الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

باب صدقة الزرع
قال الشافعي فِي قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) {الأنعام: 141) دلالةٌ عَلَى أَنَّهُ إِنَمَا جَعَلَ الزَّكَاةَ على الزرع ".
أَمَّا الزُّرُوعُ فَمِنَ الْأَمْوَالِ الْمُزَكَّاةِ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ في أجناس ما تجب فيه الزَّكَاةُ، فَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ سَبْعَةُ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ إِنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِيمَا زَرَعَهُ الْآدَمِيُّونَ قُوتًا مُدَّخَرًا، وَبِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: إِنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ لَا غَيْرَ، قَالَ بِهِ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ لَا غَيْرَ، قَالَ بِهِ أَبُو ثَوْرٍ.
وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ في كل زرع نبت من بزره وأخذ بزره مِنْ زَرْعِهِ قَالَ بِهِ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ.
وَالْمَذْهَبُ الْخَامِسُ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ فِي الْحُبُوبِ الْمَأْكُولَةِ غَالِبًا مِنَ الزُّرُوعِ قَالَ بِهِ مَالِكٌ.
والمذهب السادس: أنها واجبة في الْحُبُوبِ الْمَأْكُولَةِ. وَالْقُطْنِ أَيْضًا قَالَ بِهِ أبو يوسف.
وَالْمَذْهَبُ السَّابِعُ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ مزروع ومغروس من فواكه وبقال وَحُبُوبٍ وَخُضَرٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة اسْتِدْلَالًا بعموم قَوْله تَعَالَى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ) {البقرة: 267) . وبعموم قوله: {وَالزّيْتُونَ والرُّمَانَ) {الأنعام: 141) . إِلَى قَوْلِهِ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) {الأنعام: 141) : وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ " وَهُوَ عَلَى عُمُومِهِ، وَلِأَنَّهُ مَزْرُوعٌ فَاقْتَضَى أَنْ يَجِبَ عُشْرُهُ كَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ

(3/238)


السَّلَامُ وَرَوَاهُ مُوسَى بْنُ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ طَلْحَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ ".
وَرَوَى أَبَانُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْبُقُولِ زَكَاةٌ ".
وروى الأسود عن عاشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: ليس فيما أنبتت الأرض من الخضراوات زَكَاةٌ.
وَرَوَى مُوسَى بْنُ طَلْحَةَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ [فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بنضحٍ أَوْ غربٍ] فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ "، يَكُونُ ذَلِكَ فِي التَّمْرِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْحُبُوبِ، فأما الْبِطِّيخُ وَالْقِثَّاءُ وَالْخَضْرَاوَاتُ فَعَفْوٌ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا، ولأنه نبت لا يقتات غالباً فاقتضى أنه لَا يَجِبَ فِيهِ الْعُشْرُ كَالْحَشِيشِ وَالْحَطَبِ، وَلِأَنَّ الزكاة إذا وجبت في جنس فِيهِ الْعُشْرُ كَالْحَشِيشِ وَالْحَطَبِ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ إِذَا وَجَبَتْ فِي جِنْسٍ تَعَلَّقَتْ بِأَعْلَى نَوْعَيْهِ وَسَقَطَتْ عن أدونهما، كالحيوان لم تجب الزكاة إِلَّا فِي أَعْلَى نَوْعَيْهِ وَهُوَ النَّعَمُ السَّائِمَةُ، وَكَالْمَعَادِنِ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ إِلَّا فِي أَعْلَى نوعيها وهي الفضة والذهب، وكالعروض ولم تَجِبِ الزَّكَاةُ إِلَّا فِي أَعْلَى نَوْعِهَا وَهِيَ عروض التجارات، فاقتضى أن تكون زكاة الزُّرُوعُ مُتَعَلِّقَةً بِأَعْلَى نَوْعَيْهِ دُونَ الْآخَرِ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: إِنَّهُ جِنْسُ مَالٍ تَجِبُ فِيهِ الزكاة فوجب أن تختص الزكاة بأعلى نوعين مِنْ جِنْسِهِ كَالْحَيَوَانِ.

(3/239)


فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {أنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ) {البقرة: 267) فَهِيَ عَامَّةٌ وَلَا بُدَّ مِنْ دعوى الإضمار فيها، فأما أبو حنيفة يقول إلا الفضة وَنَحْنُ نَقُولُ إِلَّا مَا يُقْتَاتُ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْإِضْمَارَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ فَتَعَارَضَا، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ فِي الْخَضْرَوَاتِ شَيْءٌ يَخُصُّهُ، وَبِهَذَا الْجَوَابِ يَنْفَصِلُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) {الأنعام: 141) وَيَنْفَصِلُ عَنْهُ أَيْضًا بِجَوَابَيْنِ آخَرِينَ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الزَّكَاةِ مِنْ صَدَقَةٍ يَتَطَوَّعُ بِهَا يَوْمَ الْحَصَادِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَمَرَ بِإِيتَاءِ حَقِّهِ، وَلَمْ يَقُلْ حَقَّ اللَّهِ مِنْهُ، وَلَيْسَ لِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ حَقٌّ، وَإِنَّمَا الْحَقُّ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَنَا بِإِخْرَاجِهِ يَوْمَ حَصَادِهِ، وَالزَّكَاةُ لَا يجب إخراجها يوم الحصاد إلا بعد الجز وَالدِّيَاسِ فَبِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، فَهَذَا أَحَدُ الْجَوَابَيْنِ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الزَّكَاةِ إِلَّا أَنَّهُ عَلَّقَ الزَّكَاةَ بِمَا كَانَ مِنْهُ مَحْصُودًا، وَالْحَصَادُ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ فِي الأشجار والقثاء والخيار، فإن قبل الحصاد هو الاستعمال قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدينَ) {الأنبياء: 15) وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أحصدهم حصيداً حتى تلقني عَلَى الصَّفَا " وَإِذَا كَانَ الْحَصْدُ هُوَ الِاسْتِئْصَالُ صار تقدير الآية وآتو حقه يوم اسْتِئْصَالِهِ، وَهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِزَرْعٍ مِنْ غَيْرِهِ، قِيلَ: عَنْ هَذَا جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَقِيقَةَ الْحَصَادِ فِي الزُّرُوعِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي غيره، يقال حصد الزرع وجذّ التمر، وقطف العنب وجد الْبَقْلُ وَجُنِيَ الْفَاكِهَةُ قَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
(هَذَا جَنَايَ وَخِيَارُهُ فِيهِ ... إِذْ كُلُّ جانٍ يَدُهُ إِلَى فِيهِ)

وَقَالَ الشَّاعِرُ:
(إِذَا لَمْ يكن فيكن ظل ولا جناً ... فَأَبْعَدَكُنَّ اللَّهُ مِنْ شَجَرَاتِ)

وَالْجَوَابُ الثَّانِي: إِنَّنَا وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْحَصَادَ هُوَ الِاسْتِئْصَالُ فَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ لِأَنَّ الثِّمَارَ لَا تُسْتَأْصَلُ بَلْ تُتْرَكُ أُصُولُهَا وَتُجْنَى ثِمَارُهَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ظَاهِرُ الْآيَةِ مُسْتَعْمَلًا تَكَافَأَ النِّزَاعُ فِيهَا وَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهَا، فَأَمَّا قَوْلُهُ فِيمَا سَقَتِ السماء العشر فجوابه كجواب الآية الأولى فنقول قَدْ رَوَاهُ مُعَاذٌ تَامًّا فَقَالَ: وَأَمَّا الْبِطِّيخُ وَالْقِثَّاءُ وَالْخَضْرَاوَاتُ فَعَفْوٌ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا، فَكَانَ هذا مخصصاً لعموم ما تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ فَالْمَعْنَى فِيهِ: إِنَّهُ مُقْتَاتٌ فَلِذَلِكَ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَالْخَضْرَاوَاتُ لَمَّا كَانَتْ غَيْرَ مُقْتَاتَةٍ شَابَهَتِ الْحَشِيشَ والحطب فلم تجب فيها الزكاة.

(3/240)


مسألة:
قال الشافعي: " فَمَا جَمَعَ أَنْ يَزْرَعَهُ الْآدَمِيُّونَ وَيُيَبَّسُ وَيُدَّخَرُ ويقتات مأكولاً خبزاً وسويقاً أو بطيخاً ففيه الصدقة وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أخذ الصدقة من الحنطة والشعير والذرة وهذا مما يزرع ويقتات ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
إِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي الزُّرُوعِ الْمُقْتَاتَةِ فوجوبها معتبر بأربعة شروط:
أَحَدُهَا: أَنْ يَزْرَعَهُ الْآدَمِيُّونَ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُيَبَّسُ بَعْدَ حَصَادِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُدَّخَرُ بَعْدَ يُبْسِهِ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُقْتَاتُ حَالَ ادِّخَارِهِ وَإِنِ اخْتَلَفَ وَجْهُ اقتنائه بخبز أو طبيخ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الشَّرَائِطُ الْأَرْبَعُ فِي زَرْعٍ وَجَبَتِ الزَّكَاةُ فِيهِ، وَهِيَ تَجْتَمِعُ فِي الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالْعَلْسِ، وَالسُّلْتِ وَالذُّرَةِ وَالْأَرُزِّ والدُّخْنِ وَالْجَاوَرْسِ والباقلي واللوبياء وَالْحِمَّصِ وَالْعَدَسِ وَالْمَاشِ وَالْجُلْبَانِ وَهُوَ كَالْمَاشِ، فَهَذِهِ الأصناف التي تجب فيها الزكاة دون سواها لاجتماع الشرائط فيها.

مسألة:
قال الشافعي: " ويؤخذ من العلس وهو الحنطة، والسُّلْتِ وَالْقَطَنِيَّةِ كُلِّهَا إِذَا بَلَغَ الصِّنْفُ الْوَاحِدُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، وَالْعَلْسُ وَالْقَمْحُ صِنْفٌ واحدٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
لَا زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحُبُوبِ الْمُزَكَّاةِ إِلَّا أَنْ يَبْلُغَ الصِّنْفُ مِنْهَا خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، وَأَوْجَبَ أبو حنيفة الزَّكَاةَ فِي قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي الثِّمَارِ فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ، فَإِنْ كَانَ الصِّنْفُ دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ إِلَّا الْعَلْسَ فَإِنَّهُ صِنْفٌ مِنَ الْبُرِّ وَعَلَيْهِ قِشْرَتَانِ تَذْهَبُ بِالدِّيَاسِ، إِحْدَاهُمَا وَتَبْقَى الْأُخْرَى لَا تَذْهَبُ إِلَّا أَنْ يُدَقَّ بِالْمِهْرَاسِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَخْبَرَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِمَّنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّ القشرة التي عليه مثل ضعفه، فَلَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ حَتَّى يَبْلُغَ عَشْرَةَ أَوْسُقٍ مَعَ قِشْرِهِ، وَقَدْ مَنَعَ أَصْحَابُنَا مِنَ السَّلَمِ فِيهِ وَمِنْ بَيْعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَأَمَّا الْأَرُزُّ فَعَلَيْهِ قِشْرَتَانِ، الْقِشْرَةُ الْأُولَى الَّتِي لَا يطبخ بها، ولا يؤكل معها لاحتساب بها كقشرة العلس التي لا يطبخ بِهَا وَالْقِشْرَةُ السُّفْلَى الْحَمْرَاءُ اللَّاصِقَةُ بِهِ، فَقَدْ كَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَجْعَلُهَا كَقِشْرَةِ الْعَلْسِ لَا يُحْتَسَبُ بِهَا، وَلَا يَجْعَلُ فِيهِ الزَّكَاةَ حَتَّى يَبْلُغَ عَشْرَةَ أَوْسُقٍ.
وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا: لَا تَأْثِيرَ لِهَذِهِ الْقِشْرَةِ، وَإِذَا بلغ خمسة أوسق وجبت في الزَّكَاةُ، لِالْتِصَاقِ هَذِهِ الْقِشْرَةِ بِهَا، وَإِنَّهُ رُبَّمَا طُحِنَ مَعَهَا بِخِلَافِ قِشْرَةِ الْعَلْسِ الْجَافِيَةِ عَنْهَا، وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِطَحْنِهَا مَعَهُ، وَأَمَّا الذُّرَةُ الْبَيْضَاءُ وَالْحَمْرَاءُ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ أَخْبَرَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّ عَلَيْهِ

(3/241)


قِشْرَةً خَفِيفَةً لَاصِقَةً بِهَا تُطْحَنُ مَعَهَا، فَلَا تَأْثِيرَ لَهَا وَلَا اعْتِبَارَ بِهَا، وَهَذَا يُوَضِّحُ مَا ذَكَرْنَا فِي الْأَرُزِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي: " وَلَا يُضَمُّ صِنْفٌ مِنَ الْقَطْنِيَّةِ انْفَرَدَ بِاسْمٍ إِلَى صِنْفٍ وَلَا شَعِيرٌ إِلَى حنطةٍ وَلَا حبةٌ عرفت باسم منفرد إلى غيرها فاسم القطنية يجمع العدس والحمص قيل ثم ينفرد كل واحد باسم دون صاحبه وقد يجمعها اسم الحبوب فإن قيل فقد أخذ عمر العشر من النبط في القطنية قيل وأخذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - العشر من التمر والزبيب وأخذ عمر العشر من القطنية والزبيب أفيضم ذلك كله ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْقَطْنِيَّةُ وَهِيَ الْحُبُوبُ الْمُقْتَاتَةُ سوى البر والشعير كالحمص والباقلي والعدس وَاللُّوبْيَاءِ، وَالْأَرُزِّ وَمَا ذَكَرْنَا، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا قاطنة في المنزل أَرْبَابِهَا إِذَا ادُّخِرَتْ أَيْ: مُقِيمَةٌ.
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ ضَمَّ الْقَطْنِيَّةَ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ وجعلها جنساً واحداً، واعتبر خمسة أوسق من جميعها وجعل البر والشعير جنساً واحداً أو اعتبر خَمْسَةَ أَوْسُقٍ مِنْهَا تَعَلُّقًا، بِأَنَّ اسْمَ الْقَطْنِيَّةِ جَامِعٌ، وَإِنْ كَانَتْ أَنْوَاعًا كَمَا أَنَّ اسْمَ التَّمْرِ جَامِعٌ وَإِنْ كَانَ أَنْوَاعًا ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ أَنْوَاعَ التَّمْرِ يُضَمُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فَكَذَلِكَ أَنْوَاعُ الْقَطْنِيَّةِ يَجِبُ ضَمُّ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخَذَ الْعُشْرَ مِنَ الْقَطْنِيَّةِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا زكاةَ فِي الزَّرْعِ إِلَّا فِي أربعةٍ الْبُّرِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا حَتَّى يَبْلُغَ كُلُّ واحدٍ منها خمسة أوسق، ولأنها جِنْسَانِ لَا يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ فِي بَيْعِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فَلَمْ يَجُزْ ضَمُّ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ كَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَلِأَنَّ الزَّكَوَاتِ لَا تَخْلُو مِنْ أن تكون متعلقة بالأسامي الجامعة أو الأسامي الْخَاصَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ بِالْأَسَامِي الْجَامِعَةِ وَجَبَ أَنْ تُضَمَّ الْحُبُوبُ كُلُّهَا، لِأَنَّ اسْمَ الْحُبُوبِ يَجْمَعُهَا والماشية كلها لأن اسم الحيوانات يجمعها والتمر والزبيب، لأن اسم الثمر يجمعها، فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْأَسَامِي الْخَاصَّةِ الَّتِي تَجْمَعُ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً كَالتَّمْرِ يَجْمَعُ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً يَقَعُ عَلَى جَمِيعِهَا اسْمُ التَّمْرِ، والعنب يجمع أنواعاً مختلفة يقع على جميع اسْمُ الْعِنَبِ، كَذَا كُلُّ صِنْفٍ مِنَ الْقَطْنِيَّةِ لَهُ اسْمٌ خَاصٌّ يَجْمَعُ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً، وَبِهَذَا يفسد ما استدل به وما رواه عن عُمَرُ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ الزَّكَاةَ مِنَ الْمَاشِيَةِ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى ضَمِّ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، فَكَذَا فِي الْقَطْنِيَّةِ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْبُرُّ وَأَنْوَاعُهُ صِنْفٌ، وَالْعَلْسُ نَوْعٌ مِنْهُ وَالشَّعِيرُ وَأَنْوَاعُهُ صِنْفٌ، وَالسُّلْتُ نَوْعٌ مِنْهُ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ هُوَ صِنْفٌ عَلَى حِيَالِهِ، وَالدُّخْنُ وَأَنْوَاعُهُ صِنْفٌ، والجاروس نَوْعٌ مِنْهُ، ثُمَّ مَا سِوَى هَذِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَصْنَافٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَإِنْ تَنَوَّعَتْ فَلَا ضم صنف منها إلى صنف.

(3/242)


مسألة:
قال الشافعي: " قال وَلَا يَبِينُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنَ الْفَثِّ وَإِنْ كَانَ قُوتًا وَلَا مِنْ حَبِّ الْحَنْظَلِ وَلَا مِنْ حَبِّ شجرةٍ بريةٍ كَمَا لَا يُؤْخَذُ مِنْ بقرِ الْوَحْشِ وَلَا مِنَ الظِّبَاءِ صَدَقَةٌ ولا من القثاء ولا الاسفيوش ولا من حبوب البقول وكذلك القثاء والبطيخ وحبه ولا من العصفر ولا من حب الفجل ولا من السمسم ولا من الترمس لأني لا أعلمه يؤكل إلا دواء أو تفكها ولا من الأبذار ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا مَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَمَا لَا يَجِبُ، ثُمَّ خَصَّ الشَّافِعِيُّ بالذكر أشياء كيلا تشتبه وَإِنْ كَانَتْ مُقْتَاتَةً فَمِنْ ذَلِكَ الْفَثُّ قَالَ ابن أبي هريرة: هو حب الغاسول وَهُوَ الْأُشْنَانُ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ نَبْتٌ بِالْبَادِيَةِ يُشْبِهُ الشَّعِيرَ لَهُ رَأْسَانِ يَقْتَاتُهُ النَّاسُ فِي الْجَدبِ، وَلَا زَكَاةَ فِيهِ وَكَذَلِكَ حَبُّ الْحَنْظَلِ ونبت شجر البر، وكذلك الثفاء وَهُوَ: حَبُّ الرَّشَادِ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: تؤدي في الأمرين الثفاء والصبر، والثفاء والصبر قيل إنه البقل الحريف، ولا زكاة في الأسبيوش وهو بزر القطونا، ولا في حب الفجل والقثاء والبطيخ، وفي حَبِّ الْعُصْفُرِ، وَهُوَ الْقرْطمُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا خَرَّجَ فِيهِ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ، وَلَا في الترمس وهو أصغر من الأسبيوش يَضْرِبُ إِلَى الصُّفْرَةِ فِيهِ ضَرْبٌ مِنَ الْمَرَارَةِ، يُكْسَرُ بِالْمِلْحِ، يَأْكُلُهُ أَهْلُ الشَّامِ تَفُكُّهًا، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ تَدَاوِيًا وَلَا زَكَاةَ فِي الْحُلْبَةِ، وَلَا في الشهدانج، وَلَا فِي بَزْرِ الْكِتَّانِ، وَلَا فِي الْكُزْبَرَةِ وَالْكَمُّونِ وَالْكَرَاويَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا زَكَاةَ فِي الْحُلْوَانِ وَلَا فِي الْجُلْجُلَانِ فَسَّرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ في " غريب الحديث " فقال الحلوان: العيدق، وَالْجُلْجُلَانُ السِّمْسِمُ، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَا أُكِلَ مِنَ النَّبَاتِ ضَرْبَانِ: مَزْرُوعٌ، وَغَيْرُ مَزْرُوعٍ، فَمَا كَانَ غَيْرَ مَزْرُوعٍ لَا زَكَاةَ فِيهِ وَمَا كَانَ مَزْرُوعًا عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ ضَرْبٌ يُؤْكَلُ قوتاً كالبر والشعير وما ذكرنا فِيهِ وَاجِبَةٌ وَضَرْبٌ يُؤْكَلُ تَفَكُّهًا كَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالرُّمَّانِ وَالسَّفَرْجَلِ وَغَيْرِهِ، وَلَا زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، وَضَرْبٌ يُؤْكَلُ أبْزَارًا وَأُدْمًا كَالْكَرَاويَا وَالْكُزْبَرَةِ، وَلَا زَكَاةَ فِيهِ، وَضَرْبٌ يُؤْكَلُ تَدَاوِيًا كَالرَّشَادِ وَالْإِهْلِيلَجِ، وَلَا زَكَاةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّتِ الزَّكَاةُ بِالْأَقْوَاتِ، لِأَنَّهَا مُوَاسَاةٌ فَاخْتَصَّتْ بِمَا عَمَّ نَفْعُهَا ودعت حاجة الكافة إليها.

مسألة:
قال الشافعي: " ولا تؤخذ زكاة شيءٍ مما ييبس ويداس وييبس ثمره وزبيبه وينتهي ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ زَكَاةَ الثِّمَارِ تَجِبُ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ وَأَدَاؤُهَا بَعْدَ الْيُبْسِ وَالْجَفَافِ، فَإِذَا صَارَ الرُّطَبُ تَمْرًا وَالْعِنَبُ زَبِيبًا أُخِذَتْ زَكَاتُهُمَا، فَأَمَّا الزَّرْعُ فَتَجِبُ زَكَاتُهُ إِذَا يَبِسَ وَاشْتَدَّ وَقَوِيَ وَاسْتَحْصَدَ، وَتُؤَدَّى زَكَاتُهُ بَعْدَ دِيَاسِهِ وَتَصْفِيَتِهِ إِذَا صَارَ حَبًّا خَالِصًا، ومؤنته من وقت حصاده إلى حِينِ تَذْرِيَتِهِ وَتَصْفِيَتِهِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ دُونَ أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: الْمُؤْنَةُ مِنْ وَسَطِ الْمَالِ لَا يَخْتَصُّ بِهَا رَبُّ الْمَالِ دُونَ أَهْلِ السُّهْمَانِ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي

(3/243)


الْمِلْكِ، وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْأَدَاءِ عَنْ وَقْتِ الْحَصَادِ إِلَى وَقْتِ التَّصْفِيَةِ إِنَّمَا وَجَبَ لِتَكَامُلِ مَنَافِعِهِ، وَإِذَا وَجَبَ الْأَدَاءُ بَعْدَ تَكَامُلِ المنافع فالمؤنة عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ التَّسْلِيمِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَمْ يَجُزْ أَخْذُ شَيْءٍ مِنَ الْحُبُوبِ الْمُزَكَّاةِ إِلَّا بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنْ كِمَامِهَا إِلَّا الْعَلْسَ إِذَا بَقِيَ فِي إِحْدَى قِشْرَتَيْهِ فَإِنَّ الشافعي قال: أخير رب المال بَيْنَ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ كُلِّ عَشْرَةِ أَوْسُقٍ مِنْهُ وَسْقًا، لِأَنَّهُ بِهَذِهِ الْقِشْرَةِ أَبْقَى، وَبَيْنَ أن يخرجه من هذه العشرة وَآخَذُ مِنْ كُلِّ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ الْعُشْرَ، فَأَمَّا الْحِنْطَةُ فَلَا يَجُوزُ أَخْذُهَا فِي سُنْبُلِهَا وَإِنْ كانت فيه أبقى لتعذر كيلها.

مسألة:
قال الشافعي: " وَإِنْ أَخَذَهُ رُطَبًا كَانَ عَلَيْهِ رَدُّهُ أَوْ رَدُّ قِيمَتِهِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ وَأَخَذَهُ يَابِسًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ إِخْرَاجَ زَكَاةِ الثِّمَارِ بَعْدَ الْيُبْسِ وَالْجَفَافِ، وَالزُّرُوعِ بَعْدَ الدِّيَاسِ وَالتَّصْفِيَةِ، فَلَوْ أَخَذَ الْوَالِي زَكَاةَ النَّخْلِ رُطَبًا، وَالْكَرْمَ عِنَبًا وَالزَّرْعَ سُنْبُلًا كَانَ مُسِيئًا بِهِ، وَلَزِمَهُ رَدُّهُ، وَأَخَذَ الزَّكَاةَ بَعْدَ الْجَفَافِ وَالدِّيَاسِ، فإن تلف من يده قبل رده ولزمه رَدُّ قِيمَتِهِ عَلَى رَبِّهِ، وَالْمُطَالَبَةُ بِالزَّكَاةِ بَعْدَ الْيُبْسِ وَالْجَفَافِ، فَلَوْ كَانَ مَا أَخَذَهُ رُطَبًا باقياً فيبس في يده، فإن كان بقدر الزَّكَاةِ لَمْ يَرُدَّهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَقَدْ أجزأته عَنْ زَكَاتِهِ وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا عَنْ قَدْرِ الزكاة طالبه رطبه بِمَا بَقِيَ مِنْهَا لَا غَيْرَ.

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي: " ولا أجيز بيع بعضه ببعضٍ رطباً لاختلاف نقصانه والقشر مقاسمة كالبيع ".
قال الماوردي: وهذا صحيح، كل تمرة لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِيَابِسٍ مِنْ جِنْسِهَا، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ رُطَبِهَا بِرُطَبِهَا، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ، وَلَا بَيْعُ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ، وَلَا بَيْعُ الْعِنَبِ بِالْعِنَبِ، وَلَا بَيْعُ الزَّبِيبِ بِالْعِنَبِ، وهذا يأتي في كتاب البيوع مستوفى ويذكر الْخِلَافَ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ بَعْدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالْعُشْرُ مُقَاسَمَةٌ كَالْبَيْعِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ فِي الْقِسْمَةِ قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا كالبيع.
والثاني: أنها إقرار حق وتمييز نصب، وَسَيَجِيءُ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ، فَإِذَا قِيلَ إِنَّهَا كَالْبَيْعِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْتَسِمَ الشُّرَكَاءُ ثِمَارًا رُطَبَةً، وَإِذَا قِيلَ إنها إقرار حَقٍّ جَازَ اقْتِسَامُهُمْ لَهَا كَيْلًا وَوَزْنًا وَلَمْ يجز جزافاً، لأن حق كل واحد لَا يَتَمَيَّزُ وَأَمَّا قِسْمَةُ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَأَهْلِ السُّهْمَانِ فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهَا مُقْنِعًا وَاللَّهُ أعلم.

مسألة:
قال الشافعي: " وَلَوْ أَخَذَهُ مِنْ عِنَبٍ لَا يَصِيرُ زَبِيبًا أو من رطب لا يصير تمراً أمرته برده لما وصفت وكان شريكاً فيه يبيعه ولو قسمه عنباً موازنة كرهته له ولم يكن عليه غرمٌ ".

(3/244)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَذَكَرْنَا حكم ما لا يصير من الرطب تمراً، وَمِنَ الْعِنَبِ زَبِيبًا، ثُمَّ أَعَادَ الْمَسْأَلَةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَالَ: " إِنْ أَخَذَهُ أَمَرْتُهُ بِرَدِّهِ " ثم قال عقيبه: " ولو قسمه عنباً موازنة كرهته له وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ غُرْمٌ " وَهَذَا مُتَنَاقِضٌ فِي ظَاهِرِهِ، وَلَكِنْ لِلْكَلَامَيْنِ تَأْوِيلٌ وَهُوَ: أَنَّهُ أَمَرَهُ بِرَدِّهِ إِذَا لَمْ يَتَحَرَّ فِيمَا أَخَذَهُ وَلَا يتعين أنه استوفى في حقه، ثم قال يجزئه إذا أخذه بعد الاستفضاء وَالتَّحَرِّي وَكَانَ عَلَى يَقِينٍ مِنِ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ وَزِيَادَةٍ فَاخْتَلَفَ جَوَابُهُ فِي الرَّدِّ وَالتَّقَاضِي لِاخْتِلَافِ معنى الأخذ والله أعلم.

(3/245)