الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

باب بيان أن العمرة واجبة كالحج
قال الشافعي رضي الله عنه: " قَالَ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَأَتِّمُوا الحَجَّ والْعُمْرَةِ للهِ} (البقرة: 196) فَقَرَنَ الْعُمْرَةَ بِهِ وَأَشْبَهُ بِظَاهِرِ القرآن أن تكون العمرة واجبة واعتمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قبل الحج ومع ذلك قول ابن عباس والذي نفسي بيده إنها لقرينتها في كتاب الله {وأَتِمُّوا الحَجَّ والْعُمْرَةَ للهِ} وعَنْ عَطاء قال ليس أحد من خلق الله إلا وعليه حجة وعمرة واجبتان (قال) وقال غيره من مكيينا وسن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في قران العمرة مع الحج هدياً ولو كانت نافلةً أشبه أن لا تقرن مع الحج وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة " وروي أن في الكتاب الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لعمرو بن حزم أن العمرة هي الحج الأصغر ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْعُمْرَةُ فِي كَلَامِهِمْ فَفِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الْقَصْدُ، وَكُلُّ قَاصِدٍ لِشَيْءٍ فَهُوَ مُعْتَمِرٌ قَالَ الْعَجَّاجُ:
(لَقَدْ سَمَا ابْنُ مَعْمَرٍ حِينَ اعْتَمَرْ ... مَغْزًا بَعِيدًا مِنْ بَعِيدٍ وَصَبَرْ)

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: هِيَ الزِّيَارَةُ وَقَالَ أَعْشَى باهلة:
(وجَاشت النفس لما جاء فَلُّهُمُ ... وَرَاكِبٌ جَاءَ مِنْ تَثْلِيثِ مُعْتَمِرًا)

يَعْنِي: زَائِرًا هَكَذَا قَالَ الْأَصْمَعِيُّ، لَكِنَّ الْعُمْرَةَ فِي الشَّرْعِ تَشْتَمِلُ عَلَى إِحْرَامٍ، وَطَوَافٍ، وَسَعْيٍ، وَحِلَاقٍ.
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وُجُوبِهَا فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْمُعَوَّلِ عَلَيْهِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ كَالْحَجِّ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.
وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وإسحاق.

(4/33)


وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: وَأَحْكَامُ الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ.
وَمِنَ التَّابِعِينَ عَامِرُ الشَّعْبِيُّ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ، وأبو حنيفة، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَهُ قَوْلًا ثَانِيًا، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ إِنَّمَا ذَكَرَهُ حِكَايَةً عَنْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ إِنَّهَا سُنَّةٌ بِمَا رَوَى الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَأَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَنِ الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ فَقَالَ لَا وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ وَبِمَا رَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْحَنَفِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: الْحَجُّ جهادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُعٌ وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة.
قَالُوا: وَلِأَنَّهُ نُسُكٌ يُفْعَلُ عَلَى وَجْهِ التَّتَبُّعِ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ كَالصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبًا كَطَوَافِ اللُّزُومِ، وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ كَانَتْ وَاجِبَةً بِأَصْلِ الشَّرْعِ كَانَ لَهَا وَقْتٌ مُعَيَّنٌ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْعُمْرَةِ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ عُلِمَ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ بِأَصْلِ الشَّرْعِ كَالِاعْتِكَافِ قَالُوا: وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ اخْتُصَّتْ بِزَمَانٍ كَانَ جِنْسُهَا نَفْلٌ يَتَكَرَّرُ، فِي غَيْرِ وَقْتِهَا كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ الْحَجِّ نَفْلٌ يَتَكَرَّرُ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ نَفْلُ الْحَجِّ لِتَكَرُّرِهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى وجوبها قوله تعالى: {فَأَتِمّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ للهِ) {البقرة: 196) وفيه قرأتان:
إِحْدَاهُمَا: قَرَأَ بِهَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ للهِ) {البقرة: 196) وَالْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ إِذَا صَحَّتْ جَرَتْ مَجْرَى خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ.
وَالثَّانِيَةُ: قِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ {وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ للهِ) {البقرة: 196) وَالدَّلَالَةُ فِيهَا من وجهين:

(4/34)


أحدهما: أن إتمامها أَنْ يُفْعَلَا عَلَى التَّمَامِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمهُنَّ) {البقرة: 124) أَيْ فَعَلَهُنَّ تَامَّاتٍ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا: إِتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ أَنَّهُ أُمِرَ بِالْإِتْمَامِ، وَحَقِيقَةُ الْبِنَاءِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ إِتْمَامُ الْعُمْرَةِ وَاجِبًا وَإِتْمَامُهَا لَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ إِلَّا بِابْتِدَاءِ الدُّخُولِ فِيهَا، وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إِلَى الْوَاجِبِ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، كَاسْتِقَاءِ الْمَاءِ لِلطَّهَارَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَى يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ عَنِ ابن عُمَرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْإِسْلَامُ فَقَالَ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ، وَتَعْتَمِرَ وَتَغْتَسِلَ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَتُتِمُّ الْوُضُوءَ قَالَ: فَإِذَا فَعَلْتُ هَذَا فَأَنَا مُسْلِمٌ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: صَدَقْتَ فَجَعَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعُمْرَةَ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَقَرَنَهَا بِالْوَاجِبَاتِ وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعَلَى النَّسَاءِ جهادٌ، فَقَالَ عَلَيْهِنَّ جهادٌ، لَا قِتَالَ فِيهِ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِمَا بَدَأْتَ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَفْتَقِرُ إِلَى الطَّوَافِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ بِأَصْلِ الشَّرْعِ كَالْحَجِّ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَجِبُ فِي إِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ فَوَجَبَ أَنْ تَتَنَوَّعَ فَرْضًا وَنَفْلًا كَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ فَلَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ رُوِيَ عَمَّنْ سَمِعَ وَعَمَّنْ لَمْ يَسْمَعْ عَلَى أَنَّهُ إِنْ صَحَّ، حُمِلَ عَلَى سَائِلٍ سَأَلَ عَنْ عُمْرَةٍ ثَانِيَةٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: الْحَجُّ جهادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ فَحَدِيثٌ مُرْسَلٌ لِأَنَّ أَبَا صَالِحٍ الْحَنَفِيَّ تَابِعِيٌّ عَلَى أَنَّهُ شَبَّهَ الْحَجَّ بِالْجِهَادِ لِعِظَمِ مَشَقَّتِهِ وَثَوَابِهِ، وَالْعُمْرَةَ بِالتَّطَوُّعِ لِقِلَّةِ مَشَقَّتِهَا، وَإِنَّ ثَوَابَ الْحَجِّ أَكْثَرُ مِنْ ثَوَابِهَا، وَكَذَا الْجَوَابُ عَمَّا رُوِيَ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ حَجَّ فَكَأَنَّمَا صَلَّى الْفَرِيضَةَ وَمَنِ اعْتَمَرَ فَكَأَنَّمَا صَلَّى النَّافِلَةَ فَجَعَلَ الْعُمْرَةَ كَالنَّافِلَةِ فِي قِلَّةِ عَمَلِهَا، وَثَوَابِهَا، وَالْحَجَّ، كَالْفَرِيضَةِ فِي كَثْرَةِ عَمَلِهِ وَثَوَابِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: " دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ سُقُوطُ وُجُوبِهَا بِوُجُوبِ الْحَجِّ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الْعُمْرَةَ دَخَلَتْ فِي وَقْتِ الْحَجِّ، وَأَشْهُرِهِ، لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا لَا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ، دَخَلَتْ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ فِي الْقِرَانِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الطَّوَافِ فَلَيْسَ طواف القدوم، ونسك بِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ جُمْلَةِ نُسُكٍ كَمَا أَنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ لَيْسَ بِصَلَاةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ من

(4/35)


جُمْلَةِ الصَّلَاةِ وَقَوْلُهُمْ يُفْعَلُ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي طَوَافِ الْقُدُومِ جَوَازُ الْخُرُوجِ مِنْهُ قَبْلَ تَمَامِهِ، وَإِنَّ الْكَفَّارَةَ لا تجب في إفساده، وإما قولهم أن لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهَا وَقْتٌ مُعَيَّنٌ، دَلَّ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَيَبْطُلُ عَلَى أَصْلِهِمْ بِصَلَاةِ الْوِتْرِ ثُمَّ بِالزَّكَوَاتِ عَلَى أَنَّهُ قِيَاسُ الْعَكْسِ، وَلَا نَقُولُ بِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْحَجِّ نَفْلٌ مِنْ جِنْسِهِ يَتَكَرَّرُ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ، اقْتَضَى أَنْ تَكُونَ العمرة نفله والجواب: أن يقال إثماً كَانَ لِلصَّلَاةِ نَفْلٌ يَتَكَرَّرُ فِي وَقْتِهَا لِأَنَّ فرضها يفعل في وَقْتِهَا، وَغَيْرُ وَقْتِ الْحَجِّ لَمَّا لَمْ يَكُنْ وَقْتًا لِفَرْضِ الْحَجِّ، لَمْ يَكُنْ لِلْحَجِّ نَفْلٌ يُفْعَلُ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ، فَسَقَطَ مَا قَالُوهُ.

(4/36)


بَابُ مَا يُجْزِئُ مِنَ الْعُمْرَةِ إِذَا اجْتَمَعَتْ إلى غيرها
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُجْزِيهِ أَنْ يَقْرِنَ الْعُمْرَةَ مَعَ الْحَجِّ وَيُهْرِيقَ دماً، والقارن أَخَفُّ حَالًا مِنَ الْمُتَمَتِّعِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
وَالْقِرَانُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَائِزٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ، وَقَالَ: الْقَارِنُ يَكْفِيهِ طوافٌ واحدٌ وَسَعْيٌ واحدٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَبَّيْكَ بِحِجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا.
وَرَوِيَّ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: قَرَنَتْ بِإِذْنِ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَنَّهَا كَانَتْ مُحْرِمَةً بعمرةٍ فَحَاضَتْ فَأَمَرَهَا أَنْ تُهِلَّ بِالْحَجِّ وَقَالَ: افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ يَعْنِي فِي حَالِ حَيْضِهَا فَلَمَّا طَهُرَتْ وَطَافَتْ قَالَ لَهَا طَوَافُكِ يَكْفِيكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِلصُّبَيِّ بْنِ مَعْبَدٍ حِينَ قَرَنَ، وَقَدْ أَنْكَرَ عليه زيد ابن صُوحَانَ وَسَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْقِرَانِ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ وَفِيهِ تأويلان:

(4/37)


أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ أَدَبًا.
وَالثَّانِي: لِتَمَيُّزِ التَّمْرِ وَعِزَّتِهِ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْقِرَانِ فِي الصَّلَاةِ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَسَأَلْتُ الشَّافِعِيَّ عَنْ مَعْنَاهُ، فَذَكَرَ نَحْوًا مِنْ بِضْعَةِ عَشَرَ وَجْهًا، مِنْهَا أن يدخل بَيْنَ الْإِحْرَامِ وَالتَّوَجُّهِ، أَوْ يُوَاصِلَ بَيْنَ التَّوَجُّهِ وَالْقِرَاءَةِ، أَوْ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ وَالتَّكْبِيرِ إِلَى أَنْ ذَكَرَ الْقِرَانَ بَيْنَ التَّسْلِيمَتَيْنِ.

فَصْلٌ
: فَإِذَا صَحَّ جَوَازُ الْقِرَانِ، فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
فَالضَّرْبُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا معاًُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، فَهَذَا قَارِنٌ حَقِيقَةً لُغَةً وَشَرْعًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ أَوَّلًا ثُمَّ يُدْخِلَ عَلَيْهَا حَجًّا فَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَخْذِهِ فِي الطَّوَافِ جَازَ، وَدَلِيلُ جَوَازِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَخْذِهِ فِي الطَّوَافِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِمُعْظَمِ عُمْرَتِهِ وَشَرَعَ فِي التَّحَلُّلِ مِنْهَا، فَلَوْ وَقَفَ عِنْدَ الْحَجَرِ لِيَأْخُذَ فِي الطَّوَافِ فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ، قَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ فِيهِ جَازَ، وَكَانَ قَارِنًا وَلَوِ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ وَخَطَا خُطْوَةً أَوْ خُطْوَتَيْنِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ لَمْ يَجْزِهِ لِأَخْذِهِ مِنَ الطَّوَافِ وَلَوِ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ وَلَمْ يَمْشِ حَتَّى أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُجْزِيهِ لِأَنَّ الِاسْتِلَامَ مُقَدِّمَةُ الطَّوَافِ.
وَالثَّانِي: لَا يُجْزِيهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أُولَى أَبْعَاضِهِ، وَلَكِنْ لَوِ اسْتَلَمَ غَيْرَ مُرِيدٍ لِلطَّوَافِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ أَجْزَأَهُ لَا يُخْتَلَفُ، وَلَوْ شَكَّ هَلْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ الطَّوَافِ أَوْ بَعْدَهُ، قَالَ أَصْحَابُنَا أَجْزَأَهُ قَالُوا: لِأَنَّ الْأَصْلَ جَوَازُ إِدْخَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ عَلَى أَلَّا يَتَعَيَّنَ بِمَنْعٍ فَصَارَ كَمَنْ أَحْرَمَ وَتَزَوَّجَ، وَلَمْ يَدْرِ هَلْ كَانَ تَزْوِيجُهُ قَبْلَ إِحْرَامِهِ أَوْ بَعْدَهُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ أَجْزَأَهُ.

فصل: والضرب الثاني
: أي يَبْتَدِئَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ ثُمَّ يُدْخِلُ عَلَى حَجِّهِ عُمْرَةً قَالَ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ وُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِمُعْظَمِ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ وُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ فَفِيهِ قَوْلَانِ، قَالَ فِي الْقَدِيمِ: يَجُوزُ لِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، فَجَازَ إِدْخَالُ إِحْدَيْهِمَا عَلَى الْأُخْرَى أَصْلُهُ إِدْخَالُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ أَضْعَفُ مِنَ الْحَجِّ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُزَاحِمَ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا بِالدُّخُولِ عَلَيْهَا، وَجَازَ لِلْحَجِّ مُزَاحَمَتُهَا لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنْهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْفِرَاشَ بِالنِّكَاحِ أَقْوَى مِنَ الْفِرَاشِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، فَلَوْ وَطِئَ أَمَةً بِمِلْكِ الْيَمِينِ، ثُمَّ تَزَوَّجَ عليها أختها ثبت نكاحها، وحرم عليه وطؤ الْأَمَةِ، لِأَنَّ أَقْوَى الْفِرَاشَيْنِ زَاحَمَ أَضْعَفَهُمَا، وَإِنْ تَقَدَّمَ النِّكَاحُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْوَطْءُ بِالْمِلْكِ، لِأَنَّهُ أَضْعَفُ الْفِرَاشَيْنِ زَاحَمَ أَقْوَاهُمَا، فَلَوْ أَدْخَلَ الْعُمْرَةَ عَلَى حَجِّهِ، وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ لَمْ يَجُزْ قَوْلًا وَاحِدًا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ بَعْدَ أَنْ مر

(4/38)


بِعَرَفَةَ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهَا لَمْ يَجُزْ، وَلَكِنْ لَوْ أَدْخَلَ الْعُمْرَةَ عَلَى حَجِّهِ فِي زَمَانِ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ بِهَا كَانَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ.

فَصْلٌ
: وَإِذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا بِوَطْءٍ، وَأَدْخَلَ عَلَيْهَا حَجًّا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِمَا الْإِفْرَادُ ثُمَّ وَرَدَتِ الرُّخْصَةُ فِي إِدْخَالِ الْحَجِّ عَلَى عُمْرَةٍ سَلِيمَةٍ، فَكَانَ الثَّانِي عَلَى حُكْمِ أَصْلِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ الْفَاسِدَةَ فِي حُكْمِ غَيْرِ الْفَاسِدَةِ فِي وُجُوبِ الْإِتْمَامِ، كَذَلِكَ فِي جَوَازِ القِران فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ، وَفِي قَضَاءِ الْحَجِّ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِسَلَامَةِ الْحَجِّ مِنَ الْوَطْءِ.
وَالثَّانِي: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ قَرَنَ إِدْخَالَ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ كَالْإِحْرَامِ بِهِمَا، فَصَارَ كَالْوَاطِئِ فِيهِمَا.
فَصْلٌ
: فَإِذَا قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَعَلَيْهِ دَمٌ بِقِرَانِهِ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ لَا دَمَ عَلَيْهِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: الْقَارِنُ عَلَيْهِ شَاةٌ وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَبَحَ عَنْ جَمِيعِ نِسَائِهِ بَقَرَةً وَنَحْنُ قارناتٌ فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: وَالْقَارِنُ (أَخَفُّ حَالًا مِنَ الْمُتَمَتِّعِ) فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الرَّدَّ عَلَى مَنْ أَوْجَبَ عَلَى الْقَارِنِ بَدَنَةً، لِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ مَعَ إِخْلَالِهِ بِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ وَتَمَتُّعِهِ بَيْنَ الْإِحْرَامَيْنِ، لَا تَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ فَالْقَارِنُ مَعَ اسْتِدَامَةِ إِحْرَامِهِ أَوْلَى أَنْ لَا تَلْزَمَهُ بَدَنَةٌ، وَعَلَى هَذَا نَصَّ فِي الْقَدِيمِ.
وَالثَّانِي: وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الرَّدَّ عَلَى مَنْ أَسْقَطَ الدَّمَ عَنِ الْقَارِنِ لِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ وَإِنْ أَخَلَّ بِأَحَدِ الْإِحْرَامَيْنِ، فَقَدْ أَتَى بِعَمَلَيْنِ كَامِلَيْنِ فِي زَمَانَيْنِ ثُمَّ عَلَيْهِ دَمٌ، فَالْقَارِنُ مَعَ إِخْلَالِهِ بِأَحَدِ الْعَمَلَيْنِ أَوْلَى بإيجاب الدم عليه.

مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن اعتمد قبل الحج ثم أقام بمكة حتى ينشيء الْحَجَّ أَنْشَأَهُ مِنْ مَكَّةَ لَا مِنَ الْمِيقَاتِ وَلَوْ أَفْرَدَ الْحَجَّ وَأَرَادَ الْعُمْرَةَ بَعْدَ الْحَجِّ خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ ثُمَّ أَهَلَّ مِنْ أَيْنَ شَاءَ فَسَقَطَ عَنْهُ بِإِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ مِنَ الْمِيقَاتِ وأحرم من أقرب

(4/39)


الْمَوَاضِعِ مِنْ مِيقَاتِهَا وَلَا مِيقَاتَ لَهَا دُونَ الْحِلِّ كَمَا يَسْقُطُ مِيقَاتُ الْحَجِّ إِذَا قَدَّمَ الْعُمْرَةَ قَبْلَهُ لِدُخُولِ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ كُلُّ مَنْ مَرَّ بِمِيقَاتِ بَلَدِهِ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً، أَوْ قِرَانًا فَعَلَيْهِ الْإِحْرَامُ مِنْ مِيقَاتِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَهٍ حَدَّ الْمَوَاقِيتَ وَقَالَ هَذِهِ الْمَوَاقِيتُ لِأَهْلِهَا وَلِكُلِّ آتٍ أَتَى عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا ممن أَرَادَ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً فَإِذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الْمِيقَاتِ وَأَحَلَّ مِنْهَا وَأَرَادَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ أَحْرَمَ بِهِ مِنْ مَكَّةَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ فَتَحَ الْحَجَّ عَلَى أَصْحَابِهِ وَأَمَرَهُمْ بِالْعُمْرَةِ قَالَ عِنْدَ فَرَاغِهِمْ مِنْهَا: مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيُهِلَّ قَالَ جَابِرٌ فَأَحْرَمْنَا بِالْحَجِّ مِنْ بَطْحَاءِ مَكَّةَ، وَهَذَا هُوَ التَّمَتُّعُ فَأَمَّا إِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنَ الْمِيقَاتِ وَأَحَلَّ مِنْهُ وَأَرَادَ الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ، أَحْرَمَ بِهَا مِنَ الْحِلِّ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا أَرَادَتِ الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أخاها عبد الرحمن أن يعمرها من التنعيم فِي الْحِلِّ، وَهَذَا هُوَ الْإِفْرَادُ.
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ بِأَحَدِهِمَا مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ، وَأَرَادَ الْإِحْرَامَ بِالْآخَرِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ مَكَّةَ إِنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَحْرَمَ بِهِ مِنْ مَكَّةَ، وَإِنْ أَرَادَ الْعُمْرَةَ أَحْرَمَ بِهَا مِنَ الْحِلِّ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلَّ نُسُكٍ فِيهِمَا يَفْتَقِرُ إِلَى أَنْ يُجْمَعَ فِيهِ بَيْنَ حِلٍّ وَحَرَمٍ، لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ فِيهِمَا بِقَصْدِ الْبَيْتِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ) {البقرة: 125) أَيْ: مَرْجِعًا قَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ:
(مثابٌ لِأَفْتَاءِ القبائل كلها ... تخب إِلَيْهَا الْيَعْمَلَاتُ الزَّوَامِلُ)

وَكُلُّ الْحَرَمِ مَنْسُوبٌ إِلَى الْبَيْتِ، فَافْتَقَرَ إِلَى الْقَصْدِ إِلَيْهِ مِنَ الْحِلِّ فَإِنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَحْرَمَ بِهِ مِنْ مَكَّةَ، أَوِ الْحَرَمِ لِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْهُ إِلَى الحل ضرورة للوقوف بعرفة، وعرفة حل لأحرم، وَإِذَا أَرَادَ الْعُمْرَةَ أَحْرَمَ بِهَا مِنَ الْحِلِّ، لِأَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِهَا فِي الْحَرَمِ وَهُوَ الطَّوَافُ، وَالسَّعْيُ وَالْحَلْقُ، فَلَوْ جَازَ لَهُ الْإِحْرَامُ بِهَا مِنَ الْحَرَمِ لَمْ يَكُنْ قَاصِدًا مِنْ حِلٍّ إلى حرم.

(4/40)


فَصْلٌ
: فَإِذَا أَحْرَمَ الْمُتَمَتِّعُ بِالْحَجِّ مِنْ غَيْرِ مَكَّةَ، فَإِنْ عَادَ مُحْرِمًا إِلَى مَكَّةَ، ثُمَّ تَوَجَّهُ إِلَى عَرَفَةَ أَجْزَأَهُ، وَإِنَّ تَوَجَّهَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى عَرَفَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعُودَ إِلَى مَكَّةَ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَحْرَمَ مِنَ الْحَرَمِ.
وَالثَّانِي: مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ.
وَالثَّالِثُ: مِنْ حِلٍّ بَيْنَ الْحَرَمِ وَالْمِيقَاتِ فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَدْ عَادَ إِلَى حُكْمِ الْأَصْلِ لِأَنَّ إِحْرَامَهُ مِنْ مَكَّةَ رُخْصَةٌ، وَإِنْ أَحْرَمَ مِنَ الْحَرَمِ خَارِجَ مَكَّةَ كَانَ كَمَنْ أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ، لِأَنَّ حُكْمَ جَمِيعِ الْحَرَمِ وَاحِدٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ بِقَاعُهُ وَإِنْ أَحْرَمَ مِنَ الْحِلِّ الَّذِي بَيْنَ الْمِيقَاتِ، وَالْحَرَمِ كَانَ عَلَيْهِ دَمٌ لِأَنَّ لَهُ أَحَدُ مِيقَاتَيْنِ فَمِيقَاتُ بَلَدِهِ لِلْأَصْلِ وَمَكَّةُ رُخْصَةٌ فَإِذَا عَدَلَ عَنْهَا صَارَ مُحْرِمًا مِنْ غَيْرِ مِيقَاتٍ، فَلَزِمَهُ الدَّمُ هَذَا أَصَحُّ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ خَرَجَ قَوْلٌ آخَرُ إِنَّهُ لَا دَمَ عَلَيْهِ لِأَنَّ حُكْمَ الْكُلِّ وَاحِدٌ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْمُفْرِدُ إِذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الْحَرَمِ، فَقَدِ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ وَعَلَيْهِ الْخُرُوجُ إِلَى الْحِلِّ ثُمَّ الرُّجُوعُ إِلَى الطَّوَافِ، وَالسَّعْيِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَجْزَأَهُ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ وَقَدْ زَادَ خَيْرًا بِتَعْجِيلِ الْإِحْرَامِ مِنَ الْحَرَمِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ إِلَى الْحِلِّ حَتَّى طَافَ، وَسَعَى وَحَلَقَ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ نَصَّ عَلَيْهِمَا الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ.
أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُهُ وَقَدْ تَحَلَّلَ مِنْ عُمْرَتِهِ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الْمِيقَاتِ، وَإِنَّمَا أَجْزَأَهُ وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ إِلَى الْحِلِّ لِأَنَّ الْحِلِّ مِيقَاتٌ، وَتَرْكُ الْمِيقَاتِ لَا يُوجِبُ بُطَلَانَ الْأَعْمَالِ، وَإِنَّمَا يُوجِبُ الدَّمَ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَكُونُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْأَفْعَالِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ طَوَافُهُ وَسَعْيُهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِحِلَاقِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَطِئَ فَسَدَتْ عُمْرَتُهُ، وَلَزِمَهُ الْمُضِيُّ فِي فَسَادِهَا وَالْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ إِنْ كَانَ عَالِمًا بِبَقَاءِ إِحْرَامِهِ، فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِهِ فَفِي فَسَادِ عُمْرَتِهِ بِوَطْئِهِ، قَوْلَانِ كَالنَّاسِي، وَعَلَيْهِ الْخُرُوجُ إِلَى الْحِلِّ وَالرُّجُوعُ إِلَى الطَّوَافِ، وَالسَّعْيُ وَالْحَلْقُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ لَا بُدَّ لَهَا مَنْ حِلٍّ، فَإِذَا طَافَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْحِلَّ صَارَ فِي مَعْنَى مَنْ طَافَ فِي الْحَجِّ، قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فلا يجزيه عن طواف الفرض.

مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وأحب إلي أن تعتمر مِنَ الْجِعْرَانَةِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْتَمَرَ مِنْهَا فَإِنْ أَخْطَأَهُ ذَلِكَ فَمِنَ التَّنْعِيمِ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعَمَرَ عَائِشَةَ مِنْهَا وَهِيَ أَقْرَبُ الْحِلِّ إِلَى الْبَيْتِ فَإِنْ أَخْطَأَهُ ذَلِكَ فَمِنَ الْحُدَيْبِيَةِ لِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى بِهَا وَأَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ بعمرةٍ مِنْهَا ".

(4/41)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ:
الْحِلُّ كُلُّهُ مِيقَاتُ الْعُمْرَةِ لِأَهْلِ مَكَّةَ، وَإِنَّمَا الِاخْتِيَارُ فِي الشَّرْعِ مَا نَذْكُرُهُ فَأُولَى ذَلِكَ الْإِحْرَامُ بِهَا مِنَ الْجِعْرَانَةِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ فَتَحَ مَكَّةَ سَنَةَ ثَمَانٍ خَرَجَ إِلَى هَوَازِنَ وَلَمَّا أَرَادَ الْعَوْدَةَ إِلَى مَكَّةَ أَحْرَمَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ. وَهِيَ أَبْعَدُ مَوَاقِيتِ الْعُمْرَةِ ثُمَّ يَلِيهَا فِي الْفَضْلِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْمَرَ عَائِشَةَ مِنْهَا ثُمَّ يَلِي ذَلِكَ فِي الْفَضْلِ الْحُدَيْبِيَةُ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حُصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ فَصَلَّى بِهَا وَأَرَادَ الدُّخُولَ لِعُمْرَتِهِ مِنْهَا، فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْفَضْلِ وَالِاخْتِيَارِ، وَمِنْ أَيْنَ أَحْرَمَ مِنَ الحلي جَازَ لِأَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ أَنْ يَجْمَعَ فِي إِحْرَامِهِ بَيْنَ حِلٍّ وَحَرَمٍ.

فَصْلٌ
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَبْلَ الْجِعْرَانَةِ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ، فَكَانَ مُتَطَوِّعًا بِعُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ، فَعَلَى مَذْهَبِهِ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، عُمْرَتَيْنِ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَعُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ سنة ثمان عام الفتح، والثالث: مُخْتَلَفٌ فِيهَا إِنْ قِيلَ إِنَّهُ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَارِنًا حَصَلَتْ لَهُ ثَلَاثُ عُمَرٍ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ مُفْرِدًا فَلَهُ عُمْرَتَانِ.

(4/42)