الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

باب بيع اللحم بالحيوان
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ وَعَنِ ابْنِ عباس أن جزورا نحرت على عهد أبي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجَاءَ رَجُلٌ بِعَنَاقٍ فَقَالَ أَعْطُونِي جُزْءًا بِهَذِهِ الْعَنَاقِ فَقَالَ أَبُو بكر لا يصلح هذا وكان القاسم بن محمد وابن المسيب وعروة بن الزبير وأبو بكر بن عبد الرحمن يحرمون بيع اللحم بالحيوان عاجلا وآجلا يعظمون ذلك ولا يرخصون فيه (قال) وبهذا نأخذ كان اللحم مختلفا أو غير مختلف ولا نعلم أحدا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خالف في ذلك أبا بكر وإرسال ابن المسيب عندنا حسن (قال المزني) إذا لم يثبت الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فالقياس عندي أنه جائز وذلك أنه كان فصيل بجزور قائمين جائزا ولا يجوزان مذبوحين لأنهما طعامان لا يحل إلا مثلا بمثل فهذا لحم وهذا حيوان وهما مختلفان فلا بأس به في القياس إن كان فيه قول متقدم ممن يكون بقوله اختلاف إلا أن يكون الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثابتا فيكون ما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي التَّابِعِينَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ بن سعيد وَالْأَوْزَاعِيِّ.
وَقَالَ أبو حنيفة، وأبو يوسف: بَيْعُهُ جائز بكل حال، وقال محمد بن الحسين: يَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ إِذَا كَانَ اللَّحْمُ مِنْ لَحْمِ الْحَيَوَانِ؛ لِيَكُونَ فَاضِلَ اللَّحْمِ فِي مُقَابِلِهِ الْجِلْدِ وَالْعَظْمِ، فَإِنْ كَانَ بِمِثْلِهِ أَوْ أَقَلَّ لَمْ يَجُزْ.
وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: يَجُوزُ بَيْعُهُ بِكُلِّ حَالٍ قِيَاسًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ فِيهِ ثَابِتًا، وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَجَازَهُ بِأَنَّ اللَّحْمَ فِيهِ الرِّبَا وَالْحَيَوَانَ لَيْسَ فِيهِ رِبًا، وَبَيْعُ مَا فِيهِ الرِّبَا بِمَا لَا رِبَا فِيهِ جَائِزٌ كَبَيْعِ اللَّحْمِ بِالْجِلْدِ، وَلِأَنَّ مَا فِيهِ الرِّبَا بِعِلَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بالآخر، فبأن يَجُوزَ بَيْعُ مَا فِيهِ الرِّبَا بِمَا لَا رِبَا فِيهِ أَوْلَى.
وَلِأَصْحَابِنَا فِي الدَّلِيلِ عَلَى المسألة طريقان:

(5/157)


أَحَدُهُمَا: اتِّبَاعُ السُّنَّةِ وَالْأَثَرِ دُونَ الْقِيَاسِ وَالنَّظَرِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ.
فَإِنْ قِيلَ فَحَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلٌ وَالْمَرَاسِيلُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَتْ حُجَّةً قِيلَ أَمَّا مَرَاسِيلُ غَيْرِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فَلَيْسَتْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِانْفِرَادِهَا حُجَّةً، وَأَمَّا مَرَاسِيلُ سَعِيدٍ فَقَدْ حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ أَخَذَ بِهَا فِي الْقَدِيمِ وَجَعَلَهَا عَلَى انْفِرَادِهَا حُجَّةً، وَإِنَّمَا خُصَّ سَعِيدٌ بِقَبُولِ مَرَاسِيلِهِ، لِأُمُورٍ مِنْهَا أَنَّ سَعِيدًا لَمْ يُرْسِلْ حَدِيثًا قَطُّ إِلَّا وُجِدَ مِنْ طَرِيقِ غَيْرِهِ مُسْنَدًا، وَمِنْهَا أَنَّهُ كَانَ قَلِيلَ الرِّوَايَةِ لَا يَرْوِي أَخْبَارَ الْآحَادِ وَلَا يُحَدِّثُ إِلَّا بِمَا سَمِعَهُ عَنْ جَمَاعَةٍ أَوْ عَضَّدَهُ قَوْلُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، أَوْ رَآهُ مُنْتَشِرًا عِنْدَ الْكَافَّةِ، أَوْ وَافَقَهُ فِعْلُ أَهْلِ الْعَصْرِ، وَمِنْهَا أَنَّ رِجَالَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ الَّذِينَ أَخَذَ مِنْهُمْ وَرَوَى عَنْهُمْ هُمْ أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ وَلَيْسَ كَغَيْرِهِ الَّذِي يَأْخُذُ عَمَّنْ وَجَدَ، وَمِنْهَا أَنَّ مراسيل سعيد سيرت فكانت مَأْخُوذَةً عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَكَانَ يُرْسِلُهَا لِمَا قَدْ عَرَفَهُ النَّاسُ مِنَ الْأُنْسِ بَيْنَهُمَا وَالْوَصْلَةِ، وَإِنَّ سَعِيدًا كَانَ صِهْرَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى ابْنَتِهِ فَصَارَ إِرْسَالُهُ كَإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، ومذهب الشافعي في الجديد: أنه مُرْسَلَ سَعِيدٍ وَغَيْرِهِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ مُرْسَلُ سَعِيدٍ عِنْدَنَا حَسَنٌ لِهَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي وَصَفْنَا اسْتِئْنَاسًا بِإِرْسَالِهِ ثُمَّ اعْتِمَادًا عَلَى مَا قَارَبَهُ مِنَ الدَّلِيلِ، فَيَصِيرُ الْمُرْسَلُ حِينَئِذٍ مَعَ مَا قَارَبَهُ حُجَّةً، وَالَّذِي يَصِيرُ بِهِ الْمُرْسَلُ حُجَّةً أَحَدَ سَبْعَةِ أَشْيَاءَ: إِمَّا قِيَاسٌ أَوْ قَوْلُ صَحَابِيٍّ، وَإِمَّا فِعْلُ صَحَابِيٍّ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَإِمَّا أَنْ يَنْتَشِرَ فِي النَّاسِ مِنْ غَيْرِ دَافِعٍ لَهُ وَإِمَّا أَنْ يَعْمَلَ بِهِ أَهْلُ الْعَصْرِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يُوجَدَ دَلَالَةٌ سِوَاهُ، وَقَدِ اتَّصَلَ بِمُرْسَلِ سَعِيدٍ هَذَا أَكْثَرُ هَذِهِ السَّبْعَةِ فَمِنْ ذَلِكَ إِسْنَادُ غَيْرِهِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ سَمُرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِثْلَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ الْأَثَرُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ عباس أن جزورا نحرت على عهد أبي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجَاءَ رَجُلٌ بِعَنَاقٍ فَقَالَ أَعْطُونِي جَزُورًا بِهَذِهِ الْعَنَاقِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لَا يَصْلُحُ هَذَا فَكَانَ قَوْلُ أَبِي بكر مع انتشاره في الناس عدم معارض له وحصول العمل به دليلا وكيدا فِي لُزُومِ الْأَخْذِ بِهِ، فَإِنْ قِيلَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَزُورُ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَنَعَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ بَيْعِهِ بِالْعَنَاقِ. قِيلَ هَذَا تَأْوِيلٌ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مَحْمُولًا عَلَيْهِ لِأَنَّ إِبِلَ الصَّدَقَةِ إنما تتخذ لإطعام الفقراء فلا جَائِزٍ أَنْ يَنْسِبَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أَوْ مَنْ عَاصَرَهُمْ إِلَى أَنَّهُ الْتَمَسَ ابْتِيَاعَ شَيْءٍ مِنْهُ لِعَنَاقٍ وَلَا غَيْرِهِ مَعَ ظُهُورِ الْحَالِ بِحُضُورِ أَبِي بَكْرٍ وَلَمَّا كَانَ نَقْلُ الْحَالِ مُفِيدًا فَإِنَّمَا يُفِيدُ نَقْلُهَا فِيمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لَا سِيَّمَا مَعَ إِطْلَاقِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْحُكْمَ ونقل السبب

(5/158)


وَالطَّرِيقُ الثَّانِيَةُ لِأَصْحَابِنَا فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ وَالنَّظَرِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ السُّنَّةِ وَالْأَثَرِ هُوَ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ فِيهِ الرِّبَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبَاعَ بِأَصْلِهِ الَّذِي فِيهِ مِنْهُ كَالدِّبْسِ بِالتَّمْرِ، وَالشَّيْرَجِ بِالسِّمْسِمِ، وَلِأَنَّ كُلَّ جِنْسٍ فِيهِ الرِّبَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ مَا زَالَ عَنْ حَالِ الْبَقَاءِ بِأَصْلِهِ الَّذِي هُوَ عَلَى حَالِ الْبَقَاءِ كَالدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ وَكَذَا اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ بِأَنَّهُ يَبِيعُ مَا فِيهِ الرِّبَا بِمَا لَا رِبَا فِيهِ كَاللَّحْمِ بِالْجِلْدِ فَهُوَ أَنَّ الْجِلْدَ لَيْسَ فِيهِ لَحْمٌ فَلِذَلِكَ جَازَ بَيْعُهُ بِاللَّحْمِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحَيَوَانُ لِأَنَّ فِيهِ لَحْمًا كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ لُبِّ الْجَوْزِ بِالْجَوْزِ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ بِقُشُورِ الْجَوْزِ وَبِمِثْلِهِ يُجَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ الْآخَرِ.

فَصْلٌ:
فَإِنْ صَحَّ مَا ذَكَرْنَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْحَيَوَانِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَأْكُولًا أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ فَإِنْ كَانَ مَأْكُولًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِاللَّحْمِ بِحَالٍ سَوَاءٌ كَانَ اللَّحْمُ مِنْ جِنْسِهِ كَلَحْمِ الْغَنَمِ بِالْغَنَمِ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ كَلَحْمِ الطَّيْرِ بِالْغَنَمِ وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بَيْعُ لَحْمِ الْجَزُورِ بِالْعُصْفُورِ، وَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ بِالسَّمَكِ وَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي السَّمَكِ هَلْ هُوَ صِنْفٌ مِنَ اللَّحْمِ أَمْ لَا؟ وَفِي جَوَازِ بِيعِ اللَّحْمِ بِالسَّمَكِ الْحَيِّ أَيْضًا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَحْمٌ لِحَيَوَانٍ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ حَيَّ السَّمَكِ فِي حُكْمِ مَيِّتِهِ بِخِلَافِ الْحَيَوَانِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْحَيَوَانُ غَيْرَ مَأْكُولٍ كَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ فَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ بِاللَّحْمِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِعُمُومِ النَّهْيِ، وَبِهِ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ زَعَمَ أَنَّ دَلِيلَ الْمَسْأَلَةِ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَيْسَ فِيهِ لَحْمٌ مَأْكُولٌ وَبِهَذَا قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ زَعَمَ أَنَّ دَلِيلَ الْمَسْأَلَةِ اتِّبَاعُ الْقِيَاسِ فَأَمَّا بَيْعُ الشَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ إِذَا قِيلَ إِنَّ طَرِيقَ الْمَسْأَلَةِ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ لِأَنَّ السُّنَّةَ خَصَّتِ اللَّحْمَ دُونَ الشَّحْمِ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ إِذَا قِيلَ إِنَّ طَرِيقَهَا الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ فِي الْحَيَوَانِ شَحْمًا، وَكَذَا بَيْعُ الْحَيَوَانِ بِالْكَبِدِ والطحال على هذين الوجهين ولما بَيْعُ الْحَيَوَانِ بِالْجِلْدِ وَالْعَظْمِ فَيَجُوزُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ الْجِلْدَ وَالْعَظْمَ مَا لَا رِبَا فِيهِ بِخِلَافِ اللَّحْمِ، وَكَذَا بِيعُ الْبَيْضِ بِالدَّجَاجِ يَجُوزُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعًا بِخِلَافِ اللَّحْمِ؛ لِأَنَّ اللَّحْمَ بَعْضُ الْحَيَوَانِ وَلَيْسَ الْبَيْضُ بَعْضُ الدَّجَاجِ، وَكَذَا بَيْعُ اللَّبَنِ بِالْحَيَوَانِ يَجُوزُ فَإِنْ قِيلَ: فَاللَّبَنُ عِنْدَ الْعَرَبِ لَحْمٌ رُوِيَ أَنَّ نَبِيًّا شَكَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الضَّعْفَ فَأَوْحَى إِلَيْهِ أَنْ كُلِ اللَّحْمَ بِاللَّحْمِ يَعْنِي اللَّبَنَ بِاللَّحْمِ وقال الشاعر:

(5/159)


(نطعمها اللحم إذا عز الشجر ... والجبل فِي إِطْعَامِهَا اللَّحْمَ ضَرَرْ)

يَعْنِي أَنْ تُطْعِمَهَا اللَّبَنَ عِنْدَ عِزَّةِ الْمَرْعَى فَلَمَّا كَانَ اللَّبَنُ عِنْدَ الْعَرَبِ لَحْمًا، ثُمَّ ثَبَتَ بِالشَّرْعِ أَنَّ بَيْعَ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ لَا يَجُوزُ فَلِذَا بَيْعُ اللَّبَنِ بِالْحَيَوَانِ لَا يَجُوزُ، قِيلَ: إِنَّمَا سَمَّتِ الْعَرَبُ اللَّبَنَ لَحْمًا عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ وَالْمَجَازِ، وَلَيْسَ بِلَحْمٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ، لَا فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي اللُّغَةِ، أَلَا تَرَى إِلَى جَوَازِ بَيْعِ اللَّحْمِ بِاللَّبَنِ مُتَفَاضِلًا، وَأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ لَبَنًا، وَالْأَحْكَامُ إِذَا عُلِّقَتْ بِالْأَسْمَاءِ تَنَاوَلَتِ الْحَقِيقَةَ دُونَ الْمَجَازِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(5/160)