الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

باب الإحرام والتلبية
مسألة
: قال الشافعي: " وَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ الْإِحْرَامَ اغْتَسَلَ لِإِحْرَامِهِ مِنْ مِيقَاتِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَرَادَ الْإِحْرَامَ لِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، أَنْ يَغْتَسِلَ مِنْ مِيقَاتِهِ، لِرِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اغْتَسَلَ لِإِهْلَالِهِ ". وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: " لَمَّا صِرْنَا بِذِي الْحُلَيْفَةِ نَفِسَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ بِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن تغتسل لِلْإِهْلَالِ ". وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الرَّجُلُ، وَالْمَرْأَةُ، وَالطَّاهِرُ وَالْحَائِضُ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ أَسْمَاءَ بِالْغُسْلِ وَهِيَ نُفَسَاءُ، وَلَيْسَ الْغُسْلُ فَرْضًا يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِحْبَابٌ وَاخْتِيَارٌ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَمَا تَرَكْتُ الْغُسْلَ لِلْإِهْلَالِ قَطُّ وَلَقَدْ كُنْتُ أَغْتَسِلُ لَهُ مَرِيضًا فِي السَّفَرِ، وَإِنِّي أَخَافُ ضَرَرَ الْمَاءِ وَمَا صَحِبْتُ أَحَدًا أَقْتَدِي بِهِ فَرَأَيْتُهُ تَرَكَهُ وَلَا رَأَيْتُ أَحَدًا عَدَا بِهِ أَنْ رَآهُ اخْتِيَارًا.
فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ اخْتَرْنَا لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ، فَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ تَرَكَ اخْتِيَارًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِعْلُهُ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْغُسْلُ مُسْتَحَبٌّ فِي الْحَجِّ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ، الْغُسْلُ لِلْإِحْرَامِ، وَالْغُسْلُ لِدُخُولِ مَكَّةَ، وَالْغُسْلُ لِوُقُوفِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، وَالْغُسْلِ لِلْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَالْغُسْلِ لِرَمْيِ الْجِمَارِ فِي أَيَّامِ مِنًى الثَّلَاثَةِ، وَلَا يَغْتَسِلُ لِرَمْيِ يَوْمِ النَّحْرِ؛ لِأَنَّهُ رَمَى أَيَّامَ مِنًى، لَا يَفْعَلُ إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ فِي وَقْتِ اشْتِدَادِ الْحَرِّ وَانْصِبَابِ الْعَرَقِ، فَكَانَ فِي الْغُسْلِ تَنْظِيفٌ لَهُ، وَجَمْرَةُ يَوْمِ النَّحْرِ، تُفْعَلْ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ، وَقَبْلَ الزَّوَالِ، فِي وَقْتٍ لَا يُتَأَذَّى بِحَرِّهِ، فَلَمْ يُؤْمَرْ بِالْغُسْلِ لَهُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَاسْتُحِبَّ الْغُسْلُ مِنْ هَذَا عِنْدَ تَغْيِيرِ الْبَدَنِ بِالْعَرَقِ وَغَيْرِهِ تَنْظِيفًا لِلْبَدَنِ، وَزَادَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ الْغُسْلَ لِزِيَارَةِ الْبَيْتِ وحلق الشعر ولكواف الصدر، فجعل الغسل مستحباً على القديم على عَشَرَةِ مَوَاضِعَ.

فَصْلٌ
: وَيُخْتَارُ لِمَنْ أَرَادَ الْإِحْرَامَ أَنْ يَتَأَهَّبَ لِحَلْقِ شَعْرِهِ، وَتَنْظِيفِ جَسَدِهِ، لِرِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَأَهَّبُوا لِلْإِحْرَامِ بِحَلْقِ الْعَانَةِ وَنَتْفِ الإبط،

(4/77)


وقص الشارب، والأظافر، وغسل رؤوسهم. وَرَوَتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ غَسَلَ رَأْسَهُ بأشنانٍ وخطمى ".

مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَتَجَرَّدَ وَلَبِسَ إِزَارًا وَرِدَاءً أَبْيَضَيْنِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا صَحِيحٌ، إِذَا اغْتَسَلَ لِإِحْرَامِهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَجَنَّبَ لِبَاسَ مَا أَلِفَهُ مِنَ الثِّيَابِ الْمَخِيطَةِ، لِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا نَادَى فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَا الَّذِي يَتَجَنَّبُهُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ فَقَالَ: " لَا يَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ، وَلَا الْقَمِيصَ وَلَا الْبُرْنُسَ، وَلَا الْعِمَامَةَ وَلَا الْخُفَّيْنِ وَلَا ثَوْبًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ أَوْ ورسٌ ". فَإِذَا نَزَعَ ثِيَابَهُ الْمَعْهُودَةَ، واغتسل لبس إِزَارًا وَرِدَاءً، وَنَعْلَيْنِ، لِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لِيُحْرِمْ أَحَدُكُمْ فِي إزارٍ ورداءٍ وَنَعْلَيْنِ " وَيُخْتَارُ أَنْ يَكُونَا جَدِيدَيْنِ اقْتِدَاءً بِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَنْ يَكُونَا أَبْيَضَيْنِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خَيْرُ ثِيَابِكُمُ الْبِيضُ، فَلْيَلْبَسُهَا أَحْيَاؤُكُمْ، وَلْيُكَفَّنْ فِيهَا مَوْتَاكُمْ "، فَإِنْ عَدَلَ عَنِ الْبَيَاضِ إِلَى الْمَصْبُوغِ، فما صبغ عزلاً قَبْلَ نَسْجِهِ، كَعُصُبِ الْيَمَنِ وَالْأَبْرَادِ وَالْحِبَرَةِ، لِأَنَّهُ بِالرِّجَالِ أَشْبَهُ، فَإِنْ لَبِسَ مَا صُبِغَ بَعْدَ نَسْجِهِ، كَانَ عَادِلًا عَنِ الِاخْتِيَارِ وَأَجْزَأَهُ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَحْرَمَ فِي ثَوْبٍ مُعَصْفَرٍ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ أَحْرَمَ فِي ثَوْبَيْنِ مُضَرَّجَيْنِ وَأَنَّ عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَحْرَمَ فِي رِدَائَيْنِ فَإِنْ أَحْرَمَ جُنُبًا وَلَبِسَ ثَوْبًا نَجِسًا كَانَ بِذَلِكَ مُسِيئًا، وَكَانَ إِحْرَامُهُ مُنْعَقِدًا؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى طَهَارَةٍ مِنْ حَدَثٍ أو نجس.

مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَتَطَيَّبُ لِإِحْرَامِهِ إِنْ أَحَبَّ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، أَنْ يَتَطَيَّبَ لِإِحْرَامِهِ بِمَا لَا يَبْقَى أَثَرُهُ، كَالْبَخُورِ وَمَاءِ الْوَرْدِ فَجَائِزٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْجَمَاعَةِ، فَأَمَّا أَنْ يَتَطَيَّبَ لِإِحْرَامِهِ بِمَا يَبْقَى أَثَرُهُ بَعْدَ إِحْرَامِهِ، كَالْمِسْكِ وَالْغَالِيَةِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ جَائِزٌ وَلَيْسَ محرم وَلَا مَكْرُوهٌ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَائِشَةُ، وَمِنَ التَّابِعِينَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أبو حنيفة وأبو يوسف.

(4/78)


وقال مال: يُمْنَعُ مِنَ الطِّيبِ، فَإِنْ تَطَيَّبَ أُمِرَ بِغَسْلِهِ، فَإِنْ لَمْ يَغْسِلْهُ حَتَّى أَحْرَمَ وَالطِّيبُ عَلَيْهِ لَمْ يُقْبَلْ وَبِتَحْرِيمِهِ فِي الصَّحَابَةِ قَالَ عَمْرُ وابْنُ عُمَرَ، وَفِي التَّابِعِينَ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٌ، وَفِي الْفُقَهَاءِ محمد بن الحسن، اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمُحْرِمِ فَقَالَ: " أَشْعَثُ أَغْبَرُ " فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ صِفَةُ الْمُحْرِمِ وَجَبَ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ الطِّيبِ؛ لِأَنَّهُ يُزِيلُ هَذِهِ الصِّفَةَ؛ وَرُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحْرَمْتُ وَعَلَيَّ جُبَّةٌ مُضَمَّخَةٌ بِالْخَلُوقِ، فَقَالَ: انْزَعِ الْجُبَّةَ، وَاغْسِلِ الصُّفْرَةَ ". فَكَانَ أَمْرُهُ بِغَسْلِهِ دَلِيلًا عَلَى تَحْرِيمِ اسْتَدَامَتْهُ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى مُعَاوِيَةَ مُحْرِمًا، وَعَلَيْهِ طِيبٌ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: مَنْ طَيَّبَكَ، فَقَالَ: أَمُّ حَبِيبَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَتَرْجِعَنَّ إِلَيْهَا لِتَغْسِلَهُ عَنْكَ كَمَا طَيَّبَتْكَ. وَرَوَى بِشْرُ بْنُ يَسَارٍ قَالَ: لَمَّا أحرمنا، وجد عمر ريح طيب، فَقَالَ: مِمَّنْ هَذَا الرِّيحُ؟ فَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: مِنِّي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ امْرَأَتَكَ عَطَّرَتْكَ أَوْ عَطَّارَةٌ، إِنَّمَا الْحَاجُّ الْأَذْفَرُ الْأَغْبَرُ، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يَتْرَفَّهُ بِهِ الْمُحْرِمُ، فَوَجَبَ إِذَا مَنَعَ الْإِحْرَامُ مِنَ ابْتِدَائِهِ، أَنْ يَمْنَعَ مِنَ اسْتِدَامَتِهِ، كَاللِّبَاسِ وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ إِنَّمَا يُمْنَعُ مِنَ الطِّيبِ؛ لِأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجِمَاعِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي اسْتِدَامَتِهِ كَوُجُودِهِ فِي ابْتِدَائِهِ، وِالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ، رِوَايَةُ القاسم بن محمد عن عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَلِحَلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَرَوَى عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِيَدَيَّ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ لِلْحِلِّ وَالْإِحْرَامِ.
وَرَوَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: كُنَّا إِذَا سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إلى مكة يضمخ جباهنا بالمسك، فكنا إذا عرقنا سال عَلَى وُجُوهِنَا، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَنْظُرُ إِلَيْنَا وَنَحْنُ مُحْرِمَاتٌ، فَلَا يَنْهَانَا.
وَرَوَى الْأَسْوَدُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: رَأَيْتُ وَبِيصَ الطِّيبِ فِي مَفَارِقَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد ثلاث من إحرامه ولأنه معنى يراد للبقاء والاستدامة، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ الْإِحْرَامُ مَنَ اسْتَدَامَتْهُ كالنكاح.

(4/79)


فَأَمَّا الْجَوَابُ عَلَى قَوْلِهِ: " الْمُحْرِمُ أَشْعَثُ أَغْبَرُ " فَهُوَ أَنَّ تَطَيُّبَهُ قَبْلَ إِحْرَامِهِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ عَلَى أَنَّ الشَّعَثَ إِنَّمَا يَزُولُ بِالْغُسْلِ وَالتَّنْظِيفِ. وَالْمُحْرِمُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْمُؤْمِنُ نَظِيفٌ ".
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ، فالأمر إنما كان ينزع اللِّبَاسِ وَغَسْلَ أَثَرِ التَّزَعْفُرِ عَنْهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُبَاحٌ. لِرِوَايَةِ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، نَهَى الرِّجَالَ عَنِ التَّزَعْفُرِ ". وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ التَّطَيُّبِ، أَلَا تَرَاهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِغَسْلِ الطِّيبِ عَنْ جَسَدِهِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ وَإِنْكَارُهُ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَالْبَرَاءِ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ النَّدْبِ، أَلَا تَرَاهُ قَالَ حِينَ رَاجَعَهُ مُعَاوِيَةُ قَالَ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ يَجُوزُ وَإِنَّمَا أَنْتُمْ صَحَابَةٌ وَقُدْوَةٌ، فَخَشِيتُ أَنْ يَرَاكُمُ الْجَاهِلُ فَيَقْتَدِيَ بِكُمْ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ طِيبَكُمْ قَبْلَ الْإِحْرَامِ أَوْ بَعْدَهُ عَلَى أَنَّ عُمَرَ صَحَابِيٌّ، وَقَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ. حَتَّى رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَإِنَّ عَلَى رَأْسِهِ، مِثْلَ الرُّبِّ مِنَ الْغَالِيَةِ؛ فَلَمْ يَكُنْ إِنْكَارُ عُمَرَ مَعَ خِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ حُجَّةً.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى اللِّبَاسِ؛ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ عَلَى وَجْهِ الْإِتْلَافِ، وَإِنَّمَا يُلْبَسُ لِيُنْزَعَ، فَكَانَتِ الِاسْتِدَامَةُ فِيهِ كَالِابْتِدَاءِ. وَالطِّيبُ يُسْتَعْمَلُ لِلْإِتْلَافِ فَلَمْ تَكُنِ الِاسْتِدَامَةُ كَالِابْتِدَاءِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجِمَاعِ، فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ الْإِحْرَامُ مَنَ اسْتِدَامَتِهِ. فَبَاطِلٌ بِالنِّكَاحِ، لِأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجِمَاعِ، وَلَا يَمْنَعُ الْإِحْرَامُ مِنَ اسْتِدَامَتِهُ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، اقْتِدَاءً بِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَالثَّانِي: وَهُوَ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ مُبَاحٌ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ.

مَسْأَلَةٌ
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَرْكَبُ فَإِذَا تَوَجَّهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ لَبَّى ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ يستحب أن يحرم الرجل عقيب صلاة، فإنه كان وقت صلاة مفروضة، صلى (الفرض وإن لم يكن وَقْتُ صَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ، صَلَّى) رَكْعَتَيْنِ. لِرِوَايَةِ جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ " النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَتَى ذَا الْحُلَيْفَةِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ ببطحائها ثم ركب ".

(4/80)


فَصْلٌ
: فَأَمَّا وَقْتُ الْإِهْلَالِ بِالتَّلْبِيَةِ فِي الِاخْتِيَارِ، فَهُوَ أَنْ تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ، إِنْ كَانَ رَاكِبًا، أَوْ يَتَوَجَّهُ فِي السَّيْرِ إِنْ كَانَ مَاشِيًا.
وَقَالَ أبو حنيفة يُمْهَلُ إِذَا صَلَّى وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ إِنِّي لِأَعْجَبِ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي إِهْلَالِهِ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّهُ أَهَّلَ فِي مَحَلَّتِهِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّهُ أَهَلَّ حِينَ انْبَعَثَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: أَهَّلَ حِينَ أَشْرَفَ عَلَى الْبَيْدَاءِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِهَذَا آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَوْجَبَ فِي محلته، فلما انبعثت به راحلته أهل، فلما أشرف على البيداء أَهَلَّ. وَكَانَ النَّاسُ يَأْتُونَهُ أَرْسَالًا، فَأَدْرَكَهُ قَوْمٌ فَقَالُوا: أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مَحَلَّتِهِ أَهَلَّ حِينَ انْبَعَثَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، أَهَلَّ حِينَ أَشْرَفَ عَلَى الْبَيْدَاءِ ". وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، أَوْلَى، وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْجَدِيدِ، وَالْإِمْلَاءُ رِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُهِلُّ إِلَّا حِينَ تَنْبَعِثُ بِهِ رَاحِلَتُهُ. فَنَفَى وَأَثْبَتَ، وَالنَّفْيُ مَعَ الْإِثْبَاتِ لَا الْإِثْبَاتُ الْمُجَرَّدُ، بَلْ هُوَ أَوْكَدُ، وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ دَوَامِ فعله وروى سعد بن أبي وقاص قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إذا أخذ في طريق الفرع أهل حين تنبعث به راحلته و ... في طريق إحرامه حين أشرف على البيداء. وهو إخبار عن فِعْلِهِ. وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِذَا تَوَجَّهْتُمْ إِلَى مِنًى، فَأَهِلُّوا بِالْحَجِّ ". فَدَلَّ مَا رَوَيْنَا مِنْ فِعْلِهِ وَقَوْلِهِ، عَلَى أَنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَوْلَى. وَلَمْ يَكُنْ خَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ مُعَارِضًا لِهَذِهِ الْأَخْبَارِ، لِأَنَّهَا أَكْثَرُ رُوَاةً، وَلِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى قَوْلٍ وَفِعْلٍ. وَابْنُ عَبَّاسٍ نَقَلَ فِعْلًا مُجَرَّدًا وَلِأَنَّهُمَا أخبار عن دوام فعل وَابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ فِعْلٍ مَرَّةً، عَلَى أَنَّ خَبَرَ ابْنِ عَبَّاسٍ يُحْمَلُ عَلَى الْجَوَازِ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْفِعْلِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَأَخْبَارُنَا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ وَدَوَامَ الْفِعْلِ يَدُلُّ عَلَيْهِ.

مَسْأَلَةٌ
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَكْفِيهِ أَنْ يَنْوِيَ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً عِنْدَ دخوله فيه وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمر بالغسل وتطيب لإحرامه وتطيب ابن عباس وسعد بن أبي وقاص ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: الْإِحْرَامُ يَنْعَقِدُ لِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَنْعَقِدُ الْإِحْرَامُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ حَتَّى يُضَمَّ إِلَيْهِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ، إِمَّا التَّلْبِيَةُ، أَوْ سَوْقُ الْهَدْيِ. فَإِنْ سَاقَ الْهَدْيَ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ، وَإِنْ لَمْ يُلَبِّ وَلَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ لَمْ يَنْعَقِدْ إِحْرَامُهُ، إِلَّا أَنْ يُلَبِّيَ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيُهِلَّ ". وَهَذَا أَمْرٌ وبرواية

(4/81)


جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهُمْ: " إِذَا تَوَجَّهْتُمْ إِلَى مِنًى فَأَهِلُّوا ". وَحَقِيقَةُ الْإِهْلَالِ، إِظْهَارُ الْحَالَةِ بِالتَّلْبِيَةِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَتَعَلَّقُ بِإِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ، فَوَجَبَ أَلَّا يَصِحَّ الدُّخُولُ فِيهَا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، كَالصَّلَاةِ، لَا يُدْخَلُ فِيهَا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ حَتَّى يُضَمَّ إِلَيْهَا دُخُولُ الْوَقْتِ، ولأنها عِبَادَةٌ شُرِعَ فِي انْتِهَائِهَا ذِكْرٌ، فَاقْتَضَى أَنْ يَجِبَ فِي ابْتِدَائِهَا ذِكْرٌ كَالصَّلَاةِ.
وَالدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ، وَرِوَايَةُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: " خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَنْوِي إِلَّا الْحَجَّ فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ قَالَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً ". فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَحْرَمُوا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ دُونَ التَّلْبِيَةِ، وَمَعْلُومٌ بِرِوَايَةِ جَابِرٍ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ إِلَّا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ. فَثَبُتَ أَنَّ الْإِحْرَامَ يَنْعَقِدُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يُضَمَّ إِلَيْهِ سَوْقُ الْهَدْيِ، وَلَا التَّلْبِيَةُ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَرْبُوعٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ - يَعْنِي فِي الْحَجِّ - فَقَالَ: " الْعَجُّ وَالثَّجُّ ". فَالْعَجُّ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، وَالثَّجُّ إِرَاقَةُ دَمِ الْهَدْيِ. فَأَخْرَجَهُمَا مَخْرَجَ الْفَضْلِ، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ، وَمِنْ حُكْمِ الْإِرَاقَةِ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَلِأَنَّ انْعِقَادَ الْإِحْرَامِ لَا يَقِفُ عَلَيْهَا فَكَذَلِكَ التَّلْبِيَةُ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَصِحُّ الْخُرُوجُ مِنْهَا بِغَيْرِ ذِكْرٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ الدُّخُولُ فِيهَا بِغَيْرِ ذِكْرٍ كَالصَّوْمِ، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، فَوَجَبَ أَلَّا يَكُونَ الذِّكْرُ فِيهِ شَرْطًا، كَالْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرَيْنِ، فَهُوَ أَنَّ الْإِهْلَالَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِحْرَامِ لَا عَنِ التَّلْبِيَةِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِهْلَالٌ كَإِهْلَالِ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَيْ إِحْرَامٌ كَإِحْرَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّوْمِ، فَمُوجِبُهُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِيهِ بِالنِّيَّةِ وَالْوَقْتِ، وَكَذَا يَقُولُ فِي الْإِحْرَامِ: إِنَّهُ يَكُونُ دَاخِلًا فِيهِ بِالنِّيَّةِ وَالْوَقْتِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ فَالْمَعْنَى فِيهِ، أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِحُّ خُرُوجُهُ مِنْهَا إِلَّا بِذِكْرٍ وَاجِبٍ، لَمْ يَصِحَّ دُخُولُهُ فِيهَا إِلَّا بِذِكْرٍ وَاجِبٍ، وَلَمَّا لَمْ يَفْتَقِرْ خُرُوجُهُ مِنَ الْحَجِّ إِلَى ذِكْرٍ وَاجِبٍ لَمْ يَفْتَقِرْ دُخُولُهُ فِيهِ إِلَى ذِكْرٍ وَاجِبٍ.

فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِحْرَامَ يَنْعَقِدُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ إِحْرَامِهِ: اللَّهُمَّ أَحْرَمَ لَكَ شَعْرِي وَبَشَرِي وَعَظْمِي وَدَمِيَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ السَّلَفِ رَحِمَهُمُ الله.

(4/82)


مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ لَبَّى بِحَجٍّ وَهُوَ يُرِيدُ عُمْرَةً، فَهِيَ عمرةٌ، وَإِنَ لَبَّى بعمرةٍ وَهُوَ يُرِيدُ حَجًّا فَهُوَ حَجٌّ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الْمُعَوَّلَ فِي إِحْرَامِهِ عَلَى نِيَّتِهِ دُونَ تَلْبِيَتِهِ فَإِذَا نَوَى حَجًّا وَلَبَّى بِعُمْرَةٍ كَانَ حَجًّا، وَلَوْ نَوَى عُمْرَةً وَلَبَّى بِحَجٍّ كَانَتْ عُمْرَةً، وَلَوْ نَوَى أَحَدَهُمَا، وَلَبَّى بِهِمَا انْعَقَدَ مَا نَوَى، وَهُوَ قَوْلُ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ، إِلَّا دَاوُدَ فَإِنَّهُ شَذَّ بِمَذْهَبِهِ، وَقَالَ: الْمُعَوَّلُ عَلَى لَفْظِهِ دُونَ نِيَّتِهِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ". فَلِأَنَّ الْمُعَوَّلَ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى النِّيَّةِ دُونَ اللَّفْظِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَلَفَّظَ وَلَمْ يَنْوِ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا، وَلَوْ نَوَى وَلَمْ يتلفظ كان محرماً، فوجب، إذا اختلفت بنيته ولفظه أن يحكم بنيته دون لفظ.

مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ لِمْ يُرِدْ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً فَلَيْسَ بِشَيْءٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. لِأَنَّ الْإِحْرَامَ يَنْعَقِدُ بِالنِّيَّةِ فَإِذَا لَمْ يَنْوِ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً وَلَا إِحْرَامًا لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا لِفَقْدِ ما انعقد به الإحرام وهو النية، وحتى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ التَّلْبِيَةَ لِلْإِحْلَالِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ شَعَائِرِ الْإِحْرَامِ، كَرَمْيِ الْجِمَارِ، وَلَمْ يَكْرَهِ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ، لِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى حَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَضِقْ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يَقُولَهُ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَقِيَ رُكْبَانًا لِسَالِحِينَ مُحْرِمِينَ فَلَبَّوْا فَلَبَّى ابْنُ مَسْعُودٍ وهو داخل الكوفة.

مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ لَبَّى يُرِيدُ الْإِحْرَامَ وَلَمْ يَنْوِ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً فَلَهُ الْخَيَارُ أَيُّهُمَا شَاءَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِلْإِحْرَامِ حَالَانِ، حَالُ تَقْيِيدٍ وَحَالُ إِطْلَاقٍ.
فَأَمَّا الْمُقَيَّدُ فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ الْإِحْرَامَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ بِهِمَا جَمِيعًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْصَرِفَ عَمَّا أَحْرَمَ بِهِ، وَلَا أَنْ يُبَدِّلَ نُسُكًا بِغَيْرِهِ.
وَأَمَّا الْمُطْلَقُ فهو أن ينوي إحراماً موقوفاً لا يقيده بِحَجٍّ وَلَا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ يَصْرِفُهُ فِيمَا بَعْدُ فِيمَا شَاءَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، فَهَذَا جَائِزٌ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَجَ وَأَصْحَابُهُ مُهِلِّينَ يَنْتَظِرُونَ الْقَضَاءَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَأَمَرَ مَنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ أَنْ يَجْعَلْ إِحْرَامَهُ عُمْرَةً، وَمَنْ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يَجْعَلَهُ حَجًّا، وَلَبَّى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَبُو موسى الأشعري رضي الله عنهما باليمين وَقَالَا عِنْدَ تَلْبِيَتِهِمَا: إِهْلَالٌ كَإِهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَمَرَهُمَا بِالْمُقَامِ عَلَى إِحْرَامِهِمَا وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَدِمَ عَلِيٌّ من سقايته فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَ أَهْلَلْتَ يَا عَلِيُّ؟ قَالَ: بِمَا أَهَلَّ به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال:

(4/83)


فَاهْدِ وَامْكُثْ حَرَامًا كَمَا أَنْتَ قَالَ: فَأَهْدَى لَهُ عَلِيٌّ هَدْيًا، فَدَلَّ هَذَا عَلَى جَوَازِ الْإِحْرَامِ الْمَوْقُوفِ، وَلِأَنَّ مَنْ أَحْرَمَ عَنْ غَيْرِهِ ولم يكن قد حرم عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ إِحْرَامَهُ يَصِيرُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَوْ أَحْرَمَ تَطَوُّعًا، أَوْ نَذْرًا، وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، كَانَتْ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِحْرَامَ يَنْعَقِدُ بِاعْتِقَادِهِ، وَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِنُسُكٍ، لِأَنَّهُ قَدْ يَنْوِي مَا لَا يَحْصُلُ لَهُ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ خَالَفَ الصَّلَاةَ.

فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْإِحْرَامِ الْمَوْقُوفِ، فَهُوَ جَائِزٌ فِي شُهُورِ الْحَجِّ فِي الزَّمَانِ الَّذِي يَكُونُ مُخَيَّرًا فِيهِ مِنْ نُسُكَيِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، لِيَصْرِفَ إِحْرَامَهُ الْمَوْقُوفَ إِلَى مَا يَشَاءُ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، فَأَمَّا فِي غَيْرِ شُهُورِ الْحَجِّ فَلَا يَصِحُّ الْإِحْرَامُ الْمَوْقُوفُ، لِأَنَّهُ زَمَانٌ لَا يَصْلُحُ لِغَيْرِ الْعُمْرَةِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْإِحْرَامُ مَوْقُوفًا عَلَى غَيْرِ الْعُمْرَةِ، وَيَصِيرُ الْإِحْرَامُ الْمَوْقُوفُ مُنْعَقِدًا بِالْعُمْرَةِ، وَإِذَا صَحَّ الْإِحْرَامُ الْمَوْقُوفُ فِي شَهْرِ الْحَجِّ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، هَلِ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ إِحْرَامُهُ مَوْقُوفًا، لِيَصْرِفَهُ فِيمَا بَعْدُ إِلَى مَا شَاءَ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ؟ أَوْ يَكُونُ مُعَيَّنًا بِنُسُكٍ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ؟ عَلَى مَذْهَبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَوْقُوفَ أَوْلَى، لِأَنَّهُ فِعْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَصْحَابِهِ، وَلِأَنَّهُ أَحْرَى أَنْ يَقْدِرَ عَلَى صَرْفِهِ إِلَى مَا يَخَافُ فَوْتَهُ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْوَقْتُ وَاسِعًا، أَمْكَنَهُ تَقْدِيمُ الْعُمْرَةِ وَإِدْرَاكُ الْحَجِّ وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا قدم الحج، لأن لا يَفُوتَهُ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ.
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِحْرَامَ الْمُعَيَّنَ أَوْلَى، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ، لِرِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالمدينة لسبع سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَانْطَلَقْنَا لَا نَعْرِفُ إِلَّا الْحَجَّ لَهُ خَرَجْنَا ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ أَظْهُرِنَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَهُوَ يَفْعَلُ مَا أُمِرَ بِهِ، فَقَدِمْنَا مَكَّةَ، فَلَمَّا طَافَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْبَيْتِ، وَالصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ قَالَ: " مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً، فَلَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً ". فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِحْرَامَهُمْ كَانَ مَعْنِيًّا بِالْحَجِّ، وَلِأَنَّهُ إِذَا عَيَّنَهُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ كَانَ مَاضِيًا فِي نُسُكِهِ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ كان منظراً لَهُ، وَالدَّاخِلُ فِي نُسُكِهِ أَوْلَى مِنَ الْمُنْتَظِرِ لَهُ، فَلَوْ نَوَى إِحْرَامًا مَوْقُوفًا لَزِمَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إِلَى حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، فَلَوْ طَافَ وَسَعَى قَبْلَ أَنْ يَصْرِفَهُ إِلَى حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، لَمْ يُجْزِهِ عَنْ حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِي أَحَدِهِمَا.
فَصْلٌ
: فَإِذَا أَحْرَمَ إِحْرَامًا مُعَيَّنًا لِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، أَوْ أَحْرَمَ مَوْقُوفًا، ثُمَّ صَرَفَهُ إِلَى حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، فَهَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ إِظْهَارُ مَا أحرم فِي تَلْبِيَتِهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَوْلَى إِظْهَارُهُ فِي تَلْبِيَتِهِ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ بِحَجٍّ، إِنْ كَانَ مُفْرِدًا، أَوْ بِعُمْرَةٍ إِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا، أَوْ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ إِنْ كَانَ قَارِنَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

(4/84)


أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَتَانِي آتٍ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ، فَقَالَ: قُلْ لَبَّيْكَ بِحَجٍّ وبعمرةٍ " وَرَوَى ابْنُ سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " لَبَّيْكَ حَجًّا حَقًّا تَعَبُّدًا وَرِقًّا ".
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْأَوْلَى الْإِمْسَاكُ عَنْ ذِكْرِهِ، لِرِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " مَا سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي تَلْبِيَتِهِ قَطُّ لَا حَجًّا وَلَا عُمْرَةً ". وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ أَيُسَمِّي أَحَدُنَا حَجًّا أَوْ عُمْرَةً؟ فَقَالَ: أتنبؤن إِلَيْهِ بِمَا فِي قُلُوبِكُمْ إِنَّمَا هِيَ نِيَّةُ أحدكم ".

مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنَّ لَبَّى بِأَحَدِهِمَا فَنَسِيَهُ، فَهُوَ قَارِنٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا أَحْرَمَ بِأَحَدِ نسكين، ثم نسيه فلم يدر أبعمرة كَانَ إِحْرَامُهُ أَمْ بِحَجٍّ؟ فَالصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِهِ وَالْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِهِ، وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ أَنَّهُ يَكُونُ قَارِنًا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي. وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ فِي بَابِ وجه الإهلال ومن لبى يَنْوِي شَيْئًا، فَنَسِيَ مَا نَوَى، فَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَقْرِنَ؛ لِأَنَّ الْقِرَانَ بَاقٍ عَلَى مَا نَوَى، وَإِنْ تَحَرَّى رَجَوْتُ أَنْ يُجَزِّئَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَاسْتَحَبَّ لَهُ أَنْ يَقْرِنَ، وَجَوَّزَ لَهُ أَنْ يَتَحَرَّى فَخَرَّجَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: يَجُوزُ أَنْ يَتَحَرَّى فِيهِمَا وَيَجْتَهِدَ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَتَحَرَّى فِي الْإِنَائَيْنِ، وَيَجْتَهِدَ فِي الْقِبْلَةِ عِنْدَ اشْتِبَاهِ الْجِهَتَيْنِ، وَفِي الصَّوْمِ عِنْدَ اشْتِبَاهِ الزَّمَانَيْنِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَارِنًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَحَرَّى؛ لِأَنَّ التَّحَرِّيَ إِنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَ اشْتِبَاهِ مَا لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ، كَالْإِنَائَيْنِ وَالْجِهَتَيْنِ، فَأَمَّا عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ فِي فِعْلِهِ فَالتَّحَرِّي غَيْرُ جَائِزٍ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى الْعِلْمِ وَيَبْنِي فيه على اليقين كما لو اشتبه عليه أداء صلاة وأعداد ركعات عمل فِيهِ عَلَى الْيَقِينِ، وَلَمْ يَجُزِ الِاجْتِهَادُ، فَكَذَا الْإِحْرَامُ، لَمَّا كَانَ مِنْ فِعْلِهِ وَجَبَ أَنْ يعمل فيه على اليقين، فينوي القرن وَلَا يُسَوَّغُ لَهُ الِاجْتِهَادُ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ وَالتَّحَرِّيَ إِنَّمَا يَجُوزُ فِيمَا عَلَيْهِ، دَلَالَةٌ تَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ، كَجِهَاتِ الْقِبْلَةِ وَالْأَوَانِي؛ لِأَنَّ عَلَى الْقِبْلَةِ دَلَائِلَ، وَعَلَى تَنْجِيسِ الْأَوَانِي دَلَائِلَ يُمْكِنُ الرُّجُوعُ إِلَيْهَا، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا، فَجَازَ الِاجْتِهَادُ فِيهَا، وَلَيْسَ عَلَى النُّسُكِ الَّذِي أَحْرَمَ بِهِ دَلَالَةٌ، يُعْمَلُ عَلَيْهَا، وَلَا أَمَارَةَ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الِاجْتِهَادُ، وَلَزِمَهُ الْأَخْذُ بِالْيَقِينِ، وَأَمَّا إِذَا شَكَّ، هَلْ كَانَ قَارِنًا أَوْ مُفْرِدًا أَوْ مُعْتَمِرًا؟ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، فَعَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ: يَكُونُ قَارِنًا وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي، قَوْلًا وَاحِدًا، وَعَلَى قَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ، يَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا مَضَى، وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ مُحْتَمَلٌ.

(4/85)


فَصْلٌ
: وَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، فَإِذَا قُلْنَا بِجَوَازِ التَّحَرِّي، عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ يَتَحَرَّى فِي إِحْرَامِهِ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ، أَنَّهَ كان يحج مضى فيه وأجزأه وإن غلب على ظنه إن كَانَ بِعُمْرَةٍ مَضَى فِيهَا وَأَجْزَأَتْهُ، وَإِنِ اسْتَوَى الْأَمْرَانِ عِنْدَهُ وَلَمْ يَغْلِبْ أَحَدُهُمَا، اعْتَقَدَ الْقِرَانَ حِينَئِذٍ.
وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ التَّحَرِّيَ لَا يَجُوزُ، عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ الْقِرَانَ، وَيَنْوِيَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ؛ لِأَنَّ إِحْرَامَهُ قَدْ كَانَ بِأَحَدِهِمَا، فَلَا يَصِيرُ قَارِنًا إِلَّا أَنْ يَنْوِيَهُمَا، فَإِنْ نَوَى الْقِرَانَ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى الأجزاء، فَنَقُولُ: أَمَّا الْحَجُّ، فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ وَيَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُهُ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ إِحْرَامُهُ بِحَجٍّ، فَقَدْ أَدَّاهُ، وَلَا يَضُرُّهُ إِدْخَالُ الْعُمْرَةِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ بِعُمْرَةٍ فَقَدْ أَدْخَلَ عَلَيْهَا حَجًّا وَإِدْخَالُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ جَائِزٌ، فَلِذَلِكَ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ كان قارناً فهو أحد نسكيه، فأما العمرة فإجزائها يَتَرَتَّبُ، عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ إِدْخَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ يَجُوزُ إدخالها عَلَى الْحَجِّ، فَعَلَى هَذَا تُجْزِئُهُ الْعُمْرَةُ وَالْقَوْلُ الثَّانِي لَا يَجُوزُ إِدْخَالُهَا عَلَى الْحَجِّ فَعَلَى هذا هل تجزئه الْعُمْرَةُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا تُجْزِئُهُ، لِأَنَّهَا قَدْ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدْخَلَ عَلَيْهَا حَجًّا فَيُجْزِئُ، أَوْ أَدْخَلَهَا على الحج فلا تجزئ.
والوجه الثاني: تجزئه، لِأَنَّ إِدْخَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ، لَا يَجُوزُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِزَوَالِ الْإِشْكَالِ وَارْتِفَاعِ الضَّرُورَةِ، فَأَمَّا مَعَ حُدُوثِ الْإِشْكَالِ وَحُصُولِ الضَّرُورَةِ فَجَائِزٌ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا وُجُوبُ الدَّمِ عَلَيْهِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مَعًا يُجْزِئَانِهِ عَنْ فَرْضِهِ، فَعَلَيْهِ دَمٌ لِقِرَانِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْحَجَّ يُجْزِئُ وَإِنَّ الْعُمْرَةَ لَا تُجْزِئُ، فَفِي وُجُوبِ الدَّمِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا دَمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ إِذَا لَمْ تُجْزِهِ فَالْقِرَانُ لَا يُحْكَمُ بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ دَمٌ لِأَجْلِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ، عَلَيْهِ دَمٌ، لِأَنَّنَا لَمْ نُسْقِطْ فَرْضَ الْعُمْرَةِ عَنْ ذِمَّتِهِ احْتِيَاطًا لِلْفَرْضِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ فَرْضُهَا قد يسقط، فَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَلْزَمَ الدَّمُ احْتِيَاطًا وَإِنْ جاز أن يكون لم يجب، فكذا حُكْمُ شَكِّهِ إِذَا كَانَ قَبْلَ إِحْرَامِهِ وَقَبْلَ الْأَخْذِ فِي نُسُكِهِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ الشَّكُّ بَعْدَ وُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَمْضِيَ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ، فَيَطُوفَ وَيَسْعَى، وَيَحْلِقَ، ويرمي، وقد حل من إحرامه بيقين لا تبيانه بِأَفْعَالِ النُّسُكَيْنِ، كَمَالًا، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ حَاجًّا، فَقَدْ أَدْخَلَ الْعُمْرَةَ

(4/86)


عَلَيْهَا بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، فَلَمْ تُجْزِهِ الْعُمْرَةُ وَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا فَقَدْ أَدْخَلَ الْحَجَّ بَعْدَ فَوَاتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَلَمْ يُجْزِهِ الْحَجُّ، وَكَذَا لَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ الشَّكُّ بَعْدَ طَوَافِهِ وَسَعْيِهِ، أَتَى مَا بَقِيَ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَلَمْ يُجْزِهِ عَنْ حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ.

فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِذَا قَالَ: إِحْرَامًا كَإِحْرَامِ زَيْدٍ، فَهُوَ جَائِزٌ وَمُحْرِمٌ بِمَا أَحْرَمَ بِهِ زَيْدٌ مِنْ حج أو عمرة أو قران، لأن عليّاً بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَحْرَمَا بِالْيَمَنِ، وَقَالَا: إِهْلَالًا كَإِهْلَالِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُحْرِمًا بِالْحَجِّ، لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ سَاقَ هَدْيًا، فَأَمَرَ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ؛ لأنه قد كان سَاقَ هَدْيًا، وَأَمَرَ أَبَا مُوسَى أَنْ يُحْرِمَ بَعُمْرَةٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ سَاقَ هَدْيًا، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَا يَخْلُو حَالُ زَيْدٍ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا، أَوْ حَلَالًا. وَإِنْ كَانَ زَيْدٌ حَلَالًا، قِيلَ بهذا الْمُحْرِمِ: لَكَ أَنْ تَصْرِفَ إِحْرَامَكَ إِلَى مَا شِئْتَ مِنْ حَجٍّ، أَوْ عُمْرَةٍ، أَوْ قِرَانٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ زَيْدٌ حَلَالًا، فَهَلَّا كَانَ هَذَا حَلَالًا؛ لِأَنَّهُ مِثْلُهُ، وَقَدْ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ مِثْلَ مَا جَعَلَ زَيْدٌ عَلَى نَفْسِهِ.
قِيلَ هَذَا، قَدْ عَقَدَ إِحْرَامَ نَفْسِهِ، وَلَمْ يُقَلْ أَنَا مُحْرِمٌ إِنْ كَانَ زَيْدٌ مُحْرِمًا، وَإِنَّمَا جَعَلَ صِفَةَ إِحْرَامِهِ كَصِفَةِ إِحْرَامِ زَيْدٍ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ زَيْدٌ مُحْرِمًا لَمْ يَكُنْ إِحْرَامُ هَذَا مَوْصُوفًا، وَكَانَ مَوْقُوفًا، وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَصْرِفَهُ إِلَى مَا شَاءَ مِنْ حَجٍّ، أَوْ عُمْرَةٍ، أَوْ قِرَانٍ، وَإِنْ كَانَ زَيْدٌ مُحْرِمًا، فَلَا يَخْلُو حَالُ هَذَا الْمُحْرِمِ، كَإِحْرَامِهِ مِنْ إِحْرَامَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ يَعْلَمَ بِمَاذَا أَحْرَمَ زَيْدٌ أَوْ لَا يَعْلَمَ، فَإِنْ عَلِمَ بِمَاذَا أَحْرَمَ زَيْدٌ أَحْرَمَ بِمِثْلِهِ، فَإِنْ كَانَ زَيْدٌ حَاجًّا، أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ، وَإِنْ كَانَ قَارِنًا قَرَنَ وَالْعِلْمُ بِإِحْرَامِهِ قَدْ يَكُونُ بِإِخْبَارِهِ وَقَوْلِهِ، إِذْ لَا سَبِيلَ إِلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ، بِمَاذَا أَحْرَمَ زَيْدٌ، لِأَنَّ زَيْدًا قَدْ مَاتَ، أَوْ غَابَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ الْقِرَانَ. نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ زَيْدٌ قَارِنًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا شَكَّ فِي إِحْرَامِ نَفْسِهِ، هَلْ كَانَ قَارِنًا أَوْ مُفْرِدًا؟ يَكُونُ قَارِنًا، قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَرَنَ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ زَيْدٌ قَدْ قَرَنَ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا.
وَلَوْ قَالَ: إِحْرَامِي كَإِحْرَامِ زَيْدٍ وَعَمْرٍو، فَكَانَ أَحَدُهُمَا مُحْرِمًا بِحَجٍّ، وَالْآخَرُ بِعُمْرَةٍ كَانَ هَذَا قَارِنًا، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَارِنًا وَالْآخَرُ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا كَانَ قَارِنًا وَلَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْرِمًا بِحَجٍّ كَانَ حَاجًّا لَا غَيْرَ، وَلَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ كَانَ هذا معتمر، كَمَنْ أَحْرَمَ بِحَجَّتَيْنِ أَوْ عُمْرَتَيْنِ لَمْ يَلْزَمْهُ إلا واحدة.

مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ويرفع صوته بالتلبية لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -

(4/87)


" أتاني جبريل عليه السلام فأمرني أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَوْ مَنْ مَعِي أَنْ يرفعوا أصواتهم بِالتَّلْبِيَةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا التَّلْبِيَةُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا هِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْهُ عَلَى خَمْسَةِ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ، ألب فلان بالمكان ولب إِذَا أَقَامَ فِيهِ، وَمَعْنَى لَبَّيْكَ، أَيْ أَنَا مُقِيمٌ عِنْدَ طَاعَتِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
(مَحَلُّ الفخر أنت به ملب ... مَا تَزُولُ وَلَا تَرِيمُ)

وَقَالَ آخَرُ:
(لَبِّ بأرض ما تخطاها الغنم)

وهذا قول الخيل وَثَعْلَبٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْإِجَابَةِ، وَمَعْنَاهَا: إِجَابَتِي لَكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
(لَبَّيْكُمَا لَبَّيْكُمَا هَأَنَا ذَا لَدَيْكُمَا)

وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ:
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ اللَّبِّ، واللباب الذي يكون خالص الشي، وَمَعْنَاهَا: الْإِخْلَاصُ أَيْ أَخْلَصْتُ لَكَ الطَّاعَةَ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ لُبِّ الْعَقْلِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: رَجُلٌ لِبَيْتٍ، وَيَكُونُ مَعْنَاهَا: أَيْ مُنْصَرِفٌ إِلَيْكَ وَقَلْبِي مُقْبِلٌ عَلَيْكَ.
وَالْخَامِسُ: أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْمَحَبَّةِ، مِنْ قَوْلِهِمُ: امْرَأَةٌ لَبَّةٌ، إِذَا كَانَتْ لِوَلَدِهَا مُحِبَّةً، وَيَكُونُ مَعْنَاهَا: مَحَبَّتِي لَكَ وَمِنْهُ قول الشاعر:
(وكنتم كأم لبةٍ ظعن ابْنُهَا ... إِلَيْهَا فَمَا دَرَّتْ عَلَيْهِ بِسَاعِدِ)

وَالتَّلْبِيَةُ سُنَّةٌ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنَّهُ قَالَ: الْحُجَّاجُ، وَالْعُمَّارُ وَفْدُ اللَّهِ، وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي الْقَاسِمِ بِيَدِهِ، مَا أَهَلَّ

(4/88)


مُهِلٌّ، وَلَا كَبَّرَ مُكَبِّرٌ عَلَى شرفٍ مِنَ الْأَشْرَافِ إِلَّا أَهَلَّ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَكَبَّرَ تَكْبِيرَهُ حَتَى يَنْقَطِعَ بِهِمْ مُنْقَطَعُ التُّرَابِ " وَرَوَى خَلَّادُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي الْآنَ فَقَالَ: قُلْ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، فَإِنَّهُ مِنْ شِعَارِ الْحَجِّ ".
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ التَّلْبِيَةَ فِي أَثْنَاءِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَاجِبَةٌ وَزَعَمَا أَنَّهُمَا وَجَدَا لِلشَّافِعِيِّ نَصًّا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لِلشَّافِعِيِّ فِي كتبه نص يدل عليه.

فَصْلٌ
: وَيُسْتَحَبُّ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَتَانِي جِبْرِيلُ وَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَوْ من معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية ". قال أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ - يَعْنِي فِي الْحَجِّ - فَقَالَ: الْعَجُّ وَالثَّجُّ وَرَوَى عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، كَانُوا يَبْلُغُونَ الرَّوْحَاءَ حَتَّى تُبَحَّ حُلُوقُهُمْ مِنَ التلبية.

مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُلَبِّي الْمُحْرِمُ قَائِمًا وَقَاعِدًا وَرَاكِبًا وَنَازِلًا وَجُنُبًا وَمُتَطَهِّرًا وَعَلَى كُلِ حَالٍ رَافِعًا صَوْتَهُ فِي جميع مساجد الجماعات وفي كل موضعٍ وكان السلف يستحبون التلبية عند اضطمام الرفاق وعند الإشراف والهبوط وخلف الصلوات وفي استقبال الليل والنهار وبالأسحار ونحبه على كل حال ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، يُسْتَحَبُّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُلَبِّيَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، قَائِمًا، وَقَاعِدًا، وَرَاكِبًا، وَنَازِلًا، وَجُنُبًا، وَمُتَطَهِّرًا، وَعِنْدَ اضْطِمَامِ الرِّفَاقِ، وَعِنْدَ الْإِشْرَافِ، وَالْهُبُوطِ، وَبِالْأَسْحَارِ، وَخَلْفَ الصَّلَوَاتِ، وَفِي اسْتِقْبَالِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ؛ لِأَنَّهُ فِعْلُ السَّلَفِ. وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي كُلِ أَحْيَانِهِ ".
فَأَمَّا التَّلْبِيَةُ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ، فَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ، أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِهَا فِي ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ مِنْهَا مَسْنُونٌ:
أَحَدُهُمَا: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ.
وَالثَّانِي: الْمُصَلَّى بِعَرَفَةَ وَهُوَ مَسْجِدُ إِبْرَاهِيمَ.
وَالثَّالِثُ: مَسْجِدُ الْخَيْفِ بِمِنًى، فَهَذِهِ الْمَسَاجِدُ الثَّلَاثَةُ قَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ أَنْ يَرْفَعَ النَّاسُ أصواتهم بالتلبية فيها، فأما ما عادها مِنْ مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ كَرِهَ فِي القديم

(4/89)


رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ يُؤْذِي بِهِ الْمُصَلِّينَ وَالْمُرَابِطِينَ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ هَذَا فِي الْجَدِيدِ، وَاسْتَحَبَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِهَا فِي كُلِّ مَسْجِدٍ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَكَانَتِ الْمَسَاجِدُ أَوْلَى الْبِقَاعِ بِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ لِذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ ". وَرُوِيَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ كَانَ يُوقِظُ النَّاسَ فِي الْمَسْجِدِ، وَيَقُولُ: لَبُّوا فَإِنِّي سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: " التَّلْبِيَةُ زِينَةُ الْحَجِّ ".
فَأَمَّا التَّلْبِيَةُ في أدبار الصلوات المفروضات مستحبة، وَكَذَا النَّوَافِلُ بِخِلَافِ مَا قُلْنَا فِي تَكْبِيرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَأَمَّا التَّلْبِيَةُ فِي الطَّوَافِ، فَقَدْ كَرِهَهَا الشَّافِعِيُّ فِي الْإِمْلَاءِ لِلْأَثَرِ مِنَ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُلَبِّي حَوَالَيِ الْبَيْتِ، إلا عطاء والسائب وروي عن سفيان بن عيينة، أنه قال: ما رأيت أحداً يلبي طائفاً حول الْبَيْتِ، إِلَّا عَطَاءٌ وَالسَّائِبُ وَلِأَنَّ فِي الطَّوَافِ أذكار مَسْنُونَةٌ إِنْ لَبَّى فِيهَا تَرَكَهَا.
فَإِنْ قِيلَ: مَا الْأَصْلُ فِي التَّلْبِيَةِ؟ قِيلَ: الِاقْتِدَاءُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَإِجَابَةُ دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حين قال الله تعالى له: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعلَى كُلِّ ضَامِرٍ} (الحج: 27) . فَأَجَابَهُ مَنْ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ: لَبَّيْكَ دَاعِيَ رَبِّنَا لَبَّيْكَ، قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ: فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ أَجَابَ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أَذَّنَ فِي الْحَجِّ بِالتَّلْبِيَةِ، أَهْلُ الْيَمَنِ فَكَانَ هَذَا أَصْلُهَا، ثُمَّ جَرَى الناس عليها، ووردت السنة بها.

مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالتَّلْبِيَةُ أَنْ يَقُولَ " لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ " لِأَنَّهَا تَلْبِيَةُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولا يضيق أن يزيد عليه وأختار أَنْ يُفْرِدَ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لا يقصر عنها ولا يجاوزها إلا أن يرى شيئاً يعجبه فيقول: " لبيك إن العيش عيش الآخرة " فإنه لا يروى عنه من وجه يثبت أنه زاد غير هذا فَإِذَا فَرَغَ مِنَ التَّلْبِيَةِ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَسَأَلَ اللَّهَ رِضَاهُ وَالْجَنَّةَ وَاسْتَعَاذَ بِرَحْمَتِهِ مِنَ النار فإنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا لَفْظُ التَّلْبِيَةِ وَصِفَتُهَا، وَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهَا فَهُوَ مَا حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ، وَأَبُو

(4/90)


هُرَيْرَةَ فَبَعْضُهُمْ رَوَى: " لَبَّيْكَ أَنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ " بِفَتْحِ الْأَلْفِ مِنْ أَنَّ - عَلَى مَعْنَى - لِأَنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ، وَبَعْضُهُمْ رَوَى بِكَسْرِ الْأَلْفِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالِاسْتِئْنَافِ، وَيُخْتَارُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَا يُقَصِّرَ عَنْهَا، وَلَا يُجَاوِزُهَا، لِمَا رُوِيَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ سَمِعَ بَعْضَ بَنِي أَخِيهِ يَقُولُ: لَبَّيْكَ يَا ذَا الْمَعَارِجِ، فَقَالَ سَعْدٌ: إِنَّهُ لَذُو الْمَعَارِجِ، وَمَا هَكَذَا كما نُلَبِّي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي التَّلْبِيَةِ زِيَادَاتٌ، فَرَوَى نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَزِيدُ فِيهَا: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، والخير بيديك، لبيك والرغبة وإليك وَالْعَمَلُ.
وَرَوَى الْمِسْوِرُ بْنُ مَخْرَمَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا بَلَغَ إِلَى قَوْلِهِ: وَالْمُلْكُ لَا شَرِيكَ لَكَ، قَالَ: لَبَّيْكَ مَرْهُوبًا وَمَرْغُوبًا إِلَيْكَ لَبَّيْكَ ذَا النَّعْمَاءِ وَالْفَضْلِ الْحَسَنِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا ضُيِّقَ عَلَى أَحَدٍ فِي مِثْلِ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَلَا غَيْرُهُ مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى وَدُعَائِهِ مَعَ التَّلْبِيَةِ، غَيْرَ أَنَّ الِاخْتِيَارَ عِنْدِي أَنْ يُفْرِدَ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يُقَصِّرُ عَنْهُ وَلَا يُجَاوِزُهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي التَّلْبِيَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا زِيَادَاتٌ. فَرَوَى الْأَعْرَجُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " كَانَ مِنْ تَلْبِيَةِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَبَّيْكَ إِلَهَ الْحَقِّ لَبَّيْكَ ". وَرَوَى ابْنُ سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: " سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يلبي " لبيك حجاً حقاً تعبداً ورقاً ". فيستحب أَنْ يُفْرِدَ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. فَإِنْ زَادَ عَلَيْهَا، زَادَ مَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ، لَا يُجَاوِزُهُ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ صُلَحَاءِ السَّلَفِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي التَّلْبِيَةِ: لَبَّيْكَ أَنْتَ مَلِيكُ مَنْ مَلَكَ مَا خَافَ عَبْدٌ أَمَّلَكَ. فَهَذَا وَإِنْ كَانَ حَسَنًا، فَلَيْسَ بِمَسْنُونٍ عَنِ الرَّسُولِ، وَلَا مَأْثُورٍ عَنِ الصَّحَابَةِ، فَإِنْ رَأَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، قَالَ فِي تَلْبِيَتِهِ: لَبَّيْكَ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ. فَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، واختلف أهل اللغة في معنى لقولهم: سَعْدَيْكَ، عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ: أَيْ مَعَكَ أَسْعَدُ بِكَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْمُسَاعَدَةِ، وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، هَلْ هُوَ عَلَى مَعْنَى التَّلْبِيَةِ، أَوِ الْإِفْرَادِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُوَحَّدَةٌ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ، وَهُوَ قَوْلُ الْخَلِيلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا عَلَى التَّثْنِيَةِ، وَلَيْسَ لَهَا وَاحِدٌ، وَهَذَا قَوْلُ خَلْفٍ الْأَحْمَرِ.

فَصْلٌ
: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: إِذَا لَبَّى، فَاسْتَحَبَّ أَنْ يُلَبِّيَ ثَلَاثًا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:

(4/91)


أَحَدُهُمَا: أَنْ يُكَرِّرَ قَوْلَ: لَبَّيْكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُكَرِّرَ قَوْلَهُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
وَالثَّالِثُ: يُكَرِّرُ جَمِيعَ التَّلْبِيَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

فَصْلٌ
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِذَا فَرَغَ مِنَ التَّلْبِيَةِ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ويسأل اللَّهَ رِضَاهُ وَالْجَنَّةَ وَاسْتَعَاذَ بِرَحْمَتِهِ مِنَ النَّارِ. أَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَمُسْتَحَبَّةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) {الشرح: 4) قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ: لَا أُذْكَرُ إِلَّا وَتُذْكَرُ مَعِي، وَلِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبًا فِيهِ، كَانَتِ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاجِبَةً فِيهِ كَالصَّلَاةِ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَحَبًّا فِيهِ، كَانَ ذِكْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُسْتَحَبًّا فِيهِ، كَالْأَذَانِ، وَأَمَّا الِاسْتِعَاذَةُ مِنَ النَّارِ وَالِاسْتِغْفَارُ فَلِرِوَايَةِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: " كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا فَرَغَ مِنْ تَلْبِيَتِهِ فِي حَجٍّ أَوْ عمرةٍ، سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى رِضْوَانَهُ وَالْجَنَّةَ، وَاسْتَعَاذَ برحمته من النار ".

مَسْأَلَةٌ
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَالْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ كَالرَّجُلِ إِلَّا مَا أُمِرَتْ بِهِ مِنَ السِّتْرِ وَأَسْتَرُ لَهَا أَنْ تَخْفِضَ صَوْتَهَا بِالتَّلْبِيَةِ وَإِنَّ لَهَا أَنْ تَلْبِسَ الْقَمِيصَ وَالْقَبَاءَ والدرع والسراويل والخمار والخفين والقفازين وإحرامها في وجهها فلا تخمره وتسدل عليه الثوب وتجافيه عنه ولا تمسه وتخمر رأسها فإن خمرت وجهها عامدة افتدت وأحب إليّ أن تختضب للإحرام قبل أن تحرم وروي عن عبد الله بن عبيد وعبد الله بن دينار قال من السنة أن تمسح المرأة بيدها شيئاً من الحناء ولا تحرم وهي غفل وأحب لها أن تطوف ليلاً ولا رمل عليها ولكن تطوف على هينتها ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا أَرْكَانُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَمَنَاسِكُهِمَا، فَالْمَرْأَةْ وَالرَّجُلُ فِيهِمَا سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَيْئَاتِ الْأَرْكَانِ الْأَرْبَعَةِ، الْإِحْرَامِ، وَالْوُقُوفِ، وَالطَّوَافِ، وَالسَّعْيِ، فَأَمَّا هَيْئَاتُ الْإِحْرَامِ، فَالْمَرْأَةُ فِيهَا مُخَالِفَةٌ لِلرَّجُلِ فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَرْأَةَ، مَأْمُورَةٌ بِلُبْسِ الثِّيَابِ الْمَخِيطَةِ، كَالْقَمِيصِ، وَالْقَبَاءِ، وَالسَّرَاوِيلِ، وَالْخُفَّيْنِ، وَلُبْسِ مَا هُوَ أَسْتَرُ لَهَا؛ لِأَنَّ عَلَيْهَا سَتْرَ جَمِيعِ بَدَنِهَا، إِلَّا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهَا، وَالرَّجُلُ مَنْهِيٌّ عَنْ لُبْسِ ذَلِكَ مَأْمُورٌ بِالْفِدْيَةِ فِيهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَرْأَةَ مَأْمُورَةٌ، بِخَفْضِ صَوْتِهَا بِالتَّلْبِيَةِ، وَالرَّجُلِ مَأْمُورٌ بِرَفْعِ صَوْتِهِ بِالتَّلْبِيَةِ، لِأَنَّ صَوْتَ الْمَرْأَةِ يَفْتِنُ سَامِعَهُ , وَرُبَّمَا كَانَ أَفْتَنَ مِنَ النَّظَرِ، قَالَ الشاعر:

(4/92)


(يَا قَوْمُ أُذْنِي لِبَعْضِ الْحَيِّ عَاشِقَةٌ ... وَالْأُذُنُ تَعْشَقُ قَبْلَ الْعَيْنِ أَحْيَانًا)

وَالثَّالِثُ: أَنَّ حُرْمَ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا فَلَا تُغَطِّيهِ، كَمَا كَانَ حُرْمُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ فَلَا يُغَطِّيهِ، لِرِوَايَةِ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى أن تنتقب المرأة وهي محرمة وتلبس الْقُفَّازَيْنِ ". وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا، وَبَعْضُهُمْ يَرْوِيهِ مُسْنَدًا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا فَلَا تُغَطِّيهِ ".
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَى الْمَرْأَةِ كَشْفَ وَجْهِهَا فِي الْإِحْرَامِ، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُغَطِّيَ شَيْئًا مِنْهُ، إِلَّا مَا اسْتَعْلَى مِنَ الْجَبْهَةِ وَاتَّصَلَ بقصاص الشعر الذي لا يمكن للمرأة سَتْرُ رَأْسِهَا بِالْقِنَاعِ، إِلَّا بِشَدِّهِ؛ لِأَنَّ مَا لَمْ يُمْكِنْ سَتْرُ الْعَوْرَةِ إِلَّا بِهِ فَهُوَ كَالْعَوْرَةِ فِي وُجُوبِ سَتْرِهِ، فَإِنْ سَتَرَتْ سِوَى ذَلِكَ مِنْ وَجْهِهَا، بِمَا يَمَاسُّ الْبَشَرَةَ، فَعَلَيْهَا الْفِدْيَةُ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، وَلَوْ غَطَّتْهُ بِكَفَّيْهَا، لَمْ تَفْتَدِ، كَالرَّجُلِ يَفْتَدِي إِذَا غَطَّى رَأْسَهُ، وَلَا يَفْتَدِي، إِذَا غَطَّاهُ بِكَفَّيْهِ، فَإِنْ أَسْدَلَتْ عَلَى وَجْهِهَا ثَوْبًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَاسَّ الْبَشَرَةَ، جَازَ ذَلِكَ أَنْ تَأْخُذَ ثَوْبًا فَتَشُدَّهُ عِنْدَ قُصَاصِ الشَّعْرِ، كَالْكَوْرِ، وَتُسْدِلُ عَلَيْهِ الثَّوْبَ وَتُمْسِكُهُ بِيَدَيْهَا حَتَّى لَا يَمَاسَّ وَجْهَهَا، فإنما جَازَ ذَلِكَ، لِمَا رَوَى مُجَاهِدٌ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا أَقْبَلَ الرَّاكِبُ يَأْمُرُنَا أَنْ نُسْدِلَ عَلَى وجوهنا سدلاً " وَلِأَنَّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُظَلِّلَ فَوْقَ رَأْسِهِ وَيُغَطِّيَهُ، كَذَلِكَ الْمُحْرِمَةُ فِي وَجْهِهَا.
وَالرَّابِعُ: لُبْسُ الْقُفَّازَيْنِ فِي كَفَّيْهَا، فِيهِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَلَهَا لَبْسُهُمَا، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهَا فِيهَا وَبِهِ قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وأبو حنيفة؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا جَعَلَ حُرْمَ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا، دَلَّ على انتقائه عَنْ سَائِرِ بَدَنِهَا.
وَلِأَنَّهُ شَخْصٌ مُحْرِمٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ حُرْمُهُ بِمَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنْ بَدَنِهِ كَالرَّجُلِ، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَوْ مَنَعَ مِنْ تَغْطِيَةِ كَفَّيْهَا بِالْقُفَّازَيْنِ، لَمَنَعَ مِنْ تَغْطِيَتِهَا بِالْكُمَّيْنِ، كَالْوَجْهِ الَّذِي لَا يَحْرُمُ بِتَغْطِيَتِهِ بِشَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ، فَلَمَّا جَازَ تَغْطِيَةُ كَفَّيْهَا بِالْكُمَّيْنِ، جَازَ بِالْقُفَّازَيْنِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْأُمِّ: لَيْسَ لَهَا لُبْسُهُمَا، فَإِنْ لَبِسَتْهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا فَعَلَيْهَا الْفِدْيَةُ، وَبِهِ قَالَتْ عَائِشَةُ: وَابْنُ عُمَرَ لِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى أن تنتقب المرأة وهي محرمة وتلبس الْقُفَّازَيْنِ ". وَلِأَنَّ مَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ مِنَ الْحُرَّةِ، يَقْتَضِي أَنْ يَتَعَلَّقَ الْإِحْرَامُ بِهِ كَالْوَجْهِ؛ لِأَنَّ الرجل لما يتعلق حُكْمُ الْإِحْرَامِ بِرَأْسِهِ فِي وُجُوبِ كَشْفِهِ تَعَلَّقَ بِسَائِرِ بَدَنِهِ فِي الْمَنْعِ مِنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ فِيهِ، مَعَ جَوَازِ تَغْطِيَتِهِ كَذَلِكَ الْمَرْأَةُ لَمَّا

(4/93)


تَعَلَّقَ حُكْمُ الْإِحْرَامِ بِوَجْهِهَا فِي وُجُوبِ كَشَفِهِ وَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ حُكْمُهُ بِمَوْضِعٍ مِنْ بَدَنِهَا فِي الْمَنْعِ مِنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ فِيهِ مَعَ جَوَازِ تَغْطِيَتِهِ.
وَالْخَامِسُ: أَنَّ مِنَ الْمُسْتَحَبِّ لَهَا أن تختضب لإحرامها بالحناء، ولا يكون عسفاً لرواية موسى بن عبيدة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ فَلْتُلَطِّخْ بَدَنَهَا بِالْحِنَّاءِ ". وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً أَخْرَجَتْ يَدَهَا لِتُبَايِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَرَآهَا بَيْضَاءَ، فَقَالَ: هَذه كَفُّ سبعٍ أَيْنَ الْحِنَّاءُ؟ ". وَلِأَنَّ فِيهِ مُبَايَنَةً لِلرِّجَالِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَعَنَ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ. فَأَمَّا الْخِضَابُ فِي حَالِ إِحْرَامِهَا، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَرِهْتُ ذَلِكَ لَهَا، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهَا فِيهِ، وَإِنْ خَالَفَ أبو حنيفة فِيهِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ. ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ طَلَتْ يَدَهَا بِالْحِنَّاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَلُفَّ عَلَيْهَا الْخِرَقَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَفَّتْ عَلَيْهَا الْخِرَقَ وَشَدَّتْهَا بِالْعَصَائِبِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ لُبْسَ الْقُفَّازَيْنِ جَائِزٌ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهَا، وَإِنْ قُلْنَا: إِنْ لُبْسَ الْقُفَّازَيْنِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَأَنَّ الْفِدْيَةَ فِي لُبْسِهِمَا وَاجِبَةٌ، فَهَلْ عَلَيْهَا الْفِدْيَةُ فِي الْخِرَقِ وَالْعَصَائِبِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَيْهَا الْفِدْيَةُ تَشَبُّهًا بِالْقُفَّازَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا فِدْيَةَ عَلَيْهَا تَشَبُّهًا بِالْكُمَّيْنِ.

فَصْلٌ: مَا تُخَالِفُ فِيهِ الْمَرْأَةُ الرجل في الوقوف
فَأَمَّا مَا تُخَالِفُهُ فِيهِ مِنْ هَيْئَاتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، فَثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الرَّجُلَ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ رَاكِبًا، وَالْمَرْأَةُ نَازِلَةٌ عَلَى الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ أَصْوَنُ لَهَا وَأَسْتَرُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَرْأَةَ يُخْتَارُ لَهَا أَنْ تَكُونَ بِعَرَفَةَ جَالِسَةً وَالرَّجُلِ قَائِمًا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَرْأَةَ يُخْتَارُ لَهَا أَنْ تَكُونَ فِي حَاشِيَةِ الْمَوْقِفِ وَأَطْرَافِ عَرَفَةَ، وَالرَّجُلَ عِنْدَ الصَّخَرَاتِ السُّودِ.

فَصْلٌ: مَا تخالف فيه المرأة الرجل في الطواف
فَأَمَّا مَا تُخَالِفُهُ فِي هَيْئَاتِ الطَّوَافِ فَثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الرَّجُلَ مَأْمُورٌ بِالِاضْطِبَاعِ فِيهِ، وَالرَّمَلِ، وَالْمَرْأَةُ مَنْهِيَّةٌ عَنْ ذَلِكَ، بَلْ تَمْشِي على هيئتها وستر جَمِيعِ بَدَنِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَطُوفَ لَيْلًا، لِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا، وَالرَّجُلُ يَطُوفُ ليلاً ونهاراً.

(4/94)


وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَرْأَةَ يُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ لَا تدنوا مِنَ الْبَيْتِ فِي الطَّوَافِ، وَتَطُوفُ فِي حَاشِيَةِ الناس، والرجل بخلافها.

فصل: ما تخالفه في السعي
وَأَمَّا مَا تُخَالِفُهُ فِيهِ مِنْ هَيْئَاتِ السَّعْيِ فثلاثة أشياء:
أحدها: أَنَّ الْمَرْأَةَ تُمْنَعُ مِنَ السَّعْيِ رَاكِبَةً، وَالرَّجُلُ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَرْأَةَ تُمْنَعُ مِنْ صُعُودِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنْ غَيْرِ سَعْيٍ، والرجل يأمر بِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَرْأَةَ تَمْشِي بَيْنَ الصَّفَا والمروة من غير سعي والرجل بِالسَّعْيِ الشَّدِيدِ بَيْنَ الْعَلَمَيْنِ.

فَصْلٌ
: وَأَمَّا مَا تُخَالِفُهُ فِيهِ مِنْ هَيْئَاتِ الْمَنَاسِكِ فَثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الرَّجُلَ مَأْمُورٌ بِرَفْعِ يَدَيْهِ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ وَالْمَرْأَةُ لَا تُؤْمَرُ بِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّجُلَ مَأْمُورٌ أَنْ يَتَوَلَّى ذَبِيحَةَ نُسُكِهِ، وَالْمَرْأَةُ لَا تُؤْمَرُ بِذَلِكَ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ حَلْقَ الرَّجُلِ أَفْضَلُ مِنْ تَقْصِيرِهِ، وَتَقْصِيرُ الْمَرْأَةِ أَفْضَلُ، وَحِلَاقُهَا مَكْرُوهٌ. وَمَا سِوَى مَا ذَكَرْنَاهُ فَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِيهِ سَوَاءٌ.

(4/95)