الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

باب تفسير الأوقية
فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، فَتَكُونُ الخمس أواقي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مِنْ ضَرْبِ الْإِسْلَامِ الَّتِي كُلُّ عَشَرَةٍ مِنْهَا سَبْعَةٌ بِمَثَاقِيلِ الْإِسْلَامِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ خَبَرَانِ.
أَحَدُهُمَا: مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَا زَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي صَدَاقِ أحدٍ مِنْ نِسَائِهِ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ أُوقِيَّةً وَنَشًّا أَتَدْرُونَ مَا النَّشُّ؟ النَّشُّ نِصْفُ أُوقِيَّةٍ عِشْرُونَ دِرْهَمًا.
وَالْخَبَرُ الْآخَرُ: رَوَاهُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: ليس فيما دون خمس ذود من الْإِبِلِ صدقةٌ، وَلَا فِيمَا دُونَ عِشْرِينَ دِينَارًا مِنَ الذَّهَبِ صدقةٌ، وَلَا فِيمَا دُونَ مِائَتَيْ درهم من الورق صدقة، وحكي عن المعري وَبِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ عَدَدًا لَا وَزْنًا، حَتَّى لَوْ كَانَ مَعَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ عَدَدًا وَزْنُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ عدداً وزنها مائة دِرْهَمٍ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَهَذَا جَهْلٌ بِنَصِّ الإخبار وإجماع الأعصار وما تقتضيه عبرة الزكوات.

مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو كانت له مِائَتَا دِرْهَمٍ تَنْقُصُ حَبَّةً أَوْ أَقَلَّ أَوْ تَجُوزُ جَوَازَ الْوَازِنَةِ أَوْ لَهَا فَضْلٌ عَلَى الْوَازِنَةِ غَيْرَهَا فَلَا زَكَاةَ فِيهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ لَهُ أَرْبَعَةُ أوسقٍ بُرْدِيٌّ خَيْرٌ قيمةٍ مِنْ مِائَةِ وسقٍ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ فِيهَا زكاةٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ وَرِقُهُ يَنْقُصُ عَنِ الْمِائَتَيْنِ، وَلِقِلَّةِ نُقْصَانِهَا تَجُوزُ جَوَازَ الْمِائَتَيْنِ، كَأَنَّهَا تَنْقُصُ حَبَّةً أَوْ حَبَّتَيْنِ، فَهَذِهِ لَا زَكَاةَ فِيهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ تَنْقُصُ فِي جَمِيعِ الْمَوَازِينِ أو في

(3/258)


بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ، وَقَالَ مَالِكٌ إِذَا نَقَصَتْ هَذَا الْقَدْرَ فَفِيهَا الزَّكَاةُ، لِأَنَّهَا فِي مُعَامَلَاتِ النَّاسِ تَجُوزُ جَوَازَ الْمِائَتَيْنِ، وَهَذَا غَلَطٌ، لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَلَا فِيمَا دُونَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مِنَ الْوَرِقِ صدقةٌ " وَقَدْ رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال " هاتوا إلي رُبُعَ الْعُشْرِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا "، وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ شيءٌ حَتَّى تَتِمَّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ "، وَلِأَنَّ نُقْصَانَ الْمُزَكَّى عَنْهُ يُوجِبُ سُقُوطَ الزَّكَاةِ فِيهِ كَسَائِرِ النِّصْبِ، وَمَا قَالَهُ مِنْ جَوَازِهَا بِالْمِائَتَيْنِ فَيَفْسُدُ مِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا، إِنْ أَخْذَهَا بِالْمِائَتَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْمُسَامِحَةِ لَوْ قَامَ مَقَامَ الْمِائَتَيْنِ لَوَجَبَ مِثْلُهُ فِي جَمِيعِ النِّصْبِ وَفِيمَا يُخْرِجُهُ مِنْ حَقِّ الْمَسَاكِينِ، وَلَقِيلَ إِذَا أَخْرَجَ خَمْسَةً إِلَّا حَبَّةً أَجْزَأَهُ، لِأَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ الْخَمْسَةِ، وَلَقِيلَ فِي الرِّبَا إِذَا بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمٍ إِلَّا حَبَّةً جَازَ، لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الدِّرْهَمِ، وَفِي إِجْمَاعِنَا وَإِيَّاهُ عَلَى فَسَادِ هَذَا كُلِّهِ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِ.
وَالْفَصْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ وَرِقُهُ يَنْقُصُ عَنِ الْمِائَتَيْنِ وَهِيَ لِجَوْدَتِهَا تُؤْخَذُ بِالْمِائَتَيْنِ كَأَنَّهَا تَنْقُصُ عَشَرَةً وَقِيمَتُهَا لِجَوْدَةِ جَوْهَرِهَا تَزِيدُ عَشَرَةً، فَلَا زَكَاةَ فِيهَا لِنُقْصَانِ وَزْنِهَا عَنِ الْمِائَتَيْنِ، وَقَالَ مَالِكٌ فِيهَا الزَّكَاةُ، لِأَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ الْمِائَتَيْنِ، وَمَا ذَكَرْنَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ كَافٍ فِي الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ وَالْإِفْسَادِ لقوله.

مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَتْ لَهُ ورقٌ رديئةٌ وورقٍ جيدةٌ أَخَذَ مِنْ كُلِّ واحدةٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا كَانَتْ وَرِقُهُ مُخْتَلِفَةُ الْجِنْسِ فَكَانَ بَعْضُهَا جَيِّدًا وَبَعْضُهَا رَدِيئًا وَكِلَاهُمَا فضة ضَمَّ الْجَيِّدَ إِلَى الرَّدِيءِ كَمَا يَضُمُّ جَيِّدَ التَّمْرِ إِلَى رَدِيئِهِ وَأُخِذَتِ الزَّكَاةُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحِسَابِهِ لِتَمَيُّزِهِ فَإِنْ أَخْرَجَ زَكَاةَ الْكُلِّ مِنْ جَيِّدِهِ كَانَ أَوْلَى، وَإِنْ أَخْرَجَ زَكَاةَ الْكُلِّ مِنْ رَدِيئِهِ أَجْزَأَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا قَابَلَ الرَّدِيءَ وَكَانَ فِيمَا قَابَلَ الْجَيِّدَ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ مُتَطَوِّعًا بِهِ وَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ زكاة الجيد، متسأنفاً.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُجْزِئُهُ وَيُخْرِجُ قِيمَةَ مَا بَيْنَهُمَا ذَهَبًا كَمَا لَوْ أَخْرَجَ أَرْدَأَ الصِّنْفَيْنِ مِنَ الْحِقَاقِ وَبَنَاتِ اللَّبُونِ. أَخْرَجَ نَقْصَ مَا بَيْنَهُمَا ورقاً والله أعلم.

مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَكْرَهُ الْوَرِقَ الْمَغْشُوشَ لِئَلَّا يَغُرَّ بِهِ أَحَدًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا ضَرْبُ الْوَرِقِ الْمَغْشُوشِ فَيُكْرَهُ لِلسُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا " وَلِمَا فِيهِ مِنْ إفساد النقود وغبن ذَوِي الْحُقُوقِ وَغَلَاءِ الْأَسْعَارِ، وَانْقِطَاعِ الْجَلْبِ

(3/259)


الْمُفْضِي جَمِيعُ ذَلِكَ إِلَى اخْتِلَافِ الْأُمُورِ، وَفَسَادِ أَحْوَالِ الْجُمْهُورِ فَأَمَّا جَوَازُ الْمُعَامَلَةِ بِهَا وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهَا، فَهُمَا فَصْلَانِ:
نَبْدَأُ بِأَحَدِهِمَا: وَهُوَ جَوَازُ الْمُعَامَلَةِ بِهَا: اعْلَمْ أَنَّ الْمَغْشُوشَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يَكُونُ غِشُّهُ لِرَدَاءَةِ جِنْسِهِ، فَتُكْرَهُ الْمُعَامَلَةُ بِهِ لِمَنْ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا بَعْدَ إِعْلَامِهِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْغُرُورِ وَالتَّدْلِيسِ وَفِي مِثْلِ ذَلِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: من زافت دراهمه فليأت السوق فليشتري بها الثوب السميق، وَقَدْ ذَكَرْنَا وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِيهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ غِشُّهُ مِنْ غَيْرِهِ لَا مِنْ جِنْسِهِ كَالْفِضَّةِ الْمُخْتَلِطَةِ بِغَيْرِهَا، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْرُ فِضَّتِهِ مَعْلُومًا، وَجِنْسُ مَا خَالَطَهُ وَغُشَّ بِهِ مَعْرُوفًا، قَدِ اشْتُهِرَتْ حَالُهُ عِنْدَ الْكَافَّةِ وَعَلِمَهُ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ لَا يَخْتَلِفُ ضَرْبُهُ وَلَا يَتَنَاقَضُ فِضَّتُهُ، فَالْمُعَامَلَةُ بِهِ جَائِزَةٌ حَاضِرًا بِعَيْنِهِ وَغَائِبًا فِي الذِّمَّةِ.
وَالضَّرْبُ الثاني: أن يكون قدر فضة مَجْهُولًا، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَا خَالَطَ الْفِضَّةَ مَقْصُودًا لَهُ قِيمَةٌ كَالْمَسِّ وَالنُّحَاسِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُسْتَهْلَكًا لَا قيمة له كالزئبق الزرنيخ، فَإِنْ كَانَ مَقْصُودًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْفِضَّةُ وَالْغِشُّ غَيْرَ مُمْتَزِجَيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يكون مُمْتَزِجَيْنِ، فَإِنْ كَانَتِ الْفِضَّةُ غَيْرَ مُمَازِجَةٍ لِلْغِشِّ مِنَ النُّحَاسِ وَالْمَسِّ وَإِنَّمَا الْفِضَّةُ عَلَى ظَاهِرِهَا وَالْمَسُّ فِي بَاطِنِهَا، فَالْمُعَامَلَةُ بِهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ، لَا مُعَيَّنَةٌ وَلَا فِي الذِّمَّةِ، لِأَنَّ الْفِضَّةَ وَإِنْ شُوهِدَتْ فَالْمَقْصُودُ الْآخَرُ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَلَا مُشَاهَدٍ، كَمَا لَا تَجُوزُ الْمُعَامَلَةُ بِالْفِضَّةِ الْمَطْلِيَّةِ بِالذَّهَبِ، لِأَنَّ أَحَدَ مَقْصُودَيْهَا غَيْرُ مَعْلُومٍ وَلَا مُشَاهَدٍ، وَإِنْ كَانَتِ الْفِضَّةُ مُمَازِجَةً لِلْغِشِّ مِنَ النُّحَاسِ وَالْمَسِّ لَمْ تَجُزِ الْمُعَامَلَةُ بِهَا فِي الذِّمَّةِ لِلْجَهْلِ بِهَا، كَمَا لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْمَعْجُونَاتِ لِلْجَهْلِ بِهَا، وَفِي جَوَازِ الْمُعَامَلَةِ بِهَا إِذَا كَانَتْ حَاضِرَةً مُعَيَّنَةً وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِلْجَهْلِ بِمَقْصُودِهَا كَتُرَابِ الْمَعَادِنِ.
وَالْوَجْهُ الثاني: يجوز وهو أظهر وَبِهِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْاصْطَخْرِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ الْمُخْتَلِطَةِ بِالشَّعِيرِ إِذَا شُوهِدَتْ وَإِنْ جُهِلَ قَدْرُ كَيْلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَكَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَعْجُونَاتِ إِذَا شُوهِدَتْ وَإِنْ لَمْ يَجُزِ السَّلَمُ فِيهَا، وَخَالَفَ بَيْعَ تُرَابِ الْمَعَادِنِ لِأَنَّ

(3/260)


التُّرَابَ غَيْرُ مَقْصُودٍ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْغِشِّ إذا كان مقصوداً، فأما إن كَانَ غَيْرَ مَقْصُودٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْفِضَّةُ وَالْغِشُّ مُمْتَزِجَيْنِ فَلَا تَجُوزُ الْمُعَامَلَةُ بِهَا، لَا مُعَيَّنَةً وَلَا فِي الذِّمَّةِ، لِأَنَّ مَقْصُودَهُمَا مَجْهُولٌ بِمُمَازَجَةِ مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ كَتُرَابِ الْمَعَادِنِ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْفِضَّةُ وَالْغِشُّ غَيْرَ مُمْتَزِجَيْنِ وَإِنَّمَا الْفِضَّةُ عَلَى ظَاهِرِهَا وَالْغِشُّ فِي بَاطِنِهَا كَالزَّرْنِيخِيَّةِ فَتَجُوزُ الْمُعَامَلَةُ بِهَا إِذَا كَانَتْ حَاضِرَةً مُعَيَّنَةً، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا مُشَاهَدٌ، وَلَا تَجُوزُ الْمُعَامَلَةُ بِهَا فِي الذِّمَّةِ لِلْجَهْلِ بِمَقْصُودِهَا، فَهَذَا حُكْمُ الْوَرِقِ الْمَغْشُوشَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ وَلَا بَيْعُهَا بِالْفِضَّةِ، لِأَجْلِ الرِّبَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ بَاعَ سُقَاطَةَ بَيْتِ الْمَالِ مِنَ الْمَغْشُوشِ وَالزَّائِفِ بِوَزْنِهِ مِنَ الْوَرِقِ الْجَيِّدِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَرَدَّ الْبَيْعَ، فَلَوْ أَتْلَفَهَا رَجُلٌ عَلَى غَيْرِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ مِثْلُهَا، لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهَا وَلَزِمَهُ رَدُّ قِيمَتِهَا ذَهَبًا وَالْحُكْمُ فِي الدَّنَانِيرِ الْمَغْشُوشَةِ كَالْحُكْمِ فِي الورق المغشوشة.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ غِشُّهَا مِثْلَ نِصْفِهَا أَوْ أَكْثَرَ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا حَتَّى تباع قدر حصتها نصاباً.

فَصْلٌ
: فَأَمَّا وُجُوبُ زَكَاتِهَا فَلَا شَيْءَ فِيهَا حتى يبلغ قدر فضتها نِصَابًا وَإِنْ كَانَ غِشُّهَا أَقَلَّ مِنْ نِصْفِهَا فَفِيهَا الزَّكَاةُ، وَإِذَا بَلَغَتْ نِصَابًا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْغِشَّ إِذَا نَقَصَ عَنِ النِّصْفِ سَقَطَ حُكْمُهُ، حَتَّى لَوِ اقْتَرَضَ رَجُلٌ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِضَّةً لَا غِشَّ فِيهَا فَرَدَّ عَشَرَةً فِيهَا أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ غِشٍّ لَزِمَ الْمُقْرِضَ قَبُولُهَا، وَفَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرٌ، وَالِاحْتِجَاجُ عَلَيْهِ تكلف، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أواقٍ مِنَ الْوَرِقِ صدقةٌ " يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ خَمْسُ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ لَا زَكَاةَ فِيهَا حَتَّى يَبْلُغَ قَدْرُ فضتها نصاباً فإذا عَلِمَ قَدْرَ الْفِضَّةِ يَقِينًا أَوِ احْتِيَاطًا وَأَخْرَجَ زَكَاتُهُ جَازَ، وَإِنَّ شَكَّ وَلَمْ يَحْتَطْ مَيَّزَهَا بِالنَّارِ فَإِنْ أَخْرَجَ زَكَاتَهَا فِضَّةً خَالِصَةً جَازَ، وَإِنْ أَخْرَجَ زَكَاتَهَا مِنْهَا أَجْزَأَهُ، إِذَا عَلِمَ أَنَّ فِيمَا أَخْرَجَهُ مِنَ الْفِضَّةِ مِثْلَ مَا مَعَهُ أَوْ أَكْثَرَ وَسَوَاءٌ تَعَامَلَ النَّاسُ بِهَا أم لا، لأنها من جملة ماله.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَتْ لَهُ فِضَّةٌ خَلَطَهَا بِذَهَبٍ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُدْخِلَهَا النَّارَ حَتَى يَمِيزَ بَيْنَهُمَا، فَيُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِنْ كُلِّ واحدْ مِنْهُمَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَانَتْ لَهُ فِضَّةٌ قَدْ خَالَطَهَا ذَهَبٌ وَأَرَادَ إِخْرَاجَ زَكَاتِهَا فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَوَلَّى إِخْرَاجَهَا بِنَفْسِهِ فَإِنْ عَلِمَ قَدْرَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ يَقِينًا وَكَانَ كل واحد

(3/261)


منهما يبلغ بانفراده نصاباً أو بإضافة إِلَى مَا عِنْدَهُ نِصَابًا أَخْرَجَ زَكَاتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ قَدْرَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ وَعَمِلَ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَأَخْرَجَ زَكَاةَ مَا يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ مَيَّزَهُمَا بِالنَّارِ، وَأَخْرَجَ زَكَاةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِنْ بَلَغَ بِانْفِرَادِهِ أَوْ بِالْإِضَافَةِ إِلَى غَيْرِهِ نِصَابًا فَصَاعِدًا.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَوَلَّى الْإِمَامُ أَخْذَ زَكَاتِهَا مِنْهُ، فَإِنْ أَخْبَرَهُ بِيَقِينِ مَا فِيهَا مِنَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ وَقَالَ أَعْلَمُ ذَلِكَ قطعاً وإحاطة، كان القول قوله، وإن اتَّهَمَهُ أَحْلَفَهُ اسْتِظْهَارًا، وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ وَلَكِنْ قَالَ الِاحْتِيَاطُ أَنَّ مَا فِيهَا مِنَ الْفِضَّةِ كَذَا وَمِنَ الذَّهَبِ كَذَا لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَهُ؛ لأن ذلك اجتهاداً مِنْهُ وَالْإِمَامُ لَا يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِاجْتِهَادِ غَيْرِهِ، فَإِنِ انْضَافَ إِلَى قَوْلِهِ قَوْلُ مَنْ تَسْكُنُ النَّفْسُ إِلَى قَوْلِهِ مِنْ ثِقَاتِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ عَمِلَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا جَازَ لَهُ الْعَمَلُ عَلَى احْتِيَاطِهِ إِذَا تَوَلَّى إِخْرَاجَهَا بِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْمَرْجِعَ فِيهِ إِلَى اجْتِهَادِهِ، فَإِنْ أَشْكَلَ الْأَمْرَ مُيِّزَتْ بِالنَّارِ وَخُلِّصَتْ بِالسَّبْكِ، وَفِي مُؤْنَةِ السَّبْكِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: مِنْ وَسَطِ الْمَالِ، لِأَنَّ الْمَسَاكِينَ شُرَكَاؤُهُ فِي الْمَالِ قَبْلَ السَّبْكِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَصَّ بِمُؤْنَتِهِ دُونَهُمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّ الْمُؤْنَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَخْذُ الزَّكَاةِ إِلَّا بِهَا كَالْحَصَادِ وَالصِّرَامِ.

مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَتْ لَهُ فِضَةٌ مَلْطُوخَةٌ عَلَى لِجَامٍ أَوْ مُمَوَّهٌ بِهَا سَقْفُ بَيْتٍ، وَكَانَتْ تُمَيَّزُ فَتَكُونُ شَيْئًا إِنْ جُمِعَتْ بِالنَّارِ، فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ الصَّدَقَةِ عَنْهَا، وَإِلَّا فَهِيَ مُسْتَهْلَكَةٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا تَمْوِيهُ السَّقْفِ وَالْأَرْوِقَةِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَحَرَامٌ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِسْرَافِ وَالْخُيَلَاءِ وَالتَّحَاسُدِ وَالْبَغْضَاءِ، فإن موه رجل سقف بيته أَوْ حَائِطَ دَارِهِ بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ كَانَ آثِمًا، وَنَظَرَ فَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ تَخْلِيصُهُ وَلَا مَرْجِعَ لَهُ فَهُوَ مُسْتَهْلَكٌ، وَلَا زَكَاةَ فِيهِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، فَإِنْ كَانَ تَخْلِيصُهُ مُمْكِنًا فَزَكَاتُهُ وَاجِبَةٌ إِنْ بَلَغَ نِصَابًا، فَإِنْ عَلِمَ قَدْرَهُ أَوِ احْتَاطَ لَهُ وَإِلَّا مَيَّزَهُ وَخَلَّصَهُ، وَأَمَّا حِلْيَةُ اللِّجَامِ فَإِنْ كَانَتْ ذَهَبًا لَمْ يَجُزْ، وَزَكَاتُهُ وَاجِبَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ فِضَّةً فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ كَالذَّهَبِ فَعَلَى هَذَا يُزَكِّيهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ كَالسَّيْفِ وَالْمِنْطَقَةِ فَعَلَى هَذَا فِي وُجُوبِ زَكَاتِهِ قَوْلَانِ لأنه حلي مباح والله أعلم.

(3/262)


مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا كان في يديه أقل من خمس أواقٍ وما يتم خمس أواقٍ ديناً له أَوْ غَائِبًا عَنْهُ أَحْصَى الْحَاضِرَةَ وَانْتَظَرَ الْغَائِبَةَ فَإِنْ اقْتَضَاهَا أَدَّى رُبُعَ عُشْرِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ يَجِبُ تَقْدِيمُ الْكَلَامِ فِيهِمَا ثُمَّ بِنَاءُ الْمَسْأَلَةِ عَلَيْهِمَا.
فَأَحَدُ الْفَصْلَيْنِ: وُجُوبُ زَكَاةِ الدَّيْنِ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُعَجَّلٌ. وَمُؤَجَّلٌ، وَالْمُعَجَّلُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى مَلِيءٍ مُعْتَرِفٍ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ مِنْهُ مَتَى شَاءَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَهُ، سَوَاءٌ قَبَضَهُ أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ كَالْوَدِيعَةِ.
وَقَالَ أبو حنيفة لَا يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ كَالْمَغْصُوبِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى مَلِيءٍ مُعْتَرِفٍ فِي الْبَاطِنِ مُمَاطِلٍ فِي الظَّاهِرِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ، خَوْفًا مِنْ جُحُودِهِ وَمَطْلِهِ، فَإِذَا قَبَضَهُ زَكَّاهُ لِمَا مَضَى قَوْلًا وَاحِدًا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى مَلِيءٍ مُنْكِرٍ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى مُقِرٍّ مُعْسِرٍ وَجَوَابُهُمَا سَوَاءٌ، وَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَغْصُوبِ لَا يُزَكِّيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، فَإِذَا قَبَضَهُ فَهَلْ يُزَكِّيهِ لِمَا مَضَى أَوْ يَسْتَأْنِفُ بِهِ الْحَوْلَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَأَمَّا الْمُؤَجَّلُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ مَالِكًا له قبل حلول أجله؟ على قولين، وهو قول أبي إسحاق المروزي يكون مالكا لَهُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَمْلِكُ مَا لَا حنث فيه ومن حَلَفَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ حَنِثَ قَالَ: لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ أَنْ يُبَرِّئَهُ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ ثَبَتَ أَنَّهُ مَالِكٌ لَهُ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ حُكْمُهُ فِي الزَّكَاةِ حُكْمَ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ، فَيَكُونُ وُجُوبُ زَكَاتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هريرة لَا يَكُونُ مَالِكًا لَهُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَمْلِكُ مَالًا بَرَّ، وَلَوْ حَلَفَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَنْ لَا شَيْءَ لَهُ بَرَّ، قَالَ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْلِكِ الْمُطَالَبَةَ بِهِ وَلَا الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ ثَمَرَةُ الْمِلْكِ، ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَسْتَأْنِفُ حَوْلَهُ إِذَا حَلَّ أَجْلُهُ.
وَالْفَصْلُ الثَّانِي: وُجُوبُ زَكَاةِ الْمَالِ الْغَائِبِ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِرًّا فِي بَلَدٍ يَعْرِفُ سَلَامَتَهُ فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ فِي الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، فَإِنْ أَخْرَجَهَا فِي غَيْرِهِ كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ نَقْلِ الصَّدَقَةِ أَحَدُهُمَا. يُجْزِئُهُ.

(3/263)


وَالثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ سَائِرًا غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ لَكِنْ يَعْرِفُ سَلَامَتَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ زَكَاتَهُ قَبْلَ وُصُولِهِ، فَإِذَا وَصَلَ زَكَّاهُ لِمَا مَضَى قَوْلًا وَاحِدًا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ سَائِرًا غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ وَلَا مَعْرُوفِ السَّلَامَةِ فَهُوَ كَالْمَالِ الضَّالِّ، لَا يُزَكِّيهِ قَبْلَ وُصُولِهِ، فإذا وصل هل يُزَكِّيهِ لِمَا مَضَى أَوْ يَسْتَأْنِفُ حَوْلَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَإِذَا ثَبَتَ هَذَانِ الْفَصْلَانِ فَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ مَعَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ حَاضِرَةٍ، وَيَمْلِكُ مِائَةَ دِرْهَمٍ أُخْرَى دَيْنًا أَوْ غَائِبَةً، فَإِنْ كَانَتْ دَيْنًا وَقَدْ حَالَ الْحَوْلُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الدَّيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ.
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَجِبُ زَكَاتُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ وَزَكَاةِ الْمِائَةِ الْحَاضِرَةِ جَمِيعًا.
وَالْقِسْمُ الثاني: أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مِمَّا تَجِبُ زَكَاتُهُ بَعْدَ قبضه، فإنه ينتظر بالمائة الحاضرة فيصير دَيْنِهِ، فَإِنْ قَبَضَهُ زَكَّاهَا مَعَ الدَّيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِمَا، وَكَذَا الجواب في الغائبة سَوَاءٌ.

مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَمَا زَادَ وَلَوْ قِيرَاطًا فَبِحِسَابِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الْوَقْصُ فِي الْوَرِقِ مُعْتَبَرٌ في ابتدائه غير معتبر في انتهائه فَمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ بِحِسَابِهِ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا شَيْءَ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَيَجِبُ فِيهَا دِرْهَمٌ، وَلَا شَيْءَ فِيمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ، وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ وَوَافَقَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: هَاتُوا رُبُعَ الْعُشْرِ مِنَ الْوَرِقِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا " وَبِرِوَايَةِ حَبِيبِ بْنِ نَجِيحٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: " لَا تَأْخُذْ مِنَ الْكَسْرِ شَيْئًا وَلَا مِنَ الْوَرِقِ حَتَّى تبلغ مائتي درهم ولا تأخذ مما زاد شيئاً حتى تبلغ أربعين فإذا بلغتها ففيها درهم " قال وَلِأَنَّهُ جِنْسُ مَالٍ فِي ابْتِدَائِهِ وَقْصٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي أَثْنَائِهِ وَقْصٌ كَالْمَوَاشِي.
وَدَلِيلُنَا: عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي " الرِّقَّةِ رَبُعُ الْعُشْرِ " فَكَانَ مَا اسْتُثْنِيَ مِنْهُ خَارِجًا، وَمَا سِوَى الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى حُكْمِ الْعُمُومِ بَاقِيًا، وَرَوَى عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -

(3/264)


قَالَ: " هَاتُوا رُبُعَ الْعُشْرِ مِنَ الْوَرِقِ مِنْ كل أربعين دِرْهَمًا وَلَا شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْنِ فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَمَا زَادَ فَعَلَى حِسَابِ ذَلِكَ " وَهَذَا نَصٌّ وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي مَائَتَيْنِ خَمْسَةٌ وَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْأَرْضِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ وَقْصٌ بَعْدَ وُجُوبِ زَكَاتِهِ كَالزُّرُوعِ، وَلِأَنَّهَا زِيَادَةٌ عَلَى نِصَابٍ فِي جِنْسِ مَالٍ لَا ضَرَرَ فِي تَبْعِيضِهِ فَوَجَبَ أَنْ تَجِبَ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالْأَرْبَعِينَ، أَوْ كَالذَّهَبِ، وَلِأَنَّ الْوَقْصَ فِي الزَّكَاةِ وَقْصَانِ: وَقْصٌ فِي ابْتِدَاءِ الْمَالِ لِيَبْلُغَ حَدًّا يَحْتَمِلُ الْمُوَاسَاةَ، وهذا موجود في الورق، فاعتبر فيه وقص في أثناء المال، لأن لَا يَجِبَ كَسْرٌ يُسْتَضَرُّ بِإِيجَابِهِ فِيهِ، وَهَذَا مَعْدُومٌ فِي الْوَرِقِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ، فَثَبَتَ أخذ الْوَقْصَيْنِ لِوُجُودِ مَعْنَاهُ، وَسَقَطَ الْوَقْصُ الثَّانِي لِفَقْدِ مَعْنَاهُ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهُوَ أَنْ يُقَالَ: نَحْنُ نَعْمَلُ بِمُوجَبِهِ وَهُوَ أَنَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا، وَلَيْسَ فِيهِ أَنْ لَا شَيْءَ فِيمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ، فَإِنْ قِيلَ الْمَحْدُودُ عِنْدَكُمْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ مُخَالِفًا لِحُكْمِ مَا خَرَجَ عَنْهُ وما نقص عن الأربعين فأرج عما أخذ بالأربعين ووجب أن يكون حكمه مخالفاً له قبل ذلك قيل كذلك نقول إلا أنا نُوجِبُ فِي الْأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا كَامِلًا، وَلَا نُوجِبُ فِيمَا دُونَهَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا نُوجِبُ بَعْضَ دِرْهَمٍ، وَبِهَذَا يُجَابُ عَنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ فِي قَوْلِهِ وَلَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ، أي: لا شَيْءَ فِيهَا كَامِلٌ هَذَا إِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ مِنْ قَدْحٍ فِيهِ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ الْجَرَّاحِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ عُبَادَةَ، وَالْمِنْهَالُ بْنُ الْجَرَّاحِ هُوَ أَبُو الْعَطُوفِ الجراح بن المنهال، وإنما قلت محمد بن إسحاق باسمه لِضَعْفِهِ وَاشْتِهَارِهِ بِوَضْعِ الْحَدِيثِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ عُبَادَةَ لَمْ يَلْقَ مُعَاذًا فَكَانَ الْحَدِيثُ مُنْقَطِعًا، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَوَاشِي فَالْمَعْنَى فِيهَا أَنَّ فِي تَبْعِيضِهَا ضَرَرًا، فَلِذَلِكَ ثَبَتَ فِي انْتِهَائِهَا وَقْصٌ، والورق ليس في تبعيضها ضرر فذلك لَمْ يَثْبُتْ فِي أَثْنَائِهَا وَقْصٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن ارتد ثم حال الْحَوْلُ فَفِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ فِيهِ الزَّكَاةَ وَالثَّانِي يُوقَفُ فَإِنْ أَسْلَمَ فَفِيهِ الزَّكَاةُ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْفَرْضُ بِالرِّدَّةِ وَإِنْ قُتِلَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ زَكَاةٌ وَبِهَذَا أَقُولُ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) أَوْلَى بِقَوْلِهِ عِنْدِي الْقَوْلُ الْأَوَّلُ عَلَى مَعْنَاهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي بَابِ زَكَاةِ الْغَنَمِ، وَذَكَرْنَا أَنَّهُ إِنِ ارْتَدَّ بَعْدَ الْحَوْلِ فَالزَّكَاةُ لَا تَسْقُطُ، وَإِنِ ارْتَدَّ قَبْلَ الْحَوْلِ وَقُتِلَ أَوْ مَاتَ فَالزَّكَاةُ لَمْ تَجِبْ، وَإِنْ بَقِيَ عَلَى رِدَّتِهِ حَتْي حَالَ الْحَوْلُ عَلَى مَالِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ، وَقَوْلٌ ثَالِثُ مُخْتَلَفٌ فِي تَخْرِيجِهِ.

(3/265)


أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي مَالِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وُقُوفُ الْأَمْرِ عَلَى مُرَاعَاةِ حَالِهِ، فَإِنْ أَسْلَمَ وَجَبَتْ وَإِنْ قُتِلَ لَمْ تَجِبْ، وَالْقَوْلُ خَرَّجَهُ أَبُو إِسْحَاقَ وَامْتَنَعَ مِنْهُ أَبُو الْعَبَّاسِ لَا زَكَاةَ فِي مَالِهِ بِحَالٍ سَوَاءٌ أَسْلَمَ أَوْ قُتِلَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَخْرِيجَ هَذَا الْقَوْلِ وسبب اختلافهم فيه.

مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وحرامٌ أن يؤدي الرجل الزكاة من شر ماله لقول الله جل وعز {وَلاَ تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بآخِذِيهِ إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} يَعْنِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ لَا تُعْطُوا فِي الزَّكَاةِ مَا خَبُثَ أَنْ تَأْخُذُوهُ لِأَنْفُسِكُمْ وَتَتْرُكُوا الطَّيِّبَ عندكم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ الْمُزَنِيُّ:
وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَقُلْنَا إِنَّ إِخْرَاجَ الرَّدِيءِ عَنِ الْجَيِّدِ لَا يَجُوزُ، وَإِخْرَاجَ الْجَيِّدِ عَنِ الرَّدِيءِ لَا يَجِبُ وقَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) {البقرة: 267) فِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْحَرَامُ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ.
وَالثَّانِي: الرَّدِيءُ فِي الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ وَهُوَ أَصَحُّ التَّأْوِيلَيْنِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ {وَلَسْتُمْ بآخِذِيهِ إلاَّ أنْ تُغْمِضُواْ فِيه) {البقرة: 267) وَالْحَرَامُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُغْمَضَ فِي أَخْذِهِ عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، مَنْقُولٌ وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَرَأَى فِيهِ عَذْقًا حَشَفًا فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: صَدَقَةُ فُلَانٍ، يَعْنُونَ رَجُلًا من الأنصار، فغضب وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ غنيٌّ عَنْ فلانٍ وصدقتهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مُصَدِّقًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أتاه بفصيل محلولٍ فِي الصَّدَقَةِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - انظروا إلى فلانٍ أتانا بفصيل محلول، فَبَلَغَهُ فَأَتَاهُ بَدَلَهُ بِنَاقَةٍ كوماءٍ، قَالَ أَبُو عبيد المحلول هُوَ الْهَزِيلُ الَّذِي قَدْ حَلَّ جِسْمُهُ.

(3/266)