الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

باب الاختيار في صدقة التطوع
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أَخْبَرَنَا أَنَسُ بْنُ عياضٍ عَنْ هشامٍ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ " خَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَلْيَبْدَأْ أحدكم بمن يعول " (قال) : فهكذا أحب أَنْ يَبْدَأَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ بِمَنْ يَعُولُ لِأَنَّ نَفَقَةَ مَنْ يَعُولُ فَرْضٌ وَالْفَرْضُ أَوْلَى بِهِ من النفل ثم قرابته ثم من شاء وروي أن امرأة ابن مسعود كانت صناعاً وليس له مال فقالت لقد شغلتني أنت وولدك عن الصدقة فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن ذلك فقال " لك في ذلك أجران فأنفقي عليهم " والله أعلم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ قَبْلَ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ مِنَ الزَّكَوَاتِ، وَالْكَفَّارَاتِ وَقَبْلَ الْإِنْفَاقِ عَلَى مَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ مِنَ الْأَقَارِبِ وَالزَّوْجَاتِ فَغَيْرُ مُسْتَحَقَّةً، وَلَا مُخْتَارَةٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " خَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَلْيَبْدَأْ أَحَدُكُمْ بِمَنْ يَعُولُ " وَفِي قَوْلِهِ: " عَنْ ظَهْرِ غِنًى تَأْوِيلَانِ ".
أَحَدُهُمَا: بَعْدَ اسْتِغْنَاءِ نَفْسِهِ عَنْ تَتَبُّعِ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ يَدِهِ.
وَالثَّانِي: بَعْدَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ النَّوَافِلَ إِلَّا بَعْدَ إِحْكَامِ الْفَرَائِضِ " وَفِيهِ أَيْضًا تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَقْبَلُ اللَّهُ النَّوَافِلَ كَامِلَةً إِلَّا بَعْدَ إِحْكَامِ الْفَرَائِضِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَقْبَلُهَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا بَعْدَ إِحْكَامِ الْفَرَائِضِ وَيُحْتَسَبُ بِالنَّوَافِلِ عَنِ الْفَرَائِضِ، فَإِذَا كَمُلَتِ الْفَرَائِضُ تَقَبَّلَ النَّوَافِلَ، وَقَدْ جَاءَ الْخَبَرُ بِهَذَا فَإِذَا أَدَّى الرَّجُلُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ مِنْ نَفَقَاتِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، وَمِنْ إِخْرَاجِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُهُ اسْتَحْبَبْنَا

(3/390)


حينئذ أن يتصدق بشيء من ماله فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ عبدٍ يَتَصَدَّقُ بصدقةٍ مِنْ كسبٍ طَيِّبٍ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا طَيِّبًا وَلَا يَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ إلا طيباً كما يَضَعُهَا فِي يَدِ الرَّحْمَنِ فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَى اللُّقْمَةَ فَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنَّهَا لَمِثْلُ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ " ثُمَّ قَرَأَ: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَات} (التوبة: 104) وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قَدْرِ مَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ.
فَقَالَ قَوْمٌ: بِجَمِيعِ مَالِهِ كَفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه.
وقال آخرون ينصفه كَفِعْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بِثُلْثِهِ، كَفِعْلِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالَّذِي عِنْدَنَا أَنَّ الِاسْتِحْبَابَ فِي ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْمُصَّدِّقِ، فَإِنْ كَانَ حَسَنَ الْيَقِينِ قَنُوعًا لَا يُقَنِّطُهُ الْفَقْرُ، وَلَا يَسْأَلُ عِنْدَ الْعَدَمِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ، فَقَدْ رَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن تتصدق فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي فَقُلْتُ الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا فَجِئْتُ بنصفِ مَالِي فَقَالَ مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ قُلْتُ مِثْلَهُ قَالَ وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ فَقَالَ أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقُلْتُ لَا أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا فرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا أَقَرَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ على ذلك واستحسنه لِمَا عَلِمَ مِنْ قُوَّةِ إِيمَانِهِ وَصِحَّةٍ يَقِينِهِ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنْفِقْ بِلَالُ وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إقلالاً " فأما من كان ضعيف اليقين يطعنه الْفَقْرُ، وَيَسْأَلُ عِنْدَ الْعَدَمِ فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ بَلْ يَتَصَدَّقُ بِحَسَبَ حَالِهِ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا رَوَى مَحْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ " كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذْ جَاءَ رَجُلٌ بِمِثْلِ بيضةٍ مِنْ ذهبٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَبْتُ هَذِهِ مِنْ معدن فخذها فهي صدقةٌ لا أَمْلِكُ غَيْرَهَا فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى أَتَى بِهَا مِرَارًا فَأَعْرَضَ ثُمَّ أَخَذَهَا فَحَذَفَهُ بِهَا فَلَوْ أَصَابَتْهُ لَأَوْجَعَتْهُ ثُمَّ قَالَ يَأْتِي أَحَدُكُمْ بِمَا يَمْلِكُ فَيَقُولُ هَذِهِ صَدَقَةٌ ثُمَّ يَقْعُدُ فَيَسْأَلُ الناس خير الصدقات ما أبقت عنى " وَأَرَادَ غَيْلَانُ بْنُ سَلَمَةَ أَنْ يُوَصِّيَ بِمَالِهِ

(3/391)


كله للمساكين فأكرهه عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى رَجَعَ فِيهِ، وَقَالَ: لو مت على رأيك لرجمت قَبْرُكَ كَمَا يُرْجَمُ قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ.

فَصْلٌ
: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ الصَّدَقَةِ بِالْيَسِيرِ، فَإِنَّ قَلِيلَ الْخَيْرِ كَثِيرٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) {الزلزلة: 7) وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تمرةٍ " وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أُرْدُدْ عَنْكَ حَذْمَةَ السَّائِلِ وَلَوْ بِمِثْلِ رَأْسِ الطَّيْرِ مِنَ الطَّعَامِ "، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَمْنَعْكُمْ مِنْ معروفٍ صَغِيرَهُ " وَيَخْتَارُ أَنْ يتصدق على ذوي أرحامه لما ذكرنا وَعَلَى أَهْلِ الْخَيْرِ، وَذَوِي الْفَضْلِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَأْكُلْ طَعَامَكُمْ إِلَّا مؤمنٌ " فَإِنْ تُصَدِّقَ عَلَى كَافِرٍ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ، أَوْ مَجُوسِيٍّ جَازَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) {الإنسان: 8) وَالْأَسِيرُ لَا يَكُونُ إِلَّا كَافِرًا، وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ تعالى مطمعه فَدَلَّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ وَرَوَى هشامٍ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أُمِّهِ أَسْمَاءَ قَالَتْ: قَدِمَتْ على أمي راعيةً مشركةً فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إني أمي جاءت راعية مُشْرِكَةً أَفَأَصِلُهَا قَالَ: " نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ ".
فَصْلٌ
: يُسْتَحَبُّ لِلْفَقِيرِ أَنْ يَتَعَفَّفَ عَنِ السُّؤَالِ لِمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَالَ بَايَعَنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَأَنْ لَا يَسْأَلَ أَحَدٌ أَحَدًا شَيْئًا، وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ أُنَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأعطاهم حتى إذا نفذهم ما عندهم قَالَ مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خيرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفُّهُ اللَّهُ وَمَنْ يستغنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ

(3/392)


يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِيَ أحدٌ مِنْ عطاءٍ أَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ وَرَوَى طَارِقٌ عَنِ ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَصَابَتْهُ فاقةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ لَمْ يَسُدَّ اللَّهُ فَاقَتَهُ وَمَنْ أَنْزَلَهَا بِاللَّهِ أَوْشَكَ لَهُ بِالْغِنَى أَوْ بِمَوْتٍ عاجلٍ " فَلِذَلِكَ كَرِهْنَا لَهُ السُّؤَالَ مَعَ قَوْله تَعَالَى: {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافاً) {البقرة: 273) فَإِنْ سَأَلَ لَمْ يَحْرُمِ السُّؤَالُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا وَيَقْصِدُ بِسُؤَالِهِ أَهْلَ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ سَائِلًا فَاسْأَلِ الصَّالِحِينَ " وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال " يد الله العلياء وَيَدُ الْمُعْطِي الْوُسْطَى وَيَدُ الْمُسْتَعْطِي السُّفْلَى " فَأَمَّا مَنْ سَأَلَ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنِ الْمَسْأَلَةِ بِمَالٍ، أَوْ بِصِنَاعَةٍ فَهُوَ بِسُؤَالِهِ آثِمٌ، وَمَا يَأْخُذُهُ عَلَيْهِ مُحَرَّمٌ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَنْ سَأَلَ وَهُوَ غَنِيٌّ جَاءَتْ مَسْأَلَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُدُوشًا أَوْ خُمُوشًا أَوْ كُدُوحًا فِي وَجْهِهِ قِيلَ وَمَا غِنَاهُ، قَالَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ عَدْلُهَا مِنَ الذَّهَبِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَنْ سَأَلَ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ فَقَدْ سَأَلَ النَّاسَ إلحافاً " وليس الغنى بالمال وحده بل قد يَكُونُ الرَّجُلُ غَنِيًّا بِمَالِهِ، وَقَدْ يَكُونُ غَنِيًّا بِنَفْسِهِ، وَصَنْعَتِهِ فَإِذَا اسْتَغْنَى بِمَادَّةٍ مَنْ مَالٍ، أو صنعة كَانَ غَنِيًّا تَحْرُمُ الْمَسْأَلَةُ عَلَيْهِ، وَنَحْنُ نَسْأَلُ اللَّهَ الْمَعُونَةَ، وَحُسْنَ الْكِفَايَةِ بِتَوْفِيقِهِ وَمِنْهُ إِنْ شاء الله.

(3/393)