الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

بَابُ مَا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ مِنَ الطِّيبِ وَلُبْسِ الثياب
مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ قَمِيصًا وَلَا عِمَامَةً وَلَا برنساً ولا خفين إلا أن يَجِدَ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا لَبِسَ سَرَاوِيلَ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كُلِّهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا أَرَادَ الْإِحْرَامَ خَالَفَ مَعْهُودَهُ فِي لُبْسِهِ فَسُئِلَ عَمَّا يَلْبَسُهُ الْمُحْرِمُ، فَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَمَّا يَلْبَسُهُ الْمُحْرِمُ فَقَالَ: " لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْقَمِيصَ، وَلَا السَّرَاوِيلَ، وَلَا الْعِمَامَةَ، وَلَا الْبُرْنُسَ، وَلَا الْخُفَّيْنِ، إِلَّا أَنْ لَا يَجِدَ النَّعْلَيْنِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ وَيَقْطَعْهُمَا، حَتَى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ ". وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ الْقَمِيصَ، وَالْأَقْبِيَةَ، وَالْخُفَّيْنِ، وَالسَّرَاوِيلَاتِ، أَوْ يَلْبَسُ ثَوْبًا فِيهِ وَرَسٌ، أَوْ زَعْفَرَانٌ ".
فإن قيل: فلما سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَمَّا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ؟ فَأَجَابَ بِمَا لَا يَلْبَسُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ جَوَابًا لِسُؤَالِهِمْ.
قِيلَ: عَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ السَّائِلَ أَخْطَأَ فِي سُؤَالِهِ لِأَنَّ أَصْلَ اللِّبَاسِ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَإِنَّمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَهُ عَمَّا لَا يَلْبَسُ؛ لِأَنَّ الْحَظْرَ طَارِئٌ، فَأَجَابَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عما كان ينبغي أن يسئل عَنْهُ لِيُعْلِمَهُ أَنَّهُ قَدْ أَخْطَأَ فِي سُؤَالِهِ، ويخبره حُكْمَ مَا جَهِلَهُ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ مَا يجوز له لبسه أكثر فما حُظِرَ عَلَيْهِ، وَفِي ذِكْرِ جَمِيعِهِ إِطَالَةٌ، فَذَكَرَ مَا حُظِرَ عَلَيْهِ، لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى إِبَاحَةِ مَا سِوَاهُ.
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَقَدْ نَصَّ عَلَى الْقَمِيصِ وَالْقَبَاءِ وَنَبَّهَ عَلَى الْجُبَّةِ، وَالدُّرَّاعَةِ، وَنَصَّ عَلَى السَّرَاوِيلِ، وَنَبَّهَ عَلَى التُّبَّانِ، وَنَصَّ عَلَى الْبُرْنُسِ، وَنَبَّهَ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَ فِي رَأْسِهِ مَخِيطًا، وَلَا غَيْرَهُ مِنْ عِمَامَةٍ، أَوْ مِنْدِيلٍ، وَلَا ثَوْبٍ، وَلَا رِدَاءٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَ فِي بَدَنِهِ مَا يلْبَسُ مَخِيطًا، كَالْقَمِيصِ، والجبة، والقباء، والصدرة،

(4/96)


وَالسَّرَاوِيلِ، وَالتُّبَّانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَ فِي بَدَنِهِ ما يلبس غير مخيط، كالمئذر وَالرِّدَاءِ وَالْإِزَارِ وَالْكِسَاءِ لِأَنَّ الْمَخِيطَ يَحْفَظُ نَفْسَهُ فَمُنِعَ مِنْهُ، وَغَيْرُ الْمَخِيطِ لَا يَحْفَظُ نَفْسَهُ فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ.
فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ يُمْنَعُ مِنْ لُبْسِ مَا يَحْفَظُ نَفْسَهُ مِنَ الْمَخِيطِ وَلِمَ يُمْنَعَ مِنْ لَبِسَ مَا لَا يَحْفَظُ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ الْمَخِيطِ.
قِيلَ: لِأَنَّ مَا لَا يَحْفَظُ نَفْسَهُ يَبْعَثُهُ عَلَى مُرَاعَاتِهِ، فَيَتَذَكَّرُ بِذَلِكَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ إِحْرَامِهِ، فَيَتَجَنَّبُ مَا أُمِرَ بِاجْتِنَابِهِ، فَعَلَى هَذَا لَوِ ارْتَدَى بِالْقَمِيصِ، وَاتَّزَرَ بِالسَّرَاوِيلِ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْفَظُ نَفْسَهُ، وَكَذَا الطَّيْلَسَانُ، لَهُ أَنْ يَلْبَسَهُ مَا لَمْ يَزِرَّهُ، لِأَنَّهُ لَا يَحْفَظُ نَفْسَهُ، فَإِنْ زَرَّهُ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْبَسَهُ لِأَنَّهُ يَحْفَظُ نَفْسَهُ.

فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْقَبَاءُ، فَلَا يَجُوزُ أن يلبسه، فإن لبسه، وأدخل يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. فَإِنْ أَسْدَلَهُ عَلَى كَتِفَيْهِ، وَلَمْ يُدْخِلْ يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ، نُظِرَ فِيهِ. فَإِنْ كَانَ مِنْ أَقْبِيَةِ خُرَاسَانَ، قَصِيرَةِ الذَّيْلِ ضَيِّقَةِ الْأَكْمَامِ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهُ يُلْبَسُ هَكَذَا. وَإِنْ كَانَ مِنْ أَقْبِيَةِ الْعِرَاقِ، طَوِيلَةِ الذَّيْلِ وَاسِعَةِ الْأَكْمَامِ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَحَفَّظُ بِهَذَا اللُّبْسِ، وَلَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا لُبْسُ الْخُفَّيْنِ فَغَيْرُ جَائِزٍ مَعَ وُجُودِ النَّعْلَيْنِ، وَإِنْ أَجَازَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، لِنَصِّ الْخَبَرِ فَإِذَا عَدِمَ النَّعْلَيْنِ، جَازَ أَنْ يَلْبَسَ الْخُفَّيْنِ إِذَا قَطَعَهُمَا مِنْ دُونِ الْكَعْبَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَقْطَعْهُمَا، لَمْ يَجُزْ، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ إِنْ لَبِسَهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَهُمَا غَيْرَ مَقْطُوعَيْنِ، عِنْدَ عَدَمِ النَّعْلَيْنِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَسَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ الْقَدَّاحُ، اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أَبِي الشَّعْثَاءِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَخْطُبُ، وَهُوَ يَقُولُ: " مَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا، فليلبس سراويل، ومن لم يجد نعلين، فليلبس الْخُفَّيْنِ ". وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا. رِوَايَةُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ. وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ ". فَكَانَ هَذَا أَوْلَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِزِيَادَتِهِ، فَأَمَّا إِنْ لَبِسَهُمَا مَقْطُوعَيْنِ مَعَ وُجُودِ النَّعْلَيْنِ، أَوْ لَبِسَ شمشكينَ مَعَ وُجُودِ النَّعْلَيْنِ، فَهَلْ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ. لِأَنَّهُ إنما أمر بقطعهما عند عدم النعلين، ليصير فِي مَعْنَى النَّعْلَيْنِ، فَلَا يُتَرَفَّهُ بِالْمَسْحِ عَلَيْهِمَا، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيهِمَا مَعَ النَّعْلَيْنِ وَعَدَمِهِمَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ - وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ -: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَهُمَا مَقْطُوعَيْنِ، إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ النَّعْلَيْنِ، فَأَمَّا مَعَ وُجُودِهِمَا فَلَا، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ إِنْ لَبِسَهُمَا،

(4/97)


لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَاحَ لُبْسَهُمَا مَقْطُوعَيْنِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ عَادِمًا لِلنَّعْلَيْنِ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدِ الشَّرْطُ لَمْ تُوجَدِ الْإِبَاحَةُ.

فَصْلٌ
: فَأَمَّا السَّرَاوِيلُ فَلَا يَجُوزُ لُبْسُهُ مع وجود الإزار فإن لبست مَعَ وُجُودِ الْإِزَارِ افْتَدَى، وَإِنْ عَدِمَ الْإِزَارَ، جَازَ أَنْ يَلْبَسَ السَّرَاوِيلَ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَ السَّرَاوِيلَ؛ لَا مَعَ وُجُودِ الْإِزَارِ، وَلَا مَعَ عَدَمِهِ، فَإِنْ لَبِسَهُ افْتَدَى.
وَقَالَ أبو حنيفة يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَ السَّرَاوِيلَ مَعَ عَدَمِ الْإِزَارِ، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ مَعَ إِبَاحَتِهِ عِنْدَهُ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا لذمته الفدية يلبسه غَيْرُ مَعْذُورٍ، لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ بِلُبْسِهِ وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا كَالْقَمِيصِ، وَلِأَنَّ مَنْ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ بِلُبْسِ الْقَمِيصِ، لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ بِلُبْسِ السَّرَاوِيلِ، كَغَيْرِ الْمَعْذُورِ؛ لِأَنَّ أُصُولَ الْحَجِّ مَوْضُوعَةٌ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمَعْذُورِ، وَغَيْرِ الْمَعْذُورِ، فَمَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ، كَالْحَلْقِ، وَقَتْلِ الصَّيْدِ، كَذَلِكَ هُنَا.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا رِوَايَةُ أَبِي الشَّعْثَاءِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَخْطُبُ وَهُوَ يَقُولُ: " مَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فليلبس سراويل، ومن لم يجد نعلين فليلبس خُفَّيْنِ ". فَنَصُّ الْخَبَرِ دَلِيلٌ عَلَى مَالِكٍ فِي جَوَازِ لُبْسِهِ، وَفِيهِ دَلِيلَانِ عَلَى أبي حنيفة فِي سُقُوطِ الْفِدْيَةِ فِي لُبْسِهِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَعَلَ السَّرَاوِيلَ مَعَ عَدَمِ الْإِزَارِ، فِي حُكْمِ الْمُبَاحَاتِ مِنَ الْمَلْبُوسَاتِ الَّتِي أَضْرَبَ عَنِ النَّهْيِ عَنْهَا، وَلَمْ يُوجِبِ الْفِدْيَةَ فِي لُبْسِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَهُ بَدَلًا مِنَ الْإِزَارِ عِنْدَ عَدَمِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمِ مُبْدَلِهِ، وَلِأَنَّهُ لُبْسٌ أُبِيحَ بِالشَّرْعِ لَفْظًا، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمُ فِيهِ الْفِدْيَةُ، كَالْإِزَارِ، وَلِأَنَّهُ لُبْسٌ لَا يُمْكِنُ سَتْرُ الْعَوْرَةِ إِلَّا بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ فِيهِ الْفِدْيَةُ، كَالْقَمِيصِ لِلْمَرْأَةِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى لُبْسِ الْقَمِيصِ، وَاسْتِشْهَادِهِمْ بِالْأُصُولِ، فَالْجَوَابُ عَنْهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ لُبْسَ السَّرَاوِيلِ أُبِيحَ لِسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَذَلِكَ لِأَجْلِ الْغَيْرِ، وَلُبْسُ الْقَمِيصِ، وَحَلْقُ الشَّعْرِ، وَإِنْ أُبِيحَ لَهُ إِذَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ لِأَجْلِ نَفْسِهِ، وَالْأُصُولُ فِي الْحَجِّ، مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ مَا أُبِيحَ لِمَعْنًى فِيهِ وَبَيْنَ مَا أُبِيحَ لِمَعْنَى غَيْرِهِ، ألا ترى أن المحرم لم اضْطُرَّ إِلَى أَكْلِ الصَّيْدِ لِمَجَاعَةٍ نَالَتْهُ فَقَتَلَهُ افْتَدَى، وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَبَاحَهُ لِأَجْلِ نَفْسِهِ، وَلَوْ صَالَ عَلَيْهِ الصَّيْدُ فَخَافَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَقَتَلَهُ لَمْ يَفْتَدِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَبَاحَ قَتْلَهُ لِأَجْلِ الصَّيْدِ.
ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَ الْقَمِيصِ وَالسَّرَاوِيلِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ السَّرَاوِيلَ إِذَا اتَّزَرَ بِهِ ضَاقَ عَنْ سَتْرِ عَوْرَتِهِ، فَاضْطُرَّ إِلَى لُبْسِهِ لِيَسْتُرَ عَوْرَتَهُ وَالْقَمِيصُ إِنِ اتَّزَرَ بِهِ اتَّسَعَ لِسَتْرِ جَمِيعِ عَوْرَتِهِ فَلَمْ يضطر إلى لبسه لستر عَوْرَتَهُ. وَالْقَمِيصُ إِنِ اتَّزَرَ بِهِ اتَّسَعَ لِسَتْرِ جَمِيعِ عَوْرَتِهِ فَلَمْ يُضْطَرَّ إِلَى لُبْسِهِ لِسَتْرِ عورته.

(4/98)


وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى غَيْرِ الْمَعْذُورِ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لأن المعذور ليس مباحاً، فلم يلزمه الفدية، وغير المعذور ليس مَحْظُورًا فَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ.

فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْمِئْزَرُ إِذَا عَقَدَهُ عَلَى وَسَطِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا مَعْقُودًا وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ أن يأتزر ذَيْلَيْنِ، ثُمَّ يَعْقِدَ الذَّيْلَيْنِ مِنْ وَرَائِهِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالسَّرَاوِيلِ، فَإِنْ فَعَلَ افْتَدَى، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا يَعْقِدُ رِدَاءَهُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يَغْرِزُ طَرَفَيْ رِدَائِهِ إِنْ شَاءَ فِي إِزَارِهِ، وَإِنْ شَاءَ فِي سَرَاوِيلِهِ، إِذَا كَانَ الرِّدَاءُ مَنْشُورًا، فَإِنْ خَالَفَ مَا وَصَفَ الشَّافِعِيُّ، وَعَقَدَ رِدَاءَهُ مِنْ وَرَائِهِ افْتَدَى؛ لِأَنَّ الْإِزَارَ يَثْبُتُ غَيْرَ مَعْقُودٍ، فَإِذَا عُقِدَ صار كالقميص يحفظ نفسه.

مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ، وَلَا وَرَسٌ، وَلَا شَيْءٌ مِنَ الطِّيبِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا، " رِوَايَةُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى الْمُحْرِمَ أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبًا فِيهِ ورسٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ " فَنَصَّ عَلَى الْوَرَسِ وَالزَّعْفَرَانِ، وَنَبَّهَ عَلَى الْكَافُورِ وَالْمِسْكِ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا مِنَ الطِّيبِ، لِأَنَّهُ إِذَا مَنَعَ مِنْ أَدْوَنِ الطِّيبِ، فَأَعْلَاهُ بِالْمَنْعِ أَوْلَى، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ طِيبٍ مُنِعَ مِنْهُ الْمُحْرِمُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبًا قَدْ صُبِغَ بِهِ أَوْ مَسَّهُ شَيْءٌ مِنَ الطِّيبِ، كَالْوَرَسِ، وَالزَّعْفَرَانِ، وَالْمَاوَرْدِ وَالْغَالِيَةِ، وَالْكَافُورِ، وَالْمِسْكِ، وَالْعَنْبَرِ، وَالرَّيْحَانِ الْفَارِسِيِّ، إِذَا قِيلَ: إِنَّ فِيهِ الْفِدْيَةَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَكُلُّ مَا لَمْ يُمْنَعِ الْمُحْرِمُ مِنْ شَمِّهِ؛ وَاسْتِعْمَالِهِ، جَازَ أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبًا قَدْ صُبِغَ بِهِ، كالشيح والعيصوم، والأترج، والعنبران، لِأَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا وَإِنْ كَانَتْ ذَكِيَّةَ الرِّيحِ، فَلَيْسَتْ طِيبًا تَجِبُ بِشَمِّهَا الْفِدْيَةُ، وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يُمْنَعُ الْمُحْرِمُ مِنْ لُبْسِ الثَّوْبِ الْمُطَيَّبِ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ إِنْ لَبِسَهُ، اسْتِدْلَالًا بأنه لم يستعمل غير الطيب في بلده، وَإِنَّمَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ رَائِحَتُهُ، فَأَشْبَهَ جُلُوسَهُ فِي الْعَطَّارِينَ، وَدَلِيلُنَا مَعَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُقَدَّمِ، أَنَّهُ نَوْعٌ يُطَيَّبُ بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَفْتَدِيَ بِهِ الْمُحْرِمُ، كَاسْتِعْمَالِهِ فِي جَسَدِهِ، وَخَالَفَ جُلُوسَهُ فِي الْعَطَّارِينَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ التطيب، فلم يتعلق عليه حكمه.
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، وَكَانَ الثَّوْبُ مَصْبُوغًا بِطِيبٍ قَدْ أَثَّرَ فِيهِ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَظْهَرَ فِيهِ رَائِحَةُ الطِّيبِ وَلَوْنُهُ.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَظْهَرَ فِيهِ رَائِحَةُ الطِّيبِ دُونَ لَوْنِهِ.
وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَظْهَرَ فِيهِ لَوْنُ الطِّيبِ دُونَ رَائِحَتِهِ، فَإِنْ ظَهَرَ فِيهِ الْأَمْرَانِ مَعًا؛ اللَّوْنُ وَالرَّائِحَةُ، مُنِعَ مِنْهُ الْمُحْرِمُ، رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً، فَإِنْ لَبِسَهُ الْمُحْرِمُ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، فَإِنْ غَسَلَهُ

(4/99)


حَتَّى زَالَ لَوْنُ الطِّيبِ وَرَائِحَتُهُ، جَازَ أَنْ يَلْبَسَهُ، وَإِنْ صَبَغَهُ بِسَوَادٍ أَوْ غَيْرِهِ، حَتَّى زَالَ لَوْنُهُ وَرَائِحَتُهُ، نُظِرَ فِيهِ، فَإِنْ ثَارَتْ لَهُ رَائِحَةٌ بِرَشِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ لُبْسُهُ، وَفِيهِ الْفِدْيَةُ، وَإِنْ لَمْ تَبِنْ له رائحة برشٍ عَلَيْهِ، جَازَ لَهُ لُبْسُهُ، وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ وَإِنْ ظَهَرَ بِالصَّبْغِ رَائِحَةُ الطِّيبِ دُونَ لَوْنِهِ، مُنِعَ الْمُحْرِمُ مِنْ لُبْسِهِ، وَوَجَبَ فِيهِ الْفِدْيَةُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الطِّيبِ رَائِحَتُهُ. وَإِنْ ظَهَرَ بِالصَّبْغِ لَوْنُهُ دُونَ رَائِحَتِهِ جَازَ لُبْسُهُ، وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ مَفْقُودٌ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ صُبِغَ ثَوْبٌ بِوَرْسٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ، فَذَهَبَ رِيحُ الْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ لِطُولِ لُبْسٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ إِذَا أَصَابَهُ الْمَاءُ حَرَّكَ رِيحَهُ وَإِنْ قَلَّ، لَمْ يَلْبَسْهُ الْمُحْرِمُ، وَإِنْ لَمْ يُحَرِّكْ رِيحَهُ، فَإِنْ غُسِلَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ، وَإِنْ لَمْ يُغْسَلْ رَجَوْتُ أَنْ يَسَعَهُ لُبْسُهُ؛ لِأَنَّ الصَّبْغَ لَيْسَ بِنَجَسٍ وَلَا أُرِيدُ بِالْغَسْلِ ذَهَابَ الرِّيحِ، فَإِذَا ذَهَبَ بِغَيْرِ غَسْلٍ رَجَوْتُ أَنْ يُجْزِئَ.

فَصْلٌ
: فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، وَلَبِسَ الْمُحْرِمُ ثَوْبًا مُطَيَّبًا، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ سَوَاءٌ أَفْضَى بِجِلْدِهِ إِلَيْهِ أَمْ لَا لِأَنَّهُ لَا لُبْسَ لَهُ، فَأَمَّا إِنِ افْتَرَشَهُ وَنَامَ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَفْضَى بِجِلْدِهِ إِلَيْهِ افْتَدَى؛ لِأَنَّهُ مُتَطَيِّبٌ، وَإِنْ لَمْ يُفْضِ بِجِلْدِهِ إِلَيْهِ، فَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ثَوْبِهِ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَابِسٍ وَلَا مُتَطَيِّبٍ، وَإِنَّمَا هُوَ لِلطِّيبِ مُجَاوِرٌ، وَلَكِنْ إِنْ كَانَ الثَّوْبُ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ يَشِفُّ، كَرِهنَا ذَلِكَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَشِفُّ لَمْ يُكْرَهْ لَهُ، وَهَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ. وَجُمْلَتُهُ أَنْ تَكُونَ هَيْئَةُ الْمُحْرِمِ مُخَالِفَةً لِهَيْئَةِ الْمَحَلِّ. رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَأَى قَوْمًا في الْحَجِّ لَهُمْ هَيْئَةٌ أَنْكَرَهَا فَقَالَ: هَؤُلَاءِ الدَّاجُّ فَأَيْنَ الْحَاجُّ؟ وَفِي الْحَاجِّ وَالدَّاجِّ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا:
أحدهما: أن الحاج إذا أقبلوا، والداج إلى رَجَعُوا، وَهَذَا قَوْلُ مَيْسَرَةَ بْنِ عُبَيْدٍ.
وَالثَّانِي: أن الحاج الْقَاصِدُونَ الْحَجَّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّأْنِ، وَالدَّاجَّ الْأَتْبَاعُ، مِنْ تَاجِرٍ ومكارٍ وَقَالَ ثَعْلَبٌ: هُمُ الْحَاجُّ وَالدَّاجُّ وَالزَّاجُّ فَالْحَاجُّ أَصْحَابُ الشَّأْنِ وَالدَّاجُّ الْأَتْبَاعُ وَالزَّاجُّ الْمُرَاؤُونَ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
(عِصَابَةٌ إِنْ حَجَّ مُوسَى حَجُّوا ... وَإِنْ أَقَامَ بِالْعِرَاقِ دَجُّوا)

(مَا هَكَذَا كَانَ يَكُونُ الْحَجُّ)

يَعْنِي مُوسَى بْنَ عِيسَى الْهَاشِمِيَّ.
فَصْلٌ
: إِذَا لَبِسَ الْحَلَالُ ثَوْبًا مُطَيَّبًا، ثُمَّ أَحْرَمَ فِيهِ وَاسْتَدَامَ لُبْسُهُ جاز، ولم تجب عليه الفدية؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَطَيَّبَ وَهُوَ حَلَالٌ، ثُمَّ أَحْرَمَ وَاسْتَدَامَ الطِّيبُ، جَازَ وَإِنْ لَمْ يَغْسِلْهُ، فَكَذَلِكَ الثَّوْبُ، وَلَكِنْ لَوْ أَحْرَمَ فِي ثَوْبٍ مُطَيَّبٍ، ثُمَّ نَزَعَهُ وَأَعَادَ لُبْسَهُ فِي حَالِ إِحْرَامِهِ افْتَدَى؛ لِأَنَّهُ كَالْمُبْتَدِئِ لِاسْتِعْمَالِ الطِّيبِ بَعْدَ إِحْرَامِهِ.

(4/100)


مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُغَطِّي رَأْسَهُ، وَلَهُ أَنْ يُغَطِّيَ وَجْهَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَعَلَيْهِ كَشْفُ رَأْسِهِ إِجْمَاعًا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ كَشْفُ وَجْهِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَجَابِرٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَالَ مَالِكٌ: وَيُحْكَى عَنْ أبي حنيفة أَنَّ عَلَى الْمُحْرِمِ كَشْفَ وَجْهِهِ، كَمَا عَلَيْهِ كَشْفُ رَأْسِهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي مُحْرِمٍ خَرَّ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَوُقِصَ فَمَاتَ: " لَا تُخْمِرُوا رَأْسَهُ، وَلَا وَجْهَهُ ". وَلِأَنَّهُ شَخْصٌ مُحْرِمٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ كَشْفُ وَجْهِهِ، كَالْمَرْأَةِ، وِالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ، رِوَايَةُ أَبِي الشَّعْثَاءِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: في محرم خر من راحلته، فوقصته فَمَاتَ: " لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، وَخَمِّرُوا وَجْهَهُ ". وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَمَّنْ ذَكَرْنَا مِنْهُمْ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُمْ مُخَالِفٌ، وَمَا حُكِيَ عَنِ ابن عمر، فليس مخالفاً لَهُمْ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ مَا فَوْقَ الذَّقْنِ مِنَ الرَّأْسِ فَهُوَ إِنَّمَا أَوْجَبَ كَشْفَهُ لِوُجُوبِ كَشْفِ الرَّأْسِ؛ وَلِأَنَّهُ شَخْصٌ مُحْرِمٌ، فَوَجَبَ أَنْ لا يلزمه كشفه عُضْوَيْنِ كَالْمَرْأَةِ.
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْخَبَرِ، فَخَبَرُنَا أَوْلَى لِزِيَادَتِهِ، ثُمَّ يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا فِي كَشْفِ مَا لَا يُمْكِنُ كَشْفُ الرَّأْسِ إِلَّا بِهِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَالْمَعْنَى فِيهَا: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا كَشْفُ غَيْرِ الْوَجْهِ، وَجَبَ عَلَيْهَا كَشْفُ الْوَجْهِ. وَالرَّجُلُ لَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ كَشْفُ غَيْرِ الْوَجْهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ كَشْفُ الْوَجْهِ.

فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَيْهِ كَشْفَ رَأْسِهِ دُونَ وَجْهِهِ، فَإِنْ غَطَّى رَأْسَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ، وَإِنْ قَلَّ بِمَخِيطٍ، وَغَيْرِ مَخِيطٍ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَلَكِنْ لَوْ غَطَّى رَأْسَهُ بِكَفِّهِ، لَمْ يَفْتَدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُغَطِّيًا لِرَأْسِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ غَطَّى رَأْسَهُ بِكَفِّ غَيْرِهِ، كَانَ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا تَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا يَكُونُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، كَالثَّوْبِ، فَلَمَّا لَمْ تَجِبِ الْفِدْيَةُ فِي تَغْطِيَتِهِ بِكَفِّ نَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ لَا تَجِبُ فِي تَغْطِيَتِهِ بِكَفِّ غَيْرِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، لِأَنَّ كَفَّهُ بَعْضٌ مِنْ أَبْعَاضِهِ، وَلَيْسَ كَفُّ غَيْرِهِ بَعْضًا مِنْ أَبْعَاضِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَجَدَ عَلَى كَفِّ نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ سَجَدَ عَلَى كَفِّ غَيْرِهِ جَازَ، فَافْتَرَقَ حكمهما.

(4/101)


فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِذَا حَمَلَ عَلَى رَأْسِهِ مِكْتَلًا، أَوْ زِنْبِيلًا، فَإِنْ قَصَدَ بِهِ تَغْطِيَةَ رَأْسِهِ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ، فَفِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ مَعَ قَصْدٍ وَقَدْ حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الشَّافِعِيِّ، لأن ما أوجب الفدية التَّغْطِيَةُ، أَوْجَبَ الْفِدْيَةَ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ التَّغْطِيَةَ كَالْمَوْتِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا فِدْيَةَ فِيهِ، لِأَنَّ وُجُوبَ الْفِدْيَةِ فِي تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ، لِأَجْلِ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الرَّفَاهِيَةِ بِهِ، وَحَامِلُ الْمِكْتَلِ لَا يَتَرَفُّهُ بِتَغْطِيَةِ رَأْسِهِ بِهِ، فَلَمْ يلزمه الفدية لأجله.
فَصْلٌ
: إِذَا كَانَ الْمُحْرِمُ مُصَدَّعًا، فَشَدَّ رَأْسَهُ بِعِصَابَةٍ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَتَرَ بِهَا رَأْسَهُ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ فِي رَأْسِهِ جُرْحٌ فَوَضَعَ فِيهِ دَوَاءً، فَإِنْ شَدَّهُ بِخِرْقَةٍ، أَوْ وَضَعَ عَلَيْهِ قِرْطَاسًا، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَإِنْ لَمْ يَسْتُرْهُ بِشَيْءٍ، اعْتُبِرَ حَالُهُ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَمْنَعُ مِنْ مُشَاهَدَةِ الرَّأْسِ، فَفِيهِ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: وَإِذَا خَضَّبَ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ بِالْحِنَّاءِ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَإِنْ كَانَ رَقِيقًا لَا يَمْنَعُ مِنْ مُشَاهَدَةِ الرَّأْسِ، فَلَا فِدْيَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: وَإِذَا غَسَلَ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ بِالْخِطْمِيِّ، وَالسِّدْرِ فَلَا فدية عليه.

مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنِ احْتَاجَ إِلَى تَغْطِيَةِ رَأْسِهِ وَلُبْسِ ثَوْبٍ مَخِيطٍ وَخُفَّيْنِ فَفَعَلَ ذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ بردٍ أَوْ حَرٍّ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي مَكَانِهِ كَانَتْ عَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحَدَةٌ وَإِنْ فَرَّقَ ذَلِكَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ كَانَ عَلَيْهِ لِكُلِّ لبسةٍ فديةٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ لُبْسِ الثِّيَابِ الْمَخِيطَةِ، وَالْخُفَّيْنِ، وَتَغْطِيَةِ الرَّأْسِ، وَاسْتِعْمَالِ الطِّيبِ، فَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، مَعْذُورًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَعْذُورٍ، لَكِنَّهُ إِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ فَقَدْ أَقْدَمَ عَلَى مَحْظُورٍ وَهُوَ بِذَلِكَ مَأْثُومٌ، وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا كَانَ مَا فعله مباحاً، ولم يكن يفعله دائماً لقوله تعالى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) {الحج: 78) وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي الْحَالَيْنِ، لِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْفِدْيَةَ عَلَى الْمَرِيضِ، إِذَا حَلَقَ شَعْرَهُ مَعْذُورًا، وَالْجَزَاءَ عَلَى قَاتِلِ الصَّيْدِ وَإِنْ كَانَ فِي قَتْلِهِ مَعْذُورًا وَإِذَا كَانَ هَذَا ثَابِتًا، لَمْ تَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أن يَتَكَرَّرَ مِنْهُ فِعْلُ مَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ، أَوْ لَا يَتَكَرَّرُ، فَإِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ مِنْهُ الْفِعْلُ، فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ الْفِعْلُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً كَاللِّبَاسِ، وَالطِّيبِ، وَحَلْقِ الشَّعْرِ، وَتَقْلِيمِ الظُّفْرِ، فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ إِتْلَافًا، كَأَنَّهُ حَلَقَ شَعْرَهُ، وَقَلَّمَ ظُفْرَهُ، وَقَتَلَ صَيْدًا، فَعَلَيْهِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ فِدْيَةٌ، سَوَاءٌ فَعَلَ ذَلِكَ متوالياً، أو متفرقاً، كفر عن الأول، ولم يكفر.

(4/102)


وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ اسْتِمْتَاعًا، كَأَنَّهُ لُبْسٌ، وَتَطَيُّبٌ. فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْصُوصُهُ، أَنَّ عَلَيْهِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ فِدْيَةً، لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: عَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ، لذا فَعَلَهُ فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ، فَكَانَ جِنْسًا وَاحِدًا، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ إِتْلَافًا، فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُ كَفَّارَةٌ، وَإِنْ كَانَ الْإِتْلَافُ جِنْسًا وَاحِدًا، فَكَذَا الِاسْتِمْتَاعُ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ إِتْلَافًا، وَبَعْضُهُ اسْتِمْتَاعًا كَأَنَّهُ حَلَقَ، وَتَطَيَّبَ، فَعَلَيْهِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ فِدْيَةٌ لَا يَخْتَلِفُ.

فَصْلٌ
: إِنْ كَانَ مَا تَكَرَّرَ مِنَ الْفِعْلِ، جِنْسًا وَاحِدًا، كَأَنَّهُ لَبِسَ ثُمَّ لَبِسَ، أَوْ تَطَيَّبَ، ثُمَّ تَطَيَّبَ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُتَوَالِيًا فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ، كَأَنَّهُ لَبِسَ قَمِيصًا، ثُمَّ سَرَاوِيلَ، ثُمَّ عِمَامَةً، فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ إِذَا كَانَ مُتَّصِلًا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، كَانَ فِعْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ تَكَرَّرَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَكَلْتُ الْيَوْمَ إِلَّا مَرَّةً، فَابْتَدَأَ بِالْأَكْلِ، ثُمَّ اسْتَدْامَهُ إِلَى آخِرِ الْيَوْمِ لَمْ يَحْنَثْ سِوَى قَطْعِ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي أَوْقَاتٍ شَتَّى؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ بِاللِّبَاسِ، لَا بِالْخَلْعِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُتَفَرِّقًا فِي أَزْمَانٍ شَتَّى، كَأَنَّهُ لَبِسَ قَمِيصًا، ثُمَّ صَبَرَ زَمَانًا طَوِيلًا، أَوْ فِي يَوْمٍ غَيْرِهِ، ثُمَّ لَبِسَ سَرَاوِيلَ، ثُمَّ لَبِسَ بَعْدَهُ بِزَمَانٍ طَوِيلٍ عِمَامَةً، ثُمَّ لَبِسَ بَعْدَ ذَلِكَ خُفَّيْنِ، فَإِنْ لَبِسَ الثَّانِيَ بَعْدَ أَنْ كَفَّرَ عَنِ الْأَوَّلِ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ ثَانِيَةٌ، لَا يَخْتَلِفُ، وَكَذَلِكَ فِي اللُّبْسِ الثَّالِثِ، وَالرَّابِعِ، وَإِنْ لَبِسَ الثَّانِيَ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ عَنِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ كَذَلِكَ فِي الثَّالِثِ، وَالرَّابِعِ، فَهَلْ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ كَفَارَّةٌ وَاحِدَةٌ، أَوْ فِي كُلِّ لُبْسَةٍ مِنْ ذَلِكَ كَفَّارَةٌ عَلَى قَوْلَيْنِ مَنْصُوصَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: عَلَيْهِ لِكُلِّ ذَلِكَ كَفَارَّةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَاتِ كَالْحُدُودِ. لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْحُدُودُ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا "، ثُمَّ يُثْبِتُ أَنَّ الْحُدُودَ تَتَدَاخَلُ، وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ فِي أَوْقَاتٍ، فَكَذَا الكفارة تجب أَنْ تَتَدَاخَلَ، وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ فِي أَوْقَاتٍ وَلِأَنَّهُ جِنْسُ اسْتِمْتَاعٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَدَاخَلَ كَمَا لَوْ كَانَ مُتَوَالِيًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ في الجديد: وأن عَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّهَا أَفْعَالٌ، لَوْ كَفَّرَ عَمَّا قَبْلَهَا لَزِمَهُ التَّكْفِيرُ عَنْهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّكْفِيرُ عَنْهَا، وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ عَمَّا قَبْلَهَا، كَالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَلِأَنَّهَا أَفْعَالٌ، لَوْ كَانَتْ أَجْنَاسًا لَزِمَهُ التَّكْفِيرُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، فَوَجَبَ لَمَّا كَانَتْ جِنْسًا وَاحِدًا أَنْ يَلْزَمَهُ التَّكْفِيرُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا كَمَا لَوْ كَفَّرَ عَمَّا قَبْلَهَا.
فَصْلٌ
: فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّ عَلَيْهِ لِكُلِّ لُبْسَةٍ فِدْيَةً، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَتَّفِقَ أَسْبَابُ اللُّبْسِ، أو تختلف.

(4/103)


وَإِنْ قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّ عَلَيْهِ لِجَمِيعِ ذَلِكَ فِدْيَةً وَاحِدَةً، فَعَلَى هَذَا. لَا يخلوا حَالُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَتَّفِقَ أَسْبَابُهَا، أَوْ تَخْتَلِفَ، فَإِنِ اتَّفَقَتْ أَسْبَابُهَا كَأَنْ لَبِسَ هَذِهِ اللُّبْسَاتِ كُلَّهَا لِأَجْلِ الْبَرْدِ، أَوْ لِأَجْلِ الْحَرِّ، فَتَكُونُ عَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَسْبَابُهَا، فَلَبِسَ قَمِيصًا لِأَجْلِ الْحَرِّ وَعِمَامَةً، لِجِرَاحَةٍ بِرَأْسِهِ، وَخُفَّيْنِ لِأَجْلِ الْحَفَاءِ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ لِجَمِيعِهَا كَالْأَسْبَابِ الْمُتَّفِقَةِ.
وَالثَّانِي: عَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ فِدْيَةٌ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَسْبَابِ كَاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنِ احْتَاجَ إِلَى حَلْقِ رَأْسِهِ فَحَلَقَهُ فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْمُحْرِمُ فَمَمْنُوعٌ مِنْ حلق رأسه لقوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) {البقرة: 196) . فَإِنْ قِيلَ: لما مَنَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُحْرِمَ مِنْ حَلْقِ رَأْسِهِ؟
قِيلَ لِمَصْلَحَةٍ عَلِمَهَا، وَإِنْ لَمْ يُعْقَلْ مَعْنَاهَا، ويجوز أن يكون ليتذكر بِطُولِ شَعْرِهِ، وَشَعَثِ بَدَنِهِ، مَا هُوَ عَلَيْهِ من إحرامه، فيمنع من الوطئ وَدَوَاعِيهِ.
وَقِيلَ: إِنَّمَا نَهَى عَنْ حَلْقِهِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُحْرِمًا بِشَعْرِهِ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ عِنْدَ إِحْرَامِهِ أَحْرَمَ لَكَ شَعْرِي، وَبَشَرِي، وَلَحْمِي، وَعَظْمِي، وَدَمِي.
فَإِنْ قِيلَ: مَا الْأَوْلَى لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ الْإِحْرَامَ أَنْ يَحْلِقَ شَعْرَهُ أَوْ يُلَبِّدَهُ وَلَا يَمَسَّهُ.
قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَحْلِقَهُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُلَبِّدَهُ وَلَا يَمَسَّهُ وَيَعْقِصَهُ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَجِّهِ، وَإِنْ حَلَقَ قَبْلَ إِحْرَامِهِ، وَلَمْ يُلَبِّدْ، كَانَ لَهُ إِذَا حَلَّ أَنْ يَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ، وَإِنْ لَبَّدَهُ وَعَقَصَهُ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِقَ، وَلَا يُقَصِّرَ، وَذَلِكَ فَائِدَةُ التَّلْبِيدِ، وَالْإِطَالَةِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ - وَهُوَ الصَّحِيحُ - أَنَّهُ إِنْ شَاءَ حَلَقَ، وَإِنْ شَاءَ قَصَّرَ، لعموم قوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِرِينَ) {الفتح: 27) .

فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ لَيْسَ لِلْمُحْرِمِ حَلْقُ رَأْسِهِ، فَإِنْ أَرَادَ حَلْقَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ أَثِمَ، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَإِنْ أَرَادَ حَلْقَهُ لِعُذْرٍ، لَمْ يَأْثَمْ، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ) {البقرة: 196) وَأَمَّا الْأَذَى، فَهُوَ الْقَمْلُ، وَأَمَّا الْمَرَضُ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:

(4/104)


أَحَدُهُمَا: الْبُثُورُ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالثَّانِي: الصُّدَاعُ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، فَأَوْجَبَ الْفِدْيَةَ عَلَى الْمَعْذُورِ، لِيَدُلَّ أَنَّ غَيْرَ الْمَعْذُورِ بِالْفِدْيَةِ أَوْلَى. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَيَ ذَلِكَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَرَّ فِي عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَنَا أَرْقُدُ تَحْتَ بدنةٍ لِي، وَالْقَمْلُ يَتَهَافَتْ عَلَيَّ، فَقَالَ: يَا كَعْبُ أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: احْلِقْ ثُمَّ انْسُكْ نَسِيكَةً، أَوْ أَطْعِمْ ثَلَاثَةَ أصُعٍ سِتَّةً مِنَ الْمَسَاكِينِ، أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ". فَكَانَ هَذَا الْحَدِيثُ مُعَاضِدًا لِلْآيَةِ فِي جَوَازِ الْحَلْقِ وَوُجُوبِ الْفِدْيَةِ وَمُفَسِّرًا لِمَا فِيهَا مِنْ إِجْمَالِ الْفِدْيَةِ فَإِنْ حَلَقَ مِرَارًا، كَانَ كَمَا لَوْ لَبِسَ مِرَارًا أَوْ تَطَيَّبَ مِرَارًا فيكون على ما مضى.

مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ تَطَيَّبَ نَاسِيًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ تطيب عامداً فعليه الفدية والفرق في المتطيب بين الجاهل والعالم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمر الأعرابي وقد أحرم وعليه خلوق بنزع الجبة وغسل الصفرة ولم يأمره في الخبر بفديةٍ (قال المزني) في هذا دليل أن ليس عليه فدية إذا لم يكن في الخبر وهكذا روي فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في الصائم يقع على امرأته فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أعتق وافعل " ولم يذكر أن عليه القضاء وأجمعوا أن عليه القضاء ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ إِذَا فَعَلَ الْمُحْرِمُ مَا نُهِيَ عَنْهُ، فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: مَا اسْتَوَى حُكْمُ عَامِدِهِ وَنَاسِيهِ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ فِيهِ.
وَالثَّانِي: مَا اخْتَلَفَ حُكْمُ عَامِدِهِ وَنَاسِيهِ.
وَالثَّالِثُ: مَا اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ.
فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ الَّذِي يَسْتَوِي حُكْمُ الْعَامِدِ فِيهِ وَالنَّاسِي: فَهُوَ مَا كَانَ إِتْلَافًا كَحَلْقِ الشَّعْرِ، وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ، وَقَتْلِ الصَّيْدِ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي الَّذِي يَخْتَلِفُ فِيهِ حُكْمُ الْعَامِدِ وَالنَّاسِي: فَهُوَ مَا كَانَ اسْتِمْتَاعًا سِوَى الْوَطْءِ، كَالطِّيبِ، وَاللِّبَاسِ، وَتَغْطِيَةِ الرَّأْسِ. فَإِنْ كَانَ عَامِدًا، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ ذَاكِرًا لِلْإِحْرَامِ، جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ أبو حنيفة، وَمَالِكٌ، وَالْمُزَنِيُّ: النَّاسِي كَالْعَامِدِ، وَالْجَاهِلُ بِالتَّحْرِيمِ كالعالم، في وجوب الفدية عليه، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ تَجِبُ الْفِدْيَةُ بِعَمْدِهِ فَوَجَبَ أَنْ تَجِبَ بِسَهْوِهِ كَالْوَطْءِ وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يَمْنَعُ مِنَ الْإِحْرَامِ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ عَمْدِهِ وسهوه، كالحلق،

(4/105)


وَالتَّقْلِيمِ؛ وَلِأَنَّ النِّسْيَانَ عُذْرٌ، وَالْعُذْرُ إِنَّمَا يُبِيحُ الْفِعْلَ وَلَا يُسْقِطُ الْفِدْيَةَ، كَالْمَعْذُورِ فِي الطِّيبِ، وَاللِّبَاسِ، إِذَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " عُفِيَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ ". وَرَوَى عَطَاءُ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: " رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رجلاً بالجعرانة، وعليه جبة متضمخ بِالْخَلُوقِ، وَهُوَ تَصْفَرُّ لِحْيَتِهِ وَرَأْسُهُ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي أَحْرَمْتُ بعمرةٍ، وَأَنَا كَمَا تَرَى فَقَالَ: اغْسِلِ الصُّفْرَةَ، وَانْزَعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ، وَمَا كُنْتَ صَانِعًا فِي حَجِّكَ، فَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ ". فَلَمَّا أَمَرَهُ بِنَزْعِ الْجُبَّةِ، وَغَسْلِ الصُّفْرَةِ، وَسَكَتَ عَنِ الْفِدْيَةِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ سُكُوتَهُ عَنْهَا، سُكُوتُ إِسْقَاطٍ، لَا سُكُوتَ اكْتِفَاءٍ؛ لِأَنَّهُ بَيَّنَ لَهُ حُكْمَ فِعْلٍ هُوَ بِهِ جَاهِلٌ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْلَ تَحْرِيمِ الطِّيبِ، وَاللِّبَاسِ؛ لِأَنَّ الْأَعْرَابِيَّ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَفَ يَنْتَظِرُ الْقَضَاءَ، حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَدَعَاهُ وَقَالَ لَهُ: اغْسِلِ الصُّفْرَةَ، وَانْزَعِ الجبة.
وقيل: هذا التأويل غير صحيح؛ لأنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَهُ بِنَزْعِ الْجُبَّةِ وَغَسْلِ الصُّفْرَةِ، وَفِعْلُ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ، عَلَى أَنَّ إِنْكَارَهُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ، وَاخْتِيَارَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَسُؤَالَهُ عَنْ حُكْمِهِ، وَمَا رُوِيَ مِنْ إِسْرَارِ الصحابة به، دليل على تقديم تَحَرُّمِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: - وَهُوَ سُؤَالُ الْمُزَنِيِّ -: لَيْسَ سكوت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْفِدْيَةِ دَلِيَلًا عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ، كَمَا لَمْ يَكُنْ سُكُوتُهُ عَنْ إِيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَى الْوَاطِئِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ غَيْرُ وَاجِبٍ.
قِيلَ: لَوْ تَرَكْنَا سكوت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى إِيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَى الْوَاطِئِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ غَيْرُ وَاجِبٍ كَالْفِدْيَةِ هَا هُنَا، وَلَكِنْ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ إِيجَابُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ، مِنْ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَر) {البقرة: 184) عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَالَ لِلْوَاطِئِ: " وَاقْضِ يَوْمًا مَكَانَهُ ". وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَجِبُ فِي إِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ، فَوَجَبَ أَنْ يُفَرَّقَ فِيهَا بَيْنَ عَمْدِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَسَهْوِهِ، كَالْأَكْلِ، وَالْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ، فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْوَاطِئِ فِي الْحَجِّ نَاسِيًا قُلْنَا: فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ سُؤَالُهُمْ.
وَالثَّانِي: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. فَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْإِتْلَافِ؛ لِأَنَّ وَطْءَ الْمَجْنُونَ، كَوَطْءِ الْعَاقِلِ فِي لُزُومِ الْمَهْرِ، وَالطِّيبُ اسْتِمْتَاعٌ مَحْضٌ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحَلْقِ وَالتَّقْلِيمِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ إِتْلَافٌ. وَحُكْمُ الْإِتْلَافِ أَغْلَظُ مِنْ حكم الاستمتاع، فاستوى حكم، عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ؛ لِغِلَظِ حُكْمِهِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ عَمْدِ الاستمتاع وسهوه؛ لحقة حكمه.

(4/106)


وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ النَّاسِيَ مَعْذُورٌ، وَالْعُذْرُ لَا يُسْقِطُ الْفِدْيَةَ كَالْمُضْطَرِّ.
قِيلَ: هَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ عُذْرِ النَّاسِي وَعُذْرِ الْمُضْطَرِّ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْآكِلَ فِي الصَّوْمِ ناسياً، معذور ولا قضاء عليه، الآكل فِي الصَّوْمِ مُضْطَرًّا فِي الصَّوْمِ مَعْذُورٌ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ.
وَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِي اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ، فَهُوَ الْوَطْءُ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّاسِيَ فِي الطِّيبِ واللباس لا فدية فيه وَأَنَّ الْعَامِدَ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِ الزَّمَانِ وَكَثِيرِهِ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ فِيهِ. وقال أبو حنيفة: اسْتَدَامَ اللِّبَاسَ جَمِيعَ النَّهَارِ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ وَإِنْ لم يسند به جَمِيعَ النَّهَارِ فَلَا فِدْيَةَ وَقَالَ أبو يوسف إن استدامه إن نِصْفَ النَّهَارِ فَأَكْثَرَ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَإِلَّا فَلَا فدية. وهذا خطأ؛ لأن كُلَّمَا وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ بِاسْتِدَامَتِهِ فِي النَّهَارِ كُلِّهِ، وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ بِوِجُودِهِ فِي بَعْضِهِ كَالطِّيبِ. وَلِأَنَّ مَا حَرَّمَهُ الْإِحْرَامُ مِنَ الْأَفْعَالِ، لَمْ تَتَقَدِرْ فِدْيَتُهُ بِالزَّمَانِ، قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ، وَلِأَنَّ مَا حُرِّمَ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِمْتَاعِ، اسْتَوَى حُكْمُ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، كَالْوَطْءِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى حُكْمُ قَلِيلِ اللِّبَاسِ وَكَثِيرِهِ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ فِيهِ، وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ كَثِيرِ الزَّمَانِ وَقَلِيلِهِ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ فِيهِ، لِأَنَّ كَثِيرَ اللِّبَاسِ فِي الزَّمَانِ الْقَلِيلِ كَقَلِيلِ اللِّبَاسِ فِي الزَّمَانِ الْكَثِيرِ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا لَبِسَ الْمُحْرِمُ، أَوْ تَطَيَّبَ نَاسِيًا، ثُمَّ ذَكَرَ بَادَرَ إِلَى إِزَالَتِهِ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنْ أَزَالَهُ حِينَ ذَكَرَ. فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُزِلْهُ فِي الْحَالِ، حَتَّى تَطَاوُلَ الزَّمَانُ، فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُمْكِنَهُ إِزَالَتُهُ، فَلَا يَفْعَلُ. فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، لِأَنَّ بَعْدَ الذِّكْرِ كَالْمُبْتَدِئِ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ لَوْ تَطَيَّبَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، وَاسْتَدَامَهُ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، لَمْ تَلْزَمْهُ الْفِدْيَةُ، فَهَلَّا قُلْتُمْ: إِذَا تَطَيَّبَ نَاسِيًا بَعْدَ الْإِحْرَامِ ثُمَّ اسْتَدَامَهُ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، أن لا فدية عليه.
قلنا: لأن الطيب قَبْلَ الْإِحْرَامِ مُبَاحٌ مَعَ النِّسْيَانِ، فَلِذَلِكَ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ مَعَ الِاسْتِدَامَةِ.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يُمْكِنَهُ إِزَالَةُ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ عَنْ نَفْسِهِ، لِزَمَانَةٍ بِهِ، وَلَيْسَ يَجِدُ مَنْ يُزِيلُهُ عَنْهُ، فَلَا فدية عليه، ما كان هكذا؛ لأن أسوأ من الناسي.
فَصْلٌ
: فَإِذَا أَرَادَ الْمُحْرِمُ إِزَالَةَ مَا عَلَى جَسَدِهِ مِنَ الطِّيبِ، فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُمْكِنَهُ إِزَالَتُهُ بِغَيْرِ الْمَاءِ مِنَ الْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَاتِ، كَالْخَلِّ أَوِ الْيَابِسَاتِ كَالتُّرَابِ، وَالْحَشِيشِ. فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي إِزَالَتِهِ بَيْنَ الْمَاءِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسٍ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ، إِزَالَةُ رَائِحَتِهِ فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَزَالَهُ أَجْزَأَهُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُزِيلَهُ بِالْمَاءِ.

(4/107)


وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يُمْكِنَ إِزَالَتُهُ إِلَّا بِالْمَاءِ؛ لِتَعَذُّرِ غَيْرِهِ مِمَّا يُمْكِنُ إِزَالَتُهُ بِهِ، فَعَلَيْهِ إِزَالَتُهُ بِالْمَاءِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَوَلَّى إِزَالَةَ ذلك عنه غيره؛ لأن لا يَمَسَّ الطِّيبَ بِيَدِهِ، فَإِنْ تَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَمَسُّهُ لِلتَّرْكِ لَا لِلِاسْتِعْمَالِ.

فَصْلٌ
: فَلَوْ وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ مَا يَكْفِيهِ لِإِزَالَةِ الطِّيبِ عَنْ جَسَدِهِ، أَوِ الْوُضُوءِ مِنْ حَدَثِهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ نَصًّا: أَزَالَ بِهِ الطِّيبَ، وَتَيَمَّمَ لِلْحَدَثِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ لِلْوُضُوءِ بِالْمَاءِ بَدَلًا يُرْجَعُ إِلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِهِ وَهُوَ التَّيَمُّمُ، وَلَيْسَ لِإِزَالَةِ الطِّيبِ بَدَلٌ. فَعَلَى هَذَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي إِزَالَةِ الطِّيبِ، ثُمَّ يَتَيَمَّمُ، لِيَكُونَ تَيَمُّمُهُ بَعْدَ عَدَمِ الْمَاءِ. فَإِنْ قَدَّمَ التَّيَمُّمَ قَبْلَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي إِزَالَةِ الطِّيبِ جَازَ؛ لِأَنَّ مَا مَعَهُ مِنَ الْمَاءِ لَا يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُهُ فِي حدثه، فَجَازَ أَنْ يَتَيَمَّمَ مَعَ وُجُودِهِ، كَالَّذِي مَعَهُ الماء وهو محتاج إلى شربه.

مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَا شَمَّ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ مِمَّا لَا يُتَّخَذُ طِيبًا، أَوْ أَكَلَ تُفَّاحًا، أَوْ أُتْرُجًّا، أَوْ دَهَنَ جَسَدَهُ بِغَيْرِ طِيبٍ فَلَا فِدْيَةَ عليه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ النَّبَاتِ الذَّكِيِّ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: مَا كَانَ طِيبًا وَيُتَّخَذُ بَعْدَ يُبْسِهِ طِيبًا، مِثْلَ الزَّعْفَرَانِ، وَالْوَرْسِ، وَالْكَافُورِ، وَالْعُودِ، وَالْوَرْدِ، وَالْيَاسَمِينِ، وَالنَّرْجِسِ، وَالْخَيْرِيِّ، وَالزَّنْبَقِ، وَالْكَاذِيِّ، فَهَذَا كُلُّ طِيبٍ مَتَى اسْتَعْمَلَهُ الْمُحْرِمُ بِشَمٍّ، أَوْ غَيْرِهِ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَيْسَ بِطِيبٍ، وَلَا يُتَّخَذُ طِيبًا وَإِنْ كَانَ طَيِّبَ الرِّيحِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:
أَحَدُهَا: مَا يُعَدُّ مَأْكُولًا كَالتُّفَّاحِ، وَالنَّارِنْجِ، وَاللَّيْمُونِ، وَالْمَصْطَلْكِيِّ، والدَّارَصِينِيِّ، وَالزَّنْجَبِيلِ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مَا كَانَ يُعَدُّ مَعْلُومًا أَوْ حَطَبًا، مِثْلَ الشِّيحِ، وَالْقَيْصُومِ وَالْإِذْخِرِ.
وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ: مَا يُعَدُّ لِزَهْرَتِهِ وَحُسْنِ مَنْظَرِهِ، لَا لِرَائِحَتِهِ كَالْبَهَارِ، والأدريون وَالْخَزَّامِيِّ، وَالشَّقَائِقِ، وَالْمَنْثُورِ سِوَى الْخِيرِيِّ، وَكَذَلِكَ وَرْدُ الْأُتْرُجِّ، وَالنَّارِنْجِ، وَالتُّفَّاحِ، وَالْمِشْمِشِ، هَذَا كُلُّهُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ لَيْسَ بِطِيبٍ، فَإِنْ شَمَّهُ أَوْ أَكَلَهُ أَوْ دقَّهُ وَلَطَّخَ بِهِ جَسَدَهُ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ.
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا كَانَ طِيبًا. لَكِنْ لَا يُتَّخَذُ بَعْدَ يبسه طيباً، مثل الريحان، والمرزنجوش، والشاهين، وَالْحَمَاحِمِ، فَهَذَا كُلُّهُ يُتَّخَذُ لِلشَّمِّ، لَكِنْ لَا يتخذ بعد يبسه طيباً، ولا يريد بِهِ دَهْنٌ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ اسْتِعْمَالُهُ وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي بَعْضِ الْقَدِيمِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُثْمَانُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّ

(4/108)


النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَنِ الْمُحْرِمِ يَدْخُلُ الْبُسْتَانَ، وَيَشُمُّ الرَّيْحَانَ فَأَجَازَ ذَلِكَ ". قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِلَّا أَنَّ فِي إِسْنَادِهِ ضَعْفًا. وَلِأَنَّهُ نَبْتٌ لَا يُتَّخَذُ طِيبًا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَفْتَدِيَ لِأَجْلِهِ الْمُحْرِمُ، كَالشِّيحِ، وَالْقَيْصُومِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ وَالْأُمِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ اسْتِعْمَالُهُ وَعَلَيْهِ الفدية وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ جَابِرٌ وَابْنُ عُمَرَ؛ لِأَنَّهُ نَبْتٌ يُشَمُّ طِيبًا، فَوَجَبَ أَنْ يَفْتَدِيَ لِأَجْلِهِ الْمُحْرِمُ، كَالْوَرْدِ.

فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْبَنَفْسَجُ. فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: لَيْسَ بِطِيبٍ، وَإِنَّمَا يريب لِلْمَنْفَعَةِ لَا لِلطِّيبِ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: إِنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ عَلَى ظَاهِرِ نَصِّهِ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ لِلْمَنْفَعَةِ وَالتَّدَاوِي.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ طِيبٌ كَالْوَرْدِ؛ لِأَنَّ لَهُ دَهْنًا طَيِّبًا، وتأولوا قول الشافعي على تأويلات:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْبَنَفْسَجِ الْمُرَبَّى إِذَا ذَهَبَتْ رَائِحَتُهُ.
وَالثَّانِي: مَحْمُولٌ عَلَى الْبَنَفْسَجِ الْبَرِّيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَالرَّيْحَانِ فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَأَمَّا النَّيْلَوْفَرُ فَهُوَ كَالْبَنَفْسَجِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعَنَاهُ فَأَمَّا الْحُلَيْحَتِينُ الْمُرَبَّى بِالْوَرْدِ، فَإِنَّهُ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَتْ رَائِحَةُ الْوَرْدِ ظَاهِرَةً فِيهِ، مُنِعَ مِنْهُ الْمُحْرِمُ، وَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ رَائِحَتُهُ مُسْتَهْلَكَةً فِيهِ، لَمْ يُمْنَعْ وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ.

مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ دَهَنَ رَأْسَهُ أَوْ لِحْيَتَهُ بِدُهْنٍ غَيْرِ طيبٍ فعليه الفدية لأنه موضع الدهن وترجيل الشعر (قال المزني) ويدهن المحرم الشجاج في مواضع ليس فيها شعر من الرأس ولا فدية (قال المزني) والقياس عندي أنه يجوز له الزيت بكل حالٍ يدهن به المحرم الشعر بغير طيب ولو كان فيه طيب ما أكله ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الدُّهْنُ ضَرْبَانِ: طِيبٌ، وَغَيْرُ طِيبٍ، فأما الطيب فالأدهان المريبة، بِكُلِّ طِيبٍ مُنِعَ مِنْهُ الْمُحْرِمُ، كَدُهْنِ الْوَرْدِ، وَالزَّنْبَقِ، وَالْبَانِ، وَالْخَيْرِيِّ.
وَأَمَّا الَّذِي لَيْسَ بِطِيبٍ كالزيت، والشيرج، والسمن، والزبد والخروع، والآسي. فَأَمَّا دُهْنُ الْبَنَفْسَجِ، وَالرَّيْحَانِ، فَهُوَ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذْهَبِ فِي مَنْعِ الْمُحْرِمِ مِنْهُ.
فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ طِيبٌ يُمْنَعُ مِنْهُ الْمُحْرِمُ، كَانَ دُهْنُهُ كَذَلِكَ.
وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ بِطِيبٍ، لَا يُمْنَعُ مِنْهُ الْمُحْرِمُ، كَانَ دُهْنُهُ كَذَلِكَ، فَأَمَّا دُهْنُ الْأُتْرُجِّ: فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَيْسَ بِطِيبٍ؛ لِأَنَّ الْأُتْرُجَّ لَيْسَ بِطِيبٍ، وَلَا الْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مَأْكُولٌ.

(4/109)


وَالثَّانِي: هُوَ طِيبٌ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ مَأْكُولًا؛ لأن قشره يرتابه كالدهن، كَالْوَرْدِ.

فَصْلٌ
: فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا. فَالْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ مِنَ اسْتِعْمَالِ الدُّهْنِ الطِّيبِ فِي شَعْرِهِ وَجَسَدِهِ، فَإِنِ اسْتَعْمَلَ شَيْئًا مِنْهُ فِي شَعْرِهِ، أَوْ جَسَدِهِ، فَالْفِدْيَةُ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ؛ لِأَنَّهُ مُتَطَيِّبٌ، وَأَمَّا الدُّهْنُ غَيْرُ الطِّيبِ. فَإِنْ رَجَّلَ بِهِ شَعْرَهُ، أَوْ لِحْيَتَهُ، جَازَ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ، مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنَّهُ نَهَى الْمُحْرِمَ عَنْ تَرْجِيلِ شَعْرِهِ ". وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " المحرم أَشْعَثُ أَغْبَرُ ". وَالتَّرْجِيلُ مَا مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ مَالِكٌ، وأبو حنيفة: إِنِ اسْتَعْمَلَ الدُّهْنَ فِي جَسَدِهِ، لَمْ يَجُزْ، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أدهن بزيتٍ غير مطيب وهو محرم ".
وقال أبو عبيد: غير مطيب أَيْ: غَيْرُ مُطَيَّبٍ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْمُحْرِمُ الدُّهْنَ، إِذَا لَمْ يَكُنْ طِيبًا، فِي جَسَدِهِ دُونَ شَعْرِ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، فَلَوْ دَهَنَ رَأَسَهُ وَكَانَ مَحْلُوقَ الشَّعْرِ، لَمْ يَجُزْ، وَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّ فِي تَدْهِينِ رَأْسِهِ وَإِنْ كَانَ مَحْلُوقًا تَحْسِينَ الشَّعْرِ إِذَا ثَبَتَ فَصَارَ مُرَجَّلًا لَهُ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ أَصْلَعَ الرَّأْسِ، جَازَ أَنْ يَدْهُنَهُ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، كَمَا يَجُوزُ لِلْأَمْرَدِ أَنْ يَدْهُنَ بَشَرَةَ وَجْهِهِ الَّتِي لَا شَعْرَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُرَجَّلًا وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي رَأْسِهِ شِجَاجٌ قَدْ ذَهَبَ الشَّعْرُ عَنْ مَوْضِعِهَا، جَازَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِيهَا دُهْنًا، إِذَا لَمْ يَكُنْ طِيبًا، وَلَا يَفْتَدِي.
فَصْلٌ
: إِذَا طَلَى الْمُحْرِمُ شَعْرَ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ بِاللَّبَنِ، جَازَ، وَلَا فِدْيَةَ عليه، وَإِنْ كَانَ السَّمْنُ مُسْتَخْرَجًا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بدهن، ولا يحصل به ترجيل الشعر، الشَّحْمَ وَالشَّمْعَ إِذَا أُذِيبَا كَالدُّهْنِ، يُمْنَعُ الْمُحْرِمُ من ترجيل الشعر بهما.

مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَا أَكَلَ مِنْ خبيصٍ فِيهِ زَعْفَرَانٌ، فَصَبَغَ اللِّسَانَ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا، فَلَا فِدْيَةَ فِيهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا أَكَلَ الْمُحْرِمُ خَبِيصًا، أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْحَلْوَاءِ وَالطَّبِيخِ، وَفِيهِ زَعْفَرَانٌ، أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الطِّيبِ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ طَعْمُهُ وَلَا لَوْنُهُ وَلَا رَائِحَتُهُ فَلَا فِدْيَةَ فِيهِ لِأَنَّ الطِّيبَ مُسْتَهْلَكٌ فِيهِ وَإِنْ ظَهَرَ بِأَحَدِ أَوْصَافِهِ، نَظَرْتَ، فَإِنْ ظَهَرَتْ فِيهِ رَائِحَةٌ، فَفِيهِ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّ رَائِحَةَ الطِّيبِ هِيَ الْمَقْصُودَةُ، وَإِنْ ظَهَرَ فِيهِ طَعْمٌ فَفِيهِ الْفِدْيَةُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ طَعْمَهُ فِي الْمَأْكُولِ مَقْصُودٌ، وَإِنْ ظَهَرَ فِيهِ لَوْنُهُ لَا غَيْرَ. فَنَصَّ الشَّافِعِيُّ هَا هُنَا، وَفِي مُخْتَصَرِ الْحَجِّ، أَنَّ فِيهِ الْفِدْيَةَ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ، وَأَبُو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ، يُخَرِّجَانِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِيهِ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّ لَوْنَ الزَّعْفَرَانِ مَقْصُودٌ كَطَعْمِهِ، وَلِأَنَّ بَقَاءَ لَوْنِهِ دَلِيلٌ عَلَى بَقَاءِ رَائِحَتِهِ، وَإِنْ خفي.

(4/110)


وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا فِدْيَةَ فِيهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ جَابِرٌ، وَابْنُ عُمَرَ، وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ؛ لِأَنَّ رَائِحَةَ الطِّيبِ مَقْصُودَةٌ دُونَ لَوْنِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعُصْفُرَ أَشْهَرُ لَوْنًا مِنْهُ وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ، وَلِأَنَّ رَائِحَةَ الطِّيبِ لَوْ زَالَتْ مِنَ الثَّوْبِ، وَبَقِيَ لَوْنُهُ لَمْ تَجِبْ فِيهِ الْفِدْيَةُ، فَكَذَلِكَ الطَّعَامُ الْمَأْكُولُ، إِذَا بَقِيَ فِيهِ لَوْنُ الطِّيبِ لَمْ تَجِبِ الْفِدْيَةُ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَمْنَعُ مِنْ تَخْرِيجِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ، وَيَحْمِلُ اخْتِلَافَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ، فَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَوْجَبَ الْفِدْيَةَ، إِذَا بَقِيَ مَعَ لَوْنِ الطِّيبِ، إِمَّا رِيحُهُ، أَوْ طَعْمُهُ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَسْقَطَ الْفِدْيَةَ إِذَا لَمْ يَبْقَ غَيْرُ لَوْنِهِ، وَسَوَاءٌ مَا مَسَّهُ النَّارُ أَوْ غَيْرُهُ.

فَصْلٌ
: إِذَا أَكَلَ الْمُحْرِمُ طِيبًا، افْتَدَى، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عوداً فلا يفتدي بأكله؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَطَيِّبًا بِهِ، إِلَّا أَنْ يتخير بِهِ وَمَا سِوَاهُ مِنَ الطِّيبِ يَكُونُ مُتَطَيِّبًا به بملاقاة بشره وكذلك لو استعاط الطِّيبَ، أَوِ احْتَقَنَ بِهِ، أَوِ اقْتَصَرَ عَلَى شَمِّهِ، افْتَدَى.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَفْتَدِي بِشَمِّ الطِّيبِ، حَتَّى يَسْتَعْمِلَ فِي جَسَدِهِ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى شَمِّ الرَّائِحَةِ لَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ، كَمَا لَوْ شَمَّهَا مِنَ الْعَطَّارِينَ.
وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِالطِّيبِ، يَكُونُ تَارَةً بِالشَّمِّ، وتارة بالاستعمال في البشرة ثم شمه فَكَانَ بِالْفِدْيَةِ أَوْلَى، وَلَيْسَ شَمُّهَا مِنْ غَيْرِهِ اسْتِمْتَاعًا كَامِلًا، وَلَا يُسَمَّى بِهِ مُتَطَيِّبًا فَافْتَرَقَا.

مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْعُصْفُرُ لَيْسَ مِنَ الطِّيبِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: الْعُصْفُرُ لَيْسَ مِنَ الطِّيبِ، وَلَا في حكم الطيب، وإن ليس الْمُحْرِمُ أَوِ الْمُحْرِمَةُ ثَوْبًا مُعَصْفَرًا جَازَ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِمَا.
وَقَالَ أبو حنيفة: الْعُصْفُرُ لَيْسَ مِنَ الطِّيبِ، وَلَكِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الطِّيبِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ وَلَا الْمُحْرِمَةِ لُبْسُ الْمُعَصْفَرِ، سَوَاءٌ كَانَ يُنْفَضُ أَوْ لَمْ يُنْفَضْ، فَإِنْ لَبِسَ الْمُحْرِمُ أَوِ الْمُحْرِمَةُ مُعَصْفَرًا، فَإِنْ كَانَ يُنْفَضُ فَعَلَيْهِمَا الْفِدْيَةُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُنْفَضُ، فَلَا فدية عليهما، استدلالاً بأن المعصفر لَوْنًا وَرَائِحَةً، كَالزَّعْفَرَانِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةٍ مَا ذكرنا: رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى النساء في إحرامهم عن القفازين النقاب، وَيَلْبَسْنَ مَا شِئْنَ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ مِنْ معصفرٍ وَخَزٍّ وَحُلِيٍّ وَرَوَى أَبُو جَعْفَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: " أَبْصَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ ثَوْبَيْنِ مُضَرَّجَيْنِ وَهُوَ مُحْرِمٌ. فَقَالَ: " مَا هَذِهِ الثِّيَابُ؟ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: مَا إِخَالُ أَحَدًا يُعَلِّمُنَا السُّنَّةَ فَسَكَتَ عُمَرُ ". وَرُوِيَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ: مَاذَا تَلْبَسُ الْمُحْرِمَةُ مِنَ الثِّيَابِ؟ قَالَتْ عَائِشَةُ: كَلُبْسِ مُعَصْفَرِهَا، وَحَرِيرِهَا، وَحُلِيِّهَا ". فَعَلِيٌّ إِنَّمَا أَشَارَ إِلَى سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وعائشة إنما

(4/111)


أَقَرَّتْ بِمَا شَاهَدَتْ مِنْ إِقْرَارِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَلِأَنَّهُ مَصْنُوعٌ بِمَا لَا يُتَّخَذُ طِيبًا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْهُ الْمُحْرِمُ، كَالْمَصْنُوعِ بِالْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ، وَلِأَنَّهُ مُعَصْفَرٌ، فَوَجَبَ أَلَا يُلْزَمَ بِلُبْسِهِ الفدية، قياساً على ما لا ينقص وأما جمعهم بين المعصفر والمزعفر، فغيره صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الزَّعْفَرَانَ طِيبٌ فِي الْغَالِبِ، وَالْعُصْفُرَ لَيْسَ بِطِيبٍ.

فَصْلٌ
: وَهَكَذَا إِذَا اخْتَضَبَ الْمُحْرِمُ، والمحرمة بالحناء، لم يفتد واحد منهما وَقَالَ أبو حنيفة: عَلَيْهِمَا الْفِدْيَةُ. اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ مُسْتَلَذُّ الرَّائِحَةِ، فَأَشْبَهَ الْوَرْسَ. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عِكْرِمَةَ أَنَّ عَائِشَةَ وَأَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كُنَّ يَخْتَضِبْنَ بِالْحِنَّاءِ، وَهُنَّ حُرُمٌ. وَهَذَا نَصٌّ لأنهن لا بفعلته إِلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ، وَلِأَنَّ مَقْصُودَهُ اللَّوْنُ دُونَ الرَّائِحَةِ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْأَلْوَانِ. وَاسْتِدْلَالُ أبي حنيفة بِاسْتِلْذَاذِ رَائِحَتِهِ، مُنْتَقَضٌ بِالتُّفَّاحِ وَالْأُتْرُجِّ.

مَسْأَلَةٌ
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ مَسَّ طِيبًا يَابِسًا لَا يَبْقَى لَهُ أَثَرٌ، وَإِنْ بَقِيَ لَهُ ريحٌ، فَلَا فِدْيَةَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا مَسَّ الْمُحْرِمُ طِيبًا يَابِسًا بِيَدِهِ عَامِدًا فَإِنْ لَمْ يَبْقَ لَهُ أَثَرٌ، وَلَا رَائِحَةٌ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ بَقِيَ لَهُ أَثَرٌ وَرَائِحَةٌ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ وَكَذَلِكَ لَوْ بَقِيَ أَثَرُهُ دُونَ رَائِحَةٍ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. فَأَمَّا إِذَا بَقِيَتْ رَائِحَتُهُ دُونَ أَثَرِهِ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَا هُنَا: لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ. وَنَقْلَهُ الْمُزَنِيُّ مِنْ كِتَابِ الْأَوْسَطِ.
وَقَالَ فِي الْأُمِّ: فَإِنْ مَسَّ طِيبًا يَابِسًا لَا يَبْقَى لَهُ أَثَرٌ فِي يَدِهِ، وَلَا رَائِحَةٌ، كرهة وَلَمْ أَرَ عَلَيْهِ الْفِدْيَةَ. فَظَاهِرُ ذَلِكَ: أَنَّهُ إِذَا بَقِيَتِ الرَّائِحَةُ، فَفِيهِ الْفِدْيَةُ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا. فَكَانَ أَكْثَرُهُمْ يُخَرِّجُونَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الرَّائِحَةُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الرَّائِحَةَ عَنْ مُجَاوَرَةٍ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ فِي الرَّائِحَةِ قَوْلًا وَاحِدًا عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، لِأَنَّ مَا قاله في الأم محتمل.

مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَهُ أَنْ يَجْلِسَ عِنْدَ الْعَطَّارِ، وَيَشْتَرِيَ الطِّيبَ مَا لَمْ يَمَسَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. لَا بَأْسَ أَنْ يَجْلِسَ الْمُحْرِمُ عِنْدَ الْعَطَّارِ، أَوْ يَشْتَرِيَ الطِّيبَ وَيَبِيعَهُ، لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ، وَلَيْسَ بِمَمْنُوعٍ مِنْ تَمَلُّكِهِ، فَلَوْ وَصَلَتْ رَائِحَةُ الطِّيبِ إِلَى أنفه لم يفتد، ما لم يسمه شَيْءٌ مِنْ جَسَدِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَطَيِّبًا.
فصل
: ولو شد المحرم طيباً فِي خِرْقَةٍ، فَأَمْسَكَهُ بِيَدِهِ، لَمْ يَفْتَدِ، وَلَوْ شَمَّهُ فِي الْخِرْقَةِ. كَانَ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عليه وجهان:

(4/112)


أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، لِاسْتِمْتَاعِهِ بِرَائِحَتِهِ، وَإِنَّ عَادَةَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ جَارِيَةٌ بِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا رَائِحَةٌ مُجَاوِرَةٌ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ، فَصَارَ كشم الرائحة من دكان العطار.

فصل
: قال الشافعي: إذا وطأ الطيب بقدمه فعلق بها، فعليه الفدية؛ لأنها صار مستعملاً للطيب في بدنه. فلو وطأ الطِّيبَ بِنَعْلِهِ عَامِدًا، حَتَّى عَلِقَ بِهَا، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ أَيْضًا.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا عَلِقَ الطِّيبُ بِنَعْلِهِ صَارَ حَامِلًا لِلطِّيبِ، وَالْمُحْرِمُ إِذَا حَمَلَ الطِّيبَ لَمْ يَفْتَدِ.
قِيلِ: إِنَّمَا لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ، إِذَا عَلِقَ الطِّيبُ بِنَعْلِهِ لِأَنَّهُ لَابِسٌ لَهَا، فَإِذَا عَلِقَ بِهَا الطِّيبُ، صَارَ لَابِسًا لِمُطَيَّبٍ، فَلَزِمَهُ الْفِدْيَةُ، كَمَا لَوْ لَبِسَ قَمِيصًا مُطَيَّبًا، وَإِذَا كَانَ حَامِلًا لِلطِّيبِ، لَمْ يَكُنْ لَابِسًا لطيب فلم يفتد.

مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَجْلِسُ عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَهِيَ تُجْمَرُ وَإِنْ مَسَّهَا وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهَا رَطْبَةٌ فَعَلِقَ بِيَدِهِ طِيبٌ غَسَلَهُ فَإِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ افْتَدَى ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا جُلُوسُهُ عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَهِيَ تُجْمَرُ فَمُبَاحٌ، كَجُلُوسِهِ عِنْدَ الْعَطَّارِ، وَحُضُورِهِ بَيْعَ الطِّيبِ، فَأَمَّا إِذَا مَسَّ خَلُوقَ الْكَعْبَةِ؛ وَكَانَ رَطْبًا، أَوْ مَسَّ طِيبًا، رَطْبًا فَعَلِقَ بِيَدِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ عَلِمَ أَنَّ الطِّيبَ رَطْبٌ أَوْ لا؛ لأن المتطيب ناسياً لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَيُبَادِرُ إِلَى إِزَالَةِ الطِّيبِ مِنْ يَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَتِمَّ لَهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى إِزَالَتِهِ، افْتَدَى حِينَئِذٍ لِاسْتِدَامَتِهِ لَا لِمَسِّهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الطِّيبَ رَطْبٌ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ لِأَنَّهُ قَاصِدٌ إِلَى اسْتِعْمَالِ الطِّيبِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَظُنَّ أَنَّ الطِّيبَ يَابِسٌ، فَفِي وجوب الفدية عَلَيْهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ لِأَنَّهُ قَاصِدٌ إِلَيْهِ، وَتَارِكٌ لِلتَّحَرُّزِ بِمَا هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ - وَهُوَ الصَّحِيحُ - لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إِلَى مَا تَجِبُ فِيهِ الْفِدْيَةُ، وَلَا إِلَى مَا لَا يَجُوزُ لَهُ لِأَنَّ مَسَّ الطِّيبِ الْيَابِسِ جَائِزٌ لَهُ فَصَارَ كَالنَّاسِي والله أعلم.

مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ حَلَقَ وَتَطَيَّبَ عَامِدًا، فَعَلَيْهِ فِدْيَتَانِ ".

(4/113)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْحِلَاقَ إِتْلَافٌ، يَسْتَوِي حُكْمُ الْعَامِدِ وَالنَّاسِي فِي إِيجَابِ الْفِدْيَةِ فِيهِ، وَالطِّيبُ، اسْتِمْتَاعٌ، يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْعَامِدِ وَالنَّاسِي فِي إِيجَابِ الْفِدْيَةِ فِيهِ، فَإِذَا حَلَقَ الْمُحْرِمُ وَتَطَيَّبَ فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَامِدًا، فِيهِمَا جَمِيعًا، فَعَلَيْهِ فِدْيَتَانِ؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ لَا يَتَدَخَّلَانِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نَاسِيًا، فِيهِمَا جَمِيعًا، فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْحَلْقِ، دُونَ التَّطَيُّبِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَامِدًا فِي الطِّيبِ، نَاسِيًا فِي الْحَلْقِ، فَعَلَيْهِ فِدْيَتَانِ؛ لِأَنَّ عَمْدَهُ فِي الطِّيبِ، يُوجِبُ الْفِدْيَةَ، وَنِسْيَانُهُ فِي الْحَلْقِ لَا يُسْقِطُ الْفِدْيَةَ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ عَامِدًا فِي الْحَلْقِ، نَاسِيًا فِي الطِّيبِ، فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ واحدة؛ لأن نسيانه في الطيب يسقط للفدية.

مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ حَلَقَ شَعْرَةً فَعَلَيْهِ مُدٌّ وَإِنْ حَلَقَ شَعْرَتَيْنِ فَمُدَّانِ وَإِنْ حَلَقَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ فَدَمٌ وَإِنْ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً فَفِي كُلِّ شعرةٍ مُدٌّ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ حَلْقِ رَأْسِهِ إِجْمَاعًا. فَإِنْ حَلَقَ جَمِيعَ رَأْسِهِ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِنْ حَلَقَ بَعْضَ رَأْسِهِ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قَدْرِ مَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ، وَيَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الدَّمَ يَجِبُ فِي حَلْقِ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ فَصَاعِدًا، وبه يقع التَّحَلُّلُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: يَجِبُ الدَّمُ فِي حَلْقِ رُبْعِ الرَّأْسِ، وَلَا يَجِبُ فِيمَا دُونَهُ، وَبِهِ يَقَعُ التَّحَلُّلُ، وَلَا يَقَعُ فِيمَا دُونَهُ.
وَقَالَ أبو يوسف: يَجِبُ الدَّمُ فِي حَلْقِ نِصْفِ الرَّأْسِ، وَلَا يَجِبُ فِيمَا دُونَهُ، وَبِهِ يَقَعُ التَّحَلُّلُ، وَلَا يَقَعُ فِيمَا دُونَهُ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ الدَّمِ بِحَلْقِ ثَلَاثَةِ شَعَرَاتٍ. قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِِه أَذًى مِنْ رأَسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ) {البقرة: 196) تَقْدِيرُهُ فَحَلَقَ شَعْرَ رَأْسِهِ، فَفِدْيَةٌ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ لَا يُحْلَقُ، وَإِنَّمَا يُحْلَقُ الشَّعْرُ فَإِذَا حَلَقَ مِنْ رَأْسِهِ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ جَمْعٍ مُطْلَقٍ، كَانَ حَالِقًا لِرَأْسِهِ وَثَلَاثُ شَعَرَاتٍ يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْجَمْعِ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبُ الدَّمِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ التَّحَلُّلَ يَقَعُ بحلق ثلاث شعرات، أو بقصرها. قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شيءٍ ". وَالِاسْتِدْلَالُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ، كَالِاسْتِدْلَالِ مِنَ الْآيَةِ، وَلِأَنَّهُ مُحْرِمٌ حَلَقَ مِنْ رَأْسِهِ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ بِهِ الدَّمُ، وَيَقَعَ بِهِ التَّحَلُّلُ كَالرُّبُعِ.

فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِنْ حَلَقَ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ، فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بالفدية،

(4/114)


وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ وَبِهِ قال مالك في إحدى الروايتين عنه وقال: هَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ كَانَ مَمْنُوعٌ مِنْ إِتْلَافِهَا، كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ إِتْلَافِ أَبْعَاضِهَا، كالصيد، إذا ثَبَتَ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ ثَبَتَ وُجُوبُ الْفِدْيَةِ فِيهِ، وَإِذَا كَانَتِ الْفِدْيَةُ فِيهِ وَاجِبَةً، فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: رِوَايَةُ الْحُمَيْدِيِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَلَيْهِ فِي الشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةِ ثُلُثَ دَمٍ، وَفِي الشَّعْرَتَيْنِ ثُلُثَيْ دَمٍ، وَفِي الثَّلَاثِ دَمًا، وَاخْتَارَهُ الْمَرْوَزِيُّ؛ لِأَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ وَجَبَ فِيهَا دَمٌ فَفِي أَبْعَاضِهَا أَبْعَاضُ ذَلِكَ الدَّمِ كَالصَّيْدِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مُخَرَّجٌ مِنَ الْأُمِّ، فِيمَنْ تَرَكَ حصاة، أن عليه فيها دِرْهَمًا، فَكَذَلِكَ عَلَيْهِ فِي الشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةِ دِرْهَمٌ، وَفِي الشَّعْرَتَيْنِ دِرْهَمَانِ، وَفِي الثَّلَاثَةِ الْمُجْتَمِعَةِ دَمٌ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ؛ لِأَنَّهُ أَيْسَرُ عَلَى الْمُكَفِّرِ وَأَنْفَعُ لِلْآخِذِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ. نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَالْبُوَيْطِيُّ، وَعَلَيْهِ يَقُولُ سَائِرُ أَصْحَابِهِ: أَنَّ عَلَيْهِ فِي الشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةِ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ، وَفِي الشَّعْرَتَيْنِ مُدَّيْنِ، وَفِي الثَّلَاثَةِ الْمُجْتَمِعَةِ دَمًا، لِأَنَّ فِي تَبْعِيضِ الدَّمِ مَشَقَّةً تَلْحَقُ الدَّافِعَ، وَضَرَرًا يَلْحَقُ الْآخِذَ، فَوَجَبَ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ جِنْسٍ، يَجِبُ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَهُوَ الْإِطْعَامُ وَأَقَلُّ الْإِطْعَامِ فِي الشَّرْعِ مُدٌّ، فَأَوْجَبَاهُ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَوْ حَلَقَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ فِي ثَلَاثَةِ أَوْقَاتٍ فَفِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَمْدَادٍ، اعْتِبَارًا بِالْآحَادِ.
الثَّانِي: عَلَيْهِ دَمٌ اعْتِبَارًا بِالْجُمْلَةِ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي اللِّبَاسِ إِذَا تَكَرَّرَ، هَلْ يَتَدَاخَلُ حُكْمُهُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَوْ حَلَقَ أَرْبَعَ شَعَرَاتٍ فِي أَرْبَعَةِ أَوْقَاتٍ؟ فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ، عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ، إِذَا رُوعِيَ حُكْمُ الِانْفِرَادِ.
وَالثَّانِي: عَلَيْهِ دَمٌ إِذَا رُوعِيَ حُكْمُ الِاجْتِمَاعِ وَكَذَلِكَ فِيمَا زَادَ.

فَصْلٌ: حُكْمُ شعر اللحية وسائر الجسد
فَأَمَّا شَعْرُ اللِّحْيَةِ، وَسَائِرِ الْجَسَدِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ شَعْرِ الرَّأْسِ فِي الْمَنْعِ مِنْهُ، وَوُجُوبِ الْفِدْيَةِ فِيهِ، إِذَا لَمْ يَتَعَلَّقِ الْإِحْلَالُ بِهِ وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ: لَا فِدْيَةَ فِيهِ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ، تَعَلُّقًا بقوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيَ مَحِلَّهُ) {البقرة: 196) فَخَصَّ شَعْرَ رَأْسِهِ بِالْمَنْعِ، فَوَجَبَ أَنْ يُخْتَصَّ بِالْفِدْيَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَعَلَّقَ الْإِحْلَالُ بِشَعْرِ الرَّأْسِ دُونَ غَيْرِهِ، وَجَبَ أَنْ تُخْتَصَّ الْفِدْيَةُ بِشَعْرِ الرَّأْسِ دُونَ غَيْرِهِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَمَسُّ الْمُحْرِمُ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا مِنْ بَشَرِهِ شَيْئًا " وَلِأَنَّ شَعْرَ الرَّأْسِ يَتَعَلَّقُ بِحَلْقِهِ تَرْفِيهٌ، وَشَعْرُ الْجَسَدِ يَتَعَلَّقُ بِحَلْقِهِ تَرْفِيهٌ وَتَنْظِيفٌ، فَكَانَ بِوُجُوبِ الْفِدْيَةِ أَوْلَى.

(4/115)


فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى شَعْرِ الرَّأْسِ؛ لِيُنَبِّهَ بِهِ عَلَى شَعْرِ الْجَسَدِ؛ لِوُجُودِ مَعْنَى الرَّأْسِ فِيهِ وَزِيَادَةٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ لَمَّا اخْتُصَّ شَعْرُ الرَّأْسِ بِالْإِحْلَالِ، وَجَبَ أَنْ يُخْتَصَّ بِالْفِدْيَةِ.
قُلْنَا: الْإِحْلَالُ نُسُكٌ مَأْمُورٌ بِهِ، وَالْحَلْقُ كَغَيْرِهِ حَظْرٌ يَأْثَمُ بِهِ، ثُمَّ إِنَّمَا لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ فِيهِ؛ لِأَجْلِ التَّرْفِيهِ، فَاسْتَوَى شَعْرُ الرَّأْسِ وَالْجَسَدِ فِي التَّرْفِيهِ بِحَلْقِهِ فَاسْتَوَيَا فِي الْفِدْيَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْإِحْلَالِ.

فَصْلٌ
: إِذَا ثَبَتَ أَنَّ حُكْمَ شَعْرِ الْجَسَدِ، كَحُكْمِ شَعْرِ الرَّأْسِ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ فِيهِ، فَسَوَاءٌ أَخَذَهُ حَلْقًا، أَوْ نَتْفًا، أَوْ قَصًّا. قَالَ الشَّافِعِيُّ نَصًّا: فَلَوْ حَلَقَ شَعْرَ رَأْسِهِ وَجَسَدِهِ دفعة واحدة فذهب الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ، نَصَّ عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيُّ: عَلَيْهِ فِدْيَتَانِ، إِحْدَاهُمَا لِشَعْرِ رَأْسِهِ، وَالْأُخْرَى لِشَعْرِ جَسَدِهِ؛ لِأَنَّ شَعْرَ الرَّأْسِ مُخَالِفٌ لِشَعْرِ الْجَسَدِ، لِتَعَلُّقِ الْإِحْلَالِ بِهِ، وَإِذَا اخْتَلَفَا، لَمْ يَتَدَاخَلَا كَالْجِنْسَيْنِ مِنْ حَلْقٍ وَتَقْلِيمٍ وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْحَلْقَ كُلَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَحْكَامُهُ، كَاللِّبَاسِ الَّذِي هُوَ جِنْسٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَحْكَامُهُ، فَلَوْ لَبِسَ قَمِيصًا، وَعِمَامَةً، وَخُفَّيْنِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، لَزِمَتْهُ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ، مُخَالِفًا لِحُكْمِ صَاحِبِهِ، كَذَلِكَ شَعْرُ الرَّأْسِ وَالْجَسَدِ، جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ فِيهِمَا فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهَذَا انْفِصَالٌ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ.
فَصْلٌ
: وَإِذَا قَطَعَ نِصْفَ شَعْرَةٍ مِنْ رَأْسِهِ، أَوْ جَسَدِهِ فَفِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: عليه من الفدية كقسط أَخَذَهُ مِنَ الشَّعْرَةِ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ نِصْفُ مُدٍّ عَلَى أَصَحِّ الْأَقَاوِيلِ، فَرْقًا بَيْنَ الْجُمْلَةِ وَالْأَبْعَاضِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِ مُدٌّ كَامِلٌ، لِأَنَّ الْإِحْلَالَ يَقَعُ، لِنَقْصِ بَعْضِ الشَّعْرِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْصِلْهُ كَمَا يَقَعُ بِحَلْقِهِ إِذَا اسْتَأْصَلَهُ، فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَ الْفِدْيَةُ الْكَامِلَةُ بِقَطْعِ بَعْضِهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْصِلْهُ كَمَا يَلْزَمُ بِحَلْقِهِ، إِذَا اسْتَأْصَلَهُ وَالْأَوَّلُ أصح.
فصل
: إذا نبت فِي غَيْرِ الْمُحْرِمِ شَعْرٌ، فَتَأَذَّى بِهِ وَاضْطُرَّ إِلَى قَلْعِهِ فَلَهُ قَلْعُهُ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، لِأَنَّ قَلْعَهُ لِمَعْنًى فِي الشَّعْرِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَهُ الْفِدْيَةُ، كَمَا لَوْ صَالَ عَلَيْهِ صَيْدٌ فَقَتَلَهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْجَزَاءُ وَكَذَلِكَ لَوْ طَالَ شَعْرُ رأسه أو حاجبيه، فاسترسل على عينيه وَمَنَعَهُ النَّظَرَ، قَالَ أَصْحَابُنَا: قَطَعَهُ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا إِذَا اضْطُرَّ إِلَى حَلْقِهِ لِأَجْلِ الْهَوَامِّ الْحَاصِلَةِ فِيهِ، أَوْ لِحَمْيِ رَأْسِهِ بِهِ، فَلَهُ حَلْقُهُ وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، لِأَنَّهُ حَلَقَهُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الشَّعْرِ، وَهُوَ الْهَوَامُّ وَشِدَّةُ الْحَرِّ، فَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ. كَمَا لَوِ اضْطُرَّ إِلَى قَتْلِ الصيد أكله، وَقَدْ " أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَعْبًا بِالْفِدْيَةِ مَعَ ضَرُورَتِهِ إِلَى الْحَلْقِ ".

(4/116)


فَصْلٌ
: إِذَا قَطَعَ الْمُحْرِمُ عُضْوًا مِنْ بَدَنِهِ وَعَلَيْهِ شَعْرٌ، أَوْ كَشَطَ جِلْدَةً مِنْ بَدَنِهِ وَعَلَيْهَا شَعْرٌ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ فِدْيَةَ الشَّعْرِ وَجَبَتْ؛ لِأَجْلِ التَّرْفِيهِ بِهِ وَهَذَا غَيْرُ مُتَرَفَّهٍ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَضَرٌّ بِهِ، وَلِأَنَّ الشَّعْرَ تَابِعٌ، وَالْعُضْوَ مَتْبُوعٌ، فَلَمَّا لَمْ تَجِبِ الْفِدْيَةُ فِي الْمَتْبُوعِ فَأَوْلَى أَنْ لَا تَجِبَ فِي التَّابِعِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ فِي أَخْذِ الشَّعْرِ مُنْفَرِدًا، فَأَوْلَى أَنْ تَجِبَ فِي أَخْذِهِ مَعَ غَيْرِهِ.
قِيلَ: لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الِانْفِرَادِ فِي الشَّيْءِ، مُخَالِفٌ لِحُكْمِ تَبَعِهِ لِغَيْرِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ امْرَأَةً لَوْ حَرَّمَتْ زَوْجَةَ رَجُلٍ بِرَضَاعٍ، لَزِمَهَا الْمَهْرُ، وَلَوْ قَتَلَتْهَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا الْمَهْرُ، وَإِنْ كَانَ فِي الْقَتْلِ تَحْرِيمٌ وَإِتْلَافٌ.

مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَكَذَلِكَ الْأَظْفَارُ، وَالْعَمْدُ فِيهَا وَالْخَطَأُ سَوَاءٌ ".
قَالَ الماوردي: أما الأظفار فحكمها حكم الشعر، يمنع الْمُحْرِمُ مِنْهَا، وَيَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ لِتَقْلِيمِهَا؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْمُحْرِمُ أَشَعْثُ أَغَبَرُ " وَتَقْلِيمُهَا مَا يُزِيلُ الشَّعَثَ، ويحدث الترفيه، ولأنه نام يتخلف يَتَرَفَّهُ الْمُحْرِمُ بِإِزَالَتِهِ، فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ الْفِدْيَةُ فِيهِ كَالشَّعْرِ، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْفِدْيَةِ فِيهِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الشَّعْرِ، وَإِنْ قَلَّمَ أَظْفَارَهُ، فَعَلَيْهِ دَمٌ كَمَا لَوْ حَلَقَ جَمِيعَ شَعْرِهِ، وَلَوْ قَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَظَافِرَ فَصَاعِدًا فِي مَقَامٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ يَدِهِ أَوْ رِجْلِهِ مِنْ عُضْوٍ وَاحِدٍ أَوْ عُضْوَيْنِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لا يلزمه الْفِدْيَةُ الْكَامِلَةُ، وَهِيَ الدَّمُ، إِلَّا لِتَقْلِيمِ خَمْسَةِ أَظَافِرَ مِنْ عُضْوٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ قَلَّمَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَظَافِرَ مِنْ عُضْوٍ وَاحِدٍ، أَوْ قَلَّمَ خَمْسَةَ أَظَافِرَ مِنْ عُضْوَيْنِ، لَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ، فَمَا دُونَ الدَّمِ، هَلْ يَلْزَمُهُ أَمْ لَا؟ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ قَالَ: لِأَنَّ الْفِدْيَةَ الْكَامِلَةَ لَا تَلْزَمُهُ، إِلَّا بِتَرْفِيهٍ كَامِلٍ. وَكَمَالُ التَّرْفِيهِ بِتَقْلِيمِ خَمْسَةِ أَظْفَارٍ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَعْتَبِرَ كَمَالَ التَّرْفِيهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِتَقْلِيمِ جَمِيعِ الْأَظَافِرِ، وَهُوَ لَا يَعْتَبِرُهُ، أَوْ ما يقع عليه اسم جميع مطلق وهو مقولنا ثُمَّ نَقُولُ: لِأَنَّهُ قَلَّمَ مِنْ أَظَافِرِهِ مَا يَقَعُ عَلَى اسْمِ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ الْفِدْيَةُ الْكَامِلَةُ، كَالْخَمْسَةِ مِنْ يَدٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ قَلَّمَ ظُفْرًا وَاحِدًا، كَانَ كَمَا لَوْ حَلَقَ شَعْرَةً، فَيَكُونُ فِيمَا يَلْزَمُهُ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: ثُلُثُ دَمٍ.
وَالثَّانِي: دِرْهَمٌ.

(4/117)


وَالثَّالِثُ: مُدٌّ، فَإِنْ قَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَظَافِرَ فِي مَقَامٍ، ثُمَّ قَلَّمَ بَعْدَهَا ثَلَاثَةَ أَظَافِرَ أُخَرَ، فِي مَقَامٍ آخَرَ، فَعَلَيْهِ دَمَانِ؛ لِأَنَّ هَذَا إِتْلَافٌ لَا يَتَدَاخَلُ بِحَالٍ، فَلَوِ انْكَسَرَ ظُفْرُهُ وتعلق وكان تأذى به، وكان لَهُ قَلْعُهُ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ كَالشَّعْرَةِ إِذَا نَبَتَتْ فِي عَيْنِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالْعَمْدُ، وَالْخَطَأُ فِيهِمَا سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا اسْتَوَى حُكْمُ الْعَامِدِ وَالْخَاطِئِ؛ لِأَنَّهُ إِتْلَافٌ فَشَابَهَ قَتْلَ الصَّيْدِ، وَقَدْ مَضَى ذلك، والله أعلم.

مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَحْلِقُ الْمُحْرِمُ شَعْرَ الْمَحَلِّ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، لَا يُمْنَعُ الْمُحْرِمُ مِنْ حَلْقِ شَعْرِ الْمَحَلِّ، وَلَا مِنْ تَقْلِيمِ أَظَافِرِهِ، فَإِنْ حَلَقَ شَعْرَهُ، أَوْ قَلَّمَ ظُفْرَهُ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ فَعَلَهُ بِأَمْرِهِ، أَوْ غَيْرِ أَمْرِهِ. وَقَالَ أبو حنيفة: الْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ مِنْ حَلْقِ شَعْرِ الْمَحَلِّ، وَتَقْلِيمِ أَظَافِرِهِ، كَمَا هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ، فَإِنْ فَعَلَ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ كُلَّ مَا أَوْجَبَ عَلَى الْمُحْرِمِ الْفِدْيَةَ بِفِعْلِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، أَوْجَبَ الْفِدْيَةَ بِفِعْلِهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، كَالصَّيْدِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْجَزَاءُ فِي قَتْلِهِ، إِذَا كَانَ لِغَيْرِهِ، كَمَا يَلْزَمُهُ فِي قَتْلِهِ، إِذَا كَانَ لِنَفْسِهِ.
قَالُوا: وَلِأَنَّهُ مُحْرِمٌ حَلَقَ شَعْرَ آدَمِيٍّ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْفِدْيَةُ، كَمَا لَوْ حَلَقَ شَعْرَ نَفْسِهِ.
قَالُوا: وَلِأَنَّ هَذَا أَلْزَمُ لَكُمْ، لِأَنَّكُمْ مَنَعْتُمُ الْمُحْرِمَ تَزْوِيجَ نَفْسِهِ وَمِنْ تَزْوِيجِ غَيْرِهِ، فَلَزِمَكُمْ أَنْ تَمْنَعُوهُ مِنْ حَلْقِ شَعْرِهِ وَمِنْ حَلْقِ شَعْرِ غَيْرِهِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا قوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ) {البقرة: 196) وَهَذَا خِطَابُ الْمُحْرِمِينَ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْحَلْقَ جَائِزٌ لِلْمُحِلِّينِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُحِلُّ مَمْنُوعًا لَمْ يُوجَبْ فِي شَعْرِهِ الْفِدْيَةُ سَوَاءٌ حَلَقَهُ مُحْرِمٌ أَوْ مُحِلٌّ، كَمَا أَنَّ الْمُحْرِمَ لَمَّا كَانَ مَمْنُوعًا، وَجَبَ فِي شَعْرِهِ الْفِدْيَةُ، سَوَاءٌ حَلَقَهُ مُحِلٌّ أَوْ مُحْرِمٌ.
وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ لَوْ أُفْرِدَ عَنِ الْآيَةِ، صَحَّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، وَقَدْ يَتَحَرَّرُ قِيَاسًا، فَيُقَالُ: لِأَنَّهُ شَعْرُ مُحِلٍّ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ فِيهِ بِحَلْقِهِ الْفِدْيَةُ، كَمَا لَوْ حَلَقَهُ مُحِلٌّ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَوْ فَعَلَهُ الْمُحْرِمُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ؛ لِأَجْلِ التَّرْفِيهِ بِهِ، فَإِذَا فَعَلَهُ بِالْمُحِلِّ لَمْ يَلْزَمْهُ الْفِدْيَةُ، كَمَا لَوْ أَلْبَسَهُ أَوْ طَيَّبَهُ، وَلِأَنَّهُ شَعْرٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَحَلِّهِ حُرْمَةُ الْإِحْرَامِ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُرْمَةُ الْإِحْرَامِ، كَالْبَهَائِمِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى قَتْلِ الصَّيْدِ، فَمُنْتَقَضٌ بِالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الصَّيْدِ، أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ له حُرْمَةُ الْإِحْرَامِ بِنَفْسِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يلزمه الحلال الجزاء في قتله. وأما قياسهم عَلَى الْمُحْرِمِ إِذَا حَلَقَ شَعْرَ نَفْسِهِ، فَغَيْرُ صحيح؛ لأنه إِنْ قَالُوا: لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْأَصْلِ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ تَجِبُ فِي شَعْرِهِ الْفِدْيَةُ سَوَاءٌ حَلَقَهُ مُحِلٍّ أَوْ مُحْرِمٌ، وَإِنْ لَمْ يَقُولُوا لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ انْتَقَضَ بِشَعْرِ الْمُحِلِّ إِذَا حَلَقَهُ مُحِلٌّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي شَعْرِ الْمُحْرِمِ إِنْ ثَبَتَ لَهُ حُرْمَةُ الْإِحْرَامِ، فَوَجَبَتِ الْفِدْيَةُ بِحَلْقِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ شَعْرُ الْمُحِلِّ، وَأَمَّا مَا أَلْزَمُوهُ مِنَ النِّكَاحِ فَغَيْرُ

(4/118)


لَازِمٍ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِوِلَايَةٍ وَالْإِحْرَامَ يَمْنَعُ مِنَ الْوِلَايَةِ فَبَطَلَ النِّكَاحُ، وَالشَّعْرُ وَجَبَتْ فِيهِ الْفِدْيَةُ، لِتَرَفُّهِ الْمُحْرِمِ بِهِ، وَالْحَالِقُ الْمُحْرِمُ لَا يَتْرَفَّهُ بِهِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْفِدْيَةُ.

مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَيْسَ لِلْمُحِلِّ أَنْ يَحْلِقَ شَعْرَ الْمُحْرِمِ فَإِنْ فَعَلَ بِأَمْرِ الْمُحْرِمِ فَالْفِدْيَةُ عَلَى الْمُحْرِمِ وَإِنْ فَعَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ مُكْرَهًا كَانَ أَوْ نَائِمًا رجع على الحلال بفديةٍ وتصدق بِهَا فَإِنْ لَمْ يَصِلْ أَلَيْهِ فَلَا فِدْيَةَ عليه (قَالَ الْمُزَنِيُّ) وَأَصَبْتُ فِي سَمَاعِي مِنْهُ ثُمَّ خط عليه أن يفتدي ويرجع بالفدية على المحل وهذا أشبه بمعناه عندي.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا شَعْرُ الْمُحْرِمِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْلِقَهُ حَلَالٌ وَلَا مُحْرِمٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ) {البقرة: 196) فَمَنَعَ الْمُحْرِمَ مِنْ حَلْقِ شَعْرِهِ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ مَنْعَهُ وَمَنْعَ غَيْرِهِ، لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ أَنْ يَتَوَلَّى غَيْرُهُ حَلْقَ شَعْرِهِ، فَوَرَدَ الْمَنْعُ عَلَى حَسْمِ الْعَادَةِ فِيهِ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ تَعَلَّقَتْ بِعَيْنِ الشَّعْرِ، فَاسْتَوَى فِي الْمَنْعِ مِنْهُ الْمُحِلُّ وَالْمُحْرِمُ، كَالصَّيْدِ فِي الْمُحْرِمِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، وَحَلَقَ مَحَلَّ شَعْرِ الْمُحْرِمِ، فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْلِقَهُ بِأَمْرِ الْمُحْرِمِ.
الثَّانِي: بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَإِنْ حَلَقَهُ بِأَمْرِ الْمُحْرِمِ، فَالْفِدْيَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُحْرِمِ؛ لِأَنَّ حَلْقَ شَعْرِهِ إِذَا كَانَ عَنْ أَمْرِهِ، فَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى فِعْلِهِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فله حالان:
أحدهما: أن يكون قادراً على منعه.
الثاني: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى مَنْعِهِ، فَإِنْ لم يكن قادراً على منعه، إما لكونه نَائِمًا أَوْ مَكْرُوهًا، فَالْفِدْيَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْحَالِقِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ لَا صُنْعَ لَهُ فِي حَلْقِ رَأْسِهِ، فَلَمْ تَلْزَمْهُ الْفِدْيَةُ بِهَا، فَإِنْ أَعْسَرَ بِهَا الْحَالِقُ الْمُحِلُّ، أَوْ غَابَ، فَهَلْ يَتَحَمَّلُهَا الْمُحْرِمُ عَنْهُ لِيَرْجِعَ بِهَا عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَمَّلَهَا، لِأَنَّهُ شَعْرٌ زَالَ عَنْهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَلَمْ يَلْزَمُهُ ضَمَانُ فِدْيَتِهِ، كَمَا لَوْ تَمَعَّطَ عَنْهُ بِمَرَضٍ، أَوِ احْتِرَاقٍ بِنَارٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي ذِمَّةِ الْحَالِقِ الْمُحِلِّ، وَهَذَا أَصَحُّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَمَّلَهَا، ثُمَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ شَعْرٌ أُزِيلَ عَنْهُ بِوَجْهٍ هُوَ مُضْطَرٌّ فِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ضَمَانُ فِدْيَتِهِ عَلَيْهِ، كَمَا لَوِ اضْطُرَّ إِلَى حَلْقِهِ لِهَوَامَّ فِي رَأْسِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ: " وَأَصَبْتُ فِي سَمَاعِي مِنْهُ، ثُمَّ خط عليه " يعني أن الشافعي رجع على هَذَا الْقَوْلِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْمُزَنِيُّ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي مُخْتَصَرِ الْحَجِّ الْكَبِيرِ، وَلَمْ يَخُطَّ عَلَيْهِ، فَهَذَا شَرْحُ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَصَحُّ طَرِيقَيْ أَصْحَابِنَا وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يُخْرِجُ الْقَوْلَيْنِ فِي أَصْلِ الْوُجُوبِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الْحَالِقِ الْمُحِلِّ، وَلَا يَلْزَمُ الْمُحْرِمَ تَحَمُّلُهَا.

(4/119)


وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الْمُحْرِمِ ثُمَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْحَالِقِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مَبْنِيًّا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي شَعْرِ المحرم، وهي يَجْرِي عِنْدَهُ مَجْرَى الْوَدِيعَةِ فِي يَدِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ إِلَّا بِالتَّعَدِّي؟ أَوْ مَجْرَى الْعَارِيَةِ فَيَلْزَمُهُ الضَّمَانُ بِكُلِّ حَالٍ؟ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا.

فَصْلٌ
: فَإِذَا تَقَرَّرَ شَرْحُ الْمَذْهَبِ وَتَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى التَّفْرِيعِ عَلَيْهِمَا فِي صِفَةِ الْكَفَّارَةِ، وَكَيْفِيَّةِ التَّرَاجُعِ، فَنَبْدَأُ أَوَّلًا بِالْحَالِقِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَفْتَدِيَ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الدَّمِ، أَوِ الْإِطْعَامِ، فَأَمَّا الصِّيَامُ فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَصَحُّهُمَا: يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُسْتَقَرٌّ عَلَيْهِ فَكَانَ مُخَيَّرًا فِيهِ.
وَالثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ، مُخَرَّجٌ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ لَوْ أَعْسَرَ بها تحملها الْمُحْرِمُ عَنْهُ، فَأَمَّا الْمُحْرِمُ، إِذَا أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ تَحَمُّلَ الْفِدْيَةِ عِنْدَ إِعْسَارِ الْحَالِقِ، أَوْ غَيْبَتِهِ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الدَّمِ، وَالْإِطْعَامِ، فَأَمَّا الصِّيَامُ، فَإِنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَمَّلُ عَنْ غَيْرِهِ، وَأَعْمَالُ الْأَبْدَانِ لَا يَجُوزُ تَحَمُّلُهَا عَنِ الْغَيْرِ، بأن افْتَدَى بِالدَّمِ، أَوِ الْإِطْعَامِ، ثُمَّ أَيْسَرَ الْحَالِقُ بَعْدَ إِعْسَارِهِ، أَوْ قَدِمَ بَعْدَ غَيْبَتِهِ، نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ افْتَدَى بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ ثَمَنًا، فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْحَالِقِ؛ لِأَنَّهُ تَحَمَّلَ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ قَدِ افْتَدَى بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ ثَمَنًا، فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا رُجُوعَ لَهُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ غَارِمٌ عَنْ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي إِسْقَاطِ الْحَقِّ شَيْءٌ يَقْدِرُ عَلَى إِسْقَاطِهِ بِدُونِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ صَارَ كَالْمُتَطَوِّعِ بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ ثَمَنًا؛ لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الْوَاجِبُ، وَالزِّيَادَةُ تَطَوُّعٌ؛ فَسَقَطَ رُجُوعُهُ بِالتَّطَوُّعِ، وَلَمْ يَسْقُطْ رُجُوعُهُ بِالْوَاجِبِ.
فَصْلٌ
: وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى مَنْعِهِ، وَصُورَةُ ذَلِكَ أَنْ يَأْتِيَ الْحَلَالُ إِلَى الْمُحْرِمِ، فَيَحْلِقُ رَأْسَهُ، وَالْمُحْرِمُ سَاكِتٌ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مَنْعِهِ، فَيَكُفُّ عَنْهُ، فَهَلْ يَكُونُ سُكُوتُهُ رِضًى بِالْحَلْقِ؟ يَجْرِي مَجْرَى إِذْنِهِ فِيهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ سُكُوتَهُ رِضًى يَجْرِي مَجْرَى إِذْنِهِ، فَتَكُونُ الْفِدْيَةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ قَدْ جُعِلَ فِي الشَّرْعِ رِضًا يَقُومُ مَقَامَ الْإِذْنِ فِي الْبِكْرِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ سُكُوتَهُ لَيْسَ بِرِضًى، وَلَا يَقُومُ مَقَامَ الْإِذْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جُنِيَ عَلَى مَالِهِ وَهُوَ سَاكِتٌ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رِضًى مِنْهُ يَجْرِي مَجْرَى إِذْنِهِ، لِمَنْعِهِ مِنْ مُطَالَبَةِ الْجَانِي يَقُومُ مَقَامَهُ، كَذَلِكَ هنا، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْجِنَايَةُ عَلَى الْحَالِقِ عَلَى مَا مَضَى.
فَصْلٌ
: فَلَوْ أَمَرَ حَلَالٌ حَلَالًا أَنْ يَحْلِقَ شَعْرَ مُحْرِمٍ، كَانَتِ الْفِدْيَةُ عَلَى الْآمِرِ دُونَ الْحَالِقِ؛ لِأَنَّ الْحَلْقَ مَنْسُوبٌ إِلَى الآمر، وإنما الحالق كالآلة، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُحْرِمَ لَوْ كَانَ هُوَ الْآمِرَ، كَانَتِ الْفِدْيَةُ عَلَيْهِ دُونَ الْحَالِقِ، فَكَذَا إِذَا كَانَ الْآمِرُ أَجْنَبِيًّا.

(4/120)


فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ أَمَرَهُ بِقَتْلِ صَيْدٍ، كَانَ الْجَزَاءُ عَلَى الْقَاتِلِ دُونَ الْآمِرِ، فَهَلْ كَانَ الْحَالِقُ مِثْلَهُ. قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ اسْتِهْلَاكٌ لَا يَعُودُ عَلَى الْآمِرِ بِهِ نَفْعٌ، فَاخْتُصَّ الْقَاتِلُ الْمُتْلِفُ بِوُجُوبِ الْجَزَاءِ دُونَ الْآمِرِ، وَالْحَلْقُ اسْتِمْتَاعٌ يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الْآمِرِ، فاختص بوجوب الفدية دون الحالق.

مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا بَأْسَ بِالْكُحْلِ، مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ طيب، فإن كان فيه طيب افتدى ".
أَمَّا الْكُحْلُ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِيهِ طِيبٌ، فَلَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ الِاكْتِحَالُ بِهِ؛ لِأَجْلِ طِيبِهِ، فَإِنِ اكْتَحَلَ بِهِ افْتَدَى.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ طِيبٌ، فَإِنْ لَمْ يكن فيه زينة كالتوتيا وَالْأَنْزَرُوتِ، كَانَ لِلْمُحْرِمِ الِاكْتِحَالُ بِهِ إِجْمَاعًا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ زِينَةٌ وَتَحْسِينٌ، كَالصَّبْرِ وَالْإِثْمِدِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ الْمُحْرِمَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ تَرْكُهُ أَفْضَلَ لَهُ، وَخَاصَّةً الْمَرْأَةَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِحَاجَةٍ وَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ عِبَادَةٌ تَمْنَعُ مِنَ الطِّيبِ، فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنَ الْكُحْلِ، كَالْعِدَّةِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ قَالَ: اشْتَكَيْتُ عَيْنِي وَأَنَا مُحْرِمٌ فَسَأَلْتُ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ، فَقَالَ: اضْمِدْهُمَا بِالصَّبْرِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُخْبِرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِذَلِكَ وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَمِدَتْ عَيْنُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَأَمَرَ أَنْ يُقَطَّرَ الصَّبْرُ فِي عَيْنِهِ إِقْطَارًا وَلِأَنَّ الْكُحْلَ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ زينة، أو دواءاً وَالْمُحْرِمُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُمَا، فَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْعِدَّةِ فَإِنَّمَا مَنَعَتْ مِنَ الْكُحْلِ؛ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ مِنَ الزِّينَةِ، وَالْإِحْرَامُ لَا يَمْنَعُ مِنْهَا.

مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا بأس بالاغتسال ودخول الحمام اغتسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو محرم ودخل ابن عباس حمام الجحفة فقال ما يعبأ الله بأوساخكم شيئاً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا اغْتِسَالُ الْمُحْرِمِ بِالْمَاءِ وَالِانْغِمَاسُ فِيهِ، فَجَائِزٌ، وَلَا يُعْرَفُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ خِلَافٌ فِيهِ، لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ، اخْتَلَفَا

(4/121)


بِالْأَبْوَاءِ فِي غَسْلِ الْمُحْرِمِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَقَالَ الْمِسْوَرُ لَا يَغْسِلُ رَأْسَهُ قَالَ: فَبَعَثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ؛ لِأَسْأَلَهُ عَنِ اغْتِسَالِ الْمُحْرِمِ، فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ يَغْتَسِلُ مِنَ الْقَرْنَيْنِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيَّ، وَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: عَبْدُ اللَّهِ بَعَثَنِي ابن عباس، أتيت إِلَيْكَ لِأَسْأَلَكَ عَنِ اغْتِسَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ مُحْرِمٌ، قَالَ: " فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى ثَوْبٍ مستتراً به فطأطأ حتى بدا رأسه ثم أقبل بهما وَقَالَ لِمَنْ كَانَ يَصُبُّ عَلَيْهِ اصْبُبْ فَصَبَّ عَلَيْهِ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ أَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، وَقَالَ هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَنَعَ وَهُوَ مُحْرِمٌ " وَرَوَى يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اغتسل إلى بعيره وَأَنَا أَسْتُرُهُ بِثَوْبٍ، فَقَالَ: اصْبُبْ عَلَى رَأْسِي؟ فَقُلْتُ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَعْلَمُ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا يَزِيدُ الْمَاءُ الشَّعْرَ إِلَّا شَعَثًا فَسَمَّى اللَّهَ، ث م أَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رُبَّمَا قَالَ لِي عُمَرُ: تَعَالَ أُبَاقِيكَ فِي الْمَاءِ، أَيُّنَا أَطْوَلُ نَفَسًا، وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ اغْتِسَالِ الْمُحْرِمِ، فَلَهُ غَسْلُ جَسَدِهِ، وَدَلْكُهُ، فَأَمَّا رَأْسُهُ، فَيَفِيضُ عَلَيْهِ الماء، ولا يدلكه، لأن لا يسقط شيء من شعر رأسه ولحيه، إِلَّا أَنْ يَكُونَ جُنُبًا، فَيَغْسِلُهُ بِبُطُونِ أَنَامِلِهِ بِرِفْقٍ، وَلَا يَحُكُّهُ بِأَظَافِرِهِ، فَإِنْ حَكَّهُ فَسَقَطَ شَيْءٌ مِنْ شَعْرِهِ، فَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يَفْتَدِيَهُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَسْتَيْقِنَ أَنَّهُ قَطَعَهُ أو نتفه بفعله فيفتدي واجباً.

فَصْلٌ
: فَأَمَّا دُخُولُهُ الْحَمَّامَ، وَإِزَالَةُ الْوَسَخِ عَنْ نَفْسِهِ، فَجَائِزٌ نَصًّا، وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ أَزَالَ الْوَسَخَ عَنْ نَفْسِهِ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْمُحْرِمُ أَشْعَثُ أَغْبَرُ ".
وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ دَخَلَ حَمَّامَ الْجُحْفَةِ مُحْرِمًا وَقَالَ: مَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِأَوْسَاخِكُمْ شَيْئًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَيْسَ فِي الْوَسَخِ نُسُكٌ وَلَا أَمَرَ نُهِيَ عَنْهُ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْمُؤْمِنُ نَظِيفٌ " وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: نعم البيت يُنَقِّي الدَّرَنَ وَيُذَكِّرُ النَّارَ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا غَسْلُ رَأْسِهِ بِالْخِطْمِيِّ وَالسِّدْرِ، فَغَيْرُ مُخْتَارٍ لَهُ فَإِنْ فَعَلَهُ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ غَسَلَ رَأْسَهُ بِالْخِطْمِيِّ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ وَهَذَا خَطَأٌ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مُحْرِمٍ وَقَصَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ: " اغْسِلُوهُ بماءٍ وسدرٍ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا " فَأَمَرَ بِغَسْلِ رَأْسِهِ بِالسِّدْرِ، وَأَخْبَرَ بِنَقَاءِ إِحْرَامِهِ، وَالسِّدْرُ وَالْخِطْمِيُّ سَوَاءٌ فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِ الْفِدْيَةِ فِيهِ.

مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَقْطَعَ الْعِرْقَ وَيَحْتَجِمَ مَا لَمْ يَقْطَعْ شَعْرًا وَاحْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - محرماً ".

(4/122)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ مَنَعَ الْمُحْرِمَ مِنَ الْحِجَامَةِ؛ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ الشَّعْرَ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ الْحِجَامَةِ، رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - احْتَجَمَ بِالْقَاحَةِ وَهُوَ صَائِمٌ، مُحْرِمٌ بِالْقَرَنِ. وَرَوَى حميد عَنْ أَنَسٍ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - احْتَجَمَ بِلَحْيِ جملٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي وَسَطِ رَأْسِهِ " وَرَوَى جَابِرٍ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - احْتَجَمَ مِنْ وَنًى كَانِ بِهِ ". وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ أَنْ يَفْتَصِدَ وَيَبُطَّ جُرْحًا؛ لِأَنَّ الْفِصَادَ شرطة من شرطان الْحِجَامَةِ. فَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْحِجَامَةَ تَقْطَعُ الشَّعْرَ.
قُلْنَا: إِنْ قَطَعَ الشَّعْرِ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ.

مَسْأَلَةٌ
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عن ذلك وقال فإن نكح أو أنكح فالنكاح فاسد ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي نِكَاحِ الْمُحْرِمِ وَإِنْكَاحِهِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ نِكَاحَهُ وَإِنْكَاحَهُ بَاطِلٌ.
وَقَالَ أبو حنيفة وَصَاحِبَاهُ: جَائِزٌ اسْتِدْلَالًا، بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) {النساء: 3) وقوله {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) {النساء: 24) وبرواية عكرمة عن أبو عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَكَحَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ محرمٌ. وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ يُسْتَبَاحُ بِهِ الْبُضْعُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْهُ الْإِحْرَامُ كَالرَّجْعَةِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يُمْلَكُ بِهِ الْبُضْعُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنَ الْإِحْرَامِ، كَشِرَاءِ الإماء ولأنه مَنَعَ الْإِحْرَامُ مِنَ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ، مُنِعَ مِنَ اسْتَدَامَتِهِ كَاللِّبَاسِ، فَلَمَّا جَازَ اسْتَدَامَتُهُ، جَازَ ابْتِدَاؤُهُ. وَلِأَنَّ مَا مُنِعَ مِنْهُ الْإِحْرَامُ، تَعَلَّقَتْ بِهِ الْفِدْيَةُ، كَسَائِرِ النَّوَاهِي، فَلَمَّا لَمْ تَجِبِ الْفِدْيَةُ فِيهِ لَمْ يُمْنَعِ الْإِحْرَامُ مِنْهُ.
وِالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ نُبَيْهِ بْنِ وَهْبٍ أن عبد اللَّهِ أَرَادَ تَزْوِيجَ ابْنَتِهِ طَلْحَةَ بِنْتِ بْنِ جُبَيْرٍ، فَبَعَثَ إِلَى أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَكَانَ أَمِيرَ الْحَاجِّ وَكَانَا مُحْرِمَيْنِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَبَانٌ وَقَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنكح ".
فَإِنْ قِيلَ: نُبَيْهُ بْنُ وَهْبٍ ضَعِيفٌ قِيلَ: قَدْ رَوَى عَنْهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، وَحَسْبُكَ بِهِمَا، ثُمَّ رَوَى عَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، مِنْ بَعْدِهِمَا عَلَى أَنَّ الْقِصَّةَ مَشْهُورَةٌ، قَدْ حَكَاهَا عَنْ أَبَانٍ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَغَيْرُهُ.

(4/123)


فَإِنْ قِيلَ: يُحْمَلُ نَهْيُهُ عَلَى الْوَطْءِ دُونَ الْعَقْدِ.
قِيلَ: غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ وَمَنْ حَضَرَهُ قَدْ عَقِلُوا مَعْنَاهُ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْعَقْدُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَنكح وَلَا يُنكح " فَلَمْ يَصِحَّ حَمْلُهُ عَلَى الْوَطْءِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُوَطِئُ غَيْرَهُ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَازَ مَا قَالُوا، لَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْعَقْدِ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَعَمُّ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْأَمْرَيْنِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ يُعْلَمُ بِهِ حُكْمٌ فَيُسْتَفَادُ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْوَطْءِ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ) {البقرة: 197) وَرَوَى عكرمة سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ امْرَأَةٌ تَتَزَوَّجُ وَهِيَ خَارِجَةُ مَكَّةَ: يَعْنِي أَنَّهَا أَحْرَمَتْ وَخَرَجَتْ إِلَى مِنًى فقال: " لا يعقل فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عنه وهنا نَصٌّ فِي الْعَقْدِ وَرَوَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَتَزَوَّجُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُزَوَّجُ ". وَهَذَا نَصٌّ أَيْضًا، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وعلي، وابن عمر، وزيد بن زياد، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يَثْبُتُ بِهِ الْفِرَاشُ، فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ الْإِحْرَامُ، كَالْوَطْءِ، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يَثْبُتُ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ الْإِحْرَامُ، كَالْوَطْءِ، وَلَا يُنْتَقَضُ بِالرَّضَاعِ، وَلِأَنَّهُ يَثْبُتُ تَحْرِيمُ النَّسَبِ دُونَ الْمُصَاهَرَةِ، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ مَعْنًى يَمْنَعُ مِنَ الْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنَ النِّكَاحِ، كَالْعِدَّةِ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ مِنْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِحْرَامُ مَانِعًا مِنْهُ، كَالطِّيبِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ نِكَاحٍ عَلَى مَنْ لَا يَسْتَبِيحُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَذَاتِ الْمُحْرِمِ وَالْمُرْتَدِّ.
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِعُمُومِ الْآيَتَيْنِ، فَمَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِحَدِيثِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَكَحَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ " فَفِيهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطِّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مخصوص بجواز النكاح في الإحرام لما كَانَ مَخْصُوصًا بِغَيْرِهِ فِي الْمَنَاكِحِ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَغَيْرَهُ فِي النِّكَاحِ فِي الْإِحْرَامِ سَوَاءٌ، لَكِنَّ خَبَرَ ابْنِ عَبَّاسٍ واهٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ ثَلَاثِ طُرُقٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نكح ميمونة وهو حلال.

(4/124)


فأحدهما: مَا رَوَاهُ أَيُّوبُ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: كُتِبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وميمون يومئذ على الجزيرة إذ سأل يَزِيدَ بْنَ الْأَصَمِّ، وَكَانَ ابْنَ أُخْتِ مَيْمُونَةَ كَيْفَ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ، فَقَالَ تَزَوَّجَهَا حَلَالًا وَبَنَى بِهَا بِسَرِفَ حَلَالًا وَمَاتَتْ بِسَرِفَ فَهُوَ ذَاكَ قَبْرُهَا بِسَرِفَ تَحْتَ السَّقِيفَةِ أَوْ تَحْتَ الْعَقَبَةِ ".
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: مَا رَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْفَذَ أَبَا رَافِعٍ وَرَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَقِيلَ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ إِلَى مَيْمُونَةَ فَتَزَوَّجَهَا، وَكَانَتْ جَعَلَتْ أَمْرَهَا إِلَى الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَهُوَ زَوْجُ أُخْتِهَا أُمِّ الْفَضْلِ، فَزَوَّجَهَا، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَجَ مُعْتَمِرًا فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سَبْعَ عشرة العصيبة، فَأَخَذَهَا بِمَكَّةَ وَبَنَى بِهَا بسرفٍ.
وَالطَّرِيقُ الثَّالِثُ: مَا رَوَى مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا إِلَى عَطَاءِ بْنِ أَبِي رباحٍ، فَسَمِعْتُهُ يخبر رجلاً أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خطب وَهُوَ حرامٌ وَمَلَكَهَا وَهُوَ حرامٌ. فَلَمَّا تَصَدَّعَ من عنده وحوله، حَدَّثَهُ حَدِيثَ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ قَالَ: فَانْطَلِقْ بِنَا إِلَى صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَيْهَا فَإِذَا عَجُوزٌ كَبِيرٌ، فَسَأَلَهَا عَطَاءٌ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ: خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو حلالٌ ونكحها وَهُوَ حلالٌ وَدَخَلَ بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ.
فَكَانَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ أَوْلَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّ يَزِيدَ بْنَ الْأَصَمِّ ابْنُ أُخْتِهَا، وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ عَتِيقُهَا، وَابْنُ عَبَّاسٍ إِذْ ذَاكَ طِفْلٌ لَا يَضْبُطُ مَا شَاهَدَ، وَلَا يَعِي مَا سَمِعَ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَاتَ وَلِابْنِ عَبَّاسٍ تِسْعُ سِنِينَ، وَكَانَ تَزْوِيجُ ميمونة قبل موته بثلاثة سِنِينَ، عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَرَى أن من قل هديه وأشعر صَارَ مُحْرِمًا فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِرِوَايَتِهِ أَنَّهُ نَكَحَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ بَعْدَ تَقْلِيدِ هَدْيِهِ وَإِشْعَارِهِ، وَقِيلَ عَقَدَ الْإِحْرَامَ عَلَى نَفْسِهِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرَّجْعَةِ، فَلَا يَصِحُّ عَلَى أَصْلِهِمْ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: اسْتِبَاحَةُ بُضْعٍ، وَالرَّجْعَةُ غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ عِنْدَهُمْ عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ أَخَفُّ حَالًا مِنِ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِصْلَاحُ خَلَلٍ فِي الْعَقْدِ، أَلَا تَرَاهُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى وَلِيٍّ وَلَا إِلَى إِيجَابٍ وَقَبُولٍ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى شِرَاءِ الْإِمَاءِ، فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الِاسْتِمْتَاعَ، وإنما المقصود منه التِّجَارَةُ وَطَلَبُ الرِّبْحِ أَوِ الِاسْتِخْدَامُ فَلِذَلِكَ جَازَ شِرَاءُ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ مِنْ أَخَوَاتِهِ وَعَمَّاتِهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ الْإِحْرَامُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ مَقْصُودِهِ وَعَقْدُ النِّكَاحِ مَقْصُودُهُ الِاسْتِمْتَاعُ فَمَنَعَ مِنْهُ الْإِحْرَامُ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ مقصوده، وأما قولهم: إنما منع الإحرام من ابتدائه منع من استدامته، فَبَاطِلٌ بِالطِّيبِ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ يَمْنَعُ مِنَ ابْتِدَائِهِ وَلَا يَمْنَعُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أبي حنيفة مِنِ استدامته.
وأما قولهم: إنما مَنَعَ مِنْهُ الْإِحْرَامُ تُعَلَّقُ بِهِ الْفِدْيَةُ، فَبَاطِلٌ بِالصَّيْدِ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ قَتْلِهِ

(4/125)


وَمِنْ تَمَلُّكِهِ وَلَوْ تَمَلَّكَهُ لَمْ يَفْتَدِ عَلَى أَنَّ الْفِدْيَةَ إِنَّمَا تَجِبُ فِي الْحَجِّ، إِمَّا بِإِتْلَافٍ أَوْ تَرْفِيهٍ، وَالنِّكَاحُ لَيْسَ بِثَابِتٍ، فَيَحْصُلُ فِيهِ إِتْلَافٌ أَوْ تَرْفِيهٌ.

فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ نِكَاحَ الْمُحْرِمِ لَا يَصِحُّ، فَسَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ مُحْرِمًا، أَوِ الزَّوْجَةُ، أَوِ الْوَلِيُّ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ فَاسِدٌ يُفْسَخُ بِطَلْقَةٍ. وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ حُكْمٌ يَخْتَصُّ بِالنِّكَاحِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَقَعَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، كَالظِّهَارِ وَاللِّعَانِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ صَحِيحًا، فَلَا مَعْنَى لِإِجْبَارِهِ عَلَى الطَّلَاقِ، أَوْ فَاسِدًا فَلَا مَعْنَى فِيهِ لِلطَّلَاقِ.
فَصْلٌ
: إِذَا وَكَّلَ الرَّجُلُ الْمُحْرِمُ حَلَالًا، فَزَوَّجَهُ فِي حَالِ إِحْرَامِهِ، كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ وَكِيلَهُ نَائِبٌ عَنْهُ، وَهُوَ لِأَجْلِ إِحْرَامِهِ لَا يَصِحُّ نِكَاحُهُ، فَكَذَلِكَ وَكِيلُهُ. وَكَذَا لَوْ وَكَّلَ الْحَلَالُ مُحْرِمًا، فَزَوَّجَهُ فِي حَالِ إِحْرَامِهِ، كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا، لِأَنَّهُ قَدْ أَقَامَ وَكِيلَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ. وَكَذَا لَوْ كَانَتِ الْوِكَالَةُ مِنْ جِهَةِ الْوَلِيِّ، وَكَانَ الْوَلِيُّ أَوْ وَكِيلُهُ محرماً، كان النكاح باطلاً.
فصل
: إذا كَانَ شَاهِدُ النِّكَاحِ مُحْرِمًا، كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ النِّكَاحُ غَيْرُ جَائِزٍ. " وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ وَلَا يَشْهَدُ ". قَالَ: وَلِأَنَّهُ شَرْطٌ فِي النِّكَاحِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا كَالْوَلِيِّ، وَهَذَا غَلَطٌ، أَمَّا الْخَبَرُ فَغَيْرُ ثَابِتٍ فِي الشُّهُودِ وَأَمَّا الْوَلِيُّ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّاهِدِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْوَلِيُّ يَتَعَيَّنُ فِي النِّكَاحِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا كَالزَّوْجِ وَالشَّاهِدُ لَا يَتَعَيَّنُ فِي النِّكَاحِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا كَالْخَاطِبِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَلِيَّ لَهُ فِعْلٌ فِي النِّكَاحِ كَالزَّوْجِ، وَالشَّاهِدُ لَا فِعْلَ لَهُ كَالْخَاطِبِ.
فَصْلٌ
: فَلَوْ وَكَّلَ الْمُحْرِمُ حَلَالًا فِي التَّزْوِيجِ، فَزَوَّجَهُ الْوَكِيلُ بَعْدَ إِحْلَالِهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ نَصًّا فِي الْأُمِّ: صَحَّ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ تَوَلَّى عَقْدَهُ وَكِيلٌ حَلَالٌ لِمُوَكِّلٍ حَلَالٍ. وَإِنَّمَا كَانَ الْمُوَكِّلُ مُحْرِمًا حَالَ الْإِذْنِ، وَالِاعْتِبَارُ بِحَالِ الْعَقْدِ لَا حَالِ الْإِذْنِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ إِذْنِ الْمُحْرِمِ فِي التَّزْوِيجِ، فَيُزَوَّجُ بَعْدَ إِحْلَالِهِ، فَيَجُوزُ، وَبَيْنَ إِذْنِ الصَّبِيِّ فِي التَّزْوِيجِ، فَيُزَوَّجُ بَعْدَ بُلُوغِهِ، فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْإِذْنِ، وَالْمُحْرِمُ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِذْنِ.
فَصْلٌ
: إِذَا كَانَ الْإِمَامُ أَوْ قَاضِي الْبَلَدِ مُحْرِمًا، فَهَلْ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ فِي حَالِ إِحْرَامِهِ بِوِلَايَتِهِ الْحُكْمَ، عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ لِأَصْحَابِنَا:
أَحَدُهَا: لَا يَجُوزُ كَالْوَالِي الْخَاصِّ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ ".
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يجوز لهما ذلك، كَمَا يَجُوزُ لَهُمَا بِوِلَايَةِ الْحُكْمِ تَزْوِيجُ الْكَافِرَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ الْخَاصِّ ذَلِكَ.

(4/126)


وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِمَامِ أَعَمُّ، وَجَمِيعَ الْقُضَاةِ خلفاؤه، وفي منعه عن ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إِلَى مَنْعِ سَائِرِ خُلَفَائِهِ.

فَصْلٌ
: إِذَا كَانَ الْمُحْرِمُ خَاطِبًا فِي النِّكَاحِ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُ ذَلِكَ، وَيُكْرَهُ لِلْمُحِلِّ أَنْ يَخْطُبَ مُحْرِمَةً لِيَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ إِحْلَالِهَا، كَمَا يُكْرَهُ لَهُ خِطْبَةُ الْمُعْتَدَّةِ لِتَزْوِيجِهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ خِطْبَةُ الْمُحْرِمَةِ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ خِطْبَةُ الْمُعْتَدَّةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ إِحْلَالَ الْمُحْرِمَةِ مِنْ فِعْلِهَا يُمْكِنُهَا تَعْجِيلُهُ، وَالْعِدَّةُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهَا، فَرُبَّمَا عَلَيْهَا شِدَّةُ الْمَيْلِ إِلَيْهِ عَلَى الْإِخْبَارِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ قَبْلَ الْأَجَلِ لتتعجل تَزْوِيجَهُ.
فَصْلٌ
: إِذَا تَزَوَّجَ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ ثُمَّ اخْتَلَفَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا عَقَدْنَا النِّكَاحَ، وَأَحَدُنَا مُحْرِمٌ، وَقَالَ الْآخَرُ عَقَدْنَاهُ وَنَحْنُ حَلَالَانِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنِ ادَّعَى عَقْدَهُ وَهُمَا حَلَالَانِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ ظَهَرَ صَحِيحًا، وَحُدُوثُ الْإِحْرَامِ مُجَوَّزٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي مُدَّعِي الْإِحْرَامِ، فَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ مُدَّعِيَةً، فَالنِّكَاحُ ثَابِتٌ وَهُمَا عَلَى الزوجية، وإن كان الزوج مدعيه، حَرُمَتْ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ النَّسْخَ، وَهُوَ مقربه، لَكِنَّ عَلَيْهِ الْمَهْرَ، إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَنِصْفُهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَجَمِيعُهُ.

مَسْأَلَةٌ
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا بَأْسَ أَنْ يُرَاجِعَ امْرَأَتَهُ إِذَا طَلَّقَهَا تطليقة، مَا لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا كَمَا قَالَ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُرَاجِعَ زَوْجَتَهُ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ اسْتِبَاحَةُ بُضْعٍ مَقْصُودٍ فِي عَيْنِهِ كَالنِّكَاحِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ لَيْسَتْ عَقْدًا ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا هِيَ اسْتِصْلَاحُ خَلَلٍ فِيهِ، وَرَفْعُ تَحْرِيمٍ طَرَأَ عَلَيْهِ، يَرْتَفِعُ بِالرَّجْعَةِ مَعَ حُصُولِ الْعَقْدِ، كَمَا أَنَّ الظِّهَارَ وَالْعَوْدَةَ، قَدْ أَوْقَعَا فِي الزَّوْجِيَّةِ تَحْرِيمًا يَرْفَعُهُ التَّكْفِيرُ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُحْرِمُ الْمُظَاهِرُ مَمْنُوعًا مِنَ التَّكْفِيرِ الَّذِي يَرْتَفِعُ بِهِ مَا طَرَأَ عَلَى الْعَقْدِ مِنَ التَّحْرِيمِ، فَأَمَّا النِّكَاحُ، فَمُفَارِقٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ عَقْدٍ مُفْتَقِرٍ إلى ولي، وشهود، ورضا، وبذل، وَقَبُولٍ وَالرَّجْعَةُ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذلك.

مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْمِنْطَقَةَ لِلنَّفَقَةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لُبْسُ الْمِنْطَقَةِ لِلْمُحْرِمِ جَائِزٌ احْتَاجَ إِلَى لُبْسِهَا، أَوْ لَمْ يَحْتَجْ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَدَّ فِي وَسَطِهِ حَبْلًا، أَوِ احْتَزَمَ بِعِمَامَةٍ. وقال مالك: لا يجوز ذلك إلا في حجة مَاسَّةٍ احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَأَى رَجُلًا مُحْتَزِمًا بِحَبْلٍ أَبْرَقَ فَقَالَ: انْزَعِ الْحَبْلَ مَرَّتَيْنِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِهِ: مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ

(4/127)


رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَهٍ كَانَ يَحْتَزِمُ لِإِحْرَامِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ الْمُحْرِمِ هَلْ يَشُدُّ الْهِمْيَانَ عَلَى وَسَطِهِ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ وَيَسْتَوْثِقُ مِنْ نَفَقَتِهِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ. وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّ مَا مُنِعَ الْمُحْرِمُ مِنْ لِبَاسِهِ، وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ فِيهِ، فَمَا لَمْ تَجِبِ الْفِدْيَةُ فِيهِ، لَمْ يَكُنْ مَمْنُوعًا مِنْهُ، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمُرْسَلٌ، وَإِنْ صَحَّ كان محمولاً على الاستحباب.

مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَسْتَظِلُّ الْمُحْرِمُ فِي الْمَحْمَلِ، وَنَازِلًا فِي الْأَرْضِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَسْتَظِلَّ سَائِرًا وَنَازِلًا، وَقَالَ مَالِكٌ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَسْتَظِلَّ نَازِلًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَظِلَّ سَائِرًا، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَأَى رَجُلًا يَطْلُبُ الْفَيَافِيَ وَالظِّلَّ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَضْحِ لِمَنْ أَحْرَمْتَ لَهُ أَيِ اخْرُجْ إِلَى الشَّمْسِ لِأَنَّ الضِّحَّ الشَّمْسُ، وِالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ أُمِّ الْحُصَيْنِ قَالَتْ: حَجَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَجَّةَ الْوَدَاعِ فَرَأَيْتُ أُسَامَةَ وَبِلَالًا أَحَدُهُمَا آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالْآخَرُ يَسْتُرُهُ مِنَ الْحَرِّ حَتَى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ من الْحُمْسِ مِنْ قُرَيْشٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يُشَدِّدُونَ فِي ذَلِكَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ، حَتَّى كَانُوا إِذَا أرَادُوا دخول دار أتوا الْجِدَارَ وَلَمْ يَدْخُلُوا الْبَابَ، وَيَرَوْنَ ذَلِكَ عِبَادَةً وَبِرًّا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَيْسَ البِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظهُورِهَا وَلَكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ أبْوَابِهَا} (البقرة: 189) فَكَانَتِ الْإِبَاحَةُ فِي ذَلِكَ عَامَّةً، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدِيمًا فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ وَفِيمَا يَلِيهِ مِنَ الْأَعْصَارِ لَمْ يَزَالُوا يُحْرِمُونَ وَهُمْ فِي الْعَمَّارِيَّاتِ وَالْقِبَابِ، لَا يَتَنَاكَرُونَ ذَلِكَ وَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِمْ، فَثَبَتَ أنه إجماع أهل الأعصار، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ أَنْ يَسْتَظِلَّ بِهِ الْمُحْرِمُ نَازِلًا جَازَ أَنْ يَسْتَظِلَّ بِهِ سَائِرًا كَالْيَدَيْنِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: " أَضْحِ لِمَنْ أَحْرَمْتَ لَهُ "، فَفِيهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَهَاهُ عَنْ تَغْطِيَةِ رَأْسِهِ، وَلَمْ يَنْهَهُ عَنِ الِاسْتِظْلَالِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ، لِمَا رُوِيَ أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ضُرِبَتْ لَهُ قُبَّةٌ بِبَطْنِ نمرةٍ فَدَخَلَهَا وَاسْتَظَلَّ، وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا وَافَى عَرَفَةَ أَقَامَ فِي لحف الجبل

(4/128)


قَدْ ظُلِّلَ عَلَى رَأْسِهِ بثوبٍ مِنَ الشَّمْسِ إِلَى أَنْ زَالَتِ الشَّمْسُ وَحَانَتِ الصَّلَاةُ، فَدَلَّ على نَهْيَهُ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ لَا عَلَى طَرِيقِ التَّحْرِيمِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ نَازِلًا.
قِيلَ: وَنَهْيُهُ إِنَّمَا كان لمحرم نازل.

فَصْلٌ
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا بَأْسَ لِلْمُحْرِمِ وَالْمُحْرِمَةِ أَنْ يَنْظُرَا فِي الْمِرْآةِ لِحَاجَةٍ وَغَيْرِ حَاجَةٍ، وحكي عن عطاء الخراساني أنه كره ذلك لِحَاجَةٍ وَغَيْرِ حَاجَةٍ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كره ذلك إلا لحاجة، والدلالة عليهما: مَا رُوِيَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان ينظر في المرآة وهو محرم " والله أعلم بالصواب.

(4/129)