ بِجَوَازِ التَّعْجِيلِ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْوُجُوبِ، قِيلَ هُمَا فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تُمَلَّكُ بِالْمَوْتِ، فَاعْتُبِرَ حَالُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَالتَّعْجِيلُ يُمَلَّكُ بِالدَّفْعِ، وَإِنَّمَا يَسْتَقِرُّ الْمِلْكُ بِالْحَوْلِ، فَاعْتُبِرَ حَالُهُ وقت الدفع والله أعلم.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو عجل رب المال زكاة مائتي درهم قبل الحول وهلك ماله قبل الحول فوجد عَيْنَ مَالِهِ عِنْدَ الْمُعْطِي لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ لِأَنَّهُ أَعْطَى مِنْ مَالِهِ مُتَطَوِّعًا لِغَيْرِ ثوابٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ وَجُمْلَةُ مَا يَتَعَجَّلُهُ الْفُقَرَاءُ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَعَجَّلَهُ الْوَالِي لَهُمْ، فَقَوْلُهُ فِي التَّعْجِيلِ مَقْبُولٌ عَلَيْهِمْ سَوَاءٌ شَرَطَ التَّعْجِيلَ أَمْ لَا، لِأَنَّ الْوَالِي أَمِينٌ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا عَلَيْهِمْ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَوَلَّى رَبُّ الْمَالِ تَعْجِيلَهُ إِلَيْهِمْ، فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ تَعْجِيلٌ، فَيَقُولُ هَذَا تَعْجِيلُ زَكَاتِي، فَمَتَى تَلِفَ مَالُهُ قَبْلَ الْحَوْلِ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِمْ بِمَا عَجَّلَهُ، سَوَاءٌ شَرَطَ عَلَيْهِمُ الرُّجُوعَ بِهِ عِنْدَ تَلَفِ مَالِهِ أَمْ لَا لِأَنَّ حُكْمَ التَّعْجِيلِ وَمُوجِبُهُ الرُّجُوعُ بِهِ عِنْدَ تَلَفِ مَالِهِ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى اشْتِرَاطِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ تَعْجِيلٌ، فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ إِذَا تَلِفَ مَالُهُ، إِلَّا أَنْ يصدقه الفقير المدفوع إليه وأن ذَلِكَ تَعْجِيلٌ، فَيَسْتَحِقَّ الرُّجُوعَ، وَلَا يَكُونُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ مَقْبُولًا عَلَيْهِ، لِأَنَّ ظَاهِرَ عَطِيَّتِهِ التَّمْلِيكُ، لِأَنَّهُ إِنْ قَالَ: هَذِهِ زَكَاتِي فَظَاهِرُ الزَّكَاةِ مَا وَجَبَتْ، وَإِنْ قَالَ صَدَقَةُ تَطَوُّعٍ فبالدفع قد ملكت، فإن أطلق فوجه إِطْلَاقُهُ إِلَى أَحَدِ هَذَيْنِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ

(3/170)


الْقَوْلَ قَوْلُ الْفَقِيرِ إِنْ كَانَ حَيًّا أَوْ قَوْلُ وَارِثِهِ إِنْ كَانَ مَيِّتًا، فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ بِمُجَرَّدِهِ، أَوْ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ تَعَالَى؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ ظَاهِرَ الدَّفْعِ لَا يُوجِبُ الرُّجُوعَ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ تَكْذِيبٌ لِلدَّعْوَى، فَلَمْ تَجِبْ فِيهَا يَمِينٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ أَبُو يَحْيَى الْبَلْخِيُّ إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى مُحْتَمَلَةٌ وَمَا فِي يَدِهِ مُدَّعًى، فَافْتَقَرَ إِلَى دَفْعِ الدَّعْوَى بِيَمِينٍ، فَعَلَى هَذَا يَحْلِفُ هُوَ أَوْ وَارِثُهُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، لَا عَلَى الْبَتِّ؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ إِذَا لَمْ يَشْتَرَطِ التَّعْجِيلَ، إِمَّا مَعَ يَمِينِهِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، أَوْ بِلَا يَمِينٍ في الْوَجْهِ الثَّانِي، فَاخْتَلَفَا فِي الشَّرْطِ، فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ شَرَطْتُ التَّعْجِيلَ فَلِيَ الرُّجُوعُ، وَقَالَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ لَمْ تَشْتَرِطِ التَّعْجِيلَ فَلَا رُجُوعَ لَكَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ مَعَ يَمِينِهِ وَلَهُ الرُّجُوعُ، لِأَنَّهُ عَلَى أَصْلِ مِلْكِهِ مَا لَمْ يُقِرَّ بِمَا يُزِيلُهُ عَنْهُ، والمدفوع إليه منفرد بالملك مدعي لِمَا يُزِيلُهُ عَنْهُ فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى الْبَتِّ، وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ قَدْ ملك بالأخذ، وادعى عليه الاستحقاق، فكان ذلك على أصل تملكه مَا لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ بِخِلَافِهِ.

فَصْلٌ
: إِذَا كَانَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَعَجَّلَ زَكَاتَهَا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ أَتْلَفَ قَبْلَ الْحَوْلِ دِرْهَمًا، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَالَهُ نَقَصَ عَنِ النِّصَابِ عِنْدَ الْحَوْلِ، ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ لَمْ يَشْتَرَطِ التَّعْجِيلَ فَلَا رُجُوعَ لَهُ، وَإِنْ شَرَطَ التَّعْجِيلَ فَهَلْ يَرْجِعُ بِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ لِنُقْصَانِ مَالِهِ عَنِ النِّصَابِ.
وَالثَّانِي: لَا يَرْجِعُ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي إِتْلَافِ دِرْهَمٍ لاسترجاع خمسة والله أعلم بالصواب.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو مات المعطي قبل الحول وفي يدي رَبِّ الْمَالِ مِائَتَا دِرْهَمٍ إِلَّا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ فلا زكاة عليه وما أعطى كما تَصَدَّقَ بِهِ أَوْ أَنْفَقَهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
إِذَا كَانَ مع رجل نصاب فعجل زَكَاتَهُ قَبْلَ الْحَوْلِ وَدَفَعَهَا إِلَى فَقِيرٍ فَمَاتَ الْفَقِيرُ قَبْلَ الْحَوْلِ، وَمَعَ رَبِّ الْمَالِ أَقَلُّ مِنْ نِصَابٍ فَلَا يَخْلُو حَالُ رَبِّ الْمَالِ فِيمَا عَجَّلَهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا

(3/171)


أَنْ يَشْتَرِطَ التَّعْجِيلَ، أَوْ لَا يَشْتَرِطَ فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطِ التَّعْجِيلَ فَلَا رُجُوعَ لَهُ وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْبَاقِيَ مَعَهُ دُونَ النِّصَابِ، وَيَكُونُ مَا عَجَّلَهُ كَالَّذِي وَهَبَهُ أَوْ أَنْفَقَهُ، فإن شَرَطَ التَّعْجِيلَ رَجَعَ بِمَا عَجَّلَهُ فِي تَرِكَةِ الْفَقِيرِ، وَصَارَ مَالُهُ مَعَ مَا اسْتَرْجَعَهُ نِصَابًا كَامِلًا، فَإِنْ كَانَ مَا اسْتَرْجَعَهُ دَرَاهِمَ عَنْ دَرَاهِمَ، أَوْ دَنَانِيرَ عَنْ دَنَانِيرَ، فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ، سَوَاءٌ اسْتَرْجَعَ عَيْنَ مَالِهِ أَوْ مِثْلَهُ، لِأَنَّ التَّعْجِيلَ لَمَّا لَمْ يَجُزْ صَارَ قَرْضًا فِي ذِمَّةِ الْفَقِيرِ، وَالْقَرْضُ دَيْنٌ يَجِبُ ضَمُّهُ إِلَى الْمَالِ النَّاضِّ، وَيُزَكَّيَانِ، وَإِنْ كَانَ مَا اسْتَرْجَعَهُ مَاشِيَةً عَنْ مَاشِيَةٍ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يسترجع الذي عجله نفسه.
وَالثَّانِي: أَنْ يَسْتَرْجِعَ مِثْلَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُوجَبُ فِيهِ الرُّجُوعُ بِمِثْلِ الْحَيَوَانِ الْمُعَجَّلِ، فَإِنِ اسْتَرْجَعَ مِثْلَهُ وَلَمْ يَسْتَرْجِعْهُ بِعَيْنِهِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى، وَيَسْتَأْنِفُ الْحَوْلَ فِيمَا يَأْتِي بعد استرجاع ما عجل، لا الْبَدَلَ الْمَأْخُوذَ عَنِ التَّعْجِيلِ، كَالْبَدَلِ الْمَأْخُوذِ عَنِ الْبَيْعِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً فَبَاعَ مِنْهَا شَاةً بِشَاةٍ اسْتَأْنَفَ الحول، فكذلك فيما عجل، فإن اسْتَرْجَعَ مَا عَجَّلَهُ بِعَيْنِهِ فَفِي إِيجَابِ زَكَاتِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ ما عجله مضموم إلى ما بعده، وحكم الحول جاز عَلَيْهِمَا، أَلَا تَرَاهُ لَوْ عَجَّلَ شَاةً مِنْ أربعين فحال الْحَوْلُ عَلَى تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ، وَالشَّاةِ الْمُعَجَّلَةِ لَزِمَتْهُ الزَّكَاةُ، وَكَانَتِ الشَّاةُ الْمُعَجَّلَةُ مَضْمُومَةً إِلَى الْمَالِ الْبَاقِي، كَذَلِكَ إِذَا وَجَبَ اسْتِرْجَاعُ الشَّاةِ الْمُعَجَّلَةِ ضُمَّتْ إِلَى الْمَالِ الْبَاقِي.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، وَيَسْتَأْنِفُ الْحَوْلَ حِينَ تَمَّ النِّصَابُ بِمَا اسْتَرْجَعَهُ، لِأَنَّ مَا عَجَّلَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ زَكَاةً لَا تُرْتَجَعُ أَوْ قَرْضًا يُرْتَجَعُ، فَلَمَّا بَطَلَ كَوْنُهُ زَكَاةً ثَبَتَ كَوْنُهُ قَرْضًا، وَمَنْ أَقْرَضَ حَيَوَانًا لَمْ تَلْزَمْهُ زَكَاتُهُ، ولو أقرض دراهم أو دنانير لزمه زَكَاتُهَا، فَلِذَلِكَ قُلْنَا إِنَّهُ لَوْ كَانَ مَا ارْتَجَعَهُ دَرَاهِمَ عَنْ دَرَاهِمَ ضُمَّ وَزُكِّيَ، وَلَوْ كَانَ حَيَوَانًا عَنْ حَيَوَانٍ لَمْ يُضَمَّ وَلَمْ يزك.
والفرق بينهما: أن زكاة المواشي لَا تَجِبُ إِلَّا بِالسَّوْمِ، وَالسَّوْمُ لَا يَتَوَجَّهُ إلا بما فِي الذِّمَّةِ، وَلَيْسَ السَّوْمُ مُعْتَبَرًا فِي الدَّرَاهِمِ، فَصَحَّ إِيجَابُ زَكَاةِ مَا كَانَ مِنْهَا فِي الذِّمَّةِ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِي مَوْتِ آخِذِ التَّعْجِيلِ قبل الحول وَهُوَ الْفَقِيرُ.

فَصْلٌ
فَأَمَّا إِذَا مَاتَ دَافِعُ التعجيل قبل الحول وَهُوَ رَبُّ الْمَالِ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ هَلْ يَبْنِي وَرَثَتُهُ عَلَى حَوْلِهِ أَمْ يَسْتَأْنِفُونَ الْحَوْلَ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ يَبْنُونَ عَلَى حَوْلِهِ، لِأَنَّ كل من ملك مالاً بالإرث فإنه بملكه بِحُقُوقِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ وَلَهُ شِقْصٌ قَدِ اسْتَحَقَّ بِهِ الشُّفْعَةَ فَإِنَّ وَرَثَتَهُ يَمْلِكُونَ الشِّقْصَ مَعَ حَقِّهِ مِنَ الشُّفْعَةِ، وَلَوْ مَاتَ وَلَهُ دَيْنٌ بِرَهْنٍ انْتَقَلَ الدَّيْنُ إِلَى مِلْكِ وَرَثَتِهِ مَعَ

(3/172)


حَقِّهِ مِنَ الرَّهْنِ، فَكَذَلِكَ الْحَوْلُ مِنْ حُقُوقِ مِلْكِهِ، فَإِذَا انْتَقَلَ الْمِلْكُ إِلَى وَرَثَتِهِ وَجَبَ أَنْ يَنْتَقِلَ بِحَقِّهِ وَهُوَ الْحَوْلُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهُمْ يستأنفون الحول ولا يبنون، لأن الحول ثبت مع بقاء المالك، ويرتفع بانتقال الْمِلْكِ، وَلَا يَبْنِي مَنِ اسْتَفَادَ مِلْكًا عَلَى حول من كان مالكاً، كمن اتهب مَالًا أَوِ ابْتَاعَهُ، فَمَنْ قَالَ بِهَذَا أَجَابَ عَنِ احْتِجَاجِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنْ قَالَ حُقُوقُ الْمِلْكِ ضَرْبَانِ: حَقٌّ لِلْمَالِكِ كَالشُّفْعَةِ وَالرَّهْنِ، وَحَقٌّ على الملك كالحول، فما كان حقاً للمالك انتقل للوارث مَعَ حَقِّهِ، وَمَا كَانَ حَقًّا عَلَى الْمِلْكِ انْتَقَلَ الْمِلْكُ إِلَى الْوَارِثِ دُونَ حَقِّهِ.
يُوَضِّحُ ذلك أن من مات من عَبْدٍ جُنِيَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَخْذِ أَرْشِهِ انْتَقَلَ الْعَبْدُ إِلَى مِلْكِ الْوَارِثِ مَعَ اسْتِحْقَاقِ أَرْشِهِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ هُوَ لَهُ، وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ بِصِفَةٍ فَقَالَ: إِنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ وُجُودِ الصِّفَةِ فَانْتَقَلَ الْعَبْدُ إِلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ ثُمَّ وُجِدَتِ الصِّفَةُ لَمْ يُعْتَقْ، لِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِ، كَذَلِكَ الْحَوْلُ هُوَ حق على المالك فَلَمْ يَنْتَقِلْ إِلَى الْوَرَثَةِ بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ فَلِلْوَرَثَةِ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْتَسِمُوا الْمَالَ قَبْلَ حَوْلِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ شَائِعًا بَيْنَهُمْ إِلَى انْقِضَاءِ حَوْلِهِ، فَإِنِ اقْتَسَمُوهُ قَبْلَ الْحَوْلِ نَظَرْتَ فَإِنْ كَانَتْ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِيمَا عَجَّلَهُ الْمَيِّتُ، فَإِنْ شَرَطَ فِيهِ التَّعْجِيلَ كَانَ لَهُمُ اسْتِرْجَاعُهُ وَالِاقْتِسَامُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ التَّعْجِيلَ لَمْ يَكُنْ لَهُمُ اسْتِرْجَاعُهُ، وَإِنْ كَانَتْ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا فَأَكْثَرَ لَزِمَتْهُمُ الزَّكَاةُ، فَإِنْ قيل إنهم يَبْنُونَ عَلَى حَوْلِ مَيِّتِهِمْ، كَانَ مَا عَجَّلَهُ الْمَيِّتُ مُجْزِئًا عَنْ زَكَاتِهِمْ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُمْ يستأنفون الحول فهل يجزيهم تَعْجِيلُ مَيِّتِهِمْ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي " الْأُمِّ " أَنَّ ذَلِكَ يجزئهم، لِأَنَّهُمْ لَمَّا قَامُوا مَقَامَهُ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ واقتضاءه قَامُوا مَقَامَهُ فِي تَعْجِيلِ زَكَاتِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أِنَّهُ لا يجزئهم، لِأَنَّهُمْ لَمَّا اسْتَأْنَفُوا الْحَوْلَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يُجْزِهِمْ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّعْجِيلِ قَبْلَ الْمَوْتِ، لأنه يصير تعجيلاً قبل وجوب النِّصَابِ وَالْحَوْلِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الْمَيِّتُ قَدْ شَرَطَ التَّعْجِيلَ كَانَ لَهُمُ اسْتِرْجَاعُهُ وَالِاقْتِسَامُ به، وإن لم يشترط التَّعْجِيلَ لَمْ يَكُنْ لَهُمُ اسْتِرْجَاعُهُ، هَذَا إِذَا اقْتَسَمَ الْوَرَثَةُ الْمَالَ قَبْلَ الْحَوْلِ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَقْتَسِمُوهُ حَتَّى حَالَ حَوْلُهُ فَإِنْ كَانَ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا فَعَلَيْهِمُ الزَّكَاةُ، وَيَكُونُ الْإِجْزَاءُ فِيمَا عَجَّلَهُ الْمَيِّتُ عَلَى مَا مَضَى، إِنْ قِيلَ إِنَّهُمْ يَبْنُونَ أَجْزَأَهُمْ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُمْ يَسْتَأْنِفُونَ فَعَلَى وَجْهَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ، وإنما المال

(3/173)


الْمُشَاعُ بَيْنَهُمْ نِصَابٌ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَالِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَاشِيَةً أَوْ غَيْرَهَا، فَإِنْ كَانَتْ مَاشِيَةً وَجَبَتْ عَلَيْهِمُ الزَّكَاةُ، لِأَنَّهُمْ خُلَطَاءُ فِي نِصَابٍ فَيَكُونَ الْإِجْزَاءُ فِيمَا عَجَّلَهُ الْمَيِّتُ عَلَى مَا مَضَى إِنْ بَنَوْا أَجْزَأَهُمْ، وَإِنِ اسْتَأْنَفُوا فَعَلَى وَجْهَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ غَيْرَ مَاشِيَةٍ فَهَلْ عَلَيْهِمُ الزَّكَاةُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي الْخُلْطَةِ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ الْخُلْطَةَ لَا تَصِحُّ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي لَا زَكَاةَ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ شَرَطَ التَّعْجِيلَ اسْتَرْجَعُوهُ، وَإِنْ لَمْ يشترط التعجيل لَمْ يَسْتَرْجِعُوهُ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ الْخُلْطَةَ تَصِحُّ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي عَلَيْهِمُ الزَّكَاةُ، وَيَكُونُ الْإِجْزَاءُ فِي التَّعْجِيلِ عَلَى مَا مَضَى إن قيل إنهم يبنون أجزأهم، فإن قيل إنهم يستأنفون فعلى وجهين.
أحدهما: يجزئهم.
والثاني: لا يجزئهم فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ شَرَطَ التَّعْجِيلَ فَلَهُمُ اسْتِرْجَاعُهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطِ التَّعْجِيلَ فَلَيْسَ لَهُمُ اسْتِرْجَاعُهُ. والله أعلم.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو كان رجلٌ لَهُ مالٌ لَا تَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ فأخرج خمسة دراهم فقال إِنْ أَفَدْتُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَهَذِهِ زَكَاتُهَا لَمْ يجز عنه لِأَنَّهُ دَفَعَهَا بِلَا سَبَبِ مالٍ تَجِبُ فِي مثله الزكاة فيكون قد عجل شيئاً ليس عليه إن حال عليه فيه حول ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
إِذَا مَلَكَ أَقَلَّ من نصاب فعجل زكاة نصاب، كأن مَلَكَ أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ عَجَّلَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ زَكَاةَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، أَوْ مَلَكَ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ مِنَ الْغَنَمِ فَأَخْرَجَ شَاةً زَكَاةَ أَرْبَعِينَ مِنَ الْغَنَمِ، ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَ التَّعْجِيلِ تَمَامَ النِّصَابِ لَمْ يُجْزِهِ التَّعْجِيلُ عَنْ زَكَاتِهِ، لِأَنَّ تَعْجِيلَ الزَّكَاةِ يُجْزِئُ إِذَا كَانَ أَحَدُ سَبَبَيْ وُجُوبِهَا مَوْجُودًا وَهُوَ النِّصَابُ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ لَمْ يُجْزِهِ، كَمَا لَوْ أَخْرَجَ كَفَّارَةَ يَمِينِهِ قَبْلَ حِنْثِهِ وَيَمِينِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا صار أصلاً مقرراً تَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ جَمِيعُ فُرُوعِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ إِذَا اشْتَرَى سِلْعَةً بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَعَجَّلَ زَكَاةَ أَلْفٍ عَنْهَا وَعَنْ رِبْحِهَا فَبَاعَهَا عِنْدَ الْحَوْلِ بِأَلْفٍ أَجْزَأَهُ مَا عَجَّلَهُ عَنِ الْأَلْفِ، لِأَنَّ أَحَدَ السَّبَبَيْنِ وَهُوَ النِّصَابُ مَوْجُودٌ، وَالرِّبْحُ الزَّائِدُ تَبَعٌ لِلنِّصَابِ فِي حَوْلِهِ فَجَازَ مَا عَجَّلَهُ عَنِ النِّصَابِ وَعَنْ رِبْحِهِ، فَلَوْ كَانَ قَدْ بَاعَ السِّلْعَةَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ بِأَلْفٍ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ يَسْتَأْنِفُ بِالرِّبْحِ الْحَوْلَ لَمْ يُجْزِهِ التَّعْجِيلُ عَنِ الرِّبْحِ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ تَبَعًا وَإِنْ قال يبني على حول المائتين أجزأه التعجيل الأول عَنِ الرِّبْحِ لِأَنَّهُ يَكُونُ تَبَعًا فَلَوْ مَلَكَ أَلْفًا فَعَجَّلَ زَكَاتَهَا ثُمَّ تَلِفَتْ فَمَلَكَ بَعْدَهَا أَلْفًا لَمْ يُجْزِهِ التَّعْجِيلُ الْأَوَّلُ عَنِ الْأَلْفِ الثاني،

(3/174)


لأنه تعجيل قبل الملك، ولو كَانَ مَعَهُ أَلْفٌ ثُمَّ مَلَكَ أَلْفًا، وَعَجَّلَ زَكَاةَ أَلْفٍ، ثُمَّ تَلِفَ أَحَدُ الْأَلْفَيْنِ أَجْزَأَهُ مَا عَجَّلَهُ عَنِ الْأَلِفِ الْبَاقِيَةِ، لِوُجُودِهَا قَبْلَ التعجيل.

فَصْلٌ
: وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْأَصْلِ، رَجُلٌ مَعَهُ مِائَتَا شَاةٍ، فَعَجَّلَ أَرْبَعَ شِيَاهٍ عَنْ أَرْبَعِمِائَةٍ شاتين منهما عن هاتين المائتين وشاتين عَنْ نِتَاجِهَا، إِنْ بَلَغَ مِائَتَيْنِ، فَحَالَ الْحَوْلُ وَقَدْ نَتَجَتْ مِائَتَيْنِ، تَمَامَ أَرْبَعِمِائَةٍ، فَقَدْ أَجْزَأَتْهُ الشاتان عن المائتين المأخوذة، وهل يجزيه الشَّاتَانِ الْأُخْرَيَانِ عَنِ الْمِائَتَيْنِ النِّتَاجِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُهُ لِأَنَّ السِّخَالَ إِذَا نُتِجَتْ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ كَانَتْ كَالْمَوْجُودَةِ فِي ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْأَرْبَعَمِائَةٍ لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ الْحَوْلِ أَجْزَأَهُ تَعْجِيلُ أَرْبَعِ شِيَاهٍ، فَكَذَلِكَ إِذَا نُتِجَتْ في أثناء الحول.
والوجه الثاني: لا يجزئه، لِأَنَّ التَّعْجِيلَ عَنْهَا سَابِقٌ لِوُجُودِهَا، كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ دُونَ الْأَرْبَعِينَ فَعَجَّلَ شَاةً مِنْهَا ثُمَّ تَمَّتْ أَرْبَعِينَ بِنِتَاجِهَا لَمْ يُجْزِهِ كَذَلِكَ هذا لا يجزئه، لِأَنَّ التَّعْجِيلَ عَنْهَا سَابِقٌ لِوُجُودِهَا كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ دُونَ الْأَرْبَعِينَ فَعَجَّلَ شَاةً مِنْهَا ثم تمت أربعين بنتاجها لم يجزه هكذا فَإِنْ قِيلَ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ النِّتَاجِ وَالرِّبْحِ، حَيْثُ جَوَّزْتُمْ تَعْجِيلَ الرِّبْحِ قَبْلَ وُجُودِهِ، وَمَنَعْتُمْ من تعجيل النتاج قبل وجودها، وَكِلَاهُمَا تَبَعٌ لِأَصْلِهُ فِي حَوْلِهِ؟
قِيلَ: هُمَا مستويان فِي الْحَوْلِ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي التَّعْجِيلِ.
وَوَجْهُ افْتِرَاقِهِمَا فِيهِ أَنَّ النِّصَابَ فِي مَالِ التِّجَارَةِ يُعْتَبَرُ عِنْدَ الْحَوْلِ لَا فِيمَا قَبْلُ، أَلَا تَرَى لَوْ نَقَصَتْ قِيمَةُ السِّلْعَةِ عَنِ النِّصَابِ قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ تَمَّتْ نِصَابًا عِنْدَ الْحَوْلِ لَمْ يَكُنِ النَّقْصُ الْمُتَقَدِّمُ مَانِعًا مِنْ إِيجَابِ الزَّكَاةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَاشِيَةُ، لِأَنَّ النِّصَابَ فِيهَا مُعْتَبَرٌ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، أَلَا تَرَى لَوْ نَقَصَتْ عَنِ النِّصَابِ قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ تَمَّتْ نِصَابًا عِنْدَ الْحَوْلِ لَمْ يَكُنِ النَّقْصُ الْمُتَقَدِّمُ مَانِعًا مِنْ إِيجَابِ الزَّكَاةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَاشِيَةُ لِأَنَّ النصاب فيها معين فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، أَلَا تَرَى لَوْ نَقَصَتْ عَنِ النِّصَابِ قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ تَمَّتْ نِصَابًا عِنْدَ الْحَوْلِ كَانَ النَّقْصُ الْمُتَقَدِّمُ مَانِعًا مِنْ إِيجَابِ الزَّكَاةِ، فَلِذَلِكَ مَا افْتَرَقَا فِي التَّعْجِيلِ، فَلَوْ كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً فَعَجَّلَ زَكَاتَهَا شَاةً، ثُمَّ نَتَجَتْ أَرْبَعِينَ، ثُمَّ مَاتَتِ الْأُمَّهَاتُ وبقي النتاج، فإن قيل فيما قِيلَ بِجَوَازِ التَّعْجِيلِ عَنِ الْأَصْلِ وَالنِّتَاجِ، كَانَتِ الشاة التي عجلها عن الأمهات مجزئة عن النتاج، فإن قِيلَ بِإِبْطَالِ التَّعْجِيلِ فِيمَا تَقَدَّمَ لَمْ تَكُنِ الشَّاةُ الَّتِي عَجَّلَهَا عَنِ الْأُمَّهَاتِ مُجْزِيَةً عَنِ النِّتَاجِ، وَلَزِمَهُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهَا، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً فَنَتَجَتْ أَرْبَعِينَ سَخْلًا فَعَجَّلَ مِنْهَا شَاةً ثُمَّ مَاتَتِ الْأُمَّهَاتُ وَبَقِيَتِ السِّخَالُ أَجْزَأَتْهُ الشَّاةُ الْمُعَجَّلَةُ عَنِ السِّخَالِ الْبَاقِيَةِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا؛ لِوُجُودِهَا قَبْلَ التَّعْجِيلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(3/175)


مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا عجل شاتين من مِائَتَيْ شَاةٍ فَحَالَ الْحَوْلُ وَقَدْ زَادَتْ شَاةً ٍ أخذ منها شاةً ثالثةً فيجزي عنه ما أعطى منه ولا يَسْقُطُ تَقْدِيمُهُ الشَّاتَيْنِ الْحَقَّ عَلَيْهِ فِي الشَّاةِ الثَّالِثَةِ لِأَنَّ الْحَقَّ إِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْحَوْلِ كَمَا لَوْ أَخَذَ مِنْهَا شَاتَيْنِ فَحَالَ الْحَوْلُ وَلَيْسَ فِيهَا إِلَّا شَاةٌ رَدَّ عَلَيْهِ شَاةً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
إِذَا عَجَّلَ بزكاة مَالِهِ قَبْلَ الْحَوْلِ فَقَدْ مَلَكَهَا الْمَسَاكِينُ بِالْأَخْذِ وَيَسْتَقِرُّ مِلْكُهُمْ عَلَيْهَا بِالْوُجُوبِ، لَكِنَّهَا فِي حُكْمِ مِلْكِهِ قَبْلَ الْحَوْلِ حَتَّى يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ، فَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ ضَمَّ مَا عَجَّلَ إِلَى مَا بِيَدِهِ وَزَكَّاهُمَا مَعًا، فَلَوْ كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً عَجَّلَ مِنْهَا شَاةً ثُمَّ حَالَ الحول عليه تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ وَالشَّاةِ الْمُعَجَّلَةِ لَزِمَتْهُ الزَّكَاةُ وَلَوْ كان معه مائتا شاة فعجل زكاتها شاتي ظَنًّا مِنْهُ بِأَنَّهُمَا قَدْرُ زَكَاتِهِ فَلَمْ يَحُلِ الْحَوْلُ حَتَّى نُتِجَتْ شَاةً وَصَارَتْ مَعَ التَّعْجِيلِ مِائَتَيْ شَاةٍ وَشَاةً كَانَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ شَاةٍ ثَانِيَةٍ اعْتِبَارًا بِقَدْرِ مَالِهِ عِنْدَ الْحَوْلِ وَلَوْ كَانَ مَعَهُ مِائَتَا شَاةٍ وَشَاةٌ فَعَجَّلَ زَكَاتَهَا ثَلَاثَ شِيَاهٍ فَلَمْ يَحُلِ الْحَوْلُ حَتَّى تَلِفَ مِنْ غَنَمِهِ شَاةٌ وَبَقِيَ مَعَهُ مَعَ مَا عَجَّلَهُ مِائَتَا شَاةٍ، كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرْجِعَ مِنَ التَّعْجِيلِ شَاةً، اعْتِبَارًا بِقَدْرِ مَالِهِ عِنْدَ الْحَوْلِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: مَا عَجَّلَهُ كَالتَّالِفِ لَا يَجِبُ ضَمُّهُ إِلَى مَا فِي يَدِهِ وَلَا يَجُوزُ إِذَا كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً أَنْ يُعَجِّلَ مِنْهَا شَاةً، لِأَنَّ الْبَاقِيَ يَقِلُّ عَنِ النِّصَابِ، فَإِنْ عَجَّلَ مِنْهَا شَاةً كَانَتْ كالتالفة ولا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيمَا بَقِيَ لِنَقْصِهِ عَنِ النِّصَابِ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ شَاةً، جَازَ أَنْ يُعَجِّلَ مِنْهَا شَاةً، لِأَنَّ الْبَاقِيَ نِصَابٌ، وَكَذَا نَقُولُ فِي نُصُبِ الزَّكَوَاتِ كُلِّهَا، احْتِجَاجًا بِأَنَّ التَّعْجِيلَ خَارِجٌ عَنْ مِلْكِهِ دَاخِلٌ فِي مِلْكِ آخِذِهِ، لِجَوَازِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ وَانْتِفَاعِهِ بِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْزَمَهُ زَكَاةُ مَالٍ هُوَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، وَلَا أَنْ يُضَمَّ إِلَى جُمْلَةِ مَالِهِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: أَنَّ الْعَبَّاسَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فِي تَعْجِيلِ صَدَقَتِهِ فَرَخَّصَ لَهُ وَلَمْ يَسْأَلْهُ هَلِ الْبَاقِي بَعْدَ التَّعْجِيلِ نِصَابٌ، أَوْ دُونَ النِّصَابِ فَدَلَّ عَلَى تَسَاوِي الْحُكْمِ فِيهِمَا، وَلِأَنَّ التَّعْجِيلَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ كالأموال المتلفة فلا يلزمه زكاتها، أو الموجودة فِي مِلْكِهِ فَيَلْزَمُهُ زَكَاتُهَا، فَلَمَّا أَجْزَأَهُ التَّعْجِيلُ عَنْ زَكَاتِهِ ثَبَتَ أَنَّهَا كَالْمَوْجُودَةِ فِي مِلْكِهِ، لأن ما أتلفه غير مجزي فِي الزَّكَاةِ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا تُعَجَّلُ لِلْمَسَاكِينِ رفقاً لهم وَنَظَرًا لَهُمْ، وَفِي إِخْرَاجِ الْقَدْرِ الْمُعَجَّلِ مِنَ الزَّكَاةِ إِضْرَارٌ بِهِمْ، لِأَنَّهُ إِذَا عَجَّلَ شَاةً عَنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ

(3/176)


ثُمَّ نُتِجَتْ شَاةٌ، فَقَدَ أَسْقَطَ عَلَيْهِمْ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ شَاةً، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعَجِّلْ لَزِمَتْهُ شَاتَانِ، وَإِذَا عَجَّلَ لَزِمَتْهُ شَاةٌ، فَيَصِيرُ إِضْرَارُهُ بِالنَّقْصِ أَكْثَرَ مِنْ نَفْعِهِ بِالتَّعْجِيلِ، وَذَلِكَ خَارِجٌ عَنِ الْمَوْضُوعِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ مِنْ خُرُوجِ ذَلِكَ عَنْ مِلْكِهِ فَهُوَ أَنْ يُقَالَ: التَّعْجِيلُ وَإِنْ كَانَ خَارِجًا عَنْ مِلْكِهِ فَهُوَ فِي حُكْمِ مِلْكِهِ، لِإِجْزَائِهِ عَنْ فَرْضِهِ، وَقَدْ يَلْتَزِمُ زَكَاةَ مَا فِي مِلْكِهِ حُكْمًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ قَبْضًا كَالدَّيْنِ الثَّابِتِ لَهُ فِي الذِّمَمِ الْمَلِيَّةِ، هُوَ فِي مِلْكِهِ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ، وَزَكَاتُهُ لَازِمَةٌ له كذلك فيهما عَجَّلَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَهُوَ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ -.

(3/177)