الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

باب المحاقلة والمزابنة
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ، وَالْمُحَاقَلَةُ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ الزَّرْعَ بِمِائَةِ فَرَقٍ حِنْطَةٍ وَالْمُزَابَنَةُ أَنْ يَبِيعَ التمر في رؤوس النخل بمائة فرق تمر (قال) وعن ابن جريج قلت لعطاء ما المحاقلة؟ قال: المحاقلة في الحرث كهيئة المزابنة في النخل سواء بيْع الزرع بالقمح قال ابن جريج فقلت لعطاء أَفسر لكم جابر المحاقلة كما أخبرتني؟ قال: نعم (قال الشافعي) وبهذا نقول إلا في العرايا وجماع المزابنة أن ينظر كل ما عقد بيعه مما الفضل في بعضه على بعض يدا بيد ربا فلا يجوز منه شيء يعرف بشيء منه جزافا ولا جزافا بجزاف من صنفه.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ ثَبَتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ جَابِرٍ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَرَوَى حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُخَابَرَةِ وَالْمُعَاوَمَةِ.
وَعَنِ الثُّنْيَا وَرَخَّصَ فِي الْعَرَايَا فَأَمَّا الْمُحَاقَلَةُ فَهُوَ بَيْعُ الطَّعَامِ فِي سُنْبُلِهِ بِطَعَامٍ مُصَفًّى، وَالْمُحْقِلُ هُوَ المسنبل وَهُوَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَكُونُ الشَّيْءُ فِيهِ كَالْمَعْدِنِ وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ فِي مُحْقَلِهِ يعني في سنبله.
القول في حكم بيع المحاقلة

فإذا ثبت هذا فَبَيْعُ الطَّعَامِ فِي مُحْقَلِهِ يَعْنِي: فِي سُنْبُلِهِ بِالطَّعَامِ الْمُصَفَّى لَا يَجُوزُ لِعِلَّتَيْنِ إِحْدَاهُمَا خَوْفُ الرِّبَا لِلْجَهْلِ، وَالثَّانِيَةُ فَقْدُ مُشَاهَدَةِ مَا فِي سُنْبُلِهِ وَهَكَذَا سَائِرُ الزُّرُوعِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ الْجِنْسُ مِنْهَا قَائِمًا مِنْ زَرْعِهِ بِمَا قد صفي من جنسه، فَإِنْ كَانَ مَسْتُورًا فِي كِمَامٍ كَالْأُرْزِ وَالْعَدَسِ لَمْ يَجُزْ لِعِلَّتَيْنِ كَالْحِنْطَةِ، وَإِنْ كَانَ بَارِزَ الْأَكْمَامِ كَالشَّعِيرِ لَمْ يَجُزْ لِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ خَوْفُ الرِّبَا، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالدَّرَاهِمِ لِزَوَالِ هَذِهِ الْعِلَّةِ وَمَا حَرُمَ بَيْعُهُ لِعِلَّتَيْنِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بِالدَّرَاهِمِ لِبَقَاءِ إِحْدَى الْعِلَّتَيْنِ والله أعلم.

(5/211)


(فصل القول في بيع المزابنة)
وَأَمَّا الْمُزَابَنَةُ فَهِيَ بَيْعُ الرُّطَبِ عَلَى نَخْلِهِ بِتَمْرٍ فِي الْأَرْضِ وَالْمُزَابَنَةُ فِي كَلَامِهِمُ الْمُدَافَعَةُ وَلِهَذَا سُمُّوا زَبَانِيَةً لِأَنَّهُمْ يَدْفَعُونَ أَهْلَ النَّارِ إِلَى النَّارِ وَقَالُوا زَبَنَتِ النَّاقَةُ بِرِجْلِهَا إِذَا دَفَعَتْ. قَالَ الشَّاعِرُ:
(وَمُسْتَعْجِبٍ مِمَّا يَرَى مِنْ أَنَاتِنَا ... فَلَوْ زَبَنَتْهُ الْحَرْبُ لَمْ يَتَرَمْرَمِ)

فَسُمِّيَ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ مُزَابَنَةً لِأَنَّهُ قَدْ دَفَعَ التَّمْرَ بِالرُّطَبِ وَبَيْعُهُ لَا يَجُوزُ لِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ حُدُوثُ الرِّبَا بِعَدَمِ تَمَاثُلِهِ وَيَجُوزُ بِالدَّرَاهِمِ لِعَدَمِ هَذِهِ الْعِلَّةِ، ثُمَّ هَكَذَا بَيْعُ الْعِنَبِ فِي كَرْمِهِ بِالزَّبِيبِ لَا يَجُوزُ وَكَذَا بَيْعُ سَائِرِ الثِّمَارِ فِي شَجَرِهَا بِجِنْسِهَا يَابِسَةً، لَا يَجُوزُ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ كَانَ بَيْعُهَا غَيْرَ جَائِزٍ لِدُخُولِهَا فِي اسْمِ الْمُزَابَنَةِ أَوْ قِيَاسًا عَلَيْهَا وَهَكَذَا اخْتَلَفُوا فِي سَائِرِ الزُّرُوعِ هَلْ مُنِعَ مِنْ بَيْعِهَا بِجِنْسِهَا لِدُخُولِهَا فِي الْمُحَاقَلَةِ أَوْ قِيَاسًا عَلَيْهَا فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ بَيْعَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزِ لِدُخُولِ سَائِرِ الثِّمَارِ فِي اسْمِ الْمُزَابَنَةِ وَدُخُولُ سَائِرِ الزُّرُوعِ فِي اسْمِ الْمُحَاقَلَةِ وَكَانَ تَحْرِيمُهُ نَصًّا لَا قِيَاسًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّصَّ فِي الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ مُخْتَصٌّ بِالْحِنْطَةِ والنخل وسائر الزورع مَقِيسَةٌ عَلَى الْحِنْطَةِ فِي الْمُحَاقَلَةِ وَسَائِرُ الثِّمَارِ مَقِيسَةٌ عَلَى النَّخْلِ فِي الْمُزَابَنَةِ فَكَانَ تَحْرِيمُهُ قِيَاسًا لَا نَصًّا، وَأَمَّا الْمُخَابَرَةُ فَهُوَ اسْتِكْرَاءُ الْأَرْضِ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَلَهُ بَابٌ فَأَمَّا الْمُعَاوَمَةُ فَهُوَ فِي مَعْنَى بَيْعِ السِّنِينَ فَسَنَذْكُرُهُ وَأَمَّا بَيْعُ الثَّنَيَا فَقَدْ مَضَى وَأَمَّا الْعَرَايَا فَتَأْتِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ ".

مَسْأَلَةٌ: الضَّمَانُ فِي المحاقلة والمزابنة.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَأَمَّا أَنْ يَقُولَ أَضْمَنُ لَكَ صُبْرَتِكَ هَذِهِ بِعِشْرِينَ صَاعًا فَمَا زَادَ فَلِي وَمَا نَقَصَ فَعَلَيَّ تَمَامُهَا فَهَذَا مِنَ الْقِمَارِ وَالْمُخَاطَرَةِ وَلَيْسَ مِنَ الْمُزَابَنَةِ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أتى صبرة طعام لغيره فقال لربها أن أَضْمَنُهَا لَكَ بِعِشْرِينَ صَاعًا فَإِنْ نَقَصَ فَعَلَيَّ نُقْصَانُهَا وَإِنْ زَادَتْ فَلِي زِيَادَتُهَا أَوْ أَتَى قِرَاحًا فِيهِ بِطِّيخٌ فَقَالَ لِرَبِّهِ أَنَا أَضْمَنَهُ لَكَ بِأَلْفِ بِطِّيخَةٍ فَإِنْ زَادَتْ فَلِي وَإِنْ نَقَصَتْ فَعَلَيَّ أَوْ أَخَذَ ثَوْبًا لِرَجُلٍ فَقَالَ: أَنَا أَقْطَعُهُ لَكَ قَمِيصًا فَإِنْ نَقَصَ أَتْمَمْتُهُ وَإِنْ زَادَ أَخَذْتُ الزِّيَادَةَ فَهَذَا فَاسِدٌ وَحَرَامٌ بِاتِّفَاقٍ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي جِهَةِ فَسَادِهِ فَقَالَ مَالِكٌ: لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُزَابَنَةِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّمَا يَفْسُدُ لِأَنَّهُ مُخَاطَرَةٌ وَقِمَارٌ وَلَيْسَ بِمُزَابَنَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُزَابَنَةَ مُبَايَعَةٌ وَهَذَا موضوع على أن يدفع عنه النقصان مالا يأخذ عوضه ويأخذ عنه الزيادة مالا يُعْطِي بَدَلَهُ فَصَارَ بِالْقِمَارِ وَالْمُخَاطَرَةِ أَشْبَهَ مِنْهُ بالبيع والمزابنة والله أعلم.

(5/212)