الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

باب النية في إخراج الصدقة
قال الشافعي رضي الله عنه: " إِذَا وَلِيَ إِخْرَاجَ زَكَاتِهِ لَمْ يُجْزِهِ إِلَّا بِنِيَّةِ أَنَّهُ فَرْضٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِنِيَّةٍ، فَإِنْ أَخْرَجَهَا بِغَيْرِ نِيَّةٍ لَمْ يُجْزِهِ، وَبِهِ قَالَ كَافَّةُ الْعُلَمَاءِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ: أَنَّ إِخْرَاجَهَا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الزَّكَاةَ إِذَا وَجَبَتْ صَارَتْ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، وَالدُّيُونُ فِي الذِّمَمِ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ فِي الْأَدَاءِ كَدُيُونِ الْآدَمِيِّينَ، وَلِأَنَّ وَلِيَّ الْيَتِيمِ يُخْرِجُ الزَّكَاةَ عَنْهُ وَالْيَتِيمَ لَا نِيَّةَ لَهُ، وَالْوَالِي يَأْخُذُهَا كَرْهًا مِنْ مَالِ مَنِ امْتَنَعَ وَالْمُكْرَهُ لَا نِيَّةَ لَهُ، فَلَوْ كَانَتِ النِّيَّةُ وَاجِبَةٌ مَا أَجْزَأَتِ الزَّكَاةُ عَنْ هَذَيْنِ لِفَقْدِ النِّيَّةِ مِنْهُمَا، وَفِي إِجْزَائِهِمَا عَنْهُمَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) {البينة: 5) فَجَعَلَ الْإِخْلَاصَ وَهُوَ النِّيَّةُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعِبَادَةِ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امرئٍ مَا نَوَى " فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَيْسَ لَهُ مَا لَمْ يَنْوِهِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَنَوَّعُ فَرْضًا وَهُوَ الزَّكَاةُ وَنَفْلًا وَهُوَ التَّطَوُّعُ، فَوَجَبَ أَنْ تَفْتَقِرَ إِلَى النِّيَّةِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَالْمَعْنَى فيه أنه ليس بعبادة، وإنما هو حق لا حَقٌّ لِآدَمِيٍّ فَلَمْ تَلْزَمْ فِيهِ النِّيَّةُ، وَالزَّكَاةُ عِبَادَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ فِيهَا النِّيَّةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مُتَعَلِّقًا بِالْبَدَنِ كَالْقِصَاصِ، وَحَدِّ الْقَذْفِ، لَا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ، فَكَذَلِكَ مَا تَعَلَّقَ بِالْمَالِ وَمَا كان من حقوق الله تعالى متعلقاً بالسر كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ فَكَذَلِكَ مَا تعلق بالمال وأما ما ذكروه مِنْ إِخْرَاجِ الْوَلِيِّ زَكَاةَ الْيَتِيمِ، وَأَخْذِ الْوَالِي زَكَاةَ الْمُمْتَنِعِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ وَلِيَّ الْيَتِيمِ هُوَ الْمُخَاطَبُ بِالْإِخْرَاجِ، فَأَجْزَأَتْ نِيَّتُهُ، وَالْوَالِي الْعَادِلُ لَا يَأْخُذُ مِنَ الْمَالِ إِلَّا مَا وَجَبَ أَخْذُهُ فَلِذَلِكَ أَجْزَأَهُ أَخْذُهُ، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ النِّيَّةِ فَفِي مَحَلِّهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: عِنْدَ إِخْرَاجِهَا وَدَفْعِهَا، فَإِنْ نَوَى قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ لَمْ يُجْزِهِ كَالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ.
وَالثَّانِي: عِنْدَ عَزْلِهَا وَقَبْلَ دَفْعِهَا كَالصِّيَامِ، وَكَذَا فِي مَحَلِّ نِيَّةِ الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ، فَحَصَلَتِ الْعِبَادَاتُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: عِبَادَةٌ تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ فِي ابْتِدَائِهَا كَالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ، وعبادة لا

(3/178)


تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ فِي ابْتِدَائِهَا بَلْ يَجُوزُ تقديمها كالصيام وعبادة مختلف فيها وهي الزكاة والكفارة، وعلى كلى الْوَجْهَيْنِ لَوْ نَوَى عِنْدَ الدَّفْعِ أَجْزَأَهُ، وَلَوْ نَوَى بَعْدَهُ لَمْ يُجْزِهِ، وَلَكِنْ لَوْ نَوَى بَعْدَ دَفْعِهَا إِلَى وَكِيلِهِ، فَإِنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ قَبْلَ صَرْفِهَا إِلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ أَجْزَأَهُ وَإِنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ بَعْدَ صَرْفِهَا إِلَيْهِمْ لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّهَا صَارَتْ مُسْتَهْلَكَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " ولا يجزئه ذَهَبٌ عَنْ وَرِقٍ، وَلَا ورقٌ عَنْ ذهبٍ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
إِخْرَاجُ الْقِيَمِ فِي الزَّكَوَاتِ لَا يَجُوزُ، وَكَذَا فِي الْكَفَّارَاتِ حَتَّى يُخْرِجَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ بَدَلًا أَوْ مُبْدَلًا.
وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْقِيَمِ فِي الزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارِاتِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عِتْقًا، فَكُلُّ مَالٍ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُتَمَوَّلًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ سُكْنَى دَارٍ، أَوْ مِنْ جِنْسٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، كَإِخْرَاجِ نِصْفِ صَاعِ تَمْرٍ بَدَلًا عَنْ صَاعٍ مِنْ زَبِيبٍ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي إِخْرَاجِ الْقِيمَةِ، هَلْ هي الواجب أبو بَدَلٌ عَنِ الْوَاجِبِ؟ عَلَى مَذْهَبَيْنِ:
وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْوَرِقِ عَنِ الذَّهَبِ، وَالذَّهَبِ عَنِ الْوَرِقِ لَا غَيْرَ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ: " اغْنُوهُمْ عَنِ المسألة في مثل هَذَا الْيَوْمِ " وَالْإِغْنَاءُ قَدْ يَكُونُ بِدَفْعِ الْقِيمَةِ، كَمَا يَكُونُ بِدَفْعِ الْأَصْلِ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مخاضٍ، فإن لم يكن فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ " فَنَصَّ عَلَى دَفْعِ الْقِيمَةِ.
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ قَالَ لِأَهْلِ الْيَمَنِ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالِيًا عَلَيْهِمْ: " ائْتُونِي بِخَمِيسٍ أَوْ لَبِيسٍ آخُذُهُ مِنْكُمْ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ، وَأَنْفَعُ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ " فَأَمَرَهُمْ بِدَفْعِ الثِّيَابِ بَدَلًا عَنِ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ، وَهُوَ لَا يَقُولُ ذَلِكَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا تَوْقِيفًا، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُزَكًّى فَجَازَ إِخْرَاجُ قِيمَتِهِ كَمَالِ التِّجَارَةِ.
قَالُوا: وَلِأَنَّ الْقِيمَةَ مَالٌ فَجَازَ إِخْرَاجُهَا فِي الزَّكَاةِ كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ فِي الزَّكَاةِ الْعُدُولُ عن الْعَيْنِ إِلَى الْجِنْسِ، وَهُوَ أَنْ يُخْرِجَ زَكَاةَ غَنَمِهِ مِنْ غَيْرِهَا جَازَ

(3/179)


الْعُدُولُ مِنْ جِنْسٍ إِلَى جِنْسٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ لَمَّا لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ مِنَ الْعَيْنِ إِلَى الْجِنْسِ لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ مِنْ جِنْسٍ إِلَى جِنْسٍ.
وِالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: رِوَايَةُ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْحَبِّ حَبًّا، وَمِنَ الْغَنَمِ غَنَمًا، وَمِنَ الْإِبِلِ إِبِلًا، وَمِنَ الْبَقَرِ بَقَرًا " فَاقْتَضَى ظَاهِرُ أَمْرِهِ أَنْ لَا يَجُوزَ الْأَخْذُ مِنْ غَيْرِهِ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صدقة الفطر من رمضان صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، على كل حر وعبدٍ ذكرٍ أو أنثى مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَخَيَّرَهُ بَيْنَ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ دُونَ غيرهما، والمخالف فخيره بَيْنَهُمَا أَوْ بَيْنَ قِيمَةِ أَحَدِهِمَا، وَظَاهِرُ الْخَبَرِ يمنع منهما.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مخاضٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَابْنُ لَبُونٍ ذكرٍ " وفيه دليلان:
أحدهما: أنه أمر أن يأخذ ابْنِ لَبُونٍ عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ عِنْدَ عَدَمِ بِنْتِ مَخَاضٍ، وأبو حنيفة يُجِيزُ أَخْذَهُ عَلَى وَجْهِ الْقِيمَةِ مَعَ وُجُودِ بِنْتِ مَخَاضٍ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ نَصَّ عَلَى شَيْئَيْنِ عَلَى التَّرْتِيبِ وأبو حنيفة يُجِيزُ ثَالِثًا وَهُوَ الْقِيمَةُ، وَيُسْقِطُ التَّرْتِيبَ، وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ جَذَعَةً وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ ويجعل معها شاتين إن استيسر، أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا " وَفِيهِ دَلِيلَانِ كَالَّذِي قَبْلَهُ، ثُمَّ قَدَّرَ الْبَدَلَ مِنَ الدَّرَاهِمِ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَالْقِيمَةُ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ بِالشَّرْعِ كَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، وَإِنَّمَا الْبَدَلُ مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ كَالدِّيَاتِ، وَهَذَا دَلِيلٌ ثَالِثٌ مِنَ الْخَبَرِ، وَهُوَ أَقْوَاهَا، وَلِأَنَّهُ عَدْلٌ عَنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِهِ فَلَمْ يُجْزِهِ كَسُكْنَى دَارِهِ، وَهُوَ أَنْ يُسْكِنَهَا الْفُقَرَاءَ مُدَّةً تَكُونُ أُجْرَتُهَا قَدْرَ زَكَاتِهِ، وَلِأَنَّهُ إِخْرَاجُ قِيمَةٍ فِي الزكاة فوجب أن لا يجزئه، كَمَا لَوْ أَخْرَجَ نِصْفَ صَاعٍ تَمْرًا وَسَطًا عَنْ صَاعِ تَمْرٍ رَدِيءٍ، أَوْ أَخْرَجَ شَاةً سَمِينَةً عَنْ شَاتَيْنِ مَهْزُولَتَيْنِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ فِي مَالٍ يَخْرُجُ عَلَى وَجْهِ الطُّهْرَةِ فَلَمْ يَجُزْ إِخْرَاجُ قِيمَتِهِ كَالْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ، فَإِنْ قِيلَ هُوَ بَاطِلٌ بِجَزَاءِ الصَّيْدِ يَجُوزُ عِنْدَكُمْ إِخْرَاجُ قيمته، قيل غلط، لأن القيمة ليست مخرجة، وإنما يتعذر بِهَا الْبَدَلُ الْمُخْرَجُ، أَلَا تَرَاهُ يُقَوِّمُ الْجَزَاءَ دَرَاهِمَ ثُمَّ تُصْرَفُ الدَّرَاهِمَ فِي طَعَامٍ وَلَا تُخْرَجُ الدَّرَاهِمُ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَشْتَمِلُ عَلَى مُقَدَّرٍ مَأْخُوذٍ وَهُوَ الزَّكَاةُ، وَمُقَدَّرٍ مَتْرُوكٍ وَهُوَ النِّصَابُ، فلما ثبت أن القدر الْمَتْرُوكَ لَا يَقُومُ مَقَامَهُ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ أَرْبَعَةٌ مِنَ الإبل ثنايا تساوي خمساً مِنَ الْإِبِلِ دُونَ الثَّنَايَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمِقْدَارُ الْمَأْخُوذُ لَا يَقُومُ مَقَامَهُ مَا كَانَ في معناه.

(3/180)


وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ مُقَدَّرِي الزَّكَاةِ فوجب أن لا يقيم غير مَقَامَهُ، وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُ كَالنِّصَابِ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَشْتَمِلُ عَلَى مَالٍ مُزَكًّى وَقَدْرٍ مُؤَدًّى، فَلَمَّا كَانَ الْمَالُ الْمُزَكَّى مَخْصُوصًا فِي بَعْضِ الْأَمْوَالِ دُونَ بَعْضٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَدْرُ الْمُؤَدَّى مَخْصُوصًا فِي بَعْضِ الْأَمْوَالِ دُونَ بَعْضٍ.
وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الزَّكَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي مَالٍ مَخْصُوصٍ كَالْمَالِ الْمُزَكَّى، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ " اغْنُوهُمْ عَنِ الْمَسْأَلَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ " فَهُوَ مُجْمَلٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ قَدْرَ مَا يَسْتَغْنُونَ بِهِ، وَلَا جِنْسَهُ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ مُفَسَّرًا، فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى.
وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ " فَإِنْ لَمْ تَكُنِ ابْنَةُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ " فَهُوَ دَلَالَةٌ عَلَيْهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا.
وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِحَدِيثِ مُعَاذٍ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ وَارِدٌ فِي الْجِزْيَةِ لَا فِي الزَّكَاةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ فِي الزَّكَاةِ مِنَ الْحَبِّ حَبًّا، ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِالْجِزْيَةِ فَقَالَ: خُذْ من كل حالم ديناراً أو عد له مِنْ مَعَافِرِ الْيَمَنِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ مُعَاذٌ " آخُذُهُ مِنْكُمْ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ " وَذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الْجِزْيَةِ، قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُعَاذٌ عَقَدَ مَعَهُمُ الْجِزْيَةَ عَلَى أَخْذِ الشعير من زروعهم، يُوَضِّحُ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْجِزْيَةِ لَا مِنَ الزَّكَاةِ أَنَّ مُعَاذًا قَالَ فَإِنَّهُ أَنْفَعُ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ، وَالزَّكَاةُ لَا يَجُوزُ نَقْلُهَا مِنْ جِيرَانِ الْمَالِ إِلَى غَيْرِهِمْ، سِيَّمَا عِنْدَ مُعَاذٍ الَّذِي يَقُولُ أَيُّمَا رَجُلٍ انْتَقَلَ مِنْ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ إِلَى غَيْرِ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ فَعُشْرُهُ وَصَدَقَتُهُ فِي مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ. فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ فِي الْجِزْيَةِ الَّتِي يَجُوزُ نَقْلُهَا.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَالِ التِّجَارَةِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ في قيمة الفرض، وتخرج زكاة القيمة إلا أنها تجب في الفرض وتخرج قيمة الغرض، وإن قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَبَاطِلٌ بِإِخْرَاجِ نِصْفِ صَاعٍ عَنْ صَاعٍ، وَشَاةٍ عَنْ شَاتَيْنِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ جَازَ إِخْرَاجُهُ، وَلَيْسَتِ الْقِيمَةُ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ إِخْرَاجُهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَمَّا جَازَ الْعُدُولُ مِنَ الْعَيْنِ إِلَى الْجِنْسِ جَازَ الْعُدُولُ مِنْ جِنْسٍ إِلَى جِنْسٍ، فَهَذَا قِيَاسُ الْعَكْسِ، عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ مِنْ جِنْسِ مَالِهِ لَا مِنْ عَيْنِ مَالِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ عَادِلًا عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ إلى غيره.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَخْرَجَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ فَقَالَ إِنْ كَانَ مالي الغائب سالما فهذه زكاته أو نافلة فكان ماله سالماً لم يجزئه لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِالنِّيَّةِ قَصْدَ فَرْضٍ خَالِصٍ إِنَّمَا جَعَلَهَا مُشْتَرَكَةً بَيْنَ فَرْضٍ ونافلةٍ وَلَوْ قَالَ عَنْ مَالِي الْغَائِبِ إِنْ كَانَ سَالِمًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَالِمًا فَنَافِلَةٌ أَجَزَأَتْ عَنْهُ لِأَنَّ إِعْطَاءَهُ عَنِ الْغَائِبِ هَكَذَا وَإِنْ لَمْ يقله ".

(3/181)


قال الماوردي: وهذا كما قال:
المال الغائب عن مالكه حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِرًّا فِي بَلَدٍ مَعَ وَكِيلٍ أَوْ نَائِبٍ، فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ عن حَوْلِهِ فِي الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ بِهِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ: أَنْ يَكُونَ الْمَالُ غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ بِبَلَدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ سَائِرٌ فِي بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ لَا يُعْرَفُ مَكَانُهُ وَلَا تُعْلَمُ سَلَامَتُهُ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ قَبْلَ وُصُولِهِ، فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ غَائِبٌ لَزِمَتْهُ زَكَاةُ فِطْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِمَكَانِهِ.
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِطْرَةَ الْعَبْدِ في ذمة سيده من غير جنسه فلزمه إِخْرَاجُهَا مَعَ غَيْبَتِهِ وَزَكَاةُ الْمَالِ فِي عَيْنِهِ أو من جنسه فلم يلزم إخراجها مع غيبته ولو كان في فطرة العبد ترتيب يذكر فِي مَوْضِعِهِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِخْرَاجَهَا لَا يَلْزَمُهُ فَتَطَوَّعَ بِهِ وَجَبَ اعْتِبَارُ نِيَّتِهِ لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهَا، فَنَبْدَأُ بِمَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ ثُمَّ نُعْقِبُهُ بِفُرُوعِهِ، نَقَلَ الْمُزَنِيُّ مَسْأَلَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يُخْرِجَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ وَيَقُولَ إِنْ كَانَ مَالِي الْغَائِبُ (سَالِمًا فَهَذِهِ زَكَاتُهُ أَوْ نَافِلَةٌ فَكَانَ) سَالِمًا لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّهُ أَشْرَكَ فِي نِيَّتِهِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ وَمِنْ شَرْطِ الزَّكَاةِ إِخْلَاصُ النِّيَّةِ لِلْفَرْضِ.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولَ هَذِهِ زَكَاةُ مَالِي الْغَائِبِ إِنْ كَانَ سَالِمًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَالِمًا فَنَافِلَةٌ، فَكَانَ مَالُهُ سَالِمًا أَجْزَأَهُ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَخْلَصَ النِّيَّةَ مَعَ سَلَامَةِ الْمَالِ، وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلٍ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْمَالِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ أَخْرَجَهَا بنية الفرض أو أطلق من غير شرط وقال هَذِهِ زَكَاةُ مَالِي الْغَائِبِ كَانَ مُوجَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ عَنْ مَالِي الْغَائِبِ إِنْ كَانَ سَالِمًا، وَإِذَا كَانَ هَذَا الشَّرْطُ مِنْ مُوجِبِهِ كَانَ ذكره تأكيداً أو لم يَكُنْ مُؤَثِّرًا فِي الْإِجْزَاءِ.

فَصْلٌ
: إِذَا كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ غَائِبَةً وَمِائَتَا دِرْهَمٍ حَاضِرَةً، فَأَخْرَجَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَقَالَ: هَذِهِ عَنْ مَالِي الْغَائِبِ إِنْ كَانَ سَالِمًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَالِمًا فَعَنْ مَالِي الْحَاضِرِ كَانَ كَمَا نَوَى، وَكَانَ عَنْ أَحَدِ الْمَالَيْنِ عَلَى مَا شَرَطَ، فَإِنْ كَانَ مَالُهُ الْغَائِبُ سَالِمًا كَانَتِ الزَّكَاةُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ تَالِفًا كَانَتْ عَنِ الْحَاضِرِ، وَكَذَا أَيْضًا لَوْ قَالَ هَذِهِ زَكَاةُ مَالِي الْغَائِبِ إِنْ كَانَ سَالِمًا أَوْ عَنِ الْحَاضِرِ أَجْزَأَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ قد أخلص نية الفرض، وإلا جعل

(3/182)


الِاشْتِرَاكَ فِي نَقْلِهَا مِنْ فَرْضٍ إِلَى فَرْضٍ وَذَلِكَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي الزَّكَاةِ، لِأَنَّ تَعْيِينَ الفرض فيها لا يلزم وبهذا المعنى فارقت الصلاة، لأن تغيير الْفَرْضِ فِيهَا يَلْزَمُ، فَلَوْ جَعَلَ نِيَّةَ الصَّلَاةِ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ فَرْضَيْنِ لَمْ يَجُزْ، فَلَوْ قَالَ هَذَا عَنْ مَالِي الْغَائِبِ فَتَلِفَ الْمَالُ الْغَائِبُ لم يجزه عَنِ الْحَاضِرِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرِكْهُ فِي نِيَّتِهِ.

فَصْلٌ
: إِذَا كَانَ لَهُ ذُو قَرَابَةٍ يَرِثُهُ من والد أو ولد وكان بعيداً لغيبة فَقَالَ: إِنْ كَانَ مَاتَ وَوَرِثْتُ مَالَهُ فَهَذِهِ زَكَاتُهُ لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَبْنِ ذَلِكَ عَلَى أَصْلٍ، كَالْمَالِ الْغَائِبِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَالِ الْغَائِبِ الْبَقَاءُ، وَفِي ذِي الْقَرَابَةِ الْحَيَاةُ، ولهذه المسائل أمثلة في صيام يومي الشَّكِّ الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرِ نَذْكُرُهَا فِي كِتَابِ " الصِّيَامِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَصْلٌ
: إِذَا وَرِثَ مَالًا فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ سِنِينَ كَثِيرَةً فَعَلَيْهِ زَكَاتُهُ مِنْ يَوْمِ وَرِثَهُ، لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي مِلْكِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ، وَلَوْ أن رجلاً أوصى لِحَمْلِ امْرَأَةٍ بِمَالٍ تَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ وَمَاتَ فَوَضَعَتْ حَمْلَهَا لِأَرْبَعِ سِنِينَ مَلَكَ الْمَالَ، وَفِي زَكَاةِ مَا مَضَى وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُخْرِجُ زَكَاةَ مَا مَضَى.
وَالثَّانِي: لَا زَكَاةَ فِيمَا مَضَى وَيَسْتَأْنِفُ حَوْلَهُ مِنْ وَقْتِ الْوَضْعِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَا مُخْرَجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي الوصية هل تملك بموت الموصي أو بالموت والقبول.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَخْرَجَهَا لِيَقْسِمَهَا وَهِيَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ فَهَلَكَ ماله كان له حبس الدراهم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَقُلْنَا إنه يَخْلُو حَالُهُ عِنْدَ تَلَفِ مَالِهِ بَعْدَ الْحَوْلِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ فَعَلَيْهِ دَفْعُ مَا أَخْرَجَهُ مِنَ الزَّكَاةِ، وَلَيْسَ لَهُ حَبْسُهُ، لِأَنَّهُ بِتَأْخِيرِهَا بَعْدَ الْإِمْكَانِ مُفَرِّطٌ فَلَزِمَهُ ضَمَانُهَا، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْإِمْكَانِ حَبَسَ مَا بِيَدِهِ وَجَمَعَهُ إِلَى بَاقِي مَالِهِ، فَإِنْ بَلَغَ نِصَابًا أَخْرَجَ زَكَاتَهُ لَا غير، لأنه دون ما هلك وإن كان دون النصاب فَعَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الإمكان.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو ضاعت منه الَّتِي أَخْرَجَهَا مِنْ غَيْرِ تفريطٍ رَجَعَ إِلَى مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ فَإِنْ كَانَ فِي مثله الزكاة زكاه وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهِيَ فِي مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ الْمَاضِيَةِ، لَكِنْ فِي تَلَفِ الزَّكَاةِ الْمُخْرَجَةِ دُونَ الْأَصْلِ الْمُتَبَقِّي، كَأَنَّهُ أَخْرَجَ زَكَاتَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ فَتَلِفَتْ مِنْ يَدِهِ، فَإِنْ تَلِفَتْ بَعْدَ الْإِمْكَانِ فَعَلَيْهِ

(3/183)


إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ كَامِلَةً، وَإِنْ تَلِفَتْ قَبْلَ الْإِمْكَانِ لم يضمن ما تلف، فاعتبر مَا بَقِيَ، فَإِنْ كَانَ نِصَابًا زَكَّاهُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَعَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: عَلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ بِقِسْطِ مَا بَقِيَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الإمكان.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا أَخَذَ الْوَالِي مِنْ رَجُلٍ زَكَاتَهُ بِلَا نِيَّةٍ في دفعها إليه أَجْزَأَتْ عَنْهُ كَمَا يُجْزِئُ فِي الْقَسْمِ لَهَا أَنْ يَقْسِمَهَا عَنْهُ وَلِيُّهُ أَوِ السُّلْطَانُ وَلَا يَقْسِمُهَا بِنَفْسِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا إِيجَابَ النِّيَّةِ فِي دَفْعِ الزَّكَاةِ، فَإِذَا ثَبَتَ وَجُوبُهَا فَلَا يَخْلُو حَالُ رَبِّ الْمَالِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَدْفَعَهَا طَوْعًا، أَوْ تُؤْخَذَ مِنْ مَالِهِ كَرْهًا، فَإِنْ دَفَعَهَا طَوْعًا فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
إِمَّا أَنْ يُفَرِّقَهَا بِنَفْسِهِ، أَوْ يدفعها إلى وكيله ليدفعها عَنْهُ، أَوْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْوَالِي، فَإِنْ فَرَّقَهَا بِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ نِيَّةٍ عِنْدَ دَفْعِهَا، أو عند عزلها على الوجهين الماضين فإن لم ينو لم يجزه، فإن دفعها إلى وكيله فلها أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ:
إِمَّا أَنْ يَنْوِيَا مَعًا، أَوْ لَا يَنْوِيَا أَوْ يَنْوِيَ الْمُوَكِّلُ دُونَ الْوَكِيلِ، أَوْ يَنْوِيَ الْوَكِيلُ دُونَ الْمُوَكِّلِ، فَإِنْ نَوَيَا مَعًا فَنَوَى الْمُوَكِّلُ عِنْدَ دَفْعِهَا إِلَى الْوَكِيلِ، وَنَوَى الْوَكِيلُ عِنْدَ تَفْرِيقِهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ أَجْزَأَتْهُ الزكاة، وإن لم ينويا ولأحد مِنْهُمَا لَمْ يُجْزِهِ ذَلِكَ عَنْ زَكَاتِهِ، لِفَقْدِ النية، وإن دفعها يحتمل أن يكون فَرْضًا وَنَفْلًا، وَإِنْ نَوَى الْمُوَكِّلُ دُونَ الْوَكِيلِ ففي إجزائهما وجهان:
أحدهما: لا يجزئه، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَحَلَّ النِّيَّةِ عند الدفع والتفرقة.
والثاني: يجزئه، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَحَلَّ النِّيَّةِ عند العزل وهو أصح الوجهين، لأن الكل قد أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ النِّيَابَةِ فِي تَفْرِيقِ الزَّكَاةِ، فَلَوْ كُلِّفَ الْمُوَكِّلُ النِّيَّةَ عِنْدَ تَفْرِقَةِ الْوَكِيلِ لَشَقَّ عَلَيْهِ، وَأَدَّاهُ إِلَى الْمَنْعِ مِنَ الِاسْتِنَابَةِ، وَإِنْ نَوَى الْوَكِيلُ دُونَ الْمُوَكِّلِ لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّ دَفْعَهُ إِلَى الْوَكِيلِ قَدْ يَكُونُ فَرْضًا وَنَفْلًا، فَافْتَقَرَ إِلَى نِيَّةٍ يُفَرِّقُ بِهَا بَيْنَ الدفعين، وإن رفعها إلى الأمام فلها أيضاً أربعة أحوال:
أحداها: أن ينويا جميعاً فيجزئه.
وَالثَّانِي: أَنْ يَنْوِيَ رَبُّ الْمَالِ دُونَ الْإِمَامِ فيجزئه وجهاً واحداً، لأن يد الإمام يد للمساكين.

(3/184)


وَالثَّالِثُ: أَنْ يَنْوِيَ الْإِمَامُ دُونَ رَبِّ الْمَالِ فيجزئه أَيْضًا، لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَأْخُذُ مِنَ الْمَالِ إِلَّا مَا وَجَبَ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ لَا يَنْوِيَ رَبُّ الْمَالِ وَلَا الْإِمَامُ فَفِيهِ وجهان:
أحدهما: وهو الصحيح وهو منصوص الشافعي أنه يجزئه، لِأَنَّ أَخْذَ الْإِمَامِ يَتَوَجَّهُ إِلَى الْفَرْضِ، لِأَنَّهُ لَا يَأْخُذُ إِلَّا مَا وَجَبَ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قول بعض أصحابه: لا يجزئه لفقد النية المشروطة في الأداء.

فَصْلٌ
: فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا طَوْعًا: أَخَذَهَا الإمام من ماله قهراً، ويجزئه فِي الْحُكْمِ، نَوَى الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يَنْوِ، وهل يجزئه فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا امْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُؤْخَذَ كَرْهًا بَلْ يُحْبَسُ حَتَّى يُؤَدِّيَهَا، فَإِنْ أُخِذَتْ كَرْهًا لَمْ يُجْزِهِ، وَاسْتَدَلَّ بِشَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ لَا يَصِحُّ أَدَاؤُهَا إِلَّا بِنِيَّةٍ، وَمَعَ الْإِكْرَاهِ لَا تَصِحُّ مِنْهُ النِّيَّةُ.
وَالثَّانِي أَنَّ أَخْذَهَا كَرْهًا لَا يَصِحُّ إِلَّا لِطَالِبٍ مُعَيَّنٍ، وَمُسْتَحَقُّ الزَّكَاةِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، وَهَذَا خَطَأٌ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) {التوبة: 103) فَكَانَ هَذَا الْأَمْرُ بِالْأَخْذِ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْمُطِيعِ وَالْمُمْتَنِعِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " فِي كُلِّ سَائِمَة إبلٌ فِي أربعين بنت لبون، ولا تفرق إبلٌ عن حسابها من أعطاها مؤتمراً فَلَهُ أَجْرُهَا وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ عَزْمَةٌ مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا، لَيْسَ لِآلِ محمدٍ فيها نصيبٌ " ولأنه حق في ماله يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُجْبَرَ عَلَيْهِ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ كَالدُّيُونِ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ يَتَوَلَّاهُ الْإِمَامُ لِأَهْلِ السُّهْمَانِ، فَجَازَ أَنْ يُجْبَرَ عَلَيْهِ عِنْدَ الِامْتِنَاعِ مِنْهُ كَالْأَعْشَارِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ الأول بفقد النِّيَّةَ، يَقْصِدُ بِهَا الْفَرْقَ بَيْنَ التَّطَوُّعِ وَالْفَرْضِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْإِكْرَاهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ مُسْتَحِقَّهَا غَيْرُ مُعَيَّنٍ، قِيلَ أَوْصَافُهُمْ مُعَيَّنَةٌ، وإن كانت أشخاصهم غير معينة، ولولا تعيين أَوْصَافِهِمْ لَمَا جَازَ أَنْ يُفَرِّقَهَا فِيهِمْ لِجَهْلِهِ به.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وأحب أن يتولى الرجل قسمتها عن نفسه، لِيَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَدَائِهَا عَنْهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
وَالْأَمْوَالُ ضَرْبَانِ ظَاهِرَةٌ كَالْمَوَاشِي وَالزُّرُوعِ وَبَاطِنَةٌ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَأَمَّا الْبَاطِنَةُ فَلَا يَلْزَمُهُ دَفْعُ زَكَاتِهَا إِلَى الْإِمَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَهَا بِنَفْسِهِ، أَوْ يَدْفَعَهَا إِلَى وَكِيلِهِ، أَوْ إلى الإمام

(3/185)


الْعَادِلِ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْجَوَازِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، بَيْنَ نَفْسِهِ، أَوْ وَكِيلِهِ، أَوِ الإمام. فأما الأول وَالْأَفْضَلُ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ وَكِيلِهِ، لِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ فِعْلِ نَفْسِهِ، وَفِي شَكٍّ مِنْ فِعْلِ وَكِيلِهِ، وَالْإِمَامُ أَيْضًا أَوْلَى مِنْ وَكِيلِهِ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَسْقُطُ عَنْهُ بِدَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْهَا إِلَى الْمَسَاكِينِ وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِدَفْعِهَا إِلَى الْوَكِيلِ حَتَّى يَدْفَعَهَا إِلَى الْمَسَاكِينِ فَأَمَّا هُوَ وَالْإِمَامُ فَفِي أَوْلَاهُمَا بِتَفْرِيقِهَا إِذَا كَانَتْ بَاطِنَةً وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ دَفْعَهَا إِلَى الْإِمَامِ أَوْلَى مِنْ تَفْرِيقِهَا بِنَفْسِهِ، لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ أَعْرَفُ بِمُسْتَحِقِّيهَا مِنْهُ.
وَالثَّانِي: إِنَّهَا تَسْقُطُ عَنْهُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَإِذَا فَرَّقَهَا بِنَفْسِهِ سَقَطَتْ عَنْهُ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ.
والوجه الثاني: أن يفرقها بِنَفْسِهِ أَوْلَى، لِمَا عَلَّلَ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ فِعْلِ نَفْسِهِ، وَفِي شَكٍّ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ، فَأَمَّا الْأَمْوَالُ الظَّاهِرَةُ فَلِلْإِمَامِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَادِلًا فِي الزَّكَاةِ وَفِي غَيْرِهَا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ جَائِرًا فِي الزَّكَاةِ وَفِي غَيْرِهَا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَادِلًا فِي الزَّكَاةِ جَائِرًا فِي غَيْرِهَا.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ جَائِرًا فِي الزَّكَاةِ عَادِلًا فِي غَيْرِهَا، فَإِنْ كَانَ جَائِرًا فِي الزَّكَاةِ وَفِي غَيْرِهَا، أَوْ جَائِرًا فِي الزَّكَاةِ عَادِلًا فِي غَيْرِهَا، لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إِلَيْهِ، وَفَرَّقَهَا رَبُّ الْمَالِ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ دَفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ الْجَائِرِ فِيهَا لَمْ تُجْزِهِ، وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي موضعه مِنْ قِسْمِ الصَّدَقَاتِ، وَإِنْ كَانَ عَادِلًا فِي الزكاة وفي غيرها فعلى قوله فِي الْقَدِيمِ يَجِبُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إِلَيْهِ، فَإِنْ فرقها رب المال بنفسه أو وكيله وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وأبي حنيفة، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ لَا يَجِبُ دَفْعُهَا إِلَيْهِ وَإِنْ فَرَّقَهَا بِنَفْسِهِ أَوْ وَكِيلُهُ جَازَ، لَكِنَّ دَفْعَهَا إِلَيْهِ فِي الْمَالِ الظَّاهِرِ أَوْلَى مِنْ تَفْرِيقِهَا بِنَفْسِهِ أَوْ وَكِيلِهِ وَجْهًا وَاحِدًا، لِيَكُونَ خَارِجًا من الخلاف في الإجزاء، وعلى اليقين مِنْ أَدَائِهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَإِنْ كَانَ عَادِلًا فِي الزَّكَاةِ جَائِرًا فِي غَيْرِهَا وَجَبَ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ دَفْعُهَا إِلَيْهِ وَلَمْ يَجُزْ تفريقها بنفسه.
رَوَى عَنْ سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سألت سعد بن مالك فَقُلْتُ: عِنْدِي مَالٌ مُجْتَمِعٌ يَعْنِي: مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ، وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ كَمَا تَرَى، فَمَا أَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: ادْفَعْهُ إِلَيْهِمْ قَالَ: وَسَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَسَأَلْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ. وَسَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ.

(3/186)


فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ، فَلَا يَجِبُ دَفْعُهَا إِلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَهَا بِنَفْسِهِ، وَفِي الأولى وجهان:
أحدها: دَفْعُهَا إِلَى الْإِمَامِ أَوْلَى.
وَالثَّانِي: تَفْرِيقُهَا بِنَفْسِهِ أَوْلَى، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الزكاة " ومن سأل فَوْقَهَا فَلَا يُعْطِهِ " وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(3/187)