الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

باب كيف تؤخذ زكاة النخل والعنب بالخرص
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صالحٍ التَّمَّارُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ المسيب بن عَتَّابِ بْنِ أُسَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي زَكَاةِ الْكَرْمِ " يُخْرَصُ كَمَا يُخْرَصُ النَّخْلُ ثُمَّ تُؤَدَّى زكاته زبيبا كما تؤدى زكاة النخل تمراً " وبإسناده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يبعث من يخرص على الناس كرومهم وثمارهم وَاحْتَجَّ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال ليهود خيبر حين افتتح خيبر " أقركم على ما أقركم الله على أن التمر بيننا وبينكم " قال فكان يبعث عبد الله ابن رواحة فيخرص عليهم ثُمَّ يَقُولُ إِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ فلي فكانوا يأخذونه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
إِذَا بَدَا صَلَاحُ ثِمَارِ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ فَقَدْ تَعَلَّقَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ بِهِمَا، وَوَجَبَ خَرْصُهُمَا لِلْعِلْمِ بِقَدْرِ زَكَاتِهِمَا، فَيَخْرُصُهُما رُطَبًا وَيَنْظُرُ الْخَارِصُ كَمْ يَصِيرُ تَمْرًا فَيُثْبِتُهَا تمراً، ثُمَّ يُخَيَّرُ رَبُّ الْمَالِ فِيهَا، فَإِنْ شَاءَ كانت في يده أمانة إلى وقت الحداد وَلَيْسَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا، وَإِنْ شَاءَ كَانَتْ في يده مضمونة وله التصرف فِيهَا ضمنَهَا، فَيُسْتَفَادُ بِالْخَرْصِ الْعِلْمُ بِقَدْرِ الزَّكَاةِ فِيهَا، وَاسْتِبَاحَةُ رَبِّ الْمَالِ التَّصَرُّفَ فِي الثَّمَرَةِ إِنْ شَاءَ بِشَرْطِ الضَّمَانِ، هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ كرم الله وجوههما، وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وأبو ثور.

(3/220)


وَقَالَ أبو حنيفة وَالثَّوْرِيُّ: خَرْصُ الثِّمَارِ لَا يَجُوزُ احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عن الخرص ورواية جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ كُلِّ ذِي ثَمْرَةٍ بخرصٍ، قَالُوا وَلِأَنَّ الْخَرْصَ تَخْمِينٌ وَحَدْسٌ، لِأَنَّ الْخَارِصَ لا يرجع فيه إلى أصل مقدر وَلَا يَعْمَلُ عَلَى مِثَالٍ مُتَقَدِّمٍ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى مَا يَقْوَى فِي نَفْسِهِ وَيَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ، وَقَدْ يُخْطِئُ فِي أَكْثَرِهِ وَإِنْ أَصَابَ فِي بَعْضِهِ فَلَمْ يَجُزِ الْأَخْذُ بِهِ وَلَا الْعَمَلُ عَلَيْهِ، قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ خَرْصُ الثِّمَارِ لِيُعْلَمَ بِهِ قَدْرُ الصَّدَقَةِ لَجَازَ خَرْصُ الزُّرُوعِ لِيُعْلَمَ بِهِ قَدْرُ الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ فِي الزُّرُوعِ لَمْ يَجُزْ فِي الثِّمَارِ.
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: إِنَّهُ جِنْسٌ تَجِبُ فِيهِ الصدقة فلم يجز تقدير ثمرته بالخرص كالزرع، قَالُوا: وَلِأَنَّ خَرْصَ الثِّمَارِ بَعْدَ جِدَادِهَا أَقْرَبُ إِلَى الْإِصَابَةِ مِنْ خَرْصِهَا عَلَى رُؤُوسِ نَخْلِهَا، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ فِي أَقْرَبِهِمَا مِنَ الْإِصَابَةِ لم يجز في أبعدهما، قالوا وَلِأَنَّ الْخَرْصَ عِنْدَكُمْ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْعِلْمُ بِقَدْرِ الصَّدَقَةِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ، لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَوِ ادَّعَى غَلَطًا أَوْ نُقْصَانًا صُدِّقَ.
وَالْحُكْمُ الثَّانِي: تَضْمِينُ رَبِّ الْمَالِ قَدْرَ الصَّدَقَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ بَيْعُ رُطَبٍ بِتَمْرٍ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ بَيْعُ حَاضِرٍ بِغَائِبٍ، فَإِذَا كَانَ مَا يُسْتَفَادُ بِالْخَرْصِ مِنَ الْحُكْمَيْنِ مَعًا بَاطِلًا ثَبَتَ أَنَّ الْخَرْصَ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ الْخَرْصِ وُرُودُ السُّنَّةِ بِهِ، قَوْلًا وَفِعْلًا وَامْتِثَالًا.
فَأَمَّا الْقَوْلُ فيما رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي صَدْرِ الْبَابِ عَنْ عَتَّابِ بْنِ أُسَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " فِي الْكَرْمِ يُخْرَصُ كَمَا يُخْرَصُ النَّخْلُ ثُمَّ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ زَبِيبًا كَمَا تُؤَدَّى زَكَاةُ النَخْلِ تَمْرًا " فَجَعَلَ الْخَرْصَ عَلَمًا لِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ، وجعل لأرباب الأموال أن يودوا زَبِيبًا وَتَمْرًا عَلَى مَا خَرَجَ بِالْخَرْصِ، وَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ مِنَ الْمَالِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا الْفِعْلُ فَمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَصَ حَدِيقَةَ امرأةٍ بِوَادِي الْقُرَى عَشْرَةَ أَوْسُقٍ فَلَمْ تَزِدْ وَلَمْ تَنْقُصْ وَأَمَّا الِامْتِثَالُ فَمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ لَهُ خَرَّاصُونَ مَشْهُورُونَ

(3/221)


ينفذهم لخرص الثمار، منهم حويصة، ومحيصة، وسهل بن أبي حثمة وَعَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وأبي بردة وابن عمر، وَقِيلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَيْضًا فَكَانُوا يَتَوَجَّهُونَ لِخَرْصِ الثِّمَارِ امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ وَاتِّبَاعًا لِرَسْمِهِ، وَرَوَى سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال " إذا خرصتم فدعو لَهُمُ الثُّلُثَ، فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا لَهُمُ الثُلُثَ فَدَعُوا لَهُمُ الرُّبُعَ " وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ تأويل الشافعي في القديم أنه يُتْرَكَ لَهُمُ الثُّلُثُ أَوِ الرُّبُعُ مِنَ الزَّكَاةِ لِيَتَوَلَّوْا إِخْرَاجَهُ فِي فُقَرَاءِ جِيرَانِهِمْ، بَلْ قَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَإِنَّ فِي الْمَالِ الْوَصِيَّةَ وَالْعَرِيَّةَ ".
وَالثَّانِي: أَنْ يُخْرَصَ عَلَيْهِمْ جَمِيعُهُ ثُمَّ يُدْفَعُ إِلَيْهِمُ الثُّلُثُ أَوِ الرُّبُعُ لِيَتَصَرَّفُوا فِيهِ وَيَأْكُلُوهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ.
وَرَوَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يقول للخراص: " إذا بعثتم احْتَاطُوا لِأَهْلِ الْأَمْوَالِ فِي النَّائِبَةِ وَالْوَاطِئَةِ وَمَا يَجِبُ فِي الثَمَرَةِ مِنَ الْحَقِّ " وَفِي النَّائِبَةِ تأويلان:
أحدهما: الأصناف.
وَالثَّانِي: مَا يَنُوبُ الْأَمْوَالَ مِنَ الْجَوَائِحِ.
وَفِي الْوَاطِئَةِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْوَاطِئَةَ الْمَارَّةُ وَالسَّابِلَةُ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِوَطْئِهِمِ الطَّرِيقَ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ قُتَيْبَةَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَاطِئَةَ سُقَاطَةُ الثَّمَرِ وَمَا يَقَعُ مِنْهُ فِي الْأَرْضِ فَيُوطَأُ، حَكَاهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ وَاخْتَارَهُ.
وَالثَّالِثُ: إِنَّهَا الْوَطَايَا واحدها وطية، وهي تجري مجرى العرية، وسميت وطئة، لِأَنَّ صَاحِبَهَا وَطَّأَهَا لِنَفْسِهِ أَوْ لِأَهْلِهِ، فَلَا تَدْخُلُ فِي الْخَرْصِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الضَّرِيرِ.
وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إِلَى خَيْبَرَ خَارِصًا فَخَرَصَ أَرْبَعِينَ أَلْفَ وَسْقٍ، ثُمَّ خَيَّرَ الْيَهُودَ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذُوهُ وَيَدْفَعُوا عِشْرِينَ أَلْفَ وَسْقٍ وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَدْفَعَ إِلَيْهِمْ عِشْرِينَ أَلْفَ وَسْقٍ، فَقَالُوا هَذَا هُوَ الْحَقُّ وَبِهِ قامت السموات والأرض.

(3/222)


وَفِي رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ إِنَّهُ قَالَ إِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ فَلِي وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ.
وَرُوِيَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ الْيَهُودَ جَمَعُوا لَهُ حُلِيًّا مِنْ حُلِيِّ نِسَائِهِمْ وَسَأَلُوهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْهُمُ الْخَرْصَ وَيَأْخُذَ مِنْهُمُ الْحُلِيَّ فَأَبَى عَلَيْهِمْ وَقَالَ: إِنَّ الرِّشْوَةَ سُحْتٌ، وَإِنَّكُمْ أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيَّ وَإِنَّ بُغْضِي لَكُمْ لَا يَحْمِلُنِي عَلَى الْحَيْفِ عَلَيْكُمْ وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ رَضِيعًا مِنْهُمْ وَحَلِيفًا لَهُمْ، فَإِنْ قَالُوا الِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْخَبَرِ لَا يَصِحُّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً فِي جَوَازِ الْخَرْصِ، لِأَنَّهُ وَرَدَ عَامَ خَيْبَرَ سَنَةَ سبع قبل بدو تَحْرِيمِ الرِّبَا، ثُمَّ نَزَلَ تَحْرِيمُ الرِّبَا نَاسِخًا لَهُ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا نَزَلَ أَخِيرًا، بِدَلِيلِ مَا رَوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ آخِرَ آيَةٍ نَزَلَتْ آيَةُ الرِّبَا فَمَاتَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قبل أن يثبتها، قِيلَ إِنْ كَانَتْ آيَةُ الرِّبَا نَزَلَتْ أَخِيرًا فَتَحْرِيمُ الرِّبَا كَانَ مُتَقَدِّمًا بِالسُّنَّةِ قَبْلَ حُكْمِ الْخَرْصِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةُ فَضَالَةَ بْنِ عبيد قال: بيع يوم فتح مكة وهو بخيبر قِلَادَةٌ فِيهَا ذَهَبٌ وَخَرَزٌ مِنَ الْمَغْنَمِ بِذَهَبٍ، فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " لَا حَتَّى تَمِيزَ " لَا يَجُوزُ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ تَحْرِيمُ الرِّبَا مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الْخَرْصِ، وَلَوْ كَانَ مَانِعًا مِنْهُ مَا عَمِلَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَبْعَثُ ابْنَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ خَارِصًا عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ الله عنه ابنه بعث أنه عَبْدَ اللَّهِ خَارِصًا عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ فَسُحِرَ حَتَّى تَكَوَّعَتْ يَدُهُ ثُمَّ أَجْلَاهُمْ عُمَرُ عَنْهَا وليس لها في الصحابة مخالف فثبت أنه إجماع.
فَإِنْ قِيلَ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ إِنَّمَا خَرَصَ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ ثِمَارَ الْمُسَاقَاةِ لَا ثِمَارَ الزَّكَاةِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ فَتَحَهَا سَاقَاهُمْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ثَمَرِهَا، وَأَنْتُمْ تَمْنَعُونَ مِنَ الْخَرْصِ فِي الْمُسَاقَاةِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ اسْتِدْلَالُكُمْ بِهِ عَلَى جَوَازِ الْخَرْصِ فِي الزَّكَاةِ؟ قِيلَ خَرْصُ ثِمَارِ خَيْبَرَ كَانَ لِأَجْلِ الزَّكَاةِ، وَلِأَجْلِ الْمُسَاقَاةِ، لِأَنَّ نِصْفَ ثِمَارِهَا كَانَ لَهُمْ بِالْمُسَاقَاةِ، وَنِصْفَهَا لِلْمَسَاكِينِ بِالْغَنِيمَةِ، وَالزَّكَاةُ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَاجِبَةٌ، وَتَضْمِينُهَا لِلْيَهُودِ الْعَامِلِينَ فِيهَا جائز، فَكَانَ الْخَبَرُ دَالًّا عَلَى وُجُوبِ الْخَرْصِ فِي الزَّكَاةِ، وَدَالًّا عَلَى جَوَازِ الْخَرْصِ فِي الْمُسَاقَاةِ، وَلَنَا فِيهِ كَلَامٌ نَذْكُرُهُ، وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْخَرْصِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى وَالنَّظَرِ وُجُودُ الرِّفْقِ بِهِ، وَدُخُولُ الضَّرَرِ بِفَقْدِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَمْنَعَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي ثِمَارِهِمْ، أَوْ يُمَكَّنُوا فَإِنْ منعُوا مِنْهَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى فَوَاتِ الْبُغْيَةِ الْعَظِيمَةِ فِي إتمامها ومن الناس من ابتياعها وفوات شَهْوَتِهِمْ مِنْ أَكْلِهَا وَإِنْ مُكِّنُوا لَمْ يَخْلُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُمَكَّنُوا بِخَرْصٍ أَوْ بِغَيْرِ خَرْصٍ فَإِنْ مُكِّنُوا بِغَيْرِ خَرْصٍ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى إِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَى الْمَسَاكِينِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِضَاعَةِ حُقُوقِهِمْ،

(3/223)


وَتَمْحِيقِ صَدَقَتِهِمْ، وَإِنْ مُكِّنُوا بِخَرْصٍ ارْتَفَقَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ بِتَعْجِيلِ الْمَنْفَعَةِ، وَارْتَفَقَ الْمَسَاكِينُ بِحِفْظِ الصَّدَقَةِ، فَكَانَ الْخَرْصُ رِفْقًا بِالْفَرِيقَيْنِ وَفِي الْمَنْعِ مِنْهُ ضَرَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ خَبَرِ ابن جَابِرٍ فَهُوَ وَارِدٌ فِي الْبَيْعِ، بِدَلِيلِ نَهْيِهِ عَنِ الْمُزَابَنَةِ وَإِرْخَاصِهِ فِي الْعَرَايَا أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا تَمْرًا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ الْخَرْصَ تَخْمِينٌ وَحَدْسٌ لِاخْتِلَافِهِ فَغَلَطٌ، إِنَّمَا هُوَ اجْتِهَادٌ وَلَيْسَ وُجُودُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ لِأَنَّهُ اجْتِهَادٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَمَّا لَمْ يَجُزِ الْخَرْصُ فِي الزُّرُوعِ لَمْ يَجُزْ فِي الثِّمَارِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِلزَّرْعِ حائلاً يمنع من خرصه، وليس لثمر النخل حائلاً يَمْنَعُ مِنْ خَرْصِهِ.
وَالثَّانِي: أنَّ الْحَاجَةَ غَيْرُ داعية إلى خرص الزروع، لأن الانتفاع بما قبل الحصاد غير مقصود، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَمَّا لَمْ يَجُزْ خَرْصُهَا عَلَى الْأَرْضِ بَعْدَ الْجِدَادِ لَمْ يَجُزْ قَبْلَهُ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا عَلَى الْأَرْضِ يُمْكِنُ كَيْلُهُ، فَلَمْ يَجُزْ خَرْصُهُ، لِأَنَّ الْكَيْلَ نَصٌّ وَالْخَرْصَ اجْتِهَادٌ، وَمَا عَلَى النَّخْلِ لَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ فَجَازَ خَرْصُهُ، لِأَنَّ فَقْدَ النَّصِّ مُبِيحٌ لِلِاجْتِهَادِ.
وَالثَّانِي: إِنَّ مَا عَلَى الْأَرْضِ يُمْكِنُ أَخْذُ زَكَاتِهِ فِي الْحَالِ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَقْدِيرِهِ بِالْخَرْصِ، وَمَا عَلَى النَّخْلِ لَا يُمْكِنُ أَخْذُ زَكَاتِهِ فِي الْحَالِ فاحتاج إلى تقدير بِالْخَرْصِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ مَا يُقْصَدُ بِهِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْقَدْرِ بَاطِلٌ وَمِنَ التَّضْمِينِ فَاسِدٌ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ إِنَّمَا أَبْطَلْتُمُ الْخَرْصَ، لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَوِ ادَّعَى غَلَطًا أَوْ نقصاناً صدق وهذا فاسد بعد الماشية لأنها تُعَدُّ عَلَى رَبِّهَا وَلَوِ ادَّعَى غَلَطًا يُمْكِنُ مِثْلُهُ صُدِّقَ، وَأَبْطَلْتُمُ التَّضْمِينَ لِأَنَّهُ بَيْعُ رُطَبٍ حاضر بثمن غَائِبٍ، وَهَذَا لَيْسَ بِبَيْعٍ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أن الزكاة تخرج من ثمرها لَا مِنْ رُطَبِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا ضُمِّنَهُ من الزكاة هو الواجب فيها، لَا أَنَّهُ بَدَلُ الْوَاجِبِ مِنْهَا، فَثَبَتَ جَوَازُ الْخَرْصِ بِمَا ذَكَرْنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ
: فَأَمَّا ثِمَارُ الْبَصْرَةِ فَقَدْ أَجْمَعَتِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَعُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ خَرْصَهَا غَيْرُ جَائِزٍ، لِكَثْرَتِهَا وَمَا يَلْحَقُ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَيَلْزَمُ مِنَ الْمُؤْنَةِ فِي خَرْصِهَا، وَلِمَا جَرَتْ عَادَةُ أَرْبَابِ الثِّمَارِ بِهَا مِنْ تَفْرِيقِ عُظْمِ مَا يرد إليهم الثنيا مِنْهَا وَتَجَاوُزِهِمْ فِيهِ حَدَّ الصَّدَقَةِ، وَلِإِبَاحَتِهِمْ فِي تعارفهم الأكل منها لِلْمُجْتَازِ بِهَا، فَرَأَى السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أن تؤخذ صدقتها من الكر حتى عند دخول ثمرها البصرة، فيكون ذلك أرفق بِأَرْبَابِهَا وَأَحْظَى لِلْمَسَاكِينِ وَأَخْذُ الصَّدَقَةِ تَمْرًا مَكْنُوزًا منها وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُمْ جَعَلُوا الظُّرُوفَ وَمُؤْنَةَ الْعَمَلِ فيها عوضاً عن

(3/224)


الشيء الَّذِي لَا يُضَايَقُونَ فِي قَدْرِهِ، وَلَا يَمْنَعُونَ رمي الثنيا من جملة، هَذَا فِي ثِمَارِ النَّخْلِ، فَأَمَّا الْكُرُومُ فَهُمْ وَغَيْرُهُمْ فِيهَا سَوَاءٌ تُخْرَصُ عَلَيْهِمْ كَمَا تُخْرَصُ على الناس والله أعلم.

مسألة:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَوَقْتُ الْخَرْصِ إِذَا حَلَّ الْبَيْعُ وَذَلِكَ حِينَ يُرَى فِي الْحَائِطِ الْحُمْرَةُ أَوِ الصُّفْرَةُ وَكَذَلِكَ حِينَ يَتَمَوَّهُ الْعِنَبُ وَيُوجَدُ فِيهِ مَا يُؤْكَلُ مِنْهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي جَوَازِ الْخَرْصِ، فَأَمَّا وَقْتُ الْخَرْصِ فَهُوَ حِينَ تَجِبُ الزَّكَاةُ، وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ يَكُونُ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَبُدُوُّ الصَّلَاحِ فِي الثِّمَارِ أَنْ تَحْمَرَّ أَوْ تَصْفَرَّ، وَفِي الْعِنَبِ أَنْ يَتَمَوَّهُ أَوْ يَسْوَدَّ إِذَا اسْتُطِيعَ أَكْلُهُ، وَبَدَتْ مَنْفَعَتُهُ، وَإِنَّمَا وَجَبَتِ الزَّكَاةُ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَلَمْ تَجِبْ فِيمَا قَبْلُ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالزَّكَاةِ الْمُوَاسَاةُ بِالْمَالِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ، وَمَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ غَالِبًا، فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الزَّكَاةَ اسْتِحْدَاثُ حَقٍّ شَائِعٍ فِي الثَّمَرَةِ، وَمَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِحْدَاثُ حَقٍّ شَائِعٍ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِاشْتِرَاطِ الْقَطْعِ، وَاشْتِرَاطُ الْقَطْعِ لَا يَصِحُّ فِي الْمَشَاعِ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ ثُمَّ لَمْ يَجُزِ الْخَرْصُ قَبْلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وُرُودُ السُّنَّةِ وَهُوَ مَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " كَانَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إِلَى خيبر خارصاً إذا حان أَكْلُ الثِّمَارِ ".
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْخَرْصِ حِفْظُ الصَّدَقَةِ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَانْتِفَاعُ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ بِالتَّصَرُّفِ، وَقَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ لَيْسَ لِلْمَسَاكِينِ حَقٌّ يُحْفَظُ عَلَيْهِمْ، وَلِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ التَّصَرُّفُ فِي ثِمَارِهِمْ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَجُزِ الْخَرْصُ قَبْلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ، فَلَوْ خَرَصَهَا السَّاعِي قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ كَانَ خَرْصُهُ بَاطِلًا، وَأَعَادَ الْخَرْصَ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، فَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ حَائِطَانِ بَدَا صَلَاحُ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يَبْدُ صَلَاحُ الْآخِرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُخْرَصَانِ مَعًا وَيَكُونُ حُكْمُ الصَّلَاحِ جَارِيًا عَلَيْهِمَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُ نَفْسِهِ فَيُخْرَصُ مَا بَدَا صَلَاحُهُ دُونَ مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَا بَدَا صَلَاحُهُ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَلَا يُخْرَصُ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُ الْآخَرِ فيخرصان معاً والله أعلم.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَأْتِي الْخَارِصُ النَّخْلَةَ فَيُطِيفُ بِهَا حَتَى يَرَى كُلَّ مَا فِيهَا ثُمَّ يَقُولُ خَرْصُهَا رُطَبًا كذا وكذا وينقص إذا صار تمراً كذا وكذا فيبنيها عَلَى كَيْلِهَا تَمْرًا وَيَصْنَعُ ذَلِكَ بِجَمِيعِ الْحَائِطِ وهكذا العنب ".

(3/225)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي وَقْتِ الْخَرْصِ فَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْخَرْصِ فَعَلَى مَا وَصَفَهُ الشافعي، وهو: أن يأتي الخارص فيطيف بِكُلِّ نَخْلَةٍ حَتَّى يَرَى مَا فِيهَا، وَيُقَدِّرَهُ رُطَبًا وَيَنْظُرَ كَمْ يَصِيرُ تَمْرًا، ثُمَّ يَفْعَلُ كذلك بجميع النخل، فإن كَانَ النَّخْلُ نَوْعًا وَاحِدًا جَازَ أَنْ يَخْرُصَ جَمِيعَ ثِمَارِهَا رُطَبًا وَيُحْصِيَهُ، ثُمَّ يَنْظُرَ كَمْ يصير تمراً ويثبته، وإن كَانَ النَّخْلُ أَنْوَاعًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْصِيَ جَمِيعَ خَرْصِهِ رُطَبًا ثُمَّ يَجْعَلُهُ تَمْرًا، حَتَّى يخرص كل نوع منها رُطَبًا ثُمَّ يَجْعَلُهُ تَمْرًا حَتَّى يَخْرُصَ كُلَّ نَوْعٍ مِنْهَا رُطَبًا وَيَرُدُّهُ إِلَى الْقَدْرِ الَّذِي يَصِيرُ تَمْرًا، لِأَنَّ الرُّطَبَ قَدْ يَخْتَلِفُ فِي نُقْصَانِهِ لِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، فَمِنْهُ مَا يَعُودُ إِلَى نِصْفِهِ وَمِنْهُ مَا يَعُودُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ، فَإِذَا أَحْصَى جَمِيعَ الْأَنْوَاعِ رُطَبًا ثُمَّ جَعَلَهَا تَمْرًا وَنُقْصَانُهُ مُخْتَلِفٌ أَشْكَلَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَصِحَّ لَهُ وَإِذَا كَانَ نَوْعًا صَحَّ لَهُ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَيُطِيفُ بِكُلِّ نَخْلَةٍ هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْخَرْصِ أَوِ استظهار على ثلاثة مذاهب:
أحدهما: إِنَّهُ اسْتِظْهَارٌ وَاحْتِيَاطٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا شَرْطٍ لَازِمٍ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ لَا سِيَّمَا مَعَ كَثْرَةِ النَّخْلِ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ شَرْطٌ فِي الْخَرْصِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهِ لِأَنَّ الْخَرْصَ اجتهاد يلزم بذل المجهود فيه.
والثالث: وهو أصحهما إنَّهُ إِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ بَارِزَةً عَنِ السَّعَفِ ظَاهِرَةً مِنَ الْجَرِيدِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْعِرَاقِ فِي تَدْلِيَةِ الثِّمَارِ لَمْ تَكُنْ إطاقة الْخَارِصِ بِكُلِّ نَخْلَةٍ شَرْطًا، بَلْ كَانَ ذَلِكَ اسْتِظْهَارًا وَاحْتِيَاطًا، لِأَنَّ جَمِيعَ ثَمَرِهَا مَرْئِيٌّ، وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ مُسْتَتِرَةً بِالسَّعَفِ مُغَطَّاةً بِالْجَرِيدِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْحِجَازِ كَانَ إِطَافَةُ الْخَارِصِ بِالنَّخْلَةِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْخَرْصِ لِأَنَّ ثَمَرَهَا خَفِيٌّ.

فَصْلٌ
: فَإِذَا عَرَفَ الْخَارِصُ مَبْلَغَ قَدْرِهَا بِالْخَرْصِ رُطَبًا وَعِنَبًا وَمَا تَصِيرُ إِلَيْهِ تمراً وزبيباً، فَقَدْ كَانَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ يَرَى أَنَّهُ يَتْرُكُ عَلَيْهِمْ مِنْ زَكَاتِهَا الثُّلُثَ أَوِ الرُّبُعَ، لِخَبَرِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ ليتولوا إخراجه في فقراء أهلهم، وَأَهْلِ الْحَاجَةِ مِنْ جِيرَانِهِمْ، وَيُثْبِتُ عَلَيْهِمْ مَا بَقِيَ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ فِي الْجَدِيدِ وَقَالَ: لَا يَتْرُكُ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْ زَكَاتِهَا وَيُثْبِتُ عَلَيْهِمْ جَمِيعَهَا تَمْرًا عَلَى مَا خَرَجَ به الخرص.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يُخَلِّي بَيْنَ أَهْلِهِ وَبَيْنَهُ، فَإِذَا صَارَ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا أَخَذَ الْعُشْرَ عَلَى خَرْصِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.

(3/226)


إِذَا خَرَصَ الثِّمَارَ عَلَى أَرْبَابِهَا وَعَرَفَ قَدْرَهَا بَعْدَ جَفَافِهَا أَثْبَتَ قَدْرَ الزَّكَاةِ عَلَيْهِمْ وَخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ثِمَارِهِمْ، لِيَقُومُوا بِحِفْظِهَا وَيَتَوَلَّوْا أَمْرَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا فَإِنِ اخْتَارُوا أَنْ تَكُونَ بِأَيْدِيهِمْ أَمَانَةُ فَعَلَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمُ التَّصَرُّفُ فِيهَا، وَإِنِ اخْتَارُوا أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً عَلَيْهِمْ ضَمَّنَهُمْ قَدْرَ زَكَاتِهَا، وَجَازَ لَهُمُ التَّصَرُّفُ فِيهَا، فَإِذَا تَصَرَّفُوا ضَمَّنَهَا فَيَكُونُ التَّضْمِينُ مُبِيحًا لِلتَّصَرُّفِ، وَالتَّصَرُّفُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَبُّ الْمَالِ مِمَّنْ لَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ لِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ سَفَهٍ فَلَا يَجُوزُ تَضْمِينُهُ إِلَّا أَنْ يضمنها وليه.

مسألة:
قال الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فإن ذكر أهله أنه أصابته جائحة أذهبته أو شيئاً منه صدقوا فإن اتهموا حلفوا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا خَرَصَ الْخَارِصُ ثَمَرَةَ رَجُلٍ وَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ أَمَانَةً أَوْ مَضْمُونَةً فَادَّعَى تَلَفَهَا، أَوْ تَلَفَ شَيْءٍ مِنْهَا بجائحة سماء كَبَرْدٍ أَوْ جَرَادٍ أَوْ جِنَايَةِ آدَمِيٍّ كَسَرِقَةٍ أَوْ حَرِيقٍ لَمْ تَخْلُ دَعْوَاهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُعْلَمَ اسْتِحَالَتُهَا وَكَذِبُهَا، فَلَا تُسْمَعُ بِحَالٍ، وَتُؤْخَذُ مِنْهُ الزَّكَاةُ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُعْلَمَ صِدْقُهَا وَحُدُوثُهَا، فَهِيَ مَسْمُوعَةٌ وَقَوْلُهُ فِيهَا مَقْبُولٌ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، وَلَا زَكَاةَ، سَوَاءٌ أَخَذَهَا أَمَانَةً أَوْ ضَمَانًا، لِأَنَّهُ إِنْ أَخَذَهَا أَمَانَةً فَالْأَمِينُ لَا يُضَمَّنُ إِلَّا بِالتَّعَدِّي، وَإِنْ أَخَذَهَا مَضْمُونَةً فَالضَّمَانُ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا بِالتَّصَرُّفِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَلْزَمْهُ الضَّمَانُ وَإِنْ شُرِطَ عَلَيْهِ إِلَّا بِالتَّصَرُّفِ، لِأَنَّ أَصْلَ الزَّكَاةِ أَمَانَةٌ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ، وَمَا كَانَ أَصْلُهُ غَيْرَ مَضْمُونٍ لَمْ يلزَمُ فِيهِ الضَّمَانُ بِالشَّرْطِ فَإِنْ قِيلَ مَا الْفَائِدَةُ فِي ضَمَانِهِ قُلْنَا: جَوَازُ التَّصَرُّفِ المؤدي إلى الضمان.
والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ مَا ادَّعَاهُ مُجَوَّزًا لَا يُقْطَعُ بِصِدْقِهِ وَلَا كَذِبِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيمَا ادعاه، لأنه أمين وما ادعاه ممكن به، فَإِنِ اتُّهِمَ أُحْلِفَ وَفِي الْيَمِينِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: اسْتِظْهَارٌ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ الزَّكَاةُ.
وَالثَّانِي: وَاجِبَةٌ فَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا أُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ بِالْوُجُوبِ الْمُتَقَدِّمِ لَا بِالنُّكُولِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ دَعْوَاهُ مَسْمُوعَةٌ وَقَوْلَهُ مَقْبُولٌ نُظِرَ فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الثَّمَرَةِ شَيْءٌ فَلَا مُطَالَبَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ بَقِيَ بَعْضُهَا نُظِرَ فِي الْبَعْضِ، فَإِنْ كَانَ نِصَابًا فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَعَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْإِمْكَانِ هَلْ هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ أَوْ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ؟ فَإِنْ قِيلَ هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ قِيلَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فَلَا زَكَاةَ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: عَلَيْهِ زَكَاةُ مَا بَقِيَ قَوْلًا وَاحِدًا، وَجَعَلَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الثِّمَارِ مُعْتَبَرًا بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ دُونَ الْإِمْكَانِ.

(3/227)


مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ قَالَ قَدْ أَحْصَيْتُ مَكِيلَةَ مَا أَخَذْتُ وهو كذا وما بقي كذا وهذا خطأ في الخرص صدق، لأنها زكاة هو فِيهَا أمينٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ خُرِصَتْ عَلَيْهِ ثَمَرَتُهُ وَسُلِّمَتْ إِلَيْهِ أَمَانَةً أَوْ مضمونة فادعى غلطاً في الخرص أن نقصاناً فِي الثَّمَرَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَذْكُرَ قَدْرَ الْغَلَطِ وَالنُّقْصَانِ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَذْكُرَ قَدْرَهُ فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ قَدْرَهُ وَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِالْغَلَطِ لَكِنْ أَجْهَلُ قَدْرَهُ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ لِلْجَهْلِ بِهَا وَأُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ عَلَى مَا ثَبَتَ بِهِ الْخَرْصُ، وَإِنْ ذَكَرَ قَدْرَ الْغَلَطِ وَالنُّقْصَانِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا يُغْلَطُ بِمِثْلِهِ فِي الْعَادَةِ كَأَنَّهُ قَالَ خَرْصُهَا عَلَى مِائَةِ وَسْقٍ وَهِيَ تِسْعُونَ وَسْقًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَإِنْ كَانَ مُتَّهَمًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَا ادَّعَاهُ كثراً لَا يُغْلَطُ بِمِثْلِهِ فِي الْعَادَةِ كَأَنَّهُ قَالَ خَرْصُهَا مِائَةُ وَسْقٍ وَهِيَ خَمْسُونَ وَسْقًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقُولَ غَلِطَ الْخَارِصُ عَلَيَّ بِهَذَا فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ وَلَا يُسْمَعُ قوله، لأنه ادَّعَى عَلَى الْخَارِصِ مَا لَا يُغْلَطُ بِمِثْلِهِ فَقَدْ نَسَبَهُ إِلَى الْخِيَانَةِ وَالْكَذِبِ بَعْدَ الْأَمَانَةِ والصدق، ورام نقض حكم ثابت بدعوة مُجَرَّدَةٍ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَقُولَ غَلِطَ الْخَارِصُ عَلَيَّ بِهَذَا وَلَكِنْ يَقُولُ: لَمْ أَجِدْ إِلَّا هَذَا فَقَوْلُهُ مَقْبُولٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَكْذِيبٌ لِلْخَارِصِ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَلِفَ بَعْدَ الْخَرْصِ فَيَكُونُ الْخَارِصُ مُصِيبًا وَالنُّقْصَانُ موجوداً.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ قَالَ سُرِقَ بَعْدَ مَا صَيَّرْتُهُ إِلَى الْجَرِينِ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ مَا يَبِسَ وَأَمْكَنَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَى الْوَالِي أَوْ إِلَى أَهْلِ السهمان فقد ضمن ما أمكنه أن يؤدي ففرط وإن لم يمكنه فلا ضمان عليه وقال في موضع بعد هذا ولو استهلك رجل ثمرة وقد خرص عليه أخذ بثمن عشر وسطها والقول قَوْلِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا ادَّعَى رَبُّ الْمَالِ أَنَّ ثَمَرَتَهُ قَدْ سُرِقَتْ، فَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تُسْرَقَ عَلَى رُؤُوسِ النَّخْلِ بُسْرًا أَوْ رُطَبًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يمينه وإن كَانَ مُتَّهَمًا، وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ.

(3/228)


وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تُسْرَقَ بَعْدَ يُبْسِهَا وَإِحْرَازِهَا وتخزينها فِي جَرِينِهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُمْكِنَهُ أَدَاءُ زَكَاتِهَا فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا وَفِي كَيْفِيَّةِ إِمْكَانِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ القدرة على دفعها إلى الوالي وحده دُونَ أَهْلِ السُّهْمَانِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الجديد إنه القدرة على دفعها إلى الولي وَحْدَهُ أَوْ إِلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ كَمَا قُلْنَا فِي زَكَاةِ الْمَوَاشِي، لِأَنَّهَا مِنَ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُمْكِنَهُ أَدَاءُ زَكَاتِهَا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي يَدِهِ أمانة أو ضماناً، فإن بقي شيء بعدما سُرِقَ، فَإِنْ كَانَ نِصَابًا زَكَّاهُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عَلَيْهِ زَكَاةُ مَا بَقِيَ قَوْلًا وَاحِدًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَالْجَرِينُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ هُوَ: الْمَوْضِعُ الَّذِي تُجْمَعُ فِيهِ الثَّمَرَةُ لِيَتَكَامَلَ جَفَافُهَا وَيُسَمُّونَهُ الْمِرْبَدَ أَيْضًا، وَهُوَ بِلُغَةِ الشَّامِ الْأَنْدُرُ وَبِلُغَةِ الْعِرَاقِ الجوخار والبيدر وبلغة آخرين المسطاح وبلغة آخرين الطهارة

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنِ اسْتَهْلَكَهُ رُطَبًا أَوْ بُسْرًا بَعْدَ الْخَرْصِ ضمن مكملة خَرْصِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا خُرِصَتْ عَلَيْهِ ثَمَرَتُهُ وَتُرِكَتْ فِي يَدِهِ لِتَصِيرَ تَمْرًا فَاسْتَهْلَكَهَا بُسْرًا أَوْ رُطَبًا فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا ثُمَّ يُنْظَرُ، فَإِنْ سُلِّمَتْ إِلَيْهِ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْهُ عُشْرُهَا تَمْرًا مِنْ أَوْسَطِهَا نَوْعًا عَلَى مَا مَضَى، فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي أَوْسَطِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ مَعَ يَمِينِهِ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ السَّاعِي بِبَيِّنَةٍ أَقَلُّهَا شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ، فَإِنْ أَقَامَ شَاهِدًا لَمْ يَكُنْ لِلسَّاعِي أَنْ يَحْلِفَ مَعَهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لِمَالِكٍ دُونَ غَيْرِهِ وَإِنْ سُلِّمَتْ إِلَيْهِ أَمَانَةً فِي يَدِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يُطَالَبُ بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهَا رُطَبًا أَوْ مَكِيلَتِهَا تَمْرًا، لِأَنَّ لَهُمْ أَوْفَرَ الْحَظَّيْنِ مِنَ الرُّطَبِ وَالتَّمْرِ، كَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أُضْحِيَةً ثُمَّ أَتْلَفَهَا لَزِمَهُ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهَا أَوْ مِثْلِهَا.
والثاني: أن يُطَالَب بِمَكِيلَتِهَا تَمْرًا، لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عليه.

(3/229)


مسألة:
قال الشافعي: " وإن أصاب حائطه عطش يعلم أنه إن ترك ثمره أضر بالنخل وإن قطعها بعد أن يخرص بطل عليه كَثِيرٌ مِنْ ثَمَنِهَا كَانَ لَهُ قَطْعُهَا وَيُؤْخَذُ ثَمَنُ عُشْرِهَا أَوْ عُشْرُهَا مَقْطُوعَةً.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
إِذَا أَصَابَ حَائِطَهُ عَطَشٌ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، وَوُجُوبِ زَكَاتِهِ، وَكَانَ فِي ترك الثمرة على النخل إضرار بها وبالنخل، أَوْ بِهِمَا، فَلَهُ قَطْعُ مَا أَضَرَّ بِنَخْلِهِ مِنَ الثَّمَرَةِ بَعْدَ مُطَالَعَةِ الْعَامِلِ وَاسْتِئْذَانِهِ أَنَّهُ قدرَ عَلَيْهِ لِتَزُولَ عَنْهُ التُّهْمَةُ، فَإِنِ اسْتَضَرَّ بِجَمِيعِ الثَّمَرَةِ قَطَعَهَا، وَإِنِ اسْتَضَرَّ بِبَعْضِهَا، قَطَعَ مَا اسْتَضَرَّ بِهِ مِنْهَا، وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ فِي قَطْعِهَا نَظَرًا لِرَبِّ الْمَالِ في حفاظ ماله، ونظراً للمساكين، لأن لا يضر بالنخل لم تحل حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يَقْطَعَهَا بِإِذْنِ الْعَامِلِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِنْ قَطَعَهَا بِإِذْنِهِ وَأَرَادَ الْعَامِلُ أَخْذَ الْعُشْرِ مِنْهَا خَرْصًا فعلى قولين مبنيين على اختلاف قوله في القسمة.
أحدها: تجوز إِذَا قِيلَ إِنَّ الْقِسْمَةَ إقرار حَقٍّ وَتَمْيِيزُ نَصِيبٍ فَعَلَى هَذَا يَخْرُصُ ثُمَّ يَأْخُذُ الْعَامِلُ عُشْرَهَا مِنْ ثَمَرَاتِ نَخَلَاتٍ بِعَيْنِهَا، ويفعل ما هو أخطى للمساكين، من تفريقه عليهم أو صرف ثَمَنِهِ فِيهِمْ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي لِلْعَامِلِ أَنْ يَقْبِضَ حَقَّ الْمَسَاكِينِ مَشَاعًا فِي جَمِيعِ الثَّمَرَةِ لِيَتَعَيَّنَ حَقُّهُمْ فِيهَا، لِأَنَّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ الزَّكَاةَ فِي الذِّمَّةِ أَوْ فِي الْعَيْنِ، لِأَنَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّ الزَّكَاةَ فِي الذِّمَّةِ فَالْحَقُّ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِيهَا، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهَا فَيَ الْعَيْنِ فَلِرَبِّ الْمَالِ إِسْقَاطُ حَقِّهِمْ بِالدَّفْعِ مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا، فَإِذَا قَبَضَ الْعَامِلُ حَقَّهُمْ مَشَاعًا فِيهَا، فَقَدْ تَعَيَّنَ وَلَمْ يَجُزْ لِرَبِّ الْمَالِ نَقْلُ حَقِّهِمْ إِلَى غَيْرِهَا بِحَالٍ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَامِلَ يَقْبِضُ حَقَّهُمْ مَشَاعًا فِي جَمِيعِ الثمرة على هذا القول الثاني فقبضه بعين حق المساكين فيها، فَإِذَا قُطِعَتِ الثَّمَرَةُ كُلُّهَا نَظَرَ الْعَامِلُ فِي حَقِّ الْمَسَاكِينِ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ الْحَظُّ لَهُمْ فِي بَيْعِهِ مَعَ جُمْلَةِ الثَّمَرَةِ وَصَرْفِ ثَمَنِهِ فِيهِمْ، وَكَّلَ رَبَّ الْمَالِ فِي بَيْعِهِ إِنْ كَانَ ثِقَةً أَوْ وَكَّلَ أَمِينًا ثِقَةً، وَيُقَدَّمُ إليه بصرف ثمنه فيهم بعد يبسه وإن كان لهم الأخص فِي إِيصَالِهِ رُطَبًا أَوْ بُسْرًا إِلَيْهِمْ قَاسَمَهُ الْعَامِلُ عَلَيْهِمْ كَيْلًا أَوْ وَزْنًا، وَفَرَّقَ فِيهِمْ مَا حَصَلَ مِنْ حَقِّهِمْ بِالْقِسْمَةِ بَعْدَ الِاسْتِظْهَارِ فِيمَا أَخَذَ، لِيَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَخْذِ الْحَقِّ أَوْ فَوْقه، فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَجُوزُ قِسْمَةُ الرُّطَبِ كَيْلًا وَلَا وَزْنًا فَلِمَ جَوَّزْتُمُوهُ؟ قِيلَ إِنَّمَا لَمْ يَجُزْ لِأَجْلِ الرِّبَا، وَحُصُولُ الرِّبَا، وَالتَّفَاضُلُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَالْمَسَاكِينِ، لِأَنَّهُ لَوْ أَعْطَاهُمْ مَكَانَ وَسْقٍ وَسْقَيْنِ جَازَ، فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا كَانَ الرِّبَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بَيْنَهُمَا فَلِمَ مَنَعْتُمْ مِنْ قِسْمَتِهَا خَرْصًا وَهَلَّا أَجَزْتُمُوهُ كَمَا أَجَزْتُمُوهُ كَيْلًا؟ قِيلَ: مَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ لَا يَجُوزُ خرصه، لأنه قادر على أن يصل ببقين إِلَى مَعْرِفَةِ مَا يُطْلَبُ بِالظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ.

(3/230)


فصل
: وإن قطع رب بالمال الثَّمَرَةَ بِغَيْرِ إِذَنِ الْعَامِلِ فَقَدْ أَسَاءَ، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً أَوْ تَالِفَةً، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً نَظَرَ الْعَامِلُ فِي أَحَظِّ الْأَمْرَيْنِ لِلْمَسَاكِينِ من قسمتها وَأَخْذِ ثَمَنِ عُشْرِهَا، فَإِنْ كَانَ قَسْمُهَا أَحظَّ لَهُمْ قَسَّمَهَا وَفَرَّقَ الْعُشْرَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ بَيْعُهَا أَحَظَّ بَاعَهَا، أَوْ وَكَّلَ فِي بَيْعِهَا وَصَرْفِ ثَمَنِ عُشْرِهَا فِيهِمْ، وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ تَالِفَةً فَعَلَيْهِ قِيمَةُ عُشْرِهَا حِينَ أَتْلَفَهَا رُطَبًا، لِأَنَّ الرُّطَبَ لَا مِثْلَ لَهُ فَلَزِمَتْهُ الْقِيمَةُ، فَإِنْ قِيلَ: لَوْ أَتْلَفَهَا رُطَبًا مِنْ غَيْرِ عَطَشٍ لَزِمَهُ عُشْرُهَا تَمْرًا فَهَلَّا لَزِمَهُ فِي إِتْلَافِ الْعَطَشِ عُشْرُهَا تَمْرًا. قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَخَفِ الْعَطَشَ وَلَمْ يَكُنْ فِي تَرْكِهَا ضَرَرٌ لَزِمَهُ تَرْكُهَا وَأَخْذُ الْعُشْرِ من ثمرها، فإذا خَافَ الْعَطَشَ كَانَ لَهُ قَطْعُهَا وَلَمْ يَلْزَمْهُ تَرْكُهَا فَلَمْ يُطَالَبْ بِعُشْرِهَا تَمْرًا، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَا لَزِمَهُ، فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ ثَمَنُ عُشْرِهَا أَوْ عُشْرُهَا مَقْطُوعَةً، فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ.
أحدها: أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ ثَمَنَ عُشْرِهَا إِنْ رَأَى حَظَّ الْمَسَاكِينِ فِي أَخْذِ عُشْرِهَا مِنْهُ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْهُ ثَمَنَ عُشْرِهَا إِنْ تَلِفَتْ يَعْنِي: قِيمَةَ الْعُشْرِ، فَعَبَّرَ عَنِ الْقِيمَةِ بِالثَّمَنِ أَوْ عُشْرِهَا رُطَبًا إِنْ بَقِيَتْ، فَالْأَوَّلُ مِنَ التَّأْوِيلَيْنِ فِي الثَّمَرَةِ الْمَوْجُودَةِ.
وَالثَّانِي: عَلَى اخْتِلَافِ حالها لو وجدت أو عدمت.

مسألة:
قال الشافعي: " ومن قطع من ثمر نَخْله قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ بَيْعُهُ لَمْ يَكُنْ عليه فيه عشرٌ وأكره ذلك له إلا أن يأكله أَوْ يُطْعِمَهُ أَوْ يُخَفِّفَهُ عَنْ نَخْلِهِ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ وجوب الزكاة ببدو الصلاح، فإذا أقطع ثمرة نخلة قبل بدوة صَلَاحِهَا وَوُجُوبِ زَكَاتِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، كَمَنْ أَتْلَفَ مَالَهُ قَبْلَ حَوْلِهِ، لَكِنَّهُ إِنْ قَطَعَهَا لِتُفِيدَ فِي التَّخْفِيفِ عَنْ نَخْلِهَا لِحَاجَةٍ فِي أكلها لم يكره له، وإن قطعها مراراً مِنَ الزَّكَاةِ كَرِهْنَا ذَلِكَ لَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْحَالَيْنِ، وَإِنْ خَالَفَنَا مَالِكٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ، فَأَمَّا طَلْعُ الْفُحُولِ فَلَا يُكْرَهُ لَهُ قَطْعُهُ بِحَالٍ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ في الثمرة، وطلع الفحول لَا يَصِيرُ ثَمَرَةً.
فَصْلٌ
: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ " نَهَى عَنْ جِدَادِ اللَّيْلِ " وَهُوَ: صِرَامُ النخل ليلاً ليكون الصرام نهاراً بسبب فيسال النَّاسُ مِنْ ثَمَرَتِهَا، فَيُسْتَحَبُّ ذَلِكَ فِيمَا وَجَبَتْ زَكَاتُهُ أَوْ لَمْ تَجِبْ.
وَحُكِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالنَّخَعِيِّ: أَنَّ الصَّدَقَةَ مِنَ الْمَالِ وَقْتَ الصِّرَامِ وَالْحَصَادِ وَاجِبَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتُوا حَقًّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) {الأنعام: 141) . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ ". وَالْمُرَادُ بِمَا ذَكَرُوا مِنَ الْآيَةِ الزَّكَاةُ.

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي: " وإن أكل رُطَبًا ضَمِنَ عُشْرَهُ تَمْرًا مِثْلَ وَسَطِهِ ".

(3/231)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَقُلْنَا إِنَّ مَنْ أَتْلَفَ ثَمَرَةَ نَفْسِهِ رُطَبًا بَعْدَ خَرْصِهَا عَلَيْهِ وَتَرْكِهَا فِي يَدِهِ لَزِمَهُ عُشْرُهَا تَمْرًا إِنْ أَخَذَهَا مَضْمُونَةً، فَإِنْ أَخَذَهَا أَمَانَةً فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ عُشْرِهَا تَمْرًا أَوْ قِيمَتِهَا رُطَبًا.
وَالثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ: عَلَيْهِ عُشْرُهَا تَمْرًا وَإِنَّمَا أَعَادَهَا الشَّافِعِيُّ لِأَنَّ الْأُولَى بَعْدَ الْخَرْصِ وَذَكَرَ هَذِهِ قَبْلَ الْخَرْصِ وَهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي كَيْفِيَّةِ الضَّمَانِ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي أَنَّ مَنْ أَتْلَفَهَا بَعْدَ الْخَرْصِ أُخِذَ مِنْهُ عُشْرُ خَرْصِهَا وَمَنْ أَتْلَفَهَا قَبْلَ الْخَرْصِ رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ فِي قَدْرِهَا.

مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي: " وإن كان لا يكون تَمْرًا أَعْلَمَ الْوَالِيَ لِيَأْمُرَ مَنْ يَبِيعُ مَعَهُ عُشْرَهُ رُطَبًا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ خَرَصَهُ لِيَصِيرَ عليه عشره ثُمَّ صَدَّقَ رَبَّهُ فِيمَا بَلَغَ رُطَبُهُ وَأَخَذَ عُشْرَ ثَمَنِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
ما لا يتميز مِنَ الثِّمَارِ ضَرْبَانِ:
ضَرْبٌ لَا يَصِيرُ تَمْرًا لِضَعْفِهِ.
وَضَرْبٌ يَصِيرُ تَمْرًا لَكِنْ لَا يُجَفَّفُ لِقِلَّةِ مَنْفَعَتِهِ، وَكِلَاهُمَا سَوَاءٌ يُؤْخَذُ عُشْرُهَا رُطَبًا، أو ثمن عشرها فإن كانت ثمرة الرجل لا يصير تَمْرًا أَوْ كَرْمُهُ لَا يَصِيرُ زَبِيبًا أَعَلَمَ الْوَالِيَ وَطَالَعَهُ بِهِ، لِتَزُولَ تُهْمَتُهُ عَنْهُ، ثُمَّ يكون الجواب فِيمَا يَصْنَعُهُ الْوَالِي مَعَهُ عَلَى مَا مَضَى فيمن أراد قطع ثمرته لأجل العطش سواء لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُقَاسِمَهُ عَلَيْهَا خَرْصًا كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنْ أَرَادَ بَيْعَهَا كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَبِيعَهَا عَلَيْهِ، أَوْ يُوَكِّلَهُ فِي بَيْعِهَا، أَوْ يَبِيعَهَا عَلَى غيره، أو يوكل الغير في بيعها في نصابها وجهان:
أحدهما: إذا تلفت خَمْسَةَ أَوْسُقٍ رُطَبًا وَجَبَتْ زَكَاتُهَا، لِأَنَّ مَا لَا يُجَفَّفُ مِنَ الرُّطَبِ فَالرُّطَبُ غَايَتُهُ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْأَوْسُقِ فِي حَالِ غَايَتِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: نِصَابُهُ أَنْ يَبْلُغَ قَدْرًا يَجِيءُ مِنْ ثَمَرِهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ، لِأَنَّ هَذَا نَادِرٌ مِنْ جِنْسِهِ فَاعْتُبِرَ حُكْمُهُ بِغَالِبِ جِنْسِهِ فَعَلَى هَذَا هَلْ يُعْتَبَرُ بِنَفْسِهِ فِي جَفَافِهِ أَوْ يُعْتَبَرُ بِجَفَافِ الْغَالِبِ مِنْ جِنْسِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعْتَبَرَ قَدْرُ نِصَابِهِ بِجَفَافِهِ فِي نَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهِ فَإِذَا بَلَغَ قَدْرًا يَجِيءُ مِنْ رُطَبِهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ تَمْرًا فَهُوَ النِّصَابُ وَوَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ نَقَصَ عَنْهُ فَلَا زَكَاةَ.
وَالْوَجْهُ الثاني: يعتبر قدر نصابه بِجَفَافِ غَيْرِهِ مِنْ جِنْسِهِ لِتَعَذُّرِ جَفَافِهِ فِي نَفْسِهِ كَجِرَاحِ الْحُرِّ، وَشِجَاجِهِ الَّذِي لَمْ يُقَدَّرْ إِرْشُهُ لَمَّا تَعَذَّرَ تَقْوِيمُهُ حُرًّا قومٌ لَوْ كَانَ عَبْدًا، فَإِذَا بَلَغَ هَذَا الرُّطَبُ قَدْرًا يَجِيءُ مِنْ غَيْرِهِ مِن الْأَرْطَابِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ تَمْرًا فَهُوَ النِّصَابُ، وَلَا شَيْءَ فِيمَا دُونَهُ.

مسألة:
قال الشافعي: " فإن أكل أُخِذَ مِنْهُ قِيمَةُ عُشْرِهِ رُطَبًا ".

(3/232)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
إِذَا كَانَتْ ثَمَرَتُهُ لا تصير تمراً فاستهلكها رطباً فلا يَلْزَمُهُ مِثْلُ عُشْرِهَا رُطَبًا، لِأَنَّ الرُّطَبَ لَا مِثْلَ لَهُ، فَإِنْ أَكَلَهَا قَبْلَ خَرْصِهَا عَلَيْهِ رُجِعَ فِي قَدْرِهَا إِلَيْهِ، فَإِنِ اتُّهِمَ أُحْلِفَ اسْتِظْهَارًا، وَإِنْ أَكَلَهَا بَعْدَ الْخَرْصِ أُخِذَ مِنْهُ قِيمَةُ عُشْرِ خَرْصِهَا رُطَبًا، فَإِنْ ذَكَرَ زِيَادَةً عَنِ الْخَرْصِ أَوِ ادَّعَى نُقْصَانًا مُحْتَمَلًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيهِ، لِأَنَّهُ أَمِينٌ، فَإِنِ اتُّهِمَ أحلف وفي هذا اليمين وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَاجِبَةٌ.
وَالثَّانِي: اسْتِظْهَارٌ.

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي: " وَمَا قُلْتُ فِي التَّمْرِ فَكَانَ فِي الْعِنَبِ فَهُوَ مِثْلُهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ.
حُكْمُ التَّمْرِ وَالْعِنَبِ سَوَاءٌ فِي الزَّكَاةِ وَأَحْكَامِهَا وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ مَسَائِلِهَا، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَمَعَهُمَا فِي الْخَبَرِ وَشَبَّهَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ.

مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه بعث مَعَ ابْنِ رَوَاحَةَ غَيْرَهُ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَفِي كُلٍّ أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ خَارِصَانِ أَوْ أَكْثَرُ وقد قيل يجوز خارص واحدٌ كما يجوز حاكمٌ واحدٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: " وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ خَارِصَانِ أَوْ أَكْثَرُ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَارِصَ الْوَاحِدَ يُجْزِئُ، وَقَوْلُهُ: وَقَدْ قيل يجوز أن يكون خارص دليل على أن الْخَارِصَ الْوَاحِدَ لَا يُجْزِئُ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ يَصِحُّ الْخَرْصُ بِهِ، فَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ يَقُولَانِ: يَجُوزُ خَارِصٌ وَاحِدٌ وَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ آخَرُ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولَانِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ إِلَّا خَارِصَانِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَبْعَثُ مَعَ ابْنِ رَوَاحَةَ غَيْرَهُ، وَقَدْ قِيلَ بَعَثَ مَعَهُ سَهْلَ بْنَ أَبِي حَثْمَةَ، فَإِذَا كَانَ جَوَازُ الْخَرْصِ حُكْمًا مُسْتَفَادًا بِالشَّرْعِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ عَلَى مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ، وَلِأَنَّ الْخَرْصَ اجْتِهَادٌ فِي مَعْرِفَةِ الْقَدْرِ وَتَمْيِيزِ الْحُقُوقِ فَشَابَهَ التَّقْوِيمَ وَخَالَفَ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ، لِأَنَّهُمَا يَقِينٌ لَا اجْتِهَادَ فِيهِمَا، فَلَمَّا ثَبَتَ أن التقويم لا يجزئ فيه إلا مقومان فكذا الْخَرْصُ لَا يُجْزِئُ فِيهِ إِلَّا خَارِصَانِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُجْزِئُ خَارِصٌ وَاحِدٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ ابْنَ رَوَاحَةَ خَارِصًا فَخَرَصَ خَيْبَرَ وَقَالَ: " إِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ فَلِي ".
وَرُوِيَ أنه بعث معه غيره، فلو أن الاثنان شرطاً لما بعثه منفرداً، ولو كان شَرْطًا فِي عَامٍ لكَانَا شَرْطًا فِي كُلِّ عَامٍ، وَلِأَنَّ الْخَارِصَ مُجْتَهِدٌ فِي تَقْدِيرِ الْحُقُوقِ وَتَنْفِيذُ الْحُكْمِ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ

(3/233)


دُونَ غَيْرِهِ فَشَابَهَ الْحَاكِمَ، وَخَالَفَ الْمُقَوِّمَ حَيْثُ لَمْ يُنَفَّذِ الْحُكْمُ بِهِ إِلَّا بِتَنْفِيذِ الْحَاكِمِ لَهُ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ يُجْزِئُ حَاكِمٌ وَاحِدٌ، فَكَذَلِكَ يُجْزِئُ خَارِصٌ وَاحِدٌ، سَوَاءٌ كَانَ رَبُّ الْمَالِ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، لَا كَمَا غَلِطَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَفَرَّقَ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، فَلَمْ يُجَوِّزْ خَرْصَ مَالِ الصَّغِيرِ إِلَّا بِاثْنَيْنِ، وَجَوَّزَ خَرْصَ مَالِ الْكَبِيرِ بِوَاحِدٍ، لِأَنَّهُ رَأَى الشَّافِعِيَّ فِي " الْأُمِّ " فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ الْخَرْصَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ كَالْحُكْمِ يُجْزِئُ بِوَاحِدٍ فِي مَالِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ أَوْ يَكُونَ كَالتَّقْوِيمِ، وَالتَّقْوِيمُ لَا يُجْزِئُ إِلَّا بِاثْنَيْنِ فِي مَالِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ.
وَالشَّافِعِيُّ إِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي " الْأُمِّ " فِي جَوَازِ تَضْمِينِ الْكَبِيرِ ثِمَارَهُ بِالْخَرْصِ دون الصغير فوهم عليه فهذا التأويل في إعداد الخرص.

فصل
: فأما صفة الخارص فَلَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ شُرُوطٍ فِيهِمْ:
أَحَدُهَا: الْبُلُوغُ.
وَالثَّانِي: الْعَدَالَةُ، لِأَنَّ الْفَاسِقَ غَيْرُ مَقْبُولِ الْقَوْلِ عَلَى غَيْرِهِ.
وَالثَّالِثُ: الْعِلْمُ بِالْخَرْصِ، لِأَنَّ الْجَاهِلَ بِهِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ.
وَالرَّابِعُ: مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ الذُّكُورِيَّةُ وَالْحُرِّيَّةُ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْخَارِصَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا كالحاكم لم يجز أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً وَلَا عَبْدًا وَاعْتَبَرَ فِيهِ كونه رَجُلًا حُرًّا، وَإِنْ قُلْنَا لَا يَجُوزُ إِلَّا خَارِصَانِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا امْرَأَتَيْنِ وَلَا عبدين، لأن في الخرص ولاية حكم، فَلَمْ يَجُزْ تَفَرُّدُ الْعَبِيدِ وَالنِّسَاءِ بِهَا، وَلَكِنْ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا امْرَأَةً أَوْ عَبْدًا لِيَكُونَ الرَّجُلُ مُخْتَصًّا بِالْوِلَايَةِ وَالْمَرْأَةُ أَوِ العبد مشاركاً له في التقدير والحرز؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يكون كيالاً ووزاناً.
والثاني: لا يجوز لأن في الخراص اجتهاد يفارق يقين الكيل والوزن فشابه الحكم.

مسألة:
قال الشافعي: " وَلَا تُؤْخَذُ صَدَقَةُ شيءٍ مِنَ الشَّجَرِ غَيْرِ العنب والنخل فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخَذَ الصَّدَقَةَ مِنْهُمَا وَكِلَاهُمَا قُوتٌ وَلَا شَيْءَ فِي الزَيْتُونِ لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ أُدْمًا وَلَا فِي الجوز ولا في اللوز وغيره مما يكون أدماً وييبس ويدخر لأنه فاكهةٌ لأنه كان بالحجاز قوتاً علمناه ولآن الخبر في النخل والعنب خاص ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ نَوْعَانِ زَرْعٌ وَشَجَرٌ، فَالزَّرْعُ يَأْتِي حُكْمُهُ، وَالشَّجَرُ يَنْقَسِمُ فِي الْحُكْمِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ، قِسْمٌ لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرُهُ أَنَّ زَكَاتَهُ وَاجِبَةٌ، وَهُوَ النَّخْلُ وَالْكَرْمُ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِمَا، وَقِسْمٌ لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنْ لَا زَكَاةَ فِيهِ وَإِنْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ وَهُوَ الرُّمَّانُ، وَالسَّفَرْجَلُ، وَالتِّفَّاحُ، وَالْمِشْمِشُ، وَالْكُمَّثْري، وَالْجَوْزُ، وَالْخَوْخُ، وَاللَّوْزُ، وَمَا عَدَا مَا ذُكِرَ فِي الْقِسْمِ الْمَاضِي وَمَا يُذْكَرُ فِي الْقِسْمِ الْآتِي، وَقِسْمٌ اخْتَلَفَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي بَعْضِهِ وَعَلَّقَ الْقَوْلَ فِي بَعْضِهِ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَجْنَاسٍ الزَّيْتُونُ،

(3/234)


وَالْوَرْسُ، وَالزَّعْفَرَانُ وَالْقِرْطِمُ، وَعَلَّقَ الْقَوْلَ فِي خَامِسٍ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا وَهُوَ الْعَسَلُ، فَأَمَّا الزَّيْتُونُ فَلَهُ فِي إِيجَابِ زَكَاتِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) {الأنعام: 141) . فاقتضى أن يكون الأمر باتيان الْحَقِّ رَاجِعًا إِلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ مِنْ قَبْلُ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ بِالشَّامِ أَنْ يَأْخُذَ زَكَاةَ الزَّيْتُونِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي الزَّيْتُونِ الْعُشْرُ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا فِي الصحَابة فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّ عادة أهل بلاده جارية بإدخاره واقتنائه كالشام وغيرها مما يثكر نَبَاتُ الزَّيْتُونِ بِهَا، فَجَرَى مَجْرَى التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، فَاقْتَضَى أَنْ تَجِبَ فِيهِ الزَّكَاةُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَبِهِ قال ابن أبي ليلى والحسن بن أبي صَالِحٍ لَا زَكَاةَ فِيهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ: " لَا تَأْخُذِ الْعُشْرَ إِلَّا مِنْ أَرْبَعَةٍ الْحِنْطَةِ، والشَعِيرِ، وَالنَّخْلِ، وَالْعِنَبِ " فَأَثْبَتَ الزَّكَاةَ فِي الْأَرْبَعَةِ وَنَفَاهَا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مَوْجُودًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا افْتَتَحَهُ مِنْ مَخَالِيفِ الْيَمَنِ وَأَطْرَافِ الشَّامِ فل يُنْقَلْ أَنَّهُ أَخَذَ زَكَاةَ شَيْءٍ مِنْهُ، وَلَوْ وَجَبَتْ زَكَاتُهُ لَنُقِلَتْ عَنْهُ قَوْلًا وَفِعْلًا كَمَا نُقِلَتْ زَكَاةُ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ قَوْلًا وَفِعْلًا، وَلِأَنَّهُ وإن كثر من بِلَادِهِ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَاتُ مُنْفَرِدًا كَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَإِنَّمَا يُؤْكَلُ أُدْمًا، وَالزَّكَاةُ تَجِبُ فِي الْأَقْوَاتِ وَلَا تَجِبُ فِي الْإِدَامِ، فَإِذَا ثَبَتَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ فَلَا مَسْأَلَةَ، وَإِنْ قُلْنَا فِيهِ الزَّكَاةُ فَلَا شَيْءَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ لِلْخَبَرِ، فَإِذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَفِيهِ الزَّكَاةُ حِينَئِذٍ، وَلَا يَجُوزُ خَرْصُهُ، لِأَنَّ الزَّيْتُونَ مُسْتَتِرٌ بِوَرَقِهِ لَا يُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِمُشَاهَدَتِهِ، وَلَيْسَ كَالنَّخْلِ وَالْكَرْمِ الْبَارِزِ الثَّمَرُ الَّذِي يُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِهِ، ثُمَّ لَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَصِيرُ زَيْتًا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُوَنَ مِمَّا لَا يَصِيرُ زَيْتًا، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَصِيرُ زَيْتًا اعْتُبِرَ فِيهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ مِنْهُ، وَأُخِذَ عُشْرُهُ زَيْتُونًا، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَصِيرُ زَيْتًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُعْتَبَرُ فِيهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ زَيْتًا، لِأَنَّ الزَّيْتَ حَالَةُ ادِّخَارِهِ كَالتَّمْرِ، فَعَلَى هَذَا يُؤْخَذُ عُشْرُهُ زَيْتًا لَا غَيْرَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُعْتَبَرُ فِيهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ زَيْتُونًا، لِأَنَّ الزَّيْتَ مُسْتَخْرَجٌ من الزيتون بصنعة وعلاج فلم يكن كحاله كالدبس والدقيق، فَعَلَى هَذَا يُؤْخَذُ عُشْرُهُ زَيْتًا لَا غَيْرَ.

(3/235)


فَصْلٌ: وَأَمَّا الْوَرْسُ فَقَدْ عَلَّقَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ الْقَوْلَ فِيهِ فَقَالَ إِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ قُلْتُ بِهِ، وَالْحَدِيثُ مَا رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ يوسف عن محمد بن يزيد الخفاشي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ خُفَّاشٍ بِخَطِّ مُعَيْقِيبٍ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ أَبِي بَكْرٍ إِلَى أَهْلِ خفاشٍ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُخْرِجُوا الْعُشْرَ مِنَ الْوَرْسِ وَالذُّرَةِ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فَلَا سَبِيلَ لأحدٍ عَلَيْكُمْ، فَعَلَّقَ فِي الْقَدِيمِ إِيجَابَ زَكَاةِ الْوَرْسِ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنْ صَحَّ كَانَتْ زَكَاتُهُ عَلَى الْقَدِيمِ وَاجِبَةً فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ مِنْ غَيْرِ وَقْصٍ مَعْفُوٍّ، لِعُمُومِ الْأَثَرِ فِيهِ.
وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ لَا زَكَاةَ فِيهِ بِحَالٍ لِضِعْفِ الأثر المروي واحتماله التأويل لو صح والله أعلم.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا الزَّعْفَرَانُ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِنْ كَانَ الْعُشْرُ فِي الْوَرْسِ ثَابِتًا احْتَمَلَ أَنْ يُقَالَ فِي الزَّعْفَرَانِ الْعُشْرُ، لِأَنَّهُمَا طَيِّبَانِ وَلَيْسَا كَثِيرًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: لَا شَيْءَ فِي الزَّعْفَرَانِ، لِأَنَّ الْوَرْسَ شَجَرٌ لَهُ ساق وهو ثمرة والزعفران ينبت فجعل الْوَرْسَ لَا شَيْءَ فِيهِ فَالزَّعْفَرَانُ أَوْلَى، وَإِنْ قُلْنَا فِي الْوَرْسِ الزَّكَاةُ فَالزَّعْفَرَانُ عَلَى قَوْلَيْنِ وَعَلَى الْجَدِيدِ لَا زَكَاةَ فِيهِمَا بِحَالٍ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْقِرْطِمُ وَعُصْفُرُهُ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ فِيهِ الْعُشْرُ كَانَ مَذْهَبًا، فَعَلَّقَ الْقَوْلَ فِيهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ الْعُشْرَ مِنَ الْقِرْطِمِ وَالصَّحِيحُ أَنْ لَا زَكَاةَ فِيهِ كَالزَّعْفَرَانِ لِخُرُوجِ كُلِّ ذَلِكَ عَنِ الْأَقْوَاتِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْعَسَلُ فَقَدْ عَلَّقَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ الْقَوْلَ فِيهِ فَجَعَلَ ذَلِكَ قَوْلًا لَهُ فِي إِيجَابِ عُشْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة فِيمَا أُخِذَ مِنْ غَيْرِ أَرْضِ الْخَرَاجِ، تَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ قَوْمًا من بني سلمة أتوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعثور نخلٍ لَهُمْ فَأَخَذَهَا مِنْهُمْ، وَحَمَى لَهُمْ وَادِيًا.
وَرُوِيَ عن عبد الله بن رياب قَالَ: " قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَسْلَمْتُ ثُمَّ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: اجْعَلْ لِقَوْمِي مَا أَسْلَمُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، قَالَ: فَفَعَلَ وَاسْتَعْمَلَنِي عَلَيْهِمْ، ثَمَّ اسْتَعْمَلَنِي أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، قَالَ: فَكَلَّمْتُ قَوْمِي فِي الْعَسَلِ وَقُلْتُ لَهُمْ زَكُّوهُ فَإِنَّهُ لَا خَيْرَ فِي ثَمَرَةٍ لَا تُزَكَّى، فَقَالُوا: كَمْ تَرَى فَقُلْتُ: الْعُشْرَ، فَأَخَذْتُ مِنْهُمُ الْعُشْرَ فَأَتَيْتُ بِهِ عُمَرَ فَأَخْبَرْتُهُ فقبضه وجعله في صَدَقَاتِ الْمُسْلِمِينَ " وَالصَّحِيحُ عَلَى الْقَدِيمِ، وَصَرِيحُ قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنَ الدَّلِيلِ فِي إِسْقَاطِ زَكَاةِ الزَّيْتُونِ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جده أن قَوْمًا آتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعشور فحل لَهُمْ وَسَأَلُوهُ أَنْ يَحْمِيَ وَادِيًا لَهُمْ يُقَالُ له: سلمة فحماه لهم، فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخُطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَيْهِ سُفْيَانُ بْنُ وَهْبٍ فِي ذَلِكَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ إِنْ

(3/236)


أَدَّوْا إِلَيْكَ مَا أَدَّوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاحْمِ لَهُمْ، وَإِلَّا فَهُوَ غَيْثُ ذبابٍ يَأْكُلُهُ مَنْ شَاءَ ". فَلَوْ كَانَ عُشْرُهُ وَاجِبًا لَأَمَرَ بِأَخْذِهِ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَحْمِ لَهُمْ ثُمَّ قد أخبر في حكمه وإباحته أنه غَيْثُ ذُبَابٍ يَأْكُلُهُ مَنْ شَاءَ وَلَمْ يُعَلِّقْ عَلَى الْأَكْلِ حَقًّا يُؤَدَّى فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(3/237)