الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

بَابُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعٍ حَاضِرٍ لِبَادٍ وَالنَّهْيِ عن تلقي السلع
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ " وَزَادَ غَيْرُ الزُّهْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ " (قال) فَإِنْ بَاعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ فَهُوَ عَاصٍ إِذَا كان عالما بالحديث ولم يفسخ لأن في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ " يتبين أن عقدة البيع جائزة ولو كانت مفسوخة لم يكن بيع حاضر لباد يمنع المشتري شيئا من فضل البيع وإنما كان أهل البوادي إذا قدموا بسلعهم يبيعونها بسوق يومهم للمؤنة عليهم في حبسها واحتباسهم عليها ولا يعرف من قلة سلعته وحاجة الناس إليها ما يعلم الحاضر فيصيب الناس من بيوعهم رزقا وإذا توكل لهم أهل القرية المقيمون تربصوا بها لأنه لا مؤنة عليهم في المقام بها فلم يصب الناس ما يكون في بيع أهل البادية ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ، دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ ".
فَكَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ يَحْمِلُونَ الْحَدِيثَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَيَمْنَعُونَ أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لَبَادٍ بِكُلِّ حَالٍ وَأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ.
وَمَنَعَ آخَرُونَ مِنَ الْبَيْعِ دُونَ الشِّرَاءِ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَتْرُوكٌ وَأَنَّ الْعَمَلَ بِهِ مَنْسُوخٌ وَأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْحَاضِرِ أَنْ يَبِيعَ لِلْبَادِي بِكُلِّ حَالٍ. وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ غَيْرُ صَحِيحٍ،

(5/346)


وَلِلْحَدِيثِ سَبَبٌ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ وَبَيَّنَهُ مِنْ أَنَّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ كَانُوا يَجْلِبُونَ السِّلَعَ فَيَبِيعُونَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهِمْ لِمَا يَلْحَقُهُمْ من المؤونة فِي حَبْسِهَا وَالْمُقَامِ عَلَيْهَا فَيَشْتَرِيهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَيُصِيبُونَ مِنْ أَثْمَانِهَا فَضْلًا إِذَا أَمْسَكُوهَا، فَعَمَدَ قَوْمٌ مِنْ سَمَاسِرَةِ الْأَسْوَاقِ فَتَرَبَّصُوا لِلْبَادِيَةِ بِأَمْتِعَتِهِمْ حَتَّى إِذَا انْقَطَعَ الْجَلَبُ بَاعُوهَا لَهُمْ بِأَوْفَرِ الْأَثْمَانِ فَشَكَى ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أو بلغه ذلك من شكوى فنهى عن غير ذَلِكَ وَقَالَ لَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ.
فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مَحْمُولًا عَلَى ظَاهِرِهِ كَمَا قَالَ أَنَسٌ وَمَنْ تَابَعَهُ فَلَا، لِمَا فِي استعمال النهي لو عم مِنَ الْإِضْرَارِ بِأَهْلِ الْبَادِيَةِ إِذَا امْتَنَعَ أَهْلُ الْحَضَرِ مِنْ بَيْعِ أَمْتِعَتِهِمْ، وَإِضْرَارِ الْحَاضِرِ مِنِ انْقِطَاعِ الْجَلَبِ مِنَ الْبَادِيَةِ فَيُفْضِي إِلَى الْإِضْرَارِ بِالْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا.
فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ رَوَى سَالِمٌ الْمَكِّيُّ أَنَّ أَعْرَابِيًّا حَدَّثَهُ أَنَّهُ أَقْدَمَ بِجَارِيَةٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَنَزَلَ عَلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ فَقَالَ: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلَكِنِ اذْهَبْ إِلَى السُّوقِ فَانْظُرْ مَنَ يُبَايِعُكَ فَشَاوِرْنِي حَتَى آمُرَكَ وَأَنْهَاكَ.
قَالُوا: فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ طَلْحَةَ عَلَى عُمُومِ النَّهْيِ. قِيلَ قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ طَلْحَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى السَّبَبِ الْمَنْقُولِ وَسَمِعَ النَّهْيَ الْمُطْلَقَ فَحَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ أَوْ يَكُونَ أَحَبَّ أَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَوَكَلَهُ إِلَى غَيْرِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَرْشَدَهُ إِلَى السُّوقِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ يَتَوَلَّى بَيْعَهَا لَهُ فِي السُّوقِ حَاضِرٌ أَيْضًا.
وأما من ترك الحديث وجعله مفسوخا فَهُوَ تَارِكٌ لِسُنَةٍ بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّهْيَ مَحْمُولٌ عَلَى السَّبَبِ الْمَذْكُورِ فَهُوَ مُخْتَصٌّ بِأَرْبَعَةِ شَرَائِطَ:
أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ لِلْبَدَوِيِّ عَزْمٌ عَلَى الْمُقَامِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُرِيدَ بَيْعَهَا فِي الْحَالِ وَلَا يُرِيدُ التَّأْخِيرَ وَالِانْتِظَارَ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَبْدَأَهُ الْحَضَرِيُّ فَيُشِيرُ عَلَيْهِ بِتَرْكِ السِّلْعَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْبَدَوِيِّ فِي ذَلِكَ رَأْيٌ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْبَلَدُ لَطِيفًا يُضَرُّ بِأَهْلِهِ حَبْسُ ذَلِكَ الْمَتَاعِ عَنْهُمْ.
فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ تَعَيَّنَ النَّهْيُ وَحَرُمَ الْبَيْعُ.
فَإِذَا خَالَفَ الْحَضَرِيُّ النَّهْيَ وَبَاعَ الْمَتَاعَ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا وَهُوَ بِالنَّهْيِ عَاصٍ إِنْ كَانَ بِالْحَدِيثِ عَالِمًا.
وَإِنَّمَا صَحَّ الْبَيْعُ لِأَنَّ النَّهْيَ لِمَعْنًى فِي الْعَاقِدِ دُونَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال:

(5/347)


" دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ "، وَلَوْ بَطَلَ الْبَيْعُ لَامْتَنَعَ الرِّزْقُ فَأَمَّا إِنْ عَدِمَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ أَوْ بَعْضُهَا:
فَإِنْ عَدِمَ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: فَإِنْ كَانَ لِلْبَدَوِيِّ عَزْمٌ عَلَى الْمُقَامِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الْحَضَرِيِّ أَنْ يَبِيعَ لَهُ لِأَنَّ الْبَدَوِيَّ قَدْ كَانَ يَحْبِسُ مَتَاعَهُ بِمُقَامِهِ لَوْ لَمْ يَحْبِسْهُ الْحَاضِرُ لَهُ.
وَإِنْ عَدِمَ الشَّرْطُ الثَّانِي وَأَرَادَ الْبَدَوِيُّ تَأْخِيرَ مَتَاعِهِ وَالِانْتِظَارَ بِهِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الْحَاضِرِ أَنْ يَبِيعَ لَهُ لِأَنَّ الْحَاضِرَ لَا صُنْعَ لَهُ في الحبس، ولأن البدوي لو لم يكن من ذلك لقطع الجلب.
وإن عَدِمَ الشَّرْطُ الثَّالِثُ فَكَانَ الْبَدَوِيُّ هُوَ الَّذِي سَأَلَ الْحَاضِرَ فِعْلَ ذَلِكَ لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الحاضر مَتَاعه لِمَا ذَكَرْنَا.
وَإِنْ عَدِمَ الشَّرْطُ الرَّابِعُ وَكَانَ الْبَلَدُ وَاسِعًا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَحْرُمُ بَيْعُهُ عَلَى الْحَاضِرِ لِعُمُومِ النَّهْيِ.
وَالثَّانِي: لَا يَحْرُمُ لِأَنَّ حَبْسَ الْحَاضِرِ لَهُ وَتَأْخِيرَ بَيْعِهِ لَا يَضُرُّ بِالنَّاسِ وَلَا يَمْنَعُهُمُ الرِّزْقَ وَلَا فَرْقَ فِي النَّهْيِ الْمَذْكُورِ بَيْنَ الْبَادِيَةِ وَبَيْنَ الْأَكْرَادِ فِي جَلَبِ الْأَمْتِعَةِ وَبَيْنَ سَائِرِ أَهْلِ السَّوَادِ وَالرُّسْتَاقِ وَأَهْلِ الْبَحَارِ فِي أَنَّ النَّهْيَ يَعُمُّ جَمِيعَهُمْ فِي تَرَبُّصِ أَهْلِ الْحَضَرِ بِأَمْتِعَتِهِمْ. (والله أعلم بالصواب) .

مسألة:
وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا تتلقوا الرُّكْبَانَ لِلْبَيْعِ " (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَسَمِعْتُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ " فَمَنْ تَلَقَّاهَا فَصَاحِبُ السِّلْعَةِ بِالْخِيَارِ بَعْدَ أن يقدم السوق " (قال) وبهذا نأخذ إن كان ثابتا وهذا دليل أن البيع جائز غير أن لصاحبها الخيار بعد قدوم السوق لأن شراءها من البدوي قبل أن يصير إلى موضع المتساومين من الغرر بوجه النقص من الثمن فله الخيار ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. وَالْأَصْلُ فِيهِ رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لا تلقوا الركبان للبيع ".
قال الماوردي: رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَا تَلَقَّوا الْجَلَبَ فَمَنْ تَلَقَّاهُ فَاشْتَرَى مِنْهُ شَيْئًا فَإِذَا أَتَى بَائِعُهُ السُّوقَ فَهُوَ بالخيار.
فعلى هَذَانِ الْخَبَرَانِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ لِابْتِيَاعِ أَمْتِعَتِهِمْ قَبْلَ قُدُومِ الْبَلَدِ.

(5/348)


فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ نَهَى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ ذَلِكَ وَمَنَعَ مِنْهُ. فَقَالَ جُمْهُورُهُمْ: إِنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ قَوْمًا بِالْمَدِينَةِ كَانُوا يَتَلَقَّوْنَ الركبان إذا وردت بالأمتعة فيخبرونهم برخص الأمعتة وَكَسَادِهَا وَيَبْتَاعُونَهَا مِنْهُمْ بِتِلْكَ الْأَسْعَارِ، فَإِذَا وَرَدَ أَرْبَابُ الْأَمْتِعَةِ الْمَدِينَةَ شَاهَدُوا زِيَادَةَ الْأَسْعَارِ وَكَذِبِ مَنْ تَلَقَّاهُمْ بِالْأَخْبَارِ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى انْقِطَاعِ الرُّكْبَانِ وَعُدُولِهِمْ بِالْأَمْتِعَةِ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْبُلْدَانِ فنهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ تَلَقِّيهِمْ نَظَرًا لَهُمْ، وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْخَدِيعَةِ الْمُجَانِبَةِ لِلدِّينِ، كَمَا نَهَى أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لَبَادٍ نَظَرًا لِأَهْلِ الْبَلَدِ لِتَعُمَّ الْمَصْلَحَةُ بِالْفَرِيقَيْنِ بِالنَّظَرِ لَهُمَا.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمَعْنَى فِي النَّهْيِ عَنْ تَلَقِّيهِمْ أَنَّ مَنْ كَانَ يَبْتَاعُهَا مِنْهُمْ يَحْمِلُهَا إِلَى مَنْزِلِهِ وَيَتَرَبَّصُ بِهَا زِيَادَةَ السِّعْرِ، فَلَا يَتَّسِعُ عَلَى أَهْلِ المدينة ولا ينالون نقصا مِنْ رُخْصِهَا فَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ لِلْبَيْعِ حَتَّى تَرِدَ أَمْتِعَتُهُمُ السُّوقَ فَتَجْتَمِعَ فِيهِ وَتَرْخُصَ الْأَسْعَارُ بِكَثْرَتِهَا فَيَنَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ نَفْعًا بِرُخْصِهَا، فَيَكُونُ هَذَا النَّهْيُ نَظَرًا لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ أَيْضًا كَمَا نَهَى أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لَبَادٍ نَظَرًا لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَاللَّهُ أعلم.

فصل:
وإذا صح ما ذكرنا معنى النهي فتلقى قوم الركبان قَبْلَ وُرُودِ الْبَلَدِ فَابْتَاعُوا أَمْتِعَتَهُمْ، ثُمَّ وَرَدَ أرباب الأمتعة وباعتها البلد فإذا أغبنهم فَلَهُمُ الْخِيَارُ فِي إِمْضَاءِ بَيْعِهِمِ الْمَاضِي أَوْ فَسْخِهِ لِقَوْلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: فَإِذَا أَتَى بَائِعُهُ الَّسَّوْقَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ.
وَاسْتَدْرَكَ بِالْفَسْخِ إِزَالَةَ مَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْخِيَارِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خِيَارُ عَيْبٍ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى النَّهْيِ عَنْ تَلَقِّيهِمْ مَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الْغَبْنِ بِاسْتِرْخَاصِ أَمْتَعَتِهِمْ، فَعَلَى هَذَا لَوْ لَمْ يُغْبَنُوا فِي بَيْعِهَا وَأُخْبِرُوا بِالْأَسْعَارِ عَلَى صِدْقِهَا وَكَانَ سِعْرُ الْعَسَلِ بِالْبَلَدِ عَشَرَةَ أَمْنَاءٍ بِدِينَارٍ فَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّ سِعْرَهُ كَذَلِكَ فَلَا خِيَارَ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَلْحَقْهُمْ غَبْنٌ فِي بَيْعِهِمْ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُمُ الْخِيَارُ إِذَا أَخْبَرُوهُمْ وَالسِّعْرُ عَشْرَةُ أَمْنَاءٍ بِدِينَارٍ وَأَنَّهُ يُسَاوِي أَحَدَ عَشَرَ مَنًّا بِدِينَارٍ فَيَكُونُوا بِالْخِيَارِ لِأَجْلِ الْغَبْنِ.
وَالثَّانِي: لَهُمُ الْخِيَارُ اعْتِبَارًا بِوُجُوبِهِ فِي ابْتِدَاءِ الْحَالِ.
ثُمَّ يَكُونُ هَذَا الْخِيَارُ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْفَوْرِ لِأَنَّهُ خِيَارُ عَيْبٍ، فَمَتَى أَمْكَنَهُمُ الْفَسْخُ بَعْدَ قُدُومِ الْبَلَدِ فَلَمْ يَفْسَخُوا سَقَطَ.
وَالْوَجْهُ الثاني: في الأصل أن هذا الخير خِيَارُ شَرْعٍ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ معنى النهي عن تلقي الركبان أن تجتمع الْأَمْتِعَةُ فِي الْبَلَدِ فَتَرْخُصُ عَلَى أَهْلِهِ، فَعَلَى هَذَا ثَبَتَ الْخِيَارُ لِأَرْبَابِ الْأَمْتِعَةِ سَوَاءً غُبِنُوا فِي بَيْعِهَا أَمْ لَا، صَدَقُوهُمْ فِي الْأَسْعَارِ أَمْ كَذَبُوهُمْ.
وَفِي زَمَانِ الْخِيَارِ عَلَى هَذَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ كَالْعَيْبِ فَإِنْ تَرَكَ الْفَسْخَ مَعَ الْإِمْكَانِ سَقَطَ.

(5/349)


وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُمْتَدٌّ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَالْمُصَرَّاةِ.
فَلَوْ وَرَدَ أَرْبَابُ الْأَمْتِعَةِ الْبَلَدَ فَتَلَقَّاهُمْ قَوْمٌ قَبْلَ حُصُولِهِمْ فِي السُّوقِ وَمَعْرِفَتِهِمْ بِالْأَسْعَارِ فَابْتَاعُوا أَمْتِعَتَهُمْ وَكَذَبُوهُمْ فِي أَسْعَارِهَا فَلَا خِيَارَ لِأَرْبَابِ الْأَمْتِعَةِ فِي الْفَسْخِ. لِأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى تَعَرُّفِ الْأَسْعَارِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَلِأَنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ قَدْ شَاهَدُوا حُصُولَ أَمْتِعَتِهِمْ فَلَوْ خَرَجَ قوم عن البلد لحاجة لَهُمْ وَلَمْ يَقْصِدُوا تَلَقِّي الرُّكْبَانِ، فَوَجَدُوا الرُّكْبَانَ قَدْ أَقْبَلَتْ بِالْأَمْتِعَةِ فَأَرَادُوا أَنْ يَبْتَاعُوا مِنْهُمْ شَيْئًا مِنْهَا مِنْ غَيْرِ كَذِبٍ فِي إِخْبَارِهِمْ بِأَسْعَارِهَا فَفِي إِبَاحَةِ ذَلِكَ لَهُمْ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ لَهُمْ. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى النَّهْيِ مَا يَلْحَقُ أَرْبَابُ الأمتعة من الاسترخاص من أصحاب الركبان من الغبن.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لَهُمْ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ حُصُولُ الْأَمْتِعَةِ أن ذلك محظور عليهم وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى النَّهْيِ عن تلقيهم كثرة الْأَمْتِعَةِ فِي الْبَلَدِ لِيَرْخُصَ عَلَى أَهْلِهِ، وَاللَّهُ أعلم.

(5/350)


بَابُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ وَعَنْ سَلَفٍ جر منفعة وتأخير الحق
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَذَلِكَ أَنَّ من سنته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن تكون الأثمان معلومة والبيع معلوم فَلَمَّا كُنْتُ إِذَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ دَارًا بِمِائَةٍ عَلَى أَنْ أُسَلِّفَكَ مِائَةً كُنْتُ لَمْ أَشْتَرِهَا بِمَائَةٍ مُفْرَدَةٍ وَلَا بِمِائَتَيْنِ وَالْمِائَةُ السَّلَفُ عَارِيَّةٌ لَهُ بِهَا مَنْفَعَةٌ مَجْهُولَةٌ وَصَارَ الثَّمَنُ غَيْرَ مَعْلُومٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ رَوَى الْحِجَازِيُّونَ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ، وَرَوَى الْعِرَاقِيُّونَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَقَرْضٍ وَالسَّلَفُ هُوَ الْقَرْضُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ. فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَا خَبَرَيْنِ قالهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِلُغَتَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا وَاحِدًا رَوَاهُ الْحِجَازِيُّونَ بِلُغَتِهِمْ وَرَوَاهُ الْعِرَاقِيُّونَ بِلُغَتِهِمْ، وَمِثْلُ هَذَا يَجُوزُ الرِّوَايَةُ إِذَا كَانَ مَعْنَى اللَّفْظِ جَلِيًّا وَالِاحْتِمَالُ عَنْهُ مُنْتَفِيًا.
وَلَيْسَ هَذَا الْخَبَرُ مَحْمُولًا عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّ الْبَيْعَ بِانْفِرَادِهِ جَائِزٌ، وَالْقَرْضَ بِانْفِرَادِهِ جَائِزٌ وَاجْتِمَاعَهُمَا مَعًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ جَائِزٌ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالنَّهْيِ بَيْعٌ شُرِطَ فِيهِ قَرْضٌ. وَصُورَتُهُ: أَنْ يَقُولَ قَدْ بِعْتُكَ عَبْدِي هَذَا بِمِائَةٍ عَلَى أَنْ تُقْرِضَنِي مائة، وهذا بَيْعٌ بَاطِلٌ وَقَرْضٌ بَاطِلٌ لِأُمُورٍ مِنْهَا: نَهْيُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْهُ.
وَمِنْهَا نَهْيُهُ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ. وَمِنْهَا نَهْيُهُ عَنْ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً.
وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْمَعْنِيِّ الْمُفْضِي إِلَى جَهَالَةِ الثَّمَنِ، وَذَاكَ أَنَّ الْبَائِعَ إِذَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ قَرْضًا صَارَ بَائِعًا سِلْعَتَهُ بِالثَّمَنِ الْمَذْكُورِ وَبِمَنْفَعَةِ الْقَرْضِ الْمَشْرُوطِ فَلَمَّا لَمْ يَلْزَمِ الشَّرْطَ سَقَطَتْ مَنْفَعَتُهُ مِنَ الثَّمَنِ، وَالْمَنْفَعَةُ مَجْهُولَةٌ، فَإِذَا سَقَطَتْ مِنَ الثَّمَنِ أَفْضَتْ إِلَى جَهَالَةٍ نَافِيَةٍ وَجَهَالَةُ الثَّمَنِ مبطلة للعقد.

(5/351)


وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا يَجُوزُ شِرَاءٌ وَقَرْضٌ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: قَدِ اشْتَرَيْتُ عَبْدَكَ هَذَا بِمِائَةٍ عَلَى أَنْ تُقْرِضَنِي مِائَةً، فَهَذَا شَرْطٌ بَاطِلٌ وَقَرْضٌ بَاطِلٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَى. وَكَذَا لَا تَجُوزُ الْإِجَازَةُ بِشَرْطِ الْقَرْضِ.

مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا خَيْرَ فِي أَنْ يُسَلِّفَهُ مَائَةً عَلَى أَنْ يقْبضهُ خَيْرًا مِنْهَا وَلَا عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ إِيَّاهَا فِي بَلَدِ كَذَا، وَلَوْ أَسْلَفَهُ إِيَّاهَا بِلَا شَرْطٍ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْكُرَهُ فيقضيه خيرا منها ".
قال الماوردي: وهذا صحيح أَمَّا الْقَرْضُ فَإِنَّمَا سُمِّيَ قَرْضًا لِأَنَّ الْمُقْرِضَ يَقْطَعُ قِطْعَةً مِنْ مَالِهِ فَيَدْفَعُهَا إِلَى الْمُقْتَرِضِ. وَالْقَطْعُ فِي كَلَامِهِمْ هُوَ الْقَرْضُ فَلِذَلِكَ قِيلَ: ثوب مقروض أي مقطوع، وسمي الْمِقْرَاضُ مِقْرَاضًا لِأَنَّهُ يَقْطَعُ.
وَالْقَرْضُ مَعُونَةٌ وَإِرْفَاقٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ وَإِبَاحَتِهِ: مَا رَوَى عَطَاءٌ عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اقْتَرَضَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا فَرَدَّ رَبَاعِيًّا وَقَالَ: خِيَارُ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً. وَرَوَى إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: اسْتَقْرَضَ مِنِّي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْبَعِينَ أَلْفًا ثُمَّ أَتَى بِمَالٍ فَقَالَ: ادْعُوا لِيَ ابْنَ أَبِي رَبِيعَةَ فَقَالَ: هَذَا مَالُكَ فَبَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي مَالِكَ وَوَلَدِكَ إِنَّمَا جَزَاءُ السَّلَفِ الْحَمْدُ وَالْوَفَاءُ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اقْتَرَضَ مِنْ رَجُلٍ صَاعًا فَرَدَّ عَلَيْهِ صَاعَيْنِ. وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً. فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ إِذَا لَمْ يَجُرَّ مَنْفَعَةً.
فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْقَرْضِ فَهُوَ إِنَّمَا يَجُوزُ فِي الْأَمْوَالِ الْمَنْقُولَةِ، فَأَمَّا مَا لَا يُنْقَلُ مِنَ الدُّورِ وَالْعَقَارِ وَالضِّيَاعِ فَلَا يَجُوزُ قَرْضُهَا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِيهَا، وَإِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِإِعَارَتِهَا، وَإِنَّ ثُبُوتَهَا فِي الذِّمَمِ لَا يَصِحُّ. فَأَمَّا الْأَمْوَالُ الْمَنْقُولَةُ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: مَا كَانَ لَهُ مِثْلٌ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ فَقَرْضُ هَذَا يَصِحُّ وَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى مُقْتَرِضِهِ بِمِثْلِهِ وَصِفَتِهِ وَقَدْرِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَا مِثْلَ لَهُ وَلَكِنْ يُضْبَطُ بِالصِّفَةِ كَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ فَقَرْضُ ذَلِكَ جَائِزٌ إِلَّا الْجَوَارِي فَإِنَّ قَرْضَهُنَّ لَا يَجُوزُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وَبِمَاذَا يَصِيرُ هَذَا الضَّرْبُ مَضْمُونًا عَلَى مُقْتَرِضِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ كَالْمَغْصُوبِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ.

(5/352)


وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ لِأَنَّهُ يَصِحُّ ثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّةِ إِذَا وُصِفَ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اقْتَرَضَ حَيَوَانًا فَرَدَّ حَيَوَانًا.
وَلِأَنَّ الْقَرْضَ إِرْفَاقٌ وَمَعُونَةٌ فَبَايَنَ حُكْمُ الْمَغْصُوبِ بِالْمُفَاضَلَةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا لَا مِثْلَ لَهُ وَلَا يُضْبَطُ بِالصِّفَةِ كَاللُّؤْلُؤِ وَالْجَوْهَرِ وَالْمَعْجُونَاتِ مِنْ طِيبٍ أَوْ دَوَاءٍ وَالْخُبْزِ وَالْبُرِّ الْمُخْتَلِطِ بِالشَّعِيرِ فَهَذَا وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ فِي جَوَازِ قَرْضِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ قَرْضَهُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَا يُضْبَطُ بِمِثْلٍ وَلَا صِفَةٍ فَلَمْ يَصِحَّ اسْتِقْرَارُهُ فِي الذِّمَّةِ كَالسَّلَمِ.
فَتَكُونُ الْعِلَّةُ فِيمَا يَصِحُّ قَرْضُهُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ يَصِحُّ فِيهِ السَّلَمُ، وَمَا لَا يَصِحُّ قَرْضُهُ هُوَ مَا لَا يَصِحُّ فِيهِ السَّلَمُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّ قَرْضَهُ جَائِزٌ لِأَنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ، وَجَعَلُوا الْعِلَّةَ فِيمَا يَجُوزُ قَرْضُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى مُقْتَرِضِهِ بِالْقِيمَةِ وَجْهًا وَاحِدًا.
وَفِي اعْتِبَارِ زَمَانِ مَا ضُمِنَ مِنَ الْقَرْضِ بِالْقِيمَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ قِيمَتَهُ مُعْتَبَرَةٌ وَقْتَ قَبْضِهِ. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقَرْضَ يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ أَكْثَرَ مَا كَانَ قِيمَةً مِنْ حين قبض إلى حين تصرف. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْقَرْضَ يُمْلَكُ بِالتَّصَرُّفِ.

فَصْلٌ:
فَأَمَّا الْحَيَوَانُ فَإِنَّ أبا حنيفة مَنَعَ مِنْ جَوَازِ قَرْضِهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ السَّلَفَ فِيهِ لَا يَجُوزُ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ قَرْضِهِ مَعَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جَوَازِ السَّلَمِ فِيهِ حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اقْتَرَضَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا وَرَدَّ عَلَيْهِ جَمَلًا رَبَاعِيًّا.
وَلِأَنَّ كُلَّ عَيْنٍ صَحَّ أَنْ تَثْبُتَ فِي الذِّمَّةِ صَدَاقًا صَحَّ أَنْ تَثْبُتَ فِي الذِّمَّةِ قَرْضًا وَسَلَمًا كَالثِّيَابِ. وَلِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتَرِضَهُ لِلْمَسَاكِينِ جَازَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقْتَرِضَهُ لِنَفْسِهِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَإِنَّ أبا حنيفة يجوز للوالي أن يقرض الْحَيَوَانَ لِلْمَسَاكِينِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْجَوَارِي فَإِنَّ الْمُزَنِيَّ وَدَاوُدَ وَابْنَ جَرِيرٍ الطَّبَرِيَّ يُجِيزُونَ قَرْضَهُنَّ كَمَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِنَّ.
وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ مِلْكَ الْقَرْضِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ لِأَنَّ لِلْمُقْرِضِ اسْتِرْجَاعَهُ وَلِلْمُقْتَرِضِ رَدَّهُ وَالْوَطْءُ لَا يَجُوزُ إِلَّا في ملك تام، لأن لا يَصِيرَ الْإِنْسَانُ مُسْتَبِيحًا لِلْوَطْءِ بِغَيْرِ بَدَلٍ وَلَيْسَ هَذَا كَالْأَبِ إِذَا وَهَبَ جَارِيَةً لِوَلَدِهِ فِي جَوَازِ الْهِبَةِ مَعَ جَوَازِ اسْتِرْجَاعِ الْأَبِ لَهَا، لِأَنَّ مِلْكَ الْأَبِ قَدِ انْقَطَعَ بِالْهِبَةِ وَإِنَّمَا يُسْتَحْدَثُ مِلْكُهَا بِالِاسْتِرْجَاعِ.

(5/353)


وَلِأَنَّ الْوَطْءَ مَنْفَعَةٌ لَا تُسْتَبَاحُ بِالْعَارِيَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تُسْتَبَاحَ بِالْقَرْضِ كَالْحُرَّةِ.
فَإِذَا صَحَّ مَا ذَكَرْنَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْجَارِيَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَسْتَبِيحُ الْمُقْتَرِضُ وَطْأَهَا. أَوْ مِمَّنْ لَا يَسْتَبِيحُ وَطْأَهَا فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ يَسْتَبِيحُ وَطْأَهَا فِي الْحَالِ أَوْ فِي ثَانِي الْحَالِ عِنْدَ إِحْلَالٍ مِنْ إِحْرَامٍ أَوْ إِسْلَامٍ مِنْ رِدَّةٍ أَوْ خُرُوجٍ مِنْ عِدَّةٍ لَمْ يَجُزْ قَرْضُهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَى.
وَلَا يَصِحُّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُزَنِيُّ مِنْ تَأْوِيلِ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ قَرْضِهِنَّ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا ثَانِيًا كَمَا وَهَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا.
بَلْ مَنْصُوصَاتُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ كُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى تَحْرِيمِ قَرْضِهِنَّ.
وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَسْتَبِيحُ الْمُقْتَرِضُ وَطْأَهَا إِمَّا لِكَوْنِهَا ذَاتَ مَحْرَمٍ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْمُقْتَرِضَ امْرَأَةٌ فَفِي جَوَازِ قَرْضِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ إنَّ قَرْضَهَا إِذَا حَرُمَ وَطْؤُهَا جَائِزٌ اعْتِبَارًا بِالْمَعْنَى وَأَنَّهُ قَرْضٌ لَا يُفْضِي إِلَى اسْتِبَاحَةِ الْوَطْءِ فَجَرَى مَجْرَى قَرْضِ الْعَبِيدِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ إنَّ قَرْضَ مَنْ حَرُمَ وَطْؤُهَا لَا يَجُوزُ كَمَا أَنَّ قَرْضَ مَنْ حَلَّ وَطْؤُهَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُنَّ يَصِرْنَ جِنْسًا لَا يَجُوزُ قَرْضُهُ، وَلِأَنَّ مَا لَا يَجُوزُ قَرْضُهُ مِنْ شَخْصٍ لَا يَجُوزُ قَرْضُهُ مِنْ غَيْرِهِ كَالْمُبَاحَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ قَرْضِ مَا ذَكَرْنَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بِمَاذَا يُمْلَكُ الْقَرْضُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ كَالْهِبَةِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلْمُقْتَرِضِ بِالْقَبْضِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ دَلَّ عَلَى حُصُولِ الْمِلْكِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُمْلَكُ بِالتَّصَرُّفِ بَعْدَ الْقَبْضِ لِأَنَّهُ عَقْدُ إِرْفَاقٍ لِلْمُقْرِضِ بَعْدَ الْقَبْضِ اسْتِرْجَاعُهُ وَلِلْمُقْتَرِضِ رَدُّهُ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِلْكُهُ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ فَلِلْمُقْرِضِ مَعَ بَقَاءِ الْقَرْضِ فِي يَدِ الْمُقْتَرِضِ أَنْ يَسْتَرْجِعَهُ سَوَاءً تَصَرَّفَ فِيهِ أَوْ لَمْ يَتَصَرَّفْ، وَلَيْسَ لِلْمُقْتَرِضِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنِ اسْتِرْجَاعِ عَيْنِهِ بِإِعْطَاءِ بَدَلِهِ، لِأَنَّ كُلَّ عَيْنٍ اسْتُحِقَّتْ فَاسْتِرْجَاعُهَا مَعَ بَقَائِهَا أَوْلَى مِنِ اسْتِرْجَاعِ بَدَلِهَا.
فَلَوْ كَانَ الْقَرْضُ قَدْ خَرَجَ عَنْ يَدِ الْمُقْتَرِضِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ كَانَ لِلْمُقْرِضِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِبَدَلِهِ فَإِنْ كَانَ ذَا مِثْلٍ فَمِثْلُهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذِي مِثْلٍ فَفِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ بِقِيمَتِهِ، وَلَا يَلْزَمُ الْمُقْتَرِضُ أَنْ يَسْتَرْجِعَ الْعَيْنَ الَّتِي مُلِّكَتْ عَلَيْهِ لِيَرُدَّهَا عَلَى الْمُقْرِضِ بِعَيْنِهَا، لِأَنَّ مَنْ صَارَتْ إِلَيْهِ لَا يَلْزَمُهُ رَفْعُ يَدِهِ عَنْهَا وَلَا إِزَالَةُ مِلْكِهِ.
فَلَوْ عَادَتْ إِلَى مِلْكِ الْمُقْتَرِضِ بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنْهُ بِابْتِيَاعٍ أَوْ هِبَةٍ أو ميراث فهل للمقرض الرجوع بِعَيْنِهَا أَوْ بِبَدَلِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ:

(5/354)


أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ بِعَيْنِهَا لِأَنَّهَا عَيْنُ مَا اقْتَرَضَ فَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهَا إِلَى الْبَدَلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ اسْتِرْجَاعُ عَيْنِهَا إِلَّا بِرِضَا الْمُقْتَرِضِ وَيَرْجِعُ إِلَى بَدَلِهَا لِسُقُوطِ ذَلِكَ بِخُرُوجِهَا عَنْ يَدِهِ وَعَوْدِهَا بِاسْتِحْدَاثِ مِلْكٍ آخَرَ. فَلَوْ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ رَهَنَ مَا اقْتَرَضَهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُقْرِضِ أَنْ يَرْجِعَ بِعَيْنِهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ وَيَرْجِعَ عَلَيْهِ بِبَدَلِهِ. فَلَوْ فَكَّهُ مِنَ الرَّهْنِ قَبْلَ الرُّجُوعِ بِبَدَلِهِ كَانَ لِلْمُقْرِضِ أَنْ يَرْجِعَ بِعَيْنِهِ دُونَ بَدَلِهِ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ عَلَى مِلْكِ الْمُقْتَرِضِ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ بِالرَّهْنِ.
فَلَوْ كَانَ الْمُقْتَرِضُ قَدْ أَجَّرَهُ كَانَ لِلْمُقْرِضِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ، لِأَنَّهُ مَعَ الْإِجَارَةِ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، وَالْإِجَارَةُ عَلَى حَالِهَا لَا تَبْطُلُ بِرُجُوعِ الْمُقْرِضِ، وَالْأُجْرَةِ لِلْمُقْتَرِضِ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ فِي مِلْكِهِ، فَإِنْ أَرَادَ الْمُقْرِضُ أَنْ يَرْجِعَ بِبَدَلِهِ كَانَ ذَلِكَ لَهُ لِأَنَّ إجارته بعض لا يلزمه الرضا به.
فلو كان القرض في يد المقترض فحدث بِهِ عَيْبٌ عِنْدَهُ: فَإِنْ كَانَ الْقَرْضُ مِمَّا يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِمِثْلِهِ كَانَ الْمُقْرِضُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِعَيْنِ مَا أَقْرَضَ مَعِيبًا وَلَا أَرْشَ لَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِمِثْلِهِ سَلِيمًا، وخالف الْمَغْصُوبُ الَّذِي لَا يَجُوزُ الِانْتِقَالُ عَنْ عَيْنِهِ مَعَ وُجُودِهِ لِأَنَّ الْغَصْبَ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ وَالْقَرْضُ يُزِيلُهُ، وَإِنْ كَانَ الْقَرْضُ مِمَّا يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِقِيمَتِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالْقَرْضِ مَعِيبًا وَبِأَرْشِ عَيْبِهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ مَا لَهُ مِثْلٌ فَلَيْسَ لِلْقِيمَةِ فِيهِ مَدْخَلٌ فَكَذَلِكَ الأرش، وما لا مثل له لما وجبت قِيمَتُهُ دَخَلَهُ الْأَرْشُ.

فَصْلٌ:
وَلِصِحَّةِ الْقَرْضِ فِيمَا يجوز قرضه ثلاثة شُرُوطٍ مُعْتَبَرَةٌ.
فَأَمَّا الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ إِطْلَاقُ الْقَرْضِ حَالًا مِنْ غَيْرِ أَجَلٍ مَشْرُوطٍ فِيهِ، فَإِنْ شَرَطَ فِيهِ أَجَلًا وَقَالَ: قَدْ أَقْرَضْتُكَ مِائَةَ دِرْهَمٍ إِلَى شَهْرٍ لَمْ يَجُزْ.
وَقَالَ مَالِكٌ يَجُوزُ الْقَرْضُ مُؤَجَّلًا وَيُلْزَمُ فِيهِ الْأَجَلُ وَلَا يَجُوزُ لِلْمُقْرِضِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ قَبْلَ أَجَلِهِ.
وَحُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ.
وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَغْلَطُ فَيَذْهَبُ إِلَى جَوَازِهِ وَيَتَنَاوَلُ كَلَامًا لِلشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ: وَإِنْ وَجَدَ الْحَاكِمُ مَنْ يُسَلِّفُهُ الْمَالَ حَالًا لَمْ يَجْعَلْهُ أَمَانَةً.
وَأنَّ دَلِيلَ هَذَا الْكَلَامِ جَوَازُ الْقَرْضِ مُؤَجَّلًا. وَهَذَا تَأْوِيلٌ فَاسِدٌ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ أَجَازَ ذَلِكَ لِلْحَاكِمِ، وَإِنْ كَانَ يَرَى تَأْجِيلَ الْقَرْضِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُهُ لِأَنَّ أَمْوَالَ الْيَتَامَى لَا يَجْرِي نَظَرُ الْحَاكِمِ فِيهَا مَجْرَى نَظَرِ الْمَالِكِينَ. وَإِنْ كَانَ مَذْهَبُهُ لَمْ يَخْتَلِفْ فِي حَظْرِ تَأْجِيلِ الْقَرْضِ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ إلى ذهب جَوَازِ تَأْجِيلِهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ. وَلِأَنَّ حُقُوقَ الْمُرَاضَاةِ إِذَا صَحَّ ثُبُوتُهَا فِي الذِّمَّةِ مُعَجَّلًا صَحَّ ثُبُوتُهَا فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلًا كَالْأَثْمَانِ.

(5/355)


وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَلَوْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ. فَأَثْبَتُ أَحْكَامِ الشُّرُوطِ إِذَا جَاءَ النَّصُّ بِهَا وَدَلَّ الْكِتَابُ عَلَيْهَا. وَلِأَنَّ مَا مُنِعَ مِنَ التَّفَاضُلِ مِنْهُ مُنِعَ مِنْ دُخُولِ الْأَجَلِ فِيهِ كَالصَّرْفِ.
وَلِأَنَّ مِنْ حُكْمِ الْقَرْضِ أَنْ يُمَلَّكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِهِ مِثْلَ مِلْكِ صَاحِبِهِ، فَلَمَّا كَانَ الْمُقْتَرِضُ قَدْ مَلَكَ الْقَرْضَ مُعَجَّلًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُقْرِضُ قَدْ مَلَكَ بَدَلَهُ مُعَجَّلًا. وَأَمَّا الْخَبَرُ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ فَمَخْصُوصٌ بِخَبَرِنَا. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْأَثْمَانِ فَمُنْتَقِضٌ بِالصَّرْفِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْأَثْمَانِ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ الزِّيَادَةُ فِيهَا صَحَّ دُخُولُ الْأَجَلِ فِيهَا، وَالْقَرْضُ لَمَّا لَمْ تَجُزِ الزِّيَادَةُ فِيهِ لَمْ يَصِحَّ دُخُولُ الْأَجَلِ فِيهِ. فَإِذَا صَحَّ أَنَّ تَأْجِيلَ الْقَرْضِ لَا يَجُوزُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُبْطَلُ الْقَرْضُ بِاشْتِرَاطِ الْأَجَلِ فِيهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَ الْقَرْضُ لِاشْتِرَاطِ مَا يُنَافِيهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هريرة إنَّ الْقَرْضَ صَحِيحٌ لِأَنَّ الْأَجَلَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ لَازِمٍ فَتَأْخِيرُهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ جَائِزٌ فَلَمْ يَتَنَافَيَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ:
وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي: فَهُوَ أَنْ لَا يَشْتَرِطَ الْمُقْرِضُ عَلَى الْمُقْتَرِضِ نَفْعًا زَائِدًا عَلَى مَا اقْتَرَضَ لِنَهْيِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً.
فَإِنْ شَرَطَ زِيَادَةً عَلَى الْقَرْضِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْقَرْضُ مِمَّا يَدْخُلُهُ الرِّبَا كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ، فَمَتَى شَرَطَ فِيهِ زِيَادَةً لَمْ يَجُزْ وَكَانَ الْقَرْضُ بَاطِلًا سَوَاءً كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي الْقَدْرِ كَقَوْلِهِ قَدْ أَقْرَضْتُكَ هَذِهِ الْمِائَةَ بِمِائَةٍ وَعَشَرَةٍ، أَوْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي الصِّفَةِ كَقَوْلِهِ: قد أقرضتك هذه المائة العلة بِمِائَةٍ صِحَاحٍ، أَوْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي الْمَنْفَعَةِ كَقَوْلِهِ: قَدْ أَقْرَضْتُكَ هَذِهِ الْمِائَةَ عَلَى أَنْ تخد مني شَهْرًا أَوْ عَلَى أَنْ تَكْتُبَ لِي بِهَا سَفْتجَةً إِلَى بَلَدِ كَذَا، لِأَنَّ هَذَا نَفْعٌ يَعُودُ عَلَيْهِ لِمَا سَقَطَ عَنْهُ مِنْ خَطَرِ الطَّرِيقِ فَالْقَرْضُ فِي هَذَا كُلِّهِ بَاطِلٌ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَرْضٌ جَرَّ مَنْفَعَةً وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ ثُبُوتَ الرِّبَا فِيهِ بِهَذَا الْوَجْهِ يُمْنَعُ مِنْهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْقَرْضُ مِمَّا لَا رِبَا فِيهِ كَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ فَإِنْ كَانَ مَا شَرَطَ مِنَ الزِّيَادَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْقَرْضِ كَقَوْلِهِ: عَلَى أَنْ تَخْدِمَنِي شَهْرًا لَمْ يَجُزْ وَكَانَ قَرْضًا بَاطِلًا لِأَنَّ القرض ليس بلازم والاستخدام لوضح شَرْط لَازِمٌ فَتَنَافِيَا.
وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ تَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْقَرْضِ إِمَّا فِي قَدْرِهِ كَقَوْلِهِ: قَدْ أَقْرَضْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ بِثَوْبَيْنِ أَوْ هَذَا الْعَبْدَ بِعَبْدَيْنِ، أَوْ فِي صِفَةٍ كَقَوْلِهِ: قَدْ أَقْرَضْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ الْهَرَوِيَّ بِثَوْبٍ مَرْوِيٍّ فَفِي صِحَّةِ القرض وجهان:

(5/356)


أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا إنَّهُ قَرْضٌ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ قَرْضٌ جَرَّ مَنْفَعَةً وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هريرة وأبي حامد المروروذي أَنَّهُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ مِثْلُ هَذَا فِي الْبَيْعِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ مِثْلُهُ فِي الْقَرْضِ انْصَرَفَ عَنْ حُكْمِ الْقَرْضِ إِلَى الْمَبِيعِ فَصَارَ بَيْعًا بِلَفْظِ الْقَرْضِ.
وَهَذَا الْقَوْلُ وَاضِحُ الْفَسَادِ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي نَقْلَ الْقَرْضِ الْمَقْصُودِ إِلَى بَيْعٍ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ وَلَكِنْ لَوْ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ رَدَّ زِيَادَةً عَلَى الْمُقْرِضِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ جَازَ وَكَانَ مُحْسِنًا لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَدَّ مَكَانَ بكْرٍ رَبَاعِيًّا وَقَالَ خِيَارُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً.
وَرَدَّ مَكَانَ صَاعٍ صَاعَيْنِ. لَكِنْ إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي الصِّفَةِ كَالصِّحَاحِ مَكَانَ الْغَلَّةِ أَوِ الطَّعَامِ الْحَدِيثِ مَكَانَ الْعَتِيقِ لَزِمَ الْمُقْرِضَ قَبُولُهَا. وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي الْقَدْرِ كَالصَّاعَيْنِ مَكَانَ الصَّاعِ وَالدِّرْهَمَيْنِ مَكَانَ الدِّرْهَمِ فَهِيَ هِبَةٌ لَا يَلْزَمُ الْمُقْرِضَ قَبُولُهَا إِلَّا بِاخْتِيَارِهِ فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الشَّرْطِ إِذَا كَانَ زَائِدًا. فَأَمَّا الشُّرُوطُ النَّاقِصَةُ كَأَنْ أَقْرَضَهُ صِحَاحًا لِيَرُدَّ مَكَانَهَا غَلَّةً، أَوْ طَعَامًا حَدِيثًا لِيَرُدَّ مَكَانَهُ عَتِيقًا فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ. وَفِي بُطْلَانِ الْقَرْضِ بِهِ وَجْهَانِ كَالْأَجَلِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ شَرْطٍ نَاقِصٍ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الشُّرُوطِ الزَّائِدَةِ فِي بُطْلَانِ الْقَرْضِ بِهَا وَبَيْنَ الشُّرُوطِ النَّاقِصَةِ فِي صِحَّةِ الْقَرْضِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ مَعَ مَا نَذْكُرُ مِنَ الْفَرْقِ فِي الرهن وبين الشُّرُوطِ الزَّائِدَةِ فِيهِ وَالشُّرُوطِ النَّاقِصَةِ مِنْهُ فَأَمَّا شَرْطُ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ فِي الْقَرْضِ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَيْسَ مِنْ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِيثَاقٌ فِيهِ.
ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ الْقَرْضِ الَّذِي شُرِطَ فِيهِ الضَّمِينُ وَالرَّهْنُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَحَقُّ فِيهِ الْمِثْلَ أَوِ الْقِيمَةَ فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ فِيهِ الْمِثْلَ جَازَ شَرْطُ الرَّهْنِ فِيهِ وَالضَّمِينِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ فِيهِ الْقِيمَةَ فَفِي صِحَّةِ شَرْطِ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ شَرْطُ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ فِيهِ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ قِيمَةَ الْقَرْضِ مُعْتَبَرَةٌ بِأَكْثَرِ أَحْوَالِهِ مِنْ حِينِ الْقَبْضِ إِلَى حِينِ التَّصَرُّفِ، فَلَا يَصِحُّ أَخْذُ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ فِيهِ لِلْجَهَالَةِ بِقِيمَتِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ أَخْذُ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ فِيهِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ قِيمَتَهُ مُعْتَبَرَةٌ وَقْتَ الْقَبْضِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ عَلِمَا قَدْرَ قِيمَتِهِ عِنْدَ شَرْطِهِ وَوَقْتَ قَبْضِهِ جَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ وَالضَّمِينِ، وَإِنْ جَهِلَا أَوْ أَحَدُهُمَا لَمْ يَجُزْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ:
وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَرْضُ مَعْلُومًا، وَالْعِلْمُ بِهِ مُعْتَبَرٌ بِاخْتِلَافِ حَالِهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِقِيمَتِهِ فَالْعِلْمُ بِهِ يَكُونُ بِمَعْرِفَةِ قِيمَتِهِ وَلَا اعْتِبَارَ بِمَعْرِفَةِ قَدْرِهِ وَلَا صِفَتِهِ إِذَا صَارَتِ الْقِيمَةُ مَعْلُومَةً لِاسْتِحْقَاقِ الرُّجُوعِ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِمِثْلِهِ فَالْعِلْمُ بِهِ يَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ:

(5/357)


أحدهما: معرفة قدره.
والثاني: معرفة صفته فتنتفي الجهالة عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ. فَأَمَّا الصِّفَةُ فَمُعْتَبِرَةٌ بِحَسَبِ اعْتِبَارِهَا فِي السَّلَمِ.
وَأَمَّا الْقَدْرُ فَيَكُونُ بِالْوَزْنِ إِنْ كَانَ مَوْزُونًا وَبِالْكَيْلِ إِنْ كَانَ مَكِيلًا وَالذَّرْعِ وَالْعَدَدِ إِنْ كَانَ مَذْرُوعًا أَوْ مَعْدُودًا.
فَلَو كَانَ الْقَرْضُ مَكِيلًا فَأَقْرَضَهُ إِيَّاهُ وَزْنًا جَازَ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ الرِّبَا لِأَنَّهُ يَصِيرُ به مَعْلُومًا بِهِ.
وَإِنْ كَانَ فِيهِ الرِّبَا فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ خَوْفَ الرِّبَا كَالْبَيْعِ.
والثاني: يجوز وبه قال أبو حامد المروذي لِأَنَّ الْقَرْضَ عَقْدُ إِرْفَاقٍ وَتَوْسِعَةٍ لَا يُرَاعَى فِيهِ مَا يُرَاعَى فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ. أَلَا تَرَى لَوْ رَدَّ زِيَادَةً عَلَى مَا اقْتَرَضَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رِبًا مُحَرَّمًا.
وَلَوْ كَانَ الْقَرْضُ مَوْزُونًا فَأَقْرَضَهُ إِيَّاهُ كَيْلًا، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَنْحَصِرُ بِالْكَيْلِ كَالْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَمْ تَنْتِفِ عَنْهُ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَنْحَصِرُ بِالْكَيْلِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ الرِّبَا جَازَ وَإِنْ كَانَ فِيهِ الرِّبَا فَعَلَى وجهين.
ولكن لو أقرضه جزافا فلم يَجُزْ لِلْجَهْلِ بِقَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِهِ.

فصل آخر يشتمل على فروع في القرض
وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: أَقْرِضْ لِي مِائَةَ دِرْهَمٍ وَلَكَ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَقَدْ كَرِهَ ذَلِكَ إِسْحَاقُ وَأَجَازَهُ أَحْمَدُ، وَهُوَ عِنْدَنَا يَجْرِي مَجْرَى الْجَعَالَةِ وَلَا بَأْسَ بِهِ.
فَلَوْ أَنَّ الْمَأْمُورَ أَقْرَضَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْعَشَرَةَ الْأُجْرَةَ لِأَنَّهَا بُذِلَتْ لَهُ عَلَى قرض من غيره.
وَإِنْ كَانَ قَبْلَ رَدِّ الْقَرْضِ عَلَيْهِ فَقَدْ كَرِهَ ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَجَازَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ عِنْدَنَا جَائِزٌ إِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَالتَّنَزُّهُ عَنْهُ أَوْلَى، لِمَا رُوِيَ أَنَّ زيد بن ثابت رضي الله عنه اسْتَقْرَضَ مِنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَالًا وَكَانَ يُهَادِيهِ فَامْتَنَعَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قَبُولِ هَدِيَّتِهِ فَرَدَّ زَيْدٌ الْقَرْضَ وَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيمَا يَقْطَعُ الْوَصْلَةَ بَيْنِي وبينك.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ حَالَ فَأَخَّرَهُ بِهِ مُدَّةً كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ مَتَى شَاءَ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ بِإِخْرَاجِ شَيْءٍ مِنْ مِلْكِهِ وَلَا أَخَذَ مِنْهُ عِوَضًا فَيَلْزَمُهُ وَهَذَا مَعْرُوفٌ لَا يَجِبُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ ".

(5/358)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ فِي ذِمَّةِ آخَرَ دَيْنٌ حَالَ فَسَأَلَ تَأْجِيلَهُ فَأَجَّلَهُ لَمْ يَلْزَمِ الْأَجَلُ وَكَانَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ حَالًا.
وَلَوْ وَفَّى بِوَعْدِهِ وَأَجَّلَهُ بِهِ كَانَ حَسَنًا.
وَقَالَ مَالِكٌ: مَتَى أَنْظَرَهُ بِالدَّيْنِ وَأَجَّلَهُ لَهُ مُدَّةً لَزِمَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَعَجَّلَ الْمُطَالَبَةَ بِهِ سَوَاءً كَانَ من ثمن مبيع أو قيمة متلف أَوْ غَيْره، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الهبة تلزم العقد دُونَ الْقَبْضِ فَكَذَلِكَ هُنَا الْأَجَلُ يَلْزَمُ بِالْوَعْدِ وَيَصِيرُ كَالْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ الدَّيْنُ قِيمَةَ مُتْلَفٍ لَا مَدْخَلَ لِلْأَجَلٍ فِي أَصْلِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْأَجَلُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ ثَمَنٍ مَبِيعٍ قَدْ يَصِحُّ دُخُولُ الْأَجَلِ فِي أَصْلِهِ لَزِمَهُ تَأْجِيلُهُ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ مِنْ خِيَارٍ أَوْ أَجَلٍ أَوْ زِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ فِي الثَّمَنِ فَهُوَ لَاحِقٌ بِالْعَقْدِ كَمَا لَوْ كَانَ ذَكَرَاهُ حِينَ الْبَيْعِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ بِالِافْتِرَاقِ لَا يَلْحَقُ الْعَقْدَ أَجَلٌ وَلَا خِيَارٌ وَلَا زِيَادَةٌ فِي الثَّمَنِ وَلَا نُقْصَانٌ.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَلْحَقَ ذَلِكَ بِالْعَقْدِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ.
فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ مَا شَرَطَا مِنَ الْأَجَلِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَزِمَ بِمُقَارَنَةِ الْعَقْدِ لَزِمَ إِذَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ كَالرَّهْنِ. وَلِأَنَّ كُلَّ حَالٍ يملكان فيها الفسخ يملكان فيها شَرْطَ الْأَجَلِ أَصْلُهُ مَا بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ التَّفَرُّقِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] .
فَلَوْ صَحَّ أَنْ يُغَيِّرَ حُكْمَ الْعَقْدِ لَمَا لَزِمَ الْوَفَاءُ بِمَا يُقَدِّمُ مِنَ الْعَقْدِ.
وَلِأَنَّهُ حَقٌّ اسْتَقَرَّ مُعَجَّلًا فلم يعد التأخير مُؤَجَّلًا قِيَاسًا عَلَى قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ. وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ قَدِ اسْتَقَرَّ لُزُومَهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْحَقَهُ مَا يُغَيِّرُ أَصْلَهُ إِذَا كَانَ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ بَعْدَ تَلَفِ الْعَيْنِ أَوْ مَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.
وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَا زِيدَ فِي الثَّمَنِ لَاحِقًا بِالْعَقْدِ لَكَانَ الْإِبْرَاءُ مِنْهُ رَافِعًا لِجَمِيعِ الْعَقْدِ، وَجَازَ إِذَا زَادَ الْمُشْتَرِي فِي ثَمَنِ مَا قَدِ اسْتَحَقَّ بِالشُّفْعَةِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الشَّفِيعِ.
وَفِي إِبْطَالِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي هَذَيْنِ إِلَّا عَلَى مَا اتَّفَقْنَا دَلِيلٌ عَلَى الْقَوْلِ بِمِثْلِهِ فِيمَا اخْتَلَفْنَا.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ " فَمُعَارِضٌ أَوْ مَخْصُوصٌ أَوْ مُسْتَعْمَلٌ عَلَى الاستحباب.

(5/359)


وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الرَّهْنِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّهْنَ عَقْدٌ يَسْتَقِرُّ بِنَفْسِهِ وَلَيْسَ كَالْأَجَلِ الَّذِي هُوَ تَبَعٌ لِغَيْرِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّهْنَ بَعْدَ الْبَيْعِ لَيْسَ بِلَازِمٍ إِلَّا بِالْقَبْضِ، وَكَذَا الْأَجَلُ لَيْسَ بِلَازِمٍ إِلَّا بِالْقَبْضِ لَكِنَّ قَبْضَ الْأَجَلِ يَقْضِي زَمَانَهُ فَمَا لَمْ يمضي الزَّمَانُ فَهُوَ فِي حُكْمِ الرَّهْنِ مَا لَمْ يُقْبَضْ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى خِيَارِ الْمَجْلِسِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَسْتَقِرَّ لُزُومُهُ وَهُوَ بَعْدَ الْخِيَارِ مُسْتَقِرٌّ فَثَبَتَ مَا ذَكَرَنَا وَاللَّهُ أعلم بالصواب.

(5/360)