الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

بَابُ حَصْرِ الْعَبْدِ الْمُحْرِمِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ والمرأة تحرم بغير إذن زوجها
(قال الشافعي) رضي الله عنه: وَإِنْ أَحْرَمَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ وَالْمَرْأَةُ بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا فَهُمَا فِي مَعْنَى الْإِحْصَارِ وَلِلسَّيِّدِ وَالزَوْجِ مَنْعُهُمَا وَهُمَا فِي مَعْنَى الْعَدُوِّ في الإحصار وفي أكثر من معناه فإن لَهُمَا مَنْعَهُمَا وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْعَدُوِّ وَمُخَالِفُونَ لَهُ فِي أَنَّهُمَا غَيْرُ خَائِفِينَ خَوْفَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْعَبْدُ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الْإِحْرَامُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَبْدَ مَمْلُوكُ الرَّقَبَةِ، مُسْتَحِقُّ الْمَنْفَعَةِ، وَفِي إِحْرَامِهِ تَعْطِيلٌ لِمَا مَلَكَ عَلَيْهِ مِنْ مَنْفَعَتِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ، فَإِذَا أَحْرَمَ كَانَ تَطَوُّعًا، وَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَمْنَعَ عَبْدَهُ مِنْ تَطَوُّعِهِ، فَإِذَا أَحْرَمَ الْعَبْدُ، فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، لَزِمَهُ تَمْكِينُهُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ، فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُمَكِّنَهُ، وَيَجُوزَ أَنْ يَمْنَعَهُ؛ لِمَا عَلَيْهِ مِنَ الضَّرَرِ بِإِحْرَامِهِ، وَتَعْطِيلِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ مَنَافِعِهِ، فَإِذَا مَنَعَهُ السَّيِّدُ، كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ، وَلَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَتَحَلَّلَ الْمُحْصَرُ بِالْعَدُوِّ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ بِظُلْمٍ، فَأَوْلَى أَنْ يَتَحَلَّلَ الْعَبْدُ بِمَنْعِ السَّيِّدِ، إِذْ هُوَ مَمْنُوعٌ بِحُقٍّ، فَإِذَا أَرَادَ الْإِحْلَالَ، فَلَا يَخْلُو حَالُ سَيِّدِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يُمَلِّكَهُ هَدْيًا، أَوْ لَا يُمَلِّكَهُ. فَإِنْ لَمْ يُمَلِّكْهُ هَدْيًا فَهُوَ كَالْحُرِّ الْمُعْسِرِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ دَمُ الْإِحْصَارِ لَا بَدَلَ لَهُ، كَانَ الدَّمُ فِي ذِمَّتِهِ إِذَا أُعْتِقَ وَأَيْسَرَ أَتَى بِهِ، وَهَلْ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ قَبْلَ الْإِتْيَانِ بِهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَتَحَلَّلُ الْعَبْدُ قَوْلًا وَاحِدًا، بِخِلَافِ الْحُرِّ الْمُعْسِرِ؛ لِأَنَّ فِي بقائه على إحرامه إضرار بِسَيِّدِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ لِدَمِ الْإِحْصَارَ بَدَلًا فَبَدَلُهُ هَاهُنَا الصَّوْمُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا، وَفِي قَدْرِهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.
وَالثَّانِي: صِيَامُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ.
وَالثَّالِثُ: تُقَوَّمُ الشَّاةُ دَرَاهِمَ، وَالدَّرَاهِمُ طَعَامًا، وَيَصُومُ عَنْ لك مُدٍّ يَوْمًا، ثُمَّ هَلْ يَكُونُ عَلَى إِحْرَامِهِ حتى يصوم أو يحوز أو يتحلل؟ قيل: يَصُومَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَتَحَلَّلُ قَوْلًا وَاحِدًا، فَأَمَّا إِنْ مَلَّكَهُ سَيِّدُهُ دَمًا، فَعَلَى قَوْلَيْنِ:

(4/362)


أَحَدُهُمَا: يَنْحَرُهُ وَلَا يَصُومُ عَلَى قَوْلِهِ - فِي الْقَدِيمِ -: إِنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ.
وَالثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِ - فِي الْجَدِيدِ: إِنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ.

فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْمَرْأَةُ إِذَا كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ وَأَرَادَتِ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ، فَقَدْ يَكُونُ فَرْضًا، وَقَدْ يَكُونُ تَطَوُّعًا؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ يَلْزَمُهَا فَرْضُ الْحَجِّ بِالشَّرَائِطِ الَّتِي تُلْزِمُ الرَّجُلَ، وَهِيَ سِتٌّ، فَإِذَا أَرَادَتِ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ، فَعَلَيْهَا اسْتِئْذَانُ الزَّوْجِ؛ لِمَا قَدِ اسْتَحَقَّهُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، فَإِنْ أَحْرَمَتْ بِإِذْنِهِ، فَعَلَيْهِ تَمْكِينُهَا، وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا، فَإِنْ أحرمت بغير إذنه، فهل له منعا أَمْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ - حَكَاهَا أَبُو حَامِدٍ فِي جَامِعِهِ -:
أَحَدُهَا: أَنَّ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ، فَرْضًا كَانَ أَوْ تَطَوُّعًا؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا عَاجِلًا، وَإِحْرَامُهَا إِنْ كَانَ فَرْضًا فَفَرْضُ الْحَجِّ عَلَى التَّرَاخِي، فَكَانَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ تَعْجِيلِهِ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا، فَأَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ فَرْضًا كَانَ أَوْ تَطَوُّعًا؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ فَرْضًا، فَالْفَرَائِضُ مُسْتَثْنَاةٌ مِنَ الزَّوْجِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا، فَبِالدُّخُولِ فِيهِ صَارَ فَرْضًا.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ إِنْ كَانَ تَطَوُّعًا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا منه وإن كَانَ فَرْضًا، كَمَا لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ وَصِيَامِ التَّطَوُّعِ، وَلَا يَمْنَعَهَا مِنَ الْفَرْضِ.
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَقُلْنَا: لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا، فَإِنْ مَنْعَهَا كَانَتْ كَالْمُحْصَرِ بِالْعَدُوِّ، وَتَتَحَلَّلُ مِنْ إِحْرَامِهَا، وَعَلَيْهَا دَمُ الْإِحْصَارِ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهَا، وَإِنْ مَكَّنَهَا فَعَلَيْهَا إِتْمَامُ حَجِّهَا، وَلَيْسَ لَهَا الْإِحْلَالُ مِنْهُ، وَلَا لِلزَّوْجِ الرُّجُوعُ فِيهِ.

فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِذَا أَرَادَتِ الْمَرْأَةُ أَنْ تَبْتَدِئَ بِالْحَجِّ، فَإِنْ كَانَ فَرْضًا جَازَ أَنْ تَخْرُجَ من ذِي مَحْرَمٍ، أَوْ مَعَ نِسَاءٍ ثِقَاتٍ وَلَوْ كَانَتِ امْرَأَةً وَاحِدَةً، إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَخْرُجَ بِلَا مَحْرَمٍ، وَلَا امْرَأَةٍ تَثِقُ بِهَا وَإِنْ كَانَ حَجُّهَا وَاجِبًا، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا لَا تَخَافُ خَلْوَةَ الرِّجَالِ مَعَهَا، جَازَ أَنْ تَخْرُجَ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ، وَبِغَيْرِ امْرَأَةِ ثِقَةٍ، وهو خلاف نص الشافعي - رضي الله عنه -.
فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْحَجُّ تَطَوُّعًا، لَمْ يَجُزْ أَنْ تَخْرُجَ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، وَكَذَلِكَ فِي السَّفَرِ الْمُبَاحِ، كَسَفَرِ الزِّيَارَةِ وَالتِّجَارَةِ، لَا يَجُوزُ أَنْ تَخْرُجَ فِي شيءٍ مِنْهَا إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَجُوزُ أَنْ تَخْرُجَ مَعَ نِسَاءٍ ثِقَاتٍ، كَسَفَرِ الْحَجِّ الْوَاجِبِ، وَهُوَ خِلَافُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ مالك: يجوز أن تخرج من الْفَرْضِ مَعَ نِسَاءٍ ثِقَاتٍ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ تَخْرُجَ مَعَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَجُوزُ أَنْ تَخْرُجَ فِي الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَا تُسَافِرِ امرأةٌ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أيامٍ إِلَّا وَمَعَهَا أَخُوهَا أَوْ أَبُوهَا أَوْ زَوْجُهَا أو محرم، وبرواية أبي

(4/363)


سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تُسَافِرِ امرأةٌ مَسِيرَةَ يومٍ وليلةٍ إِلَّا مَعَ محرمٍ "، وَبِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تَحُجَّنَّ امرأةٌ إِلَّا مَعَ ذِي محرمٍ "؛ وَلِأَنَّهُ سَفَرٌ تُقْصَرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةُ، فَلَمْ يَجُزْ لَهَا قَطْعُهُ بِغَيْرِ حَرَمٍ كَالْأَسْفَارِ الْمُبَاحَةِ، وَلِأَنَّ حَجَّ التَّطَوُّعِ قَدْ يَلْزَمُ بِالدُّخُولِ فِيهِ كَالْفَرْضِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ لَهَا الْخُرُوجُ فِي التَّطَوُّعِ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، وَإِنْ صَارَ بِالدُّخُولِ فَرْضًا، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ ابْتِدَاؤُهُ فَرْضًا، وَدَلِيلُنَا عَلَى جَوَازِ خُرُوجِهَا بِغَيْرِ مَحْرَمٍ، رِوَايَةُ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لمرسلٍ: الظَّعِينَةُ تَخْرُجُ مِنَ الْحِيرَةِ بِغَيْرِ خفارٍ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ وَيُوشِكُ أَنْ تُفْتَحَ كنوز كسرى بن هرمز ويوشك الرجل سعى يبتغي أن يؤخذ فوجد مَالُهُ صَدَقَةً فَلَا تُقْبَلُ مِنْهُ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَخْرُجُ مِنَ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ بِغَيْرٍ خِفَارٍ، وَكُنْتُ فِي الْخَيْلِ الَّتِي أَغَارَتْ على المدائن، حتى فتحوا كنوز كسرة، ووالله لَتَكُونَنَّ الثَّالِثَةُ، فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذَا أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ مِنِ اسْتِقَامَةِ الزَّمَانِ أَنْ تَخْرُجَ الْمَرْأَةُ إِلَى الْحَجِّ بِغَيْرِ خِفَارٍ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ جَائِزٍ لَكَانَ الزَّمَانُ بِفِعْلِهِ غَيْرَ مُسْتَقِيمٍ، فَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَحِجُّوا هَذِهِ الذُّرِّيَّةَ، وَلَا تَأْكُلُوا أَرْزَاقَهَا وَتَدَعُوا أَوْبَاقَهَا فِي أَعْنَاقِهَا، فَأَمَرَ بِالْإِذْنِ لِلنِّسَاءِ فِي الْحَجِّ وَأَنْ لَا يُمْنَعْنَ مِنْهُ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي إِخْرَاجِهِنَّ ذَا مَحْرَمٍ؛ وَلِأَنَّهُ سَفَرٌ وَاجِبٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُحْرِمُ شَرْطًا فِي قَطْعِهِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ لَمْ يَكُنِ الْمُحْرِمُ شَرْطًا فِي وُجُوبِهَا لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي أَدَائِهَا كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وَاسْتِدْلَالُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا ادُّعِيَ عِنْدَ الْحَاكِمِ عَلَى امْرَأَةٍ غَائِبَةٍ دَعْوَى، فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَبْعَثُ إِلَيْهَا لِيُحْضِرَهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَحْرَمٌ إِذَا كَانَتْ مِمَّنْ تَبْرُزُ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهَا الْخُرُوجُ بِلَا مَحْرَمٍ فِي حَقٍّ لَا يَتَحَقَّقُ وجوبه عليها، إذا قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْطِلًا فِي الدَّعْوَى عَلَيْهَا، فَلَأَنْ يَجِبَ فِي حَقٍّ يَتَحَقَّقُ وُجُوبُهُ عَلَيْهَا أَوْلَى، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فَمَحْمُولٌ بِدِلَالَتِنَا عَلَى السَّفَرِ الْمُبَاحِ دُونَ الْوَاجِبِ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فمحمول وإن صح فمحمول عَلَى حَجِّ التَّطَوُّعِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى التَّطَوُّعِ فَمُنْتَقِضٌ بِالْهِجْرَةِ كَمَا أَنَّ التَّطَوُّعَ قَدْ يَلْزَمُ بِالدُّخُولِ فِيهِ كَالْهِجْرَةِ ثُمَّ كَانَ أَضْعَفَ حَالًا مِنَ الْهِجْرَةِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِيهِ لَوْ صَحَّ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ التَّطَوُّعَ قد يلزم بالدخول كالفرض إِنْ كَانَ لَازِمًا بِالدُّخُولِ كَالْفَرْضِ فَهُوَ أَضْعَفُ حَالًا مِنَ الْفَرْضِ، فَيَكُونُ فَرْقًا بَيْنَ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ، كَفَرْقِهِمْ بَيْنَ الْهِجْرَةِ وَالتَّطَوُّعِ.

فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْمُعْتَدَّةُ إِذَا أَحْرَمَتْ بِالْحَجِّ فَإِنَّهَا تُمْنَعُ مِنَ الْمُضِيِّ فِي الْحَجِّ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، سَوَاءٌ كَانَتِ الْعِدَّةُ مِنْ وَفَاةٍ أَوْ طَلَاقٍ، كَانَ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا رَجْعَةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَلَيْسَ لها أن تتحل بِهَذَا الْمَنْعِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِأَنَّ مَانِعَهَا إِلَى مُدَّةٍ إِذَا بَلَغَتْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهَا فإذا

(4/364)


انقضت عِدَّتُهَا مَضَتْ فِي حَجِّهَا، فَإِنْ أَدْرَكَتِ الْحَجَّ أَجْزَأَهَا، وَإِنْ فَاتَهَا الْحَجُّ أَحَلَّتْ بِطَوَافٍ وَسَعْيٍ، وَوَجَبَ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ، وَدَمُ الْفَوَاتِ كَالْغَائِبِ سَوَاءٌ، فَأَمَّا إِذَا أَحْرَمَتْ بِالْحَجِّ غَيْرَ مُعْتَدَّةٍ، ثُمَّ طَرَأَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ فِي الْإِحْرَامِ بِوَفَاةِ زَوْجٍ أَوْ طَلَاقٍ، فَعَلَيْهَا الْمُضِيُّ فِي إِحْرَامِهَا، وَلَا تَكُونُ الْعِدَّةُ مَانِعَةً لَهَا لِتَقَدُّمِ الْإِحْرَامِ عَلَيْهَا فَإِنْ مَنَعَهَا مِنْ إِتْمَامِ حَجِّهَا حَاكِمٌ لِأَجْلِ عِدَّتِهَا كَانَتْ كَالْمُحْصَرَةِ حِينَئِذٍ فَيَجُوزُ لَهَا أَنْ تَتَحَلَّلَ وَعَلَيْهَا دَمُ الْإِحْصَارِ.

فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ الْوَلَدُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ فَيَنْبَغِيَ أَنْ يَسْتَأْذِنَ أَبَوَيْهِ أَوِ الْبَاقِيَ مِنْهُمَا فَإِنْ أَحْرَمَ بِإِذْنِهِمَا انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَنْعُهُ وَلَوْ أَحْرَمَ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا فَإِنْ كَانَ غَيْرَ بَالِغٍ فَإِحْرَامُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ إِحْرَامَ غَيْرِ الْبَالِغِ لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِإِذْنِ وَلَيِّهِ وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: إِحْرَامُهُ يَنْعَقِدُ كَالْبَالِغِ وَلِوَالِدِهِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهُ وَيَفْسَخَهُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ بَالِغًا فَإِحْرَامُهُ مُنْعَقِدٌ فَإِنْ أراد والده أَنْ يَمْنَعَاهُ نَظَرْتَ فَإِنْ كَانَ الْحَجُّ الَّذِي أَحْرَمَ بِهِ فَرْضًا فَلَيْسَ لَهُمَا مَنْعُهُ؛ لِأَنَّ الْمَقَامَ عَلَيْهِمَا مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ وَكَانَ تَقْدِيمُ الْفَرْضِ أَوْلَى مِنْهُ وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَهَلْ لَهُمَا مَنْعُهُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَهُمَا مَنْعُهُ وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي " الْإِمْلَاءِ " كَالْجِهَادِ أَلَا تَرَى إِلَى مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَأَى رَجُلًا يُجَاهِدُ فَقَالَ: " أَلَكَ أَبَوَانِ " قَالَ: نَعَمْ قَالَ: " فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ " فَلَمَّا مَنَعَهُ مِنَ الْجِهَادِ الَّذِي هُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ يَتَعَيَّنُ بِالدُّخُولِ فِيهِ كَانَ مَنْعُهُ مِنْ حَجِّ التَّطَوُّعِ أَوْلَى فَعَلَى هَذَا إِذَا مَنَعَاهُ كَانَ كَالْمُحْصَرِ يَتَحَلَّلُ وَعَلَيْهِ دَمٌ، فَلَوْ أَذِنَ لَهُ أَحَدُهُمَا وَمَنْعَهُ الْآخَرُ فَإِنْ كَانَ الْآذِنَ مِنْهُمَا الْأَبُ وَالْمَانِعَ الْأُمُّ مَضَى فِي حَجِّهِ وَلَمْ يَتَحَلَّلْ، وَإِنْ كَانَ الْمَانِعَ الْأَبُ وَالْآذِنَ الْأُمُّ كَانَ لَهُ مَنْعُهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَيْسَ لِأَبَوَيْهِ وَلَا لِأَحَدُهُمَا مَنْعُهُ مِنَ التَّطَوُّعِ كَمَا لَمْ يُمْكِنْ لهما منعه من الفروض؛ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ قَدْ صَارَ لَازِمًا فِيهِ كَالْفَرْضِ، وَهَذَا الْقَوْلُ نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ ".
فصل
: فأما المولى عليه بالسفه فليس لوليه أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ نَفَقَةَ حَجِّهِ وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الْإِمْلَاءِ ": لَمْ يُجْبَرْ وَلِيُّهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ شَيْئًا، وَيُقَالُ لَهُ إِنْ قَدَرْتَ عَلَى إِتْمَامِ حَجِّكَ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَكَ وَلَا لَكَ أَنْ تُحِلَّ وَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ فَلَكَ أَنْ تُحِلَّ بِمَا يُحِلُّ بِهِ الْمُحْصَرُ مِنَ الْعَدُوِّ، وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى نَفَقَةٍ هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهَا فَصَارَ كَالْمَمْنُوعِ بِإِحْصَارِ الْعَدُوِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(4/365)


باب الأيام المعلومات والأيام المعدودات
(قال الشافعي) رضي الله عنه: " والأيام المعلومات العشر وآخرها يوم النحروالمعدودات ثلاثة أيامٍ بعد النحر (قال المزني) سماهن الله عزوجل باسمين مختلفين وأجمعوا أن الاسمين لم يقعا على أيامٍ واحدةٍ وإن لم يقعا على أيامٍ واحدةٍ فأشبه الأمرين أن تكون كل أيامٍ منها غير الأخرى كما أن اسم كل يومٍ غير الآخر وهو ما قال الشافعي عندي (قال المزني) فإن قيل لو كانت المعلومات العشر لكان النحر في جميعها فلما لم يجز النحر في جميعها بطل أن تكون المعلومات فيها يقال له قال الله عز وجل {سَبْع سَمَوَاتٍ طِبَاقاً، وَجَعَلَ القَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} وليس القمر في جميعها وإنما هو في واحدها أفيبطل أن يكون القمر فيهن نوراً كما قال الله جل وعز في ذلك دليلٌ لما قال الشافعي وبالله التوفيق ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ أَيَّامًا مَعْلُومَاتٍ، وَأَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ) {الحج: 28) وَقَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ) {البقرة: 203) فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمَعْلُومَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَنَّ الْأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ الْعَشْرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ آخِرُهَا يَوْمُ النَّحْرِ، وَالْأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةُ وَهِيَ الْحَادِي عَشَرَ، وَالثَّانِي عَشَرُ، وَالثَّالِثَ عَشَرَ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَوْمُ النَّحْرِ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ الْمَحْضَةِ دُونَ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْعَشْرِ، وَالْيَوْمُ الثَّالِثَ عَشَرَ وَهُوَ آخَرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مِنَ الْمَعْدُودَاتِ الْمَحْضَةِ وَالْيَوْمُ الْحَادِي عَشَرَ، وَالثَّانِي عَشَرَ مُشْتَرِكَانِ فِي الْمَعْلُومَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ الْمَحْضَةِ، وَالْيَوْمُ الثَّانِي عَشَرَ وَالثَّالِثَ عَشَرَ مِنَ الْمَعْدُودَاتِ الْمَحْضَةِ وَالْيَوْمُ الْحَادِي عَشَرَ مُشْتَرِكٌ فِي الْمَعْلُومَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ وَاسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللهِ فِي أيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ) {الحج: 28) .

(4/366)


قَالَ مَالِكٌ: فَلَمَّا جَعَلَ التَّسْمِيَةَ عَلَى بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ وَذَلِكَ فِي يَوْمِ النَّحْرِ دُونَ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْعَشْرِ دَلَّ عَلَى أَنَّ مَا قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ لَيْسَ مِنْهَا.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَمَّا قَالَ: {لِيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ) {الحج: 28) يَعْنِي: الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ دَلَّ عَلَى أَنَّ يَوْمَ عَرَفَةَ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ وَمَا قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ لَيْسَ مِنْهَا.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا: هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَهُمَا بِاسْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ الْمُسَمَّيْنِ، وَإِذَا اخْتَلَفَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِكَا فَإِذَا انْفَرَدَا وَلَمْ يَشْتَرِكَا ثَبَتَ قَوْلُنَا؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَفْرَدَهُمَا جَعَلَ الْعَشْرَ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ، وَأَيَّامَ التشريق من المعدودات وقال تعالى: {وَالفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) {الفجر: 3) قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: " وليالٍ عشرٍ " يعني: عشر ذي الحجة " والشفع " يعني: يوم النحر والوتر يعني يوم عرفة فلما جعل في الْعَشْرِ الَّتِي شَرَّفَهَا وَأَقْسَمَ بِهَا يَوْمَ النَّحْرِ وَعَرَفَةَ وَهُمَا مِنَ الْمَعْلُومَاتِ عَلِمَ أَنَّ مَا دَخَلَا فِيهِ مِنَ الْعَشْرِ كُلِّهِ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ وروى ابن أبي حسين بن جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " كُلُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذبحٌ " وَمَالِكٌ يَمْنَعُ مِنَ الذَّبْحِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَلِأَنَّ يَوْمَ الْحَادِيَ عَشَرَ يَوْمٌ يُسَنُّ فِيهِ رَمْيُ الْجَمَرَاتِ الثلاث فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ كَالثَّالِثَ عَشَرَ، وَلِأَنَّ مَا دَخَلَ فِي أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ انْتَفَى عَنِ الْآخَرِ كَالْعَاشِرِ لَمَّا دَخَلَ فِي الْمَعْلُومَاتِ انْتَفَى عَنِ الْمَعْدُودَاتِ وَكَالثَّالِثَ عَشَرَ لَمَّا دَخَلَ فِي الْمَعْدُودَاتِ انْتَفَى عَنِ الْمَعْلُومَاتِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يُضَافُ إِلَى الْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَ يَقَعُ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ كَمَا قال تعالى: {سَبْع سَمَواِتٍ طِبَاقاً وجَعَلَ القَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) {نوح: 16) وَلَيْسَ الْقَمَرُ في جَمِيعَهَا وَإِنَّمَا هُوَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) (البقرة: 197) وَلَيْسَ الْحَجُّ فِي جَمِيعِهَا وَإِنَّمَا هُوَ فِي بَعْضِهَا وَكَمَا يُقَالُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَلَيْسَتِ الْجُمُعَةُ تُقَامُ فِي جَمِيعِ الْيَوْمِ وَإِنَّمَا تُقَامُ فِي بَعْضِهِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَ الذِّكْرَ عَلَى الْبَهِيمَةِ إِلَى الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ وَالذِّكْرُ عِنْدَنَا يَقَعُ فِي جَمِيعِ الْعَشْرِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا سَاقَ الْهَدْيَ وَسَمَّى اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَكَبَّرَ مِنْ أَوَّلِ الْعَشْرِ عَلَى مَا فَعَلَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَجَرَى بِهِ الْعَمَلُ فَأَمَّا الْمَنَافِعُ الَّتِي أَرَادَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) {الحج: 28) فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: إِنَّهَا الْمَوَاقِفُ وَقَضَاءُ الْمَنَاسِكِ.
وَالثَّانِي: إِنَّهَا الْمَغْفِرَةُ.

(4/367)


والثالث: إنها التجارة.
فإن قيل فلما ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ؛ قِيلَ: لأم عَلِمَهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَمَّى الْمَعْلُومَاتِ بِهَذَا الِاسْمِ؛ لِأَنَّ مَا عُلِمَ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ يَقَعُ فِيهَا كَالتَّعْرِيفِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَالرَّمْيِ وَالنَّحْرِ وَالطَّوَافِ يَوْمَ النَّحْرِ كَمَا أَنَّ الْحَجَّ أَشْهَرٌ مَعْلُومَاتٌ مِنْ أَجْلِ مَا عُلِمَ فِيهِنَّ مِنَ الْحَجِّ وَسَمَّى الْمَعْدُودَاتِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ؛ لِأَنَّهَا أَيَّامٌ مَعْدُودَةٌ مُسْتَوِيَةُ الْأَحْكَامِ فِي الرَّمْيِ وَالتَّلْبِيَةِ وَالنَّحْرِ، فَإِنْ قِيلَ فَيَوْمُ النَّحْرِ يَقَعُ فِيهِ النَّحْرُ قِيلَ لَمْ يَقَعْ فِيهِ لِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا وَقَعَ فيه؛ لأنه يقع لِمَا يَتَعَلَّقُ الْإِحْلَالُ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَإِنْ قِيلَ أَيُّ الْأَيَّامِ أَشْرَفُ الْمَعْلُومَاتُ أَوِ الْمَعْدُودَاتُ؟ قيل المعلومات أشرف لقوله تعالى: {وَالفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ) {الْفَجْرِ: 1) وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّحْمِيدِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ إِلَّا الْمُعَفَّرُ في التراب ".

(4/368)