الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

باب ما يسقط الصدقة عن الماشية
قال الشافعي رضي الله عنه: يُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال " في سائمة الغنم زكاةٌ " وإذا كَانَ هَذَا ثَابِتًا فَلَا زَكَاةَ فِي غَيْرِ سائمة وروي عن بعض أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن ليس في البقر والإبل العوامل صدقة حتى تكون سائمة والسائمة الراعية وذلك أن يجتمع فيها أمران أن لا يكون لها مؤنة في العلف ويكون لها نماء الرعي فأما إن علفت فالعلف مؤنة تحبط بفضلها وقد كانت النواضح عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم خلفائه فلم أعلم أحداً رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أخذ منها صدقة ولا أحداً من خلفائه ".
قال الماوردي: وهذا كما قال:
الْمَاشِيَةُ ضَرْبَانِ سَائِمَةٌ وَمَعْلُوفَةٌ فَالسَّائِمَةُ: الرَّاعِيَةُ، وَسُمِّيَتْ سَائِمَةً لِأَنَّهَا تَسِمُ الْأَرْضَ بِرَعْيِهَا، وَالسِّمَةُ الْعَلَامَةُ وَلِهَذَا قِيلَ لِأَوَّلِ الْمَطَرِ وَسَمِيٌّ، لِأَنَّهُ يُعَلِّمُ الْأَرْضَ بِآثَارِهِ، فَالسَّائِمَةُ مِنَ الْمَاشِيَةِ فِيهَا الزَّكَاةُ إِجْمَاعًا.
فَأَمَّا الْمَعْلُوفَةُ مِنَ الْغَنَمِ وَالْعَوَامِلِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وأبي حنيفة وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: الزَّكَاةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ كَالسَّائِمَةِ.
وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: مَعْلُوفَةُ الْغَنَمِ لَا زَكَاةَ فِيهَا، وَمَعْلُوفَةُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ فِيهَا الزَّكَاةُ، لِقَوْلِهِ فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ زَكَاةٌ، فَخَصَّهَا بِالذِّكْرِ فَوَجَبَ اخْتِصَاصُهَا بِالْحُكْمِ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَوْجَبَ زَكَاةَ الْمَعْلُوفَةِ بِعُمُومِ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " في أربعين شاةٍ شاةٌ ": ولم يفرق قالوا: وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يَجُوزُ فِي الْأُضْحِيَةِ فَجَازَ أَنْ تَجِبَ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالسَّائِمَةِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ السَّائِمَةِ وَالْمَعْلُوفَةِ إِلَّا فِي قِلَّةِ الْمُؤْنَةِ فِي السَّائِمَةِ، وَكَثْرَتِهَا فِي الْمَعْلُوفَةِ، وَقِلَّةُ الْمُؤْنَةِ وَكَثْرَتُهَا لَا تُؤَثِّرُ فِي إِسْقَاطِ الزَّكَاةِ، وَإِنَّمَا تُؤَثِّرُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ إِذَا كَثُرَتْ مُؤْنَتُهَا بِالسَّقْيِ قَلَّتْ زَكَاتُهَا، وَإِذَا قَلَّتْ مُؤْنَتُهَا كَثُرَتْ زَكَاتُهَا، فَكَانَ تَأْثِيرُ الْمُؤْنَةِ فِي تَغْيِيرِ الْقَدْرِ لَا فِي إِسْقَاطِ الْفَرْضِ.

(3/188)


وَدَلِيلُنَا مَا رَوَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ " فَقَالَ الشَّافِعِيُّ لِلْغَنَمِ صِفَتَانِ السَّوْمُ، وَالْعَلْفُ، فَلَمَّا عَلَّقَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ بِإِحْدَى الصِّفَتَيْنِ انْتَفَتْ عَنِ الْأُخْرَى، فَصَرَّحَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَرَوَى عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " ليس في العوامل صدقةٌ " وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ فِي الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ ".
وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ " فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ الثَّلَاثَةُ نُصُوصٌ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا. فَإِنْ قَالُوا إِنَّمَا لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهَا زَكَاةٌ لِأَنَّهَا لم تَبْلُغُ نِصَابًا فِي الْغَالِبِ. فَفِيهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أنا إن سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَهُمْ غَالِبًا فِي الْبَقَرِ فَلَيْسَ بِغَالِبٍ فِي الْإِبِلِ، وَقَدْ يَمْلِكُ دُونَ النِّصَابِ سَائِمَةً، وَتَمَامُ النِّصَابِ مَعْلُوفَةٌ، فَيَصِيرَانِ نِصَابًا كَامِلًا، فَعُلِمَ أَنَّ نَصَّهُ عَلَى الْعَوَامِلِ لِسُقُوطِ الزَّكَاةِ فِيهَا لَا غَيْرَ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ خَصَّ الْمَعْلُوفَةَ بِنَفْيِ الزَّكَاةِ عَنْهَا، وَحَمْلُ الْخَبَرِ عَلَى مَا دُونَ النِّصَابِ يُسْقِطُ فَائِدَةَ التَّخْصِيصِ، لِأَنَّ الْمَعْلُوفَةَ وَالسَّائِمَةَ يَتَسَاوَيَانِ فِي ذَلِكَ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا صَدَقَةَ فِي الْإِبِلِ الْجَارَّةِ وَلَا الْقَتُوبَةِ ".
وَالْجَارَّةُ الَّتِي تُجَرُّ بِأَزِمَّتِهَا وَتُقَادُ.
والقتوية: التي يوضع على ظهورها الْأَقْتَابُ، هَكَذَا قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي " غَرِيبِ الحديث " ولأنه جنس تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ بِحَوْلٍ وَنِصَابٍ، فَوَجَبَ أن يشرع نَوْعَيْنِ نَوْعٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَنَوْعٌ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلِأَنَّهُ مُبْتَذَلٌ فِي مُبَاحٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجِبَ فِيهِ الزَّكَاةُ، كَالثِّيَابِ وَالْعَقَارِ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا تَجِبُ فِي الْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ كَالْمَوَاشِي وَالزُّرُوعِ.
(وَتَسْقُطُ فِي غَيْرِ النَّامِيَةِ كَالْآلَةِ وَالْعَقَارِ) وَالْعَوَامِلُ مَفْقُودَةُ النَّمَاءِ فِي الدَّرِّ وَالنَّسْلِ، وَإِنَّمَا يُنْتَفَعُ بِهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ النَّمَاءِ، كَمَا يُنْتَفَعُ بِالْعَقَارِ عَلَى جهة السُّكْنَى، فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ عَنْهَا الزَّكَاةُ كَسُقُوطِهَا عن العقار.

(3/189)


فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِعُمُومِ الْخَبَرِ فَأَخْبَارُنَا تَخُصُّهُ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى السَّائِمَةِ فَالْمَعْنَى فِيهَا حُصُولُ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ كَثْرَةَ الْمُؤْنَةِ تُؤَثِّرُ فِي قَدْرِ الْفَرْضِ لَا فِي إِسْقَاطِهِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ إِنَّمَا لَمْ تَسْقُطِ الزَّكَاةُ عَنْهَا لِكَثْرَةِ الْمُؤْنَةِ، وَإِنَّمَا أَسْقَطْنَاهَا لِفَقْدِ النَّمَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن كانت العوامل ترعى مدة وَتَتْرُكُ أُخْرَى أَوْ كَانَتْ غَنَمًا تُعْلَفُ فِي حين وترعى في آخر، فلا يبين لِي أَنَّ فِي شَيْءٍ مِنْهَا صَدَقَةً ".
قَالَ الماوردي: وهذا كما قال: الْمَاشِيَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
سَائِمَةٌ فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ فَفِيهَا الزَّكَاةُ.
وَمَعْلُوفَةٌ فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا.
وَسَائِمَةٌ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ مَعْلُوفَةٌ فِي بَعْضِهِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُنْظَرَ فِي الْعَلَفِ، فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا يَقُومُ الْبَدَنُ بِفَقْدِهِ كَيَوْمٍ أَوْ بَعْضِهِ وَهِيَ فِي بَاقِي الْحَوْلِ كُلِّهِ سَائِمَةٌ، فَالْحُكْمُ لِلسَّوْمِ، وَالزَّكَاةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ، ولا تأثير لهذا القدر في المعلوفة، وَإِنْ كَثُرَتِ الْعُلُوفَةُ فِي زَمَانٍ لَا يَقُومُ الْبَدَنُ بِفَقْدِهَا فِيهِ كَشَهْرٍ أَوْ أُسْبُوعٍ أَوْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، لِأَنَّهَا إِنْ لَمْ تَأْكُلْ ثَلَاثًا تلفت فلا زكاة فيها، سواء كان زمان السَّوْمِ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ.
وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ كَانَ زَمَانُ السَّوْمِ أَكْثَرَ فَفِيهَا الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ زَمَانُ الْعُلُوفَةِ أَكْثَرَ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا، اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الْأَغْلَبِ كَالزَّرْعِ الْمَسْقِيِّ بِمَاءِ السماء وماء الرشا، وَهَذَا غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ فِي السَّوْمِ إِيجَابًا وَفِي الْعُلُوفَةِ إِسْقَاطًا، وَهُمَا إِذَا اجْتَمَعَا فِي الزَّكَاةِ غَلَبَ حُكْمُ الْإِسْقَاطِ.
وَالثَّانِي: إِنَّ سَوْمَ جَمِيعِ الْمَاشِيَةِ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ كَسَوْمِ بَعْضِ الْمَاشِيَةِ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ سَوْمَ بَعْضِهَا فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ مسقط للزكاة من غير أن يعتبر فيها الْأَغْلَبُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ سَوْمُ جَمِيعِهَا فِي بَعْضِ الْحَوْلِ مُسْقِطًا لِلزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يعتبر فيها الْأَغْلَبُ، بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شاة، منها تسعة وثلاثين سَائِمَةً فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ، وَشَاةٌ مَعْلُوفَةٌ فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ السَّوْمُ أَغْلَبَ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الْإِسْقَاطِ، كَذَلِكَ مَنْ معه أربعون شاة، إذا سمت كُلُّهَا فِي بَعْضِ الْحَوْلِ، وَعُلِفَتْ فِي بَعْضِهِ، لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ السَّوْمُ أَغْلَبَ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الْإِسْقَاطِ، فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الزُّرُوعِ فَلِلشَّافِعِيِّ فِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا اعْتِبَارَ بالأغلب والفرق بينهما الاعتبار بالأغلب فعلى هذا السوآل ساقط.

(3/190)


وَالثَّانِي: الِاعْتِبَارُ بِالْأَغْلَبِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الزَّرْعَ لَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ إِسْقَاطٍ وَإِيجَابٍ، فَلِذَلِكَ اعْتُبِرَ حُكْمُ الْأَغْلَبِ فِيهِ، وَالْمَاشِيَةُ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ إِسْقَاطٍ وإيجاب، فلذلك غلب حكم الإسقاط والله أعلم بالصواب.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ " (قَالَ) وَلَا صَدَقَةَ فِي خيلٍ وَلَا فِي شيءٍ مِنَ الْمَاشِيَةِ عَدَا الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ بِدَلَالَةِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في ذلك (قال المزني) قال قائلون في الإبل والبقر والغنم المستعملة وغير المستعملة ومعلوفة وغير معلوفةٍ سواء فالزكاة فيها لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فرض فيها الزكاة وهو قول المدنيين يقال لهم وبالله التوفيق وكذلك فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الزكاة في الذهب والورق كما فرضها في الإبل والبقر فزعمتم أن ما استعمل من الذهب والورق فلا زكاة فيه وهي ذهب وورق كما أن الماشية إبلٌ وبقرٌ فإذا أزلتم الزكاة عما استعمل من الذهب والورق فأزيلوها عما استعمل من الإبل والبقر لأن مخرج قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في ذلك واحدٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
أَمَّا الرَّقِيقُ فَلَا يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ أَنْ لَا زَكَاةَ فِي أَعْيَانِهِمْ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا لِلتِّجَارَةِ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِي قِيمَتِهِمْ، أَوْ فِي الْفِطْرِ فَتَجِبُ زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْهُمْ، وَلِهَذَا مَوْضِعٌ فَأَمَّا الْخَيْلُ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا بِحَالٍ كَالْحَمِيرِ وَالْبِغَالِ، سَوَاءٌ كَانَتْ سَائِمَةً أَوْ مَعْلُوفَةً ذُكُورًا أَوْ إِنَاثًا هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ، وأبي يوسف ومحمد.
وَقَالَ أبو حنيفة وزفر: إِنْ كَانَتْ مَعْلُوفَةً فَلَا زَكَاةَ فِيهَا كَالْمَاشِيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ سَائِمَةً: فَإِنْ كَانَتْ ذُكُورًا فَلَا زَكَاةَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ إِنَاثًا أَوْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَفِيهَا الزَّكَاةُ، وَرَبُّهَا بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخْرَجَ عَنْ كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَهَا وَأَخْرَجَ رُبُعَ عُشْرِ الْقِيمَةِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ نصاب، احتجاجاً برواية جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: فِي كُلِّ فرسٍ سَائِمَةٍ دينارٌ، وَلَيْسَ في المرابطة شيء وبرواية عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال " الخيل ثلاث لرجلٍ أجرٌ ولآخر شينٌ، وَعَلَى آخَرَ وِزْرٌ، فَأَمَّا الَّذِي لَهُ الْأَجْرُ فَالَّذِي يُمْسِكُهَا تَعَفُّفًا وَتَجَمُّلًا، فَلَا يَنْسَى حَقَّ الله في طهورها ورقابها " ومما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه

(3/191)


قَالَ: " خَيْرُ الْمَالِ سكةٌ مأبورةٌ، ومهرةٌ مأمورةٌ "، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ خِيَارِ الْمَالِ كَانَ وُجُوبُهَا فِيهِ أَوْلَى مِنْ وُجُوبِهَا فِي شِرَارِهِ، قالوا: ولأنه ذو أربعة أهلي يؤكل لحمه فوجب فِيهِ الزَّكَاةُ كَالْغَنَمِ. قَالُوا وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا تجب في الماشية لظهرها ونسلها، وفي الخيل السَّائِمَةُ هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيهَا، فَاقْتَضَى أَنْ تَجِبَ الزَّكَاةُ فِيهَا.
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صدقةٌ " وَرَوَى أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صدقةٌ إِلَّا صَدَقَةُ الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ " وَرَوَى عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " عفوت لكم عن صدقة الخيل ".
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا صَدَقَةَ فِي فرسٍ وَلَا عبدٍ ".
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَيْسَ فِي الْجَبْهَةِ وَلَا فِي النُّخَّةِ وَلَا فِي الكسعةِ صدقةٌ ".
فَالْجَبْهَةُ: الْخَيْلُ، وَالْكَسْعَةُ: الْحَمِيرُ، فَأَمَّا النُّخَّةُ فَأَبُو عُبَيْدَةَ يَرْوِيهَا بِضَمِّ النُّونِ وَهِيَ الرَّقِيقُ، وَالْكِسَائِيُّ يَرْوِيهَا بِفَتْحِ النُّونِ، وَقَالَ هِيَ الْبَقَرُ الْعَوَامِلُ بِلُغَةِ الْحِجَازِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ النَّخَّةُ أَنْ يَأْخُذَ الْمُصَدِّقُ دِينَارًا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَأَنْشَدَ:
(عَمِّي الَّذِي مَنَعَ الدِّينَارَ ضاحيةُ ... دِينَارَ نَخَّةِ كلبٍ وَهْوَ وشهودُ)

وَرُوِيَ أَنَّ أَهْلَ الشَّامِ كَتَبُوا إِلَى عُمَرَ فَقَالُوا: قَدْ كَثُرَ عِنْدَنَا الْخَيْلُ وَالرَّقِيقُ فَزَكِّهِ لنا فقال: لا آخذ شيئاً لم يأخذه صَاحِبَايَ، وَسَأَسْتَشِيرُ فَاسْتَشَارَهُمْ فَقَالُوا: حَسَنٌ وَعَلِيٌّ عَلَيْهِ السلام ساكت، فقال: مَا تَقُولُ يَا أَبَا الْحَسَنِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ إِنْ لَمْ تَكُنْ جِزْيَةً رَاتِبَةً مِنْ بعدك،

(3/192)


فَأَخَذَ عُمَرُ مِنْ كُلِّ عَبْدٍ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ، وَرَزَقَهُ جَرِيبَيْنِ، وَمِنْ كُلِّ فَرَسٍ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ، وَرَزَقَهُ عَشْرَةَ أَجْرِبَةٍ شَعِيرًا.
قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: فَأَعْطَاهُمْ أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَ مِنْهُمْ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ وَلَمْ تَكُنْ جِزْيَةً، ثُمَّ صَارَ جِزْيَةً رَاتِبَةً فِي زَمَنِ الْحَجَّاجِ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ وَلَا يُعْطَوْنَ.
فَالدَّلَالَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: إِنَّهُمْ سَأَلُوهُ وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَبَدَأَهُمْ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ قَالَ لَمْ يَأْخُذْ صَاحِبَايَ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَأَخَذَاهَا.
وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ اسْتَشَارَ وَلَوْ كَانَ نَصٌّ مَا اسْتَشَارَ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: إِنْ أَمِنْتَ أَنْ لَا تَكُونَ جِزْيَةً رَاتِبَةً فَافْعَلْ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَكَانَتْ رَاتِبَةً.
وَالْخَامِسُ: أَنَّ عُمَرَ أَعْطَاهُمْ فِي مُقَابَلَتِهَا رِزْقًا، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئًا.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى: أَنْ يُقَالَ كُلُّ جِنْسٍ مِنَ الْحَيَوَانِ لَا تَجِبُ الزكاة في ذكوره إِذَا انْفَرَدَتْ لَا تَجِبُ فِي ذُكُورِهِ وَإِنَاثِهِ كَالْحَمِيرِ وَالْبِغَالِ، وَعَكْسُهُ الْمَوَاشِي، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يُسْهَمُ لَهُ فَشَابَهَ الذُّكُورَ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَا يُضَحَّى بِهِ فَأَشْبَهَ الْحَمِيرَ، وَلِأَنَّهُ ذُو حَافِرٍ فَشَابَهَ الذُّكُورَ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَمْ يَجِبْ فِيهِ مِنْ جِنْسِهِ فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ كَالدَّجَاجِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فَرِوَايَةُ غَوْرَكَ السَّعْدِيِّ وَهُوَ مَجْهُولٌ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ استعمالاً وترجيحاً.
فَأَمَّا الِاسْتِعْمَالُ فَفِي زَكَاةِ التِّجَارَةِ، وَيَكُونُ ذِكْرُ الدِّينَارِ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيبِ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ نَصَّ عَلَى السَّوْمِ وَالسَّوْمُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي زَكَاةِ التِّجَارَةِ، قِيلَ إِنَّمَا ذَكَرَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ليفرق بينه وبين الغنم، فَلَا يَظُنُّ أَنَّ سَوْمَهَا مُسْقِطٌ لِزَكَاةِ التِّجَارَةِ كَمَا أَسْقَطَهَا مِنَ النَّعَمِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَأَمَّا التَّرْجِيحُ: فَقَدْ عَارَضَهُ قَوْلُهُ: " عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ " وَهُوَ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ بَعْضِهِ وَهُوَ الرَّقِيقُ مُخْتَلَفٌ فِي اسْتِعْمَالِ بَعْضِهِ وَهُوَ الْخَيْلُ، وَخَبَرُهُمْ مُخْتَلَفٌ فِي اسْتِعْمَالِ جَمِيعِهِ، فَكَانَ خَبَرُنَا أَوْلَى.
وَالثَّانِي: إِنَّ خَبَرَهُمْ مُتَقَدِّمٌ وَخَبَرَنَا مُتَأَخِّرٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ " عَفَوْتُ " يَدُلُّ عَلَى إِيجَابٍ مُتَقَدِّمٍ، وَالْمُتَأَخِّرُ أَوْلَى، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَالْجَوَابُ عَنْهُ قَرِيبٌ مِنْ جَوَابِ مَا تَقَدَّمَ، أو يحمل

(3/193)


على الجهاد، لأنه قال " ولا تنس حَقَّ اللَّهِ فِي ظُهُورِهَا وَرِقَابِهَا " وَالزَّكَاةُ لَا تَجِبُ فِي الظَّهْرِ وَإِنَّمَا الْجِهَادُ عَلَى الظَّهْرِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ " خَيْرُ الْمَالِ سِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ " فَالْمُرَادُ بِهِ الْإِخْبَارُ عَنْ فَضْلِ الْجِنْسِ دُونَ إِيجَابِ الزَّكَاةِ، وَقَدْ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي خِيَارِ الْمَالِ كَالْمَعْلُوفَةِ، وَتَجِبُ فِي شِرَارِهِ كَمِرَاضِ السَّائِمَةِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى النَّعَمِ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي ذُكُورِهَا، فَلِذَلِكَ وَجَبَتْ فِي إِنَاثِهَا وَلَمَّا لَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ فِي ذُكُورِ الْخَيْلِ لَمْ تَجِبْ فِي إِنَاثِهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إن زكاة الماشية وجب لِظُهُورِهَا وَنَسْلِهَا فَغَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ لِدَرِّهَا وَنَسْلِهَا، وَالْخَيْلُ لَا دَرَّ لَهَا فَلَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ فِيهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(3/194)