الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

بسم الله الرحمن الرحيم

(كتاب الرهن)
قال الشافعي رضي الله عنه: " أَذِنَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِالرَّهْنِ فِي الدَّين والدَّين حَقٌّ فَكَذَلِكَ كُلُّ حَقٍّ لَزِمَ فِي حِينِ الرَّهْنِ وَمَا تَقَدَّمَ الرَّهْنَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وهذا كما قال الرهن أحد الوثائق فِي الْحُقُوقِ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] وَقُرِئَ " فَرُهُنٌ مَقْبُوضَةٌ " وَفِي اخْتِلَافِ الْقِرَاءَتَيْنِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُمْ: فَرِهَانٌ جَمْعٌ، وَرُهُنٌ جَمْعُ الْجَمْعِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: فَرِهَانٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي السَّبْقِ وَالنِّضَالِ، وَقَوْلُهُ: فَرُهُنٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَأَمَّا الرَّهِينَةُ، فَلَيْسَتْ مِنْ هَذَيْنِ، وَإِنَّمَا هِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي ارْتِهَانِ النُّفُوسِ. قَالَ الْفَرَزْدَقُ:
(وَمِنَّا الَذِي أَعْطَى يَدَيْهِ رَهِينَةً ... لِغَارَيْ مَعَدٍّ يَوْمَ ضَرْبِ الْجَمَاجِمِ)

ثُمَّ مِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: لا يغلق الرهن الرَّهْنُ مِنْ رَاهِنِهِ الَذِي رَهَنَهُ لَهُ غُنْمُهُ غيره وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ
وَفِي قَوْلِهِ: لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ الدَّيْنُ بِتَلَفِهِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ أَشْبَهُ: أَنَّهُ لَا يُمَلَّكُ بِالدَّيْنِ عِنْدَ مَحَلِّهِ. قَالَ زُهَيْرٌ:

(6/3)


(وَفَارَقَتْكَ بِدَيْنٍ لَا فَكَاكَ لَهُ ... يَوْمَ الْوَدَاعِ فأنسى الدين قَدْ غَلِقَا)

وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الرَّهْنُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَقْرَبُ النَّفَقَةُ.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَهَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دِرْعَهُ عِنْدَ أَبِي الشَّحْمِ الْيَهُودِيِّ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَبْلَ فَكَاكِهِ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: افْتَكَّهُ قَبْلَ مَوْتِهِ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى وَهَذِهِ صِفَةٌ تَنْتَفِي عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَقَالَ آخَرُونَ وَهُوَ الصَّحِيحُ: أَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ فَكَاكِهِ لِرِوَايَةِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ بِثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى مَحْمُولًا عَلَى مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً.

(فَصْلٌ)
وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الرَّهْنِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ إِذَا تَمَّ مِنَ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ مِنْ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ دُونَ الْآخَرِ فَيَكُونُ لَازِمًا مِنْ جِهَةِ الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ فَإِنْ رَامَ الرَّاهِنُ فَسْخَهُ قَبْلَ فَكَاكِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ، وَلَوْ طَلَبَ الْمُرْتَهِنُ ذَلِكَ كَانَ لَهُ، لِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ لِلْمُرْتَهِنِ عَلَى الرَّاهِنِ وَأَصْلُ الرَّهْنِ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الِاحْتِبَاسُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] أَيْ مُحْتَبَسَةٌ. وَقَالَ الأعشى:
(فهل يمنعني ارتيادي البلاد ... مِنْ حَذَرِ الْمَوْتِ أَنْ يَأْتِيَنْ)

(عَلَيَّ رَقِيبٌ لَهُ حَافِظٌ ... فَقُلْ فِي امْرِئٍ غَلِقٍ مُرْتَهِنْ)

فَإِذَا تَمَهَّدَ مَا ذَكَرْنَا. فَالرَّهْنُ عِنْدَنَا يَجُوزُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، وَعِنْدَ وُجُودِ الْكَاتِبِ وَعَدَمِهِ، وَبِهِ قَالَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَدَاوُدُ: لَا يَجُوزُ فِي الْحَضَرِ وَلَا مَعَ وُجُودِ

(6/4)


الْكَاتِبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] فَأَبَاحَهُ بِوُجُودِ شَرْطَيْنِ: السَّفَرِ وَعَدَمِ الْكَاتِبِ.
وَدَلِيلُنَا: رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ضَيْفٌ فَقَالَ لِي: يَا أَبَا رَافِعٍ اذْهَبْ إِلَى فُلَانٍ الْيَهُودِيِّ فَقُلْ لَهُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: بِعْنِي إِلَى رَجَبٍ، فَأَتَيْتُهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَبِيعُهُ إِلَا بِرَهْنٍ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: اذْهَبْ بِدِرْعِي الْجَدِيدِ إِلَيْهِ. فَرَهَنَهُ بِطَعَامٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى.
فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الرَّهْنِ فِي الْحَضَرِ، لِأَنَّ هَذَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَلِأَنَّهَا وَثِيقَةٌ تَجُوزُ سَفَرًا فَجَازَتْ حَضَرًا كَالضَّمِينِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ حَالٍ جَازَ فِيهَا الضَّمِينُ جَازَ فِيهَا الرَّهْنُ كَالسَّفَرِ فَأَمَّا الْآيَةُ فَإِنَّمَا ذكر فيها السفر لتعذر الشهادة فيه غَالِبًا لَا أَنَّهُ شَرْطٌ فِيهِ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الرَّهْنِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، فَالْحُقُوقُ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يَجِبُ فِي مَالٍ، وَضَرْبٌ يَجِبُ فِي غَيْرِ مَالٍ. فَأَمَّا الْحُقُوقُ الَّتِي لَا تَجِبُ فِي الْأَمْوَالِ: فَكَالْقِصَاصِ، وَحَدِّ الْقَذْفِ، وَفِي مَعْنَاهُ الْمُطَالَبَةُ بِالشُّفْعَةِ وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ، فَهَذَا وَمَا شَاكَلَهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ وَإِنْ جَازَتِ الشَّهَادَةُ فِيهِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ فِي مَالٍ يُسْتَوْفَى الْحَقُّ مِنْهُ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ، وَمَا لَيْسَ بِمَالٍ قَدْ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْهُ، فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ.
وَأَمَّا الْحُقُوقُ الْوَاجِبَةُ فِي الْأَمْوَالِ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ أَعْيَانًا قَائِمَةً.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ فِي الذِّمَّةِ. فَأَمَّا الْأَعْيَانُ الْقَائِمَةُ فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ مَضْمُونَةً كَالْمَغْصُوبِ أَوْ غَيْرَ مَضْمُونَةٍ كَالْوَدَائِعِ وَقَالَ مَالِكٌ: كُلُّ عَيْنٍ مَضْمُونَةٍ بِالتَّلَفِ يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ عَلَيْهَا قَبْلَ التَّلَفِ قَالَ: لِأَنَّهُ مَالٌ مَضْمُونٌ فَجَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ قِيَاسًا عَلَى مَا فِي الذِّمَمِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ وَثِيقَةً لِمَا فِي الذِّمَّةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ وَثِيقَةً لِلْعَيْنِ الْمَضْمُونَةِ كَالشَّهَادَةِ.
وَدَلِيلُنَا هُوَ: أَنَّهَا عَيْنٌ بَاقِيَةٌ فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهَا كَالْعَيْنِ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً. وَهَذَا لِأَنَّ كُلَّ عَيْنٍ لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهَا إِذَا كَانَتْ أَمَانَةً لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهَا إِذَا كَانَتْ مَضْمُونَةً.
أَصْلُهُ: مَا فِي يَدِ الْبَائِعِ من العين المبيعة.
ولأن الرهن وثيقة لاستيقاء الْحَقِّ مِنْهُ، وَالْعَيْنُ الْمَضْمُونَةُ مَعَ بَقَائِهَا لَا يَجُوزُ أَخْذُ بَدَلِهَا،

(6/5)


وَلَا الْعُدُولُ إِلَى قِيمَتِهَا دُونَ أَنْ تُرَدَّ الْعَيْنُ، وَالْعَيْنُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا مِنَ الرَّهْنِ، وَكُلُّ رَهْنٍ لَمْ يُمْلَكِ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْهُ كَانَ رَهْنًا بَاطِلًا كَالْوَقْفِ.
فَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى مَا فِي الذِّمَّةِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنَ الرَّهْنِ، فَجَازَ فِيهِ الرَّهْنُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعَيْنُ وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الشَّهَادَةِ فَالْمَعْنَى فِي الشَّهَادَةِ أَنَّهَا لَمَّا جَازَتْ عَلَى عَيْنٍ غَيْرِ مَضْمُونَةٍ جَازَتْ عَلَى عَيْنٍ مَضْمُونَةٍ وَلَمَّا لَمْ يَجُزِ الرَّهْنُ فِي عَيْنٍ غَيْرِ مَضْمُونَةٍ لَمْ يَجُزْ فِي عَيْنٍ مَضْمُونَةٍ وَكَذَلِكَ الرَّهْنُ في كفالات النفوس لا يجوز.

(فصل)
[أقسام الأموال باعتبار ما لزم للذمة وما لا يلزم وما يؤول إلى اللزوم] .
وَأَمَّا الْأَمْوَالُ الَّتِي فِي الذِّمَّةِ فَعَلَى ثَلَاثَةٍ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: مَا كَانَ لَازِمًا لِلذِّمَّةِ ثَابِتًا فِيهَا كَالْأَثْمَانِ وَالدُّيُونِ وَالْمُهُورِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَالسَّلَمِ فَهَذَا كُلُّهُ وَمَا شَاكَلَهُ، يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ حَالًا أَوْ مُؤَجَّلًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَمْ يَكُنْ لَازِمًا مِنَ الذِّمَّةِ فِي الْحَالِ وَلَا تُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ فِي ثاني حال مِثْلُ مَالِ الْكِتَابَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ فِيهِ الرَّهْنُ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالرَّهْنِ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهِ مِنَ الذِّمَّةِ، وَمَالُ الْكِتَابَةِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَذَّرِ اسْتِيفَاؤُهُ مِنَ الذِّمَّةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لِلذِّمَّةِ فِي الْحَالِ لَكِنَّهُ يُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ فِي ثَانِي حَالٍ كَمَالِ الْجَعَالَةِ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ لُزُومِهِ بِحُصُولِ الْعَمَلِ جَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ كَالدُّيُونِ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ لُزُومِهِ لِعَدَمِ حُصُولِ الْعَمَلِ فَفِي جَوَازِ أَخْذِ الرَّهْنِ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ، فَجَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا فِي الْحَالِ، كَالثَّمَنِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَأَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ جَائِزٌ لِأَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ أَخْذَ الرَّهْنِ فِيهِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ يُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ بِحُصُولِ الْعَمَلِ فَمَا فِي مُقَابَلَةِ هَذَا الْجُعْلِ مِنَ الْعَمَلِ لَا يُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ، لِأَنَّ الْمَبْذُولَ لَهُ الْجُعْلُ بِالْخِيَارِ أَبَدًا إِنْ شَاءَ عَمِلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَعْمَلْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الثَّمَنُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، لِأَنَّ الْعِوَضَ وَالْمُعَوَّضَ قد يفضيان إلى اللزوم بما افترقا.
(فَصْلٌ)
وَأَمَّا أَخْذُ الرَّهْنِ فِي عِوَضِ السَّبْقِ وَالنِّضَالِ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ لُزُومِهِ بِوُجُودِ السَّبْقِ، وَحُصُولِ النِّضَالِ جَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ كَالدَّيْنِ. وَإِنْ كَانَ قَبْلَ وُجُودِ السَّبْقِ وَالنِّضَالِ، فَهُوَ مبني

(6/6)


عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي عَقْدِ السَّبْقِ وَالنِّضَالِ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْإِجَارَةِ، أَوْ مَجْرَى الْجَعَالَةِ؟ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْإِجَارَةِ جَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْجَعَالَةِ فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ.
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وقال الله تبارك وتعالى {فرهان مقبوضة} ".
قال الماوردي: وبه قال أبو حنيفة عِنْدَنَا عَقْدُ الرَّهْنِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ، وكذلك الهبة.
وَقَالَ مَالِكٌ: الرَّهْنُ يَتِمُّ بِالْعَقْدِ وَيُجْبَرُ عَلَى الْقَبْضِ، وَكَذَلِكَ الْهِبَةُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وَلِأَنَّهُ عَقْدُ وَثِيقَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ. كَالضَّمَانِ. وَلِأَنَّ الثَّمَنَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهِ إِذَا شُرِطَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، فَوَجَبَ أَنْ يُلْزَمَ بِنَفْسِ الشَّرْطِ فِي الْبَيْعِ كَالْأَجَلِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ بَعْدَ الْقَبْضِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا قَبْلَ الْقَبْضِ كَالْبَيْعِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَصِحُّ مُؤَجَّلًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ لَازِمًا كَالْإِجَارَةِ.
وَدَلِيلُنَا، قَوْله تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] وَالدَّلَالَةُ فِيهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَصَفَ الرَّهْنَ بِالْقَبْضِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ كَوَصْفِ الرَّقَبَةِ بِالْإِيمَانِ وَالِاعْتِكَافِ بِالْمَسْجِدِ، وَالشَّهَادَةِ بِالْعَدَالَةِ، ثُمَّ كَانَتْ هَذِهِ الْأَوْصَافُ شُرُوطًا، فَكَذَا الْقَبْضُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ ذَكَرَ غَيْرَ الرَّهْنِ مِنَ الْعُقُودِ وَلَمْ يَصِفْهَا بِالْقَبْضِ، وَذَكَرَ الرَّهْنَ وَوَصَفَهُ بِالْقَبْضِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ وَصْفُ الرَّهْنِ بِالْقَبْضِ إِمَّا لِاخْتِصَاصِهِ بِهِ، أَوْ لِيَكُونَ تَنْبِيهًا عَلَى غَيْرِهِ. وَأَيُّهُمَا كَانَ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى لُزُومِهِ فِيهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ ذِكْرَ الْقَبْضِ يُوجِبُ فَائِدَةً شَرْعِيَّةً لَا تُسْتَفَادُ بِحَذْفِ ذِكْرِهِ وَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِ إِنْ لَمْ يُجْعَلِ الْقَبْضُ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ الرَّاهِنُ قَبْلَ الْإِقْبَاضِ لَمْ يُجْبَرْ وَارِثُهُ على الإقباض، فلو كَانَ لَازِمًا بِالْقَوْلِ كَالْبَيْعِ لَاسْتَحَقَّ عَلَى وَارِثِهِ الْإِقْبَاضُ كَالْبَيْعِ، فَلَمَّا لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَى وَارِثِهِ الْإِقْبَاضُ لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ الْإِقْبَاضُ كَالْجَعَالَةِ.
وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ قَدْ يَتَحَرَّرُ مِنَ اعْتِلَالِهِ قِيَاسَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ رَهْنٌ غَيْرُ مَقْبُوضٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ تَسْلِيمُهُ كَالْوَارِثِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَلْزَمُ وَارِثَ الْعَاقِدِ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ الْعَاقِدَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ أَصْلُهُ عَقْدُ الْجَعَالَةِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ إِرْفَاقٍ مِنْ شَرْطِهِ الْقَبُولُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِ لُزُومِهِ الْقَبْضُ كَالْقَرْضِ.

(6/7)


وَقَوْلُنَا: شَرْطُهُ الْقَبُولُ احْتِرَازًا مِنَ الْوَقْفِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِعُمُومِ الْآيَةِ فَمَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرْنَا وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الضَّمَانِ فَالْمَعْنَى فِي الضَّمَانِ أَنَّهُ لَمَّا تَمَّ بِالضَّامِنِ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ تم بالقول وَحْدَهُ وَلَمَّا لَمْ يَتِمَّ الرَّهْنُ بِالرَّاهِنِ وَحْدَهُ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهِ الْقَوْلُ جَازَ أَنْ لَا يَلْزَمَ بِالْقَوْلِ وَحْدَهُ وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْأَجَلِ فَالْمَعْنَى فِي الْأَجَلِ أَنَّهُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْعَقْدِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَنْفَرِدُ بِنَفْسِهِ وَلَا يُحْكَمُ لَهُ إِنْ شُرِطَ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ وَانْبِرَامِهِ وَلَزِمَ الْوَفَاءُ بِهِ كَسَائِرِ صِفَاتِ الْعَقْدِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرَّهْنُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْبَيْعِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَنْفَرِدُ عَنِ الْعَقْدِ فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ بِنَفْسِهِ بَعْدَ تَمَامِ ثُبُوتِهِ لَوْ شرط في العقد وأما قياسه على البيع فالمعنى في البيع: أنه لما لزم الورثة لزم المتعاقدين والرهن لما لم يلزم الورثة لم يلزم المتعاقدين وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْإِجَارَةِ فَالْمَعْنَى فِيهِ كَالْمَعْنَى في البيع.

(مسألة)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَا مَعْنَى لِلرَّهْنِ حَتَّى يَكُونَ مَقْبُوضًا مِنْ جَائِزِ الْأَمْرِ حِينَ رُهِنَ وَحِينَ أُقْبِضَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَالْقَبْضِ. فَأَمَّا الْعَقْدُ فَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الرَّاهِنِ وَقَبُولُهُ مِنَ الْمُرْتَهِنِ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ وَلَا بُعْدٍ، وَأَمَّا الْقَبْضُ فَهُوَ تَسْلِيمٌ مِنَ الرَّاهِنِ أَوْ وَكِيلِهِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ أَوْ وَكِيلِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا فِي الْأَمْرِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ وَجَوَازُ أَمْرِهِمَا أَنْ يَجُوزَ تَصَرُّفُهُمَا فِي أَمْوَالِهِمَا بِبُلُوغِهِمَا وَعَقْلِهِمَا وَارْتِفَاعِ الْحَجْرِ عَنْهُمَا، فَإِذَا كَانَا كَذَلِكَ عِنْدَ الْعَقْدِ وَعِنْدَ الْقَبْضِ، فَقَدْ تَمَّ الرَّهْنُ وَصَارَ لَازِمًا لِلرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ. وَإِنْ كَانَا أَوْ أَحَدُهُمَا غَيْرَ جَائِزَيِ الْأَمْرِ عِنْدَ الْعَقْدِ لِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ حَجْرِ حَاكِمٍ، ثُمَّ جَازَ أَمْرُهُمَا عِنْدَ الْقَبْضِ لَمْ يَجُزْ، وَكَانَ الْقَبْضُ فَاسِدًا لِفَسَادِ الْعَقْدِ، وَأَخَذَ قَابِضُ الرَّهْنِ بِرَدِّهِ، وَلَهُمَا اسْتِئْنَافُ عَقْدِهِ، وَتَجْدِيدُ قَبْضِهِ.
فَلَوْ كَانَا جَائِزَيِ الْأَمْرِ عِنْدَ الْعَقْدِ، ثُمَّ طَرَأَ الْحَجْرُ عَلَيْهِمَا أَوْ عَلَى أَحَدِهِمَا بِجُنُونٍ أَوْ سَفَهٍ فَتَقَابَضَاهُ كَذَلِكَ فَالْقَبْضُ فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ قَبْضٌ لَا يَجُوزُ إِقْبَاضُهُ، أَوْ إِلَى مَنْ لَا يَجُوزُ قَبْضُهُ وَلَكِنَّ الْعَقْدَ عَلَى حَالِهِ صَحِيحٌ، حَتَّى يَتَعَقَّبَهُ قَبْضٌ صَحِيحٌ فَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا إِذَا كَانَا رَشِيدَيْنِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَعِنْدَ الْقَبْضِ، لَكِنْ تَخَلَّلَ بَيْنَ الْعَقْدِ وَبَيْنَ الْقَبْضِ عَدَمُ رُشْدِهِمَا وَهُوَ أَنْ يَكُونَا عَاقِلَيْنِ، فَيَعْقِدَا الرَّهْنَ، ثُمَّ يُجَنُّ أَحَدُهُمَا، ثُمَّ يَفِيقُ فَيَقْبِضُهُ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ. فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: جَوَازُ الرَّهْنِ وَتَمَامُهُ لِوُجُودِ الرُّشْدِ فِي الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ، فَلَمْ يَكُنْ مَا تَخَلَّلَهُمَا مِنَ الْجُنُونِ قَادِحًا فِي صِحَّتِهِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِجُنُونِ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الْقَبْضِ. قَالَ: لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ

(6/8)


قَبْلَ الْقَبْضِ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ، دُونَ اللَّازِمَةِ، وَالْعُقُودُ الْجَائِزَةُ تَبْطُلُ بِالْجُنُونِ وَالْمَوْتِ، كَالْوِكَالَاتِ وَالشِّرْكِ وَالْجَعَالَاتِ وَهَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ الْجَائِزَةَ الَّتِي تَبْطُلُ بِالْجُنُونِ وَالْمَوْتِ مَا لَا يُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ، وَعَقْدُ الرَّهْنِ يُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ، فَلَا يَبْطُلُ بِالْجُنُونِ وَالْمَوْتِ كَالْبَيْعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ.

(فَصْلٌ)
وَإِذَا تَعَاقَدَا الرَّهْنَ وَهُمَا رَشِيدَانِ ثُمَّ جُنَّ الْمُرْتَهِنُ فَلِوَلِيِّهِ أَنْ يَقْبِضَ الرَّهْنَ مِنَ الرَّاهِنِ، فَإِذَا قَبَضَهُ فَقَدْ تَمَّ الرَّهْنُ، وَقَامَ مَقَامَ قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ لَهُ وَهُوَ رَشِيدٌ وَعَلَى قَوْلِ مَنْ أَبْطَلَ الْعَقْدَ مِنْ أَصْحَابِنَا بِجُنُونِ أَحَدِهِمَا يُمْنَعُ مِنْ قَبْضِ وَلِيِّ الْمُرْتَهِنِ، إِلَّا أَنْ يَسْتَأْنِفَ الرَّهْنَ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ.
وَلَوْ كَانَ الْمَجْنُونُ مِنْهُمَا هُوَ الرَّاهِنَ فَأَرَادَ وَلِيُّهُ أَنْ يَتَوَلَّى إِقْبَاضَ الرَّهْنِ لِلْمُرْتَهِنِ فَعَلَى قَوْلِ مَنْ أَبْطَلَ الرَّهْنَ بِجُنُونِ أَحَدِهِمَا لَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ تَسْلِيمُهُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ، فَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَ.
فَأَمَّا على مذهب الشافعي، فَيُعْتَبَرُ حَالُ الرَّهْنِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي تَسْلِيمِهِ حَظٌّ لِلرَّاهِنِ لَمْ يَكُنْ لِوَلِيِّهِ أَنْ يُسَلِّمَهُ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ وَإِنْ كَانَ لَا يَبْطُلُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بِجُنُونِ أَحَدِهِمَا، فَتَسْلِيمُهُ وَإِنْ صَحَّ الْعَقْدُ غَيْرُ لَازِمٍ، وَالْوَلِيُّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ مَالِهِ مَا لَيْسَ بِلَازِمٍ لَهُ.
وَإِنْ كَانَ فِي تَسْلِيمِ الرَّهْنِ حَظٌّ لِلرَّاهِنِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فيه فضل وإن لم يسلم الرهن فسخه الْبَائِعُ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ تَسْلِيمُهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِمَا قَدَّمْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: جَائِزٌ لِمَا يَعُودُ عَلَى الْمَوْلَى عَلَيْهِ مِنَ الْفَضْلِ بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ.
(فَصْلٌ)
فَأَمَّا صِفَةُ الْقَبْضِ فِي الرَّهْنِ، فَهُوَ مُجَامِعٌ لِلْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ مِنْ وَجْهٍ وَمُخَالِفٌ لَهُ مِنْ وَجْهٍ. فَالْمَوْضِعُ الَّذِي يُجَامِعُهُ فِيهِ هُوَ قَبْلَ قَبْضِهِ الثَّمَنَ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يُخَالِفُهُ فِيهِ هُوَ بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَبْضَ فِي الرَّهْنِ لَا يَصِحُّ حَتَّى يَكُونَ بِإِقْبَاضٍ مِنَ الرَّاهِنِ أَوْ وَكِيلِهِ فِيهِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ أَوْ وَكِيلِهِ فِيهِ.
فَأَمَّا صِفَةُ الْإِقْبَاضِ مِنْ جِهَةِ الرَّاهِنِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ بِحَالِ الرَّهْنِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَحْتَاجُ إِلَى كَيْلٍ وَلَا وَزْنٍ، فَإِقْبَاضُ الرَّاهِنِ لَهُ: أَنْ يَأْذَنَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي قَبْضِهِ وَيُسَلِّطَهُ عَلَيْهِ. وَقَبْضُ الْمُرْتَهِنِ لَهُ أَنْ يَنْقُلَهُ إِنْ كَانَ مَنْقُولًا، أَوْ يَتَصَرَّفَ فِي رَقَبَتِهِ دُونَ مَنْفَعَتِهِ إِنْ كَانَ غَيْرَ مَنْقُولٍ. وَتَصَرُّفُهُ فِي رَقَبَتِهِ: أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ يَدَ مَالِكِهِ، فَيَتِمُّ الْقَبْضُ هَاهُنَا بِإِذْنِ الرَّاهِنِ وَقَبْضِ الْمُرْتَهِنِ.

(6/9)


وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ فَهُوَ كَأَنْ يَرْهَنَهُ قَفِيزًا مِنْ صَبْرَةٍ فَلَا يَتِمُّ إِقْبَاضُ الرَّاهِنِ لَهُ بِمُجَرَّدِ الْإِذْنِ لِلْمُرْتَهِنِ حَتَّى يَتَوَلَّى كَيْلَهُ لَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِوَكِيلِهِ وَيَتَوَلَّى الْمُرْتَهِنُ اكْتِيَالَهُ مِنْهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِوَكِيلِهِ فَيَتِمُّ الْقَبْضُ بِفِعْلِهِمَا جَمِيعًا. فَلَوْ قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَوَلَّى كَيْلَهُ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِوَكِيلِهِ، لَمْ يَصِحَّ الْقَبْضُ، وَلَمْ يَتِمَّ الرَّهْنُ.
وَكَذَا كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ الرَّاهِنُ: قَدْ وَكَلْتُكَ فِي قَبْضِهِ لِنَفْسِكَ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَابِضًا مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ.
وَكَذَلِكَ لو وكل الراهن رَجُلًا أَنْ يَقْبِضَ عَنْهُ، وَوَكَّلَهُ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَقْبِضَ لَهُ صَارَ ذَلِكَ الْوَكِيلُ نَائِبًا عَنِ الرَّاهِنِ فِي الْإِقْبَاضِ عَنْهُ، وَنَائِبًا عَنِ الْمُرْتَهِنِ فِي الْقَبْضِ لَهُ لَمْ يَجُزْ، وَكَانَ هَذَا قَبْضًا فَاسِدًا لَا يَتِمُّ بِهِ الرَّهْنُ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَابِضًا مِنْ نَفْسِهِ، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ.
فَأَمَّا الْقَبْضُ فِي الْبَيْعِ فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا، فَلَا بُدَّ مِنْ إِقْبَاضِ البائع بنفسه، أو بوكيله أو قبض الْمُشْتَرِي بِنَفْسِهِ أَوْ بِوَكِيلِهِ كَمَا قُلْنَا فِي الرَّهْنِ، سَوَاءٌ قَبَضَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ أَمْ لَا.
فَإِنْ تَسَلَّطَ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ فَقَبَضَهُ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ إِقْبَاضِ الْبَائِعِ، لَمْ يَصِحَّ الْقَبْضُ لَكِنْ يَصِيرُ فِي ضَمَانِهِ وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ غَيْرَ مَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ لَمْ يَقْبِضِ الثَّمَنَ، لَمْ يَصِحَّ قَبْضُ الْمُشْتَرِي لَهُ، إِلَّا بِإِذْنِ الْبَائِعِ، كَمَا قُلْنَا فِي الرَّهْنِ، فَإِنْ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْبَائِعِ، كَانَ قَبْضًا فَاسِدًا، وَكَانَ لِلْبَائِعِ انْتِزَاعُهُ مِنْ يَدِهِ، لِأَنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَهُ عَلَى ثَمَنِهِ.
وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ قَبَضَ الثَّمَنَ، فَالْقَبْضُ فِيهِ يَصِحُّ بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي لَهُ سَوَاءٌ أَذِنَ الْبَائِعُ لَهُ فِي قَبْضِهِ أَمْ لَا. لِأَنَّهُ بِقَبْضِ ثَمَنِهِ قَدْ لَزِمَهُ رَفْعُ يَدِهِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ حَقٌّ فِي مَنْعِهِ، فَلَمْ تَفْتَقِرْ صحة القبض إلى إذنه.

(فَصْلٌ)
أَمَّا مَا يُفْسِدُ الرَّهْنَ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ فَأُمُورٌ:
مِنْهَا: أَنْ يَبِيعَهُ الرَّاهِنُ بَعْدَ رَهْنِهِ، وَقَبْلَ قَبْضِهِ فَيَبْطُلُ عَقْدُ الرَّهْنِ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَقِفَهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، أَوْ عَلَى قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَجْعَلَهُ صَدَاقًا لزوجته.
ومنها: أن يقربه لِرَجُلٍ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ عَبْدًا فَيُعْتِقُهُ أَوْ يُكَاتِبُهُ، فَيَبْطُلُ الرَّهْنُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لِزَوَالِ مِلْكِهِ فِيمَا سِوَى الْمُكَاتَبِ وَعَدَمِ تَصَرُّفِهِ فِي الْمُكَاتَبِ فَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَدَبَّرَهُ فَهَلْ يَبْطُلُ عَقْدُ الرَّهْنِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.

(6/10)


أَحَدُهُمَا: يَبْطُلُ. لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ، وَجَوَازِ تَصَرُّفِهِ، فَالتَّدْبِيرُ تَصَرُّفٌ يُخَالِفُهُ عَقْدُ الرَّهْنِ فَأَبْطَلَهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَبْطُلُ، لِاسْتِوَاءِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ قَبْلَ التَّدْبِيرِ وَبَعْدَهُ، فَلَوْ وَهَبَهُ وَأَقْبَضَهُ أَوْ رَهَنَهُ مِنْ غَيْرِهِ وأقبضه بطل رهن الأول بزوال مِلْكِهِ بِالْهِبَةِ وَانْعِدَامِ تَصَرُّفِهِ بِالرَّهْنِ، وَلَكِنْ لَوْ وَهَبَهُ وَلَمْ يَقْبِضْهُ أَوْ رَهَنَهُ وَلَمْ يَقْبِضْهُ، كَانَ فِي بُطْلَانِ الرَّهْنِ قَوْلَانِ كَالتَّدْبِيرِ.
وَأَمَّا إِذَا آجَرَهُ فَلَا يَبْطُلُ عَقْدُ الرَّهْنِ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُؤَاجِرَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ، لَمْ يَبْطُلْ بِإِجَارَتِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ: وَلَوْ كَانَتْ أَمَةً فَزَوَّجَهَا لَمْ يَبْطُلْ عَقْدُ الرَّهْنِ. لِأَنَّهُ لَمَّا لم يبطل الرهن بتزويجها بعد القبض ولم يَبْطُلْ بِتَزْوِيجِهَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَوْ وَطِئَهَا الرَّاهِنُ فَإِنْ حَبِلَتْ مِنْ وَطْئِهِ بَطَلَ الرَّهْنُ، وَإِنْ لَمْ تَحْبَلْ لَمْ يَبْطُلِ الرَّهْنُ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ وَطِئَهَا الْبَائِعُ فِي مُدَّةِ خِيَارِهِ. كَانَ وطؤه فسخا للبيع فهلا كان وطوء الرَّاهِنِ قَبْلَ الْقَبْضِ مُبْطِلًا لِلرَّهْنِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ وَطْءَ الْبَائِعِ يُنَافِي الْبَيْعَ، فَكَانَ فَسْخًا وَلَيْسَ وَطْءُ الرَّاهِنِ يُنَافِي الرَّهْنَ وَإِنَّمَا يَمْنَعُ مِنْهُ بحق الْمُرْتَهِنِ فَإِذَا أَذِنَ لَهُ جَازَ. وَقَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَلْزَمْ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ وَلَيْسَ الْوَطْءُ مُنَافِيًا له فلم يكن فسخا.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ وَقَبْضُهُ مِنْ مُشَاعٍ وَغَيْرِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: شَرْحُ الْمَذْهَبِ فِيهَا.
وَالثَّانِي: ذِكْرُ الْخِلَافِ الْمُتَعَلِّقَ بِهَا.
فَأَمَّا شَرْحُ الْمَذْهَبِ فَقَوْلُهُ: وَمَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ. فَهَذِهِ هِيَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَرْوِي ذَلِكَ: وَمَنْ جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ، فَيَجْعَلُ ذَلِكَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَلَا مَعْنَى لِلرَّهْنِ حَتَّى يَكُونَ مَقْبُوضًا مِنْ جَائِزِ الْأَمْرِ حِينَ رُهِنَ، وَحِينَ أُقْبِضَ. وَمَنْ جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ. فَيَجْعَلُ الْجَائِزَ الْأَمْرِ فِي الرَّهْنِ، مَنْ جَازَ بَيْعُهُ، وَمَنْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لَمْ يَجُزْ رَهْنُهُ مِثْلُ الْمَجْنُونِ وَالصَّغِيرِ، وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ فَيَكُونُ هَذَا مُسْتَمِرًّا.
وَعَلَى الْقِيَاسِ مُطَّرِدًا. فَيَكُونُ كُلُّ مَنْ جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ، وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لَمْ يَجُزْ رَهْنُهُ.
قَالُوا: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: مِنْ مُشَاعٍ وَغَيْرِهِ - يَعْنِي فِي مشاع وغيره.

(6/11)


وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَصَحُّ، وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ عَنْهُ.
وَمَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ يَعْنِي: أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ بَيْعُهُ جَائِزًا، كَانَ رَهْنُهُ جَائِزًا وَكُلُّ شَيْءٍ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، لَمْ يَجُزْ رَهْنُهُ مِنَ الْأَجْنَاشِ أَوِ الْأَنْجَاشِ وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ يَجُوزُ بَيْعُ مَا لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ كَالْمُدَبَّرِ وَالْمُعْتَقِ بِصِفَةٍ وَالطَّعَامِ الرَّطْبِ الْمَرْهُونِ إِلَى أَجَلٍ يَفْسَدُ فِيهِ.
وَقَدْ يَجُوزُ رَهْنُ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْأَمَةِ دُونَ وَلَدِهَا الصَّغِيرِ وَالثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ الْقَطْعِ فَلِأَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَصَدَ بِذَلِكَ مَا أَفْصَحَ بِهِ فِي آخِرِ كَلَامِهِ مِنْ رَهْنِ الْمُشَاعِ رَدًّا عَلَى أبي حنيفة حَيْثُ أَجَازَ بَيْعَ الْمُشَاعِ وَمَنَعَ مِنْ رَهْنِهِ فَقَالَ: وَمَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ مِنْ مُشَاعٍ وَغَيْرِهِ. فَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ فَلَا.
الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ غَالِبَ الْأَشْيَاءِ أَنَّ مَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ وَمَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لَمْ يَجُزْ رَهْنُهُ. وَقَدْ يَكُونُ مِنْهَا مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا يَجُوزُ رَهْنُهُ، وَمَا يَجُوزُ رَهْنُهُ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، لَكِنَّ الْغَالِبَ بِخِلَافِهِ، فَجَعَلَ قَائِلُ هَذَا الْجَوَابِ جُمْلَةَ الْأَشْيَاءِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ.
ضَرْبٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَرَهْنُهُ كَالْأَمْلَاكِ الْمُطْلَقَةِ.
وَضَرْبٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا رَهْنُهُ كَالْأَوْقَافِ وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ.
وَضَرْبٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا يَجُوزُ رَهْنُهُ عَلَى أحد القولين كالمدبر والمعتق نصفه.
وَضَرْبٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَيَجُوزُ رَهْنُهُ، كَالْأَمَةِ دُونَ وَلَدِهَا، وَالثَّمَرَةِ مُطْلَقًا دُونَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا.
وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا: أَنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ مَحْمُولٌ عَلَى صِفَتِهِ وَكُلُّ مَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ قِيَاسًا مُطَّرِدًا، وَاعْتِبَارًا صَحِيحًا، وَمَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لَمْ يَجُزْ رَهْنُهُ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ جَوَازِ رَهْنِ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْأَمَةِ ذَاتِ الْوَلَدِ، وَالثَّمَرَةِ مُطْلَقًا قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا فَغَلَطٌ؛ لِأَنَّ بَيْعَ ذَلِكَ يَجُوزُ، فَتُبَاعُ الْأَمَةُ مَعَ وَلَدِهَا، وَالثَّمَرَةُ بِشَرْطِ قَطْعِهَا فَصَارَ بَيْعُ ذَلِكَ جَائِزًا، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ صِفَاتُهُ وَأَحْوَالُهُ.
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ جَوَازِ بَيْعِ مَا لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ كَالْمُدَبَّرِ وَالْمُعْتَقِ نِصْفُهُ. فَفِي جَوَازِ رَهْنِ الْمُدَبَّرِ وَالْمُعْتَقِ نِصْفُهُ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ فَعَلَى هَذَا قَدِ اسْتَمَرَّ الْجَوَابُ، وَسَقَطَ السُّؤَالُ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَرْهَنَهُ الْمُشْتَرِي وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْهَنَهُ الْبَائِعُ فَصَارَ رَهْنُهُ جَائِزًا وَإِنْ كَانَ فِي أَحْوَالِ مُرْتَهَنِهِ مُخْتَلِفًا فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي شَرْحِ الْمَذْهَبِ وَتَفْسِيرِ كلامه.

(6/12)


(فَصْلٌ)
فَأَمَّا الْخِلَافُ الْمُتَعَلِّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: هَلِ اسْتِدَامَةُ قَبْضِ الرَّهْنِ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ أَمْ لَا؟
وَالثَّانِي: هَلْ رَهْنُ الْمُشَاعِ جَائِزٌ أَمْ لَا؟
فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي اسْتِدَامَةِ الْقَبْضِ فَتَقْدِيمُ الْكَلَامِ فِيهِ أَوْلَى لِأَنَّهُ لأبي حنيفة أَصْلٌ يُنْشِئُ بُطْلَانَ رَهْنِ الْمُشَاعِ عَلَيْهِ. فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ اسْتِدَامَةَ قَبْضِ الرَّهْنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ. فَإِنْ خَرَجَ الرَّهْنُ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ بِاسْتِحْقَاقٍ كَالْإِجَارَةِ، أَوْ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ كَالْإِعَارَةِ أَوِ الْغَصْبِ لَمْ يَبْطُلِ الرَّهْنُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: اسْتِدَامَةُ قَبْضِ الرَّهْنِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ. فَإِنْ خَرَجَ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ بِاسْتِحْقَاقٍ كَالْإِجَارَةِ، أُبْطِلَ الرَّهْنُ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْ يَدِهِ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ كَالْغَصْبِ وَالْإِعَارَةِ لَمْ يَبْطُلِ الرَّهْنُ، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى انْتِزَاعِهِ إِذَا خَرَجَ بِاسْتِحْقَاقٍ أو بقدر عَلَى انْتِزَاعِهِ إِذَا خَرَجَ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ.
وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ اسْتِدَامَةَ الْقَبْضِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الرهن بقوله تعالى: {فرهن مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] فَجَعَلَهُ بِالْقَبْضِ وَثِيقَةً لِلْمُرْتَهِنِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ زَوَالَ الْقَبْضِ يُزِيلُ وَثِيقَةَ الْمُرْتَهِنِ.
وَلِأَنَّهُ مُحْتَبِسٌ بِحَقِّ الِاسْتِيفَاءِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ زَوَالُ الْيَدِ عَنْهُ مُزِيلًا لِحَقِّ الِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ أَصْلُهُ: الْمَبِيعُ الْمُحْتَبِسُ فِي يَدِ بَائِعِهِ لِاسْتِيفَاءِ ثَمَنِهِ.
وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِعَقْدِ الرَّهْنِ حُصُولُ الِاحْتِبَاسِ وَالْقَبْضِ كَمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْبَيْعِ حُصُولُ الْمِلْكِ وَالْيَدِ ثُمَّ كَانَتِ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ فِي الْبَيْعِ مِنْ مُوجِبِهِ وَمُقْتَضَاهُ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ فِي الرَّهْنِ مِنْ مُوجِبِهِ وَمُقْتَضَاهُ.
وَلِأَنَّ الرَّهْنَ قَبْلَ الْقَبْضِ غَيْرُ لَازِمٍ، فَإِنْ قُبِضَ صَارَ لَازِمًا. فَلَمَّا كَانَ لُزُومُهُ بِالْقَبْضِ، وَجَبَ أَنْ يَزُولَ لُزُومُهُ بِزَوَالِ الْقَبْضِ.
وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: [الرَّهْنُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَفَقَةُ، فَجَعَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -] الرَّهْنَ مَرْكُوبًا وَمَحْلُوبًا وَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِلرَّاهِنِ أَوْ لِلْمُرْتَهِنِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ نَجْعَلَ ذَلِكَ لِلْمُرْتَهِنِ لِأَمْرَيْنِ:

(6/13)


أَحَدُهُمَا: إِجْمَاعُهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ عَلَى الرَّاكِبِ وَالشَّارِبِ نَفَقَةَ الرَّهْنِ، وَالنَّفَقَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ، فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ جَوَازُ ذَلِكَ لِلرَّاهِنِ، فَصَارَ مُسْتَحِقًّا لِإِزَالَةِ يَدِ الْمُرْتَهِنِ عَنْهُ. ثُمَّ لَمْ يَزُلْ حُكْمُ الرَّهْنِ عَنْهُ فَثَبَتَ أَنَّ اسْتِدَامَةَ قَبْضِهِ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ. وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ مِنْ شَرْطِ لُزُومِهِ الْقَبْضُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ كَالْهِبَةِ وَالصَّرْفِ. وَلِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الرَّهْنِ أَوْسَعُ مِنَ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ، لِجَوَازِ اشْتِرَاطِ الرَّهْنِ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ. فَلَمَّا لَمْ تَكُنِ اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ مَعَ قُوَّتِهِ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ؛ فَلَأَنْ لَا تَكُونُ اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ فِي الرَّهْنِ مَعَ ضَعْفِهِ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ أَوْلَى. وَلِأَنَّ مَنْ جَعَلَ اسْتِدَامَةَ الْقَبْضِ فِيهِ شَرْطًا فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ اسْتِدَامَةُ قَبْضِهِ مُشَاهَدَةً أَوْ حُكْمًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ فِي صِحَّةِ اسْتِدَامَةِ قَبْضِهِ مُشَاهَدَةً، لِجَوَازِ خُرُوجِهِ مِنْ يَدِهِ بِعَارِيَةٍ أَوْ عَلَى يَدِ عَدْلٍ. فَثَبَتَ أَنَّ الشَّرْطَ فِي صِحَّةِ اسْتِدَامَةِ قَبْضِهِ حُكْمًا، وَهَذَا شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ عِنْدَنَا، لِأَنَّهُ وَإِنْ خَرَجَ مِنْ يَدِهِ بِاسْتِحْقَاقٍ. فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَقْبُوضِ لَهُ، لِأَنَّهُ لَا يُخْرَجُ عَنْ سُلْطَانِ الْمُرْتَهِنِ وَلَا يُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ تعالى: {فرهن مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ. لِأَنَّهُ جَعَلَ الرَّهْنَ وَثِيقَةً بِحُصُولِ الْقَبْضِ. فَإِذَا حَصَلَ الْقَبْضُ مَرَّةً فَقَدِ اسْتَقَرَّ الْقَبْضُ وَحَصَلَ الرَّهْنُ وَثِيقَةً أَبَدًا.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَبِيعِ فِي يَدِ بَائِعِهِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ. لِأَنَّ الْمَبِيعَ الْمَحْبُوسَ بِحَقِّ الْيَدِ لَا الْعَقْدِ. فَإِذَا زَالَتِ الْيَدُ زَالَ حُكْمُ الِاحْتِبَاسِ وَالرَّهْنُ مَحْبُوسٌ بِحَقِّ الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ، فَإِذَا زَالَ اسْتِصْحَابُهُ لَمْ يَبْطُلِ الْعَقْدُ الْمُقْتَرِنُ بِهِ كَقَبْضِ الْهِبَاتِ وَالصَّرْفِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْمَقْصُودَ بِعَقْدِ الرَّهْنِ حُصُولُ الِاحْتِبَاسِ وَالْقَبْضُ كَالْمِلْكِ فِي الْبَيْعِ، فَحُجَّةٌ تُعْكَسُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَكُنِ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ فِي الْبَيْعِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ، بَلْ لَوْ شَرَطَ أَلَّا يُزِيلَ الْمُشْتَرِي مِلْكَهُ عَنِ الْمَبِيعِ بَطَلَ الْعَقْدُ وَجَبَ أَلَّا تَكُونَ اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ فِي الرَّهْنِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ لُزُومَهُ لَمَّا كَانَ بِالْقَبْضِ، وَجَبَ أَنْ يَزُولَ لُزُومُهُ بِزَوَالِ الْقَبْضِ، فَبَاطِلٌ بِالْعَارِيَةِ فَإِنَّهُ قَدْ زَالَ بِهَا الْقَبْضُ وَلَمْ يَزُلْ بها لزوم الرهن على قولنا أَنَّ لُزُومَهُ كَانَ بِالْقَبْضِ لَا بِاسْتِدَامَةِ الْقَبْضِ، وَخُرُوجُهُ مِنْ يَدِهِ يُزِيلُ اسْتِدَامَةَ الْقَبْضِ وَلَا يُزِيلُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْقَبْضِ فَلَمْ يَزُلْ مَا بِهِ لَزِمَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ قَبْضِهِ مُسْتَدَامٌ.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي رَهْنِ الْمُشَاعِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: جَوَازُ رَهْنِ الْمُشَاعِ مِنَ الشَّرِيكِ، وَغَيْرِ الشَّرِيكِ.

(6/14)


وَقَالَ أبو حنيفة: رَهْنُ الْمُشَاعِ يَصِحُّ مِنَ الشَّرِيكِ، وَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ الشَّرِيكِ.
قَالَ: لِأَنَّ رَهْنَهُ مِنْ غَيْرِ الشَّرِيكِ يُوجِبُ مُهَايَأَةً بَيْنَ الْمُرْتَهِنِ وَالشَّرِيكِ. وَالْمُهَايَأَةُ تُوجِبُ انْتِزَاعَ الرَّهْنِ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ بِاسْتِحْقَاقٍ قَارَنَ الْعَقْدَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الرَّهْنِ. أَصْلُهُ. إِذَا رَهَنَ شَيْئًا مَغْصُوبًا.
قَالَ: وَلِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ تُوجِبُ تَسْلِيمَهُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ يَوْمًا وَانْتِزَاعَهُ مِنْ يَدِهِ يَوْمًا، وَلَوْ شَرَطَ هَذَا فِي عَقْدِ الرَّهْنِ كَانَ بَاطِلًا، فَكَذَا إِذَا اسْتَحَقَّ هَذَا بِعَقْدِ الرَّهْنِ كَانَ بَاطِلًا.
وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ كُلَّ مَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ كَالْمُجَوَّزِ فَإِنْ قِيلَ: فَالْخِلَافُ فِي صِحَّةِ قَبْضِهِ لَا في صحة عقده، قلنا: كلما صَحَّ أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا فِي الْبَيْعِ صَحَّ أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا فِي الرَّهْنِ كَالْمَحُوزِ. وَلِأَنَّهُ لَوْ رَهَنَ شَيْئًا مَحُوزًا عِنْدَ رَجُلَيْنِ جَازَ الرَّهْنُ وَإِنْ كَانَ نِصْفُهُ مُشَاعًا رَهْنًا عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الرَّجُلَيْنِ فَكَذَا إِذَا كَانَ النِّصْفُ مِنْهُ مُشَاعًا رَهْنًا وَالنِّصْفُ الْآخَرُ مُطْلَقًا.
وَتَحْرِيرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسًا:
أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ جَازَ لَهُ أَنْ يُرْهَنَ جَمِيعُهُ عِنْدَ شَخْصٍ جَازَ لَهُ أَنْ يُرْهَنَ بَعْضُهُ مُشَاعًا عِنْدَ ذَلِكَ الشَّخْصِ.
أَصْلُهُ: إِذَا رَهَنَ الْمَحُوزَ عِنْدَ رَجُلَيْنِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى رَهْنِ الْمَغْصُوبِ بِعِلَّةِ أن المهايأة واجبة، وهي توجب انتزاع مِنَ الْيَدِ.
قُلْنَا: الْمُهَايَأَةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عِنْدَنَا لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْفَعَةَ الشَّيْءِ بَيْنَ الْمَالِكَيْنَ، فلم يلزم أحدهما: أن يعارض عَلَى مَنْفَعَةِ مِلْكِهِ بِمَا يَعْتَاضُهُ مِنْ مَنْفَعَةِ ملك صاحبه.
والثاني: أن في المهايأة تعجيل لحق مؤجل وتأجيل لِحَقٍّ مُعَجَّلٍ. وَتَعْجِيلُ مَا كَانَ مُؤَجَّلًا، وَتَأْجِيلُ مَا كَانَ مُعَجَّلًا غَيْرُ وَاجِبٍ، وَلَوْ وَجَبَتِ الْمُهَايَأَةُ لَكَانَ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَغْصُوبَ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْ ثَمَنِهِ فَلَمْ يَجُزْ رَهْنُهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُشَاعُ بَعْدَ الْمُهَايَأَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَبْضَ فِي الْمَغْصُوبِ لَمْ يَصِحَّ فَيَلْزَمُ بِهِ الرَّهْنُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُشَاعُ بَعْدَ الْمُهَايَأَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ يَوْمًا رَهْنًا، وَيَوْمًا غَيْرَ رَهْنٍ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ. لِأَنَّهُ

(6/15)


رَهْنٌ فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ، وَقَبْضُهُ حُكْمٌ مُسْتَدَامٌ، وَخُرُوجُهُ فِي يَوْمِ الْمُهَايَأَةِ عَنْ يَدِهِ لَا يُزِيلُ حُكْمَ قَبْضِهِ عَنْهُ، وَإِنْ حَصَلَ فِي يَدِ غَيْرِهِ. فَصَارَ كَمَنْ رَهَنَ شَيْئًا عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ فِي يَدِ مُرْتَهِنِهِ يَوْمًا وَعَلَى يَدِ عَدْلٍ يَوْمًا لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ صِحَّةِ الرَّهْنِ وَكَانَ هَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: أُرْهِنُكَ يوما واسترجعه منك يوما.

(مسألة)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ مَاتَ الْمُرْتَهِنُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلِلرَّاهِنِ تَسْلِيمُ الرَّهْنِ إِلَى وَارِثِهِ ومنعه ".
قال الماوردي: موت الراهن أو المرتهن بعد العقد وقبل القبض إِذَا مَاتَ الرَّاهِنُ أَوِ الْمُرْتَهِنُ بَعْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ، وَقَبْلَ قَبْضِهِ: فَظَاهِرُ نَصِّهِ هَاهُنَا أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُرْتَهِنِ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَظَاهِرُ نَصِّهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ الرَّهْنَ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الرَّاهِنِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَفَسَخَ الرَّهْنَ بِمَوْتِ الرَّاهِنِ، وَلَمْ يَفْسَخْهُ بِمَوْتِ الْمُرْتَهِنِ.
فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَنْقُلُ جَوَابَهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَوْضِعَيْنِ إِلَى الْآخَرِ فَيَخْرُجُ ذَلِكَ على قولين:
أحدهما: أنه يَنْفَسِخُ الرَّهْنُ بِمَوْتِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ جَمِيعًا، لِأَنَّ الرَّهْنَ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ، وَالْعُقُودُ الْجَائِزَةُ تَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ كَالشَّرِكَةِ وَالْوَكَالَاتِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الرَّاهِنِ، وَلَا بِمَوْتِ الْمُرْتَهِنِ. لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ، فَهُوَ يُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ، وَمَا أَفْضَى إِلَى اللُّزُومِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا، لَا يَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ كَالْبَيْعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ. وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ.
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: لَيْسَتِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ بَلِ الْكَلَامُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَهُوَ أَنْ يَنْفَسِخَ الرَّهْنُ بِمَوْتِ الرَّاهِنِ، وَلَا يَنْفَسِخَ بِمَوْتِ الْمُرْتَهِنِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْمُرْتَهِنَ هُوَ صَاحِبُ الدَّيْنِ، وَمَنْ لَهُ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ فَمَاتَ لَمْ يَحِلَّ بِمَوْتِهِ وَكَانَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ مُؤَجَّلًا بَعْدَ مَوْتِهِ كَمَا كَانَ مؤجلا قبل موته وكان الرَّاهِنُ الْمَعْقُودُ فِيهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بَاقِيًا عَلَى حَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ. فَلِذَلِكَ لَمْ يَنْفَسِخْ بِمَوْتِهِ، وليس كذلك الراهن؛ لأن الدين عليه، فإنما مَاتَ حَلَّ الدَّيْنُ بِمَوْتِهِ، فَاسْتَحَقَّ مُطَالَبَةَ الْوَرَثَةِ به. فلم يكن لبقاء الرهن معنى. كذلك الفسخ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ الرَّهْنَ قَدِ انْفَسَخَ بِمَوْتِ الرَّاهِنِ أَوِ الْمُرْتَهِنِ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَشْرُوطٍ فَيَ بَيْعٍ فَلَا مَقَالَ.

(6/16)


وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ كَانَ الْبَائِعُ الْمُرْتَهِنُ، أَوْ وَارِثُهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ وَبَيْنَ فَسْخِهِ.
فَإِنْ أَحَبَّ وَرَثَةُ الرَّاهِنِ إِقْبَاضَ الرَّهْنِ لِلْمُرْتَهِنِ، فَهُوَ مُسْتَأْنِفٌ لِعَقْدِهِ لِفَسْخِ الْعَقْدِ الْمُتَقَدِّمِ وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ رَهْنَهُ لِجَوَازِ أَمْرِهِ، وَكَمَالِ تَصَرُّفِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ وَأَرْبَابِ الْوَصَايَا، جَازَ أَنْ يَسْتَأْنِفَهُ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ وَقَبْضٍ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ، فَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ الْبَائِعِ لِحُصُولِ مَا شَرَطَهُ مِنَ الرَّهْنِ.
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ وَإِنْ أَجَابَ الْوَرَثَةُ إِلَى إِقْبَاضِهِ، لِأَنَّ فَسْخَ الرَّهْنِ قَدْ أَوْجَبَ لَهُ خِيَارًا فِي الْبَيْعِ، فَلَمْ يُسْقِطْهُ مَا حَدَثَ مِنْ تَطَوُّعِ الْوَارِثِ بِالرَّهْنِ. فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْوَارِثُ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَمْرُهُ، أَوْ تَعَلَّقَ بِالرَّهْنِ دُيُونٌ أَوْ وَصَايَا لَمْ يَجُزْ لِلْوَارِثِ وَلَا لِوَلِيِّهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ عَقْدَ الرَّهْنِ فِيهِ وَإِقْبَاضَهُ، وَيَكُونُ الْمُرْتَهِنُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ.

(فَصْلٌ)
وَإِذَا قِيلَ: إِنَّ الرَّهْنَ لَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الرَّاهِنِ، وَلَا بِمَوْتِ الْمُرْتَهِنِ. فَعَلَى هَذَا لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ هُوَ الرَّاهِنُ، أَوِ الْمُرْتَهِنُ، أَوْ هُمَا جَمِيعًا.
فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الرَّاهِنُ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّهْنِ مِنْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ دُيُونٌ، أَوْ وَصَايَا أَوْ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.
فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ دُيُونٌ أَوْ وَصَايَا لَمْ يَجُزْ لِوَرَثَةِ الرَّاهِنِ أَنْ يقبضوا الرهن للمرتهن ما لم توف حُقُوقُ أَرْبَابِ الدَّيْنِ وَأَهْلِ الْوَصَايَا، وَيَكُونُ الْمُرْتَهِنُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ، وَبَيْنَ فَسْخِهِ، إِنْ كَانَ الرَّهْنُ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ.
وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالرَّهْنِ دُيُونٌ وَلَا وَصَايَا، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَارِثِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَجُوزُ أَمْرُهُ لِبُلُوغِهِ وَرُشْدِهِ، أَوْ يَكُونُ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَمْرُهُ إِمَّا لِصِغَرِهِ وَإِمَّا لِعَدَمِ رُشْدِهِ.
فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ أَمْرُهُ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ. إِنْ شَاءَ أَقْبَضَ الْمُرْتَهِنَ الرَّهْنَ، وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُ. لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الَّذِي تَوَلَّى الْعَقْدَ مُخَيَّرًا فَوَارِثُهُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِقْبَاضِ الرَّهْنِ وَبَيْنَ مَنْعِهِ، فَإِنْ مَنَعَهُ فَالْمُرْتَهِنُ بِالْخِيَارِ إِنْ كَانَ الرَّهْنُ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ وَبَيْنَ فَسْخِهِ.
فَإِنْ أَقْبَضَهُ الرَّهْنَ فَذَلِكَ لَهُ بِالْعَقْدِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ لَهُ عَقْدًا جَدِيدًا لِصِحَّةِ الْعَقْدِ الْمُتَقَدِّمِ وَسَوَاءٌ كَانَ لِلْوَارِثِ الرَّاهِنِ حَظٌّ فِي إِقْبَاضِهِ أَمْ لَا لِجَوَازِ تَصَرُّفِهِ فِي مَالِهِ كَيْفَ شَاءَ.

(6/17)


فَإِذَا قَبَضَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ، فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الْبَيْعِ لَا يُخْتَلَفُ، لِأَنَّ مَا شَرَطَهُ فِي الْبَيْعِ مِنَ الرَّهْنِ قَدْ صَارَ إِلَيْهِ بِالْعَقْدِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَمْرُهُ لِصِغَرِهِ، أَوْ لِعَدَمِ رُشْدِهِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ حَظٌّ فِي إِقْبَاضِ الرَّهْنِ، أَوْ لَا حَظَّ لَهُ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَظٌّ فِي إِقْبَاضِ الرَّهْنِ لَمْ يَكُنْ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَتَوَلَّى إِقْبَاضَ الرَّهْنِ عَنْهُ، وَلَا أَنْ يُسَلِّمَهُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ إِقْبَاضَ الرَّهْنِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَفْعَلَ فِي مَالِ مَنْ يَلِي عَلَيْهِ، مَا كَانَ غَيْرَ وَاجِبٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَظٌّ لَهُ.
فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الرَّهْنُ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَالْمُرْتَهِنُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ وَبَيْنَ فَسْخِهِ.
وَإِنْ كَانَ لِلْوَارِثِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ حَظٌّ فِي إِقْبَاضِ الرَّهْنِ لِأَنَّهُ مَشْرُوطٌ فِي بَيْعٍ فِيهِ فَضْلٌ، فَهَلْ يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَقْبِضَهُ عَنْهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا.
أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُتَطَوِّعًا فِي مَالِ الْوَارِثِ بِإِقْبَاضِ مَا لَا يَلْزَمُ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرْتَهِنُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّ: يَجُوزُ أَنْ يَقْبِضَ الرَّهْنَ عَنِ الْوَارِثِ لِمَا لَهُ فِيهِ مِنَ الْحَظِّ فَعَلَى هَذَا إِذَا قَبَضَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الْبَيْعِ. فَهَذَا الْكَلَامُ فِي مَوْتِ الرَّاهِنِ.

(فَصْلٌ)
وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الْمُرْتَهِنَ فَالرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ فِي تَسْلِيمِ الرَّهْنِ إِلَى وَرَثَةِ الْمُرْتَهِنِ، وَإِقْبَاضِهِمْ إِيَّاهُ، أَوْ مَنْعِهِمْ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ مَعَ الْمُرْتَهِنِ فِي حَيَاتِهِ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ الْخِيَارُ مَعَ وَارِثِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ.
فَإِنْ أَقْبَضَهُمُ الرَّهْنَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَجْدِيدِ عَقْدٍ، وَأَقْبَضَهُمْ إِيَّاهُ بِالْعَقْدِ الْمُتَقَدِّمِ، لِأَنَّهُ عَلَى حَالِهِ فِي الصِّحَّةِ. فَإِذَا قَبَضُوا الرَّهْنَ فَلَا خِيَارَ لَهُمْ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ بِحُصُولِ الرَّهْنِ لِلْمُرْتَهِنِ فِي حَيَاتِهِ.
وَإِنْ مَنَعَهُمُ الرَّهْنَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَلَا خِيَارَ لَهُمْ، وَالدَّيْنُ بِلَا رَهْنٍ، وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَجُوزُ أَمْرُهُمْ، أَوْ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَمْرُهُمْ:
فَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ يَجُوزُ أَمْرُهُمْ لِبُلُوغِهِمْ وَرُشْدِهِمْ فَهُمْ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ، أَوْ فَسْخِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَظُّ لَهُمْ فِي إِمْضَائِهِ، أَوْ فَسْخِهِ لِأَنَّ الْفَسْخَ حَقٌّ لَهُمْ فَلَمْ يُجْبَرُوا عَلَيْهِ مَعَ جَوَازِ تَصَرُّفِهِمْ.

(6/18)


وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَمْرُهُمْ لِصِغَرِهِمْ، وَعَدَمِ رُشْدِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَظٌّ فِي إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ، فَوَاجِبٌ عَلَى وَلِيِّهِمْ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ، لِأَنَّ فِي إِمْضَائِهِ بِلَا رَهْنٍ تَغْرِيرٌ بِثَمَنِهِ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ فِي إِمْضَائِهِ حَظٌّ، لِوُفُورِ الثَّمَنِ، فَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ الْمُشْتَرِي مُعْسِرًا أَوْ كَانَ غَيْرَ أَمِينٍ فَعَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ أَيْضًا. وَإِنْ كَانَ أَمِينًا مُوسِرًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: يُفْسَخُ أَيْضًا لِجَوَازِ أَنْ يَتَغَيَّرَ حَالُهُ.
وَالثَّانِي: لَا يُفْسَخُ لِمَا فِيهِ مِنْ وُفُورِ الْحَظِّ وَأَنَّ الْعَقْدَ تَمَّ بِغَيْرِهِ. وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخْرَجَانِ مِنَ الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ فِي وَلِيِّ وَرَثَةِ الرَّاهِنِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ إِقْبَاضُ الرَّهْنِ إِذَا كَانَ فِي إِقْبَاضِهِ حَظٌّ لَهُمْ أَمْ لَا؟
فَهَذَا الْكَلَامُ فِي مَوْتِ الْمُرْتَهِنِ.
فَأَمَّا إِنْ مَاتَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ جَمِيعًا. فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي وَرَثَةِ الرَّاهِنِ عَلَى مَا مَضَى وَفِي وَرَثَةِ الْمُرْتَهِنِ عَلَى مَا مَضَى.
فَأَمَّا إِنْ مَاتَ الرَّاهِنُ أَوِ الْمُرْتَهِنُ بَعْدَ قَبْضِ الرَّهْنِ، فَالرَّهْنُ عَلَى حَالِهِ لَا يَنْفَسِخُ، لِأَنَّهُ بَعْدَ الْقَبْضِ قَدْ لَزِمَ. وَالْعَقْدُ اللَّازِمُ لَا يَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ.

(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ أُرْهِنُكَ دَارِي عَلَى أَنْ تُدَايِنَنِي فَدَايَنَهُ لَمْ يَكُنْ رَهْنًا حَتَّى يَعْقِدَا الرَّهْنَ مع الحق أو بعده (قال) حدثنا الربيع عن الشافعي قال لا يجوز إلا معه أو بعده فأما قبله فلا رهن ".
قال الماوردي: والثاني أَنْ يَعْقِدَ مَعَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَعْقِدَ قَبْلَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ.
فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ
الحال الأولى: وَهُوَ أَنْ يُعْقَدَ بَعْدَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ فَهُوَ أَنْ يَسْتَقِرَّ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ رَجُلٍ مِنْ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ أَوْ أَرْشِ جِنَايَةٍ، أَوْ ضَمَانِ صَدَاقٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحُقُوقِ، فيصير الدين ثابت فِي ذِمَّةِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رَهْنٍ. ثم إن من عليه الدين يَدْفَعُ إِلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ رَهْنًا بِهِ. فَهَذَا يَكُونُ مُتَطَوِّعًا بِالرَّهْنِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعْطِهِ بِذَلِكَ رَهْنًا، لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ مُطَالَبَتُهُ برهن. فإذا رهنه بالدين شيئا وأقبضه، فقدم لَزِمَ الرَّهْنُ وَلَيْسَ لَهُ اسْتِرْجَاعُهُ إِلَّا بَعْدَ فكاكه.
وأما الضرب الثاني.
الحالة الثَّانِيَةُ: وَهُوَ أَنْ يُعْقَدَ الرَّهْنُ مَعَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمٍ وَلَا تَأْخِيرٍ. وَهَذَا

(6/19)


يَكُونُ فِي مَوْضِعَيْنِ: إِمَّا فِي الْبَيْعِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ عَبْدِي هَذَا بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي دَارَكَ رَهْنًا. أَوْ فِي الْقَرْضِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: قَدْ أَقْرَضْتُكَ هَذِهِ الْأَلْفَ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي عَبْدَكَ رَهْنًا، فَيَصِيرُ الرَّهْنُ مَعْقُودًا مَعَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمٍ عَلَيْهِ وَلَا تَأَخُّرٍ عَنْهُ. فَهَذَا أَيْضًا رَهْنٌ جَائِزٌ، لِأَنَّ كُلَّ وَثِيقَةٍ صَحَّتْ بَعْدَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ صَحَّتْ مَعَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ كَالشَّهَادَةِ.
فَإِذَا ثَبَتَ انْعِقَادُ الرَّهْنِ، فَالرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِقْبَاضِ الرَّهْنِ، وَبَيْنَ مَنْعِهِ. فَإِنْ أَقْبَضَ الرَّهْنَ، فَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ الْبَائِعِ، وَإِنْ مَنَعَ إِقْبَاضَهُ كَانَ الْمُرْتَهِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ، وَبَيْنَ فَسْخِهِ، وَلَا يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى إِقْبَاضِهِ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ.
وَقَالَ أبو حنيفة يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى إِقْبَاضِهِ إِذَا كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ، وَلَا يَكُونُ مُخَيَّرًا فِيهِ لِأَنَّهُ بِالشَّرْطِ قَدْ صَارَ صِفَةً لِعَقْدٍ لَازِمٍ، فَوَجَبَ أَنْ تَجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْعَقْدِ فِي اللُّزُومِ كَالْخِيَارِ وَالْأَجَلِ.
وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّهَا وَثِيقَةٌ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا بَعْدَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ، فَوَجَبَ أَلَّا يُجْبَرَ عَلَيْهَا مَعَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ كَالشَّهَادَةِ وَالضَّمَانِ.
وَلِأَنَّ كُلَّ دَيْنٍ لَا يُجْبَرُ فِيهِ عَلَى إِقَامَةِ ضَمِينٍ، لَمْ يُجْبَرْ فِيهِ عَلَى إِقْبَاضِ رَهْنٍ.
أَصْلُهُ: الدَّيْنُ الْمُسْتَقِرُّ بِغَيْرِ ضَمِينٍ وَلَا رَهْنٍ.
فَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الرَّهْنَ قَدْ صَارَ بِالشَّرْطِ صِفَةً لِلْبَيْعِ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ كَالْخِيَارِ وَالْأَجَلِ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْخِيَارَ وَالْأَجَلَ، لَا يَصِحُّ انْفِرَادُهُمَا عَنِ الْعَقْدِ أَنْ يَصِيرَا صِفَةً لِلْعَقْدِ. وَالرَّهْنُ عَقْدٌ عَلَى حَالِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِحُكْمِهِ، وَلَا يَصِيرُ صِفَةً لِغَيْرِهِ.

(فصل)
الضَّرْبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يُعْقَدَ الرَّهْنُ قَبْلَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ. فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: قَدْ رَهَنْتُكَ دَارِي عَلَى أَنْ تُدَايِنَنِي، أَوْ تُبَايِعَنِي، أَوْ عَلَى مَا يَحْصُلُ لَكَ عَلَيَّ، فَهَذَا رَهْنٌ بَاطِلٌ لِتَقَدُّمِهِ عَلَى الدَّيْنِ، وَكَذَلِكَ فِي الضَّمَانِ إذا ضمن له ما لا قَبْلَ ثُبُوتِهِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: تَقَدُّمُ الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ عَلَى ثُبُوتِ الدَّيْنِ جَائِزٌ لِجَوَازِهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] .
فَجَعَلَ لُزُومَ الرَّهْنِ بِالْقَبْضِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهِ تَقَدُّمَ الْحَقِّ، فَدَلَّ عَلَى اسْتِوَاءِ حُكْمِهِ قَبْلَ، وَبَعْدَ.
وَلَوْ كَانَ تَقَدُّمُ الْحَقِّ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ لَقَيَّدَ الرَّهْنَ بِهِ، كَمَا قَيَّدَهُ بِالْقَبْضِ.
قَالَ: وَلِأَنَّ الرَّهْنَ عَيْنٌ هِيَ وَثِيقَةٌ لِلْبَائِعِ فِي الْحَقِّ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ تَقَدُّمُهَا عَلَى الْحَقِّ كَالْبَائِعِ

(6/20)


يَحْبِسُ الْمَبِيعَ فِي يَدِهِ، لِاسْتِيفَاءِ ثَمَنِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَدِيمَ الْيَدِ قَبْلَ حَقِّهِ. كَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَحْبِسَ الْبَائِعُ رَهْنًا فِي يَدِهِ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَقِّ.
قَالَ: وَلِأَنَّ حُكْمَ عَقْدِ الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ سَوَاءٌ، عِنْدَنَا وَعِنْدَكُمْ بَعْدَ الْحَقِّ وَقَبْلَهُ ثُمَّ قَدْ أَجْمَعْنَا وَإِيَّاكُمْ عَلَى جَوَازِ الضَّمَانِ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَقِّ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ. فَكَذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ. فَإِذَا جَازَ الضَّمَانُ فِي مَوْضِعٍ، جَازَ الرَّهْنُ مَعَهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، لِأَنَّكُمْ قَدْ سَوَّيْتُمْ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الْحَقِّ فِي الْجَوَازِ، وَقَبْلَ الْحَقِّ فِي الْمَنْعِ.
وَأَحَدُ الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا الضَّمَانُ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَقِّ أَنْ يَقُولَ: أَلْقِ مَتَاعَكَ فِي الْبَحْرِ وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ. أَوْ أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي وَعَلَيَّ قِيمَتُهُ. فَإِذَا أَلْقَى مَتَاعَهُ، أَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ، لَزِمَهُ ضَمَانُ قِيمَتِهِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ ضَمَانِهِ.
وَالثَّانِي: ضَمَانُ الدَّرْكِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ، فَإِذَا اسْتَحَقَّ لَزِمَ الضَّامِنَ غُرْمُ ثَمَنِهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ ضَمَانِهِ.
وَالثَّالِثُ: ضَمَانُ نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ إِذَا ضَمِنَهَا عَنِ الزَّوْجِ أَجْنَبِيٌّ لَزِمَهُ ضَمَانُهَا وَإِنْ كَانَ ضَمَانُهُ قَبْلَ وُجُوبِهَا.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهَا وثيقة يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَوْثَقَ بِهَا مَعَ الْحَقِّ، فَلَمْ تَصِحَّ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَقِّ كَالشَّهَادَةِ. وَلِأَنَّ كُلَّ حَالٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَوْثَقَ فِيهَا بِالشَّهَادَةِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَوْثَقَ فِيهَا بِالرَّهْنِ وَالضَّمَانِ.
أَصْلُهُ: إِذَا قَالَ: قَدْ ضَمِنْتُ لَكَ مَا تُدَايِنُ بِهِ النَّاسَ كُلَّهُمْ. أَوْ قَدْ رَهَنْتُكَ هَذَا عَلَى مَا تُدَايِنُ بِهِ النَّاسَ كُلَّهُمْ؟
وَلِأَنَّ الِارْتِهَانَ هُوَ احْتِبَاسٌ بِالْحَقِّ وَوَثِيقَةٌ فِيهِ فَلَمْ يَجُزْ تَقَدُّمُ الِاحْتِبَاسِ عَلَى غَيْرِ حَقٍّ يَقَعُ بِهِ الِاحْتِبَاسُ.
وَلِأَنَّ هَذَا عَقْدُ رَهْنٍ بِصِفَةٍ، وَالْعُقُودِ لَا يَجُوزُ أَنْ تُعَلَّقَ بِالصِّفَاتِ. كَقَوْلِهِ: إِذَا قَدِمَ زَيْدٌ فَقَدْ رَهَنْتُكَ عَبْدِي. وَلِأَنَّ مَا يُدَايِنُهُ فِي ثَانِي حَالٍ مَجْهُولُ القدر، والرهن في المجهول لا يصح فأما الآية فحجة عليه لأنه تعالى قال: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 283] ثم قال تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتبا فرهان مقبوضة} [البقرة: 283] فَكَانَ الدَّيْنُ الْمَذْكُورُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ، كَالْقَبْضِ الْمَذْكُورِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ حَبْسِ الْمَبِيعِ بِيَدٍ مُتَقَدِّمَةٍ فَغَلَطٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَحْبِسُ الْمَبِيعَ بِيَدِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَإِنَّمَا يَحْبِسُهُ بِعَقْدِ

(6/21)


البيع الحادث. وأما الذي ذَكَرَهُ مِنْ صِحَّةِ ضَمَانِ مَا لَمْ يَجِبْ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا نَحْكِيهِ مِنْ مَذْهَبِنَا شَرْحًا وَانْفِصَالًا:
أَمَّا تَقَدُّمُ الضَّمَانِ بِقَوْلِهِ: أَلْقِ مَتَاعَكَ فِي الْبَحْرِ، وَعَلَيَّ قِيمَتُهُ، فَلَيْسَ هَذَا بِضَمَانٍ. وَإِنَّمَا اسْتِدْعَاءُ الْإِتْلَافِ بِعِوَضٍ يَجْرِي الْحُكْمُ فِيهِ مَجْرَى الْمُعَاوَضَاتِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الضَّمَانَ إِنَّمَا يَلْزَمُ بِاللَّفْظِ، وَالضَّمَانُ هَاهُنَا يَلْزَمُ بِالْإِتْلَافِ، لَا بِاللَّفْظِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الضَّمَانَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِثَلَاثَةِ أَنْفُسٍ: ضَامِنٌ، وَمَضْمُونٌ عَنْهُ، وَمَضْمُونٌ لَهُ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَاهُنَا فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا ضَمَانُ دَرْكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ جَوَازُهُ.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ ضَمَانُ الدَّرْكِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَالٍ قَبْلَ وُجُوبِهِ. وَهَذَا غَلَطٌ، بَلْ ضَمَانُهُ جَائِزٌ وَلَا يَكُونُ ضَامِنَ مَالٍ قَبْلَ وُجُوبِهِ. لِأَنَّهُ لَيْسَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مُسْتَحَقًّا أَوْ مِلْكًا، فَإِنْ كَانَ مِلْكًا، فَالضَّمَانُ لَمْ يَجِبْ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَحَقًّا فَقَدِ اسْتَحَقَّ ثَمَنُهُ بِالْقَبْضِ فَيَكُونُ مِنْ ضَمَانِ مَا قَدْ وَجَبَ.
فَإِنْ قِيلَ: إذا جاز ضمان الدرك فهل لا جَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ؟
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ ضَمَانَ الدَّرْكِ وَاجِبٌ عَلَى الْبَائِعِ، فَجَازَ أَنْ يَضْمَنَهُ عَنْهُ أَجْنَبِيٌّ، وَدَفْعُ الرَّهْنِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْبَائِعِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْهَنَ عَنْهُ أَجْنَبِيٌّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ فِي أَخْذِ الرَّهْنِ إِضْرَارًا بِرَاهِنِهِ. إِذْ لَيْسَ يَعْلَمُ وَقْتَ اسْتِحْقَاقِهِ، وَلَيْسَ فِي الضَّمَانِ إِضْرَارٌ بضامنه فَجَازَ الضَّمَانُ لِزَوَالِ الضَّرَرِ فِيهِ وَلَمْ يَجُزِ الرَّهْنُ، لِحُصُولِ الضَّرَرِ فِيهِ.
(فَصْلٌ)
وَأَمَّا ضَمَانُ نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ فَفِي جَوَازِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ ضَمَانُهَا وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ: مَتَى تَجِبُ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ؟ فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ تَجِبُ بِالْعَقْدِ وَالتَّمْكِينِ. فَعَلَى هَذَا ضَمَانُهَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: تَجِبُ بِالْعَقْدِ جُمْلَةً، وَيُسْتَحَقُّ قَبْضُهَا بِالتَّمْكِينِ فَعَلَى هَذَا ضَمَانُهَا جَائِزٌ، لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَا وَجَبَ وَفِي جَوَازِ أَخْذِ الرَّهْنِ بِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ الضمان.
والثاني: لا يجوز كالدرك.

(6/22)


(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَجُوزُ ارْتِهَانُ الْحَاكِمِ وَوَلِيِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لَهُ وَرَهْنُهُمَا عَلَيْهِ فِي النَّظَرِ لَهُ وَذَلِكَ أَنْ يبيعا ويفضلا ويرتهنا فأما أن يسلفا ويرتهنا فهما ضامنان لأنه لا فضل له في السلف يعني القرض ومن قلت لا يجوز ارتهانه إلا فيما يفضل من ولي ليتيم أو أب لابن طفل أو مكاتب أو عبد مأذون له في التجارة فلا يجوز له أن يرهن شيئا لأن الرهن أمانة والدين لازم (قال) فالرهن نقص عليهم فلا يجوز أن يرهنوا إلا حيث يجوز أن يودعوا أموالهم من الضرورة بالخوف إلى تحويل أموالهم أو ما أشبه ذلك ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيمَنْ يَرْهَنُ وَيَرْتَهِنُ لِنَفْسِهِ. فَأَمَّا الْمَوْلَى عَلَيْهِ لِصِغَرٍ أَوْ سَفَهٍ أَوْ جُنُونٍ فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ بِرَهْنٍ وَلَا ارْتِهَانٍ.
وَيَتَوَلَّى ذَلِكَ وَلِيُّهُ مِنْ أَبِيهِ أَوْ وَصِيٌّ لِلْوَرَثَةِ أَوْ أَمِينٌ حَاكِمٌ فَإِذَا أَرَادَ الْوَلِيُّ ذَلِكَ، فَالْحُكْمُ فِيهِ مُشْتَمِلٌ عَلَى فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي الِارْتِهَانِ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ.
وَالثَّانِي: فِي الرَّهْنِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ.
فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الِارْتِهَانُ لَهُ فِي دَيْنٍ ثَبَتَ لَهُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرْتَهِنَ لَهُ فِي دَيْنٍ مُتَقَدِّمٍ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي ذِمَّةِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رَهْنٍ فَيَأْخُذُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ رَهْنًا. فَهَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الرَّهْنِ فِي دَيْنٍ قَدِ اسْتَقَرَّ بِلَا رَهْنٍ زِيَادَةٌ وَثِيقَةٌ وَفَضْلٌ نُظِرَ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَرْتَهِنَ لَهُ فِي دَيْنٍ مُسْتَحْدَثٍ بِعَقْدٍ وَذَلِكَ فِي شَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي شَيْءٍ يَبِيعُهُ مِنْ مَالِهِ.
وَالثَّانِي: فِي شَيْءٍ يُقْرِضُهُ مِنْ مَالِهِ.
فَأَمَّا الْبَيْعُ إِذَا كَانَ لِغِبْطَةٍ أَوْ حَاجَةٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِنَقْدٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِنَسَاءٍ.
فَإِنْ كَانَ بِنَقْدٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ رَهْنًا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ الْمَبِيعَ مِنْ يَدِهِ إِلَّا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ ثَمَنِهِ. فَلَا مَعْنَى لِأَخْذِ الرَّهْنِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ارْتِهَانَ الْمَبِيعِ عَلَى ثَمَنِهِ أَوْلَى مِنْ تَسْلِيمِهِ وَأَخْذِ رهن بثمنه.

(6/23)


وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ بِنَسَاءٍ فَصِحَّةُ الْبَيْعِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى خَمْسَةِ شُرُوطٍ:
فَالشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ في الثمن فضل، وهو مثل أَنْ يَكُونَ ثَمَنُ السِّلْعَةِ الْمَبِيعَةِ نَقْدًا بِمِائَةٍ فَيَبِيعُهَا نَسِيئَةً بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، فَيَكُونُ حَظُّ الْمَوْلَى عَلَيْهِ فِي النَّسِيئَةِ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ فَضْلِ الرِّبْحِ، وَأَمَّا أَنْ يَبِيعَهُ نَسِيئَةً بِالثَّمَنِ الَّذِي يُسَاوِي نَقْدًا وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَلَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَا حَظَّ فِي تَأْجِيلِ حَقٍّ يُقْدَرُ عَلَى تَعْجِيلِهِ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي ثِقَةً مُوسِرًا فَيَجْتَمِعُ فِيهِ الْوَصْفَانِ: الثِّقَةُ وَالْيَسَارُ، فَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعَا فِيهِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَالْمَالُ تَائِهٌ وَإِنْ كان خائنا فالجحود مَخُوفٌ.
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ مُقْتَصِدًا غَيْرَ بَعِيدٍ وَلَا مُتَطَاوِلٍ؛ لِأَنَّ فِي بُعْدِ الْأَجَلِ وَتَطَاوُلِ الْمُدَّةِ تَغْرِيرًا بِالدَّيْنِ، وَإِضَاعَةً لِلْحَقِّ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَحْدِيدِ الْأَجَلِ الَّذِي لَا يَجُوزُ لَهُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ: فَحَدَّهُ بَعْضُهُمْ بِالسَّنَةِ وَقَالَ: إِنْ كَانَ الْأَجَلُ زَائِدًا عَلَى السَّنَةِ لَمْ يَجُزْ. وَامْتَنَعَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا مِنْ تَحْدِيدِهِ بِالسَّنَةِ وَاعْتَبَرُوا فِيهِ عُرْفَ النَّاسِ وَشَاهِدَ الْحَالِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ السِّلَعِ. وَتَبَايُنِ العادات فيها، فيجوز مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنِ تَعَارُفِ النَّاسِ فِي آجَالِ تِلْكَ السِّلْعَةِ، وَمَنَعُوا مِنْهُ مَا خَرَجَ عن تعارف الناس من آجال تلك السلعة.
وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ رَهْنًا لِيَكُونَ وَثِيقَةً فِي الْحَقِّ، فَلَا يُخْرِجُ مِنْ يَدِهِ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ مَالًا إِلَّا أَنْ يَأْخُذَ لَهُ عَلَيْهِ مَالًا. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا يَأْخُذُ بِهِ رَهْنًا مِنَ الثَّمَنِ:
فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: يَأْخُذُ الرَّهْنَ بِالْفَاضِلِ عَلَى ثَمَنِ النَّقْدِ. وَيَتَعَجَّلُ قَبْضَ ثَمَنِ السِّلْعَةِ نَقْدًا كَأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ تساوي نقدا مائة نقدا وَنَسَاءً مِائَةً وَخَمْسِينَ، فَعَجَّلَ قَبْضَ الْمِائَةِ وَأَجَّلَ قَبْضَ الْخَمْسِينَ وَأَخَذَ مِنْهُ رَهْنًا بِهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَجِّلَ جَمِيعَ الثَّمَنِ وَيَأْخُذَ مِنْهُ رَهْنًا بِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَغْرِيرًا بِمَالِهِ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَسَائِرُ أَصْحَابِنَا: يَأْخُذُ مِنْهُ رَهْنًا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَيَكُونُ جَمِيعُهُ مُؤَجَّلًا لِأَنَّ الْوَلِيَّ لَوْ مُنِعَ مِنْ هَذَا حَتَّى يَقْبِضَ قِيمَةَ السِّلْعَةِ نَقْدًا وَيُؤَجِّلَ الْبَاقِيَ وَيَأْخُذَ بِهِ رَهْنًا لَكَانَ ذَلِكَ مُتَعَذَّرًا بَلْ لَا أَحْسَبُهُ فِي الْغَالِبِ مُمْكِنًا، وَلَا أَظُنُّ عَاقِلًا يَفْعَلُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ رَهْنًا فَيَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ يُقَيَّمُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَيَزِيدُ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ يَعْجِزُ عَنْ جَمِيعِ الثَّمَنِ لَمْ يَجُزْ.
وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الْمُشْتَرِي لِتَكُونَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِذَلِكَ خَوْفًا أَنْ يَصِيرَ إِلَى

(6/24)


حَالَةٍ يَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الِاحْتِيَاطِ، وَأَوْكَدُ فِي التَّوَثُّقِ.
فَهَذِهِ خَمْسَةُ شُرُوطٍ عَلَى الْمَوْلَى أَنْ يَفْعَلَهَا فِي مَالِ الْوَلِيِّ عَلَيْهِ لِيَصِحَّ الْبَيْعُ وَالرَّهْنُ فَإِنْ أَخَلَّ بِشَرْطٍ مِنْهَا نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا مِنَ الشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ دُونَ الشَّهَادَةِ بَطَلَ الْبَيْعُ وَالرَّهْنُ، وَإِنْ أَخَلَّ بِالشَّهَادَةِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَالرَّهْنُ، كَالشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ.
وَالثَّانِي: لَا يَبْطُلُ. وَتَكُونُ الشَّهَادَةُ تَأْكِيدًا؛ لِأَنَّهَا تُرَادُ لِلِاسْتِيثَاقِ، وَالرَّهْنُ أَقْوَى اسْتِيثَاقًا مِنْهَا، وَلَمْ يَفْتَقِرِ الْوَلِيُّ إِلَيْهَا. فَهَذَا الْحُكْمُ فِي بَيْعِ مَالِهِ وَأَخْذِ رَهْنٍ بِهِ.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا قَرْضُ ماله وأخذ رهن بِهِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الزَّمَانُ آمِنًا، وَالسُّلْطَانُ عَادِلًا لَا يُخَافُ عَلَى الْمَالِ التَّلَفُ. وَلَا يُخْشَى عَلَيْهِ الْهَلَاكُ. فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقْرِضَهُ؛ لِأَنَّ فِي إِقْرَاضِهِ والحالة هذه عدم حظ وقل نَظَرٍ، فَإِنْ أَقْرَضَهُ كَانَ ضَامِنًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الزَّمَانُ مَخُوفًا وَالسُّلْطَانُ جَائِرًا يُخَافُ عَلَى الْمَالِ التَّلَفُ، وَيُخْشَى عَلَيْهِ الْهَلَاكُ فَفِي جَوَازِ قَرْضِهِ وَجْهَانِ.
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْمَالِ وَإِنْ كَانَ مَخُوفًا فَالْقَرْضُ مَخُوفٌ. فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَجَّلَ أَحَدَ الْخَوْفَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ قَرْضَهُ أَقَلُّ غَرَرًا وَتَرْكَهُ أَكْثَرُ خَوْفًا. فَعَلَى هَذَا يُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ هَذَا الْقَرْضِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ:
فَالشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُقْرِضَهُ لِرَجُلٍ ثِقَةٍ مليء بِحَيْثُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُودِعَهُ مَالَ الْمَوْلَى إليه كَانَ أَهْلًا لِذَلِكَ. فَإِنْ أَقْرَضَهُ غَيْرَ ثِقَةٍ، أو كان ثقة غير مليء لَمْ يَجُزْ لِمَا فِيهِ مِنْ تَغْرِيرِ الْمَالِ.
وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ رَهْنًا بِذَلِكَ لِيَكُونَ وَثِيقَةً بِالدَّيْنِ الَّذِي حَصَلَ عَلَيْهِ. وَيَكُونُ فِي الرَّهْنِ وَفَاءً بِالْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ رَهْنًا أَوْ أَخَذَ مِنْهُ رَهْنًا لَيْسَ فِيهِ وَفَاءٌ لَمْ يَجُزْ.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَجُوزُ أَلَّا يَأْخُذَ عَلَى الْقَرْضِ رَهْنًا بِخِلَافِ الْبَيْعِ؟ لِأَنَّ الْقَرْضَ إِنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَ الْخَوْفِ عَلَى الْمَالِ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَخْرُجَ الْمَالُ مِنْ يَدِهِ خَوْفًا عَلَيْهِ، جَازَ أَلَّا يَأْخُذَ رَهْنًا تَخَوُّفًا عَلَيْهِ. وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْمَالَ إِنْ تَلِفَ كَانَ مِنْ ضَمَانِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، فَجَازَ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ يَدِهِ. وَلَيْسَ الرَّهْنُ إِنْ تَلِفَ مِنْ ضَمَانِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ يَدِهِ.
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الِاسْتِيثَاقِ مِنْهُ. فَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ.

(6/25)


فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الِارْتِهَانِ لَهُ فِي دَيْنِهِ.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا الرَّهْنُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ فِيمَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي دَيْنٍ مُتَقَدِّمٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ يكون في دين مستحدث.
فأما إن كَانَ الدَّيْنُ مُتَقَدِّمًا فَقَدِ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رَهْنٍ. فَلَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَسْتَأْنِفَ إِعْطَاءَ رَهْنٍ مِنْ مَالِهِ فِي ذَلِكَ الدَّيْنِ، لِأَنَّهُ يَتَطَوَّعُ فِي مَالِهِ. بِإِخْرَاجِ مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُسْتَحْدَثًا عَنْ عَقْدٍ فَشَيْئَانِ: ابْتِيَاعٌ وَاقْتِرَاضٌ.
فَأَمَّا الِابْتِيَاعُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إِلَى شِرَاءِ مَا ابْتَاعَهُ لَهُ كَانَ بَاطِلًا، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَ عَلَيْهِ رَهْنًا. وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى شِرَاءِ مَا ابْتَاعَهُ لَهُ أَوْ كَانَ فِيهِ حَظٌّ لَهُ.
فإن كان واجدا لثمنه ابتاعه نَقْدًا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْتَاعَهُ نَسَاءً لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي ابْتِيَاعِهِ بِالنَّقْدِ تَوْفِيرًا عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ رُبَّمَا تَلِفَ الْمَالُ وَكَانَ الثَّمَنُ بَاقِيًا عَلَيْهِ، فَإِذَا ابْتَاعَهُ بِالنَّقْدِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَ بِالثَّمَنِ رَهْنًا لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْهَنَ مَعَ الثَّمَنِ خَوْفًا مِنْ تَلَفِ الْمَالِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّهْنَ أَمَانَةٌ، فَلَمْ يُؤْمَنْ تَلَفُ الرَّهْنِ مِنْ مَالِهِ، وَيَبْقَى عَلَيْهِ الثَّمَنُ.
فَهَذَا حُكْمُ مَا ابْتَاعَهُ لَهُ بِالنَّقْدِ وَذَلِكَ يَجُوزُ فِي مَوْضِعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ كَدَارٍ يَسْكُنُهَا، أَوْ جَارِيَةٍ يستخدمها أو ثوب يلبسه أو طعام يأكله.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ حَظٌّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ، كَالْأَمْتِعَةِ لِلتِّجَارَةِ، وَالْعَقَارَاتِ الْمُسْتَصْلَحَةِ.
وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ عَادِمًا لِلثَّمَنِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَاعَ لَهُ شَيْئًا بِالنَّسِيئَةِ إِلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إلى مالا يُسْتَغْنَى عَنْهُ مِنْ مَأْكُولٍ، أَوْ لِبَاسٍ، أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْهُ. فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ يَبْتَاعَ بِالنَّسِيئَةِ إِذَا لَمْ يَجِدْ فِي مَالِهِ مَا يَبْتَاعُهُ لَهُ بِالنَّقْدِ. فَإِنْ وُجِدَ مَنْ يَبْتَاعُ مِنْهُ بِالنَّسَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْطِيَهُ بِذَلِكَ رَهْنًا فَعَلَ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَهُ رَهْنًا بِهِ، فَإِنْ أَعْطَاهُ رَهْنًا بِهِ كَانَ ضَامِنًا لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَبِيعُهُ بِالنَّسَاءِ إِلَّا أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ رَهْنًا جَازَ حِينَئِذٍ أَنْ يُعْطِيَهُ رَهْنًا بِقَدْرِ الدَّيْنِ فَمَا دُونَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ أَزْيَدَ قِيمَةً مِنْ قَدْرِ الدَّيْنِ.

(6/26)


وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ الَّذِي يُعْطِيهِ مِمَّا يَقِلُّ الْخَوْفُ عَلَيْهِ، كَالْأَرَضِينَ وَالْعَقَارَاتِ دُونَ الْعُرُوضِ وَالسِّلَعِ، فَإِذَا أَعْطَاهُ بِذَلِكَ رَهْنًا اعْتُبِرَتْ حَالُ الْبَائِعِ الْمُرْتَهِنِ، فَإِنْ كَانَ ثِقَةً أَمِينًا جَازَ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ مَوْضُوعًا فِي يَدِهِ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ أَمِينٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُوضَعَ الرَّهْنُ عَلَى يَدَيْهِ، خَوْفًا أَنْ يَدَّعِيَ هَلَاكَهُ وَيُطَالِبَ بِدَيْنِهِ، وَوَضَعَ الرَّهْنَ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ ثِقَةٍ.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الِاقْتِرَاضُ لَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ حَاجَةٌ إِلَيْهِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْتَرِضَ لَهُ فَإِنْ فَعَلَ كَانَ ضَمَانُ الْقَرْضِ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى الْقَرْضِ إِمَّا لِلْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ، أَوْ لِلْإِنْفَاقِ عَلَى مَالِهِ فِي عمارة ما خرب من ضياعه ومرماه ما استهدم من عقاره وليس ينص شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ، جَازَ حِينَئِذٍ أَنْ يَقْتَرِضَ لَهُ حَسَبَ حَاجَتِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ.
فَإِنْ أَمْكَنَ أَلَّا يُعْطِيَ عَلَى ذَلِكَ رَهْنًا، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِإِعْطَاءِ رَهْنٍ، وَإِنْ لَمْ يمكن الِاقْتِرَاضُ لَهُ إِلَّا بِرَهْنٍ جَازَ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ مَالِهِ رَهْنًا لَا يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ الْقَرْضِ، وَيُوضَعُ عَلَى يَدَيِ الْمُقْرِضِ إِنْ كَانَ عَدْلًا أَوْ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُقْرِضُ عَدْلًا، فَإِنْ وَضَعَهُ عَلَى يَدِ الْمُقْرِضِ وَلَيْسَ بِعَدْلٍ كَانَ الْوَلِيُّ ضَامِنًا لَهُ.
(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فِي رَهْنِهِ وَارْتِهَانِهِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْهَنَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ وَلِيِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْهَنَ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا مَضَى سَوَاءٌ.
فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْتَهِنَ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ عَلَى دَيْنٍ لَهُ فَإِنْ كَانَ دَيْنًا قَدِ اسْتَقَرَّ فِي ذِمَّةِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رَهْنٍ جَازَ؛ لِأَنَّ فِي أَخْذِ رَهْنٍ عَلَيْهِ زِيَادَةٌ وَثِيقَةٌ فِيهِ.
وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْتَهِنَ فِي دَيْنٍ مُسْتَحْدَثٍ فَإِنْ كَانَ قَرْضًا كَانَ وَلِيُّ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ عَلَى مَا مَضَى وَإِنْ كَانَ بَيْعًا فَإِنْ كَانَ نَقْدًا لَمْ يَجُزْ وَكَانَ الْمَبِيعُ نَفْسُهُ رَهْنًا، وَإِنْ كَانَ نَسَاءً فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ بِالنَّسَاءِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَوَلِيِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي أَخْذِ الرَّهْنِ فِيهِ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ رَهْنًا عَلَيْهِ لِفَسَادِ الْبَيْعِ.
(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْهَنَ شَيْئًا مِمَّا فِي يَدِهِ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ.
فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ رَهْنًا عَلَى ثَمَنٍ مَبِيعٍ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ نَقْدًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ يَدِهِ وَيَأْخُذَ رَهْنًا بِهِ.
وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ نَسَاءً لَمْ يَخْلُ حَالُ إِذْنِ السَّيِّدِ لَهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

(6/27)


أَحَدُهَا: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي بَيْعِ النَّقْدِ لَا غَيْرَ. فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ بِالنَّسَاءِ، وَإِنْ بَاعَ نَسَاءً كَانَ بَاطِلًا سَوَاءٌ أَخَذَ عَلَيْهِ رَهْنًا أَمْ لَا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْبَيْعِ نَسَاءً، فَيَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى الثَّمَنِ رَهْنًا سَوَاءٌ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ فِي أَخْذِهِ أَمْ لَا مَا لَمْ يَنْهَهُ عَنْهُ وَلِأَنَّ أَخْذَ الرَّهْنِ فِيهِ زِيَادَةُ احْتِيَاطٍ لِلسَّيِّدِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ إِذْنًا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهِ النَّقْدَ، وَلَا يَأْذَنَ لَهُ فِيهِ بِالنَّسَاءِ.
فَهَذَا الْإِطْلَاقُ يَقْتَضِي بَيْعَ النَّقْدِ، لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْإِذْنِ يَقْتَضِي تَعْجِيلَ الْعِوَضِ فَعَلَى هَذَا: إِنْ بَاعَ بِالنَّسَاءِ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ بَاطِلًا، سَوَاءٌ أَخَذَ عَلَيْهِ رَهْنًا أَمْ لَا.
وَإِذَا أَخَذَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ رَهْنًا فِيمَا بَاعَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا فَقَالَ الْعَبْدُ: قَدْ فَسَخْتُ الرَّهْنَ لَمْ ينفسخ، ولأنه وَثِيقَةٌ لِسَيِّدِهِ، فَلَمْ يَنْفَسِخْ بِقَوْلِهِ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ السَّيِّدُ: قَدْ فَسَخْتُهُ. انْفَسَخَ لِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ لَهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى الْعَبْدِ دُيُونٌ فَلَا يَنْفَسِخُ الرَّهْنُ بِفَسْخِ السَّيِّدِ لِأَنَّ دُيُونَ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا فِي يَدِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُبْطِلَ حُقُوقَ أَرْبَابِ الدُّيُونِ مِنَ الرَّهْنِ، وَالِاسْتِيثَاقِ بِهِ.
فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ إِذَا أَخَذَ رَهْنًا عَلَى الْوَجْهِ الْجَائِزِ، فَقَالَ السَّيِّدُ: قَدْ فَسَخْتُهُ، لَمْ يَنْفَسِخْ، لِأَنَّ تَصَرُّفَ السَّيِّدِ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ غَيْرُ نَافِذٍ، وَحَالُهُ مَعَهُ كَحَالِهِ مَعَ الْأَجَانِبِ فِي الْمُعَامَلَاتِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَرْتَهِنَ مِنْ سَيِّدِهِ، وَيَرْهَنَ عِنْدَ سَيِّدِهِ؟ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعَبْدُ المأذون له في التجارة.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ لِابْنِهِ الطِّفْلِ عَلَيْهِ حَقٌّ جَازَ أَنْ يَرْتَهِنَ لَهُ شَيْئًا مِنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْقَبْضِ لَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَ وَلِيُّ الطِّفْلِ أَبًا أَوْ جَدًّا، فَهُوَ يَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ لِفَضْلِ حُنُوِّهِ وَكَثْرَةِ نَفَقَتِهِ، وَانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عنه في تصرفه، أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَصَفَ حَالَهُ مَعَ وَلَدِهِ فَقَالَ: الْوَلَدُ مَجْبَنَةٌ مَحْزَنَةٌ مَجْهَلَةٌ فَوَصَفَهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِمَا جُبِلَ عَلَيْهِ مِنْ مَحَبَّتِهِ.

(6/28)


فَإِذَا كَانَ الْوَلِيُّ أَبًا أَوْ جَدًّا، جَازَ أن يفعل فِي مَالِ ابْنِهِ مَعَ نَفْسِهِ مَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي مَالِ ابْنِهِ مَعَ غَيْرِهِ من الأجانب.
فَيَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ مِنْ مَالِ ابْنِهِ عَلَى نَفْسِهِ مَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ مَالِ ابْنِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَجَانِبِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ مَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ لِابْنِهِ مِنَ الْأَجَانِبِ وَيَجُوزَ أَنْ يُقْرِضَ لِابْنِهِ وَيَقْتَرِضَ مِنْهُ مَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَرِضَهُ وَيُقْرِضَهُ مِنَ الْأَجَانِبِ. وَيَجُوزَ أَنْ يَرْتَهِنَ مِنَ ابْنِهِ أَوْ يَرْهَنَ مِنْهُ مَا يَجُوزُ أَنْ يرهنه ويرتهنه من الأجانب. ولو حصل لِابْنِهِ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِلَا رَهْنٍ، جَازَ أَنْ يَأْخُذَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ رَهْنًا بِهِ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ لَهُ مِنَ الْأَجْنَبِيِّ لَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ رَهْنًا بِهِ.
وَلَوْ حَصَلَ لَهُ عَلَى ابْنِهِ دَيْنٌ بِلَا رَهْنٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ رَهْنًا بِهِ كَمَا لَوْ كَانَ الدَّيْنُ لِأَجْنَبِيٍّ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَهُ رَهْنًا بِهِ.
فَيَسْتَوِي تَصَرُّفُهُ فِي مَالِ ابْنِهِ مَعَ نَفْسِهِ كَمَا يَسْتَوِي تَصَرُّفُهُ فِي مَالِ ابْنِهِ مَعَ الْأَجَانِبِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِصَاصِهِ بِفَضْلِ الْحُنُوِّ وَكَثْرَةِ الشَّفَقَةِ وَانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ.
وَأَمَّا الْأُمُّ: فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: هَلْ تَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ بِنَفْسِهَا كَالْأَبِ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ بِنَفْسِهَا عِنْدَ فَقْدِ الْأَبِ كَالْأَبِ لِمُشَارَكَتِهِ فِي حُنُوِّهِ وَشَفَقَتِهِ. فَعَلَى هَذَا تَكُونُ أَمُّ الْأُمِّ الَّتِي هِيَ الْجَدَّةُ تَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ بِنَفْسِهَا عِنْدَ عَدَمِ الْأُمِّ كَالْأُمِّ.
وَأَمَّا أَبُو الْأُمِّ فَهَلْ يَكُونُ لَهُ؟ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ وِلَايَةٌ بِنَفْسِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَلِي بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّتِ الْأُمُّ الْوِلَايَةَ بِنَفْسِهَا وَكَانَ لِابْنِهَا وِلَايَةٌ عَلَيْهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيمَا اسْتَحَقَّتْهُ مِنَ الْوِلَايَةِ مُشَارِكًا لَهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا وِلَايَةَ لَهُ وَإِنْ وَلِيَتْ بِنْتُهُ كَمَا لَا حَضَانَةَ لَهُ. ولأنه لما ضعف من الْإِرْثِ، كَانَ عَنِ الْوِلَايَةِ أَضْعَفَ.
وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا: لَا وِلَايَةَ لِأُمٍّ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهَا وَإِنْ شَارَكَتِ الْأَبَ فِي حُنُوِّهِ وَشَفَقَتِهِ، فَلِلْأَبِ اخْتِصَاصٌ بِفَضْلِ النَّظَرِ، وَصِحَّةِ التَّدْبِيرِ، وَجَوْدَةِ الرَّأْيِ، وَتَنْمِيَةِ الْمَالِ الَّذِي هُوَ مَقْصُودُ الْوِلَايَةِ. فَبَايَنَ بِهِ الْأُمَّ لِضَعْفِ النِّسَاءِ عَنْ هَذِهِ الرُّتْبَةِ، وَقِلَّةِ وُجُودِ هَذَا الْمَعْنَى فِيهِنَّ غَالِبًا، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْأُمِّ وِلَايَةٌ بِنَفْسِهَا ولا لأحد أدلى بِهَا.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا أَرَادَ الْأَبُ أَنْ يَبْتَاعَ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ ابْنِهِ، أَوْ يَرْتَهِنَ مِنْهُ، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ عَلَى ابْنِهِ أَوْ يَرْهَنَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ، فَفِي كَيْفِيَّةِ الْعَقْدِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَعْقِدُ ذَلِكَ لَفْظًا بِبَذْلٍ وَقَبُولٍ فَيَقُولُ إِنْ كَانَ هُوَ الْمُشْتَرِيَ مِنَ ابْنِهِ: قَدْ بِعْتُ

(6/29)


كَذَا وَكَذَا مِنْ مَالِ ابْنِي عَلَى نَفْسِي بِكَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا. وَقَبِلْتُ ذَلِكَ لِنَفْسِي.
وَإِنْ كَانَ هُوَ الْبَائِعَ عَلَى ابْنِهِ قَالَ: قَدْ بِعْتُ دَارِي الَّتِي بِمَوْضِعِ كَذَا عَلَى ابْنِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَبِلْتُ ذَلِكَ لِابْنِي فَيَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَتِمُّ.
ثُمَّ إِنْ كَانَ بَيْعًا فَلَهُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ، مَا لَمْ يُفَارِقْ مَوْضِعَهُ الَّذِي عَقَدَ فيه. فإذا فارقه قام مقام افتراق المتعاقدين بأبدانهما في انبرام البيع.
والوجه الثَّانِي: أَنَّهُ يَعْقِدُ بِنِيَّتِهِ دُونَ لَفْظِهِ. فَيَنْوِي أَنَّهُ قَدْ بَاعَ عَلَى ابْنِهِ كَذَا وَكَذَا وَيَنْوِي أَنَّهُ قَبِلَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِذَلِكَ وَبِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكُونُ مُخَاطِبًا لِنَفْسِهِ. فَوَجَبَ أَنْ يَقْتَصِرَ فِي ذَلِكَ عَلَى نِيَّتِهِ.
وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ أكثر أصحابنا ولا يكون مخاطبا لنفسه، لأنا نحصل أَحَدَ اللَّفْظَيْنِ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْآخَرَ عَنِ ابْنِهِ، فيصير كأنه مخاطب لابنه.

(مسألة)
قال الشافعي: رضي الله عنه " وإن اقْتَضَى الرَّهْنَ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهِ إِخْرَاجُهُ مِنَ الرَّهْنِ حَتَّى يَبْرَأَ مَمَّا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ يَلْزَمُ بِالْقَبْضِ، فَإِذَا قَبَضَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ، صَارَ لَازِمًا مِنْ جِهَةِ الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ عَلَى الرَّاهِنِ، فَكَانَ لَازِمًا مِنْ جِهَتِهِ لِيَصِحَّ الِاسْتِيثَاقُ بِهِ إِذَا أَرَادَ فَسْخَهُ قَبْلَ قَضَاءِ الْحَقِّ لَمْ يَكُنْ لَهُ، لِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ لِلْمُرْتَهِنِ.
فَإِذَا صَحَّ هَذَا وَتَمَّ الرَّهْنُ بِالْقَبْضِ فَقَضَى الرَّاهِنُ بَعْضَ الْحَقِّ كَانَ جَمِيعُ الرَّهْنِ بِحَالِهِ رَهْنًا فِي يَدِ مُرْتَهِنِهِ بِمَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ.
وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الرَّهْنِ وَثِيقَةٌ بِجَمِيعِ الْحَقِّ وَبِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْرُجَ شَيْءٌ مِنَ الرَّهْنِ مَعَ بَقَاءِ شَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ. أَلَا تَرَى أن ذمة الضامن معقولة بِالْحَقِّ وَبِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ، فَلَمْ تَبْرَأْ ذِمَّةُ الضَّامِنِ مَعَ بَقَاءِ شَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ. وَلِأَنَّهُ لَوْ تَلِفَ بَعْضُ الرَّهْنِ كَانَ جَمِيعُ الرَّهْنِ رَهْنًا بِمَا بَقِيَ مِنْهُ كَذَلِكَ إِذَا قَبَضَ بَعْضَ الْحَقِّ كَانَ جَمِيعُ الرَّهْنِ رَهْنًا بِمَا بَقِيَ مِنْهُ.
فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: قَدْ رَهَنْتُكَ عَبْدِي هَذَا بِأَلْفٍ عَلَى أَنَّنِي كُلَّمَا قَضَيْتُكَ مِنْهَا مِائَةً خَرَجَ عَشَرَةٌ مِنَ الرَّهْنِ، كَانَ الرَّهْنُ فَاسِدًا لِاشْتِرَاطِهِ مَا يُنَافِيهِ فَلَوْ طَالَبَهُ الْمُرْتَهِنُ بِحَقِّهِ، وَسَأَلَ فَكَاكَ الرَّهْنِ مِنْ يَدِهِ، فَقَالَ الرَّاهِنُ: لَا أَدْفَعُ الْحَقَّ إِلَّا بَعْدَ اسْتِرْجَاعِ الرَّهْنِ، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: لَا أَرُدُّ الرَّهْنَ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ الْحَقِّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ. وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَفْعُ الْحَقِّ إِلَّا بَعْدَ إِحْضَارِ الرَّهْنِ. فَإِذَا حَضَرَ لَمْ يَلْزَمِ الْمُرْتَهِنَ دَفْعُهُ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ الْحَقِّ.

(6/30)


(فَصْلٌ)
إِذَا قَالَ: قَدْ رَهَنْتُكَ عَبْدِي هَذَا بِالْأَلْفِ الَّتِي لَكَ عَلَيَّ إِلَى سَنَةٍ، عَلَى أَنَّنِي إِنْ قَضَيْتُكَ الْأَلْفَ مَعَ السَّنَةِ فَالرَّهْنُ لي. وإن لم أقضك مَعَ السَّنَةِ فَالرَّهْنُ لَكَ قَدْ بِعْتُهُ عَلَيْكَ بِالْأَلْفِ فَهَذَا رَهْنٌ بَاطِلٌ وَبَيْعٌ بَاطِلٌ.
أَمَّا الرَّهْنُ فَلِأَنَّهُ شَرَطَ فِيهِ مَا يُنَافِيهِ إِذْ لَيْسَ مِنْ حُكْمِ الرَّهْنِ أَنْ يُمْلَكَ بِالْحَقِّ عِنْدَ تَأَخُّرِ قَضَائِهِ. وَأَمَّا الْبَيْعُ فَلِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ بِصِفَةٍ، وَعَقْدُ الْبَيْعِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلَّقَ بِالصِّفَاتِ.
فَإِذَا ثَبَتَ بُطْلَانُ الرَّهْنِ وَالْبَيْعِ وَكَانَ الْمُرْتَهِنُ قَدْ قَبَضَ هَذَا الرَّهْنَ فَهُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ فِي السَّنَةِ. فَإِذَا انْقَضَّتِ السَّنَةُ صار مضمونا عليه. وإنما كان غير مضمون عليه في السنة، ومضمونا عَلَيْهِ بَعْدَ السَّنَةِ، لِأَنَّهُ فِي السَّنَةِ مَقْبُوضٌ عَنْ رَهْنٍ فَاسِدٍ وَالرَّهْنُ الْفَاسِدُ غَيْرُ مَضْمُونٍ، لِأَنَّ الرَّهْنَ الصَّحِيحَ غَيْرُ مَضْمُونٍ، وَهُوَ بَعْدَ السَّنَةِ مَضْمُونٌ عَنْ بَيْعٍ فَاسِدٍ، وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ مَضْمُونٌ، لِأَنَّ الْبَيْعَ الصَّحِيحَ مَضْمُونٌ.
(فَصْلٌ)
وَلَوْ قَالَ: قَدْ رَهَنْتُكَ عَبْدِي هَذَا بِأَلْفٍ إِلَى سَنَةٍ. فَإِنْ قَضَيْتُكَ الْأَلْفَ مَعَ السَّنَةِ فَالْعَبْدُ لِي، وَإِنْ لَمْ أَقْضِكَ فَالْعَبْدُ لَكَ، وَقَدْ بِعْتُهُ عَلَيْكَ، كَانَ الرَّهْنُ جَائِزًا، وَالْبَيْعُ بَاطِلًا، بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: عَلَى أَنَّنِي إِنْ لَمْ أَقْضِكَ، فَقَدْ بِعْتُهُ عَلَيْكَ فَيُخْرِجُهُ مَخْرَجَ الشَّرْطِ. وَإِنَّمَا قَالَ: فَإِنْ لَمْ أَقْضِكَ فَقَدْ بِعْتُهُ عَلَيْكَ. فَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْخَبَرِ، فَلَمْ يَقْدَحْ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ.
وَبَطَلَ الْبَيْعُ كَمَا بَطَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِتَعَلُّقِهِ بِالصِّفَةِ كَتَعَلُّقِهِ بِهَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ثُمَّ هُوَ قَبْلَ السَّنَةِ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ عَنْ رَهْنٍ صَحِيحٍ، وَبَعْدَ السَّنَةِ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ عَنْ بَيْعٍ فَاسِدٍ.
(فَصْلٌ)
فَلَوْ كَانَ الْمَرْهُونُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ جَمِيعًا أَرْضًا، فَغَرَسَهَا الْمُرْتَهِنُ، نُظِرَ فِي غِرَاسِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ غَرَسَهُ قَبْلَ تَقَضِّي السَّنَةِ، كَانَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِقَلَصِهِ وَلَا يُغَرَّمُ أَرْشَ نَقْصِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ غَرَسَهُ بَعْدَ تَقَضِّي السَّنَةِ لَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِقَلْعِهِ، إِلَّا أَنْ يُغَرَّمَ أَرْشَ نَقْصِهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهُ قَبْلَ السَّنَةِ غَيْرُ مَأْذُونٍ لَهُ فِي الْغَرْسِ، لِأَنَّهُ رَهْنٌ بِيَدِهِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا بِيَدِهِ، فَصَارَ مُتَعَدِّيًا. فَلِذَلِكَ أَخَذَ بِقَلْعِهِ. وَبَعْدَ السَّنَةِ مَأْذُونٌ لَهُ فِي الْغَرْسِ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ عَلَيْهِ، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتَصَرَّفَ فيما ابتاعه، فلذلك لم يؤخذ بقلعه.
(فَصْلٌ)
إِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ امْرَأَةً بِإِذْنِ سَيِّدِهِ عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ، ثُمَّ إِنَّ السَّيِّدَ ضَمِنَ لَهَا الْأَلْفَ عَنْ عَبْدِهِ وَأَعْطَاهَا الْعَبْدُ نَفْسَهُ رَهْنًا بِالْأَلْفِ لَمْ يَجُزْ، وَكَانَ رَهْنُهُ بِهَا فَاسِدًا؛ لِأَنَّ أَصْلَ الدَّيْنِ مَضْمُونٌ عَلَى الْعَبْدِ فلم يجز أن يجعل رَهْنًا فِي الدَّيْنِ، لِأَنَّ الْوَثِيقَةَ غَيْرُ الْمَوْثُوقِ فيه

(6/31)


وَنَظِيرُهُ مِنَ الضَّمَانِ: أَنْ يَضْمَنَ زَيْدٌ عَنْ عَمْرٍو أَلْفًا ثُمَّ يَعُودُ عَمْرٌو لِيَضْمَنَهَا عَنْ زَيْدٍ، فَيَكُونُ ضَمَانُ زَيْدٍ بَاطِلًا.
فَأَمَّا إِذَا حَصَلَ لِزَوْجَةِ الْعَبْدِ عَلَى سَيِّدِهِ مَالٌ عَنْ مُعَامَلَةٍ: فَأَعْطَاهَا زَوْجَهَا رَهْنًا بِمَالِهَا عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا. وَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ؛ لِأَنَّ ارْتِهَانَهَا لَهُ اسْتِيثَاقٌ بِهِ فِي الْحَقِّ فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ النكاح.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو أكرى الرهن من صاحبه أو أعاره إِيَّاهُ لَمْ يَنْفَسِخِ الرَّهْنُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ خُرُوجَ الرَّهْنِ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ إِلَى يَدِ الرَّاهِنِ لَا يُبْطِلُ الرَّهْنَ؛ لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ قَبْضِهِ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ خِلَافًا لأبي حنيفة. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ وَإِيَّاهُ قَصَدَ الشَّافِعِيُّ.
وَلَوْ أَكْرَى الرَّهْنَ مِنْ صَاحِبِهِ أَوْ أَعَارَهُ لَمْ يَنْفَسِخِ الرَّهْنُ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى مَذْهَبِكُمْ أَنَّ مَنَافِعَ الرَّهْنِ وَنَمَاءَهُ لِلرَّاهِنِ فَكَيْفَ يَصِحُّ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الرَّهْنَ أَوْ يَسْتَعِيرَهُ مِنَ الْمُرْتَهِنِ؟ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ عَوْدَ الرَّهْنِ إِلَى يَدِ الرَّاهِنِ لَا يَفْسَخُ الرَّهْنَ رَدًّا عَلَى أبي حنيفة حَيْثُ جَعَلَ عَوْدَهُ إِلَى يَدِهِ فَاسِخًا لِلرَّهْنِ. فَعَبَّرَ عَنْهُ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ، لِأَنَّهَا لَفْظُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فَأَوْرَدَهُ عَلَى جِهَتِهِ تَبَرُّكًا بِهِ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ صحة إجاراته، وَإِعَارَتِهِ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ إِضْمَارًا يَصِحُّ عَوْدُ الْجَوَابِ إِلَيْهِ. وَهُوَ أَنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِي رَهْنٍ فَقَدْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ اسْتَأْجَرَهُ مِنَ الرَّاهِنِ قَبْلَ الرَّهْنِ أَوْ بَعْدَهُ، فَكَانَ فِي يَدِهِ بِعَقْدَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَى مَنْفَعَتِهِ.
وَالثَّانِي: عَقْدُ الرَّهْنِ عَلَى رَقَبَتِهِ. فَيَكُونُ الْمُرْتَهِنُ لِأَجْلِ الْإِجَارَةِ مَالِكًا لِمَنَافِعِهِ. فَإِنِ اسْتَأْجَرَهُ الرَّاهِنُ مِنْهُ أَوِ اسْتَعَارَهُ فَالْإِجَارَةُ صَحِيحَةٌ، وَالْعَارِيَةُ جَائِزَةٌ، وَعَقْدُ الرَّهْنِ بِحَالِهِ لَا يَنْفَسِخُ.
وَقَدْ يَصِحُّ مَثَلٌ فِي الْوَصَايَا فِي رَجُلٍ وَصَّى بِرَقَبَةِ عَبْدِهِ لِرَجُلٍ وَمَنْفَعَتِهِ لِآخَرَ أَوْ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا بِمَوْتِهِ وَقَبُولِهِمَا. ثُمَّ إِنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ رَهَنَ رَقَبَةَ الْعَبْدِ عِنْدَ الْمُوصَى لَهُ بالمنفعة، فصارت المنفعة بِالْوَصِيَّةِ وَالرَّقَبَةِ فِي يَدِهِ بِالرَّهْنِ، فَلَوْ عَادَ الراهن فاستأجر الْعَبْدَ الْمَرْهُونَةُ رَقَبَتُهُ أَوِ اسْتَعَارَهُ لَمْ يَنْفَسِخِ الرَّهْنُ.
وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْهَاءَ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ أَكْرَى الرَّهْنَ مِنْ صَاحِبِهِ، كِنَايَةٌ تَعُودُ إلى المرتهن دين الرَّاهِنِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إِلَى الْمُرْتَهِنِ لِأَجْلِ رَهْنِهِ، كَمَا يُضَافُ إِلَى

(6/32)


الرَّاهِنِ لِأَجْلِ مِلْكِهِ، فَإِذَا اسْتَأْجَرَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ أَوِ اسْتَعَارَهُ لَمْ يَنْفَسِخِ الرَّهْنُ بِمَا حَدَثَ مِنَ الْعَقْدِ فَكَانَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ بِالرَّهْنِ السَّابِقِ، وَعَقْدِ الْإِجَارَةِ الْحَادِثَةِ.
وَالْجَوَابُ الرَّابِعُ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنَ الشَّافِعِيِّ خَارِجٌ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الْقَدِيمِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّ الرَّاهِنَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالرَّهْنِ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَقَالَ: وَلَوْ أَكْرَى الرَّهْنَ مَنْ صَاحِبِهِ أَوْ أَعَارَهُ إِيَّاهُ لَمْ يَنْفَسِخِ الرَّهْنُ يُرِيدُ أَنَّ الرَّاهِنَ وَإِنِ انْتَفَعَ بِالرَّهْنِ بِنَفْسِهِ وَفَعَلَ مَا لَيْسَ لَهُ لَمْ يَنْفَسِخِ الرَّهْنُ فَأَمَّا مَذْهَبُهُ فِي الْجَدِيدِ فَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ بِنَفْسِهِ وَيُؤَاجِرَهُ مِنْ غَيْرِهِ.
وَهَذَا الْجَوَابُ ذَكَرَهُ ابْنُ أبي هريرة.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَهَنَهُ وَدِيعَةً لَهُ فِي يَدِهِ وَأَذِنَ له بقبضه فجاءت عليه مدة يمكنه أن يقبضه فيها فَهُوَ قَبْضٌ لِأَنَّ قَبْضَهُ وَدِيعَةً غَيْرُ قَبْضِهِ رهنا (قال) ولو كان في المسجد والوديعة في بيته لم يكن قبضا حتى يصير إلى منزله وهي فيه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَوْدَعَ رَجُلًا وَدِيعَةً، ثُمَّ إِنَّ رَبَّ الْوَدِيعَةِ رَهَنَهَا عِنْدَ الْمُودَعِ بِحَقٍّ ثَبَتَ لَهُ عَلَيْهِ.
فَإِنْ كَانَا جَاهِلَيْنِ بِالْوَدِيعَةِ أَوْ أَحَدُهُمَا فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ رَهْنَ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ وَإِنْ كَانَا عَالِمَيْنِ بِهَا وَقَدْ شَاهَدَاهَا جَازَ رَهْنُهَا. لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَرْتَهِنَ مَا لَيْسَ فِي يَدِهِ كَانَ ارْتِهَانُ مَا بِيَدِهِ أَوْلَى وَإِذَا كَانَ ارْتِهَانُهَا جَائِزًا، فَلَا بُدَّ مِنْ عَقْدٍ وَقَبْضٍ.
فَأَمَّا الْعَقْدُ فَبَذْلٌ مِنَ الرَّاهِنِ وَقَبُولٌ مِنَ الْمُرْتَهِنِ كَسَائِرِ عُقُودِ الرَّهْنِ. وَأَمَّا الْقَبْضُ فَيَخْتَلِفُ عَلَى اخْتِلَافِ حَالِ الْوَدِيعَةِ، لِأَنَّ لَهَا حَالَتَيْنِ:
إحداهما: أَنْ يَتَيَقَّنَ الْمُودِعُ الْمُرْتَهِنُ كَوْنَهَا فِي يَدِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَشُكَّ فِي كَوْنِهَا بِيَدِهِ.
فَإِنْ تَيَقَّنَ كَوْنَهَا بِيَدِهِ فَقَبْضُهَا: أَنْ يَمُرَّ عَلَيْهَا بَعْدَ الرَّهْنِ زَمَانُ الْقَبْضِ. وَهَلْ يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِ الرَّاهِنِ فِي الْقَبْضِ أَمْ لَا؟
قَالَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَفِي كِتَابِ الْأُمِّ: مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْقَبْضِ وَقَالَ فِي كِتَابِ الْهِبَاتِ: إِذَا وَهَبَ لَهُ وديعة في يده وقبلها الموهوبة لَهُ فَاتَتْ عَلَيْهِ مُدَّةُ الْقَبْضِ فَقَدْ تَمَّ قَبْضُهَا، وَلَمْ يَشْتَرِطْ هُنَاكَ الْإِذْنَ فِي الْقَبْضِ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَنْقُلُ جَوَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى وَيُخْرِجُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ فِي الْهِبَةِ وَالرَّهْنِ جَمِيعًا، لِأَنَّهُمَا لَا يَلْزَمَانِ إِلَّا بِالْقَبْضِ وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إِذْنِهِ فِي الْقَبْضِ، لِأَنَّ يَدَ الْمُودِعِ يَدُ مَالِكِهَا وَفِي ارْتِهَانِهَا أَوْ هِبَتِهَا

(6/33)


إِزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْهَا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَكَانَتْ فِي الْحُكْمِ فِي يَدِ الْمَالِكِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إِذْنٍ فِي الْقَبْضِ كَمَا لَمْ يَزَلْ فِي يَدِ الْمَالِكِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْقَبْضُ بِشَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْإِذْنُ فِي الْقَبْضِ.
وَالثَّانِي: مُضِيُّ زَمَانِ الْقَبْضِ وَيَكُونُ أَوَّلُ زَمَانِ الْقَبْضِ مِنْ بَعْدِ الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ. فَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي الْقَبْضِ بَعْدَ الْعَقْدِ بِمُدَّةٍ يراعى زَمَانُ الْقَبْضِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَمْ يَكُنْ مَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ بَعْدَ الْعَقْدِ مُعْتَدًّا بِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ لَا فِي الْهِبَةِ وَلَا فِي الرَّهْنِ جَمِيعًا وَإِنَّمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ الْإِذْنَ فِي الرَّهْنِ تَأْكِيدًا. وَإِنَّمَا لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ، لِأَنَّ الْقَبْضَ قَدْ يَخْتَلِفُ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَقْبُوضَاتِ:
فَقَبْضُ مَا يُنْقَلُ: أَنْ ينقله لِلْقَابِضِ، وَقَبْضُ مَا لَا يُنْقَلُ: أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَابِضِ.
كَذَلِكَ قَبْضُ مَا فِي الْيَدِ: أَنَّ يَمُرَّ عَلَيْهِ زَمَانُ الْقَبْضِ فِي يَدِ الْقَابِضِ. فَعَلَى هَذَا يَتِمُّ الْقَبْضُ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مُضِيُّ زَمَانِ الْقَبْضِ، وَأَوَّلُ زَمَانِ الْقَبْضِ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِالْإِذْنِ بِخِلَافِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ.
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَإِنَّمَا الْجَوَابُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ فَيَحْتَاجُ رَهْنُ الْوَدِيعَةِ إِلَى إِذْنٍ فِي قَبْضِهَا، وَلَا تَحْتَاجُ هِبَةُ الْوَدِيعَةِ إِلَى إِذْنٍ فِي قَبْضِهَا وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرَّهْنِ وَالْهِبَةِ أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَنْقُلُ الْمِلْكَ فَضَعُفَ عَنْ أَنْ يَتِمَّ إِلَّا بِالْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ، وَالْهِبَةَ تَنْقُلُ الْمِلْكَ فَقَوِيَتْ عَنْ أَنْ يَفْتَقِرَ تمامه إِلَى الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ.
فَعَلَى هَذَا يَتِمُّ الْقَبْضُ فِي الْهِبَةِ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ: وَهُوَ مُضِيُّ زَمَانِ الْقَبْضِ. وَيَتِمُّ فِي الرَّهْنِ بِشَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْإِذْنُ فِي الْقَبْضِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَمْضِيَ بَعْدَ الْإِذْنِ زَمَانُ الْقَبْضِ فَهَذَا الْحُكْمُ فِي الْوَدِيعَةِ إِذَا تَيَقَّنَ كَوْنَهَا بِيَدِهِ.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا إِنْ شَكَّ فِي كَوْنِ الْوَدِيعَةِ فِي يَدِهِ وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ تَكُونَ الْوَدِيعَةُ عَبْدًا أَوْ حَيَوَانًا يَدْخُلُ وَيَخْرُجُ، أَوْ يَكُونَ غَيْرَ حَيَوَانٍ فِي مَوْضِعٍ قَدْ حَدَثَ فِيهِ خَوْفٌ يَجُوزُ أَنْ يَتْلَفَ فِيهِ. فَمِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ فِي هَذَا:
أَنْ يَمْضِيَ الْمُودِعُ الْمُرْتَهِنُ بَعْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ إِلَى مَوْضِعِ الْوَدِيعَةِ فَيُشَاهِدَهَا بَاقِيَةً فِيهِ. وَهَلْ يُحْتَاجُ إِلَى مُضِيِّ الرَّاهِنِ مَعَهُ إِلَى مَوْضِعِهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إِلَى مُضِيِّ الرَّاهِنِ مَعَهُ إِلَى مَوْضِعِهَا وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَى مُضِيِّ

(6/34)


الْمُرْتَهِنِ وَحْدَهُ لِيَعْلَمَ بَقَاءَهَا فَتَكُونُ عَلَى حَالِهَا فِي حُكْمِ أَصْلِهَا. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُضِيٌّ لِلْمُرْتَهِنِ وَحْدَهُ شَرْطًا فِي الْقَبْضِ دُونَ الْعَقْدِ. فَإِنْ تَقَدَّمَ عَلَى مُضِيِّ الْمُرْتَهِنِ جَازَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا بُدَّ مِنْ مُضِيِّ الرَّاهِنِ مَعَهُ لِأَنَّهُ كَاسْتِئْنَافِ عَقْدِهِ فَعَلَى هَذَا لَوْ مَضَى أَحَدُهُمَا لِمُشَاهَدَتِهَا لَمْ يَصِحَّ.
وَلَوْ مَضَيَا جَمِيعًا أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُمَا مِنْ نَائِبٍ أَوْ وَكِيلٍ فَشَاهَدَاهَا بَاقِيَةً فَيَكُونُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ فَيَسْتَأْنِفَا عَقْدَ الرَّهْنِ وَلَا يَصِحُّ مِنْهُمَا مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعَقْدِ. وَهَلْ يَفْتَقِرُ إِلَى الْإِذْنِ فِي قَبْضِهَا أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ الْمَذْهَبَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِذْنِ. فَعَلَى هَذَا يَتِمُّ الْقَبْضُ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مُشَاهَدَةُ الْوَدِيعَةِ. فَلَوْ مَرَّ عَلَيْهَا زَمَانُ الْقَبْضِ قَبْلَ مُشَاهَدَتِهَا لَمْ يصح الْقَبْضُ.
وَالثَّانِي: لَا بُدَّ مِنَ الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ بَعْدَ الْمُشَاهَدَةِ. فَعَلَى هَذَا يَتِمُّ الْقَبْضُ بِشَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْإِذْنُ فِي الْقَبْضِ.
وَالثَّانِي: الْمُضِيُّ إلى موضع الوديعة لمشاهدتها باقية فيه. فَإِنْ قُلْنَا: لَا بُدَّ مِنْ مُضِيِّ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِذْنُ الرَّاهِنِ فِي قَبْضِهَا بَعْدَ الْمُضِيِّ لِمُشَاهَدَتِهَا. فَإِنْ أَذِنَ قَبْلَ مُشَاهَدَتِهَا لَمْ يَقَعِ الْإِذْنُ مَوْقِعَهُ، فَاحْتَاجَ إِلَى إِذْنٍ بَعْدَ مُشَاهَدَتِهَا لِيَتِمَّ بِهِ الْقَبْضُ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ مُضِيَّ الْمُرْتَهِنِ وَحْدَهُ لِمُشَاهَدَتِهَا جَائِزٌ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِذْنُ الرَّاهِنِ فِي قَبْضِهَا قَبْلَ الْمُضِيِّ لِمُشَاهَدَتِهَا فَإِنْ أَذِنَ لَهُ بَعْدَ مُشَاهَدَتِهَا لَمْ يَتِمَّ الْقَبْضُ حَتَّى يَمْضِيَ بَعْدَ الْإِذْنِ زَمَانُ الْقَبْضِ، فَيَتِمُّ حِينَئِذٍ الْقَبْضُ فَيَكُونُ تَقَدُّمُ الْإِذْنِ وَتَأَخُّرُهُ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي حُضُورِ الرَّاهِنِ مَعَ الْمُرْتَهِنِ وَعَلَيْهِمَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَكُونُ الْقَبْضُ إِلَّا مَا حَضَرَهُ الْمُرْتَهِنُ أَوْ وَكِيلُهُ لَا حَائِلَ دُونَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ شَرْطٌ فِي لُزُومِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ الْقَبْضُ إِلَّا بِحُضُورِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ وَكِيلِهِ، لِأَنَّ الْقَبْضَ لَهُ.
فَإِنْ وَكَّلَ الرَّاهِنَ فِي قَبْضِهِ لَهُ لَمْ يَجُزْ. لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قَابِضًا مِنْ نَفْسِهِ. وَلَوْ وَكَّلَ الْمُرْتَهِنُ عَبْدَ الرَّاهِنِ فِي قَبْضِ الرَّهْنِ لَهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ يَدُ سَيِّدِهِ. فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ تَوْكِيلُ الرَّاهِنِ فِي قَبْضِهِ لَمْ يَجُزْ تَوْكِيلُ عَبْدِهِ. وَلَوْ وَكَّلَ ابْنَ الرَّاهِنِ أَوْ أَبَاهُ جَازَ؛ لِأَنَّ يَدَ الِابْنِ وَالْأَبِ لَيْسَتْ يَدًا لَهُ.

(6/35)


وَأَمَّا حُضُورُ الرَّاهِنِ فَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ مَا يَفْتَقِرُ إِلَى حُضُورِهِ وَمَا يَفْتَقِرُ إِلَى إذنه دون حضوره.

(مسألة)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَالْإِقْرَارُ بِقَبْضِ الرَّهْنِ جَائِزٌ إِلَّا فِيمَا لَا يُمْكِنُ فِي مِثْلِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا أَقَرَّ الرَّاهِنُ بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ وَأَقَرَّ الْمُرْتَهِنُ بِقَبْضِهِ فَقَدْ لَزِمَ الرَّهْنُ بِإِقْرَارِهِمَا، كَمَا يَلْزَمُ بِمُشَاهَدَةِ قَبْضِهِمَا، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحُكْمِ بِهِمَا.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلِلرَّهْنِ الْمُقَرِّ بِقَبْضِهِ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ حَاضِرًا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَائِبًا.
فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا صَحَّ إِقْرَارُهُمَا بِقَبْضِهِ سَوَاءٌ أَطْلَقَا الْإِقْرَارَ بِقَبْضِهِ أَوْ قَيَّدَاهُ بِزَمَانٍ؛ لِأَنَّ الْحَاضِرَ يُمْكِنُ قَبْضُهُ فِي طَوِيلِ الزَّمَانِ وَقَصِيرِهِ.
وَإِنْ كَانَ غَائِبًا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْإِقْرَارِ بِقَبْضِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا ...
فَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا كَانَ الْإِقْرَارُ بِقَبْضِهِ لَازِمًا، وَهُوَ أَنْ يُقِرَّا وَهُمَا بِالْبَصْرَةِ بِقَبْضِ دَارٍ مَرْهُونَةٍ بِالْكُوفَةِ وَلَا يَذْكُرَانِ زَمَانَ الْقَبْضِ فَهَذَا إِقْرَارٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ إِطْلَاقَ إِقْرَارِهِمَا بِالْقَبْضِ يَقْتَضِي وُقُوعَهُ فِي زَمَانٍ مُمْكِنٍ فَلِذَلِكَ لَزِمَ.
وَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ مُقَيَّدًا بِزَمَانٍ لَمْ يَخْلُ حَالُ الزَّمَانِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ فِيهِ مُمْكِنًا أَوْ غَيْرَ مُمْكِنٍ.
فَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا فَصُورَتُهُ أَنْ يُقِرَّا بِالْبَصْرَةِ بِقَبْضِ دَارٍ بِالْكُوفَةِ مُنْذُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ وَأَكْثَرَ فَهَذَا إِقْرَارٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ مُمْكِنٌ.
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمْكِنٍ فَصُورَتُهُ أَنْ يُقِرَّا بِالْبَصْرَةِ بِقَبْضِ دَارٍ بِالْكُوفَةِ مُنْذُ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ فَهَذَا إِقْرَارٌ بَاطِلٌ لِاسْتِحَالَةِ الْقَبْضِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: وَالْإِقْرَارُ بِالْقَبْضِ لِلرَّهْنِ جَائِزٌ إِلَّا فِيمَا لَا يُمْكِنُ فِي مِثْلِهِ.
(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ أَرَادَ الرَّاهِنُ أَنْ يُحَلِّفَ الْمُرْتَهِنَ أَنَّهُ قَبَضَ مَا كَانَ أَقَرَّ لَهُ بِقَبْضِهِ أَحْلَفْتَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: أَنْ يُقِرَّ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ بِقَبْضِ الرَّهْنِ، فَيَصِيرُ مَقْبُوضًا بِإِقْرَارِهِمَا ثُمَّ يَرْجِعُ الرَّاهِنُ فِي إِقْرَارِهِ وَيَدَّعِي أَنَّهُ كَانَ قَدْ أقر بتعليم الرَّهْنِ عَلَى جَهَالَةٍ. فَإِنْ

(6/36)


صَدَّقَهُ الْمُرْتَهِنُ أَنَّ الْقَبْضَ لَمْ يَحْصُلْ فَلَا قَبْضَ وَالرَّهْنُ غَيْرُ لَازِمٍ وَالرَّاهِنُ فِيمَا بَعْدُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَقْبَضَ الرَّهْنَ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَ.
وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ الْمُرْتَهِنُ فِي رُجُوعِهِ وَادَّعَى حُصُولَ الْقَبْضِ الَّذِي حَصَلَ بِإِقْرَارِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ فِي حُصُولِ الْقَبْضِ، وَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُ الرَّاهِنِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِقْرَارِ، لِأَنَّهُ قَدْ حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِ.
فَإِنْ سَأَلَ الرَّاهِنُ يَمِينَ الْمُرْتَهِنِ بِاللَّهِ أَنَّهُ قَبَضَ الرَّهْنَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الرَّاهِنُ الَّذِي أَقَرَّ بِقَبْضِهِ غَائِبًا عَنْهُمَا. فَلَا بُدَّ مِنْ إِحْلَافِ الْمُرْتَهِنِ بِاللَّهِ أَنَّهُ قَدْ كَانَ قَبَضَ الرَّهْنَ. لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ غَائِبًا فَإِقْرَارُ الرَّاهِنِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْغَالِبِ عَلَى قَوْلِ وَكِيلِهِ أَنَّهُ سَلَّمَ الرَّهْنَ. ثُمَّ يَعْلَمُ كَذِبَ الْوَكِيلِ. وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ سَلَّمَ الرَّهْنَ فَيَكُونُ لِمَا ادَّعَاهُ ثَانِيَةً مِنْ عَدَمِ الْقَبْضِ السَّابِقِ بِإِقْرَارِهِ وَجْهٌ مُمْكِنٌ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَحْلِفَ لَهُ الْمُرْتَهِنُ فَعَلَى هَذَا إِنْ حَلَفَ الْمُرْتَهِنُ حُكِمَ لَهُ بِالْقَبْضِ وَتَمَامِ الرَّهْنِ، وَإِنْ نَكَلَ، رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الرَّاهِنِ. فَإِنْ حَلَفَ حُكِمَ لَهُ بِمَا ادَّعَاهُ مِنْ عَدَمِ الْقَبْضِ، وَكَانَ الرَّهْنُ غَيْرَ تَامٍّ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ إِنْ شَاءَهُ وَإِنْ نَكَلَ سَقَطَتْ دَعْوَاهُ، وَحُكِمَ بِتَمَامِ الرهن.
والثاني: أن يكون الرهن المقر بقبضه حاضرا قبل حلف المتهم؟ عَلَى وَجْهَيْنِ
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ وأبي علي بن خيران: أن يَجِبُ إِحْلَافُ الْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّ إِقْرَارَ الرَّاهِنِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَاضِرِ عَنْ قَوْلِ وَكِيلِهِ، كَمَا يَحْتَمِلُ فِي الْغَائِبِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حكم اليمين منهما.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ: لَا يَحْلِفُ الْمُرْتَهِنُ وَإِنْ حَلَفَ فِي الْغَائِبِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ أَمْرِ الْحَاضِرِ أَنَّهُ تَوَلَّى تَسْلِيمَهُ بِنَفْسِهِ، فَلَمْ يَجِبْ بِرُجُوعِهِ يَمِينٌ عَلَى الْمُرْتَهِنِ مَعَ تَقَدُّمِ إِقْرَارِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْغَائِبُ. وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ بِمَالٍ، أَوْ قَبْضِ ثَمَنٍ فِي مَبِيعٍ، ثُمَّ عَادَ الْمُقِرُّ فَقَالَ: كَانَ إِقْرَارِي بِالْمَالِ قَبْلَ ثُبُوتِهِ، وَإِقْرَارِي بِقَبْضِ الثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَسَأَلَ يَمِينَ الْمُقَرِّ لَهُ كَانَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي إِحْلَافِ الْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ الْحَاضِرِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْلِفَ الْمُقَرُّ لَهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ.
وَالثَّانِي: لَا يَحْلِفُ وهو قول أبي إسحاق.

(فَصْلٌ)
إِذَا أَنْكَرَ الرَّاهِنُ تَسْلِيمَ الرَّهْنِ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى إِقْرَارِهِ بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالتَّسْلِيمِ وَتَمَّ الرَّهْنُ. فَإِنْ سَأَلَ إِحْلَافَ الْمُرْتَهِنِ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَجِبْ إِحْلَافُهُ سَوَاءٌ كَانَ الرَّهْنُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا.

(6/37)


فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا بِتَقَدُّمِ التَّسْلِيمِ، فَيَسْأَلُ إِحْلَافَ الْمُرْتَهِنِ فَيُحَلِّفُونَهُ. وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُنْكِرًا، فَتَقُومُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِإِقْرَارِهِ، ثُمَّ يَسْأَلُ إِحْلَافَ الْمُرْتَهِنِ فَلَا يُحَلِّفُونَهُ؟
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي إِحْلَافِ الْمُرْتَهِنِ مَعَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ لَهُ جَرْحًا لِلشُّهُودِ، وَتَعْلِيلًا لِشَهَادَتِهِمْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَعَ الْإِنْكَارِ لَيْسَ بِمُسْتَأْنِفٍ لِدَعْوَى، وَإِنَّمَا يُنْكِرُ شَيْئًا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجِبْ مَعَ الْبَيِّنَةِ يَمِينٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ، لِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِتَقَدُّمِ الْإِقْرَارِ وَهُوَ مُسْتَأْنِفٌ لِدَعْوَى، فَجَازَ أَنْ يُحَلَّفَ الْمُرْتَهِنُ عنها.

(فَصْلٌ)
إِذَا أَقَرَّ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ بِقَبْضِ الرَّهْنِ ثُمَّ عَادَ الْمُرْتَهِنُ يُنْكِرُ الْقَبْضَ وَيَدَّعِي أَنَّ إِقْرَارَهُ الْمُتَقَدِّمَ كَانَ عَلَى جَهَالَةٍ كَمَا ادَّعَى الرَّاهِنُ مِنْ قَبْلُ لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُ الْمُرْتَهِنِ. فَإِنْ سَأَلَ إِحْلَافَ الرَّاهِنِ كَانَ عَلَى مَا مَضَى مِنْ رُجُوعِ الرَّاهِنِ وَسُؤَالِهِ يَمِينَ الْمُرْتَهِنِ، لاستوائهما في تمام القبض بإقرارهما.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْقَبْضُ فِي الْعَبْدِ وَالثَّوْبِ وَمَا يَحُولُ أَنْ يَأْخُذَهُ مُرْتَهِنُهُ مِنْ يَدَيْ رَاهِنِهِ وَقَبْضُ مَا لَا يَحُولُ مِنْ أَرْضٍ وَدَارٍ أَنْ يُسَلَّمَ لَا حَائِلَ دُونَهُ وَكَذَلِكَ الشِّقْصُ وَشِقْصُ السَّيْفِ أَنْ يَحُولَ حَتَّى يَضَعَهُ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ أَوْ يَدَيِ الشَّرِيكِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الْقَبْضِ أَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي حُكْمِ الْقَابِضِ وَالْمُقْبِضِ وَقَدْ مَضَى.
وَالثَّانِي: فِيمَا يَصِيرُ بِهِ الرَّهْنُ مَقْبُوضًا وَهُوَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ صَارَ بِهِ الْمَبِيعُ مَقْبُوضًا لِلْمُشْتَرِي صَارَ بِهِ الرَّهْنُ مَقْبُوضًا لِلْمُرْتَهِنِ. وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَجُمْلَتُهُ: أَنَّ الرَّهْنَ ضَرْبَانِ: مَحُوزٌ وَمُشَاعٌ.
فَأَمَّا الْمَحُوزُ فَضَرْبَانِ: مَنْقُولٌ وَغَيْرُ مَنْقُولٍ. فَغَيْرُ الْمَنْقُولِ: الدُّورُ وَالْعَقَارُ وَالْأَرَضُونَ. وَقَبْضُ ذَلِكَ يَكُونُ بِرَفْعِ يَدِ الرَّاهِنِ عَنْهَا، وَالتَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْمُرْتَهِنِ وَبَيْنَهَا، وَالْمَنْقُولُ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يَحْتَاجُ إِلَى كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ فَقَبْضُهُ بِشَيْئَيْنِ: الْكَيْلُ وَالتَّحْوِيلُ إِنْ كَانَ مَكِيلًا. وَالْوَزْنُ وَالتَّحْوِيلُ إِنْ كَانَ موزنا.

(6/38)


وضرب لا يحتاج إلى كيل لا وزن. فقبضه ينقله عَنْ مَوْضِعِهِ إِلَى غَيْرِهِ، سَوَاءٌ أَخْرَجَهُ بِالنَّقْلِ عَنْ مِلْكِ بَائِعِهِ أَمْ لَا؟ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الدَّارَكِيُّ لَا يَكُونُ قَبْضًا حَتَّى يُخْرِجَهُ عَنْ مِلْكِ بَائِعِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: حَتَّى يَحُوزَهُ التُّجَّارُ إِلَى رِحَالِهِمْ.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا الْمُشَاعُ فَضَرْبَانِ: مَنْقُولٌ وَغَيْرُ مَنْقُولٍ. فَغَيْرُ الْمَنْقُولِ كأرض أو دار منه سهاما منها مشاعا، فصحة القبض في هذا مفتقرا إِلَى حُضُورِ الشَّرِيكِ، لِأَنَّ مِنْ صِحَّتِهِ أَلَّا يَكُونَ هُنَاكَ مُنَازِعٌ وَلِلشَّرِيكِ يَدٌ فَكَانَ حُضُورُهُ فِي الْقَبْضِ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ. فَإِذَا حَضَرَ الشَّرِيكُ وَالرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ، وَرَفَعَ الرَّاهِنُ يَدَهُ عَنْ حِصَّتِهِ لِلْمُرْتَهِنِ، وَصَارَتْ فِي قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ فَإِنْ تَرَاضَيَا الشَّرِيكُ وَالْمُرْتَهِنُ أَنْ تَكُونَ الدَّارُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ جَازَ. وَإِنْ تَرَاضَيَا أَنْ تَكُونَ فِي يَدِ الشَّرِيكِ جَازَ. وَإِنْ تَرَاضَيَا أَنْ تَكُونَ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ جَازَ.
وَأَمَّا الْمَنْقُولُ كَسَهْمٍ مِنْ ثَوْبٍ أَوْ سَيْفٍ أَوْ جَوْهَرَةٍ أَوْ عَبْدٍ، فَقَبْضُ ذَلِكَ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إِلَى حُضُورِ الشَّرِيكِ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ. فَإِنْ أَذِنَ الشَّرِيكُ لِلْمُرْتَهِنِ فِي نَقْلِ جَمِيعِهِ صَحَّ، وَإِنْ أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ لِلشَّرِيكِ فِي قَبْضِ جَمِيعِهِ لَهُ بِالتَّحْوِيلِ جَازَ، وَإِنْ أَذِنَا لِعَدْلٍ فِي قبضه لهما جاز.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ فِي يَدَيِ الْمُرْتَهِنِ بِغَصْبٍ لِلرَّاهِنِ فَرَهَنَهُ إِيَّاهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ مِنْهُ وَأَذِنَ لَهُ فِي قَبْضِهِ فَقَبَضَهُ كَانَ رَهْنًا وَكَانَ مضمونا على الغاصب بالغصب حَتَّى يَدْفَعَهُ إِلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَوْ يُبَرِّئَهُ من ضمان الغصب (قال المزني) قلت أنا يشبه أصل قوله إذا جعل قبض الغصب في الرهن جائزا كما جعل قبضه في البيع جائزا أن لا يجعل الغاصب في الرهن ضامنا إذ الرهن عنده غير مضمون ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَوْ غَصَبَ رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ شَيْئًا كَعَبْدٍ أَوْ ثَوْبٍ ثم إن الغاصب حصل لَهُ عَلَى الْمَالِكِ مَالٌ فَرَهَنَهُ الْمَالِكُ الشَّيْءَ الْمَغْصُوبَ، فَالرَّهْنُ جَائِزٌ وَيَصِيرُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِعَقْدِ الرَّهْنِ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي يَدِهِ بِغَصْبٍ.
وَإِنَّمَا جَازَ رَهْنُهُ؛ لِأَنَّ لِلْغَاصِبِ الْمُرْتَهِنِ عليه يد وَمَنْ عَقَدَ عَلَى شَيْءٍ فِي يَدِهِ كَانَ بِالْجَوَازِ أَوْلَى مِنْ عَقْدِهِ عَلَى مَا لَيْسَ بِيَدِهِ. فَإِذَا صَحَّ عَقْدُ الرَّهْنِ عَلَيْهِ كَانَ تَمَامُهُ بِشَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مُضِيُّ زَمَانِ الْقَبْضِ كَمَا قُلْنَا فِي الْوَدِيعَةِ إِذَا كَانَ بَقَاؤُهَا مَعْلُومًا.
وَالثَّانِي: الْإِذْنُ فِي قَبْضِهِ قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّ الْمُودِعَ قَابِضٌ مُتَسَلِّمٌ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى إِذْنٍ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَالْغَاصِبُ لَيْسَ بِقَابِضٍ، فَافْتَقَرَ إِلَى إِذْنٍ.
فَإِذَا تَمَّ الرَّهْنُ وَلَزِمَ كَانَ ضَمَانُ الْغَصْبِ بَاقِيًا لَا يَزُولُ عَنْهُ بِالرَّهْنِ الْحَادِثِ.

(6/39)


وَقَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ وَالْمُزَنِيُّ: قَدْ زَالَ ضَمَانُ الْغَصْبِ بِالرَّهْنِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لا يقتضي زمان الْغَصْبِ، كَمَا أَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ لَا يَقْتَضِي ضَمَانَ الْغَصْبِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ عَلَيْهِ سَقَطَ ضَمَانُ الْغَصْبِ، لِأَنَّ الْعَقْدَ يُنَافِيهِ فَوَجَبَ إِذَا رَهَنَهُ إِيَّاهُ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ ضَمَانُ الْغَصْبِ لِأَنَّ الْعَقْدَ يُنَافِيهِ. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَقْتَضِي ضَمَانَ الْغَصْبِ لوجب إذا ورد على ضمان الغصب أن يسقطه كَالْبَيْعِ.
قَالُوا: وَلِأَنَّ ابْتِدَاءَ الرَّهْنِ يُنَافِي الضَّمَانَ بِدَلَالَةِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: رَهَنْتُكَ هَذَا الشَّيْءَ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا عَلَيْكَ لَمْ يَصِرْ مضمونا، وإذا تنافيا بابتداء لَمْ يَجْتَمِعَا وَكَانَ أَحَدُهُمَا رَافِعًا لِلْآخَرِ، فَلَمَّا ثَبَتَ عَقْدُ الرَّهْنِ اتِّفَاقًا انْتَفَى الضَّمَانُ حِجَاجًا.
قَالُوا: وَلِأَنَّ لِلْغَصْبِ حُكْمَيْنِ: الضَّمَانُ بِابْتِدَائِهِ. وَالْإِثْمُ بِاحْتِبَاسِهِ. فَلَمَّا كَانَ عَقْدُ الرَّهْنِ رَافِعًا لِلْإِثْمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ رَافِعًا لِلضَّمَانِ.
وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهُ أَحَدُ مُوجِبَيِ الْغَصْبِ فَوَجَبَ أَنْ يَزُولَ بِعَقْدِ الرَّهْنِ كَالْإِثْمِ؛ وَلِأَنَّ الرَّهْنَ أَمَانَةٌ كَمَا أَنَّ الْوَدِيعَةَ أَمَانَةٌ، فَلَمَّا صَارَ مَقْبُوضًا رهنا وجب أن ينتقل عن كونه كَمَا لَوْ صَارَ مَقْبُوضًا وَدِيعَةً. فَانْتَقَلَ عَنْ كَوْنِهِ مَقْبُوضًا غَصْبًا وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهُ عَقْدُ أَمَانَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رَافِعًا لِضَمَانِ الْغَصْبِ كَالْوَدِيعَةِ.
وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ الْمَغْصُوبَ مَضْمُونٌ عَلَى غَاصِبِهِ وَعَقْدُ الرَّهْنِ لَا يُنَافِي ضَمَانَ الْغَصْبِ بِدَلَالَةِ أَنَّهُ لَوْ تَعَدَّى عَلَيْهِ بَعْدَ الرَّهْنِ ضَمِنَهُ ضَمَانَ الْغَصْبِ فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعِ الرَّهْنُ ضَمَانَ الْغَصْبِ فِي الِانْتِهَاءِ لَمْ يَمْنَعْ ضَمَانَ الْغَصْبِ فِي الِابْتِدَاءِ. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهُ عَقْدُ رَهْنٍ فَوَجَبَ أَلَّا يَمْنَعَ ضَمَانَ الْغَصْبِ كَالِانْتِهَاءِ؛ وَلِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَصِيرُ مَضْمُونًا بِالْغَصْبِ كَمَا يَصِيرُ مَضْمُونًا بِالْجِنَايَةِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لَا يَنْفِي ضَمَانَ الْجِنَايَةِ فَوَجَبَ أَلَّا يَنْفِيَ ضَمَانَ الْغَصْبِ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهُ ضَمَانٌ تَعَلَّقَ بِعَيْنٍ، فَوَجَبَ أَلَّا يَسْقُطَ بِالرَّهْنِ كَضَمَانِ الْجِنَايَةِ؛ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ الْمَغْصُوبَ قَدْ يَصِيرُ مَرْهُونًا بِجِنَايَتِهِ، كَمَا يَصِيرُ مَرْهُونًا بِعَقْدِ سَيِّدِهِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ جَنَى عَلَى الْغَاصِبِ جِنَايَةً وَجَبَ أَرْشُهَا فِي رَقَبَتِهِ وَلَمْ يَسْقُطْ ضَمَانُ الْغَصْبِ وَإِنْ صَارَ مَرْهُونًا بجنايته فوجب إِذَا رَهَنَهُ بِحَقٍّ فَصَارَ وَثِيقَةً فِي رَقَبَتِهِ أَلَّا يَسْقُطَ ضَمَانُ الْغَصْبِ وَإِنْ صَارَ مَرْهُونًا فِي يَدِهِ. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْغَصْبِ فَوَجَبَ أَلَّا يَسْقُطَ وُجُوبَ ضَمَانِهِ بِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَاصِبِ بِرَقَبَتِهِ كَالْجِنَايَةِ. وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ لَوْ سَقَطَ بِارْتِهَانِ الْغَاصِبِ لَسَقَطَ بِارْتِهَانِ غَيْرِ الْغَاصِبِ. فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ غَيْرَ الْغَاصِبِ إِذَا ارْتَهَنَهُ لَمْ يَسْقُطْ عَنِ الْغَاصِبِ ضَمَانُهُ وَجَبَ إِذَا ارْتَهَنَهُ الْغَاصِبُ أَلَّا يَسْقُطَ ضَمَانُهُ عَنْهُ وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهَا عَيْنٌ مَضْمُونَةٌ بِالْغَصْبِ فَوَجَبَ أَلَّا يَسْقُطَ ضَمَانُهَا بِعَقْدِ الرَّهْنِ. أَصْلُهُ: إِذَا رَهَنَهُ عِنْدَ أَجْنَبِيٍّ.

(6/40)


وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْبَيْعِ فَالْمَعْنَى فِي الْبَيْعِ أَنَّهُ يُزِيلُ مِلْكَ الْمَالِكِ، وَإِذَا زَالَ مِلْكُهُ زَالَتْ أَحْكَامُ مِلْكِهِ، وَالضَّمَانُ مِنْ أَحْكَامِ مِلْكِهِ، فَسَقَطَ وَانْتَقَلَ الْمِلْكُ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَمِلْكُ الْإِنْسَانِ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرَّهْنُ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْقُلِ الْمِلْكَ فَلَمْ يَزُلِ الضَّمَانُ، عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ لَمَّا كَانَ مُنَافِيًا لِلضَّمَانِ فِي اسْتِدَامَتِهِ كَانَ مُنَافِيًا لِلضَّمَانِ فِي ابْتِدَائِهِ، وَلَمَّا كَانَ الرَّهْنُ غَيْرَ مُنَافٍ لِلضَّمَانِ فِي اسْتِدَامَتِهِ كَانَ غَيْرَ مُنَافٍ لِلضَّمَانِ فِي ابْتِدَائِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ ابْتِدَاءَ الرَّهْنِ مُنَافٍ لِلضَّمَانِ مِنْ نَاحِيَةِ الرَّهْنِ مُنَافٍ لِلضَّمَانِ فغلط، لأن ابتداء الرهن، إنما كان منافيا للضمان من ناحية الرهن. وكذلك فِي اسْتِدَامَتِهِ مُنَافٍ لِلضَّمَانِ مِنْ نَاحِيَةِ الرَّهْنِ فَأَمَّا الضَّمَانُ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الرَّهْنِ فَلَا يُنَافِيهِ فِي ابْتِدَائِهِ كَمَا لَا يُنَافِيهِ فِي اسْتِدَامَتِهِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ بِسُقُوطِ الضَّمَانِ عَلَى سُقُوطِ الْإِثْمِ، فَالْمَعْنَى فِي الْإِثْمِ: أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِاحْتِبَاسِهِ عَلَى وَجْهِ الْعُدْوَانِ، وَبِالرَّهْنِ زَالَ احْتِبَاسُهُ بِالْعُدْوَانِ وَصَارَ مُحْتَبِسًا بِحَقٍّ فَلِذَلِكَ زَالَ الْإِثْمُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الضَّمَانُ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِابْتِدَاءِ الْغَصْبِ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنِ الرَّهْنُ رَافِعًا لِلْإِثْمِ المستحق باحتباسه قبل الرهن ولما كَانَ رَافِعًا لِلْإِثْمِ فِيمَا بَعْدُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ رَافِعٍ لِلضَّمَانِ الْمُسْتَحَقِّ قَبْلَ الرَّهْنِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْوَدِيعَةِ فَلِأَصْحَابِنَا فِي الْوَدِيعَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ لَا يَسْقُطُ بِالْوَدِيعَةِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أن يَدَ الْإِنْسَانِ لَا تُبَرِّئُهُ مِنْ حُقُوقِ الْأَجَانِبِ، كما لو كان عَلَيْهِ طَعَامٌ فَوَكَّلَهُ فِي اكْتِيَالِهِ مِنْ نَفْسِهِ وَتَرَكَهُ فِي يَدِهِ فَفَعَلَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ. فَعَلَى هَذَا قَدِ اسْتَوَى حُكْمُ الرَّهْنِ وَالْوَدِيعَةِ فَسَقَطَ السُّؤَالُ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ يَسْقُطُ بِالْوَدِيعَةِ وَلَا يَسْقُطُ بِالرَّهْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ يَدَ الْمُودِعِ يَدُ الْمَالِكِ فَصَارَ بِالْوَدِيعَةِ كَالْعَائِدِ إِلَى يَدِ مَالِكِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ، لِأَنَّ يَدَهُ لِنَفْسِهِ دُونَ مَالِكِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَدِيعَةَ وَالضَّمَانَ يَتَنَافَيَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا تَعَدَّى فِي الْوَدِيعَةِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُودِعًا وَإِذَا تَنَافَيَا وَصَحَّتِ الْوَدِيعَةُ سَقَطَ الضَّمَانُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرَّهْنُ لِأَنَّ الرَّهْنَ وَالضَّمَانَ لَا يَتَنَافَيَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَعَدَّى فِي الرَّهْنِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرْتَهِنًا فَلَمْ يسقط الضمان.

(6/41)


(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ لَا يَسْقُطُ بِالرَّهْنِ فَهُوَ بَاقٍ بِحَالِهِ لَا يَسْقُطُ إِلَّا بِوَاحِدٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُبَرِّئَهُ الْمَالِكُ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ فَيَقُولُ: قَدْ أَبْرَأْتُكَ مِنَ الضَّمَانِ فَيَبْرَأُ حِينَئِذٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَعُودَ الشَّيْءُ إِلَى يَدِ الْمَالِكِ أَوْ وَكِيلِهِ إِمَّا قَبْلَ الرَّهْنِ أَوْ بَعْدَهُ فَيَسْقُطُ الضَّمَانُ حِينَئِذٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَتَّفِقَا بَعْدَ الرَّهْنِ أَنْ يَضَعَاهُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ اخْتَارَهُ الرَّاهِنُ فَيَسْقُطُ الضَّمَانُ حِينَئِذٍ فَأَمَّا إِنْ أَوْدَعَهُ إِيَّاهُ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ سُقُوطَ الضَّمَانِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
فَأَمَّا إِنْ أَجَرَهُ إِيَّاهُ، فَإِنْ قِيلَ: بِالْوَدِيعَةِ يَبْرَأُ مِنَ الضَّمَانِ فَبِالْإِجَارَةِ أَوْلَى أَنْ يَبْرَأَ مِنَ الضَّمَانِ، وَإِنْ قِيلَ: بِالْوَدِيعَةِ لَا يَبْرَأُ مِنَ الضَّمَانِ فَفِي الْإِجَارَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَبْرَأُ بِهَا مِنَ الضَّمَانِ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ كَالْوَدِيعَةِ.
وَالثَّانِي: يَبْرَأُ مِنَ الضَّمَانِ، لِأَنَّ الْإِجَارَاتِ صِنْفٌ مِنَ الْبُيُوعِ يَسْتَحِقُّ فِيهَا عِوَضًا.
فَأَمَّا إِنْ جَعَلَهُ مُضَارَبَةً فِي يَدِهِ فَفِي سُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْهُ وَجْهَانِ كَالْوَدِيعَةِ وَفِيهَا وَجْهٌ ثَالِثٌ هُوَ عِنْدِي صَحِيحٌ أَنَّهُ مَا لَمْ يَتَصَرَّفْ فِي الْمَالِ بِحَقِّ الْمُضَارَبَةِ فَالضَّمَانُ بَاقٍ عَلَيْهِ. وَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ بِابْتِيَاعِ شَيْءٍ نُظِرَ، فَإِنِ ابْتَاعَ فِي ذِمَّتِهِ وَنَقَدَ الْمَالَ لَمْ يَسْقُطِ الضَّمَانُ، وَإِنِ ابْتَاعَ بِعَيْنِ الْمَالِ سَقَطَ الضَّمَانُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهُ إِذَا اشْتَرَى بِعَيْنِ الْمَالِ صَارَ دَافِعًا لِلْمَالِ إِلَى مستحقه عن إذن المال فبرئ مِنْ ضَمَانِهِ وَإِذَا اشْتَرَى فِي ذِمَّتِهِ صَارَ قَاضِيًا لِدَيْنٍ تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ فَلَمْ يَبْرَأْ مِنْ ضَمَانِهِ.
(فَصْلٌ)
إِذَا ابْتَاعَ الرَّجُلُ شَيْئًا بَيْعًا فَاسِدًا وَقَبَضَهُ كَانَ ضَامِنًا لَهُ ضَمَانَ غَصْبٍ فَإِنْ رَهَنَهُ إِيَّاهُ لَمْ يَسْقُطْ ضَمَانُهُ وَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمَغْصُوبِ فِيمَا مَضَى مِنَ التَّفْرِيعِ.
إِذَا اسْتَعَارَ الرَّجُلُ عَارِيَةً فَقَدْ ضَمِنَهَا، فَإِنِ ارْتَهَنَهَا فَهَلْ تَبْطُلُ الْعَارِيَةُ أَمْ لَا: عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا تَبْطُلُ بِحُدُوثِ الرَّهْنِ، وَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا كَمَا كَانَ مُنْتَفِعًا بِهَا قَبْلَ الرَّهْنِ فَعَلَى هَذَا ضَمَانُهَا بَاقٍ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: قَدْ بَطَلَتِ الْعَارِيَةُ بِالرَّهْنِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ ضَمَانُهَا، بخلاف الغصب، لأن الرهن هاهنا قَدْ رَفَعَ الْعَارِيَةَ فَارْتَفَعَ حُكْمُهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ الغصب.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَهَنَهُ دَارَيْنِ فَقَبَضَ إِحْدَاهُمَا وَلَمْ يَقْبِضِ

(6/42)


الْأُخْرَى كَانَتِ الْمَقْبُوضَةُ رَهْنًا دُونَ الْأُخْرَى بِجَمِيعِ الحق ".
قال الماوردي: إِذَا رَهَنَهُ دَارَيْنِ بِأَلْفٍ فَإِنْ أَقْبَضَهُ إِيَّاهُمَا كَانَتَا رَهْنًا مَعًا وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رَهْنًا بِجَمِيعِ الْأَلْفِ. وَلَوْ أَقْبَضَهُ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى كَانَتِ الْمَقْبُوضَةُ رَهْنًا بِجَمِيعِ الْأَلْفِ.
وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ أَقْبَضَهُ الدَّارَيْنِ كَانَتَا رَهْنًا بِجَمِيعِ الْأَلْفِ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رَهْنٌ بِحِصَّتِهَا مِنَ الْأَلْفِ، وَإِنْ أَقْبَضَهُ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى كَانَتِ الْمَقْبُوضَةُ رَهْنًا بِحِصَّتِهَا مِنَ الْأَلْفِ، وَلَا تَكُونُ رَهْنًا بِجَمِيعِ الْأَلْفِ اسْتِدْلَالًا بِشَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّهْنَ عُقِدَ عَلَى عَيْنٍ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ كَالْبَيْعِ، فَلَمَّا كَانَ لَوْ بَاعَهُ دَارَيْنِ بِأَلْفٍ كانت كل واحدة منهما مبيعة بحصتهما مِنَ الْأَلْفِ، وَلَا تَكُونُ مَبِيعَةً بِجَمِيعِ الْأَلْفِ فَكَذَلِكَ الرَّهْنُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ كَالضَّمَانِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ رَجُلَيْنِ لَوْ ضَمِنَا أَلْفًا عَنْ رَجُلٍ كَانَتْ بَيْنَهُمَا، وَلَا تَكُونُ الْأَلْفُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. كَذَلِكَ الرَّهْنُ إِذَا رَهَنَهُ دَارَيْنِ بِأَلْفٍ كَانَتِ الْأَلْفُ مُقَسَّطَةً عَلَيْهِمَا وَلَا تَكُونُ جَمِيعُ الْأَلْفِ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا.
وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ جَمِيعُ الرَّهْنِ مُحْتَبَسًا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وَبِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ حَتَّى لَوْ رَهَنَهُ عَلَى أَلْفٍ فَقَضَاهُ أَلْفًا إِلَّا دِرْهَمًا كَانَ جَمِيعُ الرَّهْنِ مُحْتَبَسًا بِالدِّرْهَمِ الْبَاقِي، دَلَّ عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ كُلَّهُ وَكُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ رَهْنٌ فِي الْحَقِّ كُلِّهِ وَفِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا فَاسِدٌ بِالْمَبِيعِ يَتَقَسَّطُ الثَّمَنُ عَلَى أَجْزَائِهِ، وَلَوْ قَبَضَ الْبَائِعُ بَعْضَ ثَمَنِهِ كَانَ لَهُ حَبْسُ جَمِيعِهِ بِالْبَاقِي؟ قُلْنَا: عَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَلَى الْبَائِعِ أَنْ يُسَلِّمَ مِنَ الْمَبِيعِ بِقِسْطِ مَا قَبَضَ وَيَحْتَبِسُ مِنْهُ بِقِسْطِ مَا بَقِيَ حَتَّى لَوْ بَاعَ كُرَّيْنِ من طعام بألف وقبض منها نَصِفَهَا لَزِمَهُ تَسْلِيمُ أَحَدِ الْكُرَّيْنِ، وَكَانَ لَهُ احْتِبَاسُ الْكُرِّ الْبَاقِي فَعَلَى هَذَا سَقَطَ السُّؤَالُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ شَيْءٍ مِنَ الْمَبِيعِ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ جَمِيعِ الثَّمَنِ. ثُمَّ هَذَا السُّؤَالُ لَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّ فِي الْمَبِيعِ حَقَّيْنِ: حَقَّ اسْتِحْقَاقٍ، وَهَذَا مُتَقَسِّطٌ وَحَقُّ اسْتِيثَاقٍ وَهَذَا غَيْرُ مُتَقَسِّطٍ كَالرَّهْنِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَحْتَبِسُهُ بِحَقِّ الِاسْتِيثَاقِ لَا بِحَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ فَصَارَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَالرَّهْنِ.
وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ فِي الْحَقِّ كَالشَّهَادَةِ وَالضَّمَانِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الشَّهَادَةَ وَذِمَّةَ

(6/43)


الضَّامِنِ وَثِيقَةٌ فِي الْحَقِّ كُلِّهِ وَفِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ وثيقة في الحق كله وفي كل جزء مِنْ أَجْزَائِهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنَ الْمَبِيعِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا:
أَنَّ الثَّمَنَ فِي الْمَبِيعِ عِوَضٌ عَنْهُ وَالْعِوَضُ عَنْ جَمِيعِ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ عِوَضًا عَنْ بَعْضِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرَّهْنُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِوَضٍ وَإِنَّمَا هُوَ وَثِيقَةٌ، وَالْوَثِيقَةُ فِي الشَّيْءِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وَثِيقَةً فِي بَعْضِهِ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الضَّامِنَيْنِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الضَّامِنَيْنِ هُمَا كَالْعَاقِدَيْنِ فَلِذَلِكَ تَبَعَّضَ، وَكَذَلِكَ الرَّهْنُ إِذَا كَانَ فِي عَقْدَيْنِ كَانَ مُتَبَعِّضًا كَالضَّامِنَيْنِ.
وَأَمَّا الْعَقْدُ الْوَاحِدُ فَهُوَ كَالضَّامِنِ الْوَاحِدِ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَقْبُوضَةَ مِنَ الدَّارَيْنِ تَكُونُ رَهْنًا بِجَمِيعِ الْحَقِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ، وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَالْمُرْتَهِنُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْمَبِيعِ بِارْتِهَانِ إِحْدَى الدَّارَيْنِ وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ، لِأَنَّهُ شَرَطَ ارْتِهَانَ دَارَيْنِ فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ إلا ارتهان إحداهما.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَصَابَهَا هَدْمٌ بَعْدَ الْقَبْضِ كَانَتْ رَهْنًا بِحَالِهَا وَمَا سَقَطَ مِنْ خَشَبِهَا أَوْ طُوبِهَا يعني الآجر ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
إِذَا رَهَنَ دَارًا فَانْهَدَمَتْ لَمْ يَبْطُلِ الرَّهْنُ، سَوَاءٌ انْهَدَمَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ، لِبَقَاءِ مَا يَجُوزُ أَنْ يُبْتَدَأَ بِالْعَقْدِ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ لَوِ اسْتَأْجَرَ دَارًا فَانْهَدَمَتْ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ؟ فَهَلَّا كَانَ إِذَا ارْتَهَنَ دَارًا فَانْهَدَمَتْ بَطَلَ الرَّهْنُ؟
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَبِانْهِدَامِ الدَّارِ تَبْطُلُ الْمَنَافِعُ فَبَطَلَتِ الْإِجَارَةُ. وَعَقْدُ الرَّهْنِ عَلَى عَيْنِ الدَّارِ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ خَشَبٍ وَطُوبٍ، وَبِانْهِدَامِ الدَّارِ لَا تَذْهَبُ الْعَيْنُ فَلَمْ يَبْطُلِ الرَّهْنُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوِ اسْتَأْجَرَ دَارًا مَهْدُومَةً لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا لَمْ تَصِحَّ الْإِجَارَةُ وَلَوِ ارْتَهَنَ دَارًا مَهْدُومَةً لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا صَحَّ الرَّهْنُ.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ انْهِدَامَ الدَّارِ الْمَرْهُونَةِ لَا يُبْطِلُ الرَّهْنَ، فَلَا يَخْلُو انْهِدَامُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:

(6/44)


إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ، كَانَ الْمُرْتَهِنُ بِالْخِيَارِ إِنْ كَانَ الرَّهْنُ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ وَبَيْنَ فَسْخِهِ لِمَا طَرَأَ عَلَيْهِ مِنَ النَّقْصِ قَبْلَ قَبْضِهِ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَلَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ الْحَادِثَ بَعْدَ الْقَبْضِ لَيْسَ بِأَكْثَرَ مِنْ تَلَفِ الرَّهْنِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَلَوْ تَلِفَ بَعْدَ الْقَبْضِ لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ. فَأَوْلَى أَلَّا يَكُونَ لَهُ بِالْعَيْبِ خِيَارٌ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ فَمَا بَقِيَ مِنَ الدَّارِ ما سَقَطَ مِنْ خَشَبٍ وَطُوبٍ رَهْنٌ بِحَالِهِ يُبَاعُ عِنْدَ حُلُولِ الْحَقِّ وَيُسْتَوْفَى مِنْهُ إِنْ تَعَذَّرَ استيفاؤه من الرهن.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَهَنَهُ جَارِيَةً قَدْ وَطِئَهَا قَبْلَ الْقَبْضِ فَظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ أَقَرَّ بِهِ فَهِيَ خَارِجَةٌ مِنَ الرَّهْنِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ رَهَنَ جَارِيَةً فَظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّاهِنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَدَّعِيَهُ أَنَّهُ وَلَدُهُ أَوْ لَا يَدَّعِيهِ:
فَإِنِ ادَّعَاهُ وَلَدًا مِنْ وَطْءٍ كَانَ قَبْلَ الرَّهْنِ، فالولد لا حق بِهِ بِدَعْوَاهُ سَوَاءٌ صَدَّقَ الْمُرْتَهِنُ أَوْ كَذَّبَ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْوَلَدِ.
وَأَمَّا الْأُمُّ فَتَرْجِعُ إِلَى تَصْدِيقِ الْمُرْتَهِنِ وَتَكْذِيبِهِ فِيهَا لِمَا ثَبَتَ لَهُ مِنَ الْحَقِّ فِي رَقَبَتِهَا بَعْدَ الرَّهْنِ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أن يُصَدِّقَهُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبَهُ. فَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَى ذَلِكَ صَارَتِ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لِلرَّاهِنِ، وَخَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى كَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ وَقْتَ الْعَقْدِ. وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمُرْتَهِنُ فَلِلرَّاهِنِ حَالَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا قَبْلَ إِقْبَاضِهَا لِلْمُرْتَهِنِ وَيُعْلَمُ ذَلِكَ إِمَّا بِبَيِّنَةٍ أَوْ تَصْدِيقٍ مِنَ الْمُرْتَهِنِ فَيُحْكَمُ بِقَوْلِهِ وَتَخْرُجُ الْجَارِيَةُ مِنَ الرَّهْنِ وَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لِلرَّاهِنِ إِذَا جَاءَتْ بِهِ لِزَمَانٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَنْ وَطْءٍ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَرْبَعِ سِنِينَ فَمَا دُونَ فَأَمَّا إِنْ وَضَعَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ فَقَوْلُ الرَّاهِنِ غَيْرُ مَقْبُولٍ لِعِلْمِنَا بِكَذِبِهِ إِذِ الْحَمْلُ لَا يَكُونُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْجَارِيَةُ رَهْنًا لَا تَخْرُجُ مِنَ الرَّهْنِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَلَّا يَكُونَ قَدْ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا وَلَا حُفِظَ ذَلِكَ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ وَضْعِهَا.
فَهَذَا على ثلاثة أقسام:
أحدها: أن تضعه أقل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ الْقَبْضِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ، وَتَخْرُجُ

(6/45)


الْجَارِيَةُ مِنَ الرَّهْنِ وَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَقَلُّ الْحَمْلِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ عُلِمَ تَقَدُّمُ الْعُلُوقِ عَلَى الْقَبْضِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ الْقَبْضِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ، وَالْجَارِيَةُ عَلَى حَالِهَا لَا تَخْرُجُ مِنَ الرَّهْنِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَكْثَرُ الْحَمْلِ أَرْبَعَ سِنِينَ عُلِمَ حُدُوثُ الْعُلُوقِ بَعْدَ الْقَبْضِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَدُونَ أَرْبَعِ سِنِينَ فَعَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ وَتَخْرُجُ مِنَ الرَّهْنِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ وَيَصِيرُ الرَّاهِنُ كَالْوَاطِئِ بَعْدَ إِقْبَاضِ الرَّهْنِ.
وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي الرَّاهِنِ إِذَا ادَّعَى بَعْدَ إِقْبَاضِ الرَّهْنِ أَنَّ عَبْدَهُ الْمَرْهُونَ جَنَى قَبْلَ الرَّهْنِ أَوْ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ قَبْلَ الرَّهْنِ وَأَنْكَرَ الْمُرْتَهِنُ فَعَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ.
كَذَلِكَ مَسْأَلَتُنَا.
فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ فَمَعَ يَمِينِهِ لَا يَخْتَلِفُ. فَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الرَّاهِنِ، فَإِذَا حَلَفَ خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ، وَإِنْ نَكَلَ كَانَتْ رَهْنًا بِحَالِهَا، فَإِنْ بَدَأَتِ الْجَارِيَةُ الْيَمِينَ فَعَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي غُرَمَاءِ الْمُفْلِسِ إِذَا أَجَابُوا إِلَى الْيَمِينِ عِنْدَ نكول المفلس قيما يَسْتَحِقُّهُ بِيَمِينِهِ إِنْ حَلَفَ.
وَإِذَا قُلْنَا إِنَّ القول قول الراهن نفي الْيَمِينِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الرَّاهِنِ إِذَا اعْتَرَفَ بِجِنَايَةِ عَبْدِهِ قَبْلَ رَهْنِهِ، أَوْ أَقَرَّ بِعِتْقِهِ وَقِيلَ إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الراهن هل عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: كَذَلِكَ هاهنا وإذا كان القول قوله هل عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَمِينَ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: عَلَيْهِ الْيَمِينُ.
فَإِنْ حَلَفَ خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ، وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتْ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَهَذَا حُكْمُ الْوَلَدِ إِذَا ادَّعَاهُ الرَّاهِنُ.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا حُكْمُ الْوَلَدِ إِذَا لَمْ يَدَّعِيهِ الرَّاهِنُ وَلَدًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:

(6/46)


أحدهما: ألا يكون منه إقرارا بِوَطْئِهَا وَلَيْسَ يَدَّعِي وَلَدَهَا. فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْوَلَدُ مَمْلُوكًا لَا يَلْحَقُ بِهِ، وَالْجَارِيَةُ فِي الرَّهْنِ إِلَّا أَنَّ الْوَلَدَ لَا يَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ، لِأَنَّ نَمَاءَ الرَّهْنِ عِنْدَنَا خَارِجٌ مِنَ الرَّهْنِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا قَبْلَ الْقَبْضِ، فَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِهِ، وَهُوَ حُرٌّ إِذَا وَضَعَتْهُ لِزَمَانٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ مَا لَمْ يَدَّعِ اسْتِبْرَاءَهَا فَإِنِ ادعى استبراءها كان القول قوله مع يمينيه وَكَانَ الْوَلَدُ مَمْلُوكًا لَا يَلْحَقُ بِهِ إِلَّا أَنْ تَضَعَهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الِاسْتِبْرَاءِ فَيَلْحَقُ بِهِ.
فَأَمَّا خُرُوجُ الْأُمِّ مِنَ الرَّهْنِ فَقَدْ قَالَ أَبُو الْفَيَّاضِ فِي شَرْحِهِ: لَا يَخْرُجُ مِنَ الرَّهْنِ لَا يَخْتَلِفُ الْقَوْلُ فِيهِ قَالَ: لِأَنَّ الْوَلَدَ لَحِقَ بِهِ لِأَجْلِ الْفِرَاشِ لَا بِالِاعْتِرَافِ وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي غير صحيح؛ لأن خرجها مِنَ الرَّهْنِ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا صَارَتْ أُمَّ ولد، وهي تصير أم ولد بالفراش فَوَجَبَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الرَّهْنِ إِذَا لَحِقَ وَلَدُهَا بِالِاعْتِرَافِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ وَضَعَتْهُ لأقل من ستة أشهر خرجت من الراهن فَإِنْ وَضَعَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ.
فلو قالت الجارية: هذا الولد من زنا وَلَيْسَ مِنَ الرَّاهِنِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ فِرَاشًا بِالْوَطْءِ السَّابِقِ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حُكْمِ الْجَارِيَةِ إِذَا وَضَعَتْهُ فِي خُرُوجِهَا مِنَ الرَّهْنِ أَوْ بَقَائِهَا فِيهِ مَعَ لُحُوقِ وَلَدِهَا بِالرَّاهِنِ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى حُكْمِهَا إِنْ خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ وَإِلَى حُكْمِهَا إِنْ بَقِيَتْ فِي الرَّهْنِ، فَأَمَّا حُكْمُهَا إِنْ خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي وَصَفْنَا.
فَخُرُوجُهَا إِنَّمَا يَكُونُ بِعُلُوقٍ قَبْلَ الرَّهْنِ صَارَتْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ فَبَطَلَ الرَّهْنُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الرَّهْنُ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَقَدْ بَطَلَ الرَّهْنُ وَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَطْءِ الَّذِي كَانَ بِهِ الْإِحْبَالُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ عَقْدِ الرَّهْنِ أَوْ بَعْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ. فَإِنْ كَانَ الْوَطْءُ بَعْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ وقبل القبض والبيع جَائِزٌ لَا يُخْتَلَفُ وَالرَّهْنُ بَاطِلٌ.
وَإِنَّمَا كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ الرَّهْنِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ كَانَ بَعْدَ الْعَقْدِ فَصَارَ بُطْلَانُهُ كَبُطْلَانِ الرَّهْنِ التَّالِفِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُبْطِلٍ لِلْبَيْعِ فَكَذَلِكَ هَذَا. وَإِذَا لَمْ يَبْطُلِ الْبَيْعُ فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بِعَقْدِ الرَّهْنِ الَّذِي شَرَطَهُ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ وَبَيْنَ فَسْخِهِ.
وَإِنْ كَانَ الْوَطْءُ قَبْلَ الْعَقْدِ فَقَدْ بَانَ أَنَّهَا كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ حَالَ الْعَقْدِ، فَلَمْ يَجُزْ رَهْنُهَا وَلَا الْعَقْدُ عَلَيْهَا، وَصَارَ الثَّمَنُ معقودا بشرط رهن باطل فكان البيع قولان:

(6/47)


أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ لِبُطْلَانِ الرَّهْنِ الْمُقْتَرِنِ بِهِ فِي الْعَقْدِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: جَائِزٌ لِاسْتِقْلَالِ الْبَيْعِ بِحُكْمِهِ وَصِحَّةِ تَمَيُّزِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَكِنْ يَكُونُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ وَبَيْنَ فَسْخِهِ. . فَهَذَا حُكْمُ الْجَارِيَةِ إِذَا خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ بُطْلَانِ الْبَيْعِ وخيار المرتهن. فأما حكمهما إِذَا بَقِيَتْ فِي الرَّهْنِ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا إِذَا أَمْكَنَ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنَ الرَّاهِنِ. فَإِذَا استوفى الحق فيه خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ، ثُمَّ هِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا وَلَا رَهْنُهَا وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْهُ بِيعَتْ لِمَا قَدْ تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهَا مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، فَإِنْ عَادَ الرَّاهِنُ فَمَلَكَهَا بِابْتِيَاعٍ أَوْ هِبَةٍ فَقَدْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ بيعها ورهنها.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ اغْتَصَبَهَا بَعْدَ الْقَبْضِ فَوَطِئَهَا فَهِيَ بِحَالِهَا فَإِنِ افْتَضَّهَا فَعَلَيْهِ مَا نَقَصَهَا يَكُونُ رَهْنًا مَعَهَا أَوْ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ فَإِنْ أَحْبَلَهَا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهَا لَمْ تُبَعْ مَا كَانَتْ حَامِلًا فَإِذَا وَلَدَتْ بِيعَتْ دُونَ وَلَدِهَا وَعَلَيْهِ مَا نَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ وَإِنْ مَاتَتْ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا تَكُونُ رَهْنًا أَوْ قصاصا من الحق ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
أَمَّا إِذَا أَرَادَ الرَّاهِنُ أَنْ يَطَأَ الْجَارِيَةَ الْمَرْهُونَةَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يُمْنَعْ مِنَ الْوَطْءِ؛ لِأَنَّ رَهْنَهَا قَبْلَ الْقَبْضِ غَيْرُ لَازِمٍ. فَإِنْ وَطِئَهَا وَلَمْ تَحْبَلْ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِنْ أَقْبَضَهَا بِذَلِكَ الْعَقْدِ صَحَّ الرَّهْنُ وَلَزِمَ.
وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَطَأَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَلِلْجَارِيَةِ الْمَرْهُونَةِ حَالَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ اللَّاتِي يُخَافُ مِنْ وَطْئِهِنَّ الْحَبَلُ.
فَلَا يَجُوزُ لِلرَّاهِنِ وَطْؤُهَا وَإِنْ كَانَ أَحَقَّ بِمَنَافِعِهَا؛ لِأَنَّ وَطْأَهَا ذَرِيعَةٌ إِلَى إِحْبَالِهَا وَإِحْبَالُهَا مُبْطِلٌ لِرَهْنِهَا وَمَا أَدَّى إِلَى بُطْلَانِ الرَّهْنِ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَيَجُوزُ أَنْ يَطَأَهَا دُونَ الْفَرْجِ. إِذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ إِحْبَالٌ لَهَا قِيلَ: لَا يجوز. لأن وطئها دُونَ الْفَرْجِ دَاعٍ إِلَى وَطْئِهَا فِي الْفَرْجِ، وما كان داعيا أَمْرٍ مَمْنُوعٍ مِنْهُ كَانَ فِي نَفْسِهِ مَمْنُوعًا منه كإمساك الخمر فما كَانَ دَاعِيًا إِلَى تَنَاوُلِهَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ كَمَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ تَنَاوُلِهَا.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ لَا تَحْبَلُ إِمَّا لِصِغَرٍ أَوْ إِيَاسٍ فَفِي جَوَازِ وَطْءِ الرَّاهِنِ لَهَا وجهان:

(6/48)


أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا؛ لِأَنَّ حَبَلَهَا الْمُفْضِيَ إِلَى إِبْطَالِ رَهْنِهَا مَأْمُونٌ. فَصَارَ الْوَطْءُ كَالِاسْتِخْدَامِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا: لَا يَجُوزُ وَطْؤُهَا، لِأَنَّ الْإِيَاسَ مَظْنُونٌ وَحَبَلُ الْمُرَاهِقَةِ غَيْرُ مَأْمُونٍ. فَصَارَ كَالشَّرَابِ لَمَّا كَانَ مَا يُسْكَرُ مِنْهُ غَيْرَ مَحْدُودٍ. وَيَخْتَلِفُ عَلَى حَسَبِ قُوَّةِ الْأَشْرِبَةِ وَاخْتِلَافِ النَّاسِ مُنِعَ مِنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ.

(فَصْلٌ)
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ وَطْئِهَا عَلَى مَا وَصَفْنَا. فَوَطْؤُهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَطَأَ دُونَ الْفَرْجِ فَلَا حُكْمَ لَهُ، وَهِيَ بِحَالِهَا رَهْنٌ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَطَأَ فِي الْفَرْجِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا تَعْزِيرَ، لِأَنَّهَا مِلْكُهُ ثُمَّ هُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُحْبِلَهَا.
وَالثَّانِي: أَلَّا يُحْبِلَهَا، فَإِنْ لَمْ يُحْبِلْهَا فَلَهَا حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ بِكْرًا.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ ثَيِّبًا. فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَلَا شَيْءَ عَلَى الرَّاهِنِ الْوَاطِئِ مِنْ مَهْرٍ وَلَا غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ مِنْ كَسْبِهَا وَكَسْبُهَا لِلرَّاهِنِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الرَّهْنِ. أَلَا تَرَى أَنَّ أَجْنَبِيًّا لَوْ وَطِئَهَا فَلَزِمَهُ الْمَهْرُ كَانَ مِلْكًا لِلرَّاهِنِ غَيْرَ دَاخِلٍ فِي الرَّهْنِ، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْوَاطِئُ هُوَ الرَّاهِنَ لَمْ تَلْزَمْهُ غَرَامَةُ الْمَهْرِ فِي الرَّهْنِ.
وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا فَعَلَيْهِ أَرْشُ بَكَارَتِهَا وَمَا نَقَصَهَا الِافْتِضَاضُ بِوَطْئِهِ إِيَّاهَا لِيَكُونَ رَهْنًا مَعَهَا أَوْ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ وَإِنَّمَا لَزِمَهُ أَرْشُ بَكَارَتِهَا وَلَمْ يَلْزَمْهُ مَهْرُهَا؛ لِأَنَّ أَرْشَ الْبَكَارَةِ بَدَلٌ مِنْ إِتْلَافِ عُضْوٍ مِنْهَا وَذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الرَّهْنِ غَيْرُ خَارِجٍ مِنْهُ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ أَجْنَبِيًّا لَوْ أَزَالَ بَكَارَتَهَا فَلَزِمَهُ أَرْشُهَا كَانَ الْأَرْشُ دَاخِلًا فِي الرَّهْنِ، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ مُزِيلَ الْبَكَارَةِ هُوَ الرَّاهِنَ لَزِمَهُ غَرَامَةُ الْأَرْشِ فِي الرَّهْنِ. فَهَذَا حُكْمُ وَطْئِهِ إِذَا لَمْ تَحْبَلْ.
فَأَمَّا إِذَا أَحْبَلَهَا بِوَطْئِهِ فَالْكَلَامُ فِي الْمَهْرِ وَأَرْشِ الْبَكَارَةِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ وُجُوبِ الْأَرْشِ وَسُقُوطِ الْمَهْرِ، ثُمَّ هِيَ قَبْلَ وَضْعِ حَمْلِهَا رَهْنٌ بِحَالِهَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ غَلَطًا أَوْ رِيحًا. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا فِي الرَّهْنِ قَبْلَ وَضْعِهَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ صَحِيحًا.
فَإِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا فَالْوَلَدُ حُرٌّ لَاحِقٌ بِالرَّاهِنِ لِأَنَّهُ مِنْ أَمَتِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ غُرْمُ قِيمَتِهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَمْلُوكًا لَكَانَ غَيْرَ دَاخِلٍ فِي الرَّهْنِ.

(6/49)


فَأَمَّا الْأُمُّ فَهِيَ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ. وَهَلْ تَخْرُجُ مِنَ الرَّهْنِ أَمْ لَا؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ الصَّغِيرِ الْمَنْسُوبِ إِلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ:
إِنْ كَانَ معسرا لم تخرج من الرهن فإن كَانَ مُوسِرًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ وَقَالَ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ الْكَبِيرِ الْمَنْسُوبِ إِلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّهُ إِنْ كَانَ مُوسِرًا خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ وَطُولِبَ بِقِيمَتِهَا.
وَتَكُونُ رَهْنًا أَوْ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ.
فَحَصَلَ فِي خُرُوجِهَا مِنَ الرَّهْنِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا تَخْرُجُ مِنَ الرَّهْنِ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَخْرُجُ مِنَ الرَّهْنِ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: تَخْرُجُ مِنَ الرَّهْنِ فِي الْيَسَارِ وَلَا تَخْرُجُ مِنْهُ فِي الْإِعْسَارِ.
وَإِذَا قُلْنَا: تَخْرُجُ مِنَ الرَّهْنِ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة وَوَجْهُهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: هُوَ أَنَّ الرَّهْنَ مُحْتَبِسٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ بِدَيْنِهِ كَمَا أَنَّ الْمَبِيعَ مُحْتَبِسٌ فِي يَدِ الْبَائِعِ بِثَمَنِهِ، فَلَمَّا كَانَ حَبْسُ الْجَارِيَةِ فِي يَدِ الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ تَصِيرَ بِوَطْءِ الْمُشْتَرِي أُمَّ وَلَدٍ يَحْرُمُ بَيْعُهَا، كَذَلِكَ حَبْسُ الْجَارِيَةِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ بِدَيْنِهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ تَصِيرَ بِوَطْءِ الرَّاهِنِ أُمَّ وَلَدٍ يَحْرُمُ بَيْعُهَا.
وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ وَالذِّمَّةِ، وَحُكْمُ الْإِحْبَالِ مُتَعَلِّقٌ بِالْعَيْنِ دُونَ الذِّمَّةِ، وَالْحَقَّانِ إِذَا تَرَادَفَا وَكَانَ أَحَدُهُمَا مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ وَالذِّمَّةِ، وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ دُونَ الذِّمَّةِ، كَانَ مَا تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ دُونَ الذِّمَّةِ مُتَقَدِّمًا عَلَى مَا تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ وَالذِّمَّةِ، كَالْجِنَايَةِ إِذَا حَدَثَتْ مِنَ الرَّهْنِ كَانَتِ الْجِنَايَةُ مُتَقَدِّمَةً لِتَعَلُّقِهَا بِالدَّيْنِ.
وَالثَّالِثُ: هُوَ حُكْمُ الْإِحْبَالِ أَقْوَى مِنَ الرَّهْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُكْمَ الْإِحْبَالِ يَقَعُ فِي الْمِلْكِ وَيَسْرِي إِلَى غَيْرِ الْمِلْكِ. وَالرَّهْنُ لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي مِلْكٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ حُكْمَ الْإِحْبَالِ يَسْتَوِي فِيهِ الرَّشِيدُ وَغَيْرُ الرَّشِيدِ وَالرَّهْنُ لَا يَصِحُّ إِلَّا مِنْ رَشِيدٍ. فَإِذَا كَانَ الْإِحْبَالُ أَقْوَى مِنَ الرَّهْنِ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَزِيَادَةً غَلَبَ حُكْمُ الْإِحْبَالِ عَلَى الرَّهْنِ ... فَهَذَا تَوْجِيهُ هَذَا الْقَوْلِ.
وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهَا لَا تَخْرُجُ مِنَ الرَّهْنِ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَهُوَ قَوْلُ دَاوُدَ فَوَجْهُهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ:

(6/50)


أَحَدُهَا: هُوَ أَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الجارية المرهونة كما أن حق المجني عليه يتعلق برقبة الجانية، فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْإِحْبَالُ مَانِعًا مِنْ بَيْعِهَا فِي الْجِنَايَةِ لَمْ يَكُنِ الْإِحْبَالُ مَانِعًا مِنْ بَيْعِهَا فِي الرَّهْنِ.
وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّ نُفُوذَ الْإِحْبَالِ مُبْطِلٌ لِوَثِيقَةِ الْمُرْتَهِنِ مِنَ الرَّهْنِ كَمَا أَنَّ الْبَيْعَ مُبْطِلٌ لِوَثِيقَةِ الْمُرْتَهِنِ مِنَ الرَّهْنِ، فَلَمَّا كَانَ بَيْعُ الرَّاهِنِ غَيْرَ صَحِيحٍ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ وَثِيقَةِ الْمُرْتَهِنِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِحْبَالُ الرَّاهِنِ غَيْرَ نَافِذٍ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ وَثِيقَةِ الْمُرْتَهِنِ.
وَالثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ إِثْبَاتَ الرَّهْنِ أَوْلَى مِنْ نُفُوذِ الْإِحْبَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّهْنَ أَسْبَقُ مِنَ الْإِحْبَالِ فَكَانَ أَوْلَى.
وَالثَّانِي: أَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ تَمَّ بِاخْتِيَارِهِمَا، وَالْإِحْبَالُ حَادِثٌ بِاخْتِيَارِ أَحَدِهِمَا فَكَانَ مَا تَمَّ بِاخْتِيَارِهِمَا أَوْلَى، وَإِذَا كَانَ إِثْبَاتُ الرَّهْنِ أَوْلَى مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِلْإِحْبَالِ تَأْثِيرٌ فِيهِ فَهَذَا تَوْجِيهُ هَذَا الْقَوْلِ.
وَإِذَا قلنا: إنها تَخْرُجُ مِنَ الرَّهْنِ فِي الْيَسَارِ وَلَا تَخْرُجُ منه فِي الْإِعْسَارِ فَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَوَجْهُهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: هُوَ أَنَّ الرَّاهِنَ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الرَّهْنِ كَمَا أَنَّ الشَّرِيكَ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي حِصَّةِ الشَّرِيكِ، فَلَمَّا كَانَ إِحْبَالُ الشَّرِيكِ نَافِذًا فِي حِصَّةِ شَرِيكِهِ فِي الْيَسَارِ دُونَ الْإِعْسَارِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِحْبَالُ الرَّاهِنِ نَافِذًا فِي الرَّهْنِ فِي الْيَسَارِ دُونَ الْإِعْسَارِ.
وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْحَقَّيْنِ إِذَا أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهُمَا لَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُ أَحَدِهِمَا وَفِي الْيَسَارِ يمكن استيفاءهما وَفِي الْإِعْسَارِ لَا يُمْكِنُ تَقَدُّمُ الرَّهْنِ، لِأَنَّهُ أَسْبَقُهُمَا.
وَالثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ الْإِحْبَالَ تَصَرُّفٌ فِي عَيْنٍ تَعَلَّقَ بِهَا اسْتِيفَاءُ حَقِّ الْغَيْرِ مِنْهَا، فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ الْيَسَارُ فِي إِمْضَاءِ تَصَرُّفِهِ، وَالْإِعْسَارُ فِي رَدِّ تَصَرُّفِهِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ التصرف موجب للغرم وَالْمُوسِرُ قَادِرٌ عَلَى الْغُرْمِ دُونَ الْمُعْسِرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ رَدَّ التَّصَرُّفِ حَجْرٌ، وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِحَقِّ الدَّيْنِ هُوَ الْمُعْسِرُ دُونَ الْمُوسِرِ فَهَذَا تَوْجِيهُ هَذَا الْقَوْلِ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْأَقَاوِيلِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى إِبَانَةِ حُكْمِ الْجَارِيَةِ إِذَا قُلْنَا بِخُرُوجِهَا مِنَ الرَّهْنِ، وَإِلَى حُكْمِهَا إِذَا قُلْنَا بِبَقَائِهَا فِي الرَّهْنِ.
فَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّهَا قَدْ خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ فَقَدْ صَارَتْ لِلرَّاهِنِ أُمَّ وَلَدٍ بِنَفْسِ الْعُلُوقِ لَا

(6/51)


يَخْتَلِفُ. وَلَيْسَ كَمَا غَلِطَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ. فَخَرَّجَ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ بِنَفْسِ الْعُلُوقِ.
وَالثَّانِي: بِدَفْعِ الْقِيمَةِ.
وَالثَّالِثُ: مَوْقُوفٌ اعْتِبَارًا بِوَطْءِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ. وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ قَائِلِهِ، لِأَنَّ وَطْءَ الرَّاهِنِ صَادَفَ مِلْكًا، وَإِنَّمَا يَدْفَعُ الْقِيمَةَ لَا غُرْمًا لِلْمُتْلَفِ وَلَكِنْ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِيثَاقِ لِلْمُرْتَهِنِ فَصَارَتْ بِنَفْسِ الْعُلُوقِ أُمَّ وَلَدٍ.
وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَصِيرَ بِدَفْعِ الْقِيمَةِ أُمَّ وَلَدٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَضَى الدَّيْنَ وَلَمْ يَدْفَعِ الْقِيمَةَ كَانَتْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حِصَّةُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ بِنَفْسِ الْعُلُوقِ، فَعَلَيْهِ دَفْعُ قِيمَتِهَا إِلَى الْمُرْتَهِنِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا بِهَا، سَوَاءٌ جَعَلْنَا الْيَسَارَ شَرْطًا فِي خُرُوجِهَا مِنَ الرَّهْنِ أَمْ لَا. لِأَنَّهُ لَمَّا غَرِمَ أَرْشَ نَقْصِهَا بِجِنَايَتِهِ مَعَ بَقَائِهَا فِي الرَّهْنِ، فَأَوْلَى أَنْ يُغَرَّمَ جَمِيعَ قِيمَتِهَا بِخُرُوجِهَا مِنَ الرَّهْنِ، فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا بِهَا فِي الْحَالِ ثُمَّ أَيْسَرَ فِيمَا بَعْدُ غَرِمَ قِيمَتَهَا إِذَا أَيْسَرَ وَاعْتِبَارُ الْقِيمَةِ وَقْتَ الْعُلُوقِ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ، لِأَنَّهُ بِالْعُلُوقِ قَدِ اسْتُهْلِكَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَجْعَلَ الْقِيمَةَ رَهْنًا مكانها أو تكون قصاصا من الحق فإن جعلها رهنا. فَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ جَمِيعَ قِيمَتِهَا وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنَ الْحَقِّ لِأَنَّهُ يَصِيرُ رَهْنًا بَدَلًا عَنِ الْجَارِيَةِ الْمَرْهُونَةِ.
وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهَا قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهَا أَوْ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا أَكْثَرَ مِنَ الْحَقِّ فَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ إِلَّا حَقُّهُ، وَالزِّيَادَةُ لِلرَّاهِنِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا أَقَلَّ مِنَ الْحَقِّ فَقَدْ عَجَّلَ بَعْضَ مَا عَلَيْهِ، وَمَنْ عَجَّلَ بَعْضَ مَا عَلَيْهِ لَمْ يَلْزَمْهُ تَعْجِيلُ بَاقِيهِ فَهَذَا حكمها إذا خرجت من الرهن.

(فصل)
فإذا تقرر توجيه الأقاويل فَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّهَا لَا تَخْرُجُ مِنَ الرَّهْنِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُبَاعَ قَبْلَ وَضْعِهَا، لِأَنَّهَا حَامِلٌ بِحُرٍّ فَإِذَا وَضَعَتْ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
إِمَّا أَنْ تَمُوتَ بِالْوَضْعِ، أَوْ لَا تَمُوتَ لَكِنْ تَنْقُصُ قِيمَتُهَا، أَوْ لَا تَمُوتُ وَلَا تَنْقُصُ قِيمَتُهَا بِالْوَضْعِ.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ تَمُوتَ بِالْوَضْعِ، فَعَلَيْهِ غُرْمُ قِيمَتِهَا لِأَنَّ مَوْتَهَا بِسَبَبٍ مِنْهُ كَمَا لَوْ قَتَلَهَا فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ لَوِ اسْتَكْرَهَ أَمَةً عَلَى الْوَطْءِ فَأَحْبَلَهَا فَمَاتَتْ مِنَ الْوِلَادَةِ لَمْ يَكُنْ يَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا فَهَلَّا كَانَتِ الْجَارِيَةُ الْمَرْهُونَةُ إِذَا مَاتَتْ مِنْ وَضْعِهَا بِإِحْبَالِهِ لَا يَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا؟

(6/52)


قُلْنَا: لِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَلَيْهِ قِيمَتَهَا إِنْ كَانَتْ أَمَةً وَدِيَتَهَا إِنْ كَانَتْ حُرَّةً. فَعَلَى هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَرْهُونَةِ وَغَيْرِهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْحُرَّةِ وَلَا فِي الْأَمَةِ مِنْ دِيَةٍ وَلَا قِيمَةٍ. فَعَلَى هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ الرَّاهِنِ حَيْثُ غَرِمَ الْقِيمَةَ وَبَيْنَ غَيْرِهِ: أَنَّ الرَّاهِنَ يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ مَوْتِهَا. وذلك من جهته فلزمه غرم قيمتها والمكره على الزنا لا يلحق به الولد، فلم يكن سبب موتها من جهته، فلم يلزم غُرْمُ قِيمَتِهَا فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَيْهِ غُرْمَ قِيمَتِهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اعْتِبَارِ وَقْتِ الْقِيمَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَقْتَ الْعُلُوقِ؛ لِأَنَّ بِالْوَطْءِ كَانَ التَّعَدِّي.
وَالثَّانِي: وَقْتَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ بِهِ اسْتَقَرَّ التَّلَفُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَالثَّالِثُ: أَكْثَرُ مَا كَانَتْ قِيمَةً مِنْ وَقْتِ الْوَطْءِ إِلَى وَقْتِ الْمَوْتِ كَالْغَصْبِ.
فإذا غرم القيمة كان بالخيارين أَنْ تَكُونَ رَهْنًا مَكَانَهَا سَوَاءً كَانَتْ أَكْثَرَ مِنَ الْحَقِّ أَوْ أَقَلَّ، وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ قِصَاصًا إِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنَ الْحَقِّ أَوْ مِثْلَهُ وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنَ الْحَقِّ لَمْ يَلْزَمْهُ دَفْعُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْحَقِّ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَلَّا تَمُوتَ لَكِنْ تَنْقُصُ قِيمَتُهَا بِالْوَضْعِ: فَعَلَيْهِ غُرْمُ مَا نَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ يَكُونُ رَهْنًا مَعَهَا أَوْ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ رَهْنًا مَعَهَا كَانَ كَذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ فِيهَا وَفَاءٌ بِالْحَقِّ أَمْ لَا.
وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ كَانَ قِصَاصًا. فَإِنْ كَانَ فِيهِ وَفَاءٌ لِلدَّيْنِ خَرَجَتِ الْجَارِيَةُ مِنَ الرَّهْنِ وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَفَاءٌ لِلدَّيْنِ وَبَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ وَإِنْ قَلَّ كَانَتِ الْجَارِيَةُ بِحَالِهَا رَهْنًا.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ عَلَى حَالِهَا لَمْ تَمُتْ وَلَمْ تَنْقُصْ بِالْوَضْعِ: فَلَا شَيْءَ عَلَى الرَّاهِنِ، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ الْحَقِّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَالًّا، أَوْ مُؤَجَّلًا: فَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُبَاعَ قَبْلَ الْأَجَلِ، وَإِنْ كَانَ حَالًّا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُبَاعَ قَبْلَ اسْتِغْنَاءِ الْوَلَدِ عَنِ ارْتِضَاعِ اللِّبَأِ فَإِذَا ارْتَفَعَ اللِّبَأُ وَوُجِدَتْ مُرْضِعَةٌ تُرْضِعُهُ تَمَامَ الرَّضَاعِ جَازَ حِينَئِذٍ أَنْ تُبَاعَ فِي الدَّيْنِ وَيُفَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْوَلَدِ فِي الْبَيْعِ فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ لَوْ كَانَ الْوَلَدُ مَمْلُوكًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْوَلَدِ فِي الْبَيْعِ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ سَبْعًا، فَهَلَّا قُلْتُمْ كَذَلِكَ فِي الْوَلَدِ إِذَا كَانَ حُرًّا؟ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:

(6/53)


أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَلَدَ إِذَا كَانَ مَمْلُوكًا أَمْكَنَ أَنْ تُبَاعَ مَعَهُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُبَاعَ دُونَهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَعَ الْحُرِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَلَدَ إِذَا كَانَ مَمْلُوكًا فَحَضَانَتُهُ لِلْأُمِّ فَإِذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا سَقَطَتِ الْحَضَانَةُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحُرُّ؛ لِأَنَّ حَضَانَتَهُ لِلْأَبِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا إِسْقَاطٌ لِلْحَضَانَةِ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ بَيْعِهَا وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الدَّيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلَ قِيمَتِهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، أَوْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ قِيَمَتِهَا، أَوْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهَا. فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مِثْلَ قِيمَتِهَا وَتَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ رَاهِنِهَا بيعت وصرف ثمنها في الدين وكذلك إن كَانَ الدَّيْنُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا بِيعَتْ وَصُرِفَ ثَمَنُهَا فِي الدَّيْنِ وَكَانَ بَاقِي الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الرَّاهِنِ بِغَيْرِ رَهْنٍ. فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهَا مِثْلَ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهَا أَلْفًا وَالدَّيْنُ خَمْسَمِائَةٍ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُبَاعَ مِنْهَا بِقَدْرِ الدَّيْنِ وَهُوَ النِّصْفُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ.
قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ إِلَّا أَنْ لَا يَشْتَرِيَ النِّصْفُ بِحَالٍ فَتُبَاعُ جَمِيعُهَا وَيَصِيرُ الدَّيْنُ كَأَنَّهُ مُحِيطٌ بِقِيمَتِهَا ثُمَّ يَقْضِي مِنْهُ الدَّيْنَ، وَيَرُدُّ الْبَاقِيَ عَلَى الرَّاهِنِ.
فَأَمَّا إِذَا أَمْكَنَ بَيْعُ الْبَعْضِ مِنْهَا بِقَدْرِ الدَّيْنِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُبَاعَ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، فَلَوْ كَانَ لَهُ غُرَمَاءُ يَسْتَحِقُّونَ بَقِيَّةَ ثَمَنِهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبَاعَ الْبَاقِي مِنْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ إِنَّمَا بِيعَ فِي دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ لِلرَّهْنِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَاقِي غُرَمَائِهِ، فَإِذَا بِيعَ مِنْهَا بِقَدْرِ دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ وَهُوَ النِّصْفُ كَانَ النِّصْفُ الْبَاقِي أُمَّ وَلَدٍ لَا يَجُوزُ لِلرَّاهِنِ بَيْعُهُ وَكَانَ هُوَ وَشَرِيكُهُ الْمُشْتَرِي مَمْنُوعَيْنِ مِنَ الْوَطْءِ، فَإِنْ مَاتَ الرَّاهِنُ عَتَقَتْ حِصَّتُهُ وَلَا تُقَوَّمُ عَلَيْهِ حِصَّةُ شَرِيكِهِ. لِأَنَّ التَّقْوِيمَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَجِبُ، وَتَكُونُ حِصَّةُ شَرِيكِهِ بَاقِيَةً عَلَى الرِّقِّ، وَإِنَّمَا يُعْتِقُ عَلَى الرَّهْنِ قَدْرَ حِصَّتِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَتُعْتَقُ بِمَوْتِهِ فِي قَوْلِ مَنْ يُعْتِقُهَا فَتَوَهَّمَ الْمُزَنِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ تَوَقَّفَ فِي عِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فَقَالَ: قَدْ قَطَعَ الشَّافِعِيُّ بِعِتْقِهَا فِي كِتَابِ عِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ.
فَيُقَالُ لِلْمُزَنِيِّ: الْأَمْرُ عَلَى مَا ذكرت، ومذهب الشافعي لَمْ يَخْتَلِفْ فِي عِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ بِالْمَوْتِ، وَأَنَّ بَيْعَهَا لَا يَجُوزُ فِي الْحَيَاةِ، وَإِنَّمَا قَالَ:
وَتُعْتَقُ بِمَوْتِهِ فِي قَوْلِ مَنْ يُعْتِقُهَا يَعْنِي مِنَ الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ يُخَالِفُ فَقَالَ: يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا تُعْتَقُ بِالْمَوْتِ وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَتُعْتَقُ بِالْمَوْتِ.

(6/54)


وَبِهِ قَالَ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ لِيُعْلَمَ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا وَلَيْسَ إِجْمَاعًا كَمَا يَقُولُ مَالِكٌ: إِنَّهَا إِجْمَاعٌ. بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ: أَنَّ مَنْ خَالَفَ مِنَ الصَّحَابَةِ خَارِجَ الْمَدِينَةِ لَمْ يَكُنْ خلافا.

(مسألة)
قال الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَلَا يَكُونُ إِحْبَالُهُ لَهَا أَكْبَرَ مِنْ عِتْقِهَا وَلَا مَالَ لَهُ فأبطل العتق وتباع (قال المزني) يعني إذا كان معسرا. (قال الشافعي) فإن كانت تساوي ألفا والحق مائة بيع منها بقدر المائة والباقي لسيدها ولا توطأ وتعتق بموته في قول من يعتقها (قال المزني) قلت أنا قد قطع بعتقها في كتاب عتق أمهات الأولاد (قال) وفي الأم أنه إذا أعتقها فهي حرة وقد ظلم نفسه ".
قال الماوردي: وَالْحُكْمُ فِي عِتْقِ الرَّهْنِ كَالْحُكْمِ فِي إِحْبَالِهِ فَإِذَا أَعْتَقَ الرَّاهِنُ الْجَارِيَةَ الْمَرْهُونَةَ بَعْدَ الْقَبْضِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ كَانَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ كَمَا قُلْنَا فِي إِحْبَالِهِ:
أَحَدُهَا: أَنَّ عِتْقَهُ نَافِذٌ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة وَوَجْهُهُ مَعَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا عِتْقَ قَبْلَ مِلْكٍ فَدَلِيلُهُ نُفُوذُ الْعِتْقِ بَعْدَ وُجُودِ الْمِلْكِ.
وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّ فِي إِبْطَالِ الْعِتْقِ إِبْطَالَ حَقٍّ لَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ. وَلَيْسَ فِي إِبْطَالِ الرَّهْنِ إِبْطَالُ الْحَقِّ لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَكَانَ تَنْفِيَةُ الْعِتْقِ أَوْلَى حِرَاسَةً لِلْحَقَّيْنِ وَإِثْبَاتًا لِلْأَمْرَيْنِ:
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْعِتْقَ بَاطِلٌ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَيَجُوزُ بَيْعُهَا وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ: وَوَجْهُهُ مَعَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ مُتَعَلِّقٌ بِذِمَّةِ الرَّاهِنِ وَرَقَبَةِ الرَّهْنِ فَلَمَّا لَمْ يَمْلِكِ الرَّاهِنُ أَنْ يَنْقُلَ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ مِنْ ذِمَّتِهِ إِلَى ذِمَّةِ غَيْرِهِ بِالْحِوَالَةِ إِلَّا بِاخْتِيَارِ الْمُرْتَهِنِ لَمْ يَمْلِكْ أَنْ يَنْقُلَ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ مِنْ رَقَبَةِ الرَّهْنِ إِلَى قِيمَتِهِ إِلَّا بِاخْتِيَارِ الْمُرْتَهِنِ.
وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِرَقَبَةِ الرَّهْنِ أَقْوَى مِنْ تَعَلُّقِ حَقِّ غُرَمَاءِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ بِمَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَنْ عَقْدٍ وَهَذَا عَنْ غَيْرِ عَقْدٍ فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ سَيِّدَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا فِي يَدِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ لَهُ كَانَ عِتْقُهُ بَاطِلًا لِتَعَلُّقِ حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ بِهِ كَانَ عِتْقُ الرَّاهِنِ عَبْدَهُ الْمَرْهُونَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْعِتْقَ نَافِذٌ فِي الْيَسَارِ بَاطِلٌ فِي الْإِعْسَارِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَوَجْهُهُ مَا مَضَى مِنْ تَوْجِيهِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. فَإِنْ قُلْنَا يَبْطُلُ فِي الْإِعْسَارِ فَوَجْهُهُ مَا مَضَى فِي الْقَوْلِ الثاني.

(6/55)


(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْأَقَاوِيلِ، فَإِنْ قُلْنَا بِبُطْلَانِ عِتْقِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَالرَّهْنُ عَلَى حَالِهِ وَكَأَنَّ لَفْظَ الْعِتْقِ لَمْ يُوجَدْ.
وَإِنْ قُلْنَا بِنُفُوذِ عِتْقِهِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ إِنْ كَانَ موسرا، واعتبار القيمة من وَقْتِ تَلَفُّظِهِ بِالْعِتْقِ، وَهُوَ حُرٌّ بِاللَّفْظِ دُونَ دَفْعِ الْقِيمَةِ قَوْلًا وَاحِدًا كَمَا قُلْنَا فِي الْإِحْبَالِ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ صَادَفَ مِلْكَهُ فَإِذَا غَرِمَ الْقِيمَةَ كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ رَهْنًا مَكَانَهَا أَوْ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ عَلَى مَا مَضَى وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ عِتْقِهِ مُعْسِرًا ثُمَّ أَيْسَرَ فِيمَا بَعْدُ أُخِذَتْ مِنْهُ الْقِيمَةُ بَعْدَ يَسَارِهِ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُسْتَهْلِكًا لِلرَّهْنِ ومن لزمه غرم مات اسْتَهْلَكَ وَأَعْسَرَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ إِذَا أَيْسَرَ.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ بِيعَتْ أُمُّ الْوَلَدِ بِمَا وَصَفْتُ ثُمَّ مَلَكَهَا سَيِّدُهَا فَهِيَ أُمُّ وَلَدِهِ بِذَلِكَ الْوَلَدِ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) قُلْتُ أَنَا أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ أَنْ لا تصير أم ولد له لأن قوله إن الْعَقْدُ إِذَا لَمْ يَجُزْ فِي وَقْتِهِ لَمْ يجز بعده حتى يبتدأ بما يجوز وقد قال لا يكون إحباله لها أكبر من عتقها (قال) ولو أعتقها أبطلت عتقها (قال المزني) قلت أنا فهي في معنى من أعتقها من لا يجوز عتقه فيها فهي رقيق بحالها فكيف تعتق أو تصير أم ولد بِحَادِثٍ مِنْ شِرَاءٍ وَهِيَ فِي مَعْنَى مَنْ أعتقها محجور ثُمَّ أَطْلَقَ عَنْهُ الْحَجْرَ فَهُوَ لَا يَجْعَلُهَا حرة عليه أبدا بهذا ".
قال الماوردي: إِذَا أَوْلَدَ الرَّاهِنُ أَمَتَهُ الْمَرْهُونَةَ ثُمَّ بِيعَتْ عَلَيْهِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَوْ بِيعَ مِنْهَا بِقَدْرِ الدَّيْنِ ثُمَّ مَلَكَهَا أَوْ مَلَكَ مَا بَاعَ مِنْهَا صَارَتْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ بِذَلِكَ الْإِحْبَالِ وَحَرُمَ عَلَيْهِ بَيْعُهَا سَوَاءٌ مَلَكَهَا بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ، لِأَنَّهَا قَدْ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ بِحَمْلِهَا بِحُرِّ مِنْهُ، وَإِنَّمَا بِيعَتْ بِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ. فَإِذَا زَالَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ وَعَادَتْ إِلَى مِلْكِهِ عَادَتْ إِلَى حُكْمِهَا الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ فِي مِلْكِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِعِتْقِهَا وَهِيَ مَرْهُونَةٌ فَلَمْ يَحْكُمْ بِنُفُوذِ إِقْرَارِهِ وَبِيعَتْ عَلَيْهِ فِي الرَّهْنِ ثُمَّ مَلَكَهَا عَتَقَتْ عَلَيْهِ بِالْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ عِتْقَهَا قَدْ كَانَ مَحْكُومًا بِهِ وَإِنَّمَا بِيعَتْ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِرَقَبَتِهَا قَبْلَ الْإِقْرَارِ فَإِذَا زَالَ حَقُّهُ وَعَادَتْ إِلَى مِلْكِهِ نَفَذَ عِتْقُهُ كَذَلِكَ أُمُّ الْوَلَدِ.
وَقَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ: إِذَا مَلَكَ أُمَّ وَلَدِهِ بَعْدَ أَنْ بِيعَتْ عَلَيْهِ لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ إِلَّا بِإِحْبَالٍ مُسْتَحْدَثٍ بَعْدَ الْمِلْكِ الثَّانِي اسْتِدْلَالًا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ.
أَحَدُهَا: أَنْ قَالَ: الْعَقْدُ إِذَا لَمْ يَجُزْ فِي وَقْتِهِ لَمْ يَجُزْ بَعْدَهُ حَتَّى يُبْتَدَأَ بِمَا يَجُوزُ وَالْجَوَابُ عَنْهُ:
أَنَّ الْإِحْبَالَ لَيْسَ بِعَقْدٍ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ مَوْقُوفًا، أَلَا تَرَى أَنَّ إِحْبَالَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ كَإِحْبَالِ غَيْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي أَنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ. وَلَوْ كَانَ عَقْدًا مَا صَحَّ مِنَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ كَمَا لَا

(6/56)


تَصِحُّ مِنْهُ سَائِرُ عُقُودِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَقْدًا لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى أُمِّ وَلَدٍ لَهُ فِي الْحَالِ وَإِنَّمَا تُبَاعُ بِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ.
وَالثَّانِي: أَنْ قَالَ: لَا يَكُونُ إِحْبَالُهُ لَهَا أَكْثَرَ مِنْ عِتْقِهَا وَلَوْ أَعْتَقَهَا أَبْطَلْتُ عِتْقَهَا فَإِنْ مَلَكَهَا لَمْ تُعْتَقْ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ إِنْ أَحْبَلَهَا فَبِيعَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ مَلَكَهَا لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ: مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ سَوَّى بَيْنِ الْإِحْبَالِ وَالْعِتْقِ فِي النُّفُوذِ بَعْدَ الْمِلْكِ كَمَا سَوَّى الْمُزَنِيُّ بَيْنَهُمَا فِي الْإِبْطَالِ بَعْدَ الْمِلْكِ: فَقَالَ: إِذَا أَعْتَقَ أَمَتَهُ الْمَرْهُونَةَ فَبِيعَتْ عَلَيْهِ فِي الرَّهْنِ ثُمَّ مَلَكَهَا عَتَقَتْ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ أَحْبَلَهَا فَبِيعَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ مَلَكَهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ. فَعَلَى هَذَا، يَسْقُطُ السُّؤَالُ.
وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ إِنَّهُ إِذَا أَعْتَقَهَا فَبِيعَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ مَلَكَهَا لَمْ تُعْتَقْ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَحْبَلَهَا فَبِيعَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ مَلَكَهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أن العتق قول فإذا أبطل فِي الْحَالِ لَمْ يَبْقَ لَهُ حُكْمٌ فِي الثَّانِي. وَالْإِحْبَالُ فِعْلٌ إِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْحَالِ جَازَ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي الثَّانِي أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوِ اسْتَوْلَدَ أَمَةَ غَيْرِهِ بِشُبْهَةِ مِلْكٍ لَمْ تَكُنْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فِي الْحَالِ فَإِنْ مَلَكَهَا صَارَتْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ فِي الثَّانِي عَلَى مَذْهَبِ الْمُزَنِيِّ وَأَحَدِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ وَلَوْ أَعْتَقَ أَمَةَ غَيْرِهِ ثُمَّ مَلَكَهَا ومن بَعْدُ لَمْ تُعْتَقْ عَلَيْهِ، فَبَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا.
وَالثَّالِثُ: إِنْ قَالَ: كَيْفَ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ بِحَادِثٍ مِنْ شِرَاءٍ وَهِيَ فِي مَعْنَى من أعتقها محجورا عَلَيْهِ ثُمَّ أَطْلَقَ عَنْهُ الْحَجْرَ فَهُوَ لَا يَجْعَلُهَا حُرَّةً عَلَيْهِ إِنْ مَلَكَهَا فَكَذَلِكَ الْإِحْبَالُ إِذَا لَمْ تَصِرْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ فِي الْحَالِ لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ إِذَا مَلَكَهَا.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ: اعْتِبَارُ إِحْبَالِ الرَّاهِنِ بِعِتْقِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الرَّاهِنَ وَإِنْ كَانَ فِي الرَّهْنِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ. الْحُكْمُ فِي إِحْبَالِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَعِتْقِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ أَمَتَهُ لَمْ تُعْتَقْ عَلَيْهِ وَلَوْ أَحْبَلَهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَإِنَّمَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ إِحْبَالِ الرَّاهِنِ بِإِحْبَالِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَعِتْقُ الرَّاهِنِ بِعِتْقِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَهُمَا سَوَاءٌ فِي الْحُكْمِ لِأَنَّ إِحْبَالَهُمَا يَنْفُذُ وعتقهما لا ينفذ.
فأما قول الشافعي وَلَا يَكُونُ إِحْبَالُهُ لَهَا أَكْثَرَ مِنْ عِتْقِهَا فَلَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّ الْإِحْبَالَ أَضْعَفُ حَالًا مِنَ الْعِتْقِ، بَلِ الْإِحْبَالُ أَوْلَى وَأَقْوَى مِنَ الْعِتْقِ لِنُفُوذِهِ مِنَ الْمَجْنُونِ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَالْمُفْلِسِ وَالْمَرِيضِ الَّذِي قَدْ أَحَاطَتْ دُيُونُهُ بِتَرِكَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُمْ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مَعْنًى ذَهَبَ عَلَى الْمُزَنِيِّ وَهُوَ أَنَّ الْعِتْقَ نَافِذٌ فِي الْحَالِ وَالْإِحْبَالَ سَبَبٌ لِلْعِتْقِ فِي ثَانِي حَالٍ قَالَ فَلَمَّا لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الرَّهْنِ بِالْعِتْقِ الَّذِي يَنْفُذُ فِي الْحَالِ فَأَوْلَى أَلَّا يَخْرُجَ مِنْهُ بِالْإِحْبَالِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِلْعِتْقِ في ثاني حال.

(6/57)


(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَحْبَلَهَا أَوْ أَعْتَقَهَا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
إذا أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ لِلرَّاهِنِ فِي عِتْقِ الْجَارِيَةِ الْمَرْهُونَةِ أَوْ إِحْبَالِهَا فَأَعْتَقَهَا أَوْ أَحْبَلَهَا نَفَذَ عِتْقُهُ وَإِحْبَالُهُ، وَخَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ.
وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِثَلَاثَةِ معان:
أحدهما: أَنَّ الْعِتْقَ وَالْإِحْبَالَ فَسْخٌ إِذْ لَا يَصِحُّ رَهْنُ الْحُرِّ وَأُمِّ الْوَلَدِ. وَلَوْ أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ لِلرَّاهِنِ فِي فَسْخِ الرَّهْنِ فَفَسَخَهُ صَحَّ الْفَسْخُ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَذِنَ لَهُ فِي الْعِتْقِ وَالْإِحْبَالِ فَأَعْتَقَ أَوْ أَحْبَلَ وَقَعَ الْفَسْخُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّهْنَ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالرِّقِّ وَالْعِتْقِ وَالْإِحْبَالُ إِتْلَافٌ لِلرِّقِّ. وَإِذَا أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ لِلرَّاهِنِ فِي إِتْلَافِ الرَّهْنِ فَأَتْلَفَهُ بَطَلَ الرَّهْنُ كَذَلِكَ إِذَا أَذِنَ لَهُ فِي الْعِتْقِ وَالْإِحْبَالِ فَفَعَلَ بَطَلَ الرَّهْنُ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الرَّهْنَ يَشْتَمِلُ عَلَى حَقَّيْنِ: حَقِّ مِلْكٍ لِلرَّاهِنِ هُوَ أَقْوَاهُمَا وَحَقِّ اسْتِيثَاقٍ لِلْمُرْتَهِنِ هُوَ أَضْعَفُهُمَا، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الرَّاهِنَ لَوْ أَذِنَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي الْبَيْعِ فَبَاعَهُ زَالَ حَقُّ مِلْكِهِ، فَكَذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ إِذَا أَذِنَ لِلرَّاهِنِ فِي الْعِتْقِ أَوِ الْإِحْبَالِ فَفَعَلَ زَالَ حَقُّ اسْتِيثَاقِهِ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الرَّهْنَ يَنْفَسِخُ بِذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّاهِنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَفْعَلَ مَا أَذِنَ لَهُ الْمُرْتَهِنُ مِنَ الْعِتْقِ أَوِ الْإِحْبَالِ أَوْ لَا يَفْعَلُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ كَانَ الرَّهْنُ عَلَى حَالِهِ لَا يَنْفَسِخُ بِمُجَرَّدِ الْإِذْنِ، لِأَنَّ الْإِذْنَ لَيْسَ بِفَسْخٍ وَإِنَّمَا يَصِحُّ بِهِ الْفَسْخُ.
وَإِنْ فَعَلَ مَا أَذِنَ لَهُ فَإِنْ كَانَ عِتْقًا نَفَذَ فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ وَطَأَ وَلَمْ يَحْدُثْ عَنْهُ إِحْبَالٌ فَالرَّهْنُ بِحَالِهِ لِأَنَّ الْوَطْءَ إِذَا عُرِّيَ عَنِ الْإِحْبَالِ فِي الْأَمَةِ جَرَى مَجْرَى الْخِدْمَةِ وَإِنْ حَدَثَ عَنْهُ إِحْبَالٌ خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ وَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ.
فَلَوْ أُذِنَ لَهُ فِي وَطْئِهَا دُونَ إِحْبَالِهَا فَوَطِئَهَا وَأَحْبَلَهَا خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ مِنَ الْإِحْبَالِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَصَارَ مَأْذُونًا فِيهِ.
(فَصْلٌ)
فَلَوْ رَجَعَ الْمُرْتَهِنُ فِي إِذْنِهِ فَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُ بَعْدَ الْعِتْقِ أَوِ الْإِحْبَالِ لَمْ يَكُنْ لِرُجُوعِهِ تَأْثِيرٌ لِوُجُودِهِ بَعْدَ فَسْخِ الرَّهْنِ، وَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُ قَبْلَ الْعِتْقِ وَالْإِحْبَالِ لَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ أَنْ يُعْتِقَ وَلَا أَنْ يَطَأَ. فَإِنْ أَعْتَقَ بَعْدَ رُجُوعِهِ أَوْ وَطِئَ فَأَحْبَلَ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:

(6/58)


أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِرُجُوعِهِ. فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ مَنْ أَحْبَلَ أَوْ أَعْتَقَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ فَيَكُونُ غَيْرَ نَافِذٍ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَعَلَيْهِ غُرْمُ الْقِيمَةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ عَالِمٍ بِرُجُوعِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنَ الْوَكِيلِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي الْبَيْعِ إِذَا رَجَعَ مُوَكِّلُهُ عَنِ الْإِذْنِ ثُمَّ بَاعَ الْوَكِيلُ قَبْلَ الْعِلْمِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حُكْمُ إِذْنِهِ بَاقِيًا حَتَّى يَعْلَمَ بِالرُّجُوعِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عِتْقُهُ وَإِحْبَالُهُ نَافِذًا وَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ حُكْمَ الْإِذْنِ قَدْ زَالَ بِالرُّجُوعِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَمَنْ أَحْبَلَ وَأَعْتَقَ، بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَيَكُونُ بَاطِلًا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَجَائِزًا فِي الْقَوْلِ الثَّانِي وَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ.

(فَصْلٌ)
قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابٍ الرَّهْنِ الْكَبِيرِ مِنْ " الْأُمِّ ": وَلَوْ أَذِنَ لَهُ الْمُرْتَهِنُ فِي ضربها فضربها فَمَاتَتْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الرَّاهِنِ غُرْمُ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ إِطْلَاقَ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ فِي ضَرْبِهَا يَتَنَاوَلُ قَلِيلَ الضَّرْبِ وَكَثِيرَهُ، فَصَارَ مَا فَعَلَهُ الرَّاهِنُ مِنَ الضَّرْبِ الْمُؤَدِّي إِلَى تَلَفِهَا عَنْ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ فَكَانَ إِسْقَاطًا لِلْحَقِّ مِنْ رَقَبَتِهَا وَجَرَى مجرى الفسخ بعتقها أو إحبالها.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ اخْتَلَفَا فَقَالَ الرَّاهِنُ أَعْتَقْتُهَا بِإِذْنِكَ وَأَنْكَرَ الْمُرْتَهِنُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَهِيَ رَهْنٌ وهذا إِذَا كَانَ الرَّاهِنُ مُعْسِرًا فَأَمَّا إِذَا كَانَ موسرا أخذ منه قيمة الجارية والعتق والولاء له تكون مكانها أو قصاصا ".
قال الماوردي: إِذَا اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ بَعْدَ عِتْقِ الرَّاهِنِ أَوْ إِحْبَالِهِ فَقَالَ الرَّاهِنُ: فَعَلْتُ ذَلِكَ بِإِذْنِكَ فَفِعْلِي نَافِذٌ وَالرَّهْنُ مُنْفَسِخٌ. وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: بَلْ فَعَلْتَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنِي، فَفِعْلُكَ مَرْدُودٌ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَمَضْمُونٌ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي.
فَإِنْ كَانَ لِلرَّاهِنِ بَيِّنَةٌ نَفَذَ عِتْقُهُ وَإِحْبَالُهُ. وَفِي الْبَيِّنَةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: شَاهِدَانِ عَدْلَانِ لَا غَيْرَ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ: إِنَّ عِتْقَ الرَّاهِنِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ بَاطِلٌ لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ تُثْبِتُ الْعِتْقَ وَالْعِتْقُ لَا يُقْبَلُ فِيهِ إِلَّا شَاهِدَانِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْبَيِّنَةَ شَاهِدَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ: إِنَّ عِتْقَ الرَّاهِنِ بِغَيْرِ إذن المرتهن نافذ فإنه لِلْقِيمَةِ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّ هَذَا حَلِفٌ فِي ضَمَانِ مَالٍ وَالْأَمْوَالُ يُحْكَمُ فِيهَا بِشَاهِدَيْنِ وَشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَشَاهِدٍ وَيَمِينٍ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ أَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ. لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّاهِنَ يَدَّعِي إِذْنَ الْمُرْتَهِنَ وَالْمُرْتَهِنَ مُنْكِرٌ، فَكَانَ الْقَوْلُ قول المنكر.

(6/59)


فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ، أُحْلِفَ فَإِنْ حَلَفَ صَارَ الرَّاهِنُ كَمَنْ أَعْتَقَ أَوْ أَحْبَلَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى.
فَإِنْ نَكَلَ الْمُرْتَهِنُ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَى الرَّاهِنِ فَإِنْ حَلَفَ صَارَ كَمَنْ أَعْتَقَ أَوْ أَحْبَلَ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ فَيَكُونُ نَافِذًا وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فَإِنْ نَكَلَ الرَّاهِنُ فَهَلْ تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْجَارِيَةِ الْمَرْهُونَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا تُرَدُّ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ لَا يَحْلِفُ أَحَدٌ عَنْ غَيْرِهِ. فَعَلَى هَذَا إِذَا امْتَنَعَ الرَّاهِنُ مِنَ الْيَمِينِ بَعْدَ نُكُولِ الْمُرْتَهِنِ كَانَ الرَّاهِنُ كَمَنْ أَعْتَقَ أَوْ أَحْبَلَ بِغَيْرِ إِذْنٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْيَمِينَ تُرَدُّ عَلَى الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ ثَابِتٌ لَهَا فَجَازَ أَنْ تَحْلِفَ فِي حَقِّهَا. فَعَلَى هَذَا إِذَا حَلَفَتْ صَارَ الرَّاهِنُ كَمَنْ أَعْتَقَ أَوْ أَحْبَلَ بِإِذْنٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ نَافِذًا وَلَا ضمان عليه.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَقَرَّ الْمُرْتَهِنُ أَنَّهُ أَذِنَ لَهُ بِوَطْئِهَا وَزَعَمَ أَنَّ هَذَا الْوَلَدَ مِنْ زَوْجٍ لَهَا وَادَّعَاهُ الرَّاهِنُ فَهُوَ ابْنُهُ وَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ له ولا يصدق المرتهن وفي الأصل ولا يمين عليه (قال المزني) أصل قول الشافعي أنه إن أعتقها أو أحبلها وهي رهن فسواء فإن كان موسرا أخذت منه القيمة وكانت رهنا مكانها أو قصاصا وإن كان معسرا لم يكن له إبطال الرهن بالعتق ولا بالإحبال وبيعت في الرهن فلما جعلها الشافعي أم ولد لأنه أحبلها بإذن المرتهن ولم تبع كأنه أحبلها وليست رهن فكذلك إذا كان موسرا لم تكن عليه قيمة لأنه أحبلها بإذن المرتهن فلا تباع كأنه أحبلها وليست برهن فتفهم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: أَنْ يُقِرَّ الْمُرْتَهِنُ لِلرَّاهِنِ بِالْإِذْنِ فِي وَطْئِهَا عَلَى وَجْهٍ يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ لَوْ لَمْ يُنْكِرْهُ وَتَخْرُجْ أُمُّهُ مِنَ الرَّهْنِ وَذَلِكَ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَعْتَرِفَ الْمُرْتَهِنُ أَنَّهُ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي وَطْئِهَا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَعْتَرِفَ الْمُرْتَهِنُ أَنَّهُ وَطِئَهَا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَعْتَرِفَ أَنَّهَا وَضَعَتْهُ وَأَنَّهُ مِنْهَا لَمْ تَلْتَقِطْهُ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَعْتَرِفَ أَنَّ بَيْنَ وَطْئِهِ وَوَضْعِهَا مُدَّةً يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ وَهِيَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا.
فَإِذَا اعْتَرَفَ الْمُرْتَهِنُ لِلرَّاهِنِ بِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا الْوَلَدُ لَيْسَ مِنْكَ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ زَوْجٍ كَانَ لَهَا، أَوْ مِنْ زِنًا، وَقَالَ الرَّاهِنُ: بَلْ هُوَ مِنِّي وَالْجَارِيَةُ أُمُّ وَلَدِي خَارِجَةٌ مِنَ الرَّهْنِ،

(6/60)


فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ فِرَاشًا وَالْأَمَةُ إِذَا صَارَتْ فِرَاشًا لَحِقَ بِهِ وَلَدُهَا إِذَا كَانَ لُحُوقُهُ بِهِ مُمْكِنًا، وَلَا يَمِينَ عَلَى الرَّاهِنِ لِأَنَّهُ لَوْ نَفَاهُ لَمْ يَنْتَفِ، وَإِذَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي نَفْيِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ يَمِينٌ فِي ادِّعَائِهِ.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ بِلَا يَمِينٍ فَالْوَلَدُ حُرٌّ لَاحِقٌ بِهِ وَالْجَارِيَةُ قَدْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَقَدْ خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ وَلَا قيمة عليه في اليسار والإعسار.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا إِذَا أَنْكَرَ الْمُرْتَهِنُ أَحَدَ الشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ، فَإِنْ كَانَ إِنْكَارُهُ لِلشَّرْطِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْإِذْنُ فَيَقُولُ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ: أَذِنْتَ لِي فِي وَطْئِهَا وَيَقُولُ الْمُرْتَهِنُ: لَمْ آذَنْ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ وَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِالرَّاهِنِ بِإِقْرَارِهِ.
وَإِنْ كَانَ إِنْكَارُهُ لِلشَّرْطِ الثَّانِي وَهُوَ الْوَطْءُ، فيقول الراهن: وطأتها بِإِذْنِكَ وَيَقُولُ الْمُرْتَهِنُ: لَمْ تُطَأْ. فَفِيهِ وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قول المرتهن ولا يمين عليه؛ لأن الوطأ فِعْلُهُ وَإِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُقِرَّ بِالْوَطْءِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِالْإِذْنِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِالرَّاهِنِ بِإِقْرَارِهِ.
وَإِنْ كَانَ إِنْكَارُهُ لِلشَّرْطِ الثَّالِثِ وَهُوَ الْوَضْعُ، فَيَقُولُ المرتهن: قد أذنت لك في وطئها فوطئها وَلَكِنْ كَانَ إِنْكَارُهُ الْوَلَدَ أَنَّهَا لَمْ تَضَعْهُ وَلَكِنِ الْتَقَطَتْهُ. وَيَقُولُ الرَّاهِنُ بَلْ وَضَعَتْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ وَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِالرَّاهِنِ بِإِقْرَارِهِ.
وَإِنْ كَانَ إِنْكَارُهُ لِلشَّرْطِ الرَّابِعِ وَهُوَ الْمُدَّةُ، فَيَقُولُ الْمُرْتَهِنُ: وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ الْإِذْنِ، فَالْجَارِيَةُ رَهْنٌ. وَيَقُولُ الرَّاهِنُ: وَضَعَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ.
فَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي زَمَانِ الْوَطْءِ فَيَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ كَمَا لَوِ اخْتَلَفَا فِي الْوَطْءِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ، وَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بالراهن لإقراره.
(فَصْلٌ)
فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ نَقَلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ بَعْدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا كَانَ الرَّاهِنُ مُعْسِرًا فَأَمَّا إِذَا كَانَ مُوسِرًا فَتُؤْخَذُ قيمة الجارية ويكون رهنا مكانها أو قصاها.
ثُمَّ إِنَّ الْمُزَنِيَّ اعْتَرَضَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا فَقَالَ: كَيْفَ نُلْزِمُهُ قِيمَتَهَا إِذَا كَانَ مُوسِرًا وَهُوَ إِنَّمَا أَحْبَلَهَا بِإِذْنٍ فَوَجَبَ أَلَّا تَلْزَمُهُ قِيمَةٌ فِي الْيَسَارِ وَلَا فِي الْإِعْسَارِ.

(6/61)


فَيُقَالُ لِلْمُزَنِيِّ: الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتَهُ وَلَا تَلْزَمُ الرَّاهِنَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قِيمَتُهَا إِذَا جَعَلْنَا الْقَوْلَ قَوْلَهُ سَوَاءٌ كَانَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا، لِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، وَلَكِنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ ذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبِلَهَا: إِذَا اخْتَلَفَا فِي الْإِذْنِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُرْتَهِنِ، وَيَلْزَمُ الرَّاهِنَ قِيمَتُهَا إِذَا كَانَ مُوسِرًا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَنَقَلْتَهُ أَنْتَ أَيُّهَا الْمُزَنِيُّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إِلَى الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ. وَقَدْ ذكره الشافعي في الأم صحيحا.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ وَطِئَهَا الْمُرْتَهِنُ حُدَّ وَوَلَدُهُ مِنْهَا رَقِيقٌ لَا يَلْحَقُهُ وَلَا مَهْرَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَكْرَهَهَا فَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا وَلَا أَقْبَلُ مِنْهُ دَعْوَاهُ الْجَهَالَةَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَسْلَمَ حَدِيثًا أَوْ بِبَادِيَةٍ نَائِيَةٍ وَمَا أَشْبَهَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي وَطْءِ الرَّاهِنِ بِإِذْنٍ وَبِغَيْرِ إِذْنٍ. فَأَمَّا وَطْءُ الْمُرْتَهِنِ فَلَا يَخْلُو فِيهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَعْلَمَ تَحْرِيمَ ذَلِكَ أَوْ لَا يَعْلَمَ.
فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَعْلَمُ تَحْرِيمَ ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِتَحْرِيمِ الزِّنَا وَأَنَّ وَطْأَ الْمَرْهُونَةِ زِنًا، كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الزَّانِي وَيَتَعَلَّقُ بِوَطْئِهِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ:
أَحَدُهَا: وُجُوبُ الْحَدِّ.
وَالثَّانِي: انْتِفَاءُ النَّسَبِ.
والثالث: سقوط المهر إن طَاوَعَتْ، وَوُجُوبُهُ إِنْ أُكْرِهَتْ.
فَأَمَّا الْحَدُّ فَهُوَ واجب عليه. وأما هي إن طَاوَعَتْهُ وَجَبَ عَلَيْهَا الْحَدُّ أَيْضًا وَإِنْ أَكْرَهَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ دُونَهَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُبُهَاتِ " وَعَقْدُ الرَّهْنِ شُبْهَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَدْرَأَ بِهَا الْحَدَّ قَالَ: وَلِأَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ في الرهق حَقَّ الِاسْتِيفَاءِ كَمَا أَنَّ لِلسَّيِّدِ فِي الْمُكَاتَبَةِ حَقَّ الِاسْتِيفَاءِ فَلَمَّا لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ عَلَى السَّيِّدِ فِي وَطْءِ الْمُكَاتَبَةِ وَجَبَ أَلَّا يَجِبَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فِي وَطْءِ الْمَرْهُونَةِ حَدٌّ.
وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ: أَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى جَارِيَةٍ أَوْجَبَ اسْتِيفَاءَ الْحَقِّ مِنْهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ بِوَطْئِهَا كَالْمُكَاتَبَةِ.
وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِالرَّهْنِ كَتَعَلُّقِ حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ بِمَالِ الْمُفْلِسِ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ هَذَا مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْوَاطِئِ لَمْ يَكُنِ الرَّهْنُ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْوَاطِئِ.

(6/62)


وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ أَنْ نَقُولَ: لِأَنَّهَا وَثِيقَةٌ لِلْحَقِّ الْمُتَعَلِّقِ بِهَا، فَوَجَبَ أَلَّا يُمْنَعَ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ بِوَطْئِهَا. أَصْلُهُ: مَا ذَكَرْنَا.
وَلِأَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِرَقَبَةِ الْأَمَةِ الْجَانِيَةِ أَقْوَى مِنْ تَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِالْأَمَةِ الْمَرْهُونَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِذَا طَرَأَ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ قُدِّمَ بِهِ فَدَلَّ عَلَى قُوَّتِهِ، وَإِذَا كَانَ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَقْوَى وَلَمْ يُمْنَعْ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ بِوَطْئِهِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ مَعَ ضَعْفِهِ غَيْرَ مَانِعٍ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ بِوَطْئِهِ.
فَأَمَّا قَوْلُهُ بِأَنَّ الرَّهْنَ شُبْهَةٌ فَغَلَطٌ، لِأَنَّ الشُّبْهَةَ الْمُسْقِطَةَ لِلْحَدِّ إِمَّا أَنْ تَكُونَ شُبْهَةَ عَقْدٍ كَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ أَوْ شُبْهَةَ مِلْكٍ كَالْأَمَةِ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ، أَوْ شُبْهَةً فِي الْفِعْلِ كَمَنْ وَجَدَ عَلَى فِرَاشِهِ امْرَأَةً فَظَنَّهَا زَوْجَتَهُ أَوْ يَكُونُ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ. وَلَيْسَ الرَّهْنُ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ فَلَمْ تَكُنْ شُبْهَةً فِي إِسْقَاطِ الْحَدِّ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ: فَالْمُكَاتَبَةُ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِ مِنْ وَجْهٍ وَإِنْ كَانَتْ خَارِجَةً عَنْ مِلْكِهِ عَلَى وَجْهٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهَا عَتَقَتْ وَلَوْ عَجَزَتْ عَادَتْ إِلَى مِلْكِهِ كَمَا كَانَتْ. فَسَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ لِبَقَاءِ مِلْكِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَرْهُونَةُ.
وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّانِي وَهُوَ انْتِفَاءُ النَّسَبِ فَيَكُونُ الْوَلَدُ مَمْلُوكًا لِلرَّاهِنِ غَيْرَ لَاحِقٍ بِالْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّ الزِّنَا يَمْنَعُ مِنْ لُحُوقِ النَّسَبِ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ ".
وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّالِثُ فَهُوَ وُجُوبُ الْمَهْرِ فَيُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَكْرَهَهَا عَلَى الْوَطْءِ فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا مَهْرَ عَلَيْهِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ وَإِنْ طَاوَعَتْهُ عَلَى الْوَطْءِ.
فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: لَا مَهْرَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: عَلَيْهِ الْمَهْرُ وَلَا يَسْقُطُ بِمُطَاوَعَتِهَا لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلسَّيِّدِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِبَذْلِهَا وَإِبَاحَتِهَا كَمَا لَوْ أَذِنَتْ فِي قَطْعِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا لَمْ يَسْقُطِ الْأَرْشُ عَنِ الْجَانِي عَلَيْهَا.
وَهَذَا غَلَطٌ " لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ " وَهَذِهِ بِمُطَاوَعَتِهَا بَغِيٌّ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ مَهْرُهَا.

(6/63)


وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ وَجَبَ بِهِ الْحَدُّ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ فَوَجَبَ أَلَّا يَجِبَ بِهِ الْمَهْرُ كَالْحُرَّةِ وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ إِذْنِهَا فِي قَطْعِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا:
أَنَّ الْقَطْعَ إِتْلَافٌ فَلَمْ يَسْقُطْ غُرْمُهُ بِإِذْنِ مَنْ لَا يَمْلِكُهُ، وَهَذَا الْوَطْءُ زِنًا وَالزِّنَا غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْمَهْرِ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ الْمَهْرَ أَوْ لَا يَمْلِكُهُ.
فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْمُرْتَهِنِ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ.
فَأَمَّا إِذَا كَانَ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ الزِّنَا، أَوْ عَالِمًا بِتَحْرِيمِ الزِّنَا جَاهِلًا بِأَنَّ وَطْءَ الْمَرْهُونَةِ زِنًا لِأَنَّهُ أَسْلَمَ قَرِيبًا أَوْ كَانَ بِبَادِيَةٍ نَائِيَةٍ أَوْ كَانَ بِبَعْضِ جَزَائِرِ الْبَحْرِ النَّائِيَةِ عَنْ أَقَالِيمِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ نَشَأَ فِي بِلَادِ الشِّرْكِ لِسَبَبٍ اعْتَرَضَهُ فَهَذَا لَيْسَ بِزَانٍ وَيَتَعَلَّقُ بِوَطْئِهِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ:
أَحَدُهَا: سُقُوطُ الْحَدِّ عَنْهُ لِأَنَّ جَهْلَهُ بِتَحْرِيمِهِ شُبْهَةٌ فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُ وَهُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: كُنَّا بِالشَّامِ فَتَذَاكَرْنَا حَدِيثَ الزِّنَا فَقَالَ رَجُلٌ: زَنَيْتُ فَأَنْكَرْنَا عَلَيْهِ. فَقَالَ: أَحْرَامٌ الزِّنَا؟ فَكَتَبْنَا إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: إِنْ كَانَ جَاهِلًا فَانْهَوْهُ فَإِنْ عَادَ فَارْجُمُوهُ.
وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أَعْتَقَ أَمَةً وَزَوَّجَهَا مِنْ رَاعٍ فَزَنَتْ فَحَمَلَهَا إِلَى عُمَرَ فَقَالَ لَهَا: زَنَيْتِ يَا لَكْعَا، فَقَالَتْ: نَعَمْ مرعونين بِدِرْهَمَيْنِ، فَقَالَ: لِعَلِيٍّ مَا تَقُولُ فِيهَا؟ فَقَالَ: قَدِ اعْتَرَفَتْ عَلَيْهَا الْحَدُّ. فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: مَا تَقُولُ فِيهَا؟ فَقَالَ: كَمَا قَالَ أَخِي عَلِيٌّ. فَقَالَ لِعُثْمَانَ: مَا تَقُولُ فِيهَا؟ فَقَالَ: أَرَاهَا تَسْتَهِلُّ كَأَنَّهَا لَمْ تَعْلَمْ وَإِنَّمَا الْحَدُّ عَلَى مَنْ عَلِمَ فَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ. وَقَوْلُهُ: أَرَاهَا تَسْتَهِلُّ كَأَنَّهَا لَمْ تَعْلَمْ يَعْنِي تَعْتَرِفُ بِهِ اعْتِرَافَ مَنْ لَا يَعْلَمُ.
فَأَمَّا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِتَحْرِيمِ الزِّنَا جَاهِلًا بِوُجُوبِ الْحَدِّ فِيهِ حُدَّ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُ.
فَأَمَّا الْمَوْطُوءَةُ فَإِنْ كَانَتْ مِثْلَهُ جَاهِلَةً بِتَحْرِيمِهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ عَالِمَةً فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا إِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً وَعَلَيْهَا الْحَدُّ إِنْ كَانَتْ مُطَاوِعَةً.
وَالْحُكْمُ الثَّانِي: لُحُوقُ النَّسَبِ؛ لِأَنَّهُ عَنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ، وَيَكُونُ حُرًّا، وَعَلَى الْمُرْتَهِنِ الْوَاطِئِ قِيمَتُهُ يَوْمَ سَقَطَ حَيًّا لِلرَّاهِنِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَلْحَقْ بِالْمُرْتَهِنِ لَكَانَ مِلْكًا لِلرَّاهِنِ، وَمَنْ حَصَلَتْ مِنْهُ الْحُرِّيَّةُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ كَانَ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ كَالشَّرِيكَيْنِ إِذَا أَعْتَقَ أَحَدَهُمَا وَكَانَ مُوسِرًا.
وَالْحُكْمُ الثَّالِثُ: الْمَهْرُ: وَهُوَ عَلَى مَا مَضَى مِنَ اعْتِبَارِ حَالِ الْمَوْطُوءَةِ: فَإِنْ كَانَتْ

(6/64)


جَاهِلَةً بِالتَّحْرِيمِ فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ، وَإِنْ كَانَتْ عَالِمَةً، فَإِنْ أَكْرَهَهَا فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ، وَإِنْ طَاوَعَتْهُ فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ عَلَيْهِ الْمَهْرُ.
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْوَطْءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
ضَرْبٌ يُعْتَبَرُ بِالْوَاطِئِ، وَضَرْبٌ يُعْتَبَرُ بِالْمَوْطُوءَةِ وَضَرْبٌ يُعْتَبَرُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
فَالَّذِي يُعْتَبَرُ بِالْوَاطِئِ: هُوَ النَّسَبُ وَالْعِدَّةُ فَإِنْ كَانَ لَهُ شُبْهَةٌ لَحِقَ بِهِ النَّسَبُ وَوَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ شُبْهَةٌ انْتَفَى عَنْهُ النَّسَبُ وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ.
وَالَّذِي يُعْتَبَرُ بِالْمَوْطُوءَةِ: وُجُوبُ الْمَهْرِ، فَإِنْ كَانَ لَهَا شُبْهَةٌ وجب لها المهر وَإِنْ لَمْ تَكُنْ شُبْهَةً سَقَطَ الْمَهْرُ.
وَالَّذِي يَعْتَبِرُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: الْحَدُّ. فَإِنْ كَانَ لَهُمَا شُبْهَةٌ سَقَطَ عَنْهُمَا الْحَدُّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا شُبْهَةٌ وَجَبَ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا شُبْهَةٌ دُونَ الْآخَرِ سَقَطَ عَمَّنْ لَهُ الشبهة دون الآخر.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ رَبُّهَا أَذِنَ لَهُ فِي وَطْئِهَا وكان يجهل درىء عَنْهُ الْحَدُّ وَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ وَكَانَ حُرًّا وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ سَقَطَ وَفِي الْمَهْرِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ عَلَيْهِ الْغُرْمَ وَالْآخَرُ لَا غُرْمَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَبَاحَهَا لَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي وَطْءِ الْمُرْتَهِنِ بِغَيْرِ إِذْنِ الرَّاهِنِ. فَأَمَّا إِذَا وَطِئَ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ فَالْإِذْنُ غَيْرُ مُبِيحٍ لَهُ الْوَطْءَ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يُسْتَبَاحُ إِلَّا بِمِلْكٍ أَوْ نِكَاحٍ.
فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَعَلَى الرَّاهِنِ الْآذِنِ التَّعْزِيرُ لِإِقْدَامِهِ عَلَى إِبَاحَةِ الْمُحَرَّمَاتِ.
وَأَمَّا الْمُرْتَهِنُ الْوَاطِئُ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أن يكون عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، أَوْ جَاهِلًا بِهِ.
وَشُبْهَتُهُ فِي الْجَهَالَةِ بِتَحْرِيمِهِ مَعَ إِذْنِ الرَّاهِنِ أَقْوَى مِنْ شُبْهَتِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ: فَعَلَى مَا مَضَى مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ، وَانْتِفَاءِ النَّسَبِ وَاسْتِرْقَاقِ الْوَلَدِ.
وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ، وَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ، وَكَانَ حُرًّا.
وَأَمَّا الْمَهْرُ فَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إِذَا وَطِئَ بِغَيْرِ إِذْنِ الرَّاهِنِ فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَوْلَى أَلَّا يَجِبَ وَهُوَ أَنْ تُطَاوِعَهُ الْجَارِيَةُ عَالِمَةً بِالتَّحْرِيمِ، فَلَا مَهْرَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِوُجُوبِ الحد على الموطوءة.

(6/65)


فإذا قُلْنَا: إِنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ إِذَا وَطِئَ بِغَيْرِ إِذْنِ الرَّاهِنِ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ جَاهِلَةً بِالتَّحْرِيمِ، أَوْ مُكْرَهَةً مَعَ عِلْمِهَا بِالتَّحْرِيمِ فَفِي وُجُوبِهِ عَلَيْهَا إِذَا وَطِئَ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا مَهْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقَّانِ:
أَحَدُهُمَا: لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْحَدُّ.
وَالثَّانِي: لِلْآدَمِيِّ وَهُوَ الْمَهْرُ.
كَمَا أَنَّ الْقَتْلَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقَّانِ:
أَحَدُهُمَا: لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْكَفَّارَةُ.
وَالثَّانِي: لِلْآدَمِيِّ وَهُوَ الدِّيَةُ.
ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي قَتْلِهَا سَقَطَ عَنْهُ حَقُّهُ مِنْ قِيمَتِهَا دُونَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْكَفَّارَةِ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَذِنَ لَهُ فِي وَطْئِهَا سَقَطَ عَنْهُ حَقُّهُ مِنْ مَهْرِهَا دُونَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْحَدِّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عليه المهر؛ لأن هذا الوطأ موجب للمهر. كما أن الوطأ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ مُوجِبٌ لِلْمَهْرِ، ثُمَّ ثَبَتَ أنه لو وطأ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ بِإِذْنِ الْمَوْطُوءَةِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْمَهْرُ. كَذَلِكَ إِذَا وَطِئَ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْمَهْرُ.
وَأَمَّا قِيمَةُ الْوَلَدِ إِذَا لَحِقَ بِهِ وَصَارَ حُرًّا، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ فِي وُجُوبِ قِيمَتِهِ قَوْلَانِ كَالْمَهْرِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: عَلَيْهِ قِيمَةُ الْوَلَدِ قَوْلًا وَاحِدًا وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الولد والمهر من وجهين:
أحدهما: أن الوطأ مَأْذُونٌ فِيهِ فَسَقَطَ غُرْمُ بَدَلِهِ وَالْإِيلَاءُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ فَلَمْ يَسْقُطْ غُرْمُ بَدَلِهِ.
وَالثَّانِي: أن الوطأ استهلاك غير موجود فجاز أن يسقط غرمه عنه. وَالْوَلَدُ اكْتِسَابُ مَوْجُودٍ فَوَجَبَ عَلَيْهِ غُرْمُهُ.
فَأَمَّا غُرْمُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهَا بِالْوِلَادَةِ فَإِنْ لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ فَعَلَيْهِ غُرْمُهُ لَا يَخْتَلِفُ وَإِنْ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ الْوَلَدُ فَفِي وُجُوبِ غُرْمِهِ قَوْلَانِ وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ.
أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ غُرْمُهُ؛ لِأَنَّهُ بِسَبَبٍ مِنْهُ.
وَالثَّانِي: لَيْسَ عَلَيْهِ غُرْمُهُ لِعَدَمِ لُحُوقِ الْوَلَدِ بِهِ.

(6/66)


وهذان القولان من اختلاف قوليه فيمن زنا بِأَمَةٍ فَأَحْبَلَهَا وَمَاتَتْ فِي وِلَادَتِهَا هَلْ يَلْزَمُهُ غرم قيمتها أم لا؟

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَتَى مَلَكَهَا كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ (قَالَ المزني) قلت أنا قَدْ مَضَى فِي مِثْلِ هَذَا جَوَابِي لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ أَبَدًا (قال أبو محمد) وهم المزني في هذا في كتاب الربيع ومتى ملكها لم تكن له أم ولد ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدِ اسْتَوْفَيْنَا حُكْمَ وَطْءِ الْمُرْتَهِنِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَدِّ وَلُحُوقِ الْوَلَدِ وَوُجُوبِ الْمَهْرِ وَقِيمَةِ الْوَلَدِ.
فَأَمَّا كَوْنُ الْجَارِيَةِ الْمَوْطُوءَةِ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ مَا لَمْ يَمْلِكْهَا فَلَيْسَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَهِيَ رَهْنٌ عَلَى مِلْكِ رَاهِنِهَا.
فَإِذَا حَلَّ الْحَقُّ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا عِنْدَ حُلُولِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا بَعْدُ لَمْ تَضَعْ، أَوْ قَدْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا.
فَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ حَامِلًا بِحُرٍّ يَلْحَقُ بِالْمُرْتَهِنِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الشُّبْهَةِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا قَبْلَ وَضْعِهَا؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ إِذَا كَانَ حُرًّا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَلَا يَصْلُحُ إِقْرَارُهُ وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُطَالِبَ الرَّاهِنَ بِحَقِّهِ وَإِنْ حَلَّ قَبْلَ وَضْعِ الْحَمْلِ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ بَيْعِ الرَّهْنِ مَنْ قِبَلِهِ لَا مِنْ قِبَلِ الرَّاهِنِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ حَامِلًا بِمَمْلُوكٍ، فَإِنْ أَجَابَ الرَّاهِنُ إِلَى بَيْعِهَا حَامِلًا جَازَ، لِأَنَّ حَمْلَهَا بِمَمْلُوكٍ يَجُوزُ بَيْعُهُ مَعَهَا. فَإِنِ امْتَنَعَ الرَّاهِنُ مِنْ بَيْعِهَا حَامِلًا حَتَّى تَضَعَ وَطَلَبَ الْمُرْتَهِنُ أَنْ تُبَاعَ حَامِلًا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ حَلَّ فَهَلْ يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى بيعها حاملا أَمْ لَا؟
عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْحَمْلِ، هَلْ هُوَ تَبَعٌ، أَوْ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ.
أَحَدُهُمَا: يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهَا حَامِلًا إِذَا قِيلَ إِنَّ الْحَمْلَ يَكُونُ تَبَعًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا تُتْرَكُ حَتَّى تَضَعَ. وَلَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهَا حَامِلًا إِذَا قِيلَ إِنَّ الْحَمْلَ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ. فَهَذَا حُكْمُ بَيْعِهَا إِذَا حَلَّ الْحَقُّ وَهِيَ حَامِلٌ.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا إِذَا حَلَّ الْحَقُّ بَعْدَ وَضْعِهَا، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَلَدِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ حُرًّا يَلْحَقُ بِالْمُرْتَهِنِ، أَوْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لَا يَلْحَقُ بِهِ.

(6/67)


فَإِنْ كَانَ حُرًّا جَازَ بَيْعُهَا دُونَ وَلَدِهَا بَعْدَ اسْتِغْنَائِهِ عَنِ ارْتِضَاعِ اللِّبَأِ وَمَا لَا قِوَامَ لِبَدَنِهِ إِلَّا بِهِ.
وَإِنَّمَا جَازَ بَيْعُهَا دُونَ وَلَدِهَا لِحُرِّيَّةِ الْوَلَدِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ بَيْعُهُ مَعَهَا وَلَا يَلْزَمُ الْمُرْتَهِنَ أَنْ يُمْسِكَ عَنْ بَيْعِهَا فِي حَقِّهِ لِأَجْلِ وَلَدِهِ إِلَى حِينِ نُشُوئِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَأْخِيرِ حَقٍّ عَاجِلٍ.
وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مَمْلُوكًا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُبَاعَ دُونَ وَلَدِهَا لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ مَعَهَا فَإِذَا بِيعَا مَعًا أُعْطِيَ الْمُرْتَهِنُ مِنْ ثَمَنِهَا مَا قَابَلَ ثَمَنَ الْأُمِّ دُونَ الْوَلَدِ وَأَخَذَ الرَّاهِنُ مَا قَابَلَ ثَمَنَ الْوَلَدِ.
فهذا حكم بيعها في ملك الراهن.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا إِذَا مَلَكَهَا الْمُرْتَهِنُ، فَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا غَيْرَ لَاحِقٍ بِالْمُرْتَهِنِ، لَمْ تَصِرْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ لَا يُخْتَلَفُ وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ حُرًّا لَاحِقًا بِالْمُرْتَهِنِ فَهَلْ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الذي نقله المزني هاهنا وَرَوَاهُ حَرْمَلَةُ: أَنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّهَا عَلِقَتْ مِنْهُ بِحُرٍّ، فَوَجَبَ أَنْ تَصِيرَ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ، كَمَا لَوْ عَلِقَتْ مِنْهُ بِحُرٍّ فِي مِلْكِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: رَوَاهُ الرَّبِيعُ وَغَيْرُهُ وهو أصح: أَنَّهَا لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِأَنَّهَا عَلِقَتْ مِنْهُ فِي غَيْرِ مِلْكٍ، فَوَجَبَ أَلَّا تَصِيرَ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ كَمَا لَوْ عَلِقَتْ مِنْهُ فِي نِكَاحٍ.
وَجُمْلَتُهُ أَنَّ عُلُوقَ الْأَمَةِ بِوَلَدٍ يَلْحَقُ بِالْوَاطِئِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَعْلَقَ بِهِ فِي مِلْكِ الْوَاطِئِ، فَإِنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ، لَهُ، كَالسَّيِّدِ إِذَا أَوْلَدَ أَمَتَهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَعْلَقَ مِنْهُ فِي عَقْدِ نِكَاحٍ، فَلَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، إِذَا مَلَكَهَا لَا يُخْتَلَفُ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ تَعْلَقَ مِنَ الْوَاطِئِ بِحُرٍّ فِي غَيْرِ مِلْكٍ وَلَا عَقْدٍ كَمَسْأَلَتِنَا وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ وَطْءِ الشُّبْهَةِ فَهَلْ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ إِذَا مَلَكَهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا تَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ. وَقَدْ مَضَى الْجَوَابُ عَنْهُ.
(فَصْلٌ)
إِذَا وَطِئَ الْمُرْتَهِنُ الْجَارِيَةَ الْمَرْهُونَةَ وَادَّعَى عَلَى الرَّاهِنِ أَنَّهُ كَانَ قَدْ وَهَبَهَا لَهُ أَوْ بَاعَهَا عَلَيْهِ، وَأَنْكَرَ الرَّاهِنُ ذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهَا مُبَقَّاةٌ عَلَى مِلْكِهِ وَقَدْ خَرَجَتِ الْجَارِيَةُ مِنَ الرَّهْنِ، لِأَنَّ ادِّعَاءَ الْمُرْتَهِنِ مِلْكَهَا إِقْرَارٌ بِفَسْخِ ارْتِهَانِهَا، وَالْمُرْتَهِنُ إِذَا أَقَرَّ بِفَسْخِ الرَّهْنِ لَزِمَهُ إِقْرَارُهُ، لِأَنَّ الْفَسْخَ بِيَدِهِ وهل تكون دَعْوَى الْمُرْتَهِنِ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُ أَمْ لَا. عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَظْهَرُهُمَا: لَا تَكُونُ شُبْهَةً لِمَا قَابَلَهَا مِنَ الْإِنْكَارِ، وَالْحَدُّ عَلَيْهِ وَاجِبٌ.
فَعَلَى هَذَا إِنْ أَوْلَدَهَا كَانَ وَلَدُهُ مَمْلُوكًا غَيْرَ أَنَّهُ لَاحِقٌ بِهِ وَإِنَّمَا أَلْحَقْنَاهُ به ولم نعتقه

(6/68)


عليه؛ لأن الراهن لاحق لَهُ فِي نَسَبِهِ، فَقَبِلْنَا إِقْرَارَ الْمُرْتَهِنِ بِهِ وَالرَّاهِنُ مَالِكٌ لِرِقِّهِ، فَلَمْ نَقْبَلْ دَعْوَى الْمُرْتَهِنِ فِيهِ لَكِنْ إِنْ مَلَكَهُ الْمُرْتَهِنُ عَتَقَ عَلَيْهِ لِثُبُوتِ نَسَبِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: رَوَاهُ الرَّبِيعُ: أَنَّهَا شُبْهَةٌ لِتَجْوِيزِ مَا ادَّعَاهُ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ.
فَعَلَى هَذَا إِنْ أَوْلَدَهَا كَانَ وَلَدُهُ حُرًّا لَاحِقًا بِهِ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ. فَإِنْ مَلَكَ الْجَارِيَةَ فِيمَا بَعْدُ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ بِإِقْرَارِهِ لَا يُخْتَلَفُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا، سَوَاءٌ قُلْنَا: إِنَّ مَا ادَّعَاهُ شُبْهَةٌ أَمْ لَا لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مُقِرًّا لَهُ بِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ بِإِقْرَارِهِ وَلَا يَخْتَلِفُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَإِنْ أَنْكَرَهُ الرَّاهِنُ، فَصَارَ كَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ ابْتَاعَ مِنْ زَيْدٍ عَبْدَهُ وَأَعْتَقَهُ وَأَنْكَرَ زَيْدٌ الْبَيْعَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِنْ مَلَكَ الْمُدَّعِي ذَلِكَ الْعَبْدَ مِنْ بَعْدِ عِتْقٍ عَلَيْهِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ إِقْرَارِهِ. كَذَلِكَ إِذَا أَقَرَّ بِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدِهِ.

(فَصْلٌ)
وَإِنْ وَطِئَ الْمُرْتَهِنُ الْجَارِيَةَ وَادَّعَى عَلَى الرَّاهِنِ أَنَّهُ زَوَّجَهُ بِهَا وَأَنْكَرَ الرَّاهِنُ ذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا يَبْطُلُ الرَّهْنُ؛ لِأَنَّ تَزْوِيجَ الْمُرْتَهِنِ بِهَا لَا يُبْطِلُ ارْتِهَانَهَا، وَخَالَفَ دَعْوَاهُ ابْتِيَاعُهَا؛ لِأَنَّ ابْتِيَاعَهَا يُبْطِلُ ارْتِهَانَهَا.
ثُمَّ هَلْ تكون هذه الدعوى شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ. وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ الْوَلَدُ مَمْلُوكٌ لِلرَّاهِنِ، لِأَنَّ الرَّاهِنَ يَدَّعِيهِ مِنْ زِنَا وَالْمُرْتَهِنَ يَدَّعِيهِ مِنْ نِكَاحٍ وَمِنْ أَيِّهِمَا كَانَ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لِلرَّاهِنِ وَنَسَبُهُ لَاحِقٌ بالمرتهن، لأن الراهن لاحق لَهُ فِي نَسَبِهِ فَقُبِلَ إِقْرَارُ الْمُرْتَهِنِ بِهِ.
فَإِنْ مَلَكَ الْمُرْتَهِنُ الْجَارِيَةَ لَمْ تَصِرْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ لَا يُخْتَلَفُ؛ لِأَنَّ أَحْسَنَ حَالَيْهِ أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَوْلَدَهَا بِنِكَاحٍ وَذَلِكَ لَا يَجْعَلُهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ إِذَا مَلَكَهَا ...
فَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ وَطْءَ الْمُرْتَهِنِ الْجَارِيَةَ الْمَرْهُونَةَ إِذَا حَبِلَتْ مِنْهُ وَلَحِقَ وَلَدُهَا بِهِ عَلَى ثلاثة أقسام:
أحدها: ما تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ.
وَالثَّانِي: مَا لَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ.
وَالثَّالِثُ: مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ.
فَأَمَّا مَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، فَهُوَ إِذَا ادَّعَى ابْتِيَاعَهَا مِنَ الرَّاهِنِ ثُمَّ مَلَكَهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ.
وَأَمَّا مَا لَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، فَهُوَ إِذَا ادَّعَى تَزْوِيجَهَا مِنَ الرَّاهِنِ ثُمَّ مَلَكَهَا لَمْ تَصِرْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ.
وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ، فَهُوَ إِذَا ادَّعَى الْجَهَالَةَ ثُمَّ مَلَكَهَا، فَهَلْ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ أَمْ لَا. عَلَى قَوْلَيْنِ.

(6/69)


فَهَذَا جُمْلَةُ مَا فِي وَطْءِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ مِنَ الْأَحْكَامِ.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا وَطْءُ الزَّوْجِ. وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْجَارِيَةُ الْمَرْهُونَةُ ذَاتَ زَوْجٍ، فَلَهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ الرَّاهِنَ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ وَطْءَ الرَّاهِنِ ذَرِيعَةٌ إِلَى خُرُوجِهَا مِنَ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ فَكَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ، وَوَطْءُ الزَّوْجِ لَا يُخْرِجُهَا مِنَ الرَّهْنِ لِأَنَّهَا لَا تَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ فَلَمْ يَكُنْ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ.
وَلَكِنْ إِنْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ عَالِمًا بِالزَّوْجِ فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الْبَيْعِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِالزَّوْجِ فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ الْمَرْهُونَةِ فِيهِ وَبَيْنَ فَسْخِهِ؛ لِأَنَّ كَوْنَهَا ذَاتَ زَوْجٍ نَقْصٌ يُوكِسُ مِنْ ثَمَنِهَا.
فَلَوِ ارْتَهَنَهَا وَهِيَ خَلِيَّةٌ مِنْ زَوْجٍ لَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ أَنْ يُزَوِّجَهَا إِلَّا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ لِمَا فِيهِ مِنَ النَّقْصِ الدَّاخِلِ عَلَى رَهْنِهِ. فَإِنْ زَوَّجَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ كَانَ فَاسِدًا.
فَلَوِ ارْتَهَنَهَا وَهِيَ ذَاتُ زَوْجٍ فَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ لَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِغَيْرِهِ إِلَّا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ نِكَاحَ الْأَوَّلِ قَدِ ارْتَفَعَ بِالطَّلَاقِ فَصَارَتْ خَلِيَّةً وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يُزَوِّجَ الْخَلِيَّةَ إِلَّا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، وَلَكِنْ لَوْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا جَازَ لَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ مَعَ الرَّجْعَةِ مُقِيمٌ عَلَيْهَا بالنكاح المتقدم.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ إِلَى أَجَلٍ فَأَذِنَ لِلرَّاهِنِ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ فَبَاعَهُ فَجَائِزٌ وَلَا يَأْخُذُ الْمُرْتَهِنُ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا وَلَا مَكَانَهُ رَهْنًا لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ وَلَمْ يَجِبْ لَهُ الْبَيْعُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
إِذَا أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ لِلرَّاهِنِ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ قَبْلَ مَحَلِّ الْحَقِّ إِذْنًا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَيْهِ تَعْجِيلُ الْحَقِّ مِنْ ثَمَنِهِ فَالْإِذْنُ صَحِيحٌ، وَالْبَيْعُ نَافِذٌ وَالرَّهْنُ بَاطِلٌ وَإِنَّمَا صَحَّ الْبَيْعُ لِوُجُودِ الْإِذْنِ مِنْ مَالِكِ الْإِذْنِ وَبَطَلَ الرَّهْنُ، لِأَنَّ الْبَيْعَ يُزِيلُ الْمِلْكَ وَزَوَالُ الْمَلِكِ مُبْطِلٌ لِلرَّهْنِ كَالْعِتْقِ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ إِنَّمَا كَانَ فِي حَبْسِ الرَّهْنِ بِحَقِّهِ وَمَنْعِ الرَّاهِنِ مِنْ بَيْعِهِ. وَإِذْنُهُ فِي الْبَيْعِ مُبْطِلٌ لِمَعْنَى الرَّهْنِ. فَكَذَلِكَ إِذَا بِيعَ بِإِذْنِهِ بَطَلَ الرَّهْنُ.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْبَيْعِ وَبُطْلَانُ الرَّهْنِ. فَالثَّمَنُ لِلرَّاهِنِ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ، وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِتَعْجِيلِ الثَّمَنِ قِصَاصًا، وَلَا أَنْ يَكُونَ بِيَدِهِ رَهْنًا.
أما التَّعْجِيلُ فَلِأَنَّ الْحَقَّ الْمُؤَجَّلَ لَا يَلْزَمُ تَعْجِيلُهُ إِلَّا بِرِضَا مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ وَالرَّاهِنُ غَيْرُ رَاضٍ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ تعجيله.

(6/70)


وَأَمَّا كَوْنُهُ رَهْنًا مَكَانَهُ فَلِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءُ رَهْنٍ، وَعَقْدُ الرَّهْنِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِاخْتِيَارِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَالرَّاهِنُ غَيْرُ مُخْتَارٍ فَلَمْ يَلْزَمْهُ رَهْنُهُ.
فَإِنْ قيل: أو ليس لَوْ جَنَى عَلَى الرَّهْنِ فَتَلِفَ كَانَتْ قِيمَتُهُ رَهْنًا مَكَانَهُ أَوْ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ فَهَلَّا كَانَ فِي الْبَيْعِ كَذَلِكَ؟
قِيلَ: لِأَنَّ الْجِنَايَةَ غَيْرُ مُبْطِلَةٍ لِلرَّهْنِ، وَإِنَّمَا نُقِلَتِ الْوَثِيقَةُ مِنَ الرَّهْنِ إِلَى بَدَلِهِ. فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ أَصْلِهِ وليس كذلك البيع.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ رَجَعَ فِي الْإِذْنِ قَبْلَ الْبَيْعِ فَالْبَيْعُ مَفْسُوخٌ وَهُوَ رَهْنٌ بِحَالِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
إذا أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ قَبْلَ مَحَلِّ الْحَقِّ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ إِذْنِهِ لَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ بَيْعُ الرَّهْنِ. فَإِنْ بَاعَهُ بَعْدَ رُجُوعِهِ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا كَمَنْ بَاعَ بِغَيْرِ إِذْنٍ. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ إِذْنَ الْمُرْتَهِنِ فِي بَيْعِهِ لَيْسَ بِفَسْخٍ، وَإِنَّمَا بَيْعُ الرَّاهِنِ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ فَسْخٌ. وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْإِذْنُ فَسْخًا لَمْ يَبْطُلِ الرَّهْنُ بِهِ وَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي إِذْنِهِ لِأَنَّهُ تَطَوَّعَ بِفَسْخِ عَقْدٍ هُوَ مُخَيَّرٌ فِي فَسْخِهِ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الرَّاهِنَ مَمْنُوعٌ مِنْ بَيْعِهِ بَعْدَ رُجُوعِ الْمُرْتَهِنِ فَبَاعَهُ الرَّاهِنُ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بَيْعُهُ قَبْلَ رُجُوعِ الْمُرْتَهِنِ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ لِحُصُولِهِ عَنْ إِذْنٍ صَحِيحٍ وَرُجُوعُ الْمُرْتَهِنِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَيْعُهُ بَعْدَ رُجُوعِ الْمُرْتَهِنِ وَبَعْدَ عِلْمِ الرَّاهِنِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الرُّجُوعَ رَافِعٌ لِلْإِذْنِ فَصَارَ مَبِيعًا بِغَيْرِ إِذْنٍ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ بَيْعُهُ بَعْدَ رُجُوعِ الْمُرْتَهِنِ وَقَبْلَ عِلْمِ الرَّاهِنِ بِرُجُوعِهِ، فَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى مَسْأَلَةِ الْوَكِيلِ.
(فَصْلٌ)
فَلَوِ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: رَجَعْتُ فِي الْإِذْنِ قَبْلَ بَيْعِكَ فَالرَّهْنُ بِحَالِهِ، وَالْبَيْعُ بَاطِلٌ. وَقَالَ الرَّاهِنُ: بَلْ رَجَعْتَ بعد البيع فالرهن باطل والبيع نافذ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرُّجُوعَ مِنْ فِعْلِهِ، فَقُبِلَ فِيهِ قَوْلُهُ:
وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَصْلَ فِي صِحَّةِ الْإِذْنِ وَالرَّهْنِ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الرَّاهِنِ فِيهِ.

(6/71)


فَإِذَا حَلَفَ الْمُرْتَهِنُ صَارَ الرَّاهِنُ بَائِعًا لِلرَّهْنِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَيَكُونُ بَيْعُهُ بَاطِلًا، وَيُسْتَرْجَعُ لِيَكُونَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ رَهْنًا فَإِنْ فَاتَ اسْتِرْجَاعُهُ كَانَ عَلَى الرَّاهِنِ غُرْمُ قِيمَتِهِ تَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ، أَوْ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ أَذِنْتُ لَكَ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي ثَمَنَهُ وَأَنْكَرَ الرَّاهِنُ الشَّرْطَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ وَالْبَيْعُ مَفْسُوخٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
إذا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْمُرْتَهِنَ أَذِنَ لِلرَّاهِنِ فِي الْبَيْعِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ الْإِذْنِ فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: أَذِنْتُ لَكَ عَلَى أَنْ تُعَجِّلَ لِيَ الْحَقَّ، فَكَانَ الْإِذْنُ فَاسِدًا، وَالْبَيْعُ بَاطِلًا. وَقَالَ الرَّاهِنُ: بَلْ أَذِنْتَ إِذْنًا مُطْلَقًا فَالْإِذْنُ صَحِيحٌ، وَالْبَيْعُ نَافِذٌ.
فَإِنْ كَانَ لِلرَّاهِنِ بَيِّنَةٌ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنْ إِطْلَاقِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ بَعْدَ بَيْعِهِ بَطَلَ الرَّهْنُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي أَصْلِ الْإِذْنِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُرْتَهِنِ فَإِذَا كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي صِفَةِ الْإِذْنِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الرَّهْنِ، وَدَعْوَى الرَّاهِنِ تُنَافِيهِ، وَإِنْكَارُ الْمُرْتَهِنِ يَقْتَضِيهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ.
فَإِذَا حَلَفَ صَارَ الرَّاهِنُ فِي حُكْمِ مَنْ بَاعَ الرَّهْنَ عَنْ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ بِشَرْطِ التَّعْجِيلِ فَيَكُونُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ وَاللَّهُ أعلم.
(مسألة)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَلَوْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ ثَمَنَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ لم يأذن له إلا على أن يعجله حقه قبل محله والبيع مفسوخ به وهو رهن بحاله (قال المزني) قلت أنا أشبه بقول الشافعي في هذا المعنى أن لا يفسخ الشرط البيع لأن عقد البيع لم يكن فيه شرط ألا ترى أن من قوله لو أمرت رجلا أن يبيع ثوبي على أن له عشر ثمنه فباعه أن البيع جائز يفسخه فساد الشرط في الثمن وكذا إذا باع الراهن بإذن المرتهن فلا يفسخه فساد الشرط في العقد (قال المزني) قلت أنا وينبغي إذا نفذ البيع على هذا أن يكون الثمن مكان الرهن أو يتقاصان ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُقَدِّمَةً يُبْنَى الْجَوَابُ عَلَيْهَا.

(6/72)


وَصُورَتُهَا: فِي رَهْنٍ أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ لِلرَّاهِنِ فِي بَيْعِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ ثَمَنُهُ رَهْنًا مَكَانَهُ، فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْإِمْلَاءِ: أَنَّ هَذَا الْإِذْنَ صَحِيحٌ، فَإِذَا بِيعَ الرَّهْنُ كَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا، وَلَمْ يَبْطُلِ الرَّهْنُ، وَكَانَ الثَّمَنُ رَهْنًا مَكَانَهُ لِأَنَّ نَقْلَ عَيْنِ الرَّهْنِ إِلَى بَدَلٍ يَكُونُ مَكَانُهُ لَا يَقْتَضِي فَسَادَ الرَّهْنِ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ الرَّهْنَ مُتْلِفٌ فَأُغْرِمَ الْقِيمَةَ لَمْ يَفْسَدِ الرَّهْنُ وَكَانَتِ الْقِيمَةُ رَهْنًا مَكَانَهُ. كَذَلِكَ إِذَا بَاعَهُ عَلَى شَرْطِ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ رَهْنًا مَكَانَهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ وَهُوَ الصَّحِيحُ: أَنَّ هَذَا الْإِذْنَ فَاسِدٌ، وَالْبَيْعَ فَاسِدٌ، وَيَكُونُ الرَّهْنُ بِحَالِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْإِذْنَ يَقْتَضِي ارْتِهَانَ الثَّمَنِ، وَالثَّمَنُ الَّذِي يُحَصَّلُ فِيهِ مَجْهُولٌ، وَارْتِهَانُ الْمَجْهُولِ بَاطِلٌ، وَإِذَا بَطَلَ الشَّرْطُ بَطَلَ الْإِذْنُ وَإِذَا بَطَلَ الْإِذْنُ بَطَلَ الْبَيْعُ وَكَانَ الرَّهْنُ بِحَالِهِ.
فَأَمَّا إِذَا رَهَنَهُ بِهَذَا الشَّرْطِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: قَدْ رَهَنْتُكَ عَبْدِي هَذَا عَلَى أَنْ يُبَاعَ وَيَكُونَ ثَمَنُهُ رَهْنًا مَكَانَهُ، فَهَذَا رَهْنٌ بَاطِلٌ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ رَهْنًا مُسْتَقِرًّا فَكَانَ بَاطِلًا.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ جَوَابُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَصُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ: أَنْ يأذن المرتهن للراهن في بيع الرهن عَلَى أَنْ يُعَجِّلَ الثَّمَنَ قِصَاصًا مِنْ حَقِّهِ الْمُؤَجَّلِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْإِذْنُ فَاسِدٌ وَالْبَيْعُ مَفْسُوخٌ. وَنَصَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى عَلَى قَوْلَيْنِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا:
فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يُخَرِّجُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّ الْإِذْنَ فَاسِدٌ، وَالْبَيْعَ مَفْسُوخٌ، وَالرَّهْنَ بِحَالِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِذْنَ صَحِيحٌ وَالْبَيْعَ مَاضٍ وَالشَّرْطَ مَفْسُوخٌ وَيَكُونُ الثَّمَنُ رَهْنًا مَكَانَهُ وَلَا يَلْزَمُهُ تَعْجِيلُهُ.
وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ وَكَثِيرٌ مِنْ غَيْرِهِمْ: إِنَّ الْإِذْنَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَاسِدٌ، وَالْبَيْعَ مَفْسُوخٌ قَوْلًا وَاحِدًا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى:
أَنَّهُ لَمَّا صَحَّ الشَّرْطُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ رَهْنًا مَكَانَهُ صَحَّ الْإِذْنُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَيْضًا. وَلَمَّا فَسَدَ الشَّرْطُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلًا وَاحِدًا وَهُوَ تَعْجِيلُ الثَّمَنِ مِنْ حَقِّهِ قَبْلَ مَحَلِّهِ فَسَدَ الْبَيْعُ وَالْإِذْنُ قَوْلًا وَاحِدًا فَوَضَحَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا.
(فَصْلٌ)
فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ ذَهَبَ إِلَى صِحَّةِ الْإِذْنِ وَجَوَازِ الْبَيْعِ وَفَسَادِ الشَّرْطِ فَقَالَ: الْبَيْعُ

(6/73)


صَحِيحٌ، وَالشَّرْطُ فِي تَعْجِيلِ الثَّمَنِ فَاسِدٌ وَيَكُونُ الثمن رهنا مكانه أَوْ قِصَاصًا لِمَا مَضَى مِنْ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الشَّرْطَ فِي الْإِذْنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْبَيْعِ فَصَحَّ الْبَيْعُ بِخُلُوِّهِ مِنَ الشَّرْطِ وَإِنْ كَانَ فِي الْإِذْنِ شَرْطٌ كَمَا لَوْ قَالَ الرَّجُلُ لِوَكِيلِهِ: بِعْ ثَوْبِي عَلَى أَنَّ لَكَ عُشْرَ ثَمَنِهِ فَبَاعَهُ الْوَكِيلُ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا، وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ فَاسِدًا. كَذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ إِذَا أَذِنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ عَلَى أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ ثَمَنَهُ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ فَاسِدًا.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْمُزَنِيُّ لَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّرْطَ فِي الْوِكَالَةِ كَانَ فِي الْأُجْرَةِ دُونَ الْإِذْنِ فَصَحَّ الْبَيْعُ لِصِحَّةِ الْإِذْنِ، وَفَسَدَتِ الْأُجْرَةُ لِأَجْلِ الشَّرْطِ وَكَانَ لِلْوَكِيلِ أُجْرَةٌ مِثْلُهُ. وَالشَّرْطُ فِي مَسْأَلَتِنَا فِي الْإِذْنِ، فَلِذَلِكَ فَسَدَ مِنْ أَجْلِهِ الْبَيْعُ؛ لأن صحة البيع لصحة الإذن.
والوجه الثَّانِي: أَنَّ الشَّرْطَ فِي الْوِكَالَةِ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْوَفَاءُ بِهِ وَهُوَ عُشْرُ الثَّمَنِ، أَمْكَنَ الْوَفَاءُ بِمَا قَامَ مَقَامَهُ وَهُوَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ فَصَارَ الشَّرْطُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا قَبُولُهُ لازم فصح البيع.
ولما كَانَ فِي مَسْأَلَتِنَا لَا يَصِحُّ الشَّرْطُ فِي تَعْجِيلِ الْحَقِّ، وَلَيْسَ لَهُ بَدَلٌ يَقُومُ مَقَامَهُ فَبَطَلَ الشَّرْطُ فَكَذَلِكَ بَطَلَ الْبَيْعُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " فلو كان الرهن بحق حال فأذن فباع وَلَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ ثَمَنَهُ لِأَنَّهُ وَجَبَ لَهُ بَيْعُهُ وَأَخْذُ حَقِّهِ مِنْ ثَمَنِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
إِذَا كَانَ الرَّهْنُ فِي حَقٍّ حَالٍّ، أَوْ فِي مُؤَجَّلٍ مُحَلٍّ، ثُمَّ إِنَّ الْمُرْتَهِنَ أَذِنَ لِلرَّاهِنِ فِي الْبَيْعِ فَبَاعَهُ صَحَّ الْبَيْعُ وَنَفَذَ وَلَزِمَ دَفْعُ الثَّمَنِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ لِيَكُونَ مَصْرُوفًا فِي دَيْنِهِ.
فَإِنْ كَانَ حَقُّهُ بِقَدْرِ ثَمَنِهِ أَوْ أَكْثَرَ أَخَذَ جَمِيعَهُ. وَإِنْ كَانَ حَقُّهُ أَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهِ أَخَذَ مِنْهُ قَدْرَ حَقِّهِ. وَكَانَ الْبَاقِي رَاجِعًا عَلَى الرَّاهِنِ.
وَإِنَّمَا جَازَ بَيْعُ الرَّاهِنِ وَلَزِمَهُ دَفْعُ ثَمَنِهِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ دَفْعُ ثَمَنِهِ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الْحَقُّ إِلَى الْمُرْتَهِنِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مِنْ حُكْمِ الرَّهْنِ أَنَّهُ وَثِيقَةٌ فِي الْحَقِّ لِيُبَاعَ عِنْدَ مَحَلِّهِ وَيَكُونُ مَصْرُوفًا فِيهِ.
فَإِذَا بِيعَ عِنْدَ مَحَلِّهِ، لَزِمَ دَفْعُ ثَمَنِهِ فِي الْحَقِّ اعْتِبَارًا بِحُكْمِهِ وَمُوجِبِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَبْلَ مَحَلِّهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ بَيْعَ الرَّهْنِ عِنْدَ مَحَلِّ الْحَقِّ مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِدَلِيلِ أَنَّ الرَّاهِنَ لَوِ امْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهِ أُجْبِرَ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ بَيْعُهُ مِنْ حَقِّهِ صُرِفَ فِي حَقِّهِ وَبِيعَ الرَّهْنُ قَبْلَ مَحَلِّ الْحَقِّ مِنْ حَقِّ

(6/74)


الرَّاهِنِ بِدَلِيلِ أَنَّ الرَّاهِنَ لَوِ امْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ بَيْعُهُ من حقه صرف في حقه.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ بَيْعِهِ وَوُجُوبُ صَرْفِ ثَمَنِهِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ، فَسَوَاءٌ شَرَطَ الْمُرْتَهِنُ ذَلِكَ أَمْ لَا، لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْإِذْنِ يَقْتَضِيهِ فَكَانَ الشَّرْطُ تَأْكِيدًا مِنْهُ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اعْتُبِرَ فِي بَيْعِ الرَّاهِنِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ، شَرْطَانِ مِنْهَا فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ وَشَرْطٌ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ.
فَأَمَّا الشَّرْطَانِ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ.
فَأَحَدُهُمَا: بَيْعُهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ.
وَالثَّانِي: بَيْعُهُ بِثَمَنٍ عَاجِلٍ غَيْرِ آجِلٍ وَأَنَّ بَيْعَهُ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ، فَلَا مَعْنَى لِبَيْعِهِ بِالدَّيْنِ.
فَإِنْ بَاعَهُ بِنَقْصٍ فِي الثَّمَنِ لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ أَوْ بَاعَهُ بِثَمَنٍ آجِلٍ غَيْرِ عَاجِلٍ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، فَيَصِحُّ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُمَا.
وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ: فَهُوَ أَلَّا يُسَلِّمَ السِّلْعَةَ إِلَى الْمُشْتَرِي إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ. فَإِنْ سَلَّمَهَا إِلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ كَانَ الْبَيْعُ مَاضِيًا وَكَانَ لِلثَّمَنِ ضَامِنًا.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي شَرْطٍ رَابِعٍ وَهُوَ إِطْلَاقُ بَيْعِهِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ خِيَارِ الثَّلَاثِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ ثَالِثٌ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ، فَإِنْ بَاعَهُ بِخِيَارِ الثَّلَاثِ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا، لِأَنَّ الْخِيَارَ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِقْرَارِ الْعَقْدِ وَتَمْلِيكُ الثَّمَنِ مُخَالِفٌ مُوجِبُ الْإِذْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّ: أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ لِلْبَيْعِ جَائِزٌ، لِأَنَّ الْخِيَارَ زِيَادَةٌ يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُ الْفَائِتِ بِهَا.
فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الشُّرُوطِ فَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِي بَيْعِ الرَّاهِنِ إِذَا كَانَ الْحَقُّ حَالًّا. فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْحَقُّ مُؤَجَّلًا فَلَيْسَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ مُعْتَبَرَةً فِي بَيْعِهِ وَكَيْفَمَا بَاعَهُ بِثَمَنٍ زَائِدٍ أَوْ نَاقِصٍ حَالٍّ أَوْ مُؤَجَّلٍ جَازَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا:
أَنَّهُ قَبْلَ مَحَلِّ الْحَقِّ يَبِيعُ الرَّهْنَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَصَارَ كَبَيْعِهِ سَائِرَ أَمْلَاكِهِ الَّتِي لَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ فِي زِيَادَةِ ثَمَنِهَا أَوْ نُقْصَانِهِ وَلَا فِي حُلُولِهِ أَوْ تَأْجِيلِهِ. وَبَعْدَ مَحَلِّ الْحَقِّ يَبِيعُ الرَّهْنَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَهُوَ الْمُرْتَهِنُ فَصَارَ كَالْوَكِيلِ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْوَكِيلِ.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا رَهَنَهُ عَبْدًا فِي حَقٍّ بَعْضُهُ حَالٌّ وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلٌ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُ الْمُرْتَهِنُ فِي بَيْعِهِ،

(6/75)


فَبَاعَهُ الرَّاهِنُ فَلِلْمُرْتَهِنِ مِنْ ثَمَنِهِ مَا قَابَلَ حَقَّهُ الْحَالَّ وَلِلرَّاهِنِ مَا قَابَلَ الْمُؤَجَّلَ.
فَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ بَاعَ الْعَبْدَ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ اعْتُبِرَ فِي صِحَّةِ بَيْعِهِ الشُّرُوطُ الْمُتَقَدِّمَةُ لِأَنَّهُ عَقْدٌ وَاحِدٌ لَزِمَ اعْتِبَارُهَا فِي بَعْضِهِ فَغَلَبَ حُكْمُهَا فِي جَمِيعِهِ إِلَّا مَا أَمْكَنَ تَبْعِيضُهُ مِنْهَا.
فَإِنْ بَاعَهُ فِي عَقْدَيْنِ جَازَ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ فِي حَقَّيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلْمُرْتَهِنِ. وَهُوَ مَا قَابَلَ الْحَالَ. وَاعْتِبَارُ الشُّرُوطِ فِيهِ وَاجِبَةٌ.
وَالثَّانِي: لِلرَّاهِنِ. وَهُوَ مَا قَابَلَ الْمُؤَجَّلَ وَاعْتِبَارُ الشُّرُوطِ فِيهِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ.

(فَصْلٌ)
فَلَوْ أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ لِلرَّاهِنِ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الْحَقِّ فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ هُوَ حَالٌّ فَالثَّمَنُ لِي قِصَاصًا مِنْ حَقِّي. وَقَالَ الرَّاهِنُ: هُوَ مُؤَجَّلٌ فَالثَّمَنُ لِي وَقَدْ بَطَلَ الرَّهْنُ بِبَيْعِي. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ حُلُولَ حَقٍّ يَدَّعِيهِ الْمُرْتَهِنُ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِإِنْكَارِهِ.
فَإِذَا حَلَفَ كَانَ أَوْلَى بِالثَّمَنِ وَلَا تُعْتَبَرُ فِي بَيْعِهِ الشُّرُوطُ الْمَاضِيَةُ لِأَنَّهُ يَبِيعُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ.
وَإِنْ نَكَلَ فَحَلَفَ الْمُرْتَهِنُ كَانَ الْمُرْتَهِنُ أَحَقَّ بِالثَّمَنِ وَاعْتُبِرَ فِي بَيْعِهِ الشُّرُوطُ الْمَاضِيَةُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَائِعًا لَهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَ الصَّفْقَةَ فِي بَيْعِهِ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ فِي حَقٍّ وَاحِدٍ.
(فَصْلٌ)
فَلَوْ رَهَنَهُ عَبْدَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي حَقٍّ حَالٍّ، وَالْآخَرُ فِي مُؤَجَّلٍ وَأَذِنَ لَهُ فِي بَيْعِ أَحَدِهِمَا، ثُمَّ اخْتَلَفَا بَعْدَ الْبَيْعِ، فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: أَذِنْتُ لَكَ فِي بَيْعِ الْحَالِّ، وَقَالَ الرَّاهِنُ: أَذِنْتَ لِي فِي بَيْعِ الْمُؤَجَّلِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ فِي الْحَالِ أَنَّهُ سَالِمٌ وَعَلَى الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ في الْمُؤَجَّلِ أَنَّهُ غَانِمٌ وَيَخْتَلِفَا، هَلْ أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ فِي بَيْعِ سَالِمِ الْمَرْهُونِ فِي الْحَالِّ أَوْ فِي بَيْعِ غَانِمِ الْمَرْهُونِ فِي الْمُؤَجَّلِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ إِذْنًا يَدَّعِيهِ الرَّاهِنُ، وَيَكُونُ الْبَيْعُ بَاطِلًا، لِأَنَّ الرَّاهِنَ يَصِيرُ بَائِعًا لِرَهْنٍ لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ بَيْعَ سَالِمِ الْمَرْهُونِ فِي الْحَالِّ، لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ مُعْتَرِفٌ بِحُصُولِ الْإِذْنِ فِيهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنَّ الْمُرْتَهِنَ أَذِنَ فِي بَيْعِ سَالِمٍ دُونَ غَانِمٍ وَيَخْتَلِفَا هَلْ غَانِمٌ مَرْهُونٌ فِي الْحَالِّ أَوْ فِي الْمُؤَجَّلِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ اخْتِلَافٌ فِي أَصْلِ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ، فَصَارَ مُنْكِرًا لِحُلُولِ حَقٍّ يَدَّعِيهِ الْمُرْتَهِنُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِإِنْكَارِهِ. فَإِذَا حَلَفَ صَحَّ بَيْعُهُ، وَلَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الشُّرُوطُ الْمُتَقَدِّمَةُ لِأَنَّهُ يَبِيعُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ

(6/76)


الْعَبْدَ الْآخَرَ الْمَرْهُونَ فِي الْحَالِّ إِلَّا بِإِذْنِ مستأنف، لِأَنَّ الْإِذْنَ الْأَوَّلَ إِنَّمَا كَانَ فِي بَيْعِ غيره وقد بيع (والله أعلم) .

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَهَنَهُ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ فَالرَّهْنُ مَفْسُوخٌ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ أَرْضَ الْخَرَاجِ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ لِلْمُشْرِكِينَ وَقَدْ صَالَحَهُمُ الْإِمَامُ عَنْهَا على خراج يضر به عَلَيْهَا. فَهَذَا الْخَرَاجُ فِي حُكْمِ الْجِزْيَةِ مَتَى أَسْلَمُوا سَقَطَ عَنْهُمْ، وَالْأَرْضُ فِي مِلْكِهِمْ قَبْلَ إِسْلَامِهِمْ وَبَعْدَهُ وَهَذِهِ يَجُوزُ بَيْعُهَا وَرَهْنُهَا وَلَمْ يُرِدِ الشَّافِعِيُّ هَذَا الضَّرْبَ مِنْهَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَصِيرَ الْأَرْضُ لِلْمُسْلِمِينَ إِمَّا عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا ثُمَّ يَقِفُهَا الْإِمَامُ وَيَضْرِبُ عَلَيْهَا خَرَاجًا فِي كُلِّ عَامٍ وَيُقِرُّهَا فِي يَدِ الْمُشْرِكِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ. فَهَذِهِ أُجْرَةٌ لَا تَسْقُطُ عَنْهُمْ بِإِسْلَامِهِمْ وَالْأَرْضُ وَقْفٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا رَهْنُهَا. وَهَذَا الضَّرْبُ هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْهَا.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا أَرْضُ السَّوَادِ فَهِيَ مَا مُلِكَ مِنْ أَرْضِ كِسْرَى وَحْدَهُ طُولًا، مِنْ حديثة الْمَوْصِلِ إِلَى عَبَّادَانَ وَعَرْضًا: مِنْ عُذَيْبِ الْقَادِسِيَّةِ إِلَى حُلْوَانَ يَكُونُ مَبْلَغُ طُولِهِ مِائَةً وَسِتِّينَ فَرْسَخًا وَمَبْلَغُ عَرْضِهِ ثَمَانِينَ فَرْسَخًا.
فَهَذِهِ الْأَرْضُ مَلَكَهَا الْمُسْلِمُونَ فَاسْتَطَابَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْفُسَهُمْ عَنْهَا، وَسَأَلَهُمْ أَنْ يَتْرُكُوا حُقُوقَهُمْ مِنْهَا وَأَقَرَّهَا فِي أَيْدِي الْأَكَرَةِ وَالدَّهَاقِينِ وَضَرَبَ عَلَيْهِمْ خراجا يؤدونه في كل عام على جريب الْكَرْمِ وَالشَّجَرِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَمِنِ النَّخْلِ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ، وَمِنْ قَصَبِ السُّكَّرِ سِتَّةَ دَرَاهِمَ وَمِنِ الرُّطَبَةِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَمِنِ الْبُرِّ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، وَمِنِ الشَّعِيرِ دِرْهَمَيْنِ.
فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حُكْمِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ وَمَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ، أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَفَهَا عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَجَعَلَ الْخَرَاجَ الَّذِي ضَرَبَهُ عَلَيْهَا أُجْرَةً تُؤَدَّى فِي كُلِّ عَامٍ فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا رَهْنُهَا وَهَذَا أَشْبَهُ بِنَصِّ الشَّافِعِيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَهُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَاعَهَا عَلَى الْأَكَرَةِ وَالدَّهَاقِينِ وَجَعَلَ الْخَرَاجَ الَّذِي ضَرَبَهُ عَلَيْهَا ثَمَنًا فِي كُلِّ عَامٍ. فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَرَهْنُهَا وَلِلْكَلَامِ فِي ذَلِكَ مَوْضِعٌ يُسْتَوْفَى فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى.
(مسألة)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فَإِنْ كَانَ فِيهَا غِرَاسٌ أَوْ بِنَاءٌ لِلرَّاهِنِ فَهُوَ رَهْنٌ ".

(6/77)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا مَا فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ مِنَ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ فَهُوَ مِلْكٌ لِأَرْبَابِهِ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَرَهْنُهُ وَلَا يَكُونُ الِامْتِنَاعُ مِنْ بَيْعِ الْأَرْضِ مَانِعًا مِنْ بَيْعِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ أَرْضِ الْخَرَاجِ ذَاتِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ فِي الرَّهْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَرْهَنَهُ رَقَبَةَ الْأَرْضِ دُونَ غِرَاسِهَا وَبِنَائِهَا فَهَذَا رَهْنٌ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَرْهَنَهُ الْغِرَاسَ وَالْبِنَاءَ دُونَ رَقَبَةِ الْأَرْضِ فَهَذَا رَهْنٌ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ بَيْعَ ذَلِكَ جَائِزٌ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَرْهَنَهُ رَقَبَةَ الْأَرْضِ مَعَ غِرَاسِهَا وَبِنَائِهَا فَالرَّهْنُ فِي رَقَبَةِ الْأَرْضِ بَاطِلٌ، وَهَلْ يَبْطُلُ فِي الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ.
وَالثَّانِي: جَائِزٌ.
فَإِذَا قِيلَ: إِنَّ الرَّهْنَ فِي الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ جَائِزٌ فَالْبَيْعُ الْمَشْرُوطُ فِيهِ جَائِزٌ وَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِارْتِهَانِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ دُونَ رَقَبَةِ الْأَرْضِ وَبَيْنَ فَسْخِهِ.
وَإِذَا قِيلَ: إِنَّ الرَّهْنَ فِي الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ بَاطِلٌ لِبُطْلَانِهِ فِي الْأَرْضِ فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ.
وَالثَّانِي: جَائِزٌ. وَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ وَبَيْنَ فسخه.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ أَدَّى عَنْهَا الْخَرَاجَ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ لَا يَرْجِعُ بِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ دَفَعَهُ بِأَمْرِهِ فيرجع به كرجل اكترى أرضا من رجل اكتراها فدفع المكتري الثاني كراءها عن الأول فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ ارْتَهَنَ غِرَاسًا وَبِنَاءً فِي أَرْضٍ خَرَاجِيَّةٍ ثُمَّ أَدَّى الْخَرَاجَ عَنْهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُؤَدِّيَهُ بِأَمْرِ الْمَالِكِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُؤَدِّيَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنْ أَدَّاهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَدَّاهُ مُكْرَهًا أَوْ مُخْتَارًا صَدِيقًا كَانَ أو عدوا.

(6/78)


وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ أَدَّاهُ مُكْرَهًا رَجَعَ بِهِ عَلَى الرَّاهِنِ وَإِنْ أَدَّاهُ مُخْتَارًا، فَإِنْ كَانَ صَدِيقًا لِلرَّاهِنِ رَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ عَدُوًّا لَهُ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَيْهِ.
وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ الثَّابِتَ فِي ذِمَّةِ الرَّجُلِ إِذَا تَطَوَّعَ بِهِ الْغَيْرُ فَقَضَاهُ عَنْهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَيْهِ لِمَا رُوِيَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - امْتَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى جَنَازَةِ رَجُلٍ عَلَيْهِ دِرْهَمَانِ، وَقَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هُمَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا لَهُمَا ضَامِنٌ، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
فَلَوْ كَانَ يَثْبُتُ لِعَلِيٍّ الرُّجُوعُ عَلَى الْمَيِّتِ بِالدِّرْهَمَيْنِ لَكَانَ لَا يُصَلِّي لِبَقَاءِ الدِّرْهَمَيْنِ عَلَيْهِ وَإِنِ انْتَقَلَتْ مِنْ مَالِكٍ إِلَى مَالِكٍ. فَلَمَّا صَلَّى عَلَيْهِ السَّلَامُ عُلِمَ سُقُوطُ ذَلِكَ عَنْهُ. وَإِنْ أَبْقَى لِعَلِيٍّ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ حَقٍّ لَوْ أَدَّاهُ الْعَدُوُّ لَمْ يُرْجَعْ بِهِ، فَإِذَا أَدَّاهُ الصَّدِيقُ لَمْ يُرْجَعْ بِهِ.
أَصْلُهُ: إِذَا نُهِيَ عَنْ أَدَائِهِ وَلِأَنَّ كُلَّ حَقٍّ لَوْ أَدَّاهُ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ أَدَائِهِ لَمْ يُرْجَعْ بِهِ فَإِذَا أَدَّاهُ قَبْلَ النَّهْيِ عَنْ أَدَائِهِ لَمْ يُرْجَعْ بِهِ كَالْعَدُوِّ.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ بِإِذْنِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُؤَدِّيَهُ بِإِذْنِهِ وَيَشْتَرِطَ لَهُ الرُّجُوعَ بِهِ، فَيَقُولُ: أَدِّ عَنِّي وَارْجِعْ بِهِ عَلَيَّ فَهَذَا يَرْجِعُ بِهِ لَا يَخْتَلِفُ لِأَنَّهُ بِاشْتِرَاطِ الرُّجُوعِ غَيْرُ مُتَطَوِّعٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُؤَدِّيَهُ بِإِذْنِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَرِطَ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ، فَيَقُولُ: أَدِّ عَنِّي. فَهَلْ يُرْجَعُ بِهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا. عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُرْجَعُ بِهِ. لِأَنَّ إِذْنَهُ قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ طَلَبًا، لِأَنْ يَتَطَوَّعَ بِأَدَائِهِ عَنْهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا لِيَرْجِعَ بِهِ وَمَعَ احْتِمَالِ الْأَمْرَيْنِ لَا يَثْبُتُ الرُّجُوعُ إِلَّا بِيَقِينٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ يَرْجِعُ بِهِ، لِأَنَّ إِذْنَهُ فِي أَدَائِهِ عَنْهُ كَإِذْنِهِ فِي إِتْلَافِ مَالِهِ عَلَيْهِ. ثُمَّ لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي إِتْلَافِ مَالِهِ فَقَالَ: أَتْلِفْ عَلَيَّ مَالِي سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ بِإِذْنِهِ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِسُقُوطِهِ. كَذَلِكَ إِذَا أَذِنَ لَهُ فِي أَدَائِهِ فَقَالَ: أَدِّ عَنِّي وَجَبَ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ.

(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدًا بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا فَرَهَنَهُ قَبْلَهَا فجائز وَهُوَ قَطْعٌ لِخِيَارِهِ وَإِيجَابٌ لِلْبَيْعِ فِي الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فَرَهَنَهُ قَبْلَ الثَّلَاثِ فَتَمَّ لَهُ مِلْكُهُ بَعْدَ الثَّلَاثِ فَالرَّهْنُ مَفْسُوخٌ لِأَنَّهُ انْعَقَدَ وَمِلْكُهُ عَلَى الْعَبْدِ غَيْرُ تَامٍّ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.

(6/79)


وَجُمْلَةُ الْخِيَارِ الْمُسْتَحَقِّ فِي الْمَبِيعِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: خِيَارُ مَجْلِسٍ، وَخِيَارُ شَرْطٍ، وَخِيَارُ عَيْبٍ.
فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ: خِيَارُ الْمَجْلِسِ.
فَهُوَ مُسْتَحَقٌّ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي. فَإِنْ رَهَنَهُ الْبَائِعُ صَحَّ رهنه وكان فسخا للبيع وإن رهنه المشتري لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَهَنَهُ عَنْ إِذْنِ الْبَائِعِ فَيَصِحُّ رَهْنُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ إِذْنَ البائع إمضاء، ورهن المشتري إمضاء، وَإِذَا اتَّفَقَ الْمُتَبَايِعَانِ عَلَى الْإِمْضَاءِ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ تَمَّ الْبَيْعُ، وَسَقَطَ الْخِيَارُ.
فَأَمَّا أَنْ يَرْهَنَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْبَائِعِ فَلَا يَجُوزُ وَإِنَّمَا جَازَ رَهْنُ الْبَائِعِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُشْتَرِي، وَلَمْ يَجُزْ رَهْنُ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ إِذْنِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ رَهْنَ الْبَائِعِ فَسْخٌ، وَرَهْنَ الْمُشْتَرِي إِمْضَاءٌ وَالْخِيَارُ مَوْضُوعٌ لِلْفَسْخِ دُونَ الْإِمْضَاءِ. أَلَا تَرَى لَوْ فَسَخَ أَحَدُهُمَا وَأَمْضَى الْآخَرُ حُكِمَ بِالْفَسْخِ دُونَ الْإِمْضَاءِ.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي وَهُوَ: خِيَارُ الشَّرْطِ.
فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِلْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِلْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ لَهُمَا جَمِيعًا.
فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ مَشْرُوطًا لِلْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ رَهَنَهُ الْبَائِعُ صَحَّ رهنه وكان فسخا للبيع وإن رهنه المشتري لَمْ يَجُزْ وَكَانَ رَهْنًا بَاطِلًا.
لِحَقِّ الْبَائِعِ مِنَ الْخِيَارِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي قَدْ رَهَنَهُ بِأَمْرِ الْبَائِعِ فَيَصِحُّ الرَّهْنُ. وَيَكُونُ إِذْنُ الْبَائِعِ اخْتِيَارًا لِإِمْضَاءِ الْبَيْعِ وَقَطْعِ الْخِيَارِ.
وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ مَشْرُوطًا لِلْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ فَإِنْ رَهَنَهُ الْمُشْتَرِي صَحَّ رَهْنُهُ وَكَانَ اخْتِيَارًا مِنْهُ لِإِمْضَاءِ الْبَيْعِ وَقَطْعِ الْخِيَارِ.
وَإِنْ رَهَنَهُ الْبَائِعُ لَمْ يَجُزْ. وَكَانَ رَهْنُهُ بَاطِلًا، لِأَنَّهُ لَازِمٌ مِنْ جِهَتِهِ وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ ثَابِتًا لِغَيْرِهِ إِلَّا أَنْ يَرْهَنَهُ الْبَائِعُ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي فَيَصِحُّ رَهْنُهُ وَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ. وَيَكُونُ إِذْنُ الْمُشْتَرِي اخْتِيَارًا لِفَسْخِ الْبَيْعِ.
وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ مَشْرُوطًا لَهُمَا جَمِيعًا، فَإِنْ رَهَنَهُ الْبَائِعُ صَحَّ رَهْنُهُ وَكَانَ فسخا للبيع.

(6/80)


وإن رهنه المشتري لم يجز إلا أن يَكُونَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ فَيَصِحُّ رَهْنُهُ، وَيَكُونُ إِذْنُ الْبَائِعِ اخْتِيَارًا لِإِمْضَاءِ الْبَيْعِ.
وَإِنَّمَا صَحَّ رَهْنُ الْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ رَهْنَ الْبَائِعِ فَسْخٌ وَرَهْنَ الْمُشْتَرِي إِمْضَاءٌ.
فَلَوْ كَانَ لِلْبَائِعِ خِيَارُ يَوْمٍ وَلِلْمُشْتَرِي خِيَارُ يَوْمَيْنِ، فَإِنْ رَهَنَهُ الْبَائِعُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ جَازَ. وَإِنْ رَهَنَهُ الْمُشْتَرِي لَمْ يَجُزْ.
وَإِنْ رَهَنَهُ الْمُشْتَرِيَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي جَازَ. وَإِنْ رَهَنَهُ الْبَائِعَ لَمْ يَجُزْ.
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ وَهُوَ خِيَارُ الْعَيْبِ.
فَهُوَ مُسْتَحَقٌّ لِلْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ. فَإِنْ رَهَنَهُ الْمُشْتَرِيَ صَحَّ رَهْنُهُ، وَكَانَ رِضًا بِالْعَيْبِ، وَمَانِعًا مِنَ الرَّدِّ وَالرُّجُوعِ بِالْأَرْشِ.
وَإِنْ رَهَنَهُ الْبَائِعُ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ لَازِمٌ مِنْ جِهَتِهِ وَإِنْ ثَبَتَ فِيهِ خِيَارٌ لِغَيْرِهِ. فَلَوْ رُدَّ عَلَى الْبَائِعِ بِالْعَيْبِ بَعْدَ أَنْ رَهَنَهُ لَمْ يَصِحَّ رَهْنُهُ إِلَّا بِاسْتِئْنَافِ عَقْدٍ صَحِيحٍ كَمَا لَوْ رَهَنَهُ الْمُشْتَرِي فِي خِيَارِ الْبَائِعِ كَانَ رَهْنًا بَاطِلًا وَإِنْ تَمَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ.
فَلَوْ لَمْ يُعْلِمِ الْمُشْتَرِيَ بِالْعَيْبِ حَتَّى رَهَنَهُ ثُمَّ عَلِمَ بِهِ صَحَّ رَهْنُهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّهُ مَا كَانَ بَاقِيًا. وَفِيمَا يَسْتَحِقُّهُ بِالْعَيْبِ وَجْهَانِ مَضَيَا فِي الْبُيُوعِ.
أَحَدُهُمَا: يَسْتَحِقُّ الْأَرْشَ فِي الْحَالِّ.
وَالثَّانِي: يَنْتَظِرُ مَا يَكُونُ مِنْ حَالِهِ فِي الرَّهْنِ فَإِنْ بِيعَ فِيهِ رَجَعَ بِالْأَرْشِ وَإِنْ فَكَّهُ مِنَ الرَّهْنِ رَدَّهُ بِالْعَيْبِ.
( [الْقَوْلُ فِي بيع ورهن العبد المرتد] )

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَجُوزُ رَهْنُ الْعَبْدِ الْمُرْتَدِّ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
رَهْنُ الْعَبْدِ الْمُرْتَدِّ جَائِزٌ وَبَيْعُهُ جَائِزٌ نَصَّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَعَلَى جَوَازِ رَهْنِهِ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ: وَإِنَّمَا جَازَ بَيْعُهُ وَرَهْنُهُ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ لَيْسَ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ خَوْفِ هَلَاكِهِ إِنْ أَقَامَ عَلَيْهَا، وَرَجَاءَ سَلَامَتِهِ إِنْ تَابَ مِنْهَا، وَهَذَا غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ صِحَّةِ الْبَيْعِ وَجَوَازِ الرَّهْنِ كَالْعَبْدِ الْمَرِيضِ الْمُدْنَفِ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَرَهْنُهُ وَإِنْ خِيفَ هَلَاكُهُ بِالْمَوْتِ وَرُجِيَتْ سَلَامَتُهُ بِالْبُرْءِ.

(6/81)


فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ بَيْعِهِ وَرَهْنِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الْكَلَامِ فِي بَيْعِهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ رَهْنِهِ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ.
فَإِذَا بِيعَ الْعَبْدُ الْمُرْتَدُّ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُشْتَرِي مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِرِدَّتِهِ أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ بِرِدَّتِهِ.
فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِرِدَّتِهِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَبْدِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَتُوبَ مِنَ الرِّدَّةِ أَوْ يُقْتَلَ بِهَا. فَإِنْ تَابَ مِنَ الرِّدَّةِ فَقَدْ مَضَى الْبَيْعُ سَلِيمًا وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي وَإِنْ قُتِلَ بِالرِّدَّةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: إِنَّ قَتْلَهُ بِالرِّدَّةِ يَجْرِي مَجْرَى اسْتِحْقَاقِهِ بِالْغَصْبِ فَيَجْعَلُ لِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعَ بِثَمَنِهِ كَمَا لَوِ اشْتَرَى عَبْدًا فَبَانَ مَغْصُوبًا وَاسْتَحَقَّ رَدَّهُ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِثَمَنِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ الرِّدَّةَ عَيْبٌ كَالْمَرَضِ وَقَتْلُهُ بِالرِّدَّةِ يَجْرِي مَجْرَى مَوْتِهِ بِالْمَرَضِ، فَإِذَا قُتِلَ فِي يَدِهِ بِالرِّدَّةِ لَمْ يَرْجِعْ بِثَمَنِهِ كَمَا لَوْ مَاتَ فِي يَدِهِ بِالْمَرَضِ لَمْ يَرْجِعْ بِثَمَنِهِ وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بِأَرْشِ نَقْصِهِ بِالرِّدَّةِ، لِأَنَّهُ عَيْبٌ قَدْ كَانَ عَالِمًا بِهِ.

(فَصْلٌ)
وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي غَيْرَ عَالِمٍ بِرِدَّتِهِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَ بِهَا وَهُوَ عَلَى رِدَّتِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَعْلَمَ بِهَا بَعْدَ تَوْبَتِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَعْلَمَ بِهَا بَعْدَ قَتْلِهِ. فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ بِهَا وَهُوَ عَلَى رِدَّتِهِ فَهَذَا عَيْبٌ قَدْ عَلِمَهُ الْمُشْتَرِي فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّهُ وَيَفْسَخَ الْبَيْعَ، وَبَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْبَيْعِ.
فَإِنْ رَدَّهُ بِالْعَيْبِ وَفَسَخَ الْبَيْعَ كَانَ لَهُ اسْتِرْجَاعُ الثَّمَنِ، وَإِنْ رَضِيَ بِالْعَيْبِ وَأَرَادَ الْمَقَامَ عَلَى الْبَيْعِ فَلَا أَرْشَ لَهُ.
ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُهُ فِيمَا بَعْدُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَتُوبَ مِنَ الرِّدَّةِ أَوْ يُقْتَلَ بِهَا، فَإِنْ تَابَ مِنَ الرِّدَّةِ فَقَدِ اسْتَقَرَّ الْمِلْكُ وَانْقَطَعَ حُكْمُ الرِّدَّةِ، وَإِنْ قُتِلَ بِالرِّدَّةِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَهُ الرُّجُوعُ بِثَمَنِهِ كَمَا لَوِ استحق.
وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بِثَمَنِهِ كَمَا لَوْ مَاتَ بِمَرَضٍ قَدْ رَضِيَ

(6/82)


بِهِ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ بِرِدَّتِهِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: هَلْ ذَلِكَ عَيْبٌ فِي الْحَالِّ يُوجِبُ الرَّدَّ أَمْ لَا. عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ عَيْبٌ فِي الْحَالِّ يُوجِبُ الرَّدَّ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ رَدِّهِ وَإِمْسَاكِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِعَيْبٍ فِي الْحَالِّ لِأَنَّ الْعَيْبَ إِنَّمَا كَانَ بِالرِّدَّةِ وَالرِّدَّةُ قَدْ زَالَتْ بِالتَّوْبَةِ فَعَلَى هَذَا هَلْ يَجُوزُ لَهُ الرَّدُّ أَمْ لَا. عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَهُ الرَّدُّ اعْتِبَارًا بِوُجُوبِهِ فِي الِابْتِدَاءِ.
وَالثَّانِي: لَا رَدَّ لَهُ اعْتِبَارًا بِسُقُوطِهِ فِي الِانْتِهَاءِ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ فَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ بِرِدَّتِهِ بَعْدَ قَتْلِهِ. فَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَهُ الرُّجُوعُ بِثَمَنِهِ كما لو استحق. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَهُ الرُّجُوعُ بِأَرْشِهِ دُونَ ثَمَنِهِ كَمَا لَوِ اشْتَرَاهُ مَرِيضًا فَلَمْ يَعْلَمْ بِمَرَضِهِ حَتَّى مَاتَ فِي يَدِهِ رَجَعَ بِأَرْشِهِ دُونَ ثَمَنِهِ.
وَاعْتِبَارُ أَرْشِهِ أَنْ يُقَوَّمَ مُرْتَدًّا وَغَيْرَ مُرْتَدٍّ وَيَرْجِعَ بِمَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ.
وَإِنَّمَا لَمْ يَرْجِعْ بِثَمَنِهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِفَوَاتِ رَدِّهِ وَرَجَعَ بِأَرْشِهِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ. فَهَذَا حُكْمُ بَيْعِ الْمُرْتَدِّ.

(فَصْلٌ)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَأَمَّا رَهْنُ الْمُرْتَدِّ فَجَائِزٌ لِمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرْتَهِنُ عَالِمًا بِرِدَّتِهِ وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ عَالِمٍ بِرِدَّتِهِ. فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِرِدَّتِهِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَبْدِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يتوب من رِدَّتِهِ أَوْ يُقْتَلَ بِهَا: فَإِنْ تَابَ مِنْ رِدَّتِهِ فَهُوَ رَهْنٌ بِحَالِهِ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي الْبَيْعِ، وَإِنْ قُتِلَ بِرِدَّتِهِ فَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ كَمَا لَوِ اسْتَحَقَّ. وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَيْبٌ قَدْ كَانَ عَالِمًا بِهِ.
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِرِدَّتِهِ ثُمَّ عَلِمَ بِهَا فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ مَضَتْ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَ بِهِ وَهُوَ عَلَى رِدَّتِهِ. فَعَلَى هَذَا هُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِ الرَّهْنِ وَالْبَيْعِ وَبَيْنَ إِمْضَائِهِمَا.
فَإِنْ فُسِخَ فَلَهُ ذَلِكَ وَإِنْ أَمْضَاهُمَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَبْدِ الْمُرْتَدِّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَتُوبَ مِنْ رِدَّتِهِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ خِيَارٌ فِي الْبَيْعِ، أَوْ يُقْتَلَ فِي رِدَّتِهِ فَيَكُونُ لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ

(6/83)


الْبَيْعِ عَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ عَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَعْلَمَ بِرِدَّتِهِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ فَهَلْ ذَلِكَ عَيْبٌ فِي الْحَالِّ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: هُوَ عَيْبٌ فِي الْحَالِّ، فَعَلَى هَذَا هُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ وَإِمْضَائِهِ.
وَالثَّانِي: لَيْسَ بِعَيْبٍ. فَعَلَى هَذَا هَلْ لَهُ خِيَارٌ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا.
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَعْلَمَ بِرِدَّتِهِ بَعْدَ قَتْلِهِ.
فَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ كَمَا لَوِ اسْتَحَقَّ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ لَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ وَلَا مُطَالَبَةَ لَهُ بِالْأَرْشِ.
أما فَسْخُ الْبَيْعِ فَلِأَنَّ تَلَفَ الرَّهْنِ كَانَ بِيَدِهِ، وَإِذَا كَانَ تَلَفُ الرَّهْنِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ بِعَيْبٍ مُتَقَدِّمٍ لَمْ يُوجِبْ خِيَارًا فِي الْبَيْعِ لِفَوَاتِ رَدِّهِ بِالْعَيْبِ، كَمَا لَوِ ارْتَهَنَ عَبْدًا مَرِيضًا فَمَاتَ فِي يَدِهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِمَرَضِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ لِفَوَاتِ رَدِّهِ، وَأَمَّا الرُّجُوعُ بِالْأَرْشِ فَلَيْسَ لَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ لَوْ كَانَ الْمُرْتَدُّ مَبِيعًا فَلَمْ يَعْلَمِ الْمُشْتَرِي بِرِدَّتِهِ حَتَّى قُتِلَ بِهَا كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِأَرْشِهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ فَهَلَّا إِذَا كَانَ الْعَبْدُ مَرْهُونًا فَلَمْ يَعْلَمْ بِرِدَّتِهِ حَتَّى قُتِلَ بِهَا أَنْ يَكُونَ لَهُ الرُّجُوعُ بِأَرْشِهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَهُوَ فَرْقُ أَبِي علي:
أن الرُّجُوعَ بِالْأَرْشِ إِنَّمَا يُسْتَحَقُّ فِيمَا يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَلَمَّا أُجْبِرَ الْبَائِعُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ أُجْبِرَ عَلَى تَسْلِيمِ الْأَرْشِ، وَلَمَّا لَمْ يُجْبَرِ الرَّاهِنُ عَلَى تَسْلِيمِ الرَّهْنِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى تَسْلِيمِ الْأَرْشِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَحْدَهُ اخْتَلَفَ بَيْعُ الْمُرْتَدِّ وَرَهْنُهُ.
فَلِذَلِكَ أَعَدْتُ تَقْسِيمَهُ وَلَمْ أَجْعَلِ الْجَوَابَ فِي الرَّهْنِ مَعْطُوفًا عَلَى الْجَوَابِ في البيع خوف الاشتباه.

(مسألة)
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " والقاتل فَإِنْ قُتِلَ بَطَلَ الرَهْنُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْعَبْدُ الْقَاتِلُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَاتِلَ خَطَأٍ يَلْزَمُهُ الْمَالُ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي جَوَازِ رَهْنِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَاتِلَ عَمْدٍ يَلْزَمُهُ الْقَوَدُ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ. مَا الَّذِي يُوجِبُ.

(6/84)


فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ يُوجِبُ الْقَوَدَ وَحْدَهُ فَأَمَّا الدِّيَةُ فَإِنَّمَا تَجِبُ بِاخْتِيَارِ الْوَلِيِّ. فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ رَهْنُهُ كَمَا يَجُوزُ رَهْنُ الْمُرْتَدِّ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الِاقْتِصَاصِ مِنْهُ وَالْعَفْوِ عَنْهُ كَالْمُرْتَدِّ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ قَتْلِهِ بِالرِّدَّةِ، وَسَلَامَتِهِ بِالتَّوْبَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَتْلَ الْعَمْدِ يُوجِبُ أَحَدَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا الْقَوَدُ وَإِمَّا الدِّيَةُ فَعَلَى هَذَا فِي جَوَازِ رَهْنِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ كَالْقَاتِلِ الْخَطَأِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ رَهْنُهُ؛ لأنه قَدْ يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ فَأَمَّا بَيْعُهُ فَقَدْ مَضَى فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ رَهْنَهُ جَائِزٌ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُرْتَهِنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِجِنَايَتِهِ أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ.
فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِجِنَايَتِهِ فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الْحَالِّ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَيْبٌ إِذَا عُلِمَ بِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ فِيهَا ثُمَّ يَنْظُرُ مَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي الثَّانِي فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ إِلَى مَالٍ.
وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ إِلَى غَيْرِ مَالٍ.
فَإِنِ اقْتَصَّ مِنْهُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْقِصَاصِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِهِ، أَوْ فِي نَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ الْقِصَاصُ فِي طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِهِ كَيَدِهِ أَوْ رِجْلِهِ كَانَ رَهْنًا بِحَالِهِ وَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي الْبَيْعِ لِعِلْمِهِ بِجِنَايَتِهِ. وَإِنْ كَانَ الْقِصَاصُ فِي نَفْسِهِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ كَالْمُسْتَحَقِّ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ لَا خِيَارَ لَهُ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهُ عَيْبٌ كَانَ عَالِمًا بِهِ فَهَذَا حُكْمُ الْقِصَاصِ.
وَإِنْ عَفَا عَنْهُ إِلَى مَالٍ فَلَا يَخْلُو حَالُ سَيِّدِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ
إِمَّا أَنْ يَفْدِيَهُ مِنْ مَالِهِ، أَوْ لَا يَفْدِيَهُ. فَإِنْ فَدَاهُ مِنْ مَالِهِ وَدَفَعَ أَرْشَ جِنَايَتِهِ مِنْ عِنْدِهِ فَهُوَ رَهْنٌ بِحَالِهِ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي الْبَيْعِ.
وَإِنْ لَمْ يَفْدِهِ السَّيِّدُ وَلَا غَيْرُهُ وَبِيعَ فِي الْجِنَايَةِ فَقَدْ بَطَلَ الرَّهْنُ.
وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ لِلْمُرْتَهِنِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ كَالْمُسْتَحَقِّ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ لَا خِيَارَ لَهُ لِأَنَّهُ عَيْبٌ عَلِمَ بِهِ فَهَذَا حُكْمُ الْعَفْوِ إِلَى مَالٍ. وَإِنْ عَفَا عَنْهُ إِلَى غَيْرِ مَالٍ فَقَدْ

(6/85)


سَقَطَ حُكْمُ الْجِنَايَةِ وَاسْتَقَرَّ رَهْنُهُ. وَلَا خِيَارَ فِي الْبَيْعِ بِحَالٍ. فَهَذَا حُكْمُ الْجِنَايَةِ إِذَا كَانَ الْمُرْتَهِنُ عَالِمًا بِهَا.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمُرْتَهِنُ غَيْرَ عَالِمٍ بِجِنَايَتِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ بِهَا قَبْلَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهَا. فَإِذَا عَلِمَ بِهَا كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ وَإِمْضَائِهِ. فَإِنْ فَسَخَ الْبَيْعَ كَانَ لَهُ، لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَيْبٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ وَرَدُّهُ مُمْكِنٌ. فَإِنْ أَقَامَ صَارَ كَالْمُرْتَهِنِ عَالِمًا بِجِنَايَتِهِ. فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ اعْتِبَارِ أَحْوَالِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ مِنَ اقْتِصَاصِهِ أَوْ عَفْوِهِ عَلَى مَالٍ أَوْ عَفْوِهِ إِلَى غَيْرِ مَالٍ ... ثُمَّ الْحُكْمُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى مَا مَضَى.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَلَّا يَعْلَمَ الْمُرْتَهِنُ بِجِنَايَتِهِ إِلَّا بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهَا فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَسْتَقِرَّ حُكْمُهَا عَلَى الْقِصَاصِ مِنْهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَسْتَقِرَّ حُكْمُهَا عَلَى الْعَفْوِ عَنْهُ إِلَى مَالٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَقِرَّ حُكْمُهَا عَلَى الْعَفْوِ عَنْهُ إِلَى غَيْرِ مَالٍ فَإِنِ اسْتَقَرَّ حُكْمُهَا عَلَى الِاقْتِصَاصِ منه على ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْقِصَاصُ فِي طَرَفِهِ، فَلَا يَبْطُلُ رَهْنُهُ بِالْقِصَاصِ لِبَقَائِهِ فِيهِ لَكِنَّ الْمُرْتَهِنَ بِالْخِيَارِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ وَإِمْضَائِهِ لِإِمْكَانِ رَدِّهِ وَعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْقِصَاصُ فِي نَفْسِهِ، فَقَدْ بَطَلَ الرَّهْنُ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ لَهُ الْخِيَارُ وَإِنْ فَاتَ رَدُّهُ كَالْمُسْتَحَقِّ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ لَا خِيَارَ لَهُ لِفَوَاتِ رَدِّهِ كَالْعَيْبِ.
وَإِنِ اسْتَقَرَّ حُكْمُهَا عَلَى الْعَفْوِ عَنْهُ إِلَى مَالٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَفْدِيَهُ السَّيِّدُ. فَيَكُونُ حُكْمُهُ كَحُكْمِ الْعَفْوِ عَنْهُ إِلَى غَيْرِ مَالٍ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَلَّا يَفْدِيَهُ السَّيِّدُ، وَيُبَاعُ فِي جِنَايَتِهِ فَقَدْ بَطَلَ الرَّهْنُ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ لِلْمُرْتَهِنِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ كَالْمُسْتَحَقِّ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ لَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ لِفَوَاتِ رَدِّهِ كَالْمَعِيبِ.
فَإِنِ اسْتَقَرَّ حُكْمُهَا عَلَى الْعَفْوِ عَنْهُ إِلَى غَيْرِ مَالٍ، فَقَدْ سَقَطَ حُكْمُ الْجِنَايَةِ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْعَبْدِ الْجَانِي، فَإِنْ لَمْ يَتُبْ مِنْ جِنَايَتِهِ وَكَانَ مُصِرًّا عَلَى حَالِهِ، فَهَذَا عَيْبٌ وَلِلْمُرْتَهِنِ الْخِيَارُ فِي

(6/86)


فَسْخِ الْبَيْعِ وَإِمْضَائِهِ. فَإِنْ تَابَ الْعَبْدُ مِنْ جِنَايَتِهِ وَانْتَهَى مِنَ الْعَوْدِ إِلَى مِثْلِهَا، فَهَلْ ذَلِكَ عَيْبٌ فِي الْحَالِّ أَمْ لَا. عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا فِي الْبُيُوعِ.
وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَوْبَةِ الْمُرْتَدِّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَيْبٌ. فَعَلَى هَذَا لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ وَإِمْضَائِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِعَيْبٍ فِي الْحَالِّ. فَعَلَى هَذَا هَلْ لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ أَمْ لَا. عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَهُ الْخِيَارُ اعْتِبَارًا بِوُجُوبِهِ فِي الِابْتِدَاءِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا خِيَارَ لَهُ اعْتِبَارًا بِسُقُوطِهِ فِي الِانْتِهَاءِ.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا رَهْنُ الْعَبْدِ إِذَا كَانَ قَاتِلًا فِي الْحِرَابَةِ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرْهَنَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. فَهَذَا فِي حُكْمِ الْفَاعِلِ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ لِجَوَازِ الْعَفْوِ عَنْهُ. فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِي رَهْنِهِ عَلَى مَا مَضَى.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَرْهَنَهُ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَفِي جَوَازِ رَهْنِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّ قَتْلَهُ فِي الْحِرَابَةِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ مِلْكِ سَيِّدِهِ كَالْمُرْتَدِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ رَهْنَهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ مَحْتُومٌ لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ، فَكَانَ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْمُرْتَدِّ الَّذِي قَدْ يَتُوبُ فَيُعْفَى عَنْهُ.
(فَصْلٌ)
فَأَمَّا إِذَا أَخَذَ مَالَا فِي الْحِرَابَةِ، أَوْ سَرَقَ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَالُ مَوْجُودًا مَعَهُ، فَيُنْزَعُ مِنْ يَدِهِ فَرَهْنُ هَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِرَقَبَتِهِ غُرْمٌ. وَوُجُوبُ قَطْعِهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ رَهْنِهِ.
فَإِنْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ عَالِمًا بِهِ فَلَا خِيَارَ لَهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ وَإِمْضَائِهِ، سَوَاءٌ عَلِمَ بِهِ قَبْلَ قَطْعِهِ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ إِلَّا بَعْدَ قَطْعِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ رَدُّهُ بَعْدَ الْقَطْعِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَالُ قَدْ تَلِفَ مِنْ يَدِهِ فَالْحُكْمُ فِي رَهْنِهِ كَالْحُكْمِ فِي رَهْنِ الْجَانِي خَطَأً عَلَى مَا نَذْكُرُهُ لِتَعَلُّقِ الغرم برقبته.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَسْلَفَهُ بِرَهْنٍ ثُمَّ سَأَلَهُ الرَّاهِنُ أَنْ يَزِيدَهُ أَلْفًا وَيَجْعَلَ الرَّهْنَ الْأَوَّلَ رَهْنًا بِهَا وبالألف الأولى ففعل لم يجز الآخر لأنه كان رهنا كله بالألف الأولى كما لو تكارى دارا سنة بعشرة ثم اكتراها تلك السنة بعينها بعشرين لم يكن الكراء

(6/87)


الثاني إلا بعد فسخ الأول (قال المزني) قلت أنا وأجازه في القديم وهو أقيس لأنه أجاز في الحق الواحد بالرهن الواحد أن يزيده في الحق رهنا فكذلك يجوز أن يزيده في الرهن حقا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
إِذَا رَهَنَ عَبْدَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ طَلَبَ مِنْهُ أَلِفًا أُخْرَى عَلَى أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِالْأَلْفَيْنِ مَعًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَفْسَخَا الرَّهْنَ الْأَوَّلَ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفَاهُ بِأَلْفَيْنِ فَهَذَا جَائِزٌ إِجْمَاعًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَجْعَلَاهُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ رَهْنًا بِأَلْفَيْنِ فَهَذَا عَلَى قَوْلَيْنِ مَنْصُوصَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ وأبو يوسف وَأَبُو ثَوْرٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة.
فَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فَوَجْهُهُ أَنَّ الضَّمَانَ وَثِيقَةٌ كَمَا أَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ لَهُ أَلْفًا فَصَارَتْ ذِمَّتُهُ مَرْهُونَةً بِهَا جَازَ أَنْ يَضْمَنَ لَهُ أَلْفًا أُخْرَى فَتَصِيرُ ذِمَّتُهُ مَرْهُونَةً بِأَلْفَيْنِ. كَذَلِكَ إِذَا رَهَنَهُ عَبْدًا بِأَلْفٍ جَازَ أَنْ يَرْهَنَهُ بِأَلْفٍ أُخْرَى، فَيَصِيرُ الْعَبْدُ مَرْهُونًا بِأَلْفَيْنِ.
وَلِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَكُونُ مَرْهُونًا بِجِنَايَتِهِ كَمَا يَكُونُ مَرْهُونًا بِحَقِّ مرتهنه، ثم ثبت أنه لو جنا جِنَايَةً صَارَ مَرْهُونًا بِهَا وَلَا يَمْنَعُ مِنْ حُدُوثِ جِنَايَةٍ ثَانِيَةٍ يَصِيرُ مَرْهُونًا بِهَا. . كَذَلِكَ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا بِحَقِّ مُرْتَهِنِهِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ حُدُوثِ حَقٍّ ثَانٍ لِمُرْتَهِنِهِ، فَيَصِيرُ مَرْهُونًا به.
ولأنه لو كان مرهونا بألف وجنا جِنَايَةً أَرْشُهَا أَلْفٌ فَغَرِمَهَا الْمُرْتَهِنُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ فِي يَدِهِ رَهْنًا بِالْأَلْفِ الْأُولَى الَّتِي كَانَ مَرْهُونًا بِهَا وَبِالْأَلْفِ الَّتِي غَرَسَهَا جَازَ وَصَارَ الْعَبْدُ مَرْهُونًا بِأَلْفَيْنِ. كَذَلِكَ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا بِأَلْفٍ، ثُمَّ حَصَلَ لِلْمُرْتَهِنِ عَلَى الرَّاهِنِ أَلْفٌ أُخْرَى مِنْ مُعَامَلَةٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِالْأَلْفِ الْأُولَى الَّتِي كَانَ مَرْهُونًا بِهَا وَبِالْأَلْفِ الثَّانِيَةِ الَّتِي اسْتَحَقَّهَا جَازَ وَصَارَ الْعَبْدُ مَرْهُونًا بِأَلْفَيْنِ.
وَلِأَنَّ الرَّهْنَ فِي مُقَابَلَةِ الدَّيْنِ. فَلَمَّا جَازَ أَنْ يُزَادَ فِي الدَّيْنِ الْوَاحِدِ رَهْنًا عَلَى رَهْنٍ، جَازَ أَنْ يُزَادَ فِي الرَّهْنِ الْوَاحِدِ دَيْنًا عَلَى دَيْنٍ.
وَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَوَجْهُهُ أَنْ يُقَالَ: لَوْ جَازَ أَنْ يَرْتَهِنَهُ بِحَقٍّ آخَرَ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ رَهْنًا عِنْدَ شَخْصٍ آخَرَ. فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ رَهْنًا عِنْدَ شَخْصٍ آخَرَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْتَهِنَهُ بِحَقٍّ آخَرَ.

(6/88)


أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَضْمَنَ لِشَخْصٍ جَازَ أَنْ يَضْمَنَ لَهُ حَقًّا آخَرَ.
وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَكُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ مَرْهُونٌ بِالْحَقِّ وَبِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَضَاهُ الْحَقَّ إِلَّا جُزْءًا مِنْهُ كَانَ الرَّهْنُ كُلُّهُ مَرْهُونًا فِي الْجُزْءِ الْبَاقِي مِنْهُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ مَرْهُونًا بِحَقٍّ آخَرَ لِاشْتِغَالِهِ بِالْحَقِّ الْأَوَّلِ كَمَنْ أَجَرَ دَارًا سَنَةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَاجِرَهَا ثَانِيَةً لِاشْتِغَالِهَا بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ.
وَلِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْحَقِّ. فَلَوْ جَازَ إِدْخَالُ حَقٍّ ثَانٍ عَلَى الرَّهْنِ لَصَارَ الرَّهْنُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْحَقِّ.
وَلِأَنَّ الرَّهْنَ يَتْبَعُ الْبَيْعَ لِاقْتِرَانِهِ بِهِ، وَاشْتِرَاطِهِ فِيهِ. فَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُهُ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ إِذَا ابْتَاعَ شَيْئًا أَنْ يَبْتَاعَهُ ثَانِيَةً مَعَ بَقَاءِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ. لَمْ يَجُزْ إِذَا ارْتَهَنَ شَيْئًا أَنْ يَرْتَهِنَهُ ثَانِيَةً مَعَ بَقَاءِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الضَّمَانِ:
فَالْمَعْنَى فِيهِ أن الضمان لا يستغرق ذمة الضامن بدليل أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَضْمَنَ لِشَخْصٍ آخَرَ فَجَازَ أَنْ يَضْمَنَ لَهُ حَقًّا آخَرَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرَّهْنُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدِ اسْتَغْرَقَهُ ... أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَهْنًا عِنْدَ شَخْصٍ آخَرَ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْتَهِنَهُ بِحَقٍّ آخَرَ.
وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ دُخُولِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْجِنَايَةِ:
أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَطْرَأَ أَرْشٌ عَلَى أَرْشِهِ، جَازَ أَنْ يَطْرَأَ أَرْشُهُ عَلَى أَرْشِهِ وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَطْرَأَ رَهْنُ غَيْرِهِ عَلَى رَهْنِهِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَطْرَأَ رَهْنُهُ عَلَى رَهْنِهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْمُرْتَهِنِ إِذَا فَدَاهُ مِنْ جِنَايَتِهِ وَصَارَ مَرْهُونًا بِهِمَا:
فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ سَوَاءٌ وَكِلَاهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ. فَعَلَى هَذَا سَقَطَ السُّؤَالُ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ يَجُوزُ فِي الْجِنَايَةِ قَوْلًا وَاحِدًا. وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجِنَايَةَ إِذَا طَرَأَتْ عَلَى الرَّهْنِ صَارَ الرَّهْنُ مَعْلُولًا بِهَا لِتَعَرُّضِهِ لِلْفَسْخِ فَجَازَ أَنْ يُزَادَ فِي الْحَقِّ كَالْبَيْعِ فِي زَمَانِ الْخِيَارِ لَمَّا كَانَ مُعَرَّضًا لِلْفَسْخِ جَازَ أَنْ يُزَادَ فِي الثَّمَنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ غَيْرُ مُعَرَّضٍ لِلْفَسْخِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَادَ فِي الْحَقِّ كَالْبَيْعِ بَعْدَ تَقَضِّي الْخِيَارِ لِمَا لَمْ يَكُنْ مُعَرَّضًا لِلْفَسْخِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَادَ فِي الثَّمَنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ فِي ارْتِهَانِهِ بِمَا قَدْ فَدَاهُ مَنْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ استصلاح لِرَهْنِهِ فَجَازَ أَنْ يَرْتَهِنَهُ بِهَا

(6/89)


ثَانِيَةً مَعَ بَقَاءِ الرَّهْنِ الْأَوَّلِ كَمَا يَفْدِي الْمُشْتَرِي عَبْدَهُ إِذَا جَنَى عَلَى الْبَائِعِ فَيَبِيعُهُ مِنْهُ ثَانِيَةً كَمَا يَفْدِيهِ مَعَ بَقَاءِ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ اسْتِصْلَاحٌ لِلرَّهْنِ الْأَوَّلِ كَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْتَاعَهُ ثَانِيَةً فِي غَيْرِ الْجِنَايَةِ مَعَ بَقَاءِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ الْمُزَنِيِّ: أَنَّهُ لَمَّا جَازَتِ الزِّيَادَةُ فِي الرَّهْنِ عَلَى دَيْنٍ وَاحِدٍ، جَازَتِ الزِّيَادَةُ فِي الدَّيْنِ عَلَى رَهْنٍ وَاحِدٍ. فَيُقَالُ: الدَّيْنُ مُسْتَغْرِقٌ لِلرَّهْنِ وَلَيْسَ الرَّهْنُ مُسْتَغْرِقًا لِلدَّيْنِ بِدَلِيلِ أَنَّ سُقُوطَ الدَّيْنِ يُبْطِلُ الرَّهْنَ، وَسُقُوطُ الرَّهْنِ لَا يُبْطِلُ الدَّيْنَ. فَلِذَلِكَ جَازَ دُخُولُ رَهْنٍ ثَانٍ عَلَى أَوَّلَ فِي دَيْنٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَجُزْ دُخُولُ دَيْنٍ ثَانٍ عَلَى أَوَّلَ فِي رَهْنٍ واحد.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَشْهَدَ الْمُرْتَهِنُ أَنَّ هَذَا الرَّهْنَ فِي يَدِهِ بِأَلْفَيْنِ جَازَتِ الشَّهَادَةُ فِي الْحُكْمِ فَإِنْ تَصَادَقَا فَهُوَ مَا قَالَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كما قال. فإذا ارْتَهَنَ عَبْدًا بِأَلْفٍ ثُمَّ حَصَلَتْ لَهُ أَلْفٌ أُخْرَى فَجُعِلَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِهَا وَبِالْأَلْفِ الْأُولَى ثُمَّ أَقَرَّ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ عِنْدَ حَاكِمٍ أَوْ عِنْدَ شَاهِدَيْنِ أَنَّ الْعَبْدَ رُهِنَ بِأَلْفَيْنِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ إِقْرَارُهُمَا بِذَلِكَ مُقَيَّدًا بِشَرْحِ الْحَالِّ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا.
فَإِنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ مُقَيَّدًا بِشَرْحِ مَا جَرَى مِنْ حَالِهِمَا نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ عِنْدَ حَاكِمٍ حَكَمَ عَلَيْهِمَا بِاجْتِهَادِهِ فَإِنْ كَانَ يَرَى قَوْلَهُ فِي الْقَدِيمِ حَكَمَ بِأَنَّ الْعَبْدَ رهن بألفين. وإن كان يرى قوله في الجديد حكم بأن العبد رهن بالألف الأولى دُونَ الثَّانِيَةِ.
وَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ عِنْدَ شَاهِدَيْنِ فَأَرَادَ الشَّاهِدَانِ أَنْ يَشْهَدَا بِذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ. فَعَلَى الشَّاهِدَيْنِ أَنْ يُؤَدِّيَا إِلَى الْحَاكِمِ مَا سَمِعَاهُ مِنْ إِقْرَارِهِمَا مَشْرُوحًا. فَإِذَا شَهِدَا عِنْدَهُ حَكَمَ فِي الرَّهْنِ بِاجْتِهَادِهِ فَإِنْ كَانَ يَرَى الْقَوْلَ الْقَدِيمَ حَكَمَ بِأَنَّ الرَّهْنَ بِأَلْفَيْنِ. وَإِنْ كَانَ يَرَى الْقَوْلَ الْجَدِيدَ حَكَمَ أَنَّ الرَّهْنَ بِأَلْفٍ.
فَلَوْ أَرَادَ الشَّاهِدَانِ أَلَّا يَذْكُرَا شَرْحَ الْإِقْرَارِ وَشَهِدَا أَنَّ الْعَبْدَ رُهِنَ بِأَلْفَيْنِ فَإِنْ كَانَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ لَمْ يَجُزْ وَوَجَبَ عَلَيْهِمَا شَرْحُ الْإِقْرَارِ لِيَكُونَ الْحُكْمُ فِيهِ مَرْدُودًا إِلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ.
وَإِنْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُمَا أَنْ يَشْهَدَا فِي الرَّهْنِ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِمَا يُؤَدِّيهِمَا إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُمَا أَوْ يَشْرَحَا لَهُ الْإِقْرَارَ اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فِيمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ بِشَهَادَتِهِمَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:

(6/90)


أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِلشَّاهِدَيْنِ أَنْ يَجْتَهِدَا فِي الْإِقْرَارِ وَيُؤَدِّيَا إِلَى الْحَاكِمِ الشَّهَادَةَ عَلَى مَا يَصِحُّ مِنَ اجْتِهَادِهِمَا.
فَإِنْ كَانَا يَرَيَانِ قَوْلَهُ فِي الْقَدِيمِ شَهِدَا عِنْدَ الْحَاكِمِ أَنَّ الْعَبْدَ رُهِنَ بِأَلْفَيْنِ وَإِنْ كَانَا يَرَيَانِ قَوْلَهُ فِي الْجَدِيدِ شَهِدَا أَنَّ الْعَبْدَ رُهِنَ بِأَلْفٍ وَأَنَّ الرَّاهِنَ مُقِرٌّ لِلْمُرْتَهِنِ بِأَلْفٍ أُخْرَى بِغَيْرِ رَهْنٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَهُوَ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ أَنْ يَنْقُلَا الْإِقْرَارَ إِلَى الْحَاكِمِ مَشْرُوحًا عَلَى صُورَتِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَا فِيهِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ نَاقِلٌ وَالِاجْتِهَادُ إِلَى الْحَاكِمِ وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي كُلِّ شَهَادَةٍ طَرِيقُهَا الِاجْتِهَادُ.
فَهَذَا حُكْمُ الْإِقْرَارِ إِذَا كَانَ مُقَيَّدًا.
فَإِنْ أَقَرَّا بِذَلِكَ مُطْلَقًا وَهُوَ أَنْ يُقِرَّا عِنْدَ الْحَاكِمِ أَوْ عِنْدَ شَاهِدَيْنِ أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ رُهِنَ بِأَلْفَيْنِ فَإِنَّ الْحُكْمَ بِظَاهِرِ إِقْرَارِهِمَا وَاجِبٌ فَيَحْكُمُ الْحَاكِمُ فِي الظَّاهِرِ أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ رُهِنَ بِأَلْفَيْنِ إِمَّا بِإِقْرَارِهِمَا أَوْ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى إِقْرَارِهِمَا.
فَلَوْ عَادَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ جَمِيعًا إِلَى الْحَاكِمِ فَاعْتَرَفَا عِنْدَهُ بِالْحَالِّ وَشَرَحَا لَهُ الصُّورَةَ فَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ يَرَى قَوْلَهُ فِي الْقَدِيمِ كَانَ عَلَى الْحُكْمِ الْأَوَّلِ فِي أَنَّ الْعَبْدَ رُهِنَ بِأَلْفَيْنِ وَإِنْ كَانَ يَرَى قَوْلَهُ فِي الْجَدِيدِ حَكَمَ بِأَنَّ الْعَبْدَ رُهِنَ بِالْأَلْفِ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ.
وَلَوْ عَادَ الْمُرْتَهِنُ وَحْدَهُ يَعْتَرِفُ بِذَلِكَ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ وَلَكِنْ لَوْ عَادَ الرَّاهِنُ يَدَّعِي ذَلِكَ وَأَنْكَرَ الْمُرْتَهِنُ. فَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ يَرَى قَوْلَهُ فِي الْقَدِيمِ قَالَ لِلرَّاهِنِ: هَذِهِ الدَّعْوَى مُؤَثِّرَةٌ فِي الْحُكْمِ.
وَإِنْ كَانَ يَرَى قَوْلَهُ فِي الْجَدِيدِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ، وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى الرَّاهِنِ لِتَقَدُّمِ إِقْرَارِهِ. وَهَلْ عَلَى الْمُرْتَهِنِ الْيَمِينُ أَمْ لَا. عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَمِينَ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: عَلَيْهِ الْيَمِينُ.
وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الرَّاهِنِ إِذَا أَقَرَّ لِلْمُرْتَهِنِ بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ إِلَيْهِ ثُمَّ عَادَ يَدَّعِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ سَلَّمَهُ إِلَيْهِ وَسَأَلَ إِحْلَافَهُ هَلْ يَحْلِفُ الْمُرْتَهِنُ أَمْ لَا. عَلَى وَجْهَيْنِ: كَذَلِكَ هَهُنَا.
فَلَوْ كَانَ الشَّاهِدَانِ حِينَ شَهِدَا عَلَى الرَّاهِنِ بِإِقْرَارِهِ الْمُطْلَقِ عَلِمَا الْحَالَ فِي الْبَاطِنِ، فَهَلْ عَلَيْهِمَا إِذَا شَهِدَا بِالْإِقْرَارِ الْمُطْلَقِ أَنْ يُخْبِرَا بِمَا عَلِمَا فِي الْبَاطِنِ أَمْ لَا. عَلَى وَجْهَيْنِ:

(6/91)


أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِمَا أَنْ يَشْهَدَا بِالْإِقْرَارِ الْمُطْلَقِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمَا الْإِخْبَارُ بِمَا عَلِمَا فِي الْبَاطِنِ لِأَنَّ الشَّاهِدَ يُؤَدِّي مَا تَحَمَّلَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ. أَنَّ عَلَيْهِمَا أَنْ يَشْهَدَا بِالْإِقْرَارِ الْمُطْلَقِ وَيُخْبِرَا بِمَا عَلِمَا فِي الْبَاطِنِ، لِأَنَّ الشَّاهِدَ يَنْقُلُ إِلَى الْحَاكِمِ بِمَا عَلِمَهُ.
فَسَوَاءٌ كَانَ إِقْرَارًا أَوْ غَيْرَ إِقْرَارٍ. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي كُلِّ مَا عَلَيْهِ مَعَ مَا تَحَمَّلَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَا عَلِمَهُ يُنَافِي مَا تَحَمَّلَهُ أَوْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُنَافٍ لِمَا تَحَمَّلَهُ فَيَلْزَمُهُ الْإِخْبَارُ بِمَا عَلِمَهُ ... وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي اجْتِهَادِ الشَّاهِدِ.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَهَنَ عَبْدًا قَدْ صَارَتْ فِي عُنُقِهِ جِنَايَةٌ عَلَى آدَمِيٍّ أَوْ فِي مَالٍ فَالرَّهْنُ مَفْسُوخٌ وَلَوْ أَبْطَلَ رَبُّ الْجِنَايَةِ حَقَّهُ لِأَنَّهُ كَانَ أَوْلَى بِهِ بِحَقٍّ لَهُ فِي عُنُقِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ جِنَايَةَ الْعَبْدِ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
عَمْدٍ يُوجِبُ الْقَوَدَ وَقَدْ مَضَى حُكْمُهُ، وَخَطَأٍ يُوجِبُ الْمَالَ وَهَذَا مَوْضِعُهُ فَإِذَا كَانَتْ جِنَايَةُ الْعَبْدِ خَطَأً تُوجِبُ الْمَالَ فَقَدْ تَعَلَّقَتْ بِرَقَبَتِهِ لِيُبَاعَ فِي جِنَايَتِهِ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا وَجَبَتِ ابْتِدَاءً فِي رَقَبَتِهِ لِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ سَقَطَ أَرْشُهَا لِفَوَاتِ رَقَبَتِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا وَجَبَتِ ابْتِدَاءً فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ انْتَقَلَ وُجُوبُهَا إِلَى رَقَبَتِهِ لِأَنَّهُ لَوْ أُعْتِقَ لَوَجَبَ عَلَيْهِ أَرْشُهَا فِي ذِمَّتِهِ، وَلَوْ وَجَبَتْ فِي رَقَبَتِهِ لَكَانَ كَالْحَقِّ الْمَرْهُونِ فِيهِ لَا يَنْتَقِلُ بَعْدَ عِتْقِهِ إِلَى ذِمَّتِهِ.
وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ. لِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ فِي ذِمَّتِهِ فِي الِابْتِدَاءِ مَا جَازَ أَنْ تَنْتَقِلَ إِلَى رَقَبَتِهِ فِي الِانْتِهَاءِ كَالدَّيْنِ، لَمَّا كَانَ وُجُوبُهُ فِي ذِمَّتِهِ لَمْ يَنْتَقِلْ إِلَى رَقَبَتِهِ.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ أَرْشَ الْجِنَايَةِ مُتَعَلِّقٌ بِرَقَبَتِهِ فَإِنْ فَدَاهُ السَّيِّدُ مِنْ جِنَايَتِهِ أَوْ أَبْرَأَهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مِنْهَا جَازَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَرْهَنَهُ لِفَكَاكِ رَقَبَتِهِ، وَخَلَاصِهِ مِنْ جِنَايَتِهِ فَإِنْ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ بَاقِيًا فِي رَقَبَتِهِ لَمْ يَجُزْ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَرْهَنَهُ لِأَنَّهُ مرهون بأرش جنايته، فإن رهنه باطلا مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا.
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَ فِي رَهْنِهِ قَوْلًا ثَانِيًا إِنَّهُ جَائِزٌ إِذَا كَانَ مُوسِرًا وَهُوَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا وَجَبَتْ فِي الِابْتِدَاءِ فِي ذِمَّتِهِ. فَإِنْ فَدَاهُ السَّيِّدُ اسْتَقَرَّ رَهْنُهُ وَإِنْ بِيعَ فِي الْجِنَايَةِ بَطَلَ رَهْنُهُ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ رَهْنَهُ بَاطِلٌ قَوْلًا وَاحِدًا فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ لِأَنَّ حَقَّ الْجِنَايَةِ أَوْكَدُ مِنْ حَقِّ

(6/92)


الْمُرْتَهِنِ لِتَقْدِيمِهِ إِذَا طَرَأَ عَلَى الرَّهْنِ ثُمَّ كَانَ الْمَرْهُونُ لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ قَبْلَ فَكَاكِهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِرَقَبَتِهِ، فَالْجَانِي أَوْلَى أَلَّا يَجُوزَ رَهْنُهُ قَبْلَ فَكَاكِهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِرَقَبَتِهِ. فَلَوْ أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ أَبْطَلَ أَرْشَ جِنَايَتِهِ مِنْ رَقَبَةِ الْعَبْدِ لَمْ يَصِحَّ الرَّهْنُ إِلَّا أَنْ يَسْتَأْنِفَا تَجْدِيدَ رَهْنٍ لِأَنَّ الْعَقْدَ إِذَا وَقَعَ فَاسِدًا لَا يَصِحُّ بِزَوَالِ ما وقع به فاسدا.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ تُسَاوِي دِينَارًا وَالْعَبْدُ يُسَاوِي أَلْفًا وَهَذَا أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَهْنَهُ بِحَقٍّ ثُمَّ رَهَنَهُ بَعْدَ الْأَوَّلِ فَلَا يَجُوزُ الرَّهْنُ الثَّانِي ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ رَهْنَ الْعَبْدِ الْجَانِي خَطَأٌ عَلَى نَفْسٍ. أَوْ مَالٍ لَا يَجُوزُ قَبْلَ فَكَاكِهِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ سَوَاءٌ كَانَ أَرْشُ جِنَايَتِهِ مِثْلَ قيمته أو أقل حتى إن كانت قيمته أَلْفًا وَأَرْشُ جِنَايَتِهِ مِائَةً لَمْ يَجُزْ رَهْنُهُ بِمَا فَضَلَ مِنْ جِنَايَتِهِ.
فَإِنْ قَالَ: قَدْ رَهَنْتُكَ الْفَاضِلَ مِنْ جِنَايَتِهِ لَمْ يَجُزْ.
وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْجِنَايَةِ بِرَقَبَتِهِ كَتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِرَقَبَتِهِ وَأَوْكَدُ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ رَهَنَهُ بِمِائَةٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْهَنَهُ ثَانِيَةً بِمَا بَقِيَ مِنَ الْأَلْفِ لِأَنَّ الرَّهْنَ الْأَوَّلَ قَدْ تَعَلَّقَ بِالرَّقَبَةِ وَبِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهَا، فَصَارَ مُسْتَغْرِقًا لَهَا كَذَلِكَ فِي الْجِنَايَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ إِذًا رَهَنَهُ بِمِائَةٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ أَلَا يَجُوزَ أَنْ يَرْهَنَهُ بِمَا بَقِيَ مِنَ الْأَلْفِ.
قُلْنَا: لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ اسْتِغْرَاقِهِ بِالْمِائَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَعُودَ قِيمَتُهُ مِائَةً فيصير الثاني مشاركا للأول منهما.
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ ارْتَهَنَهُ فَقَبَضَهُ ثُمَّ أَقَرَّ الرَّاهِنُ أَنَّهُ جَنَى قَبْلَ الرَّهْنِ جِنَايَةً ادَّعَى بِهَا فَفِيهَا قولان أحدهما أن القول قول الراهن لأنه أقر بحق في عنق عبده ولا تبرأ ذمته من دين المرتهن وقيل يحلف المرتهن ما علم فإذا حلف كان القول في إقرار الراهن بأن عبده جنى قبل أن يرهنه واحدا من قولين أحدهما أن العبد رهن ولا يؤخذ من ماله شيء وإن كان موسرا لأنه إنما أقر في شيء واحد بحقين لرجلين أحدهما من قبل الجناية والآخر من قبل الرهن وإذا فك من الرهن وهو له فالجناية في رقبته بإقرار سيده إن كانت خطأ أو شبه عمد لا قصاص وإن كانت عمدا فيها قصاص لم يقبل قوله على العبد إذا لم يقر بها والقول الثاني أنه إذا كان موسرا أخذ من السيد الأقل من قيمة العبد أو أرش الجناية فيدفع إلى المجني عليه لأنه يقر بأن في عنق عبده حقا أتلفه على المجني عليه برهنه إياه وكان كمن أعتق عبده وقد جنى وهو موسر أو أتلفه أو قتله فيضمن الأقل من قيمته أو أرش الجناية وهو رهن بحاله وإنما أتلف على المجني عليه لا على المرتهن وإن كان معسرا فهو رهن بحاله

(6/93)


ومتى خرج من الرهن وهو في ملكه فالجناية في عنقه وإن خرج من الرهن ببيع ففي ذمة سيده الأقل من قيمته أو أرش جنايته (قال المزني) قلت أنا وهذا أصحها وأشبهها بقوله لأنه هو والعلماء مجمعة أن من أقر بما يضره لزمه ومن أَقَرَّ بِمَا يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ لَمْ يجز عَلَى غَيْرِهِ وَمَنْ أَتْلَفَ شَيْئًا لِغَيْرِهِ فِيهِ حق فهو ضامن بعدوانه، وقد قال إن لم يحلف المرتهن على علمه كان المجني عليه أولى به منه وقد قال الشافعي بهذا المعنى لو أقر أنه أعتقه لم يضر المرتهن فإن كان موسرا أخذت منه قيمته فجعلت رهنا مكانه ولو كان معسرا بيع في الرهن (قال) ومتى رجع إليه لأنه مقر أنه حر ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: صُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ رهن عبده رجلا فَادَّعَى أَجْنَبِيٌّ أَنَّ الْعَبْدَ الْمَرْهُونَ جَنَى عَلَيْهِ قَبْلَ الرَّهْنِ جِنَايَةً. فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَدَّعِيَ جِنَايَةَ عَمْدٍ تُوجِبُ الْقَوَدَ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَدَّعِيَ جِنَايَةَ خَطَأٍ تُوجِبُ الْمَالَ.
فَإِنِ ادَّعَى جِنَايَةَ عَمْدٍ تُوجِبُ الْقَوَدَ فَالدَّعْوَى مَسْمُوعَةٌ عَلَى الْعَبْدِ دُونَ السَّيِّدِ الرَّاهِنِ وَدُونَ الْمُرْتَهِنِ ولأن الدَّعْوَى تُسْمَعُ عَلَى مَنْ يَنْفُذُ إِقْرَارُهُ بِهَا وَالْعَبْدُ هُوَ الَّذِي يَنْفُذُ إِقْرَارُهُ بِهَا دُونَ سَيِّدِهِ وَمُرْتَهِنِهِ. فَإِذَا سُمِعَتِ الدَّعْوَى عَلَى الْعَبْدِ فَإِنْ أَنْكَرَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَهُوَ رهن بحاله فإن اعترف بها العبد بَعْدَ إِنْكَارِ الْعَبْدِ وَيَمِينِهِ لَمْ يَكُنْ لِاعْتِرَافِهِ تَأْثِيرٌ.
وَإِنِ اعْتَرَفَ الْعَبْدُ بِالْجِنَايَةِ وَأَقَرَّ بِهَا كَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا فِيهَا سَوَاءٌ اعْتَرَفَ السَّيِّدُ أَوْ أَنْكَرَ لِارْتِفَاعِ التُّهْمَةِ عَنْهُ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ.
فَإِذَا ثَبَتَ إِقْرَارُهُ بِهَا فَلِصَاحِبِ الْجِنَايَةِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ وَيُبَرِّئَهُ مِنْهَا. فَيَكُونُ رَهْنًا بِحَالِهِ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْعَمْدِ لَا تَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ رَهْنِهِ.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ. فَإِنْ كَانَ الْقِصَاصُ فِي طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِهِ كَانَ رَهْنًا بِحَالِهِ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ فَقَدْ بَطَلَ الرَّهْنُ لِفَوَاتِهِ.
وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ عَنْهُ إِلَى مَالٍ. فَلَهُ ذَلِكَ لِثُبُوتِ الْجِنَايَةِ له. فإن قيل: إقرار الْعَبْدِ بِالْمَالِ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى سَيِّدِهِ فَلِمَ حَكَمْتُمْ فِي الْمَالِ بِإِقْرَارِهِ؟ قِيلَ: لَمْ يَكُنْ إقراره بالمال، وإنما تفرع عنه الْمَالُ فَصَارَ كَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِالسَّنَةِ لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِي مَالِهِ.
وَلَوْ أَقَرَّ بِجِنَايَةِ عَبْدٍ فَاخْتَارَ صَاحِبُهَا الْمَالَ وَجَبَ فِي مَالِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَ أَرْشُ

(6/94)


الْجِنَايَةِ مُحِيطًا بِقِيمَتِهِ بِيعَ جَمِيعُهُ فَإِذَا بِيعَ بَطَلَ الرَّهْنُ. وَإِنْ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ بِيعَ مِنْهُ. بِقَدْرِ الْجِنَايَةِ وَكَانَ ما بقي منه رهنا مكانه ولأنه لَمَّا لَمْ تَكُنْ جِنَايَتُهُ مَانِعَةً مِنْ جَوَازِ رَهْنِهِ لَمْ يَكُنْ بَيْعُ بَعْضِهِ فِيهَا مُبْطِلًا لِرَهْنِ بَقِيَّتِهِ ...
فَهَذَا حُكْمُ الْجِنَايَةِ إِذَا كَانَتْ مُوجِبَةً لِلْقَوَدِ وَلَيْسَتْ مَسْأَلَةَ الْكِتَابِ وَإِنَّمَا وَجَبَ تَقْدِيمُهَا لِاشْتِمَالِ التَّقْسِيمِ عَلَيْهَا وَقُرْبِ الْكَلَامِ فِيهَا.

(فَصْلٌ)
وَإِذَا ادَّعَى جِنَايَةً خَطَأً أَوْ عَمْدًا تُوجِبُ الْمَالَ فَهِيَ مَسْمُوعَةٌ عَلَى السَّيِّدِ دُونَ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَنْفُذُ إِقْرَارُهُ بِهَا هُوَ السَّيِّدُ دُونَ الْعَبْدِ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُصَدِّقَهُ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ جَمِيعًا: فَيَكُونُ الرَّهْنُ بَاطِلًا عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، لِأَنَّ رَهْنَ الْجَانِي خَطَأٌ لَا يَصِحُّ وَقَدْ ثَبَتَتْ جِنَايَتُهُ بِتَصْدِيقِ الرَّاهِنِ وَبَطَلَ حُكْمُ الرَّهْنِ بِتَصْدِيقِ الْمُرْتَهِنِ.
فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ ارْتِهَانُ الْعَبْدِ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ ثُمَّ الرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَفْدِيَهُ وَبَيْنَ أَنْ يُمَكِّنَ مِنْ بَيْعِهِ. فَإِنْ مَكَّنَ مِنْ بَيْعِهِ وَلَمْ يَفْدِهِ مِنْ مَالِهِ نُظِرَ فِي الْجِنَايَةِ:
فَإِنْ كَانَ أَرْشُهَا مِثْلَ قِيمَتِهِ فَأَكْثَرَ. بِيعَ، وَلَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الْجِنَايَةِ أَكْثَرُ مِنْ ثَمَنِهِ. وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ بِيعَ مِنْهُ بِقَدْرِ الْأَرْشِ وَكَانَ الْبَاقِي عَلَى مِلْكِ السَّيِّدِ لَا يَعُودُ إِلَى الرَّهْنِ.
وَإِنْ فَدَاهُ نُظِرَ فِي أَرْشِ جِنَايَتِهِ فَإِنْ كَانَ مِثْلَ قِيمَتِهِ فَمَا دُونَ فَدَاهُ بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ. وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ فَعَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَيْسَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ كَمَا لَوْ بِيعَ فِي جنايته بذل الْمُشْتَرِي فِيهِ قَدْرَ قِيمَتِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ صَاحِبُ الْجِنَايَةِ أَكْثَرَ مِنْهَا. كَذَلِكَ إِذَا فَدَاهُ الرَّاهِنُ الْمَالِكُ بِهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِ جَمِيعُ الْأَرْشِ وَإِنْ زَادَ عَلَى قِيمَتِهِ إِلَّا أَنْ يُمَكِّنَ مِنْ بَيْعِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ لَوْ مَكَّنَ مِنْ بَيْعِهِ أَنْ يَحْدُثَ رَاغِبٌ فِي ابْتِيَاعِهِ بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ فَإِذَا فَدَاهُ لَمْ يَعُدْ إِلَى الرَّهْنِ إِلَّا بِاسْتِئْنَافِ عَقْدٍ، لِأَنَّ الْعَقْدَ إِذَا فَسَدَ لَمْ يَصِحَّ بِمَا يَطْرَأُ فِيمَا بَعْدَهُ.
(فَصْلٌ)
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُكَذِّبَهُ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ جَمِيعًا:
فَتَكُونُ الْيَمِينُ عَلَى الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَوْ أَقَرَّ لَمْ تَثْبُتِ الْجِنَايَةُ بِإِقْرَارِهِ فَوَجَبَ إِذَا أَنْكَرَ أَلَّا تَجِبَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ بِإِنْكَارِهِ فَإِنْ حَلَفَ الرَّاهِنُ كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِحَالِهِ. وَإِنْ

(6/95)


نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ وَأَجَابَ الْمُرْتَهِنُ إِلَى الْيَمِينِ فَهَلْ تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي غُرَمَاءِ الْمُفْلِسِ إِذَا أَجَابُوا إِلَى الْيَمِينِ عِنْدَ نُكُولِ الْمُفْلِسِ.
أَحَدُهُمَا: لَا يَحْلِفُ الْمُرْتَهِنُ بَلْ تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى مُدَّعِي الْجِنَايَةِ. فَإِنْ حَلَفَ حُكِمَ لَهُ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ وَأُبْطِلَ الرَّهْنُ وَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِحَالِهِ وَلَا شَيْءَ لَهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَحْلِفُ الْمُرْتَهِنُ إِذَا أَجَابَ إِلَى الْيَمِينِ. فَإِنْ حَلَفَ كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِحَالِهِ وَلَا شَيْءَ لِمُدَّعِي الْجِنَايَةِ. وَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ حِينَئِذٍ عَلَى مُدَّعِي الْجِنَايَةِ فَإِنْ حَلَفَ ثَبَتَ لَهُ الْأَرْشُ وبطل الرهن وإن نكل فلا شيء له وَالْعَبْدُ رَهْنٌ بِحَالِهِ.

(فَصْلٌ)
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُرْتَهِنُ وَيُكَذِّبَهُ الرَّاهِنُ:
فَيَبْطُلُ الرَّهْنُ بِتَصْدِيقِ الْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ مُقِرٌّ بِبُطْلَانِهِ. ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ عَدْلًا جَازَ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا لِمُدَّعِي الْجِنَايَةِ عَلَى الرَّاهِنِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي شَهَادَتِهِ. وَإِذَا بَطَلَ الرَّهْنُ بِإِقْرَارِ الْمُرْتَهِنِ لَمْ يَثْبُتْ بِإِقْرَارِهِ أَرْشُ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ فِي مَالِ غَيْرِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا فِيهِ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ مَا لَمْ يَقُمِ الْمُدَّعِي بِبَيِّنَةٍ.
فَإِذَا حَلَفَ الرَّاهِنُ كَانَ الْعَبْدُ عَلَى مِلْكِهِ، وَلَا شَيْءَ لِمُدَّعِي الْجِنَايَةِ وَلَا يَكُونُ بُطْلَانُ الرَّهْنِ بِتَصْدِيقِ الْمُرْتَهِنِ قَادِحًا فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ وَلَا مُوجِبًا لِلْخِيَارِ، وَإِنْ نَكَلَ الرَّاهِنُ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى مُدَّعِي الْجِنَايَةِ. فَإِذَا حَلَفَ حُكِمَ لَهُ بِأَرْشِهَا وَبِيعَ الْعَبْدُ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ السَّيِّدُ مِنْهَا.
(فَصْلٌ)
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ: أَنْ يُصَدِّقَهُ الرَّاهِنُ وَيُكَذِّبَهُ الْمُرْتَهِنُ:
فَفِيهِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُقِرٌّ فِي مِلْكِهِ بِمَا تَنْتَفِي عَنْهُ التُّهْمَةُ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ بِإِقْرَارِهِ كَغَيْرِ الْمَرْهُونِ وَلِأَنَّ الرَّهْنَ يُوجِبُ حَجْرَ الْحَقِّ الْمُعَيَّنِ كَالْمَرَضِ ثُمَّ كَانَ الْمَرِيضُ لَوْ أَقَرَّ بِجِنَايَتِهِ فِي رَقَبَةِ عَبْدٍ كَانَ إِقْرَارُهُ نَافِذًا فَوَجَبَ إِذَا أَقَرَّ الرَّاهِنُ بِجِنَايَةٍ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ أَنْ يَكُونَ إِقْرَارُهُ نَافِذًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي إِقْرَارِ الرَّاهِنِ إِبْطَالًا لِلرَّهْنِ بَعْدَ لُزُومِهِ. وَالرَّهْنُ إِذَا لَزِمَ فَلَا سَبِيلَ لِلرَّاهِنِ إِلَى إِبْطَالِهِ بِبَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُرْتَهِنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّاهِنَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي عَيْنِ الرَّهْنِ حَجْرًا يَمْنَعُهُ مِنْ بَيْعِهِ وعتقه كالسفيه

(6/96)


الَّذِي يَمْنَعُهُ الْحَجْرُ مِنْ بَيْعِ عَبْدِهِ أَوْ عِتْقِهِ ثُمَّ كَانَ لَوْ أَقَرَّ السَّفِيهُ بِجِنَايَةٍ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ لَمْ يُحْكَمْ بِإِقْرَارِهِ لِأَجْلِ حَجْرِهِ. كَذَلِكَ إِذَا أَقَرَّ الرَّاهِنُ بِجِنَايَةٍ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ لَمْ يُحْكَمْ بِإِقْرَارِهِ لِأَجْلِ حَجْرِهِ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى التَّفْرِيعِ عَلَيْهِمَا.
فَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ فَهَلْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَمْ لَا. عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَمِينَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ وَالْيَمِينُ إِنَّمَا تَجِبُ عَلَى مَنْ يُقْبَلُ رُجُوعُهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِ الْيَمِينُ. لِأَنَّهُ بِإِقْرَارِهِ مُبْطِلٌ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ مِنْ رَقَبَةِ عَبْدِهِ وَمُنْكِرٌ لِصِحَّةِ رَهْنِهِ. فَافْتَقَرَ إِلَى يَمِينٍ يَدْفَعُ بِهَا مُطَالَبَةَ الْمُرْتَهِنِ بِصِحَّةِ الرَّهْنِ.
وَتَكُونُ يَمِينُهُ عَلَى الْبَتِّ وَالْقَطْعِ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ فهي يمين إثبات. ويبين الْإِثْبَاتِ لَا تَكُونُ إِلَّا عَلَى الْبَتِّ وَالْقَطْعِ.
فَإِذَا قُلْنَا لَا يَمِينَ عَلَى الرَّاهِنِ. أَوْ قُلْنَا عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَحَلَفَ ثَبَتَتِ الْجِنَايَةُ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ. ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يُبَاعَ فِي الْجِنَايَةِ. أَوْ يَفْدِيَهُ السَّيِّدُ.
فَإِنْ بِيعَ فِي الْجِنَايَةِ لَمْ يَخْلُ حَالُ أَرْشِ الْجِنَايَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْعِبًا لِقِيمَةِ الرَّهْنِ أَوْ غَيْرَ مُسْتَوْعِبٍ لَهَا. فَإِنْ كَانَ الْأَرْشُ مُسْتَوْعِبًا لِقِيمَتِهِ بِيعَ جَمِيعُهُ وَصُرِفَ ثَمَنُهُ فِي الْأَرْشِ وَقَدْ بَطَلَ الرَّهْنُ فَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ لَا يَبْطُلُ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ قَوْلَ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي إِبْطَالِ الْبَيْعِ بَعْدَ صِحَّتِهِ لَكِنْ لِلْمُرْتَهِنِ الْبَائِعِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ شَرَطَ رَهْنًا وَجَبَ انْتِزَاعُهُ مِنْ يَدِهِ بِسَبَبِ تَقَدُّمِ الْقَبْضِ.
وَإِنْ كَانَ الْأَرْشُ غَيْرَ مُسْتَوْعِبٍ لِقِيمَتِهِ بِيعَ مِنْهُ بِقَدْرِ الْأَرْشِ مِثَالُهُ: أَنْ تَكُونَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ مِثْلَ نِصْفِ الْقِيمَةِ فَيُبَاعُ نِصْفُهُ فِي الْجِنَايَةِ لِيُصْرَفَ فِي أَرْشِهَا وَيَبْطُلُ الرَّهْنُ فِيهِ. وَهَلْ يَبْطُلُ فِي النِّصْفِ الثَّانِي الَّذِي لَمْ يُبَعْ فِي الْأَرْشِ أَمْ لَا. عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَ الرَّهْنُ فِيهِ أَيْضًا لِأَنَّنَا قَدْ حَكَمْنَا بِثُبُوتِ الْجِنَايَةِ فِي رَقَبَتِهِ وَالْجَانِي لَا يَصِحُّ رَهْنُهُ فِيمَا فَضَلَ مِنْ جِنَايَتِهِ. فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رَهْنُ جَمِيعِهِ بَاطِلًا كَمَا لَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِجِنَايَتِهِ.

(6/97)


وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ النِّصْفَ الْبَاقِيَ رَهْنٌ بِحَالِهِ. وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ فَقَالَ: وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ عَلَى جِنَايَتِهِ قَبْلَ الرَّهْنِ حَلَفَ وَلِيُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مَعَ شَاهِدِهِ وَكَانَتِ الْجِنَايَةُ أَوْلَى بِهِ مِنَ الرَّهْنِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ جِنَايَتَهُ وَيَكُونُ مَا فَضَلَ مِنْ ثَمَنِهِ رَهْنًا. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ إِقْرَارَ الرَّاهِنِ إِنَّمَا نَفَذَ فِي الْجِنَايَةِ بِحَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِوُجُودِ الْإِقْرَارِ مِنْهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ الراهن لو أقر بالجناية ولم يدعيها الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ كَانَ الرَّاهِنُ بِحَالِهِ لَا يَبْطُلُ بِإِقْرَارِهِ. وَإِذَا كَانَ إِقْرَارُهُ إِنَّمَا نَفَذَ لِحَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا فَضَلَ مِنْ حَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لَا يَنْفُذُ إِقْرَارُهُ فِيهِ وَيَكُونُ رَهْنًا بِحَالِهِ فَلَوْ لَمْ يُمَكَّنْ أَنْ يُبَاعَ مِنْهُ بِقَدْرِ الْجِنَايَةِ بِيعَ جَمِيعُهُ. وَدُفِعَ مِنْ ثَمَنِهِ أَرْشُ الْجِنَايَةِ وَكَانَ الْفَاضِلُ مِنْهُ رَهْنًا مَكَانَهُ أَوْ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ.
فَأَمَّا إِنْ فَدَاهُ الرَّاهِنُ مِنْ جِنَايَتِهِ فَإِنْ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ لَا يَزِيدُ عَلَى قِيمَتِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا وَإِنْ زَادَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَى قِيمَتِهِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَفْدِيهِ بِقِيمَتِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَفْدِيهِ بِجَمِيعِ الْأَرْشِ. فَإِنْ فَدَاهُ فَهَلْ يَكُونُ عَلَى حَالِهِ فِي الرَّهْنِ أَمْ لَا. عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ فِي الْفَاضِلِ عَنْ جِنَايَتِهِ هَلْ يَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهَا أَمْ لَا:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهَا بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ.
وَالثَّانِي: قَدْ بَطَلَ الرَّهْنُ فَلَا يَعُودُ إِلَيْهِ إِلَّا بِعَقْدٍ مُسْتَأْنَفٍ.

(فَصْلٌ)
وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ عَلَى الرَّاهِنِ الْيَمِينَ فَنَكَلَ عَنْهَا وَجَبَ رَدُّهَا وَفِيمَنْ تُرَدُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تُرَدُّ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْأَرْشَ صَائِرٌ إِلَيْهِ. فَإِنْ حَلَفَ ثَبَتَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ وَأُخْرِجَ عَنِ الرَّهْنِ لِيُبَاعَ فِي الْأَرْشِ عَلَى مَا مَضَى. وَإِنْ نَكَلَ كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِحَالِهِ وَلَا مُطَالَبَةَ لَهُ عَلَى الرَّاهِنِ بِالْأَرْشِ عَلَى مَا مَضَى لِأَنَّهُ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ بِيَمِينِهِ لَوْ حَلَفَ فَإِنْ خَرَجَ الْعَبْدُ مِنَ الرَّهْنِ وَعَادَ إِلَى الرَّاهِنِ وَجَبَ تَسْلِيمُهُ إِلَيْهِ لِيَسْتَوْفِيَ أَرْشَ جِنَايَتِهِ مِنْهُ. وَإِنْ بِيعَ فِي الرَّهْنِ وَلَمْ يَعُدْ إِلَى الرَّاهِنِ بَطَلَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْيَمِينَ تُرَدُّ عَلَى الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ نُكُولَ الرَّاهِنِ يُوجِبُ نَقْلَ الْيَمِينِ مِنْ جِهَتِهِ إِلَى جِهَةِ مَنْ فِي مُقَابَلَتِهِ فَلَمْ يَجُزْ رَدُّهَا إِلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مِنْ جِهَتِهِ فَوَجَبَ رَدُّهَا عَلَى الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَتِهِ. فَعَلَى هَذَا إِنْ حَلَفَ المرتهن حلف على العام لِأَنَّ يَمِينَهُ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ الْغَيْرِ وَكَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا فِي يَدِهِ.

(6/98)


وَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَلَى الرَّاهِنِ أَرْشَ جِنَايَتِهِ أَمْ لَا. عَلَى قَوْلَيْنِ نَذْكُرُ تَوْجِيهَهُمَا فِيمَا بَعْدُ.
وَإِنْ نَكَلَ الْمُرْتَهِنُ عَنِ الْيَمِينِ فَهَلْ تُرَدُّ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَمْ لَا. عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ القولين في رُجُوعِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَلَى الرَّاهِنِ عِنْدَ يَمِينِ الْمُرْتَهِنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمَجْنِيِّ عليه. وهذا على القول الذي يقول إن لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الرُّجُوعَ عَلَى الرَّاهِنِ لَوْ حَلَفَ الْمُرْتَهِنُ لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَمْ يَبْطُلْ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَوَجَبَ إِذَا نَكَلَ أَلَّا تُرَدَّ الْيَمِينُ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْعَبْدُ رَهْنًا بِحَالِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْيَمِينَ تُرَدُّ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ. وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ أَنْ لَيْسَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الرَّاهِنِ لَوْ حَلَفَ الْمُرْتَهِنُ لِأَنَّ فِي يَمِينِ الْمُرْتَهِنِ إِسْقَاطًا لِحَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَوَجَبَ إِذَا نَكَلَ عَنْهَا أَنْ تُرَدَّ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ.
فَعَلَى هَذَا إِنْ حَلَفَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ثَبَتَ أَرْشُ جِنَايَتِهِ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ وَأُخْرِجَ الْعَبْدُ مِنَ الرَّهْنِ لِيُبَاعَ فِي الْأَرْشِ. وَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِحَالِهِ عَلَى مَا مَضَى. فَهَذَا جُمْلَةُ التَّفْرِيعِ إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ.

(فَصْلٌ)
وَإِذَا قُلْنَا إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَيَمِينُهُ عَلَى الْعِلْمِ لِأَنَّهَا عَلَى نَفْيِ فِعْلِ الْغَيْرِ وَإِنَّمَا لَزِمَتْهُ الْيَمِينُ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ بَعْدَ إِنْكَارِهِ قَبْلَ رجوعه فاحتاج إلى يمين يرتدع بها لجواز أَنْ يَرْجِعَ عَنْهَا. فَإِنْ حَلَفَ كَانَ الْعَبْدُ رهنا في يديه ولا اعتراض فيه هل للمجني عَلَيْهِ، وَهَلْ عَلَى الرَّاهِنِ غُرْمُ الْجِنَايَةِ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَمْ لَا. عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا غُرْمَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا عَلِمَهُ مِنَ الْجِنَايَةِ وَإِقْرَارُهُ بِجِنَايَةِ غَيْرِهِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ غُرْمَ جِنَايَتِهِ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو فِيهِ مِنْ صِدْقٍ أَوْ كَذِبٍ فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ صَادِقًا وَجَبَ انْتِزَاعُ الْعَبْدِ الْجَانِي مِنَ الْمُرْتَهِنِ وَعَلَى هَذَا إِنْ عَادَ الْعَبْدُ إِلَى الرَّاهِنِ إِمَّا بِفَكَاكٍ أَوْ بيع فابتاعه أو ورثه أَوِ اسْتَوْهَبَهُ ثَبَتَتِ الْجِنَايَةُ فِي رَقَبَتِهِ لِإِقْرَارِ الرَّاهِنِ بِهَا وَبِيعَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الرَّاهِنُ مِنْهَا وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الرَّاهِنُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِ غُرْمُ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ بِالرَّهْنِ قَدْ حَالَ بَيْنَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَبَيْنَهُ، وَأَتْلَفَ عَلَيْهِ حَقَّهُ. فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ غُرْمُ الْأَرْشِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ قَتَلَهُ فإن كان موسرا بها في الحال أو غرم وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا أُنْظِرَ إِلَى أَنْ يُوسِرَ ثُمَّ يُغَرَّمُ.
فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ مِثْلَ قِيمَتِهِ فَمَا دُونَ غُرِّمَ جَمِيعَهَا وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ أَكَثُرَ مِنْ قِيمَتِهِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ:

(6/99)


أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ غُرْمُ جَمِيعِهَا. وَإِنْ زَادَتْ عَلَى قِيمَتِهِ أَضْعَافًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِ غُرْمُ قِيمَتِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ غُرْمُ الزِّيَادَةِ. فَيَكُونُ غَارِمًا لِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ جِنَايَتِهِ.
وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ كَمَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَفْدِيَهُ مِنْ جِنَايَتِهِ وَهُوَ غَيْرُ مَرْهُونٍ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَغْرَمُ قِيمَتَهُ وَلَا يُلْزَمُ غُرْمَ الزِّيَادَةِ قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَفْدِيَهُ وَهُوَ غَيْرُ مَرْهُونٍ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَرْهُونٍ أُمْكِنَ بَيْعُهُ وَهَهُنَا لَا يُمْكِنُ بَيْعُهُ فَصَارَ مُتْلِفًا لَهُ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ غُرْمُ الزِّيَادَةِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَزِمَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ أَرْشُ جِنَايَتِهِ كَمَا يَفْدِي أُمَّ وَلَدِهِ وَإِذَا غَرِمَ أَرْشَ الْجِنَايَةِ ثُمَّ عَادَ الْعَبْدُ إِلَيْهِ فَلَا حَقَّ فِيهِ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ. فَهَذَا حُكْمُهُ إِذَا حَلَفَ الْمُرْتَهِنُ.

(فَصْلٌ)
فَإِنْ نَكَلَ الْمُرْتَهِنُ عَنِ الْيَمِينِ وَجَبَ رَدُّهَا وَفِيمَنْ تُرَدُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهَا تُرَدُّ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ. وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ: إِنَّ الْمُرْتَهِنَ لَوْ حَلَفَ لَمْ يَغْرَمِ الرَّاهِنُ شَيْئًا فَلَا مَعْنَى لِرَدِّهَا عَلَى الرَّاهِنِ لِأَنَّهُ لَا يَدْفَعُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ شَيْئًا وَرُدَّتْ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ بِهَا حَقَّ نَفْسِهِ فَعَلَى هَذَا إِنْ حَلَفَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ثَبَتَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ وَبِيعَ فِيهَا، إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الرَّاهِنُ مِنْهَا.
وَإِنْ نَكَلَ فَلَا شَيْءَ لَهُ فِي الْحَالِّ وَلَا مُطَالَبَةَ لَهُ عَلَى الرَّاهِنِ بِالْأَرْشِ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ بِيَمِينِهِ لَوْ حَلَفَ فَإِنْ عَادَ الْعَبْدُ إِلَى الرَّاهِنِ لَزِمَهُ حِينَئِذٍ تَسْلِيمُهُ إِلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِيُبَاعَ فِي الْجِنَايَةِ أَوْ يفديه الراهن منها. وإن لم يجد إِلَيْهِ وَبِيعَ فِي الرَّهْنِ سَقَطَ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْيَمِينَ تُرَدُّ عَلَى الرَّاهِنِ. وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّ الْمُرْتَهِنَ لَوْ حَلَفَ كَانَ عَلَى الرَّاهِنِ أَرْشُ الْجِنَايَةِ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ بِيَمِينِهِ عَنْ نَفْسِهِ مَا يَلْزَمُهُ بِإِقْرَارِهِ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْأَرْشِ. فَعَلَى هَذَا إِنْ حَلَفَ خَرَجَ الْعَبْدُ مِنَ الرَّهْنِ وَبِيعَ فِي الْجِنَايَةِ إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الرَّاهِنُ مِنْهَا.
وَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ فَهَلْ تُرَدُّ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْمُفْلِسِ أَوِ الْوَرَثَةِ إِذَا امْتَنَعُوا مِنَ الْيَمِينِ هَلْ تُرَدُّ عَلَى الْغُرَمَاءِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ مَنْصُوصَيْنِ. فَكَذَلِكَ رَدُّ الْيَمِينِ. عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مُخَرَّجٌ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ. فَإِنْ حَلَفَ ثَبَتَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ وَبِيعَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الرَّاهِنُ مِنْهَا. وَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ فَلَا مُطَالَبَةَ لَهُ عَلَى الرَّاهِنِ بِعِوَضِ الْأَرْشِ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ بِيَمِينِهِ. فَإِنْ عَادَ الْعَبْدُ إِلَى الرَّاهِنِ لَزِمَهُ تَسْلِيمُهُ إِلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِيُبَاعَ فِي الْجِنَايَةِ

(6/100)


إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الرَّاهِنُ مِنْهَا وَإِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَى الرَّاهِنِ، وَبِيعَ فِي الرَّهْنِ سَقَطَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تُرَدُّ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ. فَعَلَى هَذَا هَلْ يَرْجِعُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَلَى الرَّاهِنِ فَيُغْرِمُهُ أَرْشَ الْجِنَايَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُلْزِمُهُ غُرْمَ أَرْشِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ اعْتِبَارِهَا بِقِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُتْلَفًا عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَلُزِمَ أَرْشَ الْجِنَايَةِ بِرَهْنِهِ وَنُكُولِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُلْزِمُهُ غُرْمَ أَرْشِهَا وَتَكُونُ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ. فَإِذَا عَادَ إِلَى الرَّاهِنِ بِيعَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ السَّيِّدُ فَإِنْ لَمْ يَعُدْ سَقَطَتْ مُطَالَبَتُهُ بِأَرْشِهَا فَهَذَا جُمْلَةُ التَّفْرِيعِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ إِذَا أَقَرَّ الرَّاهِنُ أَنَّهُ جَنَى وأنكر المرتهن.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا إِذَا أَقَرَّ الرَّاهِنُ أَنَّهُ مَغْصُوبٌ وَأَنْكَرَ الْمُرْتَهِنُ فَعَلَى قَوْلَيْنِ مَنْصُوصَيْنِ:
وَلَوْ أَقَرَّ الرَّاهِنُ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ وَأَنْكَرَ الْمُرْتَهِنُ فَعَلَى قَوْلَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ، فَتَصِيرُ الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ فِي الْإِقْرَارِ بِالْجِنَايَةِ وَالْغَصْبِ وَالْعِتْقِ عَلَى قَوْلَيْنِ عَلَى مَا مَضَى من التفريع عليهما.
(فَصْلٌ)
فَأَمَّا إِذَا آجَرَهُ ثُمَّ أَقَرَّ الْمُؤْجِرُ بِجِنَايَتِهِ وَأَنْكَرَ الْمُسْتَأْجِرُ فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُؤْجِرِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ بَيْعَهُ فِي الْجِنَايَةِ لَا يُبْطِلُ الْإِجَارَةَ بِخِلَافِ الرَّهْنِ. فَلَمْ يَكُنْ لِإِنْكَارِ الْمُسْتَأْجِرِ تَأْثِيرٌ فِي عَقْدِهِ. وَكَذَلِكَ لَوِ ادَّعَى الْمُؤْجِرُ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ كَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا وَالْإِجَارَةُ بِحَالِهَا وَهَلْ لِلْعَبْدِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى سَيِّدِهِ بِأُجْرَةِ الْمُدَّةِ الْبَاقِيَةِ مِنَ الْإِجَارَةِ بَعْدَ عِتْقِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ يَأْتِي مَوْضِعُ تَوْجِيهِهِمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَكِنْ لَوْ أَقَرَّ الْمُؤْجِرُ أَنَّهُ مَغْصُوبٌ وَأَنْكَرَ الْمُسْتَأْجِرُ كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ، لأن إقراره لوضع لأبطل الإجارة فصار كإقراره بجناية المرهون ويغصبه فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ.
(فَصْلٌ)
فَأَمَّا إِذَا بَاعَهُ ثُمَّ أَقَرَّ الْبَائِعُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ جَنَى أَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ أَوْ أَنَّهُ مَغْصُوبٌ وَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُ الْبَائِعِ قَوْلًا وَاحِدًا وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي وَكَذَلِكَ لَوْ كَاتَبَهُ ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ جَنَى أَوْ غَصَبَ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ قَوْلًا وَاحِدًا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْكِتَابَةِ حَيْثُ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ قَوْلًا وَاحِدًا وَبَيْنَ الرَّهْنِ حَيْثُ قُبِلَ إِقْرَارُهُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.
أَنَّ إِقْرَارَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ وَالْكِتَابَةِ إِقْرَارٌ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ فَلَمْ يَنْفُذْ إِقْرَارُهُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَإِقْرَارُهُ بَعْدَ الرَّهْنِ إِقْرَارٌ فِي مِلْكِهِ. فَجَازَ أَنْ يَنْفُذَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.
(فَصْلٌ)
فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اخْتَارَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُرْتَهِنِ، وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ وَاخْتَارَ أَنَّ عَلَى الرَّاهِنِ غَرَامَةَ الْأَرْشِ وَهَذَا أَيْضًا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ إِلَّا أَنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا ضَعِيفٌ وَالْآخَرُ غَيْرُ صحيح.

(6/101)


فَأَمَّا الضَّعِيفُ فَهُوَ أَنْ قَالَ: لِأَنَّهُ وَالْعُلَمَاءَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِمَا يَضُرُّهُ قبل إقراره وَمَنْ أَقَرَّ بِمَا يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ إِقْرَارُهُ عَلَى غَيْرِهِ وَمَنْ أَتْلَفَ شَيْئًا لِغَيْرِهِ فِيهِ حَقٌّ فَهُوَ ضَامِنٌ بِعُدْوَانِهِ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ فِي إِقْرَارِهِ إِضْرَارًا بِنَفْسِهِ فقيل إضرارا بِغَيْرِهِ فَلَمْ يُقْبَلْ.
فَيُقَالُ لِلْمُزَنِيِّ: لَيْسَ يُمْتَنَعُ قَبُولُ إِقْرَارِ مَنْ أَضَرَّ بِنَفْسِهِ. وَإِنْ كَانَ فيه إقرارا بِغَيْرِهِ إِذَا لَمْ تَلْحَقْهُ تُهْمَةٌ فِي إِقْرَارِهِ. . أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِجِنَايَةِ عَمْدٍ قُبِلَ إِقْرَارُهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ إِضْرَارٌ بِسَيِّدِهِ، لِأَنَّ التُّهْمَةَ لَا تَلْحَقُهُ فِي إِقْرَارِهِ.
كَذَلِكَ الرَّاهِنُ وَإِنْ أَقَرَّ بِمَا فِيهِ إِضْرَارٌ بِالْمُرْتَهِنِ قُبِلَ إِقْرَارُهُ لِأَنَّ التُّهْمَةَ لَا تَلْحَقُهُ فِي إِقْرَارِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ أَتْلَفَ شَيْئًا لِغَيْرِهِ فِيهِ حَقٌّ فَهُوَ ضَامِنٌ لِعُدْوَانِهِ. فَيُقَالُ لَهُ لَيْسَ مِنَ الرَّاهِنِ إِتْلَافٌ لِمَا فِيهِ حَقٌّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ الْجَانِي وَهُوَ بَاقٍ لَمْ يَنْقُلْهُ الرَّاهِنُ وَإِنَّمَا وَقَعَ عَلَيْهِ عَقْدٌ مَعَ بَقَاءِ الرَّقَبَةِ وَوُجُودِ الْعَيْنِ.
وَأَمَّا مَا اسْتُدِلَّ بِهِ مِمَّا هُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ فَهُوَ أَنْ قَالَ:
وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْمَعْنَى: وَلَوْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ لَمْ يَضُرَّ الْمُرْتَهِنَ. فَيُقَالُ لَهُ: وَهَذَا أَيْضًا عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْجِنَايَةِ. فَلَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ جَنَى بَعْدَ الرَّهْنِ ثُمَّ بَرِئَ مِنَ الْجِنَايَةِ بِعَفْوٍ أَوْ صُلْحٍ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ عَلَى حَالِهِ رَهْنٌ لِأَنَّ أَصْلَ الرَّهْنِ كَانَ صَحِيحًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا كَانَ الْعَبْدُ مَرْهُونًا فَجَنَى بَعْدَ الرَّهْنِ جِنَايَةً تُوجِبُ الْقَوَدَ أَوِ الْمَالَ فَالرَّهْنُ صَحِيحٌ لَا يَبْطُلُ بِجِنَايَتِهِ الْحَادِثَةِ لِأَنَّ مِلْكَ الرَّاهِنِ لَمْ يَزُلْ بِالْجِنَايَةِ الْحَادِثَةِ فَوَجَبَ أَلَّا يَبْطُلَ عَقْدُ الرَّهْنِ بِالْجِنَايَةِ الْحَادِثَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا بَطَلَ عَقْدُ الرَّهْنِ بِالْجِنَايَةِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ الرَّهْنِ كَمَا بَطَلَ بِالْجِنَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الرَّهْنِ؟ قُلْنَا: اسْتِدَامَةُ الْعَقْدِ أَقْوَى مِنَ ابْتِدَائِهِ فَلِذَلِكَ كَانَ تَقَدُّمُ الْجِنَايَةِ مَانِعًا مِنَ ابْتِدَاءِ الرَّهْنِ لِضَعْفِهِ وَلَمْ يَكُنْ حُدُوثُ الْجِنَايَةِ مَانِعًا مِنَ اسْتِدَامَةِ الرَّهْنِ لِقُوَّتِهِ كَمَا أَنَّ الْعِدَّةَ تَمْنَعُ مِنَ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ وَلَا تَمْنَعُ مِنَ اسْتِدَامَتِهِ.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَبْطُلُ بِحُدُوثِ الْجِنَايَةِ فَقَدْ تَعَلَّقَ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ حَقَّانِ حَقٌّ لِلْمُرْتَهِنِ بِعَقْدِ الرَّهْنِ، وَحَقٌّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِحُدُوثِ الْجِنَايَةِ فَقَدَّمَ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ حَقَّ الْجِنَايَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ لِثَلَاثَةِ معان:

(6/102)


أَحَدُهَا: أَنَّ حَقَّ الْجِنَايَةِ وَجَبَ بِلَا اخْتِيَارٍ وَحَقَّ الْمُرْتَهِنِ وَجَبَ بِاخْتِيَارٍ وَمَا وَجَبَ بِلَا اخْتِيَارٍ أَوْكَدُ مِمَّا وَجَبَ بِاخْتِيَارٍ كَمَا أَنَّ الْمِلْكَ بِالْإِرْثِ أَوْكَدُ مِنَ الْمِلْكِ بِالْبَيْعِ، لِأَنَّ الْإِرْثَ بِلَا اخْتِيَارٍ وَالْبَيْعَ بِاخْتِيَارٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ حَقَّ الْجِنَايَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالرَّقَبَةِ، وَحَقَّ الرَّهْنِ ثَابِتٌ في الذمة.
إِذَا كَانَ الْعَبْدُ مَرْهُونًا فَجَنَى بَعْدَ الرَّهْنِ جِنَايَةً تُوجِبُ الْقَوَدَ أَوِ الْمَالَ فَالرَّهْنُ صَحِيحٌ لَا يَبْطُلُ بِجِنَايَتِهِ الْحَادِثَةِ لِأَنَّ مِلْكَ الرَّاهِنِ لَمْ يَزُلْ بِالْجِنَايَةِ الْحَادِثَةِ فَوَجَبَ أَلَّا يَبْطُلَ عَقْدُ الرَّهْنِ بِالْجِنَايَةِ الْحَادِثَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا بَطَلَ عَقْدُ الرَّهْنِ بِالْجِنَايَةِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ الرَّهْنِ كَمَا بَطَلَ بِالْجِنَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الرَّهْنِ؟ قُلْنَا: اسْتِدَامَةُ الْعَقْدِ أَقْوَى مِنَ ابْتِدَائِهِ فَلِذَلِكَ كَانَ تَقَدُّمُ الْجِنَايَةِ مَانِعًا مِنَ ابْتِدَاءِ الرَّهْنِ لِضَعْفِهِ وَلَمْ يَكُنْ حُدُوثُ الْجِنَايَةِ مَانِعًا مِنَ اسْتِدَامَةِ الرَّهْنِ لِقُوَّتِهِ كَمَا أَنَّ الْعِدَّةَ تَمْنَعُ مِنَ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ وَلَا تَمْنَعُ مِنَ اسْتِدَامَتِهِ.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَبْطُلُ بِحُدُوثِ الْجِنَايَةِ فَقَدْ تَعَلَّقَ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ حَقَّانِ حَقٌّ لِلْمُرْتَهِنِ بِعَقْدِ الرَّهْنِ، وَحَقٌّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِحُدُوثِ الْجِنَايَةِ فَقَدَّمَ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْجِنَايَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ حَقَّ الْجِنَايَةِ وَجَبَ بِلَا اخْتِيَارٍ وَحَقَّ الْمُرْتَهِنِ وَجَبَ بِاخْتِيَارٍ وَمَا وَجَبَ بِلَا اخْتِيَارٍ أَوْكَدُ مِمَّا وَجَبَ بِاخْتِيَارٍ كَمَا أَنَّ الْمِلْكَ بِالْإِرْثِ أَوْكَدُ مِنَ الْمِلْكِ بِالْبَيْعِ لِأَنَّ الْإِرْثَ بِلَا اخْتِيَارٍ وَالْبَيْعَ بِاخْتِيَارٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ حَقَّ الْجِنَايَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالرَّقَبَةِ وَحَقَّ الرَّهْنِ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ وَيَتَعَلَّقُ بِالرَّقَبَةِ فَكَانَ تَقْدِيمُ حَقِّ الْجِنَايَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالرَّقَبَةِ أَوْلَى مِنْ تَقْدِيمِ حَقِّ الرَّهْنِ الثَّابِتِ فِي الذِّمَّةِ مَعَ تَعَلُّقِهِ بِالرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِيفَاءَ الْحَقَّيْنِ وَفِي تَقْدِيمِ حَقِّ الرَّهْنِ إِسْقَاطُ أَحَدِ الْحَقَّيْنِ.
كَمَا أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي طَرَفِهِ وَالْقِصَاصُ فِي نَفْسِهِ يُقَدَّمُ الْقِصَاصَ فِي نَفْسِهِ عَلَى الْقِصَاصِ فِي طَرَفِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِيفَاءَ الْحَقَّيْنِ، وَفِي تَقْدِيمِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ إِسْقَاطُ أَحَدِ الْحَقَّيْنِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا قَوِيَ حَقُّ الْجِنَايَةِ فِي مَنْعِ الرَّهْنِ إِذَا كَانَ حَقُّ الْجِنَايَةِ مُتَقَدِّمًا، قَوِيَ فِي تَقْدِيمِهِ عَلَى حَقِّ الرَّهْنِ إِذَا كَانَ حَقُّ الْجِنَايَةِ مُتَأَخِّرًا لِأَنَّ أقوى الحقين يقدم على أضعفها.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حَقَّ الْجِنَايَةِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى حَقِّ الرَّهْنِ فَإِنْ عَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ سقط حق الجناية وبقي حقه الرَّهْنِ، وَكَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بَعْدَ الْعَفْوِ كَمَا كَانَ رَهْنًا قَبْلَ الْجِنَايَةِ.

(6/103)


وَإِنْ لَمْ يَعْفُ عَنْهَا وَطَالَبَ بِحَقِّهِ فِيهَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْجِنَايَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُوجِبَةً لِلْقَوَدِ أَوْ مُوجِبَةً لِلْمَالِ. فَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ فَإِذَا اقْتَصَّ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي نَفْسِهِ، أَوْ فِي طَرَفِهِ. فَإِنْ كَانَتْ فِي طَرَفِهِ كَانَ رَهْنًا بَعْدَ الْقِصَاصِ كَمَا كَانَ رَهْنًا قَبْلَ الْقِصَاصِ. وَإِنْ كَانَتْ فِي نَفْسِهِ بَطَلَ الرَّهْنُ لِفَوَاتِهِ بَعْدَ الْقِصَاصِ.
وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلْمَالِ فَإِنْ فَدَاهُ الرَّاهِنُ مِنْ مَالِهِ كَانَ رَهْنًا بِحَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يَفْدِهِ مِنْ مَالِهِ بِيعَ فِي الْجِنَايَةِ. فَإِنْ كَانَ أَرْشُهَا مِثْلَ قِيمَتِهِ أَوْ أَكْثَرَ بِيعَ جَمِيعُهُ فَإِذَا بِيعَ فَقَدْ بَطَلَ الرَّهْنُ وَإِنْ كَانَ أَرْشُهَا أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ بِيعَ مِنْهُ بِقَدْرِ الْأَرْشِ وَكَانَ مَا بَقِيَ رَهْنًا إِلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ بَيْعُ بَعْضِهِ فَيُبَاعَ جَمِيعُهُ، وَيَكُونُ مَا فَضَلَ مِنْ ثَمَنِهِ بَعْدَ الْأَرْشِ هُنَا مَكَانَهُ أَوْ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ، وَلَا يَكُونُ لِلْمُرْتَهِنِ خِيَارٌ فِي الْبَيْعِ بِحُدُوثِ ذلك بعد الرهن.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ دَبَّرَهُ ثُمَّ رَهَنَهُ كَانَ الرَّهْنُ مَفْسُوخًا لِأَنَّهُ أَثْبَتَ لَهُ عِتْقًا قَدْ يَقَعُ قَبْلَ حُلُولِ الرَّهْنِ فَلَا يَسْقُطُ الْعِتْقُ وَالرَّهْنُ غَيْرُ جَائِزٍ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي التَّدْبِيرِ إلا بأن يخرجه من ملكه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا التَّدْبِيرُ: فَهُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ لِعَبْدِهِ إِذَا مِتُّ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ بِمَوْتِي، أَوْ أَنْتَ حُرٌّ فِي دُبُرِ حَيَاتِي. فَيُعْتَقُ الْعَبْدُ بِمَوْتِ سَيِّدِهِ، وَيَكُونُ عِتْقُهُ مِنْ ثُلُثِهِ، وَهُوَ قَبْلَ مَوْتِ السَّيِّدِ رَقِيقٌ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْعَبِيدِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي التَّدْبِيرِ فَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَبَعْضِ الْجَدِيدِ: أَنَّ التَّدْبِيرَ يَجْرِي مَجْرَى الْوَصَايَا لِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ مُعْتَبَرَةً فِي الثُّلْثِ فَوَجَبَ أَنْ تَجْرِيَ مَجْرَى الْوَصَايَا كَالْمُوصَى بِعِتْقِهِ. فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِيهِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مَعَ بَقَائِهِ فِي الْمِلْكِ وَمَعَ خُرُوجِهِ مِنْهُ، كَمَا يَصِحُّ أَنْ يُرْجَعَ فِي الْوَصَايَا بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مَعَ بَقَائِهَا فِي الْمِلْكِ وَخُرُوجِهَا مِنْهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّ التَّدْبِيرَ يَجْرِي مَجْرَى الْعِتْقِ بِالصِّفَاتِ لِأَنَّ تَعْلِيقَ عِتْقِهِ بِمَوْتِهِ كَتَعْلِيقِ عِتْقِهِ بِمَوْتِ غَيْرِهِ. فَلَمَّا كَانَ لَوْ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِمَوْتِ غَيْرِهِ فَقَالَ: إِذَا مَاتَ زَيْدٌ فَأَنْتَ حُرٌّ كَانَ عِتْقًا بِصِفَةٍ كَذَلِكَ إِذَا عَلَّقَ عِتْقَهُ بِمَوْتِهِ فَقَالَ: إِذَا مِتُّ فَأَنْتَ حُرٌّ كَانَ عِتْقًا بِصِفَةٍ فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ بِالْقَوْلِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى مِلْكِهِ كَمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْعِتْقِ بِالصِّفَةِ بِالْقَوْلِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى مِلْكِهِ.

(6/104)


(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ فِي التَّدْبِيرِ أَنَّهُ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْوَصِيَّةِ أَوْ مَجْرَى الْعِتْقِ بِالصِّفَةِ فَرَهَنَ الرَّجُلُ مُدَبَّرَهُ فَفِي رَهْنِهِ ثلاثة أقوال:
أحدهما: أَنَّ رَهْنَهُ بَاطِلٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّهُ عِتْقٌ بِصِفَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ بِمَوْتِ السَّيِّدِ فَتَبْطُلُ الْوَثِيقَةُ بِهِ فَلَمْ يَصِحَّ رَهْنُهُ. -
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ رَهْنَهُ جَائِزٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّهُ وَصِيَّةٌ أَوْ عِتْقٌ بِصِفَةٍ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَطْرَأَ عليه التدبير فَيَكُونُ الرَّهْنُ صَحِيحًا لِجَوَازِ بَيْعِهِ جَازَ أَنْ يَطْرَأَ الرَّهْنُ عَلَى التَّدْبِيرِ فَيَكُونُ الرَّهْنُ جَائِزًا لِجَوَازِ بَيْعِهِ وَلَيْسَ مَا يَطْرَأُ مِنْ جَوَازِ أَنْ يُعْتَقَ بِمَوْتِ السَّيِّدِ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ بِمَانِعٍ مِنْ صِحَّةِ الرَّهْنِ كَمَا أَنَّ الْحَيَوَانَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ وذلك بمانع مِنْ صِحَّةِ الرَّهْنِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ رَهْنَهُ جَائِزٌ إِذَا قِيلَ إِنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ وَبَاطِلٌ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ عَتَقَ بِصِفَةٍ وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقَاوِيلِ لِأَنَّ الرَّهْنَ رُجُوعٌ عَنِ التَّدْبِيرِ مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ وَالرُّجُوعُ عَنِ التَّدْبِيرِ مَعَ بَقَاءِ الملك ويجوز إِذَا قِيلَ إِنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ وَلَا يَجُوزُ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ عِتْقٌ بِصِفَةٍ فَلِذَلِكَ جَازَ رَهْنُهُ إِذَا قِيلَ إِنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ وَلَا يَجُوزُ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ عِتْقٌ بِصِفَةٍ.
وَلِأَصْحَابِنَا فِي تَرْتِيبِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ طُرُقٌ مُضْطَرِبَةٌ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ أَصَحُّهَا.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ فِي حُكْمِ رَهْنِهِ فَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ رَهْنَهُ بَاطِلٌ فَالتَّدْبِيرُ بِحَالِهِ بَاقٍ. وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ رَهْنَهُ صَحِيحٌ فَهَلْ يَبْطُلُ التَّدْبِيرَ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّدْبِيرَ قَدْ بَطَلَ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يَبْطُلُ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي.
فَإِذَا قُلْنَا إِنَّ التَّدْبِيرَ قَدْ بَطَلَ فَهُوَ رَهْنٌ يُبَاعُ فِيهِ وَإِنِ افْتَكَّهُ الرَّاهِنُ لَمْ يَعُدِ التَّدْبِيرُ وَإِنْ مَاتَ الرَّاهِنُ لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ إِذَا بَطَلَ ارْتَفَعَ حُكْمُهُ. وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ التَّدْبِيرَ لَا يَبْطُلُ، فَإِنِ افْتَكَّهُ الرَّاهِنُ بِأَدَاءِ الْحَقِّ خَرَجَ مِنَ الرَّهْنِ كَانَ مُدَبَّرًا بِعِتْقٍ بِمَوْتِ سَيِّدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَفْتَكَّهُ بِيعَ فِي الرَّهْنِ لِأَنَّ بَيْعَ الْمُدَبَّرِ جَائِزٌ عَلَى مَذْهَبِنَا فَإِذَا بِيعَ زَالَ عَنْهُ حُكْمُ التَّدْبِيرِ فَإِنْ مَلَكَهُ الرَّاهِنُ فِيمَا بَعْدُ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ فَهَلْ يَعُودُ إِلَى التَّدْبِيرِ أَمْ لَا. عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْأيْمَانِ بِالصِّفَاتِ فِي الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ إِذَا وَقَعَتْ فِي عَقْدٍ هَلْ يَقَعُ الْحِنْثُ بِهَا فِي عَقْدٍ ثَانٍ أَمْ لَا.
فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَفْتَكَّهُ الرَّاهِنُ وَلَا بِيعَ فِي الرَّهْنِ حَتَّى مَاتَ الرَّاهِنُ، فَإِنْ خَلَّفَ وَفَاءً لِقَضَاءِ الْحَقِّ عَتَقَ الْمُدَبَّرُ إِذَا كَانَ خَارِجًا مِنَ الثُّلُثِ فَإِنْ لَمْ يُخْلِفْ وَفَاءً لِقَضَاءِ الْحَقِّ بِيعَ فِي الحق،

(6/105)


لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعِتْقِ بِالتَّدْبِيرِ، لأن مَحَلَّ التَّدْبِيرِ فِي الثُّلُثِ وَالدَّيْنُ مِنْ رَأْسِ المال وبما وَجَبَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَحَقُّ بِالتَّقْدِيمِ مِمَّا وَجَبَ فِي الثُّلُثِ.
فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِجَمِيعِ قِيمَتِهِ بِيعَ جَمِيعُهُ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ وَلَمْ يُعْتَقْ شَيْءٌ مِنْهُ بِالتَّدْبِيرِ. وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ بِيعَ مِنْهُ بِقَدْرِ الدَّيْنِ وَعَتَقَ مِنَ الْبَاقِي بِالتَّدْبِيرِ قَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا إِذَا رَهَنَ عَبْدًا غَيْرَ مُدَبَّرٍ، ثُمَّ دَبَّرَهُ صَحَّ تَدْبِيرُهُ وَلَمْ يَبْطُلْ رَهْنُهُ، وَكَانَ حُكْمُهُ عَلَى مَا ذُكِرَ آنِفًا إِذَا دَبَّرَهُ ثُمَّ رَهَنَهُ صَحَّ رَهْنُهُ وَلَمْ يَبْطُلْ تَدْبِيرُهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَ تَدْبِيرُ الْمَرْهُونِ بَاطِلًا كَمَا كَانَ عِتْقُهُ فِي بَعْضِ الْأَقَاوِيلِ بَاطِلًا؟ قِيلَ: لِأَنَّ الْعِتْقَ إِزَالَةُ مِلْكٍ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ، وَلَيْسَ التَّدْبِيرُ إِزَالَةَ مِلْكٍ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَ التَّدْبِيرُ إِذَا طَرَأَ عَلَى الرَّهْنِ مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الرَّهْنِ، كَمَا لَوْ كَانَ التَّدْبِيرُ مُتَقَدِّمًا مُنِعَ فِي بَعْضِ الْأَقَاوِيلِ مِنْ صِحَّةِ الرَّهْنِ؟
قِيلَ: لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الرَّهْنِ أَقْوَى مِنَ ابْتِدَائِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ جِنَايَةَ الْمَرْهُونِ إِذَا طَرَأَتْ عَلَى الرَّهْنِ لَمْ تَمْنَعْ صِحَّةَ الرَّهْنِ وَلَوْ تَقَدَّمَتْ عَلَى الرَّهْنِ مَنَعَتْ مِنْ صِحَّةِ الرَّهْنِ.
(فَصْلٌ)
فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اخْتَارَ أَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ، وَاخْتَارَ أَنَّ الرَّهْنَ مُبْطِلٌ لِلتَّدْبِيرِ كَمَا كَانَ مُبْطِلًا لِلْوَصِيَّةِ.
فَأَمَّا مَا اخْتَارَهُ مِنْ أَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ وَلَيْسَ بِعِتْقٍ بِصِفَةٍ، فَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بِمَسْأَلَتَيْنِ لَيْسَ لَهُ فِيهِمَا دَلِيلٌ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ قَالَ: قَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَلَوْ قَالَ لِمُدَبَّرِهِ: إِنْ أَدَّيْتَ كَذَا بَعْدَ مَوْتِي فَأَنْتَ حُرٌّ أَنَّهُ رُجُوعٌ فِي التَّدْبِيرِ. وَلَا دَلِيلَ لِلْمُزَنِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ. فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّ التَّدْبِيرَ عِتْقٌ بِصِفَةٍ، فَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ رُجُوعًا عَنِ التَّدْبِيرِ.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ قَالَ: قَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: ولو وجب الْمُدَبَّرُ وَلَمْ يَقْبِضْهُ أَنَّهُ رُجُوعٌ فِي التَّدْبِيرِ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْهِبَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ تَكُونُ رُجُوعًا فِي التَّدْبِيرِ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ: إِنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ: إِنَّ التَّدْبِيرَ عِتْقٌ بِصِفَةٍ فَلَا يَكُونُ رُجُوعًا فِي التَّدْبِيرِ.
فَعَلَى هَذَا لَا دَلِيلَ لِلْمُزَنِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ دَلِيلٌ فِي تِلْكَ.

(6/106)


وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ يَكُونُ رُجُوعًا فِي التَّدْبِيرِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ أَوْ عِتْقٌ بِصِفَةٍ.
فَعَلَى هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ الرَّهْنِ وَالْهِبَةِ: أَنَّ الْهِبَةَ تُزِيلُ الْمِلْكَ بَعْدَ الْقَبْضِ وَهِيَ أَحَدُ مُوَجِبَيْ زَوَالِ الْمِلْكِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالرَّهْنُ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ وَلَا هُوَ أَحَدُ مُوَجِبَيْ مَا يُزِيلُ الْمِلْكَ فَلِذَلِكَ كَانَتِ الْهِبَةُ رُجُوعًا وَإِنْ لَمْ يُقْبَضْ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا بِخِلَافِ الرَّهْنِ.
فَأَمَّا مَا اخْتَارَهُ مِنْ أَنَّ الرَّهْنَ مُبْطِلٌ لِلتَّدْبِيرِ كَمَا كَانَ مُبْطِلًا لِلْوَصِيَّةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ:
أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّ التَّدْبِيرَ عِتْقٌ بِصِفَةٍ فَلَا يَكُونُ الرَّهْنُ رُجُوعًا عَنِ التَّدْبِيرِ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عَقْدِ الرَّهْنِ إِذَا تَجَدَّدَ هَلْ يُبْطِلُ التَّدْبِيرَ وَالْوَصِيَّةَ أَمْ لَا. عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ يُبْطِلُ التَّدْبِيرَ وَالْوَصِيَّةَ جَمِيعًا لِأَنَّهُمَا يَبْطُلَانِ بِالْقَوْلِ مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ، وَالرَّهْنُ كَالْقَوْلِ فِي الرُّجُوعِ. فَعَلَى هَذَا قَدْ صَحَّ لِلْمُزَنِيِّ الْمَذْهَبُ وَسَلِمَ لَهُ الدَّلِيلُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لَا يُبْطِلُ التَّدْبِيرَ وَلَا الْوَصِيَّةَ جَمِيعًا لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الرُّجُوعِ وَلَا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الرجوع. وإنما صارت رقبته وَثِيقَةً بِحَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ رُجُوعًا كَمَا لَمْ تَكُنْ جِنَايَةُ الْعَبْدِ رُجُوعًا. فَعَلَى هَذَا لَمْ يَصِحَّ لِلْمُزَنِيِّ الْمَذْهَبُ وَلَا سَلِمَ لَهُ الدَّلِيلُ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الرَّهْنَ يَكُونُ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ وَلَا يَكُونُ رُجُوعًا فِي التَّدْبِيرِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ التَّدْبِيرَ أَقْوَى مِنَ الْوَصِيَّةِ وَإِنْ جَرَى مَجْرَى الْوَصِيَّةِ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ عَطِيَّةٌ تَقَعُ بِالْمَوْتِ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى قَبُولٍ فَقَوِيَ حُكْمُهَا وَلَمْ تَبْطُلْ بِالرَّهْنِ وَالْوَصِيَّةُ لَا تُمَلَكُ إِلَّا بِالْقَبُولِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَكَانَتْ أَضْعَفَ مِنَ التَّدْبِيرِ فَبَطَلَتْ بِالرَّهْنِ. فَعَلَى هَذَا قَدْ صَحَّ لِلْمُزَنِيِّ الْمَذْهَبُ وَلَمْ يسلم له الدليل.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ لَهُ إِنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حر ثم رهنه كان هكذا (قال المزني) قلت أنا وقد (قال الشافعي) إن التدبير وصية فلو أوصى به ثم رهنه أما كان جائزا؟ فكذلك التدبير في أصل قوله وقد قال في الكتاب الجديد آخر ما سمعناه منه ولو قال في المدبر إِنْ أَدَّى بَعْدَ مَوْتِي كَذَا فَهُوَ حُرٌّ أَوْ وَهَبَهُ هِبَةَ بَتَاتٍ قُبِضَ أَوْ لَمْ يقبض ورجع فهذا رجوع في التدبير هذا نص قوله (قال المزني) قلت أنا فقد أبطل تدبيره بغير إخراج له من ملكه كما لو أوصى برقبته وإذا رهنه فد أوجب للمرتهن حقا فيه فهو أولى برقبته منه وليس

(6/107)


لسيده بيعه للحق الذي عقده فيه فكيف يبطل التدبير بقوله إن أدى كذا فهو حر أو وهبه ولم يقبضه الموهوب له حتى رجع في هبته وملكه فيه بحاله ولا حق فيه لغيره ولا يبطل تدبيره بأن يخرجه من يده إلى يد من هو أحق برقبته منه وبيعه وقبض ثمنه في دينه ومنع سيده من بيعه فهذا أقيس بقوله وقد شرحت لك في كتاب المدبر فتفهمه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي رَهْنِ الْمُدَبَّرِ. فَأَمَّا رَهْنُ الْمُعْتَقِ بِصِفَةٍ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِحُلُولِ الْحَقِّ قَبْلَ وجود الصفة. وهو أن يقول إذا أهل رَمَضَانُ فَأَنْتَ حُرٌّ وَيَكُونُ حُلُولُ الْحَقِّ فِي شَعْبَانَ. فَهَذَا رَهْنٌ جَائِزٌ لِسَلَامَتِهِ إِلَى حُلُولِ الْحَقِّ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حُلُولُ الْحَقِّ بَعْدَ وُجُودِ الصِّفَةِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: إِذَا أَهَّلَ شَعْبَانُ فَأَنْتَ حُرٌّ، وَيَكُونُ حُلُولُ الْحَقِّ فِي رَمَضَانَ فَهَذَا رَهْنٌ بَاطِلٌ لِخُرُوجِهِ بِالْعِتْقِ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ حُلُولُ الْحَقِّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ وُجُودِ الصِّفَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ وُجُودِ الصِّفَةِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتَ حُرٌّ، فَيَجُوزُ أَنْ يَقْدَمَ زَيْدٌ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ وَيَجُوزُ أَنْ يَقْدَمَ بَعْدَ حُلُولِ الْحَقِّ. فَفِي جَوَازِ رَهْنِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ حَالَتَيْنِ يَصِحُّ الرَّهْنُ فِي إِحْدَاهُمَا وَلَا يَصِحُّ فِي الْأُخْرَى فَشَابَهَ بَيْعَ الْغَرَرِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ رَهْنُهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ سَلَامَتُهُ وَإِنْ جَازَ عِتْقُهُ، كَمَا كَانَ الْأَصْلُ حَيَاتَهُ وَإِنْ جَازَ مَوْتُهُ. فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ تَجْوِيزُ مَوْتِهِ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ رَهْنِهِ لَمْ يَكُنْ تَجْوِيزُ عِتْقِهِ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ رَهْنِهِ.
فَعَلَى هَذَا إِذَا صَحَّ رَهْنُهُ ثُمَّ وُجِدَتِ الصِّفَةُ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ كَانَ كَالْمُدَبَّرِ إِذَا مَاتَ السَّيِّدُ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ فَيَكُونُ عَلَى مَا مضى.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَهَنَهُ عَصِيرًا حُلْوًا كَانَ جَائِزًا فَإِنْ حَالَ إِلَى أَنْ يَصِيرَ خَلًّا أَوْ مُرًّا أَوْ شَيْئًا لَا يُسْكِرُ كَثِيرُهُ فَالرَّهْنُ بِحَالِهِ فَإِنْ حَالَ الْعَصِيرُ إِلَى أَنْ يُسْكِرَ فَالرَّهْنُ مَفْسُوخٌ لِأَنَّهُ صَارَ حَرَامًا لَا يَحِلُّ بَيْعُهُ كَمَا لَوْ رَهَنَهُ عَبْدًا فَمَاتَ الْعَبْدُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
رَهْنُ الْعَصِيرِ الْحُلْوِ جَائِزٌ لِأَنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ رَهْنَهُ جَائِزٌ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:

(6/108)


إِمَّا أَنْ يَبْقَى عَلَى حَالِهِ عَصِيرًا حُلْوًا، أَوْ يَنْقَلِبَ عَنْ كَوْنِهِ عَصِيرًا حُلْوًا فَإِنْ بَقِيَ عَلَى حَالِهِ عَصِيرًا بِيعَ فِي الْحَقِّ عِنْدَ حُلُولِهِ، وَكَانَ حُكْمُهُ فِي الرَّهْنِ كَحُكْمِ غَيْرِهِ.
وَإِنِ انْقَلَبَ عَنْ كَوْنِهِ عَصِيرًا حُلْوًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَنْقَلِبُ إِلَى مَالٍ فَيَصِيرُ خَلًّا أَوْ مُزًّا أَوْ مُزَِيًّا أَوْ مَا لَا يُسْكِرُ فَهُوَ رَهْنٌ بِحَالِهِ. لِأَنَّ انْقِلَابَ الرَّهْنِ مِنْ مَالٍ إِلَى مَالٍ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ كَالْعَبْدِ الْمَرْهُونِ إِذَا قُتِلَ وَجَبَ عَلَى الْقَاتِلِ قِيمَتُهُ وَكَانَتْ رَهْنًا مَكَانَهُ وَلَا يَبْطُلُ بِالْقَتْلِ لِأَنَّهُ انْقَلَبَ الرَّهْنُ مَنْ مَالٍ إِلَى مَالٍ.
كَذَلِكَ الْعَصِيرُ إِذَا انْقَلَبَ خَلًّا، فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَصِيرُ الْعَصِيرُ مُزَيًّا قِيلَ: قَدْ رُوِيَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَلَمْ يُرْوَ فِي أَكْثَرِهَا. وَالَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَإِنْ صَارَ مُزًّا وَقَدْ يَصِحُّ أَنْ يَصِيرَ مُزَيًّا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَصِيرَ الشَّعِيرِ فَيَصِحُّ انْقِلَابُهُ مُزَيًّا أَوْ يَكُونَ عَصِيرَ الْعِنَبِ فَيُطْرَحُ فيه دقيق الشعير فينقلب مزيا.

(فصل)
والثاني: أَنْ يَنْقَلِبَ الْعَصِيرُ خَمْرًا فَيَبْطُلُ الرَّهْنُ. لِأَنَّ انْقِلَابَ الرَّهْنِ إِلَى غَيْرِ مَالٍ يُوجِبُ بُطْلَانَ الرَّهْنِ كَالْعَبْدِ الْمَرْهُونِ إِذَا مَاتَ وَجَبَ بُطْلَانُ الرَّهْنِ كَذَلِكَ هَهُنَا. وَلِأَنَّ حَقَّ الْمِلْكِ أَوْكَدُ مِنْ حَقِّ الرَّهْنِ فَلَمَّا كَانَ انْقِلَابُهُ خَمْرًا يُبْطِلُ الْمِلْكَ فَأَوْلَى أَنْ يُبْطِلَ الرَّهْنَ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الرَّهْنَ فِيهِ قَدْ بَطَلَ بِانْقِلَابِهِ خَمْرًا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ رَهْنَهُ بَطَلَ فِي الْحَالِ الَّتِي صَارَ فِيهَا خَمْرًا، وَقَدْ كَانَ الْعَقْدُ وَقَعَ عَلَيْهِ صَحِيحًا.
وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ: إِنَّ انْقِلَابَهُ خَمْرًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَيْهِ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ ظُهُورَهُ في الزمان الثاني دليل على ابتدائه بالقدح فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ غَلَطٌ؛ لِأَنَّ رَهْنَ الْعَصِيرِ جَائِزٌ وَبَعْدَ انْقِلَابِهِ خَمْرًا بَاطِلٌ، كَمَا أَنَّ رَهْنَ الْعَبْدِ جَائِزٌ وَبَعْدَ مَوْتِهِ بَاطِلٌ وَلَا يُوجِبُ بُطْلَانُهُ الْإِذْنَ بِالْمَوْتِ بُطْلَانَهُ وَقْتَ عَقْدِهِ كَذَلِكَ هَهُنَا.
وَلَوْ كَانَ مَا قَالَهُ ابْنُ خَيْرَانَ مِنْ أَنَّ ظُهُورَهُ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي دَلِيلٌ عَلَى ابْتِدَائِهِ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ فِي إِبْطَالِ الرَّهْنِ لَوَجَبَ إِذَا بِيعَ الْعَصِيرُ فَانْقَلَبَ خَمْرًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي أَنْ يُبْطِلَ الْبَيْعَ وَيُوجِبَ اسْتِرْجَاعَ الثَّمَنِ وَمَا أَحَدٌ يَقُولُ بِهَذَا فَدَلَّ عَلَى فَسَادِهِ.
(فَصْلٌ)
وَفَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخَمْرَ إِذَا عَادَ بِنَفْسِهِ فَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ يَعُودُ إِلَى الرَّهْنِ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ. وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ خَيْرَانَ يَعُودُ إِلَى الرَّهْنِ لِفَسَادِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ كَانَ رَهْنُهُ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ لَمْ يَبْطُلِ الْبَيْعُ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَلَمْ يَكُنْ

(6/109)


لِلْمُرْتَهِنِ فِي فَسْخِهِ خِيَارٌ لِصِحَّةِ رَهْنِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ وَحُدُوثُ فَسَادِهِ كَمَوْتِ الْعَبْدِ وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ خَيْرَانَ فِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ.
وَالثَّانِي: جَائِزٌ وَلَهُ الْخِيَارُ كَمَا لَوْ كان خمرا وقت العقد.

(مسألة)
قَالَ الشَّافِعِيُّ: رَحِمَهُ اللَّهُ " فَإِنْ صَارَ الْعَصِيرُ خَمْرًا ثُمَّ صَارَ خَلًّا مِنْ غَيْرِ صَنْعَةِ آدَمِيٍّ فَهُوَ رَهْنٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
إِذَا رَهَنَ عَصِيرًا حُلْوًا ثُمَّ صَارَ الْعَصِيرُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ خَمْرًا ثُمَّ انْقَلَبَ الْخَمْرُ فِي يَدِهِ فَصَارَ خَلًّا مِنْ غَيْرِ صَنْعَةٍ وَلَا عِلَاجٍ فَقَدْ حَلَّ ذَلِكَ وَعَادَ إِلَى الرَّهْنِ بِالْعَقْدِ السَّابِقِ.
وَحُكِيَ عَنْ أبي حنيفة أَنَّهُ لَا يَعُودُ إِلَى الرَّهْنِ إِلَّا بِعَقْدٍ مُسْتَأْنَفٍ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الرَّهْنَ قَدْ بَطَلَ بِاسْتِحَالَتِهِ خَمْرًا، فَلَمْ يَعُدْ إِلَى الرَّهْنِ بِاسْتِحَالَتِهِ خَلًّا لِأَنَّ الْعَقْدَ إِذَا بَطَلَ لَمْ يَعُدْ إِلَى الصِّحَّةِ فِيمَا بَعْدُ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْعُقُودِ لَا تَصِحُّ بَعْدَ بُطْلَانِهَا وَلِأَنَّ رَهْنَ الْعَصِيرِ بَطَلَ بِاسْتِحَالَتِهِ خَمْرًا كَمَا يَبْطُلُ رَهْنُ الشَّاةِ بِالْمَوْتِ وَتُطَهَّرُ الْخَمْرُ بِاسْتِحَالَتِهَا خَلًّا كَمَا يُطَهَّرُ جِلْدُ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغِ فَلَمَّا كَانَ جِلْدُ الشَّاةِ الْمَرْهُونَةِ إِذَا دُبِغَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَعُودُ إِلَى الرَّهْنِ إِلَّا بِاسْتِئْنَافِ عَقْدٍ لِبُطْلَانِهِ مِنْ قَبْلُ.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ بُطْلَانَ الرَّهْنِ إِنَّمَا كَانَ لِبُطْلَانِ الْمِلْكِ فَوَجَبَ أَنْ يَعُودَ إِلَى الرَّهْنِ بِعَوْدِهِ إِلَى الْمِلْكِ لِأَنَّ وُجُودَ الْمِلْكِ سَبَبٌ لِصِحَّةِ الرَّهْنِ كَمَا أَنَّ عَدَمَ الْمِلْكِ سَبَبٌ لِبُطْلَانِ الرَّهْنِ وَلِأَنَّ مَنْ مَلَكَ شَيْئًا مَلَكَهُ بِحُقُوقِهِ كَالْوَرَثَةِ إِذَا مَلَكُوا الرَّهْنَ مَلَكُوهُ بِحُقُوقِهِ مَرْهُونًا كَذَلِكَ إِذَا مَلَكَ الرَّاهِنُ الْخَمْرَ بِاسْتِحَالَتِهِ خَلًّا وَجَبَ أَنْ يَمْلِكَهُ بِحُقُوقِهِ مَرْهُونًا وَلِأَنَّ اسْتِحَالَةَ الْعَصِيرِ خَمْرًا تُوجِبُ إِتْلَافَهُ بِالْإِرَاقَةِ كَمَا أَنَّ ارْتِدَادَ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ يُوجِبُ إِتْلَافَهُ بِالْقَتْلِ.
فَلَمَّا كَانَ زَوَالُ مَا بِهِ يُوجِبُ إِتْلَافَ الْمُرْتَدِّ مُوجِبًا لِاسْتِقْرَارِ الرَّهْنِ وَهُوَ أَنْ يَعُودَ فَلَمَّا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ زَوَالُ مَا بِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِتْلَافُ الْخَمْرِ مُوجِبًا لِاسْتِقْرَارِ الرَّهْنِ وَهُوَ أَنْ يَسْتَحِيلَ خَلًّا وَلِأَنَّهُ يَعُودُ إِلَى الْمِلْكِ إِذَا اسْتَحَالَ خَلًّا بِسَبَبٍ سَابِقٍ لَا بِسَبَبٍ حَادِثٍ.
أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ رَجُلًا مَاتَ وَتَرَكَ خَمْرًا فَاسْتَحَالَ بَعْدَ مَوْتِهِ خَلًّا لَوَجَبَ أَنْ تُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ وَتُنَفَّذَ مِنْهُ وَصَايَاهُ، فَلَوْ عَادَ إِلَى الْمِلْكِ بِسَبَبٍ حَادِثٍ لَاخْتَصَّ بِهِ الْوَرَثَةُ وَلَمْ يَلْزَمْهُمْ قَضَاءُ دُيُونِهِ مِنْهُ وَلَا إِنْفَاذُ وَصَايَاهُ وَإِذَا عَادَ إِلَى الْمِلْكِ بِسَبَبٍ سَابِقٍ وَجَبَ أَنْ يَعُودَ إِلَى الرَّهْنِ لِكَوْنِهِ رَهْنًا فِي السَّابِقِ.

(6/110)


7
- فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ الرَّهْنَ إِذَا بَطَلَ لَمْ يَصِحَّ بِسَبَبٍ يَحْدُثُ فِيمَا بَعْدُ كَالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ فَهُوَ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا جَازَ عَوْدُهُ إِلَى الْمِلْكِ بَعْدَ بُطْلَانِهِ وَإِنْ خَالَفَ سَائِرَ الْأَمْلَاكِ جَازَ عَوْدُهُ إِلَى الرَّهْنِ بَعْدَ بُطْلَانِهِ وَإِنْ خَالَفَ سَائِرَ الْعُقُودِ عَلَى أَنَّ بُطْلَانَ الرَّهْنِ لَا يَكُونُ مُنْبَرِمًا بِاسْتِحَالَتِهِ خَمْرًا وَإِنَّمَا يَكُونُ مُرَاعًى، فَإِنْ صَارَ خَلًّا بَانَ أَنَّ الرَّهْنَ لَمْ يَبْطُلْ، وَإِنْ لَمْ يَصِرْ خَلًّا بَانَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ بَطَلَ كَمَا نَقُولُ فِي ارْتِدَادِ الزَّوْجَةِ: إِنَّ النِّكَاحَ مُرَاعًى. فَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَ الْعِدَّةَ بَانَ أَنَّ النِّكَاحَ قَدْ كَانَ بَاطِلًا بِالرِّدَّةِ وَإِنْ أَسْلَمَتْ قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ بَانَ أَنَّ النِّكَاحَ لَمْ يَبْطُلْ بِالرِّدَّةِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِجِلْدِ الشَّاةِ الْمَرْهُونَةِ إِذَا دُبِغَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ الْجِلْدَ يَعُودُ إِلَى الرَّهْنِ بِالدِّبَاغَةِ كَمَا يَعُودُ الْخَمْرُ إِذَا صَارَ خَلًّا بِالِاسْتِحَالَةِ فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ السُّؤَالُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهُ لَا يَعُودُ إِلَى الرَّهْنِ بِالدِّبَاغَةِ وَإِنْ عَادَ الْعَصِيرُ بِالِاسْتِحَالَةِ.
فَعَلَى هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْجِلْدَ لَمَّا لَمْ يَعُدْ إِلَى الْمِلْكِ إِلَّا بِفِعْلٍ حَادِثٍ لَمْ يَعُدْ إِلَى الرَّهْنِ إِلَّا بِعَقْدٍ حَادِثٍ وَلَمَّا عَادَ الْخَمْرُ إِلَى الْمِلْكِ إِذَا اسْتَحَالَ خَلًّا بِغَيْرِ فِعْلٍ حَادِثٍ عَادَ إِلَى الرَّهْنِ بِغَيْرِ عَقْدٍ حَادِثٍ.

(فَصْلٌ)
إِذَا أَخَذَ رَجُلٌ خَمْرًا لِغَيْرِهِ بِغَصْبٍ أَوْ غَيْرِهِ فَاسْتَحَالَ خَلًّا فِي يَدِهِ كَانَ مِلْكًا لِلْأَوَّلِ دُونَ مَنِ اسْتَحَالَ فِي يَدِهِ لِأَنَّ الْخَمْرَ غَيْرُ مُقَرٍّ فِي يَدِهِ إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ تُقَرَّ الْيَدُ عَلَى الْخَمْرِ فَصَارَ اسْتِحَالَتُهَا فِي يَدِهِ كَاسْتِحَالَتِهَا خَلًّا فِي غَيْرِ يَدِهِ وَإِذَا اسْتَحَالَ خَلًّا فِي غَيْرِ يَدِهِ كَانَ الْمَالِكُ الْأَوَّلُ أَوْلَى بِهِ كَذَلِكَ وَإِنِ اسْتَحَالَ فِي يَدِهِ.
(فَصْلٌ)
إِذَا أَخَذَ رَجُلٌ جِلْدَ مَيْتَةٍ بِغَصْبٍ أَوْ غَيْرِهِ فَدَبَغَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِرَبِّهِ الْأَوَّلِ دُونَ الدَّابِغِ كَالْخَمْرِ إِذَا اسْتَحَالَتْ خَلًّا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهُ يَكُونُ مِلْكًا لِلدَّابِغِ وَلَا يَكُونُ مِلْكًا لِرَبِّهِ الْأَوَّلِ بِخِلَافِ الْخَمْرِ لِأَنَّهُ لَا يُمْلَكُ إِلَّا بِإِحْدَاثِ فِعْلٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِمَنْ وُجِدَ مِنْهُ الْفِعْلُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ اسْتِحَالَةُ الْخَمْرِ لِأَنَّهُ مُلِكَ بِغَيْرِ إِحْدَاثِ فعل. وعلى هذين الوجهين يبني عود للجلد المدبوغ إلى الرهن.

(6/111)


(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ صَارَ خَلًّا بِصَنْعَةِ آدَمِيٍّ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ حَلَالًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
لَا يَحِلُّ تَخْلِيلُ الْخَمْرِ، فَإِنْ خَلَّلَهَا بِخَلٍّ أَوْ مِلْحٍ أَلْقَاهُ فِيهَا فَهِيَ نَجِسَةٌ لَا يَحِلُّ شُرْبُهَا لَكِنْ لَا يَفْسُقُ مُسْتَحِلُّهَا، وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهَا.
وَقَالَ أبو حنيفة تَخْلِيلُ الْخَمْرِ جَائِزٌ وَهِيَ بِالتَّخْلِيلِ طَاهِرَةٌ وَشُرْبُهَا مُبَاحٌ اسْتِدْلَالًا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نعم الإدام الخل ولم يفرق بما رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: يُحِلُّ الدِّبَاغُ الْجِلْدَ كَمَا يُحِلُّ الْخَلُّ الْخَمْرَ. وَهَذَا نَصٌّ فِي تَحْلِيلِهَا وَإِبَاحَةِ تَخْلِيلِهَا وَلِأَنَّهَا عَيْنٌ نَجَسَتْ لِعَارِضٍ فَجَازَ أَنْ تُطَهَّرَ بِفِعْلِ الْآدَمِيِّ. أَصْلُهُ: جِلْدُ الْمَيْتَةِ حَيْثُ يُطَهَّرُ بِالدِّبَاغِ، وَالثَّوْبُ النَّجِسُ حَيْثُ يُطَهَّرُ بِالْغَسْلِ. وَلِأَنَّ مَا جَازَ أَنْ يُطَهَّرَ بِغَيْرِ فِعْلٍ آدَمِيٍّ جَازَ أَنْ يُطَهَّرَ بِفِعْلِ الْآدَمِيِّ كَالْبَيْضِ الْمَحْضُونِ إِذَا نَجُسَ بِأَنْ صَارَ دَمًا وَعَلَقَةً لَمَّا جَازَ أَنْ يُطَهَّرَ فَيَصِيرَ فَرْخًا بِغَيْرِ فِعْلٍ آدَمِيٍّ إِمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ بِخَاصِّيَّةٍ جَازَ أَنْ يُطَهَّرَ بِفِعْلِ الْآدَمِيِّ كَذَلِكَ الْخَمْرُ لَمَّا جَازَ أَنْ تُطَهَّرَ بِاسْتِحَالَتِهَا خَلًّا مِنْ غَيْرِ فِعْلِ آدَمِيٍّ جَازَ أَنْ تُطَهَّرَ إِذَا خُلِّلَتْ بِفِعْلِ الْآدَمِيِّ.
قَالُوا: وَلِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا ثَبَتَ لِعِلَّةٍ زَالَ بِزَوَالِهَا فَلَمَّا كَانَ تَنْجِيسُهَا وَتَحْرِيمُهَا عِنْدَكُمْ بِحُدُوثِ الشِّدَّةِ فِيهَا وَعِنْدَنَا لِانْطِلَاقِ اسْمِ الْخَمْرِ عليها وكان تخليلها يزيل الشدة منها وبنقل اسْمَ الْخَمْرِ عَنْهَا وَجَبَ أَنْ يُزِيلَ تَنْجِيسَهَا وَتَحْرِيمَهَا.
قَالُوا: وَلِأَنَّ مِنْ حُكْمِهَا مَعَ تَنْجِيسِهَا وَتَحْرِيمِهَا تَفْسِيقُ مُتَنَاوِلِهَا وَوُجُوبُ الْحَدِّ عَلَى شَارِبِهَا، فَلَمَّا كَانَ تَخْلِيلُهَا مَانِعًا مِنْ تَفْسِيقِ مُتَنَاوِلِهَا، وَمُسْقِطًا لِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى شَارِبِهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ رَافِعًا لِتَنْجِيسِهَا وَتَحْرِيمِهَا.
وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهُ أَحَدُ حُكْمَيِ الْخَمْرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَرْتَفِعَ بِالتَّخْلِيلِ كَالْحَدِّ.
قَالُوا: وَلِأَنَّ التَّخْلِيلَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
تَخْلِيلٌ بِطَرْحِ شَيْءٍ فِيهَا وَتَخْلِيلٌ بِنَقْلِهَا وَتَحْوِيلِهَا فَلَمَّا كَانَ تَخْلِيلُهَا بِنَقْلِهَا مِنَ الظِّلِّ إِلَى الشَّمْسِ وَتَعْرِيضِهَا لِلْحَرِّ وَالرِّيحِ رَافِعًا لِتَنْجِيسِهَا وَتَحْرِيمِهَا مُوجِبًا لِتَطْهِيرِهَا وَتَحْلِيلِهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَخْلِيلُهَا بِطَرْحِ شَيْءٍ فِيهَا رَافِعًا لِتَنْجِيسِهَا وَتَحْرِيمِهَا مُوجِبًا لتطهيرها وتحليلها.

(6/112)


وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ التَّخْلِيلِ، فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ بِهِ التَّطْهِيرُ وَالتَّخْلِيلُ كَالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مَا رَوَى أنس بن مالك (رضي الله عنه) أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عِنْدِي خَمْرًا لِأَيْتَامٍ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَهْرِقْهَا. قَالَ: أَفَلَا أَجْعَلُهَا خَلًّا؟ قَالَ: لَا. قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَعَمَدْتُ إِلَى مِهْرَاسٍ عِنْدَنَا فَكَسَرْتُهَا فَأَرَقْتُهَا. وَمِنْ هَذَا الْخَبَرِ دَلِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَنَعَهُ مِنْ تَخْلِيلِهَا، وَلَوْ كَانَ تَخْلِيلُهَا سَبَبًا لِطَهَارَتِهَا وَإِبَاحَتِهَا لَأَمَرَ بِهِ وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ، كَمَا أَنَّ الدِّبَاغَةَ لَمَّا كَانَتْ سَبَبًا لِطَهَارَةِ الْجِلْدِ أَمَرَ بِهِ فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ حَيْثُ رَآهَا مَيْتَةً وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَ بِإِرَاقَتِهَا مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهَا مَالُ يَتِيمٍ وَأَمْوَالُ الْيَتَامَى تَجِبُ حِرَاسَتُهَا. فَلَوْ كَانَ التَّخْلِيلُ سَبَبًا لِطَهَارَتِهَا وَإِبَاحَتِهَا لَأَمَرَ بِهِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِإِرَاقَتِهَا.
وَرُوِيَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ تَخْلِيلِ الْخَمْرِ وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَفَسَادَهُ.
وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَهُوَ مَا رَوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَنْتَفِعُوا بِخَمْرٍ أَفْسَدْتُمُوهَا حَتَّى يَقْلِبَ اللَّهُ عَيْنَهَا.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَشْتَرُوا الْخَلَّ مِنَ الْخَمَّارِ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ قَدْ خَلَّلَهَا.
فَهَذَا قَوْلُ صَحَابِيَّيْنِ وَلَيْسَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَعْنَى: أَنَّهُ مَائِعٌ نَجِسٌ لَا يُطَهَّرُ بِالْمُكَاثَرَةِ فَوَجَبَ أَلَّا يُطَهَّرَ بِالْعِلَاجِ وَالصَّنْعَةِ ... أَصْلُهُ: مَا سِوَى الْخَمْرِ مِنَ الْمَائِعَاتِ النَّجِسَةِ.
وَلِأَنَّ مَا اسْتُبِيحَ مِنَ الْأَمْوَالِ بِغَيْرِ فِعْلٍ لَمْ يُسْتَبَحْ بِالْمَحْظُورِ مِنَ الْفِعْلِ، كَالْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ لَمَّا كَانَ يُسْتَبَاحُ بِالْمَوْتِ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ الْوَارِثِ لَمْ يُسْتَبَحْ بِقَتْلِ الْوَارِثِ كَذَلِكَ الْخَمْرُ لَمَّا اسْتُبِيحَتْ بِاسْتِحَالَتِهَا خَلًّا مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ مَحْظُورٍ لَمْ تُسْتَبَحْ بِانْقِلَابِهَا خَلًّا بِفِعْلٍ مَحْظُورٍ.
وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ وَتَنْجِيسَهَا لِحُدُوثِ الشِّدَّةِ الْمُطْرِيَةِ فِيهَا وَالشِّدَّةُ قَدْ تَزُولُ تَارَةً بِإِلْقَاءِ

(6/113)


الْعَسَلِ فِيهَا فَتَحْلُو، وَتَارَةً بِإِلْقَاءِ الْخَلِّ فِيهَا فَتَحَمُضُ فَلَمَّا كَانَ زَوَالُ الشِّدَّةِ إِذَا حَلَتْ بِإِلْقَاءِ الْعَسَلِ فِيهَا لَا يُوجِبُ إِبَاحَتَهَا وَتَطْهِيرَهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ زَوَالُ الشِّدَّةِ إِذَا حَمُضَتْ بِإِلْقَاءِ الْخَلِّ فِيهَا لَا يُوجِبُ إِبَاحَتَهَا وَتَطْهِيرَهَا وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا:
أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ فِعْلٍ تَزُولُ بِهِ الشِّدَّةُ فَوَجَبَ أَلَّا تَقَعَ بِهِ الْإِبَاحَةُ كَزَوَالِهَا بِالْحَلَاوَةِ.
وَكَانَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ يَعْتَمِدُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَنَّ الْخَلَّ إِذَا أُلْقِيَ فِي الْخَمْرِ فَقَدْ نَجُسَ بِمُلَاقَاةِ الْخَمْرِ فَلَا يُطَهَّرُ بِانْقِلَابِهَا خَلًّا لِنَجَاسَةِ مَا أُلْقِيَ فِيهَا مِنَ الْخَلِّ كَمَا لَوْ كَانَ الْخَلُّ نَجِسًا مِنْ قَبْلُ وَيَزْعُمُ أَنَّ هَذَا فِقْهُ الْمَسْأَلَةِ وَأَقْوَى دَلَائِلِهَا وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَا دليل في المسألة أو رهن مِنْهُ لِظُهُورِ فَسَادِهِ بِكُلِّ مَا تَقَعُ الطَّهَارَةُ بِهِ لِأَنَّ الْمَاءَ وَهُوَ أَقْوَى الْأَشْيَاءِ فِي التَّطْهِيرِ يُنَجَّسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ إِذَا وَرَدَ عَلَيْهَا وَلَا يَمْنَعُ مِنْ إِزَالَتِهَا وَطَهَارَةِ مَحَلِّهَا. وَالْأَحْجَارُ تُنَجَّسُ فِي الِاسْتِنْجَاءِ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ فِي مَحَلِّهَا وَلَا تَمْنَعُ إِزَالَةَ حُكْمِهَا.
وَالشَّثُّ وَالْقَرْظُ فِي الدِّبَاغِ يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ تَطْهِيرِهِ وَلَوْ كَانَ هَذَا كُلُّهُ نَجِسًا قَبْلَ الْمُلَاقَاةِ لَمْ تَقَعْ بِهِ الطَّهَارَةُ فَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْخَلِّ كَذَلِكَ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ " نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ " فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ " نِعْمَ " لَفْظُ تَفْضِيلٍ وَتَشْرِيفٍ، وَمَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِي إِبَاحَتِهِ لَا يَسْتَحِقُّ التَّفْضِيلَ وَالتَّشْرِيفَ وَتَخْلِيلُ الْخَمْرِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي عُمُومِ لَفْظٍ يُنَافِيهِ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ قُصِدَ بِهِ إِبَاحَةُ الْجِنْسِ وَالْجِنْسُ مُبَاحٌ فَلَمْ يَجُزْ إِذَا اخْتُلِفَ فِي تَنْجِيسِ الْبَعْضِ لِمَعْنًى أَنْ يُجْعَلَ دَلِيلًا فِيهِ كَمَا لَا يُجْعَلُ دَلِيلًا فِي طَهَارَةِ مَا طَرَأَتْ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: يُحِلُّ الدِّبَاغُ الْجِلْدَ كَمَا يُحِلُّ الْخَلُّ الْخَمْرَ مَعَ ضَعْفِهِ فَإِنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ الْخَلَّ الَّذِي قَدِ اسْتَحَالَتْ إِلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ خَلًّا أُلْقِيَ فِيهَا ... فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْأَوَّلِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى هَذَا لِأَنَّ بِإِلْقَاءِ الْخَلِّ فِيهَا لَا تَطْهُرُ إِجْمَاعًا حَتَّى تَسْتَحِيلَ مَعَ ذَلِكَ خَلًّا وَهَذِهِ زِيَادَةٌ فِي الطَّهَارَةِ فَكَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الدِّبَاغِ فِي جِلْدِ الْمَيْتَةِ فَبَاطِلٌ بِلَحْمِ الْمَيْتَةِ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى طَهَارَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ نَجَاسَتُهُ لِعَارِضٍ. ثُمَّ الْمَعْنَى فِي دِبَاغِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ أَنَّهُ يُسْتَبَاحُ بِفِعْلٍ غَيْرِ مَحْظُورٍ فَجَازَ أَنْ يُطَهَّرَ بِهِ وَلَمَّا كَانَ التَّخْلِيلُ مَحْظُورًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَهَّرَ بِهِ.

(6/114)


وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْبَيْضِ إِذَا صَارَ دَمًا وَعَلَقَةً فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْبَيْضِ إِذَا صَارَ كَذَلِكَ هَلْ هُوَ نَجِسٌ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي عَلَقَةِ الْآدَمِيِّ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ طَاهِرٌ. فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ الدَّلِيلُ بِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ نَجِسٌ. فَعَلَى هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْضِ وَبَيْنَ الْخَمْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفِعْلَ فِي الْبَيْضِ غَيْرُ مَحْظُورٍ فَجَازَ أَنْ يُطَهَّرَ بِهِ وَفِي الْخَمْرِ مَحْظُورٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَهَّرَ بِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا هُوَ نَجِسٌ مِنَ الْبَيْضِ لَمْ يَحْدُثْ فِيهِ فِعْلٌ وَإِنَّمَا كَانَ فِي غَيْرِهِ فَجَازَ أَنْ يُطَهَّرَ بِهِ كَمَا يُطَهَّرُ الْخَمْرُ بِالِاسْتِحَالَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْخَمْرُ النَّجِسُ لِأَنَّ فِعْلَ التَّخْلِيلِ حَادِثٌ فِيهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَهَّرَ بِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْعِلَّةَ إِذَا زَالَتْ وَجَبَ زَوَالُ حُكْمِهَا فَالْجَوَابُ: أَنَّ نَجَاسَةَ الْخَمْرِ قَدْ زَالَتْ وَإِنَّمَا بَقِيَ نَجَاسَةُ الْخَلِّ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ على سقوط الحد وزوال التفسيق فيقال بموجبه لأن نجاسة الخمر قد زالت وإنما بقيت نجاسة أخرى وهي نَجَاسَةُ الْخَلِّ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى تَحْلِيلِهَا بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ مِنَ الظِّلِّ إِلَى الشَّمْسِ أَوْ بِتَعْرِيضِهَا لِلْهَوَاءِ وَالرِّيحِ. أَوْ بِكَشْفِ رُؤُوسِهَا حَتَّى أَطَارَتِ الرِّيحُ الْمِلْحَ فِيهَا فَهَلْ تَكُونُ طَاهِرَةً كَمَا لَوِ اسْتَحَالَتْ أَوْ تَكُونُ نَجِسَةً كَمَا لَوْ خُلِّلَتْ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهَا نَجِسَةٌ كَمَا لَوْ خُلِّلَتْ لِأَنَّ تَحْوِيلَهَا وَكَشْفَ رَأَسِهَا سَبَبٌ لِإِتْلَافِهَا وَمَانِعٌ مِنَ اسْتِحَالَتِهَا بِذَاتِهَا وَخَالَفَ الْإِمْسَاكُ لِأَنَّ إِمْسَاكَهَا يُقْصَدُ بِهِ تَعْتِيقُهَا وَاسْتِصْلَاحُهَا وَيُقْصَدُ بِكَشْفِهَا اسْتِهْلَاكُهَا وَإِتْلَافُهَا أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الشَّاعِرِ:
(فَهِيَ لِلْيَوْمِ الَّذِي نَزَلَتْ ... وَهِيَ تِرْبُ الدَّهْرِ فِي الْقِدَمِ)

فَعَلَى هَذَا: سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا طَاهِرَةٌ كَمَا لَوِ اسْتَحَالَتْ بِخِلَافِ التَّخْلِيلِ لِأَنَّ التَّخْلِيلَ إِحْدَاثُ فِعْلٍ فِيهَا فَلَمْ تُطَهَّرْ بِهِ وَلَيْسَ كَشْفُ رُؤُوسِهَا وَتَحْوِيلِهَا إِحْدَاثَ فِعْلٍ فِيهَا فَجَازَ أَنْ تُطَهَّرَ بِهِ.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ رَهَنْتُكَهُ عَصِيرًا ثُمَّ صَارَ فِي يديك خمرا وقال المرتهن رهنتيه خمرا ففيها قولان أحدهما أن القول قول الراهن لأنه يحدث كما يحدث العيب في البيع ومن قال هذا أراق الخمر ولا رهن له والبيع لازم والثاني أن القول

(6/115)


قول المرتهن لأنه لم يقر أنه قبض منه شيئا يحل له ارتهانه بحال وليس كالعيب في العبد الذي يحل ملكه والعيب به والمرتهن بالخيار في فسخ البيع (قلت) أنا هذا عندي أقيس لأن الراهن مدع ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ ارْتَهَنَ عَصِيرًا حُلْوًا شَرَطَهُ فِي مَوْضِعِ عَقْدِ الْبَيْعِ ثُمَّ وَجَدَ الْعَصِيرَ خَمْرًا فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَصِيرَ خَمْرًا فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَقَدْ بَطَلَ فِيهِ الرَّهْنُ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الْبَيْعِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَصِيرَ خَمْرًا فِي يَدِ الرَّاهِنِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ وَيَقْبِضُهُ الْمُرْتَهِنُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ ثُمَّ يَعْلَمُ فَقَدْ بَطَلَ بِهِ الرَّهْنُ وَوَجَبَ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْبَيْعِ بَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ بِلَا رَهْنٍ وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ لِأَنَّ مَا شَرَطَهُ مِنَ الرَّهْنِ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ بِالْقَبْضِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْعَصِيرُ قَدْ صَارَ خَمْرًا قَبْلَ الْعَقْدِ وَلَمْ يَعْلَمَا بِهِ إِلَّا فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ بَعْدَ الْقَبْضِ فَهَذَا رَهْنٌ بَاطِلٌ وَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ لِبُطْلَانِ مَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنَ ارْتِهَانِ الْخَمْرِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: جَائِزٌ لِاسْتِقْلَالِ الْبَيْعِ بِحُكْمِهِ، وَجَوَازِ تَفَرُّدِهِ عَنْ غَيْرِهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْبَائِعُ الْمُرْتَهِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ وبين فسخه فهذا حُكْمُهُ إِذَا لَمْ يَخْتَلِفَا.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَقَالَ الْبَائِعُ الْمُرْتَهِنُ: كَانَ خَمْرًا فِي يَدِكَ أَيُّهَا الرَّاهِنُ فَقَبَضْتُهُ وَأَنَا لَا أَعْلَمُ بِهِ عَلَى الْخِيَارِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي الرَّاهِنُ: قَبَضْتَهُ مِنِّي عَصِيرًا حُلْوًا فَصَارَ فِي يَدِكَ خَمْرًا فَلَا خِيَارَ لَكَ فِي الْبَيْعِ.
فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ أَوْ كَانَ الْحَالُ يَشْهَدُ بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ حُكِمَ لَهُ رَاهِنًا كَانَ أَوْ مُرْتَهِنًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ وَلَا فِي الْحَالِّ بَيَانٌ فَفِيهِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ كَوْنَ الْعَصْرِ خَمْرًا مِثْلُ كَوْنِهِ مَعِيبًا فِي اسْتِحْقَاقِ الْفَسْخِ. ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَوِ ادَّعَى تَقَدُّمَ عَيْبٍ فِي الرَّهْنِ وَأَنْكَرَهُ الرَّاهِنُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ فَكَذَلِكَ إِذَا ادَّعَى الْمُرْتَهِنُ تَقَدُّمَ كَوْنِهِ خَمْرًا وَأَنْكَرَهُ الرَّاهِنُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قول الراهن.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ: إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ المرتهن البائع لأن كون االعصير خَمْرًا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ وَقَوْلُ الْمُرْتَهِنِ: أَقْبَضْتَنِيهِ خَمْرًا إِنْكَارٌ لِصِحَّةِ الْقَبْضِ وَقَوْلُ الرَّاهِنِ أَقْبَضْتُكَهُ عَصِيرًا ادِّعَاءٌ بِصِحَّةِ الْقَبْضِ، وَلَوِ ادَّعَى الرَّاهِنُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ صِحَّةَ الْقَبْضِ وَأَنْكَرَهُ الْمُرْتَهِنُ

(6/116)


كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُرْتَهِنِ. كَذَلِكَ إِذَا ادَّعَى الرَّاهِنُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَنَّهُ صَارَ خَمْرًا بَعْدَ القبض وأنكره المرتهن وكان الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُرْتَهِنِ وَكَانَ هَذَا مُخَالِفًا لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْعَيْبِ لِأَنَّهُمَا فِي الْعَيْبِ قَدِ اتَّفَقَا عَلَى صِحَّةِ الْقَبْضِ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَوْضِعِ الْقَوْلَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِهِمَا: فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: الْقَوْلَانِ فِي اخْتِلَافِهِمَا فِي كَوْنِهِ عَصِيرًا وَقْتَ الْعَقْدِ وَبَعْدَهُ. فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ الْمُرْتَهِنُ أَنَّهُ كَانَ خَمْرًا وَقْتَ الْعَقْدِ وَبَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ صَارَ خَمْرًا بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ فِي أَنَّهُمَا جَمِيعًا عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْقَوْلَانِ فِي اخْتِلَافِهِمَا بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ. فَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا فِي كَوْنِهِ عَصِيرًا وَقْتَ الْعَقْدِ، فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: رَهَنْتَنِيهِ وَكَانَ خَمْرًا وَقْتَ الْعَقْدِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ أَصْلَ الْعَقْدِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا قُلْنَا إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِنْ حَلَفَ ثَبَتَ مَا ادَّعَاهُ وَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي الْبَيْعِ وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَإِنْ حَلَفَ بَعْدَ نُكُولِ الرَّاهِنِ ثَبَتَ لَهُ مَا ادَّعَى فَإِنْ كَانَ قَدِ ادَّعَى أَنَّهُ صَارَ خَمْرًا بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ وَأَنَّهُ قَدْ كَانَ عَصِيرًا وَقْتَ الْعَقْدِ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ وَهُوَ بِالْخِيَارِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ وَإِمْضَائِهِ.
وَإِنْ كَانَ قَدِ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ خَمْرًا وَقْتَ الْعَقْدِ فَفِي الْبَيْعِ إِذَا حَلَفَ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ.
وَالثَّانِي: جَائِزٌ وَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ وَإِمْضَائِهِ فَإِنْ نَكَلَ الْمُرْتَهِنُ أَيْضًا بَعْدَ نُكُولِ الرَّاهِنِ فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الْبَيْعِ.
(فَصْلٌ)
وَإِذَا قُلْنَا إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ فَإِنْ حَلَفَ ثَبَتَ لَهُ مَا ادَّعَى فَإِنْ كَانَ قَدِ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ عَصِيرًا وَقْتَ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا صَارَ خَمْرًا بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا وَلَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ وَإِمْضَائِهِ. وَإِنْ كَانَ قَدِ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ خَمْرًا وَقْتَ الْعَقْدِ فَفِي الْبَيْعِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ.
وَالثَّانِي: جَائِزٌ. وَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ فَسْخِهِ وَإِمْضَائِهِ.
وَإِنْ نَكَلَ الْمُرْتَهِنُ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الرَّاهِنِ. فَإِنْ حَلَفَ الرَّاهِنُ بَعْدَ نُكُولِ الْمُرْتَهِنِ فَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ. وَإِنْ نَكَلَ الرَّاهِنُ أَيْضًا، فَهَلْ يُحْكَمُ بِقَوْلِ الْمُرْتَهِنِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُحْكَمُ لِلْمُرْتَهِنِ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ قَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ بِنُكُولِهِ وَقَوْلُ الْمُرْتَهِنِ يستند

(6/117)


إِلَى صُورَةِ الرَّهْنِ وَصِفَتِهِ. وَلِأَنَّ نُكُولَ الْمُرْتَهِنِ بَعْدَ الرَّاهِنِ يُوجِبُ الْحُكْمَ بِقَوْلِ الرَّاهِنِ فِي إِسْقَاطِ الْخِيَارِ. كَذَلِكَ نُكُولُ الرَّاهِنِ بَعْدَ الْمُرْتَهِنِ يُوجِبُ الْحُكْمَ بِقَوْلِ الْمُرْتَهِنِ فِي إِثْبَاتِ الْخِيَارِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا مَضَى لَوْ حَلَفَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُحْكَمُ لِلْمُرْتَهِنِ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِئْنَافَ حُكْمٍ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَأْنَفَ حُكْمٌ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ نُكُولُ الْمُرْتَهِنِ بَعْدَ الرَّاهِنِ، لِأَنَّ فِيهِ اسْتِدَامَةَ حُكْمٍ فِي إِسْقَاطِ الْخِيَارِ وَلَيْسَ فِيهِ اسْتِئْنَافُ حُكْمٍ فِي إِثْبَاتِ الْخِيَارِ.

(فَصْلٌ)
وَإِذَا صَارَ الْعَصِيرُ خَمْرًا فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَلَمْ يُرِقْهُ حَتَّى صَارَ خَلًّا فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ الرَّاهِنُ: صَارَتْ خَلًّا بِنَفْسِهَا، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: صَارَتْ خَلًّا بِالتَّخْلِيلِ، فَقَدْ بَطَلَ الرَّهْنُ بِدَعْوَى الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنَ الرَّهْنِ خُرُوجًا لَا يَجُوزُ عَوْدُهُ إِلَيْهِ فَكَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا فَيَصِيرُ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ أَنَّهَا اسْتَحَالَتْ خَلًّا بِنَفْسِهَا وَلَهُ بَيْعُهَا وَالتَّفَرُّدُ بِثَمَنِهَا.
وَلَوْ قَالَ الْمُرْتَهِنُ: اسْتَحَالَتْ خَلًّا بِنَفْسِهَا وَقَالَ الرَّاهِنُ: صَارَتْ خَلًّا بِالتَّخْلِيلِ فَفِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ أَنَّهَا اسْتَحَالَتْ بِنَفْسِهَا وَتَكُونُ رَهْنًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ أَنَّهَا صَارَتْ خَلًّا بِالتَّخْلِيلِ وَيَبْطُلُ الرَّهْنُ وَتَحْرُمُ عَلَى الرَّاهِنِ.
وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي إِقْرَارِ الرَّاهِنِ بِجِنَايَةِ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ وَإِنْكَارِ الْمُرْتَهِنِ.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَرْهَنَ الْجَارِيَةَ وَلَهَا وَلَدٌ صَغِيرٌ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَفْرِقَةٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ أَنَّ الْجَارِيَةَ إِذَا كَانَتْ ذَاتَ وَلَدٍ لَا يَجُوزُ أَنْ تُبَاعَ دُونَ وَلَدِهَا وَلَا يُبَاعَ وَلَدُهَا دُونَهَا. فَأَمَّا فِي الرَّهْنِ فَيَجُوزُ أَنْ تُرْهَنَ الْجَارِيَةُ دُونَ وَلَدِهَا وَالْوَلَدُ دُونَهَا لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَنْقُلُ الْمِلْكَ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ حَضَانَةِ الْوَلَدِ وَإِرْضَاعِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبَيْعُ فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ تُرْهَنَ دُونَ وَلَدِهَا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُبَاعَ دُونَ وَلَدِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ عَلَيْهَا يَجْرِي مَجْرَى إِجَارَتِهَا بَلْ هُوَ أَقْرَبُ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ يُوجِبُ حَبْسَ الرَّقَبَةِ وَمِلْكَ الْمَنَافِعِ وَعَقْدُ الرَّهْنِ يُوجِبُ حَبْسَ الرَّقَبَةِ وَلَا يُوجِبُ مِلْكَ الْمَنَافِعِ فَلَمَّا جَازَتْ إِجَارَتُهَا دون ولدها جاز رهنها دون ولدها.

(6/118)


(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ رَهْنِهَا دُونَ وَلَدِهَا فَحَلَّ الْحَقُّ وَهِيَ رَهْنٌ فَإِنْ أَمْكَنَ الرَّاهِنَ قَضَاءُ الْحَقِّ مِنْ مَالِهِ لَمْ تُبَعْ عَلَيْهِ وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ بِيعَتْ فِي الرَّهْنِ حينئذ فهل يَجُوزُ بَيْعُهَا دُونَ وَلَدِهَا أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ بَيْعُهَا دُونَ وَلَدِهَا لِلضَّرُورَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى ذَلِكَ كَمَا تُبَاعُ لَوْ كَانَ وَلَدُهَا حُرًّا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّهَا تُبَاعُ مَعَ وَلَدِهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا رَهَنَهَا دُونَ وَلَدِهَا كَانَ الرَّهْنُ مُفْضِيًا إِلَى بَيْعِهَا وَقَدْ مَنَعَ الشَّرْعُ مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا صَارَ الْعَقْدُ مُوجِبًا لِبَيْعِهِ مَعَهَا.
فَعَلَى هَذَا إِذَا بِيعَا مَعًا قُسِّمَ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَتِهَا وَقِيمَةِ الْوَلَدِ فَمَا قَابَلَهَا مِنَ الثَّمَنِ دُفِعَ إِلَى الْمُرْتَهِنِ وَمَا قَابَلَ الْوَلَدَ دُفِعَ إِلَى الرَّاهِنِ.
وَاعْتِبَارُ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: كَمْ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ وَحْدَهَا إِذَا بِيعَتْ مَعَ الْوَلَدِ فَإِذَا قِيلَ: أَلْفُ دِرْهَمٍ قِيلَ: وَكَمْ قِيمَةُ الْوَلَدِ وَحْدَهُ إِذَا بِيعَ مَعَ أُمِّهِ، فإذا قيل: خمسمائة درهم قسمت الثَّمَنُ أَثْلَاثًا فَدُفِعَ إِلَى الْمُرْتَهِنِ الثُّلُثَيْنِ، وَدُفِعَ إِلَى الرَّاهِنِ الثُّلُثَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ قَسَّمْتُمُ الثَّمَنَ عَلَى قِيمَتِهَا وَحْدَهَا إِذَا بِيعَتْ مَعَ الْوَلَدِ وَقَدْ يَلْحَقُهُ مِنْ ذَلِكَ نَقْصٌ وَهَلَّا قَسَّمْتُمُوهَا عَلَى الثَّمَنِ عَلَى قِيمَتِهَا وَحْدَهَا أَنْ لَوْ بِيعَتْ مُفْرَدَةً بِلَا وَلَدٍ كَمَا لَوْ رَهَنَهُ أَرْضًا بَيْضَاءَ فَحَدَثَ فِيهَا شَجَرٌ فَبِيعَتِ الْأَرْضُ مَعَ الشَّجَرِ قُسِّمَ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ أَنْ لَوْ بِيعَتْ بِغَيْرِ شَجَرٍ؟
قِيلَ: هُمَا سَوَاءٌ فِي الْحُكْمِ لِأَنَّ الشَّجَرَ حَادِثٌ بَعْدَ الرَّهْنِ فَكَانَ الثَّمَنُ مَقْسُومًا عَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ أَنْ لَوْ بِيعَتْ بَيْضَاءَ وَكَذَا لَوْ حَدَثَ الْوَلَدُ بَعْدَ الرَّهْنِ كَانَ الثَّمَنُ مُقَسَّطًا عَلَى قِيمَةِ الْأُمِّ أَنْ لَوْ بِيعَتْ بِغَيْرِ الْوَلَدِ.
وَإِذَا كَانَ الْوَلَدُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الرَّهْنِ كَانَ الثَّمَنُ مَقْسُومًا عَلَى قِيمَةِ الْأُمِّ أَنْ لَوْ بِيعَتْ مَعَ الْوَلَدِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الشَّجَرُ مُتَقَدِّمًا قَبْلَ الرَّهْنِ كَانَ الثَّمَنُ مَقْسُومًا عَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ أَنْ لَوْ بِيعَتْ مَعَ الشَّجَرِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَفَتَجْعَلُونَ لِلْمُرْتَهِنِ الْخِيَارَ إِذَا عَلِمَ بِوَلَدِ الْجَارِيَةِ الْمَرْهُونَةِ قِيلَ: إِنْ عَلِمَ بِهِ قَبْلَ الرَّهْنِ فَلَا خِيَارَ لَهُ وَإِنْ عَلِمَ بِهِ بَعْدَ الرَّهْنِ فَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّهَا تُبَاعُ دُونَ وَلَدِهَا لَا خِيَارَ لَهُ. وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّهَا تُبَاعُ مَعَ وَلَدِهَا فِي خِيَارِهِ وَجْهَانِ:

(6/119)


أَحَدُهُمَا: لَهُ الْخِيَارُ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ النَّقْصِ فِي قِيمَتِهَا إِذَا بِيعَتْ مَعَ الْوَلَدِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا خِيَارَ لَهُ لِأَنَّ بَيْعَهَا مَعَ الْوَلَدِ لَا يُوجِبُ النَّقْصَ يَقِينًا وَقَطْعًا بَلْ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَجِدَ فِي قِيمَتِهَا زِيَادَةً وتوفير.

(مسألة)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوِ ارْتَهَنَ نَخْلًا مُثْمِرًا فَالثَّمَرُ خَارِجٌ مِنَ الرَّهْنِ طَلْعًا كَانَ أَوْ بُسْرًا إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ مَعَ النَّخْلِ لِأَنَّهُ عَيْنٌ تُرَى ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
إذا رَهَنَهُ نَخْلًا مُثْمِرًا لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِطَ دُخُولَ الثَّمَرَةِ فِي الرَّهْنِ فَيَصِحُّ الرَّهْنُ فِيهِمَا مَعًا وَيَكُونَانِ رَهْنَيْنِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِطَ خُرُوجَهَا مِنَ الرَّهْنِ فَيَصِحُّ الرَّهْنُ فِي النَّخْلِ وَتَكُونُ الثَّمَرَةُ خَارِجَةً مِنَ الرَّهْنِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُطْلِقَ الرَّهْنَ فَلَا يَشْتَرِطُ دُخُولَ الثَّمَرَةِ فِي الرَّهْنِ وَلَا خُرُوجَهَا مِنْهُ فَلَا تَخْلُو الثَّمَرَةُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُؤَبَّرَةً أَوْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ. فَإِنْ كَانَتْ مُؤَبَّرَةً فَهِيَ خَارِجَةٌ مِنَ الرَّهْنِ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَكُنِ الثَّمَرَةُ الْمُؤَبَّرَةُ تَابِعَةً لِعَقْدِ الْبَيْعِ مَعَ قُوَّتِهِ فَأَوْلَى أَلَّا تَكُونَ تَابِعَةً لِعَقْدِ الرَّهْنِ مَعَ ضَعْفِهِ.
وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا خَارِجَةٌ مِنَ الرَّهْنِ أَيْضًا وَإِنْ كَانَتْ دَاخِلَةً فِي الْبَيْعِ. . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرَّهْنِ وَالْبَيْعِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْبَيْعَ يُزِيلُ الْمِلْكَ فَدَخَلَتِ الثَّمَرَةُ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلْمِلْكِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرَّهْنُ لِأَنَّهُ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الثَّمَرَةُ الْحَادِثَةُ تَابِعَةً لِلْمَبِيعِ كَانَتِ الْمُتَقَدِّمَةُ كَذَلِكَ وَلَمَّا كَانَتِ الثَّمَرَةُ الْحَادِثَةُ غَيْرَ دَاخِلَةٍ فِي الرَّهْنِ فَأَوْلَى أَنْ تَكُونَ الْمُتَقَدِّمَةُ كَذَلِكَ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ فِي الرَّهْنِ حَقَّيْنِ: حَقُّ الْمِلْكِ لِلرَّاهِنِ وَحَقُّ الْوَثِيقَةِ لِلْمُرْتَهِنِ وَالثَّمَرَةُ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ دُونَ الْوَثِيقَةِ، فَلِذَلِكَ خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ تَبَعًا لِلْمِلْكِ وَلَمْ تَدْخُلْ فِيهِ تَبَعًا لِلْوَثِيقَةِ.
فَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ.
وَفِيهَا تَخْرِيجٌ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ مِنْ مَسَائِلَ نَذْكُرُهَا وَهِيَ قِيمَةُ رَهْنِ شَاةٍ ذَاتِ صُوفٍ هَلْ يَكُونُ الصُّوفُ الَّذِي عَلَى ظَهْرِهَا دَاخِلًا فِي الرَّهْنِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ

(6/120)


أَوْ رَهَنَ شَاةً حَامِلًا، هَلْ يَكُونُ الْحَمْلُ إِذَا وَضَعَتْهُ رَهْنًا مَعَهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. أَوْ رَهَنَ شَاةً فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ هَلْ يَكُونُ اللَّبَنُ إِذَا حُلِبَ مِنْهَا رَهْنًا مَعَهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. فَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ الْحَمْلَ وَالصُّوفَ وَاللَّبَنَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الرَّهْنِ كَالثَّمَرَةِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ. أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الرَّهْنِ. فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْقَوْلِ هَلْ يَصِحُّ تَخْرِيجُهُ فِي الثَّمَرَةِ غَيْرِ الْمُؤَبَّرَةِ حَتَّى تَكُونَ دَاخِلَةً فِي الرَّهْنِ أَمْ لَا؟ فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ يُخَرِّجُ فِيهَا قَوْلًا ثَانِيًا مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي الرَّهْنِ فَيُخْرِجُ الثَّمَرَةَ غَيْرَ الْمُؤَبَّرَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا خَارِجَةٌ مِنَ الرَّهْنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِيهِ كَالصُّوفِ وَالْحَمْلِ وَاللَّبَنِ وَبِهِ قَالَ طَائِفَةٌ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَمْنَعَانِ مِنْ تَخْرِيجِ الثَّمَرَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالصُّوفِ وَالْحَمْلِ وَاللَّبَنِ وَبِهِ قَالَ كَافَّةُ الْبَصْرِيِّينَ. وَتَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ فِي الثَّمَرَةِ دليل على الفرق بينهما لأنه علل للثمرة فِي خُرُوجِهَا مِنَ الرَّهْنِ بِأَنْ قَالَ:
لِأَنَّهَا عَيْنٌ تُرَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحَمْلُ وَاللَّبَنُ. فَأَمَّا الصُّوفُ وَإِنْ كَانَ مَرْئِيًّا فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الشَّاةِ وَأَبْعَاضِهَا فَجَرَى مَجْرَى سَائِرِ أَعْضَائِهَا فِي دُخُولِهِ فِي الرَّهْنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الثَّمَرَةَ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جُمْلَةِ النَّخْلَةِ، وَلَا بَعْضًا مِنْهَا فَلَمْ تَكُنْ دَاخِلَةً فِي الرَّهْنِ مَعَهَا كَالْمُؤَبَّرَةِ.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَا هَلَكَ فِي يَدَيِ الْمُرْتَهِنِ مِنْ رَهْنٍ صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
صَحِيحُ الرَّهْنِ وَفَاسِدُهُ عِنْدَنَا غَيْرُ مَضْمُونٍ وَأَوْجَبَ أبو حنيفة ضَمَانَ صَحِيحِهِ دُونَ فَاسِدِهِ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ عَلَى أَنَّ فَاسِدَ كُلِّ عَقْدٍ فِي حُكْمِ صَحِيحِهِ فِي وُجُوبِ ضَمَانِهِ أَوْ فِي سُقُوطِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ كَالصَّحِيحِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَالشِّرْكِ وَالْمُضَارَبَاتُ الْفَاسِدَةُ كَالصَّحِيحَةِ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ فَكَذَلِكَ الرَّهْنُ.
وَتَحْرِيرُهُ: أَنَّهُ عَقْدٌ فَاسِدٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ صَحِيحُهُ غَيْرَ مَضْمُونٍ كَالْوَدَائِعِ وَالْمُضَارَبَاتِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ فِي سُقُوطِ ضَمَانِهِ فِي بَابٍ يُسْتَوْفَى فِيهِ إن شاء الله.

(6/121)


(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا رَهَنَهُ مَا يَفْسَدُ مِنْ يَوْمِهِ أَوْ غَدِهِ أَوْ مُدَّةٍ قَصِيرَةٍ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ يَابِسًا مِثْلَ الْبَقْلِ وَالْبِطِّيخِ فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ حَالًّا فَجَائِزٌ وَيُبَاعُ وَإِنْ كَانَ إِلَى أَجَلٍ يَفْسَدُ إِلَيْهِ كَرِهْتُهُ وَمَنَعَنِي مِنْ فَسْخِهِ أَنَّ لِلرَّاهِنِ بَيْعَهُ قَبْلَ مَحَلِّ الْحَقِّ عَلَى أَنْ يُعْطَى صَاحِبُ الْحَقِّ حَقَّهُ بِلَا شَرْطٍ فَإِنْ شَرَطَ أَنْ لَا يُبَاعَ إِلَى أَنْ يَحِلَّ الْحَقُّ فَالرَّهْنُ مَفْسُوخٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ الرَّهْنِ أَنَّهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
ضَرْبٌ يَبْقَى وَلَا يَفْسَدُ غَالِبًا كَالثِّيَابِ وَالْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانَاتِ، فَرَهْنُ هَذِهِ جَائِزٌ فِي الْحَالِّ وَالْمُؤَجَّلِ. فَإِنْ حَدَثَ بِهَا مَا يُؤَدِّي إِلَى فَسَادِهَا مِثْلُ عَتٍّ يَأْكُلُ الثَّوْبَ، أَوْ كَسْرٍ يُصِيبُ الْحَيَوَانَ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ، وَلَكِنْ هَلْ يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى بَيْعِهِ قَبْلَ ضِمَادِهِ لِيَكُونَ ثَمَنُهُ رَهْنًا مَكَانَهُ أَوْ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ فِي حَبْسِهِ دُونَ بَيْعِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ لِمَا فِي الْبَيْعِ مِنَ اسْتِيفَاءِ الْوَثِيقَةِ كَمَا يُجْبَرُ عَلَى الْمَعْلُوفَةِ وَالنَّفَقَةِ.

(فَصْلٌ)
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يَفْسَدُ وَلَا يَبْقَى كَالْأَطْعِمَةِ وَالْفَوَاكِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ اسْتِصْلَاحُهُ لِلتَّبْقِيَةِ مُمْكِنًا كَالرُّطَبِ الَّذِي إِنْ جُفِّفَ صَارَ تَمْرًا، وَالْعِنَبِ الَّذِي إِنْ جُفِّفَ صَارَ زَبِيبًا، فَرَهْنُ هَذَا جَائِزٌ فِي الْحَالِّ وَالْمُؤَجَّلِ، لِإِمْكَانِ تَبْقِيَتِهِ بِالتَّجْفِيفِ.
فَإِنِ امْتَنَعَ الرَّاهِنُ مِنْ تَجْفِيفِهِ أُجْبِرَ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ حِفْظِ مِلْكِ الرَّاهِنِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ اسْتِصْلَاحُهُ مَعَ التَّبْقِيَةِ غَيْرَ مُمْكِنٍ كَالْبِطِّيخِ وَالْخِيَارِ وَسَائِرِ الطَّبَائِخِ كَالْهَرِيسَةِ وَغَيْرِهَا فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ حَالًّا كَانَ رَهْنُهُ مِنْهُ جَائِزًا لِوُجُوبِ بَيْعِهِ قَبْلَ فَسَادِهِ. وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مُؤَجَّلًا فَالْأَجَلُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حُلُولُهُ قَبْلَ فَسَادِهِ فَرَهْنُهُ جَائِزٌ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حُلُولُهُ بَعْدَ فَسَادِهِ فَهَذَا عَلَى ضرين:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْتَرِطَا تَبْقِيَةَ الرَّهْنِ إِلَى وَقْتِ حُلُولِهِ فَهَذَا رَهْنٌ بَاطِلٌ لِعِلْمِنَا بِتَلَفِهِ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ.
(فَصْلٌ)
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُطْلِقَا رَهْنَهُ وَلَا يَشْتَرِطَا تَبْقِيَتَهُ فَفِي جَوَازِ رَهْنِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ رَهْنَهُ جَائِزٌ لِأَمْرَيْنِ:

(6/122)


أَحَدُهُمَا: أَنَّ عُرْفَ النَّاسِ فِي رَهْنِ مَا يَفْسَدُ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ أَلَّا يَمْتَنِعُوا مِنْ بَيْعِهِ إِذَا خِيفَ فَسَادُهُ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ فَجَازَ رَهْنُهُ فِي الْمُؤَجَّلِ تَغْلِيبًا لِبَيْعِهِ قَبْلَ فَسَادِهِ عُرْفًا كَمَا جَازَ رَهْنُهُ فِي الْمُعَجَّلِ تَغْلِيبًا لِبَيْعِهِ قَبْلَ فَسَادِهِ حُكْمًا وَتَحْرِيرُهُ: أَنَّ كُلَّ مَا جَازَ رَهْنُهُ فِي الْمُعَجَّلِ جَازَ رَهْنُهُ فِي الْمُؤَجَّلِ كَالَّذِي لَا يَفْسَدُ فِيهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ حُدُوثَ الْفَسَادِ بِمَا لَا يَفْسَدُ جَارٍ مَجْرَى فَسَادِ مَا يَفْسَدُ لِأَنَّهُمَا قَدْ يقضيان إلى التلف. فلما كان لو رهن مالا يَفْسَدُ ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ الْفَسَادُ مِثْلَ كَسْرِ الْحَيَوَانِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ صِحَّةِ الرَّهْنِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَقَدُّمُ الْفَسَادِ فِيمَا يَفْسَدُ غَيْرَ مَانِعٍ مِنْ جَوَازِ الرَّهْنِ.
وَتَحْرِيرُهُ: أَنَّهُ فَسَادٌ لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ فَوَجَبَ أَلَّا يَمْنَعَ مِنْ جَوَازِ الرَّهْنِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْعَقْدِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ رَهْنَهُ بَاطِلٌ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا يُوجِبُهُ الْعَقْدُ إِذَا كَانَ مُطْلَقًا بِمَنْزِلَتِهِ لَوْ شَرَطَ نُطْقًا فَلَمَّا كَانَ شَرْطُ تَبْقِيَتِهِ إِلَى حُلُولِ الْحَقِّ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ رَهْنِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ عَقْدِهِ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ رَهْنِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ أَحْكَامَ الْعُقُودِ مَحْمُولَةٌ عَلَى مُوجِبَاتِ أُصُولِهَا دُونَ مَا يَتَطَوَّعُ بِهِ الْمُتَعَاقِدَانِ فِيهَا وَحَبْسُ الرَّهْنِ إِلَى حُلُولِ الْحَقِّ وَاجِبٌ وَاتِّفَاقُهُمَا عَلَى بَيْعِهِ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ لِأَجْلِ فَسَادِهِ تَطَوُّعٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَطَوُّعِهِمَا بِبَيْعِهِ لِيَصِحَّ الرَّهْنُ وَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى وُجُوبِ إِمْسَاكِهِ إِلَى حُلُولِ الْحَقِّ لِيُفْسِدَ الرَّهْنَ كَمَنْ بَاعَ عَبْدًا آبِقًا أَنْ يَحْمِلَ الْبَيْعَ عَلَى جَوَازِ وَجُودِهِ لِيَصِحَّ الْعَقْدُ وَحَمَلَ عَلَى تَعَذُّرِ وُجُودِهِ وَإِنْ بَطَلَ الْبَيْعُ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا قُلْنَا بِبُطْلَانِ رَهْنِهِ كَانَ فِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ قَوْلَانِ:
وَإِذَا قُلْنَا بِجَوَازِ رَهْنِهِ لَمْ يَلْزَمِ الرَّاهِنَ بَيْعُهُ عِنْدَ فَسَادِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا فِي أَلَّا يَجِبَ بَيْعُهُ عِنْدَ فَسَادِهِ، وَبَيْنَ مَا لَا يَفْسَدُ فِي وُجُوبِ بَيْعِهِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ حُدُوثِ فَسَادِهِ:
أَنَّ الْبَيْعَ يَمْنَعُ مِنَ الْفَسَادِ فَوَجَبَ بَيْعُ مَا لَمْ يَكُنْ فَاسِدًا إِذَا حَدَثَ فِيهِ الْفَسَادُ لِيَكُونَ الرَّهْنُ بَاقِيًا فِي الِانْتِهَاءِ عَلَى حُكْمِهِ فِي الِابْتِدَاءِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا كَانَ فَاسِدًا وَقْتَ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ فِي الِانْتِهَاءِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ فَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ كَالْمَشْرُوطِ فِيهِ إِذَا امْتَنَعَ الرَّاهِنُ مِنْ بَيْعِ الرَّهْنِ عِنْدَ فَسَادِهِ لِأَنَّ فَسَادَهُ قَدْ كَانَ مَعْلُومًا بِهِ.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَهَنَهُ أَرْضًا بِلَا نَخْلٍ فَأَخْرَجَتْ نَخْلًا فَالنَّخْلُ خَارِجٌ مِنَ الرَّهْنِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَلْعُهَا لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْهَا حَتَّى يحل الحق

(6/123)


فإن بَلَغَتْ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ لَمْ تُقْلَعْ وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ قُلِعَتْ وَإِنْ فُلِّسَ بِدُيُونِ النَّاسِ بِيعَتِ الْأَرْضُ بِالنَّخْلِ ثُمَّ قُسِّمَ الثَّمَنُ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ بِلَا نَخْلٍ وَعَلَى مَا بَلَغَتْ بِالنَّخْلِ فَأُعْطِيَ الْمُرْتَهِنُ ثَمَنَ الْأَرْضِ وَالْغُرُمَاءٌ ثَمَنَ النَّخْلِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
إِذَا رَهَنَ أَرْضًا فِي حَقِّ مَحَلِّ الْحَقِّ وَفِي الْأَرْضِ نَخْلٌ لَمْ يَدْخُلْ فِي الرَّهْنِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ.
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ الرَّهْنِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا قَبْلَ الرَّهْنِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ النَّوَى الَّذِي نَبَتَ فِيهِ قَبْلَ الرَّهْنِ وَعُلُوقُهُ وَظُهُورُهُ بَعْدَ الرَّهْنِ.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ الرَّهْنِ. فَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ.
وَصُورَتُهَا: أَنْ يَرْهَنَهُ أَرْضًا بَيْضَاءَ لَا نَخْلَ فِيهَا ثُمَّ يَحْدُثُ فِيهَا نَخْلٌ إِمَّا بِأَنْ يَغْرِسَهُ الرَّاهِنُ أَوْ يَنْغَرِسَ بِنَفْسِهِ مِنْ نَوْعٍ يَقَعُ فِي الْأَرْضِ فَيَنْبُتُ فِيهَا فَالْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءٌ إِلَّا أَنَّ الرَّاهِنَ يُمْنَعُ مِنَ ابْتِدَاءِ الْغَرْسِ فَإِنْ غَرَسَ لَمْ يُقْلَعْ فِي الْحَالِ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ لِأَنَّ إِقْرَارَ الْغَرْسِ فِي الْأَرْضِ انْتِفَاعٌ بِهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ الرَّاهِنُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِأَرْضِهِ الْمَرْهُونَةِ وَلَا يَكُونُ النَّخْلُ الْحَادِثُ فِيهَا دَاخِلًا فِي الرَّهْنِ مَعَهَا لِأَنَّ حُدُوثَ النَّخْلِ نَمَاءٌ وَالنَّمَاءُ الْحَادِثُ مِنَ الرَّهْنِ لَا يَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ وَلَا يُقْلَعُ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ، نُظِرَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ حُلُولِ الْحَقِّ. فَإِنْ قَضَى الرَّاهِنُ مِنْ مَالِهِ خَرَجَتِ الْأَرْضُ مِنَ الرَّهْنِ وَكَانَ النَّخْلُ مُقَرًّا فِيهَا لِلرَّاهِنِ وَإِنِ امْتَنَعَ الرَّاهِنُ مِنْ قَضَاءِ الْحَقِّ مِنْ مَالِهِ نُظِرَ فِي بَيَاضِ الْأَرْضِ:
فَإِنْ كَانَ فِي ثَمَنِهِ وَفَاءُ الْحَقِّ بِيعَ بَيَاضُ الْأَرْضِ وَقُضِيَ بِهِ الْحَقُّ وَكَانَ النَّخْلُ عَلَى حَالِهِ مُقَرًّا فِي الْأَرْضِ لَا يَعْرِضُ لِبَيْعِهِ وَلَا لِقَلْعِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ثَمَنِ بَيَاضِ الْأَرْضِ وَفَاءٌ لِلْحَقِّ نُظِرَ فِي الرَّاهِنِ فَإِنْ أَجَابَ إِلَى بَيْعِ النَّخْلِ مَعَ الْأَرْضِ بِعْنَاهُمَا مَعًا وَكَانَ لِلْمُرْتَهِنِ مِنَ الثَّمَنِ مَا قَابَلَ قِيمَةَ الْأَرْضِ بَيْضَاءَ لَا نَخْلَ فِيهَا وَالرَّاهِنَ مَا قَابَلَ النَّخْلَ.
وَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ بَيْعِ النَّخْلِ مَعَ الْأَرْضِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ أَوْ يَكُونُ مُفْلِسًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِحَقِّ غُرَمَائِهِ.
فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى بَيْعِ النَّخْلِ مَعَ الْأَرْضِ لِأَنَّ الْإِجْبَارَ

(6/124)


عَلَى بَيْعِ الْأَمْلَاكِ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي رَهْنٍ أَوْ غَرِيمٍ مُفْلِسٍ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِنَخْلِ الرَّاهِنِ أَحَدُ هَذَيْنِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى بَيْعِهَا. وَإِذَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى بَيْعِهَا وَجَبَ أَنْ يُؤْمَرَ بِقَلْعِهَا لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَرْضِ وَهِيَ بَيْضَاءُ وَفِي تَرْكِ النَّخْلِ فِيهَا تَفْوِيتٌ لِمَعْنَى حَقِّهِ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يؤخذ بقلعها إلا أن تبذل لِلْمُرْتَهِنِ تَمَامَ قِيمَةِ الْأَرْضِ بَيْضَاءَ لَا نَخْلَ فِيهَا فَلَا يُؤْخَذُ بِقَلْعِهَا وَيُبَاعُ بَيَاضُ الْأَرْضِ سِوَى النَّخْلِ الْقَائِمِ فِيهَا. وَإِنْ لَمْ يَبْذُلْ تَمَامَ الْقِيمَةِ أُجْبِرُ عَلَى قَلْعِ النَّخْلِ فَإِذَا قَلَعَهَا بِيعَتِ الْأَرْضُ بَيْضَاءَ لَا نَخْلَ فِيهَا ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْأَرْضِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِقَلْعِ النَّخْلِ تَأْثِيرٌ فِي الْأَرْضِ فِي نَقْصِ قِيمَتِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَى الرَّاهِنِ وَإِنْ كَانَ قَلْعُ النَّخْلِ قَدْ نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهَا لِمَا أَحْدَثَ مِنَ الْحَفْرِ فِيهَا وَجَبَ عَلَى الرَّاهِنِ أَنْ يُغْرَمَ أَرْشَ نَقْصِهَا بِالْقَلْعِ إِنْ كَانَ هُوَ الْغَارِسَ لِلنَّخْلِ لِأَنَّهُ حَادِثٌ مِنْ فِعْلِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُؤْخَذَ بِأَرْشِهِ كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى الرَّاهِنِ فَإِنْ كَانَ النَّخْلُ قَدْ نَبَتَ بِنَفْعِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَغْرِسَهُ الرَّاهِنُ لَمْ تَلْزَمْهُ غَرَامَةُ الْأَرْشِ كَمَا لَوْ حَدَثَ نَقْصٌ بِالرَّهْنِ.

(فَصْلٌ)
وَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُفْلِسًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِحَقِّ غُرَمَائِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُقْلَعَ النَّخْلُ لِتَعَلُّقِ حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ بِالنَّخْلِ كَتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِالْأَرْضِ وَوَجَبَ بَيْعُ الْأَرْضِ مَعَ النَّخْلِ لِتَكُونَ الْأَرْضُ مَبِيعَةً مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَالنَّخْلُ مَبِيعَةً فِي حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ. فَإِذَا بِيعَا مَعًا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْأَرْضِ فِي بَيْعِهَا مَعَ النَّخْلِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهَا لَمْ تَزِدْ وَلَمْ تَنْقُصْ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهَا قَدْ نَقَصَتْ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهَا قَدْ زَادَتْ.
فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْأَرْضِ لَمْ تَزِدْ وَلَمْ تَنْقُصْ وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهَا بَيْضَاءَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقِيمَةُ النَّخْلِ خَمْسَمِائَةٍ وَقَدْ بِيعَا مَعًا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فَيَدْفَعُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ مَا قَابَلَ الْأَرْضَ وَذَلِكَ أَلْفٌ وَإِلَى الْغُرَمَاءِ مَا قَابَلَ النَّخْلَ وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ.
وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْأَرْضِ بَيْضَاءَ قَدْ نَقَصَتْ بِالنَّخْلِ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهَا بَيْضَاءَ ألف درهم وقيمة النخل خمسمائة وقد بيعا مَعًا بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَيُجْبَرُ لِلْمُرْتَهِنِ نَقْصُ الْأَرْضِ وَيُعْطِي تَمَامَ الْأَلْفِ وَيُدْفَعُ مَا تَبَقَّى إِلَى الْغُرَمَاءِ وَذَلِكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ، لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ قَدْ كَانَ يَسْتَحِقُّ إِزَالَةَ النَّقْصِ بِقَلْعِ النَّخْلِ.
وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْأَرْضِ بَيْضَاءَ قَدْ زَادَتْ بِالنَّخْلِ وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهَا بَيْضَاءَ ألف درهم وقيمة النخل خمسمائة وقد بيعا مَعًا بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَتَكُونُ الزِّيَادَةُ فِي قِيمَتِهَا خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَهِيَ حَادِثَةٌ مِنَ الْأَرْضِ وَالنَّخْلِ فَتُقَسَّطُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، فَتَكُونُ حِصَّةُ الْأَرْضِ مِنَ الزِّيَادَةِ ثُلُثَيْهَا، وَحِصَّةُ النَّخْلِ مِنَ الزِّيَادَةِ ثُلُثَهَا فَيُدْفَعُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ قِيمَةُ الْأَرْضِ وَهِيَ أَلْفٌ وحصتها من

(6/125)


الزِّيَادَةِ وَهِيَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَثُلُثٌ. وَيُدْفَعُ إِلَى الْغُرَمَاءِ قِيمَةُ النَّخْلِ وَهِيَ خَمْسُمِائَةٍ، وَحِصَّتُهَا مِنَ الزِّيَادَةِ وَهِيَ مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَثُلُثَا دِرْهَمٍ. فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ النَّخْلُ مُقَدَّمًا قَبْلَ الرَّهْنِ.
فَإِذَا حَلَّ الْحَقُّ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُبَاعَ النَّخْلُ مَعَ الْأَرْضِ جَبْرًا، وَلَا أَنْ يُؤْخَذَ الرَّاهِنُ بِقَلْعِهَا جَبْرًا لِتَقَدُّمِهَا عَلَى الرَّهْنِ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الرَّاهِنُ مُفْلِسًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِحَقِّ غُرَمَائِهِ بِيعَ بَيَاضُ الْأَرْضِ دُونَ النَّخْلِ وَدُفِعَ إِلَى الْمُرْتَهِنِ سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ وَفَاءٌ لِدَيْنِهِ أَمْ لَا. وَيَكُونُ النَّخْلُ مُقَرًّا فِي الْأَرْضِ لِلرَّاهِنِ.
فَإِنِ اخْتَارَ الرَّاهِنُ بَيْعَ النَّخْلِ مَعَ الْأَرْضِ بِيعَا مَعًا وَدُفِعَ إِلَى الْمُرْتَهِنِ مَا قَابَلَ قِيمَةَ الْأَرْضِ وَهِيَ ذَاتُ نَخْلٍ، وَدُفِعَ إِلَى الرَّاهِنِ مَا قَابَلَ النَّخْلَ.
وَإِنَّمَا دُفِعَ إِلَى الْمُرْتَهِنِ مَا قَابَلَ قِيمَةَ الْأَرْضِ وَهِيَ ذَاتُ نَخْلٍ لِأَنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ حِينَ ارْتَهَنَهَا ذَاتَ نَخْلٍ وَدُفِعَ إِلَيْهِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مَا قَابَلَ قِيمَةَ الْأَرْضِ بَيْضَاءَ لِأَنَّهَا كَانَتْ حِينَ ارْتَهَنَهَا بَيْضَاءَ فَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْقِسْمِ وَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ فِي هَذَا الْقِسْمِ عَلَى قَلْعِ النَّخْلِ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ مِنْ بَيْعِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ فِي هَذَا الْقِسْمِ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ بَيَاضِ الْأَرْضِ وَفِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ يُؤْخَذُ.
فَأَمَّا إِنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُفْلِسًا وَجَبَ بَيْعُ النَّخْلِ مَعَ الْأَرْضِ جَبْرًا فَتَكُونُ الْأَرْضُ مَبِيعَةً فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَالنَّخْلُ مَبِيعَةً فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ ثُمَّ يُنْظَرُ فِيمَا حَصَلَ مِنَ الثَّمَنِ:
فَإِنْ كَانَ بِإِزَاءِ قِيمَةِ الْأَرْضِ وَالنَّخْلِ دُفِعَ إِلَى الْمُرْتَهِنِ مَا قَابَلَ قِيمَةَ الْأَرْضِ ذَاتَ نَخْلٍ، وَإِلَى الْغُرَمَاءِ مَا قَابَلَ قِيمَةَ النَّخْلِ.
وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ أَزْيَدَ مِنْ قِيمَتِهَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَى مَا مَضَى مُقَسَّطَةً بَيْنَهُمَا وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ أَنْقَصَ مِنْ قِيمَتِهَا كَانَ النُّقْصَانُ مُقَسَّطًا عَلَيْهِمَا بِخِلَافِ مَا مَضَى لِأَنَّ نَقْصَ الْأَرْضِ هُنَاكَ مَجْبُورٌ وَنَقْصَ الْأَرْضِ هَهُنَا غَيْرُ مَجْبُورٍ فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّانِي.
(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ نَبَاتِهِ قَبْلَ الرَّهْنِ وَظُهُورُهُ بَعْدَ الرَّهْنِ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْقِسْمِ الثَّانِي إِذَا كَانَ ظُهُورُهُ قَبْلَ الرَّهْنِ فَلَا يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى قَلْعِ النَّخْلِ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ مِنْ بَيْعِ الْأَرْضِ مَعَ النَّخْلِ وَيَسْتَحِقُّ الْمُرْتَهِنُ قِيمَةَ الْأَرْضِ ذَاتَ نَخْلٍ، لِأَنَّ حُدُوثَ

(6/126)


النَّخْلِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الرَّهْنِ. فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى فِي الْقِسْمِ الثَّانِي سَوَاءً إِلَّا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ: أَنَّ الْمُرْتَهِنَ إِذَا كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِحَالِ النَّوَى الْمَزْرُوعِ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ الرَّهْنِ فَلَهُ الْخِيَارُ فِي إِمْضَاءِ الْبَيْعِ وَفَسْخِهِ مَعَ الرَّهْنِ لِأَنَّ ذَلِكَ عَيْبٌ وَمِثْلُهُ يَخْفَى. وَلَيْسَ لَهُ فِي النَّخْلِ إِذَا كَانَ ظَاهِرًا قَبْلَ الرَّهْنِ خِيَارٌ لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يخفى.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَهَنَهُ أَرْضًا وَنَخْلًا ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ الرَّاهِنُ أَحْدَثْتَ فِيهَا نَخْلًا وَأَنْكَرَ الْمُرْتَهِنُ وَلَمْ تَكُنْ دَلَالَةٌ وَأَمْكَنَ مَا قَالَ الرَّاهِنُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ثُمَّ كَالْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ رَهَنَ رَجُلًا أَرْضًا مَعَ نَخْلِهَا ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي شَيْءٍ مِنَ النَّخْلِ هَلْ كَانَ مُتَقَدِّمًا فَدَخَلَ فِي الرَّهْنِ؟ أَوْ حَادِثًا فَلَمْ يَدْخُلْ فِي الرَّهْنِ؟ فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: كَانَ مُتَقَدِّمًا فَهُوَ رَهْنٌ. وَقَالَ الرَّاهِنُ: أَحْدَثْتُهُ بَعْدَ الرَّهْنِ فَلَيْسَ بِرَهْنٍ. فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يعهد الْحَالُ بِصِدْقِ الرَّاهِنِ فِي ذَلِكَ: مِثْلَ أَنْ يَكُونَ النَّخْلُ مِنْ غَرْسِ عَشْرِ سِنِينَ، وَمُدَّةُ الرَّهْنِ عِشْرِينَ سَنَةً. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ لِاسْتِحَالَةِ دَعْوَى الْمُرْتَهِنِ، وَلَا يَمِينَ عَلَى الرَّاهِنِ، وَتَكُونُ النَّخْلُ خَارِجَةً مِنَ الرَّهْنِ وَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَشْهَدَ الْحَالُ بِصِدْقِ الْمُرْتَهِنِ: وَذَلِكَ أَنْ تَكُونَ النَّخْلُ مِنْ غَرْسِ عِشْرِينَ سَنَةً وَمُدَّةُ الرَّهْنِ عَشْرُ سِنِينَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ لِاسْتِحَالَةِ دَعْوَى الرَّاهِنِ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ وَتَكُونُ تِلْكَ النَّخْلُ رَهْنًا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَلَّا يَكُونَ فِي الْحَالِ شَاهِدٌ وَيُمْكِنُ مَا قَالَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ الرَّهْنِ عِشْرِينَ سَنَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّخْلُ مِنْ غَرْسٍ أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ غُرِسَ لِأَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً وَلَا بَيِّنَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا ادَّعَاهُ مَعَ إِمْكَانِ دَعْوَاهُ.
فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ مَالِكٌ قَدِ ادُّعِيَ عَلَيْهِ فِي مِلْكِهِ عَقْدُ وَثِيقَةٍ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي إِنْكَارِ رَهْنِ النَّخْلِ كَمَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لَوْ أَنْكَرَ رَهْنَ الْأَرْضِ.
فَإِذَا حَلَفَ الرَّاهِنُ فَالنَّخْلُ خَارِجَةٌ مِنَ الرَّهْنِ. فَإِنْ كَانَ فِي دَيْنٍ فَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ وَإِنْ كَانَ فِي بَيْعٍ أُحْلِفَ الْمُرْتَهِنُ بِاللَّهِ: لَقَدْ كَانَ النَّخْلُ دَاخِلًا فِي الرَّهْنِ. فَإِذَا حَلَفَ فَلَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ، لِأَنَّهُ لَا يَعْتَرِفُ بِالْبَيْعِ إِلَّا بِرَهْنٍ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ فَكَانَ لَهُ فَسْخُهُ إِذَا حَلَفَ فيصير

(6/127)


الرَّاهِنُ حَالِفًا وَالْمُرْتَهِنُ حَالِفًا إِلَّا أَنَّ يَمِينَ الرَّاهِنِ عَلَى خُرُوجِ النَّخْلِ مِنَ الرَّهْنِ وَيَمِينُ الْمُرْتَهِنِ لِفَسْخِ الْبَيْعِ.
فَلَوْ حَلَفَ الرَّاهِنُ فَخَرَجَتِ النَّخْلُ بِيَمِينِهِ مِنَ الرَّهْنِ وَنَكَلَ الْمُرْتَهِنُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُرْتَهِنِ خِيَارٌ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ.
وَلَوْ نَكَلَ الرَّاهِنُ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَإِنْ حَلَفَ كَانَتِ النَّخْلُ دَاخِلَةً فِي الرَّهْنِ عَلَى مَا ادَّعَى وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ وَإِنْ نَكَلَ الْمُرْتَهِنُ أَيْضًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّخْلَ دَاخِلَةٌ فِي الرَّهْنِ عَلَى مَا ادَّعَى الْمُرْتَهِنُ لِتَصَادُقِهِمَا بِأَنَّ الرَّهْنَ قَدْ كَانَ عَلَى جَمِيعِ النَّخْلِ الَّذِي كَانَ في الأرض وهذا نَخْلٍِ فِي الْأَرْضِ فَلَمَّا لَمْ يُخْرِجْهُ الرَّاهِنُ بِيَمِينِهِ دَخَلَ فِي الرَّهْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ النَّخْلَ خَارِجٌ مِنَ الرَّهْنِ عَلَى مَا ادَّعَى الرَّاهِنُ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْمُرْتَهِنِ قَدْ سَقَطَ بِنُكُولِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْكَمَ بِقَوْلِهِ. فَعَلَى هَذَا تَكُونُ النَّخْلُ خَارِجَةً مِنَ الرَّهْنِ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ نَاكِلٌ.
فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ كَمَسْأَلَتِنَا ثُمَّ كَالْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا: يَعْنِي فِي بَيْعِ الْأَرْضِ دُونَ النَّخْلِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ غُرَمَاءَ فَيُبَاعَانِ مَعًا.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا إِذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ النَّخْلَ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ عَقْدِ الرَّهْنِ ثُمَّ اخْتَلَفَا: هَلْ رَهَنَهُ الْأَرْضَ مَعَ النَّخْلِ أَوْ رَهَنَهُ الْأَرْضَ دُونَ النَّخْلِ؟ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ أَيْضًا عَلَى مَا مَضَى. فَإِذَا حَلَفَ خَرَجَتِ النَّخْلُ مِنَ الرَّهْنِ وَحَلَفَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ فُسِخَ الْبَيْعُ فَإِنْ نَكَلَ الرَّاهِنُ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَإِنْ حَلَفَ دَخَلَتِ النَّخْلُ فِي الرَّهْنِ، وَإِنْ نَكَلَ الْمُرْتَهِنُ فَالنَّخْلُ خَارِجَةٌ مِنَ الرَّهْنِ وَجْهًا وَاحِدًا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ أصحابنا لأنه ليس سَبَبٌ يَغْلِبُ بِهِ دُخُولُ النَّخْلِ فِي الرَّهْنِ بخلاف ما مضى.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ شَرَطَ لِلْمُرْتَهِنِ إِذَا حَلَّ الْحَقُّ أَنْ يَبِيعَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبِيعَ لِنَفْسِهِ إِلَّا بِأَنْ يَحْضُرَهُ رَبُّ الرَّهْنِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
إِذَا اشْتَرَطَ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَبِيعَ الرَّهْنَ عِنْدَ حُلُولِ الْحَقِّ بِغَيْرِ حُضُورِ الرَّاهِنِ لَمْ يَجُزْ، وَكَانَ شَرْطًا بَاطِلًا وَوِكَالَةً فَاسِدَةً.
وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ تَوْكِيلُ الْمُرْتَهِنِ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي بَيْعِ غَيْرِ الرَّهْنِ جَازَ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي بَيْعِ الرهن كالأجنبي.

(6/128)


وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ تَوْكِيلُهُ فِي بَيْعِ عَيْنٍ بِحَضْرَةِ الْمَالِكِ جَازَ تَوْكِيلُهُ فِي بَيْعِهَا مَعَ غَيْبَةِ الْمَالِكِ. أَصْلُهُ: مَا سِوَى الرَّهْنِ.
وَلِأَنَّهَا عَيْنٌ يَجُوزُ تَوْكِيلُ الْأَجْنَبِيِّ فِي بَيْعِهَا فَجَازَ تَوْكِيلُ الْمُرْتَهِنِ فِي بَيْعِهَا. أَصْلُهُ: إِذَا بَاعَهُ بِحَضْرَةِ الرَّاهِنِ.
وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ التَّوْكِيلَ فِي بَيْعٍ يَخْتَلِفُ فِيهِ قَصْدُ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَقُومُ مَقَامَ مُوَكِّلِهِ، وَإِذَا كَانَ قَصْدُهُ بِخِلَافِ قَصْدِهِ لَمْ يَصِحَّ قِيَامُهُ مَقَامَ مُوَكِّلِهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَوْكِيلُ الرَّجُلِ فِي بَيْعِ سِلْعَةٍ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا فِي ابْتِيَاعِهَا مِنْ نَفْسِهِ لِأَنَّ قَصْدَهُ بِخِلَافِ قَصْدِ مُوَكِّلِهِ. كَذَلِكَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ قَصْدُهُمَا مُخْتَلِفٌ لِأَنَّ قَصْدَ الرَّاهِنِ التَّوَقُّفُ عَنِ الْبَيْعِ لِتَوْفِيرِ الثَّمَنِ وَقَصْدَ الْمُرْتَهِنِ الْمُبَادَرَةُ إِلَى الْبَيْعِ لِتَعْجِيلِ الثَّمَنِ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ الْمُرْتَهِنُ وَكِيلًا فِي الْبَيْعِ كَمَا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ بَائِعُ السِّلْعَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَكِيلًا فِي الْبَيْعِ.
وَقَدْ يَتَحَرَّرُ مِنَ اعْتِدَالِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَعْنًى يَمْنَعُ مِنَ التَّوْكِيلِ فِي الِابْتِيَاعِ فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنَ التَّوْكِيلِ فِي الْبَيْعِ كَالْمِلْكِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا وِكَالَةٌ يُمْنَعُ مِنْهَا الْمِلْكُ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهَا الرَّهْنُ كَالِابْتِيَاعِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ فَالْمَعْنَى فِي الْأَجْنَبِيِّ أَنَّ قَصْدَهُ لَا يُخَالِفُ قَصْدَ الرَّاهِنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى بَيْعِ مَا سِوَى الرَّهْنِ فَالْمَعْنَى فِيمَا سِوَى الرَّهْنِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِيهِ قَصْدٌ يُخَالِفُ قَصْدَ الرَّاهِنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرَّاهِنُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى بَيْعِهِ بِحَضْرَةِ الرَّاهِنِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ إِذَا بَاعَ الرَّهْنَ بِحَضْرَةِ الرَّاهِنِ فَالْبَيْعُ مَنْسُوبٌ إِلَى الرَّاهِنِ وَقَدْ يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاءُ قَصْدِهِ وَمَنْعُ الْمُرْتَهِنِ مِنَ التَّفَرُّدِ بِقَصْدِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا تَفَرَّدَ بِبَيْعِهِ فِي غَيْبَتِهِ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْوَكَالَةَ فَاسِدَةٌ وَاشْتِرَاطَهَا بَاطِلٌ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَشْرُوطَةً بَعْدَ الْعَقْدِ أَوْ تَكُونَ مَشْرُوطَةً بَعْدَ الرَّهْنِ أَوْ تَكُونَ مَشْرُوطَةً فِي عَقْدِ الرَّهْنِ.
فَإِنْ كَانَتْ مَشْرُوطَةً بَعْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ، فَالشَّرْطُ فَاسِدٌ وَالْوَكَالَةُ بَاطِلَةٌ وَالرَّهْنُ صَحِيحٌ. وَإِنْ كَانَتْ مَشْرُوطَةً فِي عَقْدِ الرَّهْنِ فَهَذَا شَرْطٌ يُنَافِي مُوجِبَ الرَّهْنِ وَالشُّرُوطُ فِي الرَّهْنِ إِذَا كَانَتْ مُنَافِيَةً لِمُوجَبِ الرَّهْنِ عَلَى ضَرْبَيْنِ:

(6/129)


ضَرْبٌ مِنْهَا يَكُونُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَهَذَا إِذَا شُرِطَ فِي الرَّهْنِ أَبْطَلَهُ وَضَرْبٌ مِنْهَا يَكُونُ لِلْمُرْتَهِنِ فَهَذَا إِذَا شُرِطَ فِي الرَّهْنِ فَهَلْ يُبْطِلُهُ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
وَشَرْطُ الْوَكَالَةِ لِلْمُرْتَهِنِ لَا عَلَيْهِ فَهَلْ يَبْطُلُ الرَّهْنُ أَمْ لا، على قولين.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنِ امْتَنَعَ أَمَرَ الْحَاكِمُ بِبَيْعِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَالِكَ لِبَيْعِ الرَّهْنِ هُوَ الرَّاهِنُ دُونَ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ حَقَّ الِاسْتِيثَاقِ وَلِلرَّاهِنِ حَقُّ الْمِلْكِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَبِيعَ الرَّهْنَ إِلَّا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ قَدْ أَوْقَعَ فِيهِ حَجْرًا عَلَيْهِ فَإِنْ بَاعَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ كَانَ بَاطِلًا كَبَيْعِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ.
فَأَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِبَيْعِ الرَّهْنِ سَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ عَلَى مَا مَضَى إِلَّا أن يكون الراهن حاضرا.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ عِنْدَ حُلُولِ الْحَقِّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى بَيْعِهِ. فَيَجُوزُ وَيَكُونُ الْمُتَوَلِّي لِبَيْعِهِ الرَّاهِنُ أَوْ وَكِيلُهُ دُونَ الْمُرْتَهِنِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى تَرْكِ بَيْعِهِ. فَيَجُوزُ لِرِضَا الْمُرْتَهِنِ بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ وَاسْتِبْقَاءِ رَهْنِهِ وَرِضَا الرَّاهِنِ بِاسْتِبْقَاءِ مِلْكِهِ مَعَ بَقَاءِ دَيْنِهِ.
(فَصْلٌ)
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَدْعُوَ الرَّاهِنُ إِلَى بَيْعِهِ وَيَمْتَنِعَ الْمُرْتَهِنُ فَيَنْبَغِي للراهن أن يأتي الحاكم ليأذن له في بيعه بدلا من إذن المرتهن بعد أن يحضر الحاكم المرتهن فَيَسْأَلُهُ عَنْ سَبَبِ امْتِنَاعِهِ. فَإِنْ ذَكَرَ عُذْرًا يَسُوغُ مِثْلُهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ عُذْرًا أَذِنَ الْحَاكِمُ لِلرَّاهِنِ فِي الْبَيْعِ وَلَيْسَ يَحْتَاجُ إِلَى تَوْكِيلِ الْحَاكِمِ عَنِ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ الَّذِي يُحْتَاجُ مِنْ جِهَةِ الْمُرْتَهِنِ إِلَى إِذْنٍ مُجَرَّدٍ، وَالْحَاكِمُ قَدْ أَذِنَ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى وَكِيلٍ لَهُ.
فَإِذَا بَاعَ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ مَنَعَهُ الْحَاكِمُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي ثَمَنِهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ وَأَعْلَمَ الْحَاكِمُ الْمُرْتَهِنَ بِذَلِكَ. فَإِنْ سَأَلَ حَقَّهُ أَمَرَ الْحَاكِمُ الرَّاهِنَ بِدَفْعِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ مِنَ الثَّمَنِ وَإِنْ لَمْ يَسْأَلْ حَقَّهُ أَعْلَمَهُ الْحَاكِمُ أَنَّهُ يُطْلِقُ تَصَرُّفَ الرَّاهِنِ فِيهِ. وَإِنْ أَذِنَ لِلرَّاهِنِ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ فَإِنْ سَأَلَ الرَّاهِنُ أَنْ يُقْبِضَ الْمُرْتَهِنَ حَقَّهُ أَمَرَ الْحَاكِمُ الْمُرْتَهِنَ بِقَبْضِ حَقِّهِ مِنَ الرَّاهِنِ أَوْ إِبْرَائِهِ مِنْهُ فَإِنِ امْتَنَعَ الْمُرْتَهِنُ مِنْ قَبْضِهِ أَوْ إِبْرَائِهِ قَبَضَهُ الْحَاكِمُ لِيَبْرَأَ مِنْهُ الرَّاهِنُ وَتَرَكَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِلْمُرْتَهِنِ.

(6/130)


هَذَا إِذَا بَاعَ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ. فَأَمَّا إِنْ بَاعَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْحَاكِمِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى اسْتِئْذَانِهِ فَبَيْعُهُ بَاطِلٌ لِوُقُوعِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى اسْتِئْذَانِهِ فَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ عَلَى وَجْهَيْنِ نَذْكُرُهُمَا فِي الْفَصْلِ الَّذِي بَعْدَهُ.

(فَصْلٌ)
وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَدْعُوَ الْمُرْتَهِنُ إِلَى بَيْعِهِ وَيَمْتَنِعَ الرَّاهِنُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ. فَيَنْبَغِي لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَأْتِيَ الْحَاكِمَ لِيُوَكِّلَ عَنِ الرَّاهِنِ وَكِيلًا فِي بَيْعِ الرَّهْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْضُرَ الرَّاهِنُ فَيَسْأَلُهُ عَنْ سَبَبِ امْتِنَاعِهِ. فَإِنْ ذَكَرَ عُذْرًا يَسُوغُ مِثْلُهُ فِي امْتِنَاعِهِ لَمْ يُوَكَّلْ عَنْهُ فِي بَيْعِهِ. وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ عُذْرًا وَكَّلَ الْحَاكِمُ عَنْهُ مَنْ يَبِيعُ الرَّهْنَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُوَكِّلَ عَنْهُ مَنْ يَبِيعُ عَلَيْهِ بَلْ يَحْبِسُهُ حَتَّى يَبِيعَ الرَّاهِنُ بِنَفْسِهِ.
وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ كُلَّ حَقٍّ يَصِحُّ فِيهِ التَّوْكِيلُ فَإِنَّ الْحَاكِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْبِسَ فِيهِ مَنِ امْتَنَعَ مِنْهُ مَا أَمْكَنَ التَّوَصُّلُ إِلَيْهِ كَالدُّيُونِ. وَكُلُّ مَا لَا يَصِحُّ فِيهِ التَّوْكِيلُ فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَحْبِسُ فِيهِ مَنِ امْتَنَعَ مِنْهُ وَلَا يُوَكِّلُ عَنْهُ كَمَنْ أَسْلَمَ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ فَلَمْ يَخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا.
فَلَمَّا كَانَ التَّوْكِيلُ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ جَائِزًا، وَجَبَ إِذَا امْتَنَعَ مِنْهُ الرَّاهِنُ أَنْ يَتَوَلَّى بَيْعَهُ الْحَاكِمُ. إِمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ بِأَمِينٍ يُوَكِّلُهُ عَنِ الرَّاهِنِ فِي بَيْعِهِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْذَنَ الْحَاكِمُ لِلْمُرْتَهِنِ فِي بَيْعِهِ وإن جاز أن يأذن للراهن عنه امْتِنَاعَ الْمُرْتَهِنِ مِنْ بَيْعِهِ.
وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْذَنَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي بَيْعِهِ لِأَنَّ الْحَاكِمَ يَقُومُ فِي ذَلِكَ مَقَامَ الرَّاهِنِ. فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَأْذَنَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي بَيْعِهِ لَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَأْذَنَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي بَيْعِهِ وَكَانَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَأْذَنَ لِلرَّاهِنِ فِي بَيْعِهِ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ يَجُوزُ أَنْ يَأْذَنَ لِلرَّاهِنِ فِي بَيْعِهِ.
فَإِذَا وَكَّلَ الْحَاكِمُ عَنِ الرَّاهِنِ مَنْ يَبِيعُ عَلَيْهِ الرَّهْنَ فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ يحيط بِقِيمَةِ الرَّهْنِ بِيعَ جَمِيعُهُ وَسُلِّمَ ثَمَنُهُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ. وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ يُقَابِلُ بَعْضَ قِيمَةِ الرَّهْنِ بِيعَ مِنَ الْأَرْضِ بِقَدْرِ الْحَقِّ وَكَانَ الْبَاقِي مِنْهُ غَيْرَ مَبِيعٍ عَلَى مِلْكِ الرَّاهِنِ. فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ مَا قَابَلَ الْحَقَّ إِلَّا بِبَيْعِ جَمِيعِهِ وَدُفِعَ إِلَى الْمُرْتَهِنِ قَدْرُ حَقِّهِ وَدُفِعَ الْبَاقِي إِلَى الرَّاهِنِ.
فَإِنْ بَاعَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ مِنْ غَيْرِ إِتْيَانِ الْحَاكِمِ فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى إِتْيَانِ الْحَاكِمِ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِتْيَانِهِ فَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَمِنْهَا تَخْرِيجُ الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ بَيْعَهُ بَاطِلٌ وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا فِيمَنْ لَهُ

(6/131)


حَقٌّ عَلَى غَرِيمٍ جَاحِدٍ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ هَلْ يَجُوزُ إِذَا قَدَرَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ أَنْ يَتَوَلَّى بَيْعَهُ بِنَفْسِهِ لِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ أَمْ يَأْتِي الْحَاكِمَ حَتَّى يَبِيعَهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. كَذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ لِأَنَّ العادم للبينة عند الحاكم كالعادم للحاكم.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ الشَّرْطُ لِلْعَدْلِ جَازَ بَيْعُهُ مَا لَمْ يَفْسَخَا أَوْ أَحَدُهُمَا وِكَالَتَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
إِذَا شَرَطَ فِي عَقْدِ الرَّهْنِ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ وَشَرَطَا لِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَهُ عِنْدَ مَحَلِّ الْحَقِّ، فَهَذَا الْعَقْدُ قَدْ تَضَمَّنَ شَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَضْعُ الرَّهْنِ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ.
وَالشَّرْطُ الثَّانِي: تَوْكِيلُ الْعَدْلِ فِي بَيْعِهِ عِنْدَ مَحَلِّ الْعَقْدِ. فَهَذَانِ الشَّرْطَانِ جَائِزَانِ إِلَّا أَنَّ الشَّرْطَ الْأَوَّلَ وَهُوَ وَضْعُ الرَّهْنِ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ يَلْزَمُ بِالْعَقْدِ وَيَتِمُّ بِالْقَبْضِ.
وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي وَهُوَ تَوْكِيلُ الْعَدْلِ فِي بَيْعِهِ عِنْدَ مَحَلِّ الْحَقِّ فَلَا يَتِمُّ بِالْعَقْدِ لِأَنَّهُ اشْتِرَاطُ تَوْكِيلٍ فِيمَا بَعْدُ. فَإِذَا سَلَّمَا الرَّهْنَ إِلَى الْعَدْلِ وَوَكَّلَاهُ فِي بَيْعِهِ عِنْدَ مَحَلِّ الْحَقِّ فَقَدْ تَمَّ الشَّرْطَانِ جَمِيعًا وَيَكُونُ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا لَازِمًا وَالثَّانِي مِنْهُمَا جَائِزًا لِأَنَّ الْوِكَالَةَ جَائِزَةٌ وَلَيْسَتْ لَازِمَةً.
فَإِنْ قِيلَ فَهَذِهِ وِكَالَةٌ مَعْقُودَةٌ بِصِفَةٍ وَهِيَ مَحَلُّ الْحَقِّ وَالْعُقُودِ لَا يَصِحُّ أَنْ تُعَلَّقَ بِالصِّفَاتِ قِيلَ الْوِكَالَةُ مُنْجَزَةٌ غَيْرُ مُعَلَّقَةٍ بِصِفَةٍ وَإِنَّمَا جُعِلَ التَّصَرُّفُ فِيهَا مُعَلَّقًا بِصِفَةٍ وَهَذَا جَائِزٌ.
أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّهُ وَكَّلَ رَجُلًا فِي بَيْعِ مَتَاعِهِ وَأَذِنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ عِنْدَ مَجِيءِ الْحَاجِّ أَوْ عِنْدَ اسْتِهْلَالِ الشَّهْرِ جَازَ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْوِكَالَةِ مُنْجَزٌ وَالْإِذْنَ بِالتَّصَرُّفِ مُعَلَّقٌ بِالصِّفَةِ، فَصَحَّ كَذَلِكَ تَوْكِيلُ الْعَدْلِ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ.
وَلَكِنْ لَوْ قَالَا لِلْعَدْلِ قَدْ وَكَّلْنَاكَ فِي بَيْعِهِ عِنْدَ مَحَلِّ الْحَقِّ وَجَعَلَا الصِّفَةَ شَرْطًا فِي عَقْدِ الْوِكَالَةِ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ عَقْدٌ مُعَلَّقٌ بِصِفَةٍ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ صِحَّةُ الْوِكَالَةِ بِمَا ذَكَرْنَا، فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّاهِنِ والمرتهن من أربعة أحوال:
أحدهما: أَنْ يُقِيمَا عَلَى الْوِكَالَةِ إِلَى حُلُولِ الْحَقِّ. فَلِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَ الرَّهْنَ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِهِمَا مَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُمَا مَنْعٌ لِصِحَّةِ وِكَالَتِهِ فِي الْبَيْعِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِئْذَانُهُمَا عِنْدَ الْبَيْعِ كسائر الوكلاء.

(6/132)


وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَرْجِعَا جَمِيعًا عَنْ وِكَالَتِهِ قَبْلَ الْبَيْعِ فَلَا يَجُوزُ لِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَ بَعْدَ رُجُوعِهِمَا لِبُطْلَانِ وِكَالَتِهِ مِنْهُمَا.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَرْجِعَ الرَّاهِنُ دُونَ الْمُرْتَهِنِ فَقَدِ انْفَسَخَتْ وِكَالَتُهُ بِرُجُوعِ الرَّاهِنِ وَلَيْسَ لَهُ الْبَيْعُ.
وَحُكِيَ عَنْ أبي حنيفة أَنَّ وِكَالَةَ الْعَدْلِ لَا تَنْفَسِخُ بِرُجُوعِ الرَّاهِنِ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ وِكَالَتَهُ صَحَّتْ بِهِمَا فَصَارَ وَكِيلًا لَهُمَا وَمَنْ كَانَ وَكِيلًا لِنَفْسَيْنِ بَطَلَتْ وِكَالَتُهُ بِرُجُوعِ أَحَدِهِمَا كَالشَّرِيكَيْنِ.
وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَرْجِعَ الْمُرْتَهِنُ دُونَ الرَّاهِنِ فَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ كَافَّةً: أَنَّ وِكَالَتَهُ قَدِ انْفَسَخَتْ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ.
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ الْوِكَالَةَ لَا تَنْفَسِخُ بِرُجُوعِ الْمُرْتَهِنِ وَإِنَّمَا يُمْنَعُ الْعَدْلُ مِنَ الْبَيْعِ بِرُجُوعِ الْمُرْتَهِنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَنْفَسِخَ وِكَالَتُهُ.
قَالَ: لِأَنَّهُ وَكِيلٌ لِلرَّاهِنِ وَمَأْذُونٌ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْمُرْتَهِنِ فَلَا يَكُونُ رُجُوعُ الْمُرْتَهِنِ فِي إِذْنِهِ بِقَادِحٍ فِي صِحَّةِ وِكَالَتِهِ.
وهذا قول لا يتحصل لأن بعضه ينقص بَعْضًا، لِأَنَّ الْوِكَالَةَ إِنَّمَا هِيَ إِذْنٌ بِالْبَيْعِ فَإِذَا مُنِعَهُ بِرُجُوعِ الْمُرْتَهِنِ عَنِ الْبَيْعِ، فَقَدْ زَالَ مُوجِبُ الْوِكَالَةِ وَهَذَا صَرِيحُ الْفَسْخِ إِلَّا أَنَّ وِكَالَةَ الرَّاهِنِ لَا تَنْفَسِخُ بِرُجُوعِ الْمُرْتَهِنِ، كَمَا لَا تَنْفَسِخُ وِكَالَةُ الْمُرْتَهِنِ بِرُجُوعِ الرَّاهِنِ.
فَلَوْ مَاتَا أَوْ أَحَدُهُمَا كَانَ كَمَا لَوْ رَجَعَا أَوْ أَحَدُهُمَا لِأَنَّ الْوِكَالَةَ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ كَمَا تَبْطُلُ بِالرُّجُوعِ فَلَوْ وَكَّلَا رَجُلَيْنِ ثُمَّ أَبْطَلَا وِكَالَةَ أَحَدِهِمَا لَمْ يَكُنْ لِلثَّانِي مِنْهُمَا الْبَيْعُ إِلَّا بِإِذْنِهِمَا أَوْ يُوَكِّلَا مَعَهُ مَنْ يقوم مقام الميت.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ بَاعَ بِمَا يَتَغَابَنُ النَاسُ بِمِثْلِهِ فَلَمْ يُفَارِقْهُ حَتَى جَاءَ مَنْ يَزِيدُهُ قَبْلَ الزِّيَادَةِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَبَيْعُهُ مَرْدُودٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا وُكِّلَ الْعَدْلُ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْوَكِيلِ فِي بَيْعِ غَيْرِ الرَّهْنِ فَيَلْزَمُهُ فِي الْبَيْعِ إِذَا كَانَ الْإِذْنُ مُطْلَقًا خَمْسَةُ شُرُوطٍ:
أَحَدُهَا: الِاجْتِهَادُ فِي تَوْفِيرِ الثَّمَنِ وَأَلَّا يَبِيعَهُ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَبِيعَهُ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ دُونَ غَيْرِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ حَالًّا وَلَا يَكُونُ مُؤَجَّلًا وَلَا مُنَجَّمًا.

(6/133)


فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ شُرُوطٍ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ وَسُقُوطِ الضَّمَانِ.
وَالرَّابِعُ: أَلَّا يُسَلِّمَ الْمَبِيعَ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ. وَهَذَا شَرْطٌ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ.
وَالْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ نَاجِزًا فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ خِيَارُ الثَّلَاثِ 0 وَفِي هَذَا الشَّرْطِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ وَسُقُوطِ الضَّمَانِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ اسْتِحْبَابٌ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْبَيْعِ وَلَا فِي الضَّمَانِ.
فَهَذِهِ خَمْسَةُ شُرُوطٍ تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إِلَّا أَنَّ مَسْأَلَةَ الْكِتَابِ تَخْتَصُّ بِالشَّرْطِ الْأَوَّلِ مِنْهَا وَهُوَ الْغَبْنُ فِي الثَّمَنِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى حُكْمِ مَا يُضَاهِيهِ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا بَاعَ الْعَدْلُ الرَّهْنَ بِثَمَنٍ غُبِنَ فِيهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ ثمن الرهن مائة درهم وغبنه مِثْلِهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَقَدْ بَاعَ الْعَدْلُ بِتِسْعِينَ دِرْهَمًا. فَهَذَا بَيْعٌ جَائِزٌ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْعَدْلِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ مَوْضُوعٌ عَلَى الْمُغَابَنَةِ وَالْمُكَاسَبَةِ وَالِاحْتِرَازُ مِمَّا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ غَبِينَةِ الْمِثْلِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَكَانَ ذَلِكَ مَعْفُوًّا عَنْهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ، مِثْلَ أَنْ يُسَاوِيَ مِائَةً وَغَبِينَةُ مِثْلِهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَقَدْ بَاعَهُ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لِوُقُوعِهِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَيُمْنَعُ الْعَدْلُ مِنْ تَسْلِيمِ الرَّهْنِ إِلَى الْمُشْتَرِي، فَإِنْ سَلَّمَهُ إِلَى الْمُشْتَرِي صَارَ الْعَدْلُ بِالتَّسْلِيمِ ضَامِنًا لَا بِالْعَقْدِ وَعَلَيْهِ اسْتِرْجَاعُهُ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي. فَإِنْ فَاتَ اسْتِرْجَاعُهُ فَقَدِ اسْتَتَرَ الضَّمَانُ فِي ذِمَّةِ الْعَدْلِ، وَفِي قَدْرِ مَا يضمنه قولان:
أحدهما: أنه يضمن القدر الذين لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، لِأَنَّ الضَّمَانَ إِنَّمَا يَجِبُ فِيمَا حَصَلَ فِيهِ التَّفْرِيطُ، وَالتَّفْرِيطُ إِنَّمَا كَانَ فِي قَدْرِ مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ. فَأَمَّا الْعَشَرَةُ الَّتِي يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهَا فَلَمْ يُفَرِّطْ فِيهَا فَلَمْ يَلْزَمْ ضَمَانُهَا. أَمَّا الْخَمْسُونَ فَهُوَ غَيْرُ مُفَرِّطٍ فِيهَا فَلَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ: أَنَّهُ ضَامِنٌ لِجَمِيعِ الْقِيمَةِ وَذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ، لِأَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ فَاسِدًا، فَلَمْ يَجُزْ تَسْلِيمُ السِّلْعَةِ بِهِ وَمَنْ سَلَّمَ سِلْعَةً إِلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهَا كَانَ ضَامِنًا لِجَمِيعِ قِيمَتِهَا.

(6/134)


(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَإِنْ قُلْنَا: عَلَيْهِ ضَمَانُ الْغَبِينَةِ وَحْدَهَا وَهِيَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ قَبَضَ مِنَ الْمُشْتَرِي الْخَمْسِينَ الَّتِي هِيَ الثَّمَنُ أَوْ لَمْ يَقْبِضْ. فَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَ الْخَمْسِينَ دِرْهَمًا الثَّمَنَ فَقَدْ بَرِئَ الْمُشْتَرِي مِنْهَا لِأَنَّهُ دَفَعَهَا إِلَى مُؤْتَمَنٍ عَلَيْهَا وَلَيْسَ عَلَى الْعَدْلِ ضَمَانُهَا لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِيهَا ثُمَّ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِالْغَبِينَةِ إِنْ شَاءَ عَلَى الْعَدْلِ لِأَنَّهُ بِدَفْعِ الرَّهْنِ صَارَ ضَامِنًا لَهَا وَإِنْ شَاءَ عَلَى الْمُشْتَرِي لأنه يقبض الرَّهْنِ صَارَ ضَامِنًا لَهَا.
فَإِنْ رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي رَجَعَ عَلَيْهِ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْعَشَرَةُ الَّتِي يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهَا لِأَنَّهُ بِالْقَبْضِ عَنْ بَيْعٍ فَاسِدٍ ضَامِنٌ عَلَى الصَّحِيحِ من المذهب ضمان غصب.
فإذا غرم الْمُشْتَرِي ذَلِكَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْعَدْلِ بِشَيْءٍ.
فَإِنْ رَجَعَ الرَّاهِنُ عَلَى الْعَدْلِ دُونَ الْمُشْتَرِي رَجَعَ عَلَيْهِ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، لِأَنَّهُ يَضْمَنُ بِالتَّفْرِيطِ فَلَمْ يَضْمَنْ إِلَّا قَدْرَ مَا فَرَّطَ فِيهِ وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَيَرْجِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْعَشَرَةِ الْبَاقِيَةِ مِنْ ضَمَانِ الْغَصْبِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ ضَامِنٌ لَهَا فَيَصِيرُ الرَّاهِنُ رَاجِعًا عَلَى الْعَدْلِ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَعَلَى الْمُشْتَرِي بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، ثُمَّ لِلْعَدْلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْأَرْبَعِينَ الَّتِي غَرِمَهَا لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ ضَامِنٌ لَهَا فَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ إِذَا كَانَ الْعَدْلُ قَدْ قَبَضَ الْخَمْسِينَ الثَّمَنَ.
فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْعَدْلُ لَمْ يَقْبِضْ مِنَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ فَالرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَوْ عَلَى الْعَدْلِ فَإِنْ رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَهِيَ جَمِيعُ الْقِيمَةِ وَلَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِشَيْءٍ مِنْهَا عَلَى الْعَدْلِ.
وَإِنْ رَجَعَ الرَّاهِنُ عَلَى الْعَدْلِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا لَا غَيْرُ لِأَنَّهَا الْقَدْرُ الَّذِي ضَمِنَهُ بِالتَّفْرِيطِ وَيَرْجِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِبَاقِي الْقِيمَةِ وَهُوَ سِتُّونَ دِرْهَمًا. وَلِلْعَدْلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْأَرْبَعِينَ الَّتِي غَرِمَهَا لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لَهَا.
(فَصْلٌ)
وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْعَدْلَ ضَامِنٌ لِجَمِيعِ الْقِيمَةِ، فَلِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْعَدْلِ إِنْ شَاءَ أَوْ عَلَى الْمُشْتَرِي إِنْ شَاءَ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ ضَمَانَ غَصْبٍ وَلَا يَبْرَأُ الْمُشْتَرِي عَلَى هَذَا مِنْ شَيْءٍ يَدْفَعُهُ إِلَى الْعَدْلِ بِخِلَافِ مَا قُلْنَا مِنْ قَبْلُ، لِأَنَّ الْعَدْلَ صَارَ ضَامِنًا لِلْكُلِّ بِالتَّعَدِّي فَصَارَ خَارِجًا مِنَ الْأَمَانَةِ وَاسْتَوَى حَالُهُ وَحَالُ الْمُشْتَرِي فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا لِلرَّاهِنِ فَلَمْ يَبْرَأْ أَحَدُهُمَا بِدَفْعِ مَا عَلَيْهِ إِلَى صَاحِبِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ الْعَدْلُ بِدَفْعِ مَا عَلَيْهِ إِلَى الْمُشْتَرِي، كَذَلِكَ لَا يَبْرَأُ الْمُشْتَرِي بِدَفْعِ مَا عَلَيْهِ إِلَى الْعَدْلِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْعَدْلُ ضَامِنًا لِقَدْرِ الْغَبِينَةِ لَا غَيْرَ لِأَنَّ مَا سِوَى الْغَبِينَةِ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ عَلَيْهِ فَكَانَ أَمِينًا فِيهِ.

(6/135)


وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَدْلُ قَدْ قَبَضَ مِنَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ وَالْغَبِينَةَ لَمْ يَبْرَأِ الْمُشْتَرِي مِنَ الْغَبِينَةِ لِضَمَانِ الْعَدْلِ لَهَا، وَبَرِئَ مِنَ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيهِ.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ بِجَمِيعِ الْمِائَةِ الَّتِي هِيَ قِيمَةُ الرَّهْنِ، فَإِنْ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْعَدْلِ فَلِلْعَدْلِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَدْلُ قَدْ قَبَضَهَا مِنَ الْمُشْتَرِي، فَلَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَ بَعْضَهَا رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا بَقِيَ مِنْهَا. فَإِنْ رَجَعَ الرَّاهِنُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْمِائَةِ فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْعَدْلِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ دَفَعَهَا إِلَيْهِ، أَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ بَعْضَهَا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عليه بما كان فسد دَفْعَهُ إِلَيْهِ مِنْهَا.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا إِذَا بَاعَ الْعَدْلُ الرَّهْنَ بِثَمَنٍ مِثْلِهِ وَذَلِكَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ بُذِلَتْ لَهُ فِي الثَّمَنِ زِيَادَةُ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ لِرَغْبَةِ رَاغِبٍ، فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ الْمَبْذُولَةُ لَهُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهَا، لِتَمَامِ الْبَيْعِ بِالِافْتِرَاقِ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ الْمَبْذُولَةُ لَهُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَعَلَيْهِ قَبُولُهَا لِأَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَنْبَرِمْ وَالْفَضْلَ فِي الثَّمَنِ بِالْبَذْلِ قَدْ تَعَيَّنَ.
فَإِنْ لَمْ يَقْبَلِ الزِّيَادَةَ وَأَقْبَضَ الرَّهْنَ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ فَمَذْهَبُ الشافعي أنه يكون ضامنا لما لَوْ بَاعَ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ، وَيَكُونُ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ بَاطِلًا.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْعَدْلِ لِأَنَّ قَبُولَهَا غَيْرُ لَازِمٍ لَهُ. قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ قَبُولُهَا غَيْرَ لَازِمٍ لَهُ لِأَنَّهَا قَدْ تُبْذَلُ لِرَغْبَةٍ وَقَدْ تُبْذَلُ لِفَسَادٍ عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ، فَلَمْ يَكُنْ بَذْلُهَا مُتَحَقَّقًا فَلَمْ يَكُنْ قَبُولُهَا لَازِمًا.
وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ بَذْلَ الزِّيَادَةِ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ كَبَذْلِهَا فِي حَالِ الْعَقْدِ فَلَمَّا كَانَ قَبُولُهَا فِي حَالِ الْعَقْدِ لَازِمًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَذْلُهَا مُتَحَقَّقًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَبُولُهَا فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَاجِبًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَذْلُهَا مُتَحَقَّقًا.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ قَبُولَهَا وَاجِبٌ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بِتَرْكِ قَبُولِهَا بَاطِلًا وَإِذَا بَطَلَ الْبَيْعُ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْعَدْلِ بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ ضَامِنٌ فَفِي قَدْرِ ضَمَانِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ قَدْرَ الزِّيَادَةِ لَا غَيْرَ وَذَلِكَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ. فَعَلَى هَذَا إِذَا غَرِمَهَا الْعَدْلُ لَمْ يَرْجِعْ بِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّ ضَمَانَ الْمُشْتَرِي ضَمَانُ غَصْبٍ وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ الْمَبْذُولَةُ لَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ. وَعَلَى هَذَا إِنْ دَفَعَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ إِلَى الْعَدْلِ بَرِئَ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِضَامِنٍ فَكَانَ أَمِينًا عَلَيْهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَدْلَ ضَامِنٌ بِهِ لِلْكُلِّ وَذَلِكَ مِائَةٌ وَعَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَعَلَى هَذَا لَا يَبْرَأُ الْمُشْتَرِي بِدَفْعِ الثَّمَنِ إِلَى الْعَدْلِ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لَهُ، فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا فِيهِ.

(6/136)


وَلِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ. فَإِنْ رَجَعَ عَلَى الْعَدْلِ رَجَعَ بِمِائَةٍ وَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَيَرْجِعُ الْعَدْلُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْعَشَرَةِ الزَّائِدَةِ وَإِنْ رَجَعَ الرَّاهِنُ عَلَى الْمُشْتَرِي رَجَعَ عَلَيْهِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَرَجَعَ عَلَى الْعَدْلِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَهِيَ الزِّيَادَةُ الَّتِي بُذِلَتْ لَهُ. وَإِذَا غَرِمَ الْمُشْتَرِي لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْعَدْلِ.

(فَصْلٌ)
وَلَيْسَ الرَّاهِنُ وَحْدَهُ مُسْتَحِقًّا لِلرُّجُوعِ بِهَا دُونَ الْمُرْتَهِنِ وَلَا الْمُرْتَهِنُ دُونَ الرَّاهِنِ وَلَكِنَّ الرَّاهِنَ وَالْمُرْتَهِنَ جَمِيعًا يَسْتَحِقَّانِ الرُّجُوعَ بِهَا. أَمَّا الرَّاهِنُ فَبِحَقِّ مِلْكِهِ، وَأَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَبِحَقِّ وَثِيقَتِهِ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْقَابِضِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ جَمِيعًا قَدِ اجْتَمَعَا عَلَى قَبْضِهَا فَقَدْ بَرِئَ الْعَدْلُ وَالْمُشْتَرِي مِنْهَا ثُمَّ لِلرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ فِيهَا ثلاثة أحوال:
أحدهما: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى تَرْكِهَا رَهْنًا فَتَكُونُ رَهْنًا عَلَى مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنْ تَكُونَ قِصَاصًا فَتَكُونُ قِصَاصًا كَمَا اتَّفَقَا.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فَيَدْعُو أَحَدُهُمَا إِلَى أَنْ تَكُونَ رَهْنًا وَيَدْعُو الْآخَرُ إِلَى أَنْ تَكُونَ قِصَاصًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ دَعَا إِلَى أَنْ تَكُونَ قِصَاصًا إِذَا كَانَ الْحَقُّ حَالًّا، لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالْبَيْعِ إِنَّمَا كَانَ لِقَضَاءِ الْحَقِّ وَلَمْ يَكُنْ لِتَرْكِ ذَلِكَ فِي الرَّهْنِ وَلَيْسَ فَسَادُ الْبَيْعِ مُوجِبًا لِإِبْطَالِ هَذَا الْحُكْمِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْقَابِضُ لَهَا هُوَ الرَّاهِنُ دُونَ الْمُرْتَهِنِ، فَيَكُونُ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْعَدْلِ دُونَ الْمُشْتَرِي، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ يَرْجِعُ بِحَقِّ الرَّهْنِ وَالْعَدْلَ ضَامِنٌ لِحَقِّ الرَّهْنِ دُونَ الْمُشْتَرِي وَإِنَّمَا يَضْمَنُ الْمُشْتَرِي بِحَقِّ الْمِلْكِ. فَلِذَلِكَ كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْعَدْلِ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِحَقِّ الرَّهْنِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِحَقِّ الْمِلْكِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ لَوْ جَنَى عَلَى الرَّهْنِ كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْجَانِي بِالْأَرْشِ وَإِنْ كَانَ الْجَانِي ضَامِنًا لِحَقِّ الْمِلْكِ؟ فَقِيلَ: إِنَّمَا كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْجَانِي لِأَنَّ الْجَانِيَ ضامن للحقين معا، إذ ليس بجب ضَمَانُ حَقِّ الرَّهْنِ عَلَى غَيْرِ الْجَانِي وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي بَيْعِ الْعَدْلِ لِأَنَّ الْعَدْلَ ضَامِنٌ لِحَقِّ الرَّهْنِ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ الْمُشْتَرِي.
فَإِذَا رَجَعَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الْعَدْلِ لَمْ يَكُنْ لِلْعَدْلِ أَنْ يرجع الرَّاهِنِ بِمَا دَفَعَهُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّ الْعَدْلَ لَوْ كَانَ دَفَعَ إِلَى الْمُرْتَهِنِ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا دَفَعَ، وَيَصِيرُ الْعَدْلُ مُتَطَوِّعًا بِمَا دَفَعَهُ إِلَى الرَّاهِنِ.

(6/137)


والقسم الثالث: أن يكون القباض لَهَا هُوَ الْمُرْتَهِنُ دُونَ الرَّاهِنِ فَيَكُونُ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْعَدْلِ إِنْ شَاءَ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي إِنْ شَاءَ لِأَنَّ الرَّاهِنَ يَرْجِعُ بِحَقِّ الْمِلْكِ وَالْمُرْتَهِنَ يَرْجِعُ بِحَقِّ الرَّهْنِ. وَالْعَدْلَ ضَامِنٌ لِحَقِّ الْمِلْكِ وَحَقِّ الرَّهْنِ، وَالْمُشْتَرِيَ ضَامِنٌ لِحَقِّ الْمِلْكِ، فَلِذَلِكَ كَانَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنَ الْعَدْلِ وَالْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنًا بِحَقِّ الْمِلْكِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَّا عَلَى الْعَدْلِ دُونَ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ يَرْجِعُ بِحَقِّ الرهن، والعدل ضامن لحق الرهن دون المشتري.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنَ الْعَدْلِ وَالْمُشْتَرِي نُظِرَ فِي الْمُرْتَهِنِ الْقَابِضِ أَوَّلًا فَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَ ذَلِكَ مِنَ الْمُشْتَرِي فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمُرْتَهِنِ عَلَى الْمُشْتَرِي. فَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَ مِنَ الْعَدْلِ لَمْ يَكُنْ لِلْعَدْلِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَيْهِ لِأَنَّ الْعَدْلَ لَوْ كَانَ قَدْ دَفَعَ إِلَى الرَّاهِنِ فِي الِابْتِدَاءِ لَمْ يَبْرَأْ مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَكَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ. وَيَصِيرَ الْعَدْلُ مُتَطَوِّعًا بِقَضَاءِ دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ.
فَهَذَا الْكَلَامُ فِي إِخْلَالِهِ بِالشَّرْطِ الْأَوَّلِ.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا إِخْلَالُهُ بِالشَّرْطِ الثَّانِي، وَهُوَ بَيْعُهُ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ، فَإِذَا بَاعَهُ بِغَيْرِ الْغَالِبِ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْذَنَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ بِهِ فَبَيْعُهُ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ فَإِنْ فَاتَ رَدُّهُ كَانَ الْعَدْلُ ضَامِنًا لِجَمِيعِ الْقِيمَةِ قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ مَا مَضَى مِنَ الْغَبِينَةِ فِي ثَمَنِهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.
وَإِنَّمَا كَانَ هَهُنَا ضَامِنًا لِجَمِيعِ قِيمَتِهِ لأنه ليس جزء منه متميزا عن الضمان وسببه، وَالْغَبِينَةُ هُنَاكَ مُتَمَيِّزَةٌ مُقَدَّرَةٌ فَجَازَ أَنْ يَخْتَصَّ الضَّمَانُ بِهَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ ضَامِنٌ لِجَمِيعِ الْقِيمَةِ فَهُوَ عَلَى مَا مَضَى مِنْ مُطَالَبَةِ الْعَدْلِ وَالْمُشْتَرِي وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ.
(فَصْلٌ)
وَأَمَّا إِخْلَالُهُ بِالشَّرْطِ الثَّالِثِ وَهُوَ حُلُولُ الثَّمَنِ بِبَيْعِهِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَبَيْعُهُ بَاطِلٌ فَإِنْ فَاتَ رَدُّهُ كَانَ مَضْمُونًا بِقِيمَتِهِ دُونَ ثَمَنِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ أَوْ أَقَلَّ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْبَيْعِ يُبْطِلُ حُكْمَ الثَّمَنِ، وَيُوجِبُ اعْتِبَارَ الْقِيمَةِ وَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَدْلِ وَالْمُشْتَرِي ضَامِنًا لِجَمِيعِ قِيمَتِهِ، وَلِلرَّاهِنِ الْخِيَارُ فِي مُطَالَبَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا يَبْرَأُ الْمُشْتَرِي بِدَفْعِ الْقِيمَةِ إِلَى الْعَدْلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
(فَصْلٌ)
وَأَمَّا إِخْلَالُهُ بِالشَّرْطِ الرَّابِعِ وَهُوَ الِامْتِنَاعُ مِنْ تَسْلِيمِهِ قَبْلَ قَبْضِ ثَمَنِهِ فَيُسَلِّمُهُ إِلَى الْمُشْتَرِي قَبْلَ قَبْضِ ثَمَنِهِ، فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَدْلِ وَالْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ الْمُسَمَّى دُونَ الْقِيمَةِ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ وَلُزُومِ الثَّمَنِ فِيهِ وَلِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالثَّمَنِ. فَإِنْ

(6/138)


دَفَعَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ إِلَى الْعَدْلِ بَرِئَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ وَإِنْ كَانَ الْعَدْلُ ضَامِنًا لَهُ، لِأَنَّ ضَمَانَ الْعَدْلِ لَيْسَ بِضَمَانِ غَصْبٍ، وَإِنَّمَا هُوَ ضَمَانُ تَفْرِيطٍ سَبَبُهُ تَأْخِيرُ قَبْضِ الثَّمَنِ مِنَ الْمُشْتَرِي فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ قَبْضُ الْعَدْلِ مَانِعًا مِنْ بَرَاءَةِ الْمُشْتَرِي، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفُصُولِ الْمَاضِيَةِ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَبْرَأُ بِمَا يَدْفَعُهُ إِلَى الْعَدْلِ إِذَا ضَمِنَهُ الْعَدْلُ، لِأَنَّ ضَمَانَهُ ضَمَانُ غَصْبٍ.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا إِخْلَالُهُ بِالشَّرْطِ الْخَامِسِ وَهُوَ بَيْعُهُ نَاجِزًا بِغَيْرِ خيار شرط فيبيعه باشتراط خِيَارِ الثَّلَاثِ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ اسْتِحْبَابٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَلَا يُبْطِلُ الْبَيْعَ وَلَا يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ وَاجِبٌ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا فَإِنْ فَاتَ الرَّدُّ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَدْلِ وَالْمُشْتَرِي ضَامِنًا لِلْقِيمَةِ دُونَ الثَّمَنِ، وَلَا يَبْرَأُ الْمُشْتَرِي بِدَفْعِ الْقِيمَةِ إِلَى الْعَدْلِ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لَهَا ضَمَانَ غَصْبٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(6/139)


(باب بيع الحاكم للرهن في الاستحقاق)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِذَا بِيعَ الرَّهْنُ فَثَمَنُهُ مِنَ الرَّاهِنِ حَتَى يَقْبِضَهُ الْمُرْتَهِنُ ".
قَالَ الماوردي: وهذا صحيح.
إِذَا بِيعَ الرَّهْنُ فَثَمَنُهُ مِنَ الرَّاهِنِ حَتَى بَعْدَ حُلُولِ الْحَقِّ فَثَمَنُهُ فِي حُكْمِ الرَّهْنِ مَضْمُونٌ عَلَى الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ فَإِنْ تَلِفَ الثَّمَنُ فِي يَدِ الْعَدْلِ قَبْلَ قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ كَانَ تَالِفًا مِنْ مَالِ الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْعَدْلِ مَا لَمْ يَتَعَدَّ أَوْ يُفَرِّطْ.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ الرَّاهِنُ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى بَيْعَ الرَّهْنِ فَثَمَنُهُ مِنْ ضَمَانِ الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ بَاعَهُ الْعَدْلُ أَوِ الْحَاكِمُ فَثَمَنُهُ مِنْ ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ دُونَ الرَّاهِنِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ عَلَى مُرْتَهِنِهِ وَاسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الرَّهْنَ مَبِيعٌ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، كَمَا أَنَّ الْعَبْدَ الْجَانِيَ مَبِيعٌ فِي حَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ ثَمَنَ الْعَبْدِ الْجَانِي إِذَا بِيعَ مِنْ ضَمَانِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ دُونَ سَيِّدِهِ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ فِي حَقِّهِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنُ الرَّهْنِ إِذَا بِيعَ مِنْ ضَمَانِ المرتهن مَبِيعٌ فِي حَقِّهِ، وَدَلِيلُنَا بِنَاءُ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِنَا فِي أَنَّ الرَّهْنَ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى مُرْتَهِنِهِ، ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ أَنَّ يَدَ الْعَدْلِ كيد الراهن لأن جواز بيعه وتصرفه موقوفا عَلَى إِذْنِ الرَّاهِنِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الرَّاهِنَ إِذَا بَاعَ الرَّهْنَ كَانَ ثَمَنُهُ مِنْ ضَمَانِ الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ لِبَقَاءِ الرَّهْنِ عَلَى مِلْكِهِ فَوَجَبَ إِذَا بَاعَهُ الْعَدْلُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنُهُ مِنْ ضَمَانِ الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ لِبَقَاءِ الرَّهْنِ عَلَى مِلْكِهِ.
وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ مَبِيعٌ فِي الرَّهْنِ أَنْ يَكُونَ ثَمَنُهُ مِنْ ضَمَانِ الرَّاهِنِ أَصْلُهُ: إِذَا بَاعَهُ الرَّاهِنُ، وَلِأَنَّهُ ثَمَنٌ مَبِيعٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ ضَمَانِ الْمَالِكِ كَالْوَكِيلِ.
وَأَمَّا ثَمَنُ الْعَبْدِ الْجَانِي فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ السَّيِّدِ دُونَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرُّجُوعَ بِالدَّرْكِ يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ دُونَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا بَطَلَ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِتَلَفِ الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَ مِنْ ضَمَانِ غَيْرِهِ كَمَا بَطَلَ حَقُّهُ بِتَلَفِ الْعَبْدِ الْجَانِي وَإِنْ كَانَ عَلَى ملك غيره والله أعلم.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ مَاتَ الرَّاهِنُ فَأَمَرَ الْحَاكِمُ عَدْلًا فَبَاعَ الرَّهْنَ وَضَاعَ الثَّمَنُ مِنْ يَدَيِ الْعَدْلِ فَاسْتَحَقَّ الرَّهْنَ لَمْ يَضْمَنِ الْحَاكِمُ وَلَا الْعَدْلُ لِأَنَّهُ أمين وأخذ

(6/140)


الْمُسْتَحِقُّ مَتَاعَهُ وَالْحَقُّ وَالثَّمَنُ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ والعهدة عليه كهي لَوْ بَاعَ عَلَى نَفْسِهِ فَلَيْسَ الَّذِي بِيعَ لَهُ الرَّهْنُ مِنَ الْعُهْدَةِ بِسَبِيلٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
إِذَا كَانَ الرهن موضوعا عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ فَلَيْسَ لِلْعَدْلِ بَيْعُ الرَّهْنِ عِنْدَ مَحَلِّ الْحَقِّ إِلَّا بِتَوْكِيلٍ مِنَ الرَّاهِنِ وَإِذْنٍ مِنَ الْمُرْتَهِنِ، فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الرَّهْنِ مَا بَقِيَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ عَلَى إِذْنِهِمَا وَجَوَازِ أَمْرِهِمَا. فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ فِي جَوَازِ أَمْرِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَ إِلَّا بِأَمْرِ الْحَاكِمِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَبَاعَ الْعَدْلُ الرَّهْنَ بِإِذْنِهِمَا أَوْ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ عِنْدَ مَوْتِ الرَّاهِنِ مِنْهُمَا فَالثَّمَنُ مَضْمُونٌ عَلَى الرَّاهِنِ حَتَّى يَقْبِضَهُ الْمُرْتَهِنُ.
فَلَوْ تَلِفَ الثَّمَنُ فِي يَدِ الْعَدْلِ فَإِنْ كَانَ بِتَفْرِيطٍ أَوْ تَعَدٍّ فِيهِ، فَالْعَدْلُ ضَامِنٌ لَهُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ وَلَا تَعَدٍّ فِيهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْعَدْلِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ تَالِفٌ مِنْ مَالِ الرَّاهِنِ، وَعَلَى مَذْهَبِ أبي حنيفة أَنَّهُ تَالِفٌ مِنْ مَالِ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِيهِ. فَلَوِ اسْتَحَقَّ الرَّهْنَ الْمَبِيعَ في يد مشتريه بعد تلف الثمن في يد العدل كانت عهدة المبيع بِالثَّمَنِ، مِنْ مَالِ الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ.
وَقَالَ أبو حنيفة عُهْدَةُ الْمَبِيعِ فِي رُجُوعِ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ فِي مَالِ الْمُرْتَهِنِ دُونَ الرَّاهِنِ بِنَاءً على أصله في أن لثمن الرهن الْمَبِيعِ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُرْتَهِنِ دُونَ الرَّاهِنِ، وَنَحْنُ نَبْنِي ذَلِكَ عَلَى أَصْلِنَا فِي أَنَّ ثَمَنَ الرَّهْنِ الْمَبِيعِ مَضْمُونٌ عَلَى الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْأَصْلِ فَأَغْنَى عَنْ تَجْدِيدِهِ فِي الْفَرْعِ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ رُجُوعَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ يَكُونُ فِي مَالِ الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّاهِنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا بِدَفْعِ الثَّمَنِ وَغَيْرِهِ مِنْ قَضَاءِ الدُّيُونِ فَالْمُشْتَرِي وَجَمِيعُ الْغُرَمَاءِ فِيهِ أُسْوَةٌ لِأَنَّ اتِّسَاعَ الْمَالِ يَمْنَعُ مِنَ الْمُزَاحَمَةِ وَلَا يُوجِبُ تَقْدِيمَ بَعْضِ الْحُقُوقِ فَصَارُوا فِيهِ أُسْوَةً.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا يَضِيقُ مَالُهُ عَنْ دَفْعِ الثَّمَنِ وَقَضَاءِ الدُّيُونِ وَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ فَالَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُقَدَّمُ بِدَفْعِ الثَّمَنِ عَلَى جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ، ثُمَّ يُدْفَعُ مَا بَقِيَ إِلَى الْغُرَمَاءِ، وَالَّذِي نَقَلَهُ الرَّبِيعُ وَحَرْمَلَةُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَكُونُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ.
يَتَحَاصُّونَ مَعًا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى طَرِيقَيْنِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ لِظَاهِرِ النَّصِّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُقَدَّمُ بِدَفْعِ الثَّمَنِ على جميع

(6/141)


الْغُرَمَاءِ لِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ رَاضِيًا بِذِمَّتِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ رَاضَاهُ عَلَى ذِمَّتِهِ وَالثَّانِي أَنَّا لَوْ لَمْ نُقَدِّمْهُ بِهِ لَأَدَّى إِلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ ابْتِيَاعِ مَالِ الْمُفْلِسِ خَوْفًا مِنَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ وَدُخُولِ الضَّرَرِ فِي تَأْخِيرِ الثَّمَنِ فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ بِهِ كَمَا وَجَبَ تَقْدِيمُ الْمُنَادِي بِأُجْرَتِهِ وَالدَّلَّالِ بِجَعَالَتِهِ، لِيُقْدِمَ النَّاسُ عَلَى مُعَامَلَتِهِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي مَا نَقَلَهُ الرَّبِيعُ وَحَرْمَلَةُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ لِاسْتِوَائِهِ وَإِيَّاهُمْ فِي تَعَلُّقِ الْغُرْمِ بِذِمَّتِهِ وَلَا يَجِبُ تَقْدِيمُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِذِمَّتِهِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُفْلِسَ لَوْ جَنَى عَلَى مَالِ رَجُلٍ فَتَعَلَّقَ الْغُرْمُ بِذِمَّتِهِ كَانَ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِذِمَّتِهِ.
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَ اخْتِلَافَ النَّصِّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَالْمَوْضِعُ الَّذِي نَقَلَ مِنْهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُقَدَّمُ عَلَى جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ إِذَا لَمْ يُفَكَّ الْحَجْرُ عَنِ الْمُفْلِسِ فَيُقَدَّمُ الْمُشْتَرِي عَلَى جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ وَالْمَوْضِعُ الَّذِي نَقَلَ مِنْهُ الرَّبِيعُ وَحَرْمَلَةُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ إِذَا فُكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ ثُمَّ اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ مِنْ يَدَيِ الْمُشْتَرِي فَصَارَ الثَّمَنُ مَعَ بَاقِي الدُّيُونِ فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ أَصَابَ مَا لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ أسوة الغرماء.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ بَاعَ الْعَدْلُ فَقَبَضَ الثَّمَنَ فَقَالَ ضَاعَ فَهُوَ مُصَدَّقٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
إذا قَالَ الْعَدْلُ الْمَأْمُونُ بِبَيْعِ الرَّهْنِ قَدْ بِعْتُهُ وَقَبَضْتُ ثَمَنَهُ وَضَاعَ مِنْ يَدَيَّ فَقَوْلُهُ مَقْبُولٌ لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَقَوْلُ الْأَمِينِ فِي تَلَفِ مَا بِيَدِهِ مَقْبُولٌ، كَالْمُودَعِ وَالْوَكِيلِ فَأَمَّا وُجُوبُ الْيَمِينِ عَلَيْهِ فَمُعْتَبَرَةٌ بِمَا يَكُونُ مِنْ تَصْدِيقِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ أَوْ تَكْذِيبِهِمَا لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقًّا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ، أَحَدُهَا أَنْ يُصَدِّقَا جَمِيعًا الْعَدْلَ عَلَى تَلَفِ الرَّهْنِ فِي يَدِهِ، فَلَا يَجِبُ عَلَى الْعَدْلِ الْيَمِينُ بِتَصْدِيقِهِمَا وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ أَنْ يُكَذِّبَا جَمِيعًا الْعَدْلَ فِي تَلَفِ الثَّمَنِ مِنْ يَدِهِ فَعَلَى الْعَدْلِ الْيَمِينُ، لِأَنَّهُمَا بِالتَّكْذِيبِ يَدَّعِيَانِ عَلَيْهِ اسْتِحْقَاقَ الثَّمَنِ فِي يَدِهِ فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ مِنَ الْحُكْمِ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَى الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ الثَّمَنَ عَلَى مِلْكِهِ، فَإِنْ حلف الراهن كان على العدل عزم الثَّمَنِ وَكَانَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ مُتَعَلِّقًا بِهِ يَسْتَوْفِيهِ مِنْهُ وَإِنْ نَكَلَ الرَّاهِنُ وَبَذَلَ الْمُرْتَهِنُ الْيَمِينَ لِأَجْلِ أَنَّ الثَّمَنَ صَائِرٌ إِلَيْهِ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ تُرَدَّ الْيَمِينُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي اخْتِلَافِ غُرَمَاءَ الْمُفْلِسِ فِيمَا نَكَلَ عَنْهُ الْمُفْلِسُ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْيَمِينَ تُرَدُّ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَإِنْ حَلَفَ وَجَبَ عَلَى الْعَدْلِ غَرَامَةُ الثَّمَنِ لِيَسْتَوْفِيَ الْمُرْتَهِنُ حَقَّهُ وَإِنْ نَكَلَ بَرِئَ الْعَدْلُ،
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، فَعَلَى هَذَا القول برئ من الثمن بنكول الراهن،

(6/142)


والحال الثَّالِثَةُ: أَنْ يُصَدِّقَ الْمُرْتَهِنُ وَيُكَذِّبَ الرَّاهِنُ فَعَلَى الْعَدْلِ الْيَمِينُ لِأَنَّ الثَّمَنَ مِلْكٌ لِلرَّاهِنِ فَلَا يُمْنَعُ الرَّاهِنُ مِنْ إِحْلَافِ الْعَدْلِ عَلَى مِلْكِهِ لِأَجْلِ تَصْدِيقِ غَيْرِهِ، فَإِنْ حَلَفَ الْعَدْلُ بَرِئَ من الثمن، وإن نكل عن اليمين ردت الْيَمِينُ عَلَى الرَّاهِنِ، فَإِنْ حَلَفَ الرَّاهِنُ وَجَبَ عَلَى الْعَدْلِ غَرَامَةُ الثَّمَنِ، فَإِذَا غَرِمَ الثَّمَنَ اخْتُصَّ بِهِ الرَّاهِنُ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُرْتَهِنِ فِيهِ حَقٌّ لِإِقْرَارِهِ بِتَلَفِ مَا كَانَ حَقُّهُ مُتَعَلِّقًا بِهِ، فَإِنْ سَأَلَ الرَّاهِنُ أَنْ يَقْبِضَ الْمُرْتَهِنُ حَقَّهُ مِنْ هَذَا الثَّمَنِ لِتَبْرَأَ ذِمَّتُهُ، فَوَاجِبٌ عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَنْ يَقْبِضَ حَقَّهُ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي غَرِمَهُ الْعَدْلُ وَيُبَرِّئُ الرَّاهِنَ مِنْ حَقِّهِ، فَإِنْ قَبَضَ الْمُرْتَهِنُ حَقَّهُ مِنْ هَذَا الثَّمَنِ بَرِئَ الرَّاهِنُ مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَوَجَبَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرُدَّ مَا قَبَضَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْعَدْلِ، لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ يُقِرُّ أَنَّ الْعَدْلَ مظلوم به وأنه باق على ملكه.
والحال الرَّابِعَةُ: أَنْ يُصَدِّقَ الرَّاهِنُ وَيُكَذِّبَ الْمُرْتَهِنُ، فَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُوسِرًا أُجْبِرَ عَلَى دَفْعِهِ لِلْمُرْتَهِنِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُرْتَهِنِ إِحْلَافُ الْعَدْلِ، وَقَدْ بَرِئَ الْعَدْلُ بِتَصْدِيقِ الرَّاهِنِ، وَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُعْسِرًا فَهَلْ تَسْقُطُ الْيَمِينُ عَنِ الْعَدْلِ بِتَصْدِيقِ الرَّاهِنِ أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ لِأَجْلِ تَكْذِيبِ الْمُرْتَهِنِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي مُدَّعِي جِنَايَةِ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ إِذَا صَدَّقَهُ الرَّاهِنُ وَكَذَّبَهُ الْمُرْتَهِنُ هَلْ يَثْبُتُ حَقُّهُ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، كَذَلِكَ الْعَدْلُ إِذَا ادَّعَى تَلَفَ الثَّمَنِ فَصَدَّقَهُ الرَّاهِنُ وَكَذَّبَهُ الْمُرْتَهِنُ كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ - أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ الْعَدْلَ قَدْ بَرِئَ بِتَصْدِيقِ الرَّاهِنِ وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ إِحْلَافُهُ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ بِتَصْدِيقِ الرَّاهِنِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَحْلِفَ لِلْمُرْتَهِنِ فَإِنْ حَلَفَ الْعَدْلُ لِلْمُرْتَهِنِ بَرِئَ مِنَ الْحُكْمِ، وَإِنْ نَكَلَ الْعَدْلُ عَنِ الْيَمِينِ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ تُرَدَّ عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: لَا تُرَدُّ عَلَيْهِ لِأَنَّ الثَّمَنَ مِلْكٌ لِغَيْرِهِ، وَالثَّانِي: تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الثَّمَنَ صَائِرٌ إِلَيْهِ.
فَعَلَى هَذَا إِذَا حَلَفَ الْمُرْتَهِنُ وَجَبَ عَلَى الْعَدْلِ غَرَامَةُ الثَّمَنِ ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ الثَّمَنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ بِإِزَاءِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ فَلَهُ مُطَالَبَةُ الْعَدْلِ بِجَمِيعِهِ، فَإِذَا قَبَضَ ذَلِكَ مِنْهُ سَقَطَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ مِنْ ذِمَّةِ الرَّاهِنِ لِإِقْرَارِهِ بِقَبْضِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ أَقَلَّ مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَلَهُ قَبْضُ جَمِيعِ الثَّمَنِ وَمُطَالَبَةُ الرَّاهِنِ بِمَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، فَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ إِلَّا قِدْرَ حَقِّهِ، فَإِذَا أَخَذَ قَدْرَ حَقِّهِ بَرِئَ الرَّاهِنُ مِنْهُ، وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ مُطَالَبَةُ الْعَدْلِ بما بقي من الثمن يعد حَقِّ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّ الْعَدْلَ مَظْلُومٌ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، فَإِنْ قِيلَ، فَإِذَا كَانَ مَا قبضه

(6/143)


الْمُرْتَهِنُ ظُلْمًا فَكَيْفَ يَبْرَأُ بِهِ الرَّاهِنُ؟ قُلْنَا إِنَّمَا سَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ عَنْهُ، فَأَمَّا بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ من الباطن فالله أعلم بذلك.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ قَالَ دَفَعْتُهُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَعَلَى الدَّافِعِ الْبَيِّنَةُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْعَدْلَ إِذَا بَاعَ الرَّهْنَ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ، فَلَيْسَ لَهُ دَفْعُ ثَمَنِهِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ إِلَّا بِإِذْنِ الرَّاهِنِ لِبَقَائِهِ عَلَى مِلْكِهِ وَلَا لَهُ دَفْعُ ثَمَنِهِ إِلَى الرَّاهِنِ إِلَّا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِهِ، وَالْوَاجِبُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَيْهِمَا مَعًا، أَوْ إِلَى أَحَدِهِمَا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِهِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ الرَّاهِنُ فِي دَفْعِهِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ جَازَ وَكَانَ وَكِيلًا لَهُ فِي قَضَاءِ الْحَقِّ عَنْهُ، فَإِنْ رَجَعَ الرَّاهِنُ عَنْ إِذْنِهِ قَبْلَ دَفْعِهِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ بَطَلَتْ وَكَالَةُ الْعَدْلِ فِي قَضَاءِ الْحَقِّ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ دَفْعُ الثَّمَنِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ فَإِنْ دَفَعَهُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ بَعْدَ رُجُوعِ الرَّاهِنِ، كَانَ دَافِعًا لَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ الرَّاهِنِ فَصَارَ لَهُ ضَامِنًا.
فَإِنْ أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ لِلْعَدْلِ فِي دَفْعِ الثَّمَنِ إِلَى الرَّاهِنِ كَانَ ذَلِكَ إِبْطَالًا لِحَقِّ وَثِيقَتِهِ فِي الثَّمَنِ، فَإِنْ رَجَعَ الْمُرْتَهِنُ عَنْ إِذْنِهِ قَبْلَ دَفْعِ الثَّمَنِ إِلَى الرَّاهِنِ، لَمْ يَكُنْ لِرُجُوعِهِ تَأْثِيرٌ لِبُطْلَانِ حَقِّهِ مِنَ الْوَثِيقَةِ بِالْإِذْنِ الْمُتَقَدِّمِ وَكَانَ لِلْعَدْلِ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى الرَّاهِنِ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ، وَكَانَ ثَمَنُ الرَّهْنِ بِيَدِ الْعَدْلِ فَادَّعَى تَسْلِيمَهُ وَدَفْعَهُ فَهَذَا عَلَى ثلاثة أحوال.
أَحَدُهَا: أَنْ يَدَّعِيَ تَسْلِيمَهُ إِلَى الرَّاهِنِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَدَّعِيَ تَسْلِيمَهُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَدَّعِيَ تَسْلِيمَهُ إِلَى الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ إِلَى الرَّاهِنِ، فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرْتَهِنُ قَدْ أَذِنَ لَهُ بِالدَّفْعِ، وَالرَّاهِنُ مُقِرٌّ بِالْقَبْضِ، فَقَدْ بَرِئَ الْعَدْلُ مِنْ مُطَالَبَةِ الْمُرْتَهِنِ بِإِذْنِهِ، وَبَرِئَ مِنْ مُطَالَبَةِ الرَّاهِنِ بِقَبْضِهِ، وَيَكُونُ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ بَاقِيًا فِي ذِمَّةِ الرَّاهِنِ، وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْعَدْلِ بِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرْتَهِنُ قَدْ أَذِنَ لَهُ بِالدَّفْعِ، وَالرَّاهِنُ مُنْكِرٌ لِلْقَبْضِ فَقَدْ بَرِئَ الْعَدْلُ مِنْ مُطَالَبَةِ الْمُرْتَهِنِ بِإِذْنِهِ وَبَرِئَ مِنْ مُطَالَبَةِ الرَّاهِنِ بِقَوْلِهِ، لِأَنَّ قَوْلَ الْعَدْلِ عَلَى الرَّاهِنِ مَقْبُولٌ، وَإِنْ أَنْكَرَ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ لَهُ وَأَمِينٌ عَلَيْهِ، وَقَوْلُ الْوَكِيلِ مَقْبُولٌ عَلَى مُوَكِّلِهِ إِذَا حَلَفَ، وَيَكُونُ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ بَاقِيًا فِي ذِمَّةِ الرَّاهِنِ لَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْعَدْلِ بِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرْتَهِنُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالدَّفْعِ، وَالرَّاهِنُ مُقِرٌّ بِالْقَبْضِ، فَقَدْ بَرِئَ الْعَدْلُ مِنْ مُطَالَبَةِ الرَّاهِنِ بِقَبْضِهِ وَلَمْ يَبْرَأْ مِنْ مُطَالَبَةِ الْمُرْتَهِنِ لِعَدَمِ إِذْنِهِ، وَالْمُرْتَهِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ مُطَالَبَةِ الرَّاهِنِ أو العدل.

(6/144)


فَإِنْ طَالَبَ الرَّاهِنَ وَقَبَضَ مِنْهُ بَرِئَ الرَّاهِنُ والعدل جميعا، لا وَلَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْعَدْلِ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ مَا كَانَ يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الثَّمَنِ قَدْ أَقَرَّ بِقَبْضِهِ، وَإِنْ طَالَبَ الْعَدْلَ وَأَغْرَمَهُ فَقَدْ بَرِئَ الْعَدْلُ وَالرَّاهِنُ جَمِيعًا، وَلِلْعَدْلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا غَرِمَهُ لِلْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّ غُرْمَهُ بِحَقِّ نِيَابَتِهِ عَنْهُ وَوِكَالَتِهِ لَهُ.
وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرْتَهِنُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالدَّفْعِ وَالرَّاهِنُ مُنْكِرٌ لِلْقَبْضِ، فَقَدْ بَرِئَ الْعَدْلُ من مطالبة الراهن وإن أنكر، لأن قول عليه مقبول ولم يبرأ العدل مِنْ مُطَالَبَةِ الْمُرْتَهِنِ لِعَدَمِ إِذْنِهِ بِالدَّفْعِ، وَالْمُرْتَهِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ مُطَالَبَةِ الرَّاهِنِ أَوِ الْعَدْلِ، فَإِنْ طَالَبَ الرَّاهِنَ وَقَبَضَ مِنْهُ بَرِئَ الرَّاهِنُ وَالْعَدْلُ جَمِيعًا، وَلَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْعَدْلِ بِمَا غَرِمَهُ لِلْمُرْتَهِنِ، فَإِنْ طَالَبَ الْعَدْلَ وَأَغْرَمَهُ بَرِئَ الْعَدْلُ وَالرَّاهِنُ جَمِيعًا، وَلَمْ يَكُنْ لِلْعَدْلِ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ عَلَى الرَّاهِنِ، لِأَنَّ قَوْلَ الْعَدْلِ عَلَى الرَّاهِنِ مَقْبُولٌ فِيمَا بِيَدِهِ، وَغَيْرُ مَقْبُولٍ فِيمَا يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ الرُّجُوعِ بِهِ، فَهَذَا حُكْمُ دَعْوَى الْعَدْلِ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ إِلَى الراهن.

(فصل)
فأما القسم الثاني وهو أن يدعي تَسْلِيمَ الثَّمَنِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ، فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ:
أحدها: أَنْ يَكُونَ الرَّاهِنُ قَدْ أَذِنَ لَهُ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ.
وَالْمُرْتَهِنُ مُقِرٌّ بِالْقَبْضِ، فَقَدْ بَرِئَ الْعَدْلُ مِنْ مُطَالَبَةِ الرَّاهِنِ بِإِذْنِهِ، وَبَرِئَ مِنْ مُطَالَبَةِ الْمُرْتَهِنِ بِإِقْرَارِهِ، وَقَدِ اسْتَوْفَى الْمُرْتَهِنُ حَقَّهُ فَلَا مُطَالَبَةَ لَهُ عَلَى الرَّاهِنِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الرَّاهِنُ قَدْ أَذِنَ لَهُ بِالدَّفْعِ، وَالْمُرْتَهِنُ مُنْكِرٌ لِلْقَبْضِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ، أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْعَدْلِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَقْبُولًا عَلَى الرَّاهِنِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَمِينٍ لَهُ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَمِينٌ لِلرَّاهِنِ فَقُبِلَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ، وَإِذَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ لَمْ يَبْرَأْ مِنْ مُطَالَبَةِ الْمُرْتَهِنِ، فَأَمَّا الراهن فله حالتان:
أحدهما: أَنْ يُكَذِّبَ الْعَدْلَ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ دَفْعِ الثَّمَنِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ، فَلَا يَبْرَأُ الْعَدْلُ مِنْ مُطَالَبَةِ الرَّاهِنِ، لِأَنَّ قَوْلَ الْعَدْلِ مَقْبُولٌ عَلَى الرَّاهِنِ فِيمَا يَدَّعِي تَسْلِيمَهُ وَغَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَيْهِ فِيمَا يَدَّعِي تَسْلِيمَهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ عَلَى حَقِّهِمَا مِنْ مُطَالَبَةِ الْعَدْلِ بِالثَّمَنِ، وَالْمُرْتَهِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ مُطَالَبَةِ الْعَدْلِ أَوِ الرَّاهِنِ، فَإِنْ طَالَبَ الْعَدْلَ فَأَغْرَمَهُ لَمْ يَرْجِعِ الْعَدْلُ عَلَى الرَّاهِنِ وإن أغرمه الراهن رجع الراهن على العدل.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُصَدِّقَ الْعَدْلَ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ دَفْعِ الثَّمَنِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الرَّاهِنُ حَاضِرًا عِنْدَ دَفْعِ الْعَدْلِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ بَرِئَ الْعَدْلُ مِنْ حَقِّ الرَّاهِنِ بِحُضُورِهِ، وَلَمْ يَبْرَأْ مَنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ لِإِنْكَارِهِ، وَالْمُرْتَهِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ مُطَالَبَةِ الْعَدْلِ أَوِ الرَّاهِنِ، فَإِنْ طَالَبَ الْعَدْلَ فَأَغْرَمَهُ لَمْ يَرْجِعِ الْعَدْلُ عَلَى الرَّاهِنِ لِأَنَّ الْعَدْلَ مَظْلُومٌ بِهَا، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى غَيْرِ ظَالِمِهِ.

(6/145)


وَإِنْ طَالَبَ الرَّاهِنَ فَأَغْرَمَهُ لَمْ يَرْجِعِ الرَّاهِنُ عَلَى الْعَدْلِ لِأَنَّ الرَّاهِنَ مَظْلُومٌ بِهَا فَلَا يَرْجِعُ عَلَى غَيْرِ ظَالِمِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الرَّاهِنُ الْمُصَدِّقُ غَائِبًا عِنْدَ الدَّفْعِ، فَهَلْ يَبْرَأُ الْعَدْلُ مِنْ حَقِّ الرَّاهِنِ بِتَصْدِيقِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَبْرَأُ بِتَصْدِيقِهِ كَمَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا عِنْدَ دَفْعِهِ ثُمَّ يَكُونُ الْمُرْتَهِنُ بِالْخِيَارِ، بَيْنَ مُطَالَبَةِ الرَّاهِنِ أَوِ الْعَدْلِ، فَإِنْ أَغْرَمَ الْعَدْلَ لَمْ يَرْجِعِ الْعَدْلُ عَلَى الرَّاهِنِ، وَإِنْ أَغْرَمَ الرَّاهِنَ لَمْ يَرْجِعِ الرَّاهِنُ عَلَى الْعَدْلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَدْلَ لَا يَبْرَأُ مِنْ حَقِّ الرَّاهِنِ، وَإِنْ صَدَّقَهُ الرَّاهِنُ عَلَى الدَّفْعِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ مُفَرِّطٌ حَيْثُ لَمْ يَشْهَدْ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَإِنْ كَانَ مُصَدِّقًا فَلَمْ يَبْرَأْ مِنْ حَقِّ الرَّاهِنِ، لِأَجْلِ تَفْرِيطِهِ فَعَلَى هَذَا الْمُرْتَهِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ مُطَالَبَةِ الرَّاهِنِ أَوِ الْعَدْلِ، فَإِنْ طَالَبَ الْعَدْلَ فَأَغْرَمَهُ لَمْ يَرْجِعِ الْعَدْلُ عَلَى الرَّاهِنِ، وَإِنْ طَالَبَ الرَّاهِنَ فَأَغْرَمَهُ رَجَعَ الرَّاهِنُ عَلَى الْعَدْلِ لِأَنَّ الْعَدْلَ لَمْ يَبْرَأْ مِنْ حَقِّ الرَّاهِنِ.
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الرَّاهِنُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالدَّفْعِ، وَالْمُرْتَهِنُ مُقِرٌّ بِالْقَبْضِ، فَقَدْ بَرِئَ الْعَدْلُ مِنْ مُطَالَبَةِ الْمُرْتَهِنِ بِإِقْرَارِهِ، وَلَمْ يَبْرَأْ مِنْ مُطَالَبَةِ الرَّاهِنِ لِعَدَمِ إِذْنِهِ، وَوَجَدْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ مِنْ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ يَقُولُ: إِنَّ الْعَدْلَ قَدْ بَرِئَ مِنْ مُطَالَبَةِ الرَّاهِنِ، وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ بِالثَّمَنِ لِحُصُولِ الْإِبْرَاءِ لِلرَّاهِنِ بِإِقْرَارِ الْمُرْتَهِنِ بِالْقَبْضِ.
وَهَذَا عِنْدِي غَيْرُ صَحِيحٍ بَلْ عَلَى الْعَدْلِ غَرَامَةُ الثَّمَنِ لِلرَّاهِنِ وَإِنْ بَرِئَ مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّ الْعَدْلَ مُتَعَدٍّ بِالدَّفْعِ مُتَطَوِّعٌ بِالْأَدَاءِ، فَلَزِمَهُ الْغُرْمُ بِتَعَدِّيهِ، وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بِتَطَوُّعِهِ كَمَا لَوْ قَضَى الدَّيْنَ مِنْ مَالِهِ.
وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الرَّاهِنُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالدَّفْعِ، وَالْمُرْتَهِنُ مُنْكِرٌ لِلْقَبْضِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ، لِأَنَّ قَوْلَ الْعَدْلِ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، ثُمَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ مُطَالَبَةُ الْعَدْلِ بِالثَّمَنِ، أَمَّا الرَّاهِنُ فَلِعَدَمِ إِذْنِهِ، وَأَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَلِإِنْكَارِ قَبْضِهِ، وَلَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ غَرَامَةِ الثَّمَنِ لِأَحَدِهِمَا إِلَّا بِإِذْنِ الْآخَرِ، كَالثَّمَنِ الْأَوَّلِ الَّذِي كَانَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ دَفْعِهِ إِلَى أَحَدِهِمَا إِلَّا بِإِذْنِ الْآخَرِ، لِئَلَّا يَلْزَمَهُ غَرَامَةُ ثَمَنَيْنِ، فَيَغْرَمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا، فَإِنْ غَرِمَ الثَّمَنَ لِلرَّاهِنِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، كَانَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَأْخُذَ بِغَرَامَةِ الثَّمَنِ ثانية، وإن غَرِمَ الثَّمَنَ لِلْمُرْتَهِنِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الرَّاهِنِ كان الراهن أَنْ يَأْخُذَهُ بِغَرَامَةِ الثَّمَنِ ثَانِيَةً وَلِلْمُرْتَهِنِ مُطَالَبَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَدْلِ وَالرَّاهِنِ مَعًا، فَإِنْ طَالَبَ الرَّاهِنَ فَأَغْرَمَهُ، كَانَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْعَدْلِ بِالثَّمَنِ وَإِنْ طَالَبَ الْعَدْلَ فَأَغْرَمَهُ لَمْ يَكُنْ لِلْعَدْلِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الرَّاهِنِ.
ثُمَّ يُنْظَرُ، فَإِنْ غَرِمَهُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ بَرِئَ مِنْ مُطَالَبَةِ الرَّاهِنِ وَإِنْ غَرِمَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَمْ يَبْرَأْ مِنْ مُطَالَبَتِهِ فَهَذَا حُكْمُ دَعْوَى الْعَدْلِ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ.

(6/146)


(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ الْعَدْلُ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ إِلَى الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ فَعَلَى أربعة أضرب: -
أحدهما: أَنْ يُقِرَّ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ فَقَدْ بَرِئَ الْعَدْلُ مِنْ حَقِّهِمَا مَعًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُنْكِرَهُ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ.
فَقَدْ بَرِئَ الْعَدْلُ مِنْ مُطَالَبَةِ الرَّاهِنِ، لِأَنَّ قَوْلَ الْعَدْلِ مَقْبُولٌ عَلَيْهِ وَإِنْ أَنْكَرْهُ، وَلَمْ يَبْرَأْ مِنْ مُطَالَبَةِ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَيْهِ إِذَا أَنْكَرَ.
ثُمَّ الْمُرْتَهِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ مُطَالَبَةِ الرَّاهِنِ، أَوِ الْعَدْلِ فَإِنْ طَالَبَ الرَّاهِنَ فَأَغْرَمَهُ فَقَدْ بَرِئَ الرَّاهِنُ وَالْعَدْلُ جَمِيعًا، وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ عَلَى الْعَدْلِ.
وَإِنْ طَالَبَ الْعَدْلَ فَأَغْرَمَهُ بَرِئَ الْعَدْلُ وَالرَّاهِنُ جَمِيعًا وَلَيْسَ لِلْعَدْلِ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ عَلَى الرَّاهِنِ، لِأَنَّ قَوْلَ الْعَدْلِ فِيمَا يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ الرُّجُوعِ بِهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ فِيمَا بِيَدِهِ مَقْبُولًا.
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يُقِرَّ الْمُرْتَهِنُ وَيُنْكِرَ الرَّاهِنُ فَقَدْ بَرِئَ الْعَدْلُ مِنْ حَقِّهِمَا، أَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَبِإِقْرَارِهِ وَأَمَّا الراهن فلقبول قوله.
وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ: أَنْ يُقِرَّ الرَّاهِنُ وَيُنْكِرَ الْمُرْتَهِنُ فَقَدْ بَرِئَ الْعَدْلُ مِنْ حَقِّ الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ وَلِلْمُرْتَهِنِ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يُطَالِبَ الرَّاهِنَ أَوِ الْعَدْلَ، فَإِنْ أَغْرَمَ الرَّاهِنَ بَرِئَ الرَّاهِنُ وَالْعَدْلُ جَمِيعًا، وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ عَلَى الْعَدْلِ.
فَإِنْ أَغْرَمَهُ الْعَدْلَ بَرِئَ الْعَدْلُ وَالرَّاهِنُ جَمِيعًا، وَلَيْسَ لِلْعَدْلِ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ عَلَى الرَّاهِنِ، لِأَنَّ الْعَدْلَ مُقِرٌّ أَنَّهُ مَظْلُومٌ بِإِغْرَامِ الْمُرْتَهِنِ لَهُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى غَيْرِ مَنْ ظَلَمَهُ، فَهَذَا حُكْمُ دَعْوَى الْعَدْلِ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ إِلَى الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ وَاللَّهُ أعلم.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ بَاعَ بِدَيْنٍ كَانَ ضَامِنًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَجُمْلَتُهُ إِذَا أَذِنَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ لِلْعَدْلِ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ خَمْسَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَأْذَنَا لَهُ فِي بَيْعِهِ بِالنَّقْدِ فَلَا يَجُوزُ لِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَهُ بِالدَّيْنِ، فَإِنْ بَاعَهُ بِالدَّيْنِ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا، وَكَانَ لِجَمِيعِ قِيمَتِهِ بِالتَّسْلِيمِ ضَامِنًا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَأْذَنَا لَهُ فِي بَيْعِهِ بِالدَّيْنِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِالدَّيْنِ بِمَا حَدَّا لَهُ مِنَ الْأَجَلِ أَوْ بِمَا لَا يَتَفَاوَتُ مِنَ الْآجَالِ إِنْ لَمْ يَحُدَّا لَهُ الْأَجَلَ، فَإِنْ بَاعَهُ بِالنَّقْدِ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الَّذِي

(6/147)


يُسَاوَى بِالدَّيْنِ كَانَ بَيْعُهُ جَائِزًا لِتَعْجِيلِ الثَّمَنِ مَعَ حُصُولِ مَا يُقْصَدُ مِنَ التَّوْفِيرِ لِلْأَجَلِ، وَإِنْ بَاعَهُ بِالنَّقْدِ بِدُونِ مَا يُسَاوَى بِالدَّيْنِ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا وَكَانَ لِقِيمَتِهِ بِالتَّسْلِيمِ ضَامِنًا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَأْذَنَا لَهُ فِي بَيْعِهِ مُطْلَقًا، فَإِطْلَاقُ الْإِذْنِ يَقْتَضِي بَيْعَ النَّقْدِ كَمَا لَوْ صَرَّحَا بِهِ فَإِنْ بَاعَهُ بِالدَّيْنِ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِطْلَاقُ الْإِذْنِ يَقْتَضِي جَوَازَ الْبَيْعِ بِالنَّقْدِ وَالدَّيْنِ فَبِأَيِّهِمَا بَاعَ جاز، وكذلك الوكيل مع الإطلاق لِأَنَّ اسْمَ الْبَيْعِ يَتَنَاوَلُهُ.
وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ إِطْلَاقَ الْإِذْنِ كَإِطْلَاقِ الْعَقْدِ، فَلَمَّا كَانَ إِطْلَاقُ الْعَقْدِ يَقْتَضِي تَعْجِيلَ الثَّمَنِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ الْإِذْنِ يَقْتَضِي تَعْجِيلَ الثَّمَنِ وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُسْتَوْفَى فِي كِتَابِ الْوِكَالَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَأْذَنَ الرَّاهِنُ فِي بَيْعِهِ بِالدَّيْنِ وَيَأْذَنَ الْمُرْتَهِنُ فِي بَيْعِهِ بِالنَّقْدِ فَلَيْسَ لِلْعَدْلِ بَيْعُهُ بِالدَّيْنِ، لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ مَعَ اسْتِحْقَاقِ تَعْجِيلِهِ، فَأَمَّا بِالنَّقْدِ فَإِنْ بَاعَهُ بِمِثْلِ مَا يُسَاوَى بِالدَّيْنِ جَازَ وَإِنْ بَاعَهُ بِمِثْلِ مَا يُسَاوَى بِالنَّقْدِ دُونَ مَا يُسَاوَى بِالدَّيْنِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ الْمَالِكَ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ. فَيَجْرِي عَلَى هَذَا الْإِذْنِ حُكْمُ النَّقْدِ فِي التَّعْجِيلِ وَحُكْمُ الدَّيْنِ فِي التَّوْفِيرِ.
وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الرَّاهِنُ فِي بَيْعِهِ بِالنَّقْدِ وَيَأْذَنُ لَهُ الْمُرْتَهِنُ فِي بَيْعِهِ بِالدَّيْنِ فَلِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَهُ بِالنَّقْدِ الَّذِي أَذِنَ فِيهِ الرَّاهِنُ وَلَا يَبِيعَهُ بِالدَّيْنِ الَّذِي أَذِنَ فِيهِ الْمُرْتَهِنُ، لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ فِي الْبَيْعِ وَالتَّعْجِيلِ وَلَيْسَ لَهُ حَقٌّ فِي التَّأْخِيرِ فَقُبِلَ إِذْنُهُ فِي الْبَيْعِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ وَلَمْ يُقْبَلْ إِذْنُهُ فِي التَّأْخِيرِ لِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِ وَفَارَقَ إِذْنَ الرَّاهِنِ بِالتَّأْخِيرِ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ.

(فَصْلٌ)
وَإِذَا أَذِنَا لِلْعَدْلِ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ بَعْدَ شَهْرٍ فَبَاعَهُ قَبْلَ مُضِيِّ الشَّهْرِ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا وَكَانَ لِقِيمَتِهِ بِالتَّسْلِيمِ ضَامِنًا وَلَوْ أَذِنَا فِي بَيْعِهِ بِالْكُوفَةِ فَبَاعَهُ بِالْبَصْرَةِ كَانَ بَيْعُهُ جَائِزًا إِذَا كَانَ الثَّمَنَانِ وَاحِدًا وَكَانَ لِثَمَنِهِ ضَامِنًا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ قَبْلَ الشَّهْرِ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ فِي بَيْعِهِ فَبَطَلَ بَيْعُهُ، وَإِذَا نَقَلَهُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ كَانَ مَأْذُونًا فِي بَيْعِهِ فَجَازَ بَيْعُهُ وضمن ثمنه.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ لَهُ أَحَدُهُمَا بِعْ بِدَنَانِيرَ وَالْآخَرُ بِعْ بِدَرَاهِمَ لَمْ يَبِعْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لَحِقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي ثَمَنِ الرَهْنِ وَحَقِّ الرَّاهِنِ فِي رَقَبَتِهِ وَثَمَنِهِ وَجَاءَ الْحَاكِمُ حَتَّى يَأْمُرَهُ بِالْبَيْعِ بِنَقْدِ الْبَلَدِ ثُمَّ يَصْرِفُهُ فِيمَا الرَّهْنُ فِيهِ ".

(6/148)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ إِذْنِهِمَا لِلْعَدْلِ فِي الثَّمَنِ الَّذِي يبيع الرهن به من أربعة أقسام:
أحدهما: أَنْ يُعَيِّنَا فِي الْإِذْنِ جِنْسَ الثَّمَنِ فَيَأْذَنَا لَهُ فِي بَيْعِهِ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ يَأْذَنَا لَهُ فِي بَيْعِهِ بِجِنْسٍ مِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالْعُرُوضِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَ الرَّهْنَ إِلَّا بِالثَّمَنِ الَّذِي عَيَّنَّاهُ لَهُ، فَإِنْ بَاعَهُ بِغَيْرِهِ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا وَكَانَ لِقِيمَتِهِ بِالتَّسْلِيمِ ضَامِنًا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُطْلِقَا الْإِذْنَ وَلَا يُعَيِّنَا جِنْسَ الثَّمَنِ فَوَاجِبٌ عَلَى الْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَهُ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ سَوَاءٌ كَانَ مَنْ جِنْسِ الْحَقِّ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ ": يَبِيعُهُ بِجِنْسِ حَقِّهِ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّمَا أَرَادَ بِجِنْسِ حَقِّهِ إِذَا كَانَ مِنْ غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ بَاعَهُ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ، فَحَمَلُوا إِطْلَاقَهُ عَلَى هَذَا التَّقْيِيدِ، فَإِنْ كَانَ غَالِبُ نَقْدِ الْبَلَدِ دَرَاهِمَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبِيعَهُ بِدَنَانِيرَ، وَإِنْ كَانَ غَالِبُ نَقْدِ الْبَلَدِ دَنَانِيرَ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبِيعَهُ بِدَرَاهِمَ، فَإِنْ فَعَلَ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا وَكَانَ لِقِيمَتِهِ بِالتَّسْلِيمِ ضَامِنًا.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَأْذَنَا لَهُ فِي بَيْعِهِ بِمَا رَأَى مِنَ الْأَثْمَانِ فَلَهُ بَيْعُهُ بِمَا رَأَى مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ سَوَاءٌ بَاعَهُ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِالْبُرِّ أَوْ بِالشَّعِيرِ، لِأَنَّ مُطْلَقَ الْأَثْمَانِ يَتَنَاوَلُ الْفِضَّةَ وَالذَّهَبَ دُونَ غَيْرِهِمَا إِلَّا أَنْ يُصَرِّحَا بِهِ فِي إِذْنِهِمَا فَإِنْ بَاعَهُ بِذَلِكَ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَخْتَلِفَا عَلَيْهِ فِي الْإِذْنِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَيَأْذَنُ أَحَدُهُمَا فِي بَيْعِهِ بِالدَّرَاهِمِ وَيَأْذَنُ الْآخَرُ فِي بَيْعِهِ بِالدَّنَانِيرِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ مَا اخْتَلَفَا فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ غَالِبُ نَقْدِ الْبَلَدِ وَجِنْسُ الْحَقِّ هُوَ مَا أَذِنَ بِهِ الْمُرْتَهِنُ دُونَ الرَّاهِنِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَهُ بِمَا أَذِنَ بِهِ الْمُرْتَهِنُ وَلَا بِمَا أَذِنَ بِهِ الرَّاهِنُ، أَمَّا مَا أَذِنَ بِهِ الرَّاهِنُ فَلِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ فِي غَيْرِهِ وَأَمَّا مَا أَذِنَ بِهِ الْمُرْتَهِنُ فَلِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ لِغَيْرِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَالِبُ نَقْدِ الْبَلَدِ وَجِنْسُ الْحَقِّ مَا أَذِنَ بِهِ الرَّاهِنُ دُونَ الْمُرْتَهِنِ، فَهَذَا يَبِيعُهُ الْعَدْلُ بِمَا أَذِنَ بِهِ الرَّاهِنُ دُونَ الْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ يَمْلِكُ إِمْسَاكَ الرَّهْنُ ثُمَّ الْإِذْنُ فِي بَيْعِهِ إِمَّا بِجِنْسِ الْحَقِّ أَوْ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ، فَإِذَا أَذِنَ فِي بَيْعِهِ بِغَيْرِهِمَا، كَانَ إِذْنًا فِي الْبَيْعِ دَاعِيًا إِلَى بَيْعِهِ بِمَا لَا يَسْتَحِقُّ، فَكَانَ إِذْنُهُ مَاضِيًا وَمَا دُعِيَ إِلَيْهِ مِنْ بَيْعِهِ بِمَا لَا يَسْتَحِقُّ مَرْدُودًا، فَلِذَلِكَ جَازَ الْقَوْلُ بِبَيْعِهِ بِمَا أَذِنَ بِهِ الرَّاهِنُ وَلَمْ يَقِفْ ذَلِكَ عَلَى إِذْنِ الْحَاكِمِ. لِأَنَّ إِذْنَ الْحَاكِمِ إِنَّمَا يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى اجْتِهَادِهِ في تقليب قول أحدهما.

(6/149)


وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ غَالِبُ النَّقْدِ مَا أذن فيه أَحَدُهُمَا إِمَّا الرَّاهِنُ أَوِ الْمُرْتَهِنُ وَجِنْسُ الْحَقِّ مَا أَذِنَ بِهِ الْآخَرُ إِمَّا الرَّاهِنُ أَوِ الْمُرْتَهِنُ، فَلَيْسَ لِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَهُ بِمَا قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقًّا فِيمَا دَعَا إِلَيْهِ فَافْتَقَرَ إِلَى إِذْنِ الْحَاكِمِ لِيَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى اجْتِهَادِهِ، فَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ أَطْلَقَ الْقَوْلَ فِي اخْتِلَافِهِمَا بِأَنْ لَيْسَ لِلْعَدْلِ بَيْعُهُ بِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَسَاعَدَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ، وَإِطْلَاقُهُ عِنْدِي مَحْمُولٌ عَلَى مَا وَصَفْتُ لِأَنَّ تَعْلِيلَهُ يَقْتَضِيهِ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ لَيْسَ لِلْعَدْلِ بَيْعُهُ إِذَا اخْتَلَفَا على ما وصفت فقد قال الشافعي: وَجَاءَ الْعَدْلُ إِلَى الْحَاكِمِ حَتَّى يَأْمُرَهُ بِالْبَيْعِ بِنَقْدِ الْبَلَدِ، وَفِي هَذَا الْكَلَامِ إِضْمَارٌ لِأَنَّ الْعَدْلَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْتِيَ الْحَاكِمَ ابْتِدَاءً إِذْ لَيْسَ فِي بَيْعِهِ حَقٌّ لَهُ وَلَا عَلَيْهِ فَيَأْتِي الْحَاكِمَ مُسْتَعْدِيًا، وَإِنَّمَا الْحَقُّ لِلرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ وَإِضْمَارُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّاهِنَ أَوِ الْمُرْتَهِنَ، جَاءَ إِلَى الْحَاكِمِ مُسْتَعْدِيًا فَإِنَّ الْحَاكِمَ يُحْضِرُ الْعَدْلَ حَتَّى يَأْمُرَهُ بِبَيْعِهِ بِنَقْدِ الْبَلَدِ إِذَا كَانَ الْحَظُّ لَهُمَا. فَإِنْ كَانَ نَقْدُ الْبَلَدِ مِنْ جِنْسِ الْحَقِّ تَقَدَّمَ بِدَفْعِهِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ تَقَدَّمَ بِصَرْفِهِ فِي جِنْسِ الْحَقِّ ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَى المرتهن والله أعلم.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُ الْعَدْلِ فَأَيُّهُمَا دَعَا إِلَى إِخْرَاجِهِ كَانَ ذَلِكَ لَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا الْعَدْلُ فَهُوَ نَائِبٌ عَنِ الرَّاهِنِ فِي حِفْظِ الْمِلْكِ وَعَنِ الْمُرْتَهِنِ فِي حَبْسِ الرَّهْنِ، فَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى وَضْعِ الرَّهْنِ عَلَى يَدِ عَدْلٍ أَوْ شَرَطَا ذَلِكَ فِي عَقْدِ الرَّهْنِ فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنْ يَدِهِ وَوَضْعِهِ فِي يَدِ غَيْرِهِ فَذَاكَ لَهُمَا سَوَاءٌ تَغَيَّرَتْ حَالُ الْعَدْلِ أَمْ لَا، وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى إِقْرَارِهِ فِي يَدِهِ وَالْإِذْنِ لَهُ بِبَيْعِهِ فَذَاكَ لَهُمَا سواء تغيرت حال العدل أم لا وإن دَعَا أَحَدُهُمَا إِلَى إِخْرَاجِهِ وَدَعَا الْآخَرُ إِلَى إِقْرَارِهِ فِي يَدِهِ، فَإِنْ كَانَ الْعَدْلُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ عَدَالَتِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ دَعَا إِلَى إِقْرَارِهِ فِي يَدِهِ، لِأَنَّهُ يَسْتَصْحِبُ حُكْمًا لَزِمَ بِعَقْدٍ وَاتِّفَاقٍ، وَإِنْ كَانَ الْعَدْلُ قَدْ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
إِمَّا لِفِسْقٍ فِي دِينِهِ، أَوْ عَجْزٍ فِي حِفْظِهِ، أَوْ عَدَاوَةٍ ظَهَرَتْ مِنْهُ لِمَالِكِ الرَّهْنِ أَوْ مُرْتَهِنِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ من دعا إلى إخراجه يَدِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ حِفْظًا لَحِقِّهِ فَإِذَا أُخْرِجَ مِنْ يَدِهِ قَالَ لَهُمَا الْحَاكِمُ: اتَّفِقَا عَلَى اخْتِيَارِ عَدْلٍ يُوضَعُ عَلَى يَدَيْهِ، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى اخْتِيَارِهِ وَضَعَهُ فِي يَدِهِ.
وَإِنْ لَمْ يَتَّفِقَا وَاخْتَارَ الرَّاهِنُ عَدْلًا وَاخْتَارَ الْمُرْتَهِنُ عَدْلًا وَضَعَهُ الْحَاكِمُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ يَخْتَارُهُ لَهُمَا سَوَاءٌ كَانَ الْعَدْلُ الْمَوْضُوعُ عَلَى يَدِهِ الرَّهْنُ مَشْرُوطًا فِي عَقْدِ الرَّهْنِ أَوْ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَعْدَ الرَّهْنِ، فِي أَنَّ الْحُكْمَ فِي وُجُوبِ إِقْرَارِهِ فِي يَدِهِ سَوَاءٌ.

(6/150)


(فَصْلٌ)
إِذَا طَلَبَ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يُوضَعَ الرَّهْنُ عَلَى يَدِهِ لِحَقِّ وَثِيقَتَهُ وَأَبَى الرَّاهِنُ. لَمْ يُجْبَرِ الرَّاهِنُ عَلَى وَضْعِهِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ لِأَجْلِ مِلْكِهِ، كَمَا لَا يُجْبَرُ الْمُرْتَهِنُ عَلَى وَضْعِ الرَّهْنِ فِي يَدِ الرَّاهِنِ لِأَجْلِ اسْتِيثَاقِهِ، وأمرهما الحاكم باختيار عدل بوضع عَلَى يَدِهِ، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى اخْتِيَارِ عَدْلٍ وَإِلَّا اخْتَارَ الْحَاكِمُ لَهُمَا عَدْلًا، وَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ، فَلَوْ تَعَدَّى الْمُرْتَهِنُ فَأَخَذَ الرَّهْنَ مِنْ يَدِ الرَّاهِنِ، صَارَ ضَامِنًا لَهُ، فَإِنْ رَدَّهُ عَلَى الرَّاهِنِ سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ وَلَمْ يَبْطُلِ الرَّهْنُ، وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ فَأَخَذَهُ الْمُرْتَهِنُ مِنْ يَدِهِ لَزِمَهُ ضَمَانُهُ كَمَا لَوْ رَدَّهُ إِلَى يَدِ الرَّاهِنِ فَإِنْ رَدَّهُ عَلَى الْعَدْلِ سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ كَمَا لَوْ رَدَّهُ إِلَى يَدِ الْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّ الْعَدْلَ وَكَيْلُ الرَّاهِنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ)
إِذَا رَضِيَ الرَّاهِنُ بِتَرْكِ الرَّهْنِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، ثُمَّ سَأَلَ إخراجه من يده إلى غيره، فإن تغيير حَالُ الْمُرْتَهِنِ وَجَبَ إِخْرَاجُهُ مِنْ يَدِهِ وَوَضْعُهُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ يَرْضَيَانِ بِهِ، أَوْ يَرْضَاهُ الْحَاكِمُ لَهُمَا إِنِ اخْتَلَفَا، وَإِنْ لَمْ يَخْتَلِفْ يتغير حال المرتهن، وجب إقراراه فِي يَدِهِ، كَمَا يَجِبُ إِقْرَارُهُ فِي يَدِ الْعَدْلِ لَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ، فَلَوْ مَاتَ الْمُرْتَهِنُ لَمْ يَلْزَمِ الرَّاهِنَ أَنْ يُقِرَّهُ فِي يَدِ وَارِثِهِ أَوْ وَصِّيهِ وَإِنْ كَانَ عَدْلًا إِلَّا أَنْ يَخْتَارَهُ، وَقِيلَ لِوَارِثِهِ إِنْ كَانَ بَالِغًا أَوْ لِوَصِيِّهِ: تَرَاضَ أَنْتَ وَالرَّاهِنُ بِعَدْلٍ يُوضَعُ عَلَى يَدِهِ فَإِنْ تَرَاضَيَا وَإِلَّا اخْتَارَ الْحَاكِمُ لَهُمَا عَدْلًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ أَرَادَ الْعَدْلُ رَدَّهُ وَهُمَا حَاضِرَانِ فَذَلِكَ لَهُ وَلَوْ دَفَعَهُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْحَاكِمِ مِنْ غَيْرِ مَحْضَرِهِمَا ضَمِنَ وَإِنْ كَانَا بَعِيدَيِ الْغَيْبَةِ لَمْ أَرَ أَنْ يَضْطَرَّهُ عَلَى حَبْسِهِ وَإِنَمَا هِيَ وِكَالَةٌ لَيْسَتْ لَهُ فِيهَا مَنْفَعَةٌ وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ إِلَى عَدْلٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَدْلَ الْمَوْضُوعَ عَلَى يَدِهِ الرَّهْنُ نَائِبٌ عن الرهن والمرتهن في حفظ الراهن، فَإِذَا أَرَادَ رَدَّ الرَّهْنِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْجَرًا أَوْ مُتَطَوِّعًا، فَإِنْ كَانَ مُسْتَأْجَرًا مُدَّةً مَعْلُومَةً بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ فَلَيْسَ لَهُ رَدُّ الرَّهْنِ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لَازِمٌ، وَإِنْ كَانَ مُتَطَوِّعًا فَلَهُ رَدُّهُ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ مَحْضَةٌ، وَإِذَا كَانَ لَهُ رَدُّهُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَا حَاضِرَيْنِ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْعَدْلِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِمَا وَلَيْسَ لَهُ مَعَ حُضُورِهِمَا أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى أَحَدِهِمَا وَلَا عَلَى غَيْرِهِمَا مِنْ حَاكِمٍ أَوْ عَدْلٍ، فَإِنْ دَفَعَهُ إِلَى غَيْرِهِمَا، كَانَ ضَامِنًا، وَإِنْ رَدَّهُ عَلَيْهِمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنَ الْحِرْزِ لِرَدِّهِ عليهما إلا بإذنهما فإن أخرجه بغير إذنها ضَمِنَهُ لِتَعَدِّيهِ بِإِخْرَاجِهِ فَإِنْ لَمْ يَقْبَلَا مِنْهُ الرَّهْنَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ الْحَاكِمُ حَتَّى يَأْمُرَهُمَا بِأَخْذِهِ مِنْ يَدِهِ مِنْ غَيْرِ إِخْرَاجِهِ إِلَى الْحَاكِمِ، فَإِنْ أَجَابَا الْحَاكِمَ إِلَى أَخْذِهِ مِنْهُ وَإِلَّا ارْتَضَى لَهُمَا عَدْلًا وَأَمَرَهُ بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ إليه.

(6/151)


وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَا غَائِبَيْنِ فَإِنْ حَضَرَ لَهُمَا وَكِيلٌ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ فَإِنَّهُ يَقُومُ مَقَامَهُمَا، فَإِنْ عَدَلَ عَنْ تَسْلِيمِهِ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ حَاكِمٍ أَوْ عَدْلٍ ضَمِنَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا وَكِيلٌ حَاضِرٌ فَلَا يَخْلُو الْعَدْلُ فِي رَدِّ الرَّهْنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا أَوْ غَيْرَ مَعْذُورٍ، فَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا لِسَفَرٍ يُرِيدُهُ أَوْ مَرَضٍ يُعْجِزُهُ أَتَى الْحَاكِمَ فَسَلَّمَهُ إِلَيْهِ لِيَضَعَهُ الْحَاكِمُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ يَرْضَاهُ لَهُمَا سَوَاءٌ كَانَ بَعِيدَيِ الْغَيْبَةِ أَمْ لَا. وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَضْطَرَّهُ عَلَى تَرْكِهِ بِيَدِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ دُخُولِ الْمَضَرَّةِ عَلَيْهِ. فَإِنْ عَدَلَ عَنْ تَسْلِيمِهِ إِلَى الْحَاكِمِ وَسَلَّمَهُ إِلَى عَدْلٍ ثِقَةٍ أَشْهَدَ عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ فَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ لِعَدَمِ حَاكِمٍ أَمِينٍ فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ مِنَ الْمُودَعِ أَظْهَرُهُمَا وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ فَلَا يَخْلُو حَالُ سَفَرِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا، فَإِنْ كَانَ سَفَرُهُمَا طَوِيلًا رَفَعَهُ إِلَى الْحَاكِمِ لِيُسَلِّمَهُ إِلَى عَدْلٍ يَرْضَاهُ لَهُمَا كَمَا لَوْ كَانَ مَعْذُورًا وَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَضْطَرَّهُ عَلَى تَرْكِهِ بِيَدِهِ، وَإِنْ كَانَ سَفَرُهُمَا قَصِيرًا عَلَى مَسَافَةٍ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، أَمَرَهُ الْحَاكِمُ بِتَرْكِهِ فِي يَدِهِ وَأَنْفَذَ إِلَى الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ لِيَخْتَارَا عَدْلًا يُوضَعُ عَلَى يَدِهِ. لِأَنَّهُمَا رُبَّمَا رَضِيَا غَيْرَ مَنْ يَخْتَارُهُ لَهُمَا، فَإِنِ اخْتَارَا عَدْلًا أَمَرَهُ بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَخْتَارَا عَدْلًا اخْتَارَ الْحَاكِمُ لَهُمَا عَدْلًا وَأَمَرَهُ بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ إِلَيْهِ.
وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا حَاضِرًا وَالْآخَرُ غَائِبًا. فَلَا يَجُوزُ لِلْعَدْلِ تَسْلِيمُهُ إِلَى الْحَاضِرِ مِنْهُمَا لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ الْغَائِبِ، فَإِنْ حَضَرَ لِلْغَائِبِ وَكِيلٌ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ تَرَاضَى الْحَاضِرُ وَوَكِيلُ الْغَائِبِ بِعَدْلٍ يَضَعَانِهِ عَلَى يَدِهِ فَإِنِ ارْتَضَيَا بِعَدْلٍ وَإِلَّا ارْتَضَى لَهُمَا الْحَاكِمُ عَدْلًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْغَائِبِ وَكِيلٌ حَاضِرٌ، نَابَ الْحَاكِمُ عَنِ الْغَائِبِ فِي اخْتِيَارِ عَدْلٍ يُوضَعُ على يده.

(فصل)
وإن سَافَرَ الْعَدْلُ بِالرَّهْنِ كَانَ ضَامِنًا لَهُ سَوَاءٌ كَانَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ حَاضِرَيْنِ أَوْ كَانَا غَائِبَيْنِ لِأَنَّ فِي السَّفَرِ تَغْرِيرًا بِهِ فَإِنْ قَالَ إنما سافرت به إليهما لا رده عَلَيْهِمَا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ لِعَدَمِ إِذْنِهِمَا فَلَوْ لَقِيَهُمَا فِي السَّفَرِ فَسَأَلَهُمَا أَخْذَ الرَّهْنِ مِنْهُ لَمْ يَلْزَمْهُمَا أَخْذُهُ.
وَوَجَبَ عَلَى الْعَدْلِ رَدُّهُ إِلَى الْبَلَدِ إِلَّا أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَخْذِهِ فِي السَّفَرِ فَيَبْرَأُ مِنْهُ بِأَخْذِهِمَا لَهُ، فَلَوْ رَضِيَ أَحَدُهُمَا بِأَخْذِهِ، مِنْهُ فِي السَّفَرِ وَلَمْ يَرْضَ الْآخَرُ لَمْ يُجْبَرِ الْمُمْتَنِعُ عَلَى أَخْذِهِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْعَدْلِ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى الراض بِأَخْذِهِ وَكَانَ فِي ضَمَانِهِ وَعَلَيْهِ رَدُّهُ إِلَى بلده.
(فَصْلٌ)
إِذَا وَضَعَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ عَلَى يَدَيْ عَدْلَيْنِ فَعَلَيْهِمَا أَنْ يَشْتَرِكَا فِي حِفْظِهِ وَإِحْرَازِهِ، فَإِنْ أَرَادَ الْعَدْلَانِ أَنْ يُقِرَّا الرَّهْنَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا أَوْ يُقَسِّمَانِهِ لِيَكُونَ فِي أَيْدِيهِمَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ مِنْ ثلاثة أحوال:

(6/152)


أَحَدُهَا: أَنْ يَأْذَنَا لَهُمَا بِذَلِكَ، فَيَجُوزُ لِلْعَدْلَيْنِ فِعْلُهُ لِصَرِيحِ الْإِذْنِ بِهِ.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَنْهَيَاهُمَا عَنْ ذَلِكَ، فَلَا يَجُوزُ لِلْعَدْلَيْنِ فِعْلُهُ لِصَرِيحِ النَّهْيِ عَنْهُ، فَإِنْ فَعَلَا ذَلِكَ نُظِرَ، فَإِنِ اقْتَسَمَاهُ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَمَانُ نِصْفِهِ وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي خَرَجَ مِنْ يَدِهِ إِلَى يَدِ صَاحِبِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْتَسِمَاهُ وَلَكِنِ اتَّفَقَا عَلَى إِقْرَارِهِ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَعَلَى الْمُخْرِجِ لَهُ مِنْ يَدِهِ ضَمَانُ جَمِيعِهِ وَلَيْسَ عَلَى مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ ضَمَانٌ.
وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُطْلِقَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِإِذْنٍ وَلَا نَهْيٍ فَفِي جَوَازِ ذلك قولان: حكاهما ابن سريج:
أحدهما: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الرَّاهِنَ وَالْمُرْتَهِنَ لَمْ يَرْضَيَا بِأَمَانَةِ أَحَدِهِمَا فَإِنْ فَعَلَا لَزِمَ الضَّمَانُ عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنَ الرِّفْقِ بِهِمَا فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الرَّهْنُ مِمَّا لَا يُقْسَمُ جَازَ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى كَوْنِهِ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُقَسَّمُ جَازَ أَنْ يُقَسِّمَاهُ لِيَكُونَ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
فإن لم يقتسماه وَاتَّفَقَا عَلَى كَوْنِهِ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُخْرِجِ لَهُ مِنْ يَدِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ:
أَحَدُهُمَا: لَا ضَمَانَ عليه.
والثاني: عليه ضمان نصفه.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ جَنَى الْمَرْهُونُ عَلَى سَيِّدِهِ فَلَهُ الْقِصَاصُ فَإِنْ عَفَا فَلَا دَيْنَ لَهُ عَلَى عَبْدِهِ وَهُوَ رَهْنٌ بِحَالِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ مَرْهُونٍ جَنَى عَلَى سَيِّدِهِ فَلَا يَخْلُو حَالُ جِنَايَتِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ فِي طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِهِ، فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ خَطَأً فَهِيَ هَدَرٌ وَلَا قَوَدَ فِيهِمَا وَلَا أَرْشَ لِأَنَّ الْقَوَدَ لَا يَجِبُ فِي الْخَطَأِ وَالْأَرْشَ لَا يَجِبُ لِلسَّيِّدِ لِأَنَّ مِلْكَهُ لِمَحَلِّ الْأَرْشِ سابقا.
والضرب الثاني: أن يكون عمدا توجب القود فَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ لِأَنَّ الْقِصَاصَ مَوْضُوعٌ لِلرَّدْعِ وَحِرَاسَةِ النُّفُوسِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] فَاسْتَوَى حُكْمُ السَّيِّدِ وَغَيْرُهُ فِي الْقِصَاصِ فَإِنْ عَفَا السَّيِّدُ عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الْأَرْشِ صَارَتْ

(6/153)


هَدَرًا يَسْقُطُ الْقِصَاصُ وَلَا يَجِبُ الْأَرْشُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ مِلْكِهِ لِمَحَلِّ الْأَرْشِ، فَلَوْ لَمْ يَقْتَصَّ السَّيِّدُ مَنْ عَبْدِهِ الْمَرْهُونِ وَلَا عَفَا عَنْهُ حَتَّى مَاتَ السَّيِّدُ مِنْ غَيْرِ الْجِنَايَةِ كَانَ لِوَارِثِهِ الْقِصَاصُ مِنَ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ فَإِنْ عَفَا الْوَارِثُ عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الْأَرْشِ سَقَطَ الْقِصَاصُ وَلَمْ يَجِبْ لَهُ الْأَرْشُ لِأَنَّهُ يَحُلُّ مَحَلَّ السَّيِّدِ فَمَلَكَ عَنْهُ مَا كَانَ السَّيِّدُ مَالِكًا لَهُ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ فِي الْعَمْدِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ بِنَفْسِهِ أَوْ يَقْتَصَّ لَهُ السُّلْطَانُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَحُدَّهُ إِذَا زَنَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ حَتَّى يَقْتَصَّ السُّلْطَانُ لَهُ لِأَنَّهُ الْخَصْمُ فِي الْقِصَاصِ وَالْخَصْمُ فِي الْقِصَاصِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ كَالْأَجْنَبِيِّ.
(فَصْلٌ)
وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى نَفْسِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ خَطَأً فَفِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَكُونُ هَدَرًا فَلَا شَيْءَ لِوَارِثِهِ.
كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَكُونُ هَدَرًا وَلَهُمْ إِخْرَاجُهُ مِنَ الرَّهْنِ وَبَيْعُهُ فِي الْجِنَايَةِ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي الدِّيَةِ مَتَى تَجِبُ فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ أَنَّهَا تَجِبُ لِلْمَقْتُولِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ حَيَاتِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَقْضِي مِنْهَا دُيُونَهُ، وَتُنَفَّذُ فِيهَا وَصَايَاهُ فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا فِي مِلْكِهِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ الْجِنَايَةُ هَدَرًا لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَثْبُتُ لَهُ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ مَالٌ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْعَبْدُ رَهْنًا بِحَالِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَجِبُ فِي مِلْكِ الْوَرَثَةِ لِأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلٌ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ وُجُوبُهَا مَعَ بَقَاءِ نَفْسِهِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَكُونُ هَدَرًا وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي رَقَبَتِهِ وَلَهُمْ إِخْرَاجُهُ مِنَ الرَّهْنِ وَبَيْعُهُ فِيهَا فَعَلَى هَذَا إِذَا بِيعَ فِي الْجِنَايَةِ بَطَلَ الرَّهْنُ وَكَانَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ وَاجِبًا فِي التَّرِكَةِ كَسَائِرِ الْغُرَمَاءِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ جِنَايَةَ عَمْدٍ تُوجِبُ الْقَوَدَ فَلِلْوَارِثِ إِذَا كَانَ بالغا ثلاثة أحوال:
أحدها: أَنْ يَطْلُبَ الْقَوَدَ وَيُرِيدَ الْقِصَاصَ فَذَلِكَ لَهُ، لِأَنَّ السَّيِّدَ قَدْ يَجِبُ لَهُ الْقِصَاصُ عَلَى عَبْدِهِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَحَلَّ الْقِصَاصَ قَبْلَ الْجِنَايَةِ فَجَازَ أَنْ يَمْلِكَهُ بِالْجِنَايَةِ، وَهُوَ يَمْلِكُ مَحَلَّ الْأَرْشِ قَبْلَ الْجِنَايَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَهُ بِالْجِنَايَةِ، وَإِذَا اقْتَصَّ مِنْهُ الْوَارِثُ بَطَلَ الرَّهْنُ وَتَعَلَّقَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ بِالتَّرِكَةِ كَسَائِرِ الْغُرَمَاءِ.

(6/154)


وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَعْفُوَ الْوَارِثُ عَنِ الْقِصَاصِ عَلَى غَيْرِ مَالٍ، فَقَدْ سَقَطَ حُكْمُ الْجِنَايَةِ وَكَانَ الْعَبْدُ، هَاهُنَا رَهْنًا عَلَى حَالِهِ يُقَدِّمُ الْمُرْتَهِنَ بِثَمَنِهِ عَلَى جَمِيعِ غُرَمَائِهِ.
وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقَوَدِ إِلَى الدِّيَةِ لِيُبَاعَ الْعَبْدُ فِيهَا فَفِي جَوَازِ ذَلِكَ قَوْلَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي الْأُمِّ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي دِيَةِ الْمَقْتُولِ مَتَى تَجِبُ؟
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجِنَايَةَ صَارَتْ هَدَرًا لِعَفْوِهِ عَنِ الْقَوَدِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْعَبْدُ رَهْنًا على حاله يقدم المرتهن بثمنه على جميع الْغُرَمَاءِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَدْ وَجَبَتْ لَهُ الدِّيَةُ فِي رَقَبَتِهِ فَيُبَاعُ فِيهَا فَإِذَا بِيعَ بَطَلَ الرَّهْنُ وَكَانَ ثَمَنُ الْعَبْدِ الْمَأْخُوذُ مِنَ الدِّيَةِ مَضْمُونًا إِلَى التَّرِكَةِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا لِتُقْضَى مِنْهَا دُيُونُ السَّيِّدِ الرَّاهِنِ وَتُنَفَّذَ مِنْهَا وَصَايَاهُ وَيَكُونُ الْمُرْتَهِنُ فِي ثَمَنِهِ وَجَمِيعُ الْغُرَمَاءِ أُسْوَةً كما يكونوا فِي جَمِيعِ التَّرِكَةِ أُسْوَةً.

(فَصْلٌ)
فَلَوْ جَنَى الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ عَلَى ابْنِ سَيِّدِهِ أَوْ عَلَى أَبِيهِ، وَمَاتَ مِنْ جِنَايَتِهِ فَوَرِثَهُ السَّيِّدُ، فَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ ثَانِيَةً، وَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الدِّيَةِ فَيُخْرِجَهُ مِنَ الرَّهْنِ وَيَبِيعَهُ فِيهَا، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ لِأَنَّهُ مَلَكَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِهِ وَلَمْ يُمْتَنَعْ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْأَرْشَ فِي رَقَبَتِهِ كَمَا كان يستحقه الابن الوارث قائم مَقَامَ مُوَرِّثِهِ.
(فَصْلٌ)
إِذَا جَنَى الْمُكَاتَبُ عَلَى سيده فللسيد أن يقتص منه إِنْ كَانَتْ عَمْدًا وَيَجِبَ عَلَيْهِ أَرْشُهَا إِنْ كَانَتْ خَطَأً بِخِلَافِ الْعَبْدِ لِأَنَّ السَّيِّدَ قَدْ يَجِبُ لَهُ عَلَى مُكَاتَبِهِ مَالٌ مِنْ غَيْرِ الْجِنَايَةِ، فَجَازَ أَنْ يَجِبَ لَهُ عَلَيْهِ أَرْشُ الْجِنَايَةِ - إِذْ لَيْسَ يَمْلِكُ مَحَلَّ الْأَرْشِ قَبْلَ الْجِنَايَةِ، وَلَمَّا لَمْ يَجِبْ لِلسَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ مَالٌ مِنْ غَيْرِ الْجِنَايَةِ لَمْ يَجِبْ لَهُ عَلَيْهِ أَرْشُ الْجِنَايَةِ، فَلَوْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ قَبْلَ أَدَاءِ الْأَرْشِ لِسَيِّدِهِ سَقَطَ الْأَرْشُ لِأَنَّهُ صَارَ بِالْعَجْزِ عَبْدًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ جَنَى عَبْدُهُ الْمَرْهُونُ عَلَى عَبْدٍ لَهُ آخَرَ مَرْهُونٍ فَلَهُ الْقِصَاصُ فَإِنْ عَفَا عَلَى مَالٍ فَالْمَالُ مَرْهُونُ فِي يَدَيْ مُرْتَهِنِ الْعَبْدِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِحَقِّهِ الَّذِي بِهِ أَجَزْتُ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْخُذَ الْجِنَايَةَ مِنْ عُنُقِ عَبْدِهِ الْجَانِي ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ مَرْهُونٍ جَنَى عَلَى عَبْدٍ لِسَيِّدٍ آخَرَ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَبْدِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَرْهُونًا أَوْ غَيْرَ مَرْهُونٍ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ غَيْرَ مَرْهُونٍ. فَلَا يَخْلُو حَالُ الْجِنَايَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، فَإِنْ كَانَتْ خَطَأً فَهِيَ هَدَرٌ لِأَنَّهَا تُوجِبُ الْمَالَ وَالسَّيِّدُ لَا يَثْبُتُ لَهُ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ مَالٌ، وَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا تُوجِبُ القود فالسيد

(6/155)


بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الْعَبْدِ الْجَانِي وَبَيْنَ أَنْ يَعْفُوَ، فَإِنْ عَفَا صَارَتِ الْجِنَايَةُ هَدَرًا وَكَانَ الْعَبْدُ الْجَانِي رَهْنًا بِحَالِهِ، وَإِنِ اقْتَصَّ مِنْهُ فَذَلِكَ لَهُ رَدْعًا لِلْجَانِي إِنْ كَانَ الْقِصَاصُ فِي طَرَفِهِ وَزَجْرًا لِغَيْرِهِ إِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] فَإِنْ كَانَ الْقِصَاصُ فِي نَفْسِهِ بَطَلَ الرَّهْنُ، وَإِنْ كَانَ الْقِصَاصُ فِي طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِهِ كَانَ رَهْنًا بِحَالِهِ.

(فَصْلٌ)
وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مَرْهُونًا فَعَلَى ضربين:
أحدهما: أن يكون مرتهنا عِنْدَ مُرْتَهِنٍ ثَانٍ غَيْرِ مُرْتَهِنِ الْعَبْدِ الْجَانِي فَلَا يَخْلُو حَالُ الْجِنَايَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، فَإِنْ كَانَتْ خَطَأً فَأَرْشُهَا ثَابِتٌ فِي رَقَبَةِ الْجَانِي لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِرَقَبَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْأَرْشِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الْجَانِي.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مِثْلَ قِيمَتِهِ.
فَإِنْ كَانَ الْأَرْشُ أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الْجَانِي بِأَنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْجَانِي أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَرْشُ الْجِنَايَةِ خَمْسَمِائَةٍ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُبَاعَ مِنَ الْجَانِي بِقَدْرِ الْأَرْشِ وَذَلِكَ نَصِفُهُ وَيَكُونُ النِّصْفُ الثَّانِي رَهْنًا بِحَالِهِ، وَيُؤْخَذُ ثَمَنُ مَا بِيعَ مِنَ الْأَرْشِ فَيُوضَعُ رَهْنًا مَكَانَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، أَوْ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ الْمَرْهُونِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ مِثْلَ قِيمَةِ الْجَانِي أَوْ كَانَ أَرْشُهَا أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْجَانِي فَهُمَا سَوَاءٌ وَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُنْقَلَ الْجَانِي مِنَ الرَّهْنِ فَيُوضَعَ رَهْنًا فِي يَدَيْ مُرْتَهِنِ الْعَبْدِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ بَيْعٍ لِأَنَّ بَيْعَهُ إِنَّمَا يَجُوزُ لِيَكُونَ الْفَاضِلُ مِنْ ثَمَنِهِ رَهْنًا فِي يَدِ مُرْتَهِنِهِ فَإِذَا اسْتَوْعَبَتِ الْجِنَايَةُ جَمِيعَ قِيمَتِهِ، لَمْ يَكُنْ لِبَيْعِهِ وَارْتِهَانِ ثَمَنِهِ مَعْنًى.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْجَانِيَ يُبَاعُ وَيُوضَعُ ثَمَنُهُ رَهْنًا مَكَانَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِجَوَازِ حُدُوثِ رَاغِبٍ يَشْتَرِيهِ بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ. فَيَكُونُ الْفَاضِلُ مِنْهَا رَهْنًا بِيَدِ مُرْتَهِنِهِ وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ إِلَّا أَنْ يَقْطَعَ بِعَدَمِ الزِّيَادَةِ وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا فَالسَّيِّدُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الْجَانِي وَبَيْنَ أَنْ يَبِيعَهُ فِي الْأَرْشِ، فَإِذَا أَرَادَ الْقِصَاصَ فَذَاكَ لَهُ، فَإِذَا اقْتَصَّ مِنْهُ وَكَانَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ فَقَدْ بَطَلَ الرَّهْنُ، وَإِنْ كَانَ فِي طَرَفٍ كَانَا بَعْدَ الْجِنَايَةِ وَالْقِصَاصِ رَهْنًا بِحَالِهِمَا، وَإِنْ عَدَلَ عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الْمَالِ فَذَلِكَ لَهُ وَيَكُونُ حُكْمُ الْأَرْشِ كَحُكْمِ الْأَرْشِ فِي جِنَايَةِ الْخَطَأِ عَلَى مَا مَضَى.

(6/156)


(فَصْلٌ)
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مَرْهُونًا عِنْدَ مُرْتَهِنِ الْعَبْدِ الْجَانِي فَيَكُونُ مُرْتَهِنُهُمَا وَاحِدًا، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ،
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَا مَرْهُونَيْنِ فِي حَقٍّ وَاحِدٍ فَالْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ غَيْرَ مَرْهُونٍ فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ خَطَأً فَهُوَ هَدَرٌ لِأَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ كَتَعَلُّقِهِ بِالْجَانِي، فَلَمْ يَكُنْ لِبَيْعِ الْجَانِي فِي أَرْشِ الْجِنَايَةِ مَعْنًى، وَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا فَالسَّيِّدُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ أَوْ يَعْفُوَ عَنْهُ، فَإِنِ اقْتَصَّ مِنْهُ بَطَلَ الرَّهْنُ فِيهِمَا جَمِيعًا إِنْ كَانَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، وَإِنْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ صَارَتْ هَدَرًا وَكَانَ الْجَانِي عَلَى حَالِهِ رَهْنًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا مَرْهُونَيْنِ عِنْدَ مُرْتَهِنٍ وَاحِدٍ بِحَقَّيْنِ فِي عَقْدَيْنِ فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَسْتَوِيَ قَدْرُ الْحَقَّيْنِ وَتَسْتَوِيَ قِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَخْتَلِفَ قَدْرُ الْحَقَّيْنِ وَتَخْتَلِفَ قِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ.
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَوِيَ قَدْرُ الْحَقَّيْنِ وَتَخْتَلِفَ قِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ.
وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ: أَنْ يَخْتَلِفَ قَدْرُ الْحَقَّيْنِ وَتَسْتَوِيَ قِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ.
(فَصْلٌ)
فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَسْتَوِيَ قَدْرُ الْحَقَّيْنِ وَتَسْتَوِيَ قِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ فَمِثَالُهُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَقَّيْنِ أَلْفًا وَقِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَبْدَيْنِ أَلْفًا، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَوِيَ وَصْفُ الْحَقَّيْنِ بِأَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَالًا أَوْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُؤَجَّلًا، فَالْجِنَايَةُ هَدَرٌ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ الْمُرْتَهِنُ بنقل ثمن القاتل إلى موضع المقتول شيئا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَخْتَلِفَ وَصْفُ الْحَقَّيْنِ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا حَالًا وَالْآخَرُ مُؤَجَّلًا، فَلِلْمُرْتَهِنِ بَيْعُ الْقَاتِلِ وَوَضْعُ ثَمَنِهِ مَوْضِعَ الْمَقْتُولِ، وَلَا تَكُونُ الْجِنَايَةُ هَدَرًا لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ رَهْنًا فِي الْحَالِ وَالْقَاتِلُ فِي الْمُؤَجَّلِ اسْتَفَادَ بِبَيْعِ الْقَاتِلِ أَنْ يَصِيرَ ثَمَنُهُ رَهْنًا فِي مُعَجَّلٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ رَهْنًا فِي مُؤَجَّلٍ، وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ فِي الْمُعَجَّلِ وَالْمَقْتُولُ فِي الْمُؤَجَّلِ فَقَدْ يَكُونُ الرَّاهِنُ مُوسِرًا فِي الْحَالِ يَقْدِرُ عَلَى أَدَاءِ الْمُعَجَّلِ وَلَا يَأْمَنُ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَعْسُرَ الرَّاهِنُ عِنْدَ حُلُولِ الْمُؤَجَّلِ فَيَسْتَفِيدُ الْمُرْتَهِنُ ببيع القاتل أن يعتبر ثمنه رهنا قيما يُخَافُ إِعْسَارُ الرَّاهِنِ بِهِ فِي الْمُؤَجَّلِ.
(فَصْلٌ)
وأما الضرب الثاني: وَهُوَ أَنْ يَسْتَوِيَ قَدْرُ الْحَقَّيْنِ وَتَخْتَلِفَ قِيمَةُ العبدين فمثاله

(6/157)


أَنْ يَكُونَ قَدْرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَقَّيْنِ أَلْفًا، وَتَكُونُ قِيمَةُ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ أَلْفًا وَالْآخَرُ خمسمائة فهذا على ضربين:
أحدهما: أن يكون القاتل أكثرهما قيمة من المقتول، فللراهن أَنْ يَبِيعَ مِنَ الْقَاتِلِ بِقِدْرِ قِيمَةِ الْمَقْتُولِ وَهُوَ النِّصْفُ فَيَكُونُ رَهْنًا مَكَانَ الْمَقْتُولِ، وَلَا تَكُونُ الْجِنَايَةُ هَدَرًا لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ قَدْ يَسْتَفِيدُ بها أن يعتبر لَهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَقَّيْنِ رَهْنًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ أَقَلَّ قِيمَةً من المقتول وهو أن تكون قيمة القاتل خمسمائة وقيمة المقتول ألفا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ رَهْنًا فِي أَكْثَرِ الْحَقَّيْنِ فَالْجِنَايَةُ هَدَرٌ لِأَنَّ المرتهن لا يستفيد بنقل ثمنه إلى أقل الحقين شيئا بل يعتبر مستضرا.
والضرب الثالث: أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ رَهْنًا فِي أَقَلِّ الْحَقَّيْنِ فللمرتهن بيع القاتل وترك ثمنه رَهْنًا مَكَانَ الْمَقْتُولِ وَلَا تَكُونُ الْجِنَايَةُ هَدَرًا لأن المرتهن يستفيد بها أن يصير الثمن رهنا في أكثر الحقين.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الضَّرْبُ الرَّابِعُ وَهُوَ أَنْ يَخْتَلِفَ قَدْرُ الْحَقَّيْنِ وَتَسْتَوِيَ قِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ، فَمِثَالُهُ أَنْ يكون قدر أَحَدِ الْحَقَّيْنِ أَلْفًا وَالْآخَرُ خَمْسَمِائَةٍ. وَتَكُونُ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَبْدَيْنِ أَلْفًا فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ رَهْنًا فِي أَكْثَرِ الْحَقَّيْنِ فَالْجِنَايَةُ هَدَرٌ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَا يستفيد بنقل قيمته إِلَى مَوْضِعِ الْقَاتِلِ شَيْئًا بَلْ يَصِيرُ مُسْتَضَرًّا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ رَهْنًا فِي أقل الحقين فللمرتهن بيع القاتل وترك ثمنه رهنا الْمَقْتُولِ وَلَا تَكُونُ الْجِنَايَةُ هَدَرًا لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ يستفيد بها أن يصير الثمن رهنا فِي أَكْثَرِ الْحَقَّيْنِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ رَهْنًا فِي أَقَلِّهِمَا فَهَذَا حُكْمُ جِنَايَةِ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ عَلَى عَبْدِ الرَّاهِنِ مَرْهُونٍ وَغَيْرِ مَرْهُونٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَنَى عَلَى مُدَبَّرِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ.
(فَصْلٌ)
فَأَمَّا إِذَا جَنَى الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ عَلَى مُكَاتَبٍ لِسَيِّدِهِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْجِنَايَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
أَنْ تَكُونَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى طَرَفِهِ، فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى نَفْسِهِ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْجِنَايَةِ عَلَى عَبْدِ سَيِّدِهِ، لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ إِذَا مَاتَ عَلَى كِتَابَتِهِ مَاتَ عَبْدًا، فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ خَطَأً فَهِيَ هَدَرٌ، وَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا فَلِلسَّيِّدِ الْقِصَاصُ فَإِنْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ صَارَتِ الْجِنَايَةُ هَدَرًا، فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى طَرَفِ الْمُكَاتَبِ، نُظِرَ فَإِنْ كَانَتْ خَطَأً ثَبَتَ لِلْمُكَاتَبِ أَرْشُ الْجِنَايَةِ فِي رَقَبَةِ

(6/158)


الْعَبْدِ الْجَانِي فَيُبَاعُ فِيهَا وَإِنْ كَانَ مِلْكًا لسيده، حق لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ قَدْ يَصِحُّ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ حق على سيده فكذا يَصِحُّ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ حَقٌّ فِي رَقَبَةِ عَبْدِ سَيِّدِهِ، فَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا فَالْمُكَاتَبُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ أَوْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الْأَرْشِ أَوْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ وَالْأَرْشِ فإن قيل أليس المكاتب ممنوع مِنَ الْعَفْوِ عَنِ الْمَالِ فَكَيْفَ يَصِحُّ عَفْوُهُ عَنِ الْأَرْشِ وَهُوَ مَالٌ؟ قُلْنَا: إِنَّمَا مُنِعَ مِنَ الْعَفْوِ لِحَقِّ السَّيِّدِ وَحِفْظِ مَالِهِ وَهَذَا حَقٌّ عَلَى السَّيِّدِ فَصَحَّ عَفْوُهُ عَنْهُ، فَلَوْ لَمْ يَقْتَصَّ الْمُكَاتَبُ وَلَا أَخَذَ الْأَرْشَ حَتَّى مَاتَ عَلَى كِتَابَتِهِ فَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ عَبْدِهِ الْجَانِي وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ فِي الْأَرْشِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ ابْتِدَاءً فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ الْأَرْشُ، فَهُوَ إِنَّمَا يَمْلِكُ ذَلِكَ عَنِ الْمُكَاتَبِ الَّذِي قَدْ كَانَ مالكا للأرش والله أعلم.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَمْنَعُ الْمُرْتَهَنُ السَّيِّدَ مِنَ الْعَفْوِ بِلَا مَالٍ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الْعَبْدِ مَالٌ حَتَى يَخْتَارَهُ الْوَلِيُّ وَمَا فَضَلَ بَعْدَ الْجِنَايَةِ فَهُوَ رَهْنٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ خَطَأً يُوجِبُ الْمَالَ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ عَمْدًا يُوجِبُ الْقَوَدَ، فَإِنْ كَانَتْ خَطَأً يُوجِبُ الْمَالَ فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: مَا اسْتَوَى فِيهِ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ وَضَمَانُ الْغَصْبِ.
وَالثَّانِي: مَا يُضْمَنُ بِالْجِنَايَةِ وَلَا يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ.
وَالثَّالِثُ: مَا يَزِيدُ فِيهِ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى ضَمَانِ الْغَصْبِ.
وَالرَّابِعُ: مَا يَنْقُصُ فِيهِ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَنْ ضَمَانِ الْغَصْبِ.
فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَا اسْتَوَى فِيهِ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ وَضَمَانُ الْغَصْبِ فَفِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ فِي النَّفْسِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا كَمَالُ الْقِيمَةِ بِالْجِنَايَةِ كَمَا يَجِبُ فِيهَا كَمَالُ الْقِيمَةِ بِالْغَصْبِ.
وَالثَّانِيَةُ: فِيمَا لَا يَتَقَدَّرُ أَرْشُهُ مِنَ الْجِرَاحِ، يَجِبُ فِيهِ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ كَمَا يَجِبُ فِي نَقْصِ الْغَصْبِ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ.
وَالثَّالِثُ: فِيمَا يَتَقَدَّرُ أَرْشُهُ مِنَ الْجِرَاحِ وَالْأَطْرُفِ إِذَا سَاوَى بِالِاتِّفَاقِ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ فِيهِ ضَمَانَ الْغَصْبِ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ بِالْجِنَايَةِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ رَهْنًا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ.
وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ الْعَفْوُ عَنْهُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّ حَقَّهُ قَدْ تَعَلَّقَ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ كَمَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ قَبْلَ الْجِنَايَةِ، وَإِنْ عَفَا عَنِ الْأَرْشِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ كَانَ عَفْوُهُ باطلا

(6/159)


وَلِلْمُرْتَهِنِ أَخْذُ الْأَرْشِ مِنَ الْجَانِي لِيَكُونَ رَهْنًا مَكَانَ الْعَبْدِ أَوْ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ فَإِنْ أَخَذَ الْمُرْتَهِنُ الْأَرْشَ فَكَانَ رَهْنًا مَكَانَ الْعَبْدِ أَوْ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ، ثُمَّ إِنَّ الرَّاهِنَ قضى المرتهن حقه من ماله، فللمرتهن أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْشَ وَيَتَمَلَّكَهُ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْجَانِي لِأَجْلِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَفْوِهِ؛ لِأَنَّ عَفْوَهُ وَقَعَ بَاطِلًا لَمْ يُبْرِئِ الْجَانِيَ فَكَانَ الْأَرْشُ مَأْخُوذًا مِنْهُ بِحَقٍّ لَازِمٍ فَلَمْ يَجِبْ رَدُّهُ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي وَهُوَ مَا يُضْمَنُ بِالْجِنَايَةِ وَلَا يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ فَمِثَالُهُ أَنْ يَقْطَعَ الْجَانِي ذَكَرَهُ فَتَجِبُ فِيهِ كَمَالُ قِيمَتِهِ وَلَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ قِيمَتِهِ فَتَصِيرُ هَذِهِ الْقِيمَةُ بِالْجِنَايَةِ مَضْمُونَةً وَبِالْغَصْبِ غَيْرَ مَضْمُونَةٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْقِيمَةُ الْوَاجِبَةُ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ يَخْتَصُّ بِهَا الرَّاهِنُ وَلَا تَكُونُ رَهْنًا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ كَالنَّمَاءِ لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ فِيمَا قَابَلَ النَّقْصَ الْمَضْمُونَ بِالْغَصْبِ، وَلَوْ عَفَا الرَّاهِنُ عَنْهُ صَحَّ عَفْوُهُ وَبَرِئَ الْجَانِي مِنْهُ، لِأَنَّهُ عَفَا عَمَّا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حق المرتهن فكان عفوه صحيحا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا يَزِيدُ فِيهِ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى ضَمَانِ الْغَصْبِ فَمِثَالُهُ: أَنْ يَقْطَعَ أُذُنَيْهِ فَيَجِبُ فِيهِ كَمَالُ قِيمَتِهِ وَيَكُونُ النَّاقِصُ مِنْهُ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ نِصْفَ قِيمَتِهِ وَهُوَ الْقَدْرُ الْمَضْمُونُ بِالْغَصْبِ فَيَكُونُ نِصْفَ الْقِيمَةِ وهو قدر ما يضمن بالغصب وهنا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ وَالنِّصْفُ الْبَاقِي الزَّائِدُ بِالْجِنَايَةِ الْمُقَدَّرَةِ عَلَى ضَمَانِ الْغَصْبِ الْمُعْتَبَرِ بِالنَّقْصِ يَخْتَصُّ بِهِ الرَّاهِنُ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فَلَوْ عَفَا الرَّاهِنُ عَنْ هَذِهِ الْجِنَايَةِ صَحَّ عَفْوُهُ عَنْ مَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ الزَّايِدِ عَلَى ضَمَانِ الْغَصْبِ وَهُوَ النِّصْفُ لِأَنَّهُ خَالِصٌ لَهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ، وَلَمْ يَصِحَّ عَفْوُهُ عَنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ الَّذِي يَضْمَنُهُ بِالْغَصْبِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ، فَلَوْ كَانَ الْجَانِي قَدْ قَطَعَ أَنْفَهُ وَلِسَانَهُ، فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ قِيمَتَانِ، وَكَانَ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ النِّصْفَ. لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ رَهْنًا وَاخْتَصَّ الرَّاهِنُ بِالْبَاقِي وَهُوَ قِيمَةٌ وَنِصْفٌ.
فَلَوْ عَفَا الرَّاهِنُ صَحَّ عَفْوُهُ عَنْ قِيمَةٍ وَنِصْفٍ وَهُوَ قَدْرُ مَا يَخْتَصُّ بِهِ وَلَمْ يَصِحَّ عَفْوُهُ عَنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ.
وَأَمَّا الضَّرْبُ الرَّابِعُ: وَهُوَ مَا يَنْقُصُ فِيهِ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَنْ ضَمَانِ الْغَصْبِ فَمِثَالُهُ أَنْ تُقْطَعَ إِحْدَى يَدَيْهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ نِصْفُ الْقِيمَةِ وَيَكُونُ النَّاقِصُ مِنْهُ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْقِيمَةِ، فَلَيْسَ عَلَى الْجَانِي أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ يَضْمَنُهُ بِالْجِنَايَةِ وَيَكُونُ النَّقْصُ الزَّايِدُ عَلَى ذَلِكَ غَيْرَ مَضْمُونٍ كَالشَّيْءِ التَّالِفِ، وَيَكُونُ نِصْفُ الْقِيمَةِ الْمَأْخُوذَةِ رَهْنًا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ، فَلَوْ عَفَا الرَّاهِنُ عَنْهُ لَمْ يَصِحَّ عَفْوُهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ. فَهَذَا حُكْمُ الْجِنَايَةِ إِذَا كَانَتْ خطأ توجب المال.

(6/160)


(فَصْلٌ)
فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا تُوجِبُ الْقَوَدَ فَلِلرَّاهِنِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَطْلُبَ الْقِصَاصَ دُونَ الْمَالِ وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الْمَالِ، وَالثَّالِثَةُ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ وَعَنِ الْمَالِ، وَالرَّابِعَةُ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ وَلَا يُصَرِّحَ بِالْعَفْوِ عَنِ الْمَالِ.
فَأَمَّا الْحَالَةُ الْأُولَى: وَهِيَ أَنْ يَطْلُبَ الْقِصَاصَ دُونَ الْمَالِ فَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ وَلَا يَأْخُذَ الْمَالَ وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُهُ مِنَ الْقِصَاصِ وَجَبْرُهُ عَلَى أَخْذِ المال، وأما الحال الثَّانِيَةُ وَهِيَ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الْمَالِ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُهُ مِنَ الْمَالِ وَجَبْرُهُ عَلَى الْقِصَاصِ، وَأَمَّا الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ وَعَنِ الْمَالِ فَيَصِحُّ عَفْوُهُ عَنِ الْقِصَاصِ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ لَا حَظَّ فِيهِ لِلْمُرْتَهِنِ وَهَلْ يَصِحُّ عَفْوُهُ عَنِ الْمَالِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ فِيمَا قَابَلَ ضَمَانَ الْغَصْبِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ في جناية العمد ما الذي توجب؟ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهَا تُوجِبُ الْقَوَدَ.
فَأَمَّا الْمَالُ فَلَا يَجِبُ إِلَّا بِاخْتِيَارِ الْوَلِيِّ وَعَلَى هَذَا يَصِحُّ عَفْوُهُ لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَجِبُ إِلَّا بِاخْتِيَارِهِ وَهُوَ لَا يُجْبَرُ عَلَى اخْتِيَارِ الْمَالِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهَا تُوجِبُ أَحَدَ شَيْئَيْنِ، إِمَّا الْقَوَدُ أَوِ الْمَالُ فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ عَفْوُهُ عَنِ الْمَالِ لِتَقَدُّمِ وُجُوبِهِ وَتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ كَجِنَايَةِ الْخَطَأِ.
وَأَمَّا الْحَالُ الرَّابِعَةُ: وَهُوَ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ وَلَا يُصَرِّحَ بِالْعَفْوِ عَنِ الْمَالِ وَلَا يَخْتَارَهُ، فَقَدْ سَقَطَ الْقِصَاصُ بِعَفْوِهِ وَفِي الْمَالِ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَاجِبٌ إِذَا قِيلَ إِنَّ جِنَايَةَ الْعَمْدِ تُوجِبُ الْقَوَدَ أَوِ الْمَالَ لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْ أَحَدِ الْحَقَّيْنِ لَا يَكُونُ عَفْوًا عَنِ الْآخَرِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ الْمَالَ لَا يَجِبُ وَقَدْ سَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْمَالَ فِي جِنَايَةِ الْعَمْدِ لَا يَجِبُ إِلَّا بِاخْتِيَارِ الْوَلِيِّ وَالِاخْتِيَارُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ فَيَجِبُ الْمَالُ بِهِ وَقَدْ سَقَطَ خِيَارُهُ، لِأَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ بَعْدَ عَفْوِهِ.
(فَصْلٌ)
قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي جِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، فَأَمَّا جِنَايَةُ السَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ الْمَرْهُونِ فَهِيَ مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ بِالْأَرْشِ ضَمَانَ غَصْبٍ لِمَا تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، فَلَوْ كَانَ السَّيِّدُ قَدْ قَطَعَ إِحْدَى يَدَيْهِ وَجَبَ عَلَيْهِ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ، وَلَمْ يَتَقَدَّرْ ذَلِكَ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ كَالْأَجْنَبِيِّ، فَإِنْ كَانَ النَّاقِصُ مِنْ قِيمَتِهِ بِالْقَطْعِ نِصْفَ الْقِيمَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ النِّصْفُ، وَقَدِ اسْتَوَى النَّقْصُ بِهَا وَالْمُقَدَّرُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ النَّاقِصُ بِالْقَطْعِ ثُلُثَ الْقِيمَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ الثُّلُثُ وَيَكُونُ النَّقْصُ بِهَا أَقَلَّ مِنَ الْمُقَدَّرِ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ النَّاقِصُ مِنْ قِيمَتِهِ بِالْقَطْعِ ثُلْثَا الْقِيمَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ الثُّلُثَانِ وَيَكُونُ النَّقْصُ بِهَا أَكْثَرَ مِنَ الْمُقَدَّرِ فِيهَا، فَإِنْ قِيلَ: أَفَيَجِبُ على السيد بجناية أَكْثَرَ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ بِجِنَايَتِهِ؟ قِيلَ: لَمَّا اخْتَلَفَ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا فَكَانَ مَضْمُونًا عَلَى الْأَجْنَبِيِّ بِالْجِنَايَةِ وَعَلَى السَّيِّدِ بِالْغَصْبِ وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي الْأَجْنَبِيِّ

(6/161)


ضَمَانُ الْمُقَدَّرِ بِالْجِنَايَاتِ سَوَاءٌ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ النَّقْصِ أَوْ أَقَلَّ وَفِي السَّيِّدِ ضَمَانُ النَّقْصِ بِالْغَصْبِ سَوَاءٌ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الْمُقَدَّرِ أَوْ أَقَلَّ، فَإِنْ ضَمِنَهُ الْأَجْنَبِيُّ بِالْغَصْبِ وَالْجِنَايَةِ لَزِمَهُ ضَمَانُ أَكْثَرِ الْأَرْشَيْنِ مِنَ الْمُقَدَّرِ بِالْجِنَايَةِ أَوِ النَّقْصِ بِالْغَصْبِ.
مِثَالُهُ: أَنْ يَغْصِبَهُ أَجْنَبِيٌّ ثُمَّ يَقْطَعَ يَدَهُ، فَإِنْ نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ بِالْقَطْعِ أَقَلُّ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ ضَمِنَهُ الْجَانِي بِنِصْفِ الْقِيمَةِ ضَمَانَ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ الْأَرْشَيْنِ، وَكَانَ الزَّايِدُ عَلَى النَّقْصِ يَخْتَصُّ بِهِ الرَّاهِنُ وَإِنْ نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ بِالْقَطْعِ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ ضَمِنَهُ الْجَانِي بِالنَّقْصِ ضَمَانَ غَصْبٍ وَلَمْ يَضْمَنْهُ بِالنِّصْفِ لِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ أَكْثَرُ الْأَرْشَيْنِ، وَيَكُونُ جَمِيعُ ذَلِكَ رَهْنًا لَا يَخْتَصُّ الرَّاهِنُ بشيء منه والله أعلم.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ بِمَا فِيهِ قِصَاصٌ جَائِزٌ كَالْبَيِّنَةِ وَمَا لَيْسَ فِيهِ قِصَاصٌ فَإِقْرَارُهُ بَاطِلٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. قَدْ مَضَى هَذَا الْفَصْلُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ بِتَمَامِهِ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّ إِقْرَارَ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ بِالْجِنَايَةِ كَإِقْرَارِ غَيْرِ الْمَرْهُونِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ خَطَأً تُوجِبُ الْمَالَ، كَانَ إِقْرَارُهُ مَرْدُودًا يُتْبَعُ بِهِ إِذَا أُعْتِقَ وَأَيْسَرَ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ رَقَبَتَهُ مِلْكٌ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ وَإِقْرَارُ الْمُقِرِّ لَا يَنْفُذُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي إِقْرَارِهِ، لِأَنَّ إِقْرَارَهُ إِضْرَارٌ بِسَيِّدِهِ لِلْخَلَاصِ مِنْ يَدِهِ وَالْمُتَّهَمُ فِي إِقْرَارِهِ مَرْدُودُ الْإِقْرَارِ كَالسَّفِيهِ.

(فَصْلٌ)
وَإِذَا كَانَتْ جِنَايَتُهُ عَمْدًا تُوجِبُ الْقَوَدَ، كَانَ إقراره نافذا مقبولا وقال زفر بن الهزيل ومحمد بن الحسن وَأَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: إِقْرَارُهُ بِمَا يُوجِبُ الْقَوَدَ مَرْدُودٌ كَإِقْرَارِهِ بِمَا يُوجِبُ الْمَالَ.
اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِي الْخَطَأِ لَمْ يُقْبَلْ فِي الْعَمْدِ، كَالْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ، وَلِأَنَّهُ مُقِرٌّ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْبَلَ إِقْرَارُهُ كَالْخَطَأِ.
وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ حَدَّ اللَّهِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَزِمَهُ الْحَدُّ بِإِقْرَارِهِ لَزِمَهُ الْقَوَدُ بِإِقْرَارِهِ كَالْحُرِّ، وَلِأَنَّهُ قَتْلٌ يَجِبُ بِإِقْرَارِ الْحُرِّ فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ بِإِقْرَارِ الْعَبْدِ كَالرِّدَّةِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ فَمُنْتَقَضٌ بِالسَّفِيهِ يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِي الْعَمْدِ وَلَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِي الْخَطَأِ، فَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمُوهُ فَالْمَعْنَى فِي الْمَجْنُونِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِإِقْرَارِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ

(6/162)


الْقَوَدُ بِإِقْرَارِهِ وَلَمَّا وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى الْعَبْدِ بِإِقْرَارِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ بِإِقْرَارِهِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى إِقْرَارِهِ بِجِنَايَةِ الْخَطَأِ فَالْمَعْنَى فِي جِنَايَةِ الْخَطَأِ لَمَّا كَانَ مُتَّهَمًا فِيهَا لَمْ يَصِحَّ إِقْرَارُهُ بِهَا وَلَمَّا لَمْ يُتَّهَمْ فِي جِنَايَةِ الْعَمْدِ نَفَذَ إِقْرَارُهُ بِهَا.

(فَصْلٌ)
إِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِقْرَارَهُ بِجِنَايَةِ الْعَمْدِ مَقْبُولٌ فَالْمُقَرُّ لَهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الْعَبْدِ الْمُقِرِّ وَبَيْنَ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الْمَالِ وَبَيْنَ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ وَالْمَالِ فَإِنْ عَفَا عَنِ الْأَمْرَيْنِ كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِحَالِهِ وَإِنِ اقْتَصَّ مِنْهُ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ الْقِصَاصُ فِي نَفْسِهِ بَطَلَ الرَّهْنُ، وَإِنْ كَانَ فِي طَرَفِهِ كَانَ بَعْدَ الْقِصَاصِ رَهْنًا بِحَالِهِ. وَإِنْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الْمَالِ ثَبَتَ الْمَالُ فِي رَقَبَتِهِ وَبِيعَ مِنْهُ بِقَدْرِ جِنَايَتِهِ، فَإِنِ اسْتَغْرَقَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ جَمِيعَ قِيمَتِهِ بِيعَ وَبَطَلَ الرَّهْنُ بِبَيْعِهِ، وَإِنْ قَابَلَ بَعْضَ قِيمَتِهِ بِيعَ مِنْهُ بِقَدْرِ جِنَايَتِهِ وَكَانَ الْبَاقِي مِنْهُ رَهْنًا بحاله.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ فِي الرَّهْنِ قِيلَ لِسَيِّدِهِ إِنْ فَدَيْتَهُ بِجَمِيعِ الْجِنَايَةِ فَأَنْتَ مُتَطَوِّعٌ وَهُوَ رَهْنٌ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ بِيعَ فِي جِنَايَتِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
أَمَّا جِنَايَةُ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ فَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِرَقَبَتِهِ كَغَيْرِ الْمَرْهُونِ لَا تَلْزَمُ الرَّاهِنَ وَلَا تَلْزَمُ الْمُرْتَهِنَ، وَلَيْسَ يَجِبُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَفْدِيَهُ، أَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ وَأَمَّا الرَّاهِنُ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ مَالِكًا لِرَقَبَتِهِ فَلَيْسَتِ الْجِنَايَةُ مُتَعَلِّقَةً بِذِمَّتِهِ وَإِنَّمَا هِيَ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الرَّقَبَةَ إِذَا أُتْلِفَتْ بِالْجِنَايَةِ أَوْ تَلِفَتْ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْجِنَايَةِ سَقَطَ الْأَرْشُ.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْجِنَايَةَ وَاجِبَةٌ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ دُونَ سَيِّدِهِ وَمُرْتَهِنِهِ فَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ لَا يَمْلِكُ رَقَبَتَهُ بِجِنَايَتِهِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَ الْأَرْشِ مِنْ رَقَبَتِهِ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ رَقَبَتِهِ وَقَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة قَدْ صَارَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مَالِكًا لِرَقَبَتِهِ بِالْجِنَايَةِ وَعَلَى السَّيِّدِ تَسْلِيمُهُ إِلَيْهِ. فَإِنْ شَاءَ بَاعَهُ وَإِنْ شَاءَ تَمَلَّكَهُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ قَدْ مَلَكَ الْأَرْشَ وَاسْتَحَقَّهُ وَالْحُقُوقُ الْمَمْلُوكَةُ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ مُسْتَقِرَّةً فِي ذِمَّةٍ مَضْمُونَةٍ كَالدُّيُونِ، أَوْ مُسْتَقِرَّةٍ فِي عَيْنٍ مَمْلُوكَةٍ كَالْإِرْثِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ أَرْشُ الْجِنَايَةِ مَضْمُونًا فِي الذِّمَّةِ بِدَلِيلِ سُقُوطِهِ بِتَلَفِ الذِّمَّةِ ثَبَتَ أَنَّهُ مُسْتَقِرٌّ فِي الرَّقَبَةِ لِاسْتِحْقَاقِهِ مَعَ بَقَائِهَا وَسُقُوطِهِ مَعَ عَدَمِهَا.
وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ رَقَبَةَ الْعَبْدِ مِلْكٌ لِسَيِّدِهِ وَالْأَعْيَانُ لَا تُمْلَكُ عَنْ أَرْبَابِهَا بِالْجِنَايَاتِ كَالْفَحْلِ إِذَا صَالَ فَأَتْلَفَ مَالًا، لَا يَصِيرُ الْفَحْلُ مَمْلُوكًا لِصَاحِبِ الْمَالِ فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ.
وَتَحْرِيرُ عِلَّتِهِ: أَنَّهَا جِنَايَةٌ مِنْ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ فَوَجَبَ أَلَّا تُعْتَبَرَ الْجِنَايَةُ مَمْلُوكَةً كَالْفَحْلِ وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْحَقِّ الْوَاجِبِ لَا يَصِحُّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا فِي ذِمَّةٍ أَوْ مُسْتَقِرًّا فِي عَيْنٍ مملوكة

(6/163)


فَمُنْتَقَضٌ بِدَيْنِ الْمَيِّتِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ فِي ذِمَّةٍ، وَلَا مَلَكَ بِهِ عَيْنَ التَّرِكَةِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ رَقَبَةِ الْعَبْدِ الْجَانِي مَا لَمْ يَفْدِهِ السَّيِّدُ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ لَا يَمْلِكُ رَقَبَةَ الْعَبْدِ بِجِنَايَتِهِ عَلَيْهِ. فَالسَّيِّدُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُسَلِّمَ الْعَبْدَ الْجَانِيَ لِيُبَاعَ فِي جِنَايَتِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَفْدِيَهُ مِنْهَا، فَإِنْ سَلَّمَهُ لِيُبَاعَ فِي أَرْشِ الْجِنَايَةِ، نُظِرَ فِي أَرْشِ الْجِنَايَةِ فَإِنْ كَانَ مُحِيطًا بِقِيمَتِهِ بِيعَ وَبَطَلَ الرَّهْنُ بِالْبَيْعِ، فَإِنْ مَلَكَهُ السَّيِّدُ فِيمَا بَعْدُ لَمْ يَعُدْ إِلَى الرَّهْنِ لِبُطْلَانِهِ بِالْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ يُقَابِلُ بَعْضَ قِيمَتِهِ بِيعَ مِنْهُ بِقَدْرِ الْأَرْشِ نِصْفًا أَوْ ثُلُثًا، وَكَانَ الْبَاقِي مِنْهُ بَعْدَ الْبَيْعِ رَهْنًا.
وَإِنْ أَرَادَ السَّيِّدُ أَنْ يَفْدِيَهُ مِنَ الْجِنَايَةِ فَإِنْ كَانَ الْأَرْشُ مِثْلَ قِيمَتِهِ أَوْ أَقَلَّ لَزِمَهُ أَنْ يَفْدِيَهُ بِجَمِيعِ الْأَرْشِ، وَإِنْ كَانَ الْأَرْشُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ فَفِيمَا يَفْدِيهِ بِهِ قَوْلَانِ:
أحدهما: يقدر بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْقِيمَةِ أَوِ الْأَرْشِ، لِأَنَّ الْقِيمَةَ إِذَا زَادَتْ فَلَيْسَ يَسْتَحِقُّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنَ الْأَرْشِ، فَإِنْ زَادَ الْأَرْشُ فَلَيْسَ يَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ مِنَ الرَّقَبَةِ فَلِذَلِكَ لَزِمَ السَّيِّدَ أَنْ يَفْدِيَهُ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَفْدِيَهُ بِجَمِيعِ الْأَرْشِ وَإِنْ زَادَ عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ، أَوْ تَمَكَّنَ مِنْ بَيْعِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ غَيْرَ ثَمَنِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْدُثُ لِلْعَبْدِ لَوْ بِيعَ رَاغِبٌ يَبْتَاعُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيَمَتِهِ فَإِذَا امْتَنَعَ السَّيِّدُ مِنْ بَيْعِ عَبْدِهِ لِيَفْدِيَهُ مُنِعَ مِنْ زِيَادَةِ الرَّغْبَةِ فَلَزِمَهُ جَمِيعُ الْأَرْشِ وَلَمْ يَقْتَصِرْ مِنْهُ عَلَى الْقِيمَةِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ، فَإِذَا فَدَاهُ السَّيِّدُ بِمَا وَصَفْتُ كَانَ الْعَبْدُ عَلَى حَالِهِ رَهْنًا، لِأَنَّ جِنَايَتَهُ لَمْ تُبْطِلْ رَهْنَهُ، وَإِنَّمَا أَدْخَلَتْ عَلَى الرَّاهِنِ حَقًّا زَاحَمَهُ فَإِذَا سَقَطَ الْحَقُّ ثَبَتَ الرهن والله أعلم.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " فإن تطوع المرتهن لَمْ يَرْجِعْ بِهَا عَلَى السَّيِّدِ وَإِنْ فَدَاهُ بِأَمْرِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ رَهْنًا بِهِ مَعَ الحق فجائز (قال المزني) قلت أنا هَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَزْدَادَ حَقًّا فِي الرَّهْنِ الْوَاحِدِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَفْدِيَ الْعَبْدَ الْمَرْهُونَ مِنْ جِنَايَتِهِ، فَإِنْ فَدَاهُ الْمُرْتَهِنُ فَقَدْ بَرِئَ مِنَ الْجِنَايَةِ وَاسْتَقَرَّ فِي الرَّهْنِ، وَبِمَاذَا يَفْدِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالرَّاهِنِ، أَحَدُهُمَا يَفْدِيهِ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مَنْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ أَوْ قِيمَتِهِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي يَفْدِيهِ بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ وَإِنْ زَادَتْ عَلَى قِيمَتِهِ.
فَإِنْ فَدَاهُ وَخَلَصَ مِنَ الرَّهْنِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِي فِدْيَتِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَفْدِيَهُ بِأَمْرِ الرَّاهِنِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَإِنْ فَدَاهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا فَدَاهُ وَكَانَ مُتَطَوِّعًا بِهِ، وَإِنْ

(6/164)


فَدَاهُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَنْ يَفْدِيَهُ بِأَمْرِهِ عَلَى شَرْطِ الرُّجُوعِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَفْدِهِ بِالْجِنَايَةِ لِتَرْجِعَ عَلَيَّ فَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا فَدَاهُ بِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَفْدِيَهُ بِأَمْرِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الرُّجُوعِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَفْدِهِ عَنِّي، فَلِلْمُرْتَهِنِ الرُّجُوعُ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا.

(فَصْلٌ)
فَإِنْ فَدَاهُ الْمُرْتَهِنُ بِأَمْرِ الرَّاهِنِ عَلَى شَرْطِ الرُّجُوعِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ فِي يَدِهِ رَهْنًا بِالْحَقِّ الْأَوَّلِ وَبِالْأَرْشِ الَّذِي فَدَاهُ بِهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي جَوَازِهِ قَوْلَانِ مِنْ إِدْخَالِ حَقٍّ ثَانٍ عَلَى أَوَّلٍ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ إِنَّهُ جَائِزٌ يَعْنِي عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَنَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ جَائِزٌ قَوْلًا وَاحِدًا وَفَرَّقُوا بَيْنَ ارْتِهَانِهِ بِالْأَرْشِ مَعَ الْحَقِّ الْأَوَّلِ فَيَجُوزُ قَوْلًا وَاحِدًا وَبَيْنَ ارْتِهَانِهِ بِحَقٍّ ثَانٍ مَعَ الْحَقِّ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ، لِأَنَّ فِدْيَتَهُ بِالْأَرْشِ اسْتِصْلَاحٌ لِلرَّهْنِ، فَجَازَ فِيهِ مَا لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُبْتَدَأَةِ فِي الرهن والله أعلم.

(مسألة)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ أَمَرَ الْعَبْدَ بِالْجِنَايَةِ فَإِنْ كَانَ يَعْقِلُ بَالِغًا فَهُوَ آثِمٌ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ أَعْجَمِيًّا فَبِيعَ فِي الْجِنَايَةِ كُلِّفَ السَّيِّدُ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ يَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا أَمَرَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ الْمَرْهُونَ بِالْجِنَايَةِ فَجَنَى الْعَبْدُ عَنْ أَمْرِ السَّيِّدِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْعَبْدِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأَنَّ طَاعَةَ السَّيِّدِ فِيمَا حَظَرَهُ الشَّرْعُ لَا تَجُوزُ، أَوْ يَكُونُ جَاهِلًا بِذَلِكَ فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُطَاعَ فِي الْمَحْظُورِ مِنْ قَتْلٍ أَوْ إِتْلَافٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: -
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْمُورَ جَنَى غَيْرَ مُكْرَهٍ وَلَا مُجْبَرٍ فَالْجِنَايَةُ مَنْسُوبَةٌ إِلَى الْعَبْدِ دُونَ السَّيِّدِ، فَيَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ جِنَايَتِهِ لَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ السَّيِّدُ بِهَا وَسَوَاءٌ كَانَ بَالِغًا أَوْ مُرَاهِقًا إِذَا كَانَ بِحَظْرِ مَا فَعَلَهُ عَالِمًا، لِأَنَّ أَمْرَ السَّيِّدِ إِنَّمَا يَلْزَمُهُ امْتِثَالُهُ فِيمَا أُبِيحَ فِعْلُهُ دُونَمَا حَظْرٍ، وَأَمْرُ السَّيِّدِ بِالْمَحْظُورِ غَيْرُ مُمْتَثَلٍ.
بَلْ يَكُونُ بِأَمْرِهِ آثِمًا لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالْأَمْرِ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى مُعَاوِنًا، وَالْمُؤَاخَذُ بِالْجِنَايَةِ هُوَ الْعَبْدُ الْجَانِي دُونَ السَّيِّدِ الْآمِرِ.

(6/165)


وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ تُوجِبُ الْمَالَ كَانَتْ فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ تُوجِبُ الْقَوَدَ، فَإِنْ كَانَ بَالِغًا اقْتُصَّ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مُرَاهِقًا لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ، لِأَنَّ غَيْرَ الْبَالِغِ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ، وَكَانَتْ مُوجِبَةً لِلْمَالِ فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهَا كَالْخَطَأِ وَلَا غُرْمَ عَلَى السَّيِّدِ فِيهَا وَإِنْ كَانَ أَمَرَ بِهَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ الْمَأْمُورُ بِالْجِنَايَةِ مُكْرَهًا عَلَيْهَا مَجْبُورًا عَلَى فِعْلِهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مُوجِبَةً لِلْمَالِ فَيَكُونُ الْغُرْمُ وَاجِبًا عَلَى السَّيِّدِ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ وَسَائِرِ مَالِهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَرْشَ جِنَايَتِهِ وَإِنْ زَادَتْ عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ الْجَانِي لِكَوْنِ السَّيِّدِ جَانِيًا بِإِكْرَاهِ عَبْدِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تُوجِبَ الْقَوَدَ فَيَكُونُ الْقَوَدُ وَاجِبًا عَلَى السَّيِّدِ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ الْمُكْرَهِ الْقَوَدُ إِذَا كَانَ بَالِغًا أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ: فَهَذَا حُكْمُ الْعَبْدِ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ طَاعَةَ السَّيِّدِ فِي الْمَحْظُورِ لَا تَجُوزُ.

(فَصْلٌ)
وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ طَاعَةِ السَّيِّدِ فِي الْمَحْظُورَاتِ كَالصَّبِيِّ الصَّغِيرِ وَالْأَعْجَمِيِّ الجلب الْجَاهِلِ بِتَحْرِيمِ الْقَتْلِ وَالْإِتْلَافِ الْمُعْتَقِدِ طَاعَةَ السَّيِّدِ فِيمَا أَمَرَهُ مِنْ مَحْظُورٍ أَوْ مُبَاحٍ فَالْجِنَايَةُ مَنْسُوبَةٌ إِلَى السَّيِّدِ الْآمِرِ دُونَ الْعَبْدِ الْجَانِي - لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ صَارَ كَالْآلَةِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ كَلْبٍ يُشْلِيهِ أَوْ سَهْمٍ يَرْمِيهِ، فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ تُوجِبُ الْقَوَدَ فَالْقَوَدُ وَاجِبٌ عَلَى السَّيِّدِ وَالْعَبْدُ رَهْنٌ بِحَالِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تُوجِبُ الْمَالَ فَالْغُرْمُ وَاجِبٌ عَلَى السَّيِّدِ وَالْعَبْدُ رَهْنٌ بِحَالِهِ. فَإِنْ أَعْسَرَ السَّيِّدُ بِهَا فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ الْعَبْدُ فِيهَا أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ فِيهَا وَيَكُونُ الْأَرْشُ وَاجِبًا فِي ذِمَّةِ السَّيِّدِ وَالْعَبْدِ بِحَالِهِ فِي الرَّهْنِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مَنْسُوبَةٌ إِلَى السَّيِّدِ وَجِنَايَاتُ السَّيِّدِ إِذَا أَعْسَرَ بِأَرْشِهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُبَاعَ فِيهَا أَمْوَالُهُ الْمَرْهُونَةُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ يُبَاعُ فِي الْأَرْشِ إِذَا كَانَ السَّيِّدُ مُعْسِرًا لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَنِ الْعَبْدِ صَدَرَتْ وَمِنْ فِعْلِهِ حَدَثَتْ وَإِنَّمَا غُلِبَ فِيهَا السَّيِّدُ لِأَمْرِهِ إِذَا أَمْكَنَ أَخْذُهَا مِنْ مَالِهِ، وَأَمَّا إِذَا تَعَذَّرَ أَخْذُهَا مِنْ مَالِهِ فَأَوْلَى الْأُمُورِ أَنْ يُبَاعَ فِيهَا الْجَانِي، فَإِذَا بِيعَ بَطَلَ الرَّهْنُ، فَإِنْ أَيْسَرَ السَّيِّدُ بِهَا فِيمَا بَعْدُ أُخِذَتْ مِنْهُ قِيمَةُ الْعَبْدِ وَتَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ أَوْ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا بَالِغًا عَاقِلًا أَمَرَ صَبِيًّا صَغِيرًا بِقَتْلِ إِنْسَانٍ فَقَتَلَهُ كَانَ الْقَوَدُ عَلَى الرَّجُلِ الْآمِرِ دُونَ الصَّبِيِّ الْقَاتِلِ.

(6/166)


وَإِنْ عَفَا وَلِيُّ الْجِنَايَةِ عَنِ الْقَوَدِ إِلَى الدِّيَةِ وَكَانَ الرَّجُلُ الْآمِرُ مُعْسِرًا بِهَا وَالصَّبِيُّ الْقَاتِلُ مُوسِرًا بِهَا أُخِذَتِ الدِّيَةُ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ الْقَاتِلِ وَكَانَتِ الدِّيَةُ دَيْنًا لِلصَّبِيِّ عَلَى الرَّجُلِ الْآمِرِ يَرْجِعُ بِهَا إِذَا أَيْسَرَ بِهَا وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. لَا يَجُوزُ أَنْ تُؤْخَذَ الدِّيَةُ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مَنْسُوبَةٌ إِلَى غَيْرِهِ وَتَكُونُ دَيْنًا عَلَى الرَّجُلِ الْآمِرِ يُؤْخَذُ بِهَا إِذَا أَيْسَرَ.

(فَصْلٌ)
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ أَعْجَمِيًّا فَبِيعَ فِي الْجِنَايَةِ كُلِّفَ السَّيِّدُ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ تَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ إِنَّ الْعَبْدَ يُبَاعُ فِي الْجِنَايَةِ إِذَا أَعْسَرَ السَّيِّدُ بِهَا، قِيلَ. أَمَّا أَبُو إِسْحَاقَ فَتَعَلَّقَ بِهَذَا مِنْ قَوْلِهِ - وَحَكَمَ فِي الْعَبْدِ بِجَوَازِ بَيْعِهِ وَأَمَّا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنَّهُ مَنَعَ مِنْ جَوَازِ بَيْعِهِ وَقَالَ: لَيْسَ فِي هَذَا الْقَوْلِ مِنَ الشَّافِعِيِّ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ لِأَنَّهُ لِمَ يَقُلْ: بِيعَ فِي الْجِنَايَةِ، فَيَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ حُكْمًا بِبَيْعِهِ. وَإِنَّمَا قَالَ: بِيعَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِخْبَارِ عَنْ حَالِهِ إِنْ بِيعَ بِرَأْيِ حَاكِمٍ أَوِ اجْتِهَادِ مُجْتَهِدٍ، فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ قَالَ الشَّافِعِيُّ كُلِّفَ السَّيِّدُ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ فَتَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ فَحَكَمَ عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ تَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ إِذَا بِيعَ فِي جِنَايَتِهِ وَلَيْسَ يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا فَالْجِنَايَةُ فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهَا وَلَيْسَ عَلَى السَّيِّدِ غُرْمُ قِيمَتِهِ لِلْمُرْتَهِنِ أَوْ يَكُونُ صَغِيرًا لَا يَعْقِلُ فَعَلَى السَّيِّدِ أَرْشُ الْجِنَايَةِ وَلَا يُبَاعُ الْعَبْدُ بَلْ يَكُونُ عَلَى حَالِهِ رَهْنًا فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، فَعَلَى كِلَا الْحَالَيْنِ تَأْوِيلُ أَبِي عَلِيٍّ لَا يَصِحُّ وَقَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ أَصَحُّ.
قِيلَ قَدْ أَجَابَ أَبُو عَلِيٍّ عَنْ هَذَا جَوَابَيْنَ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعَبْدَ بِيعَ فِي الْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْلَمْ مِنَ السَّيِّدِ أَنَّهُ أَمَرَهُ ثُمَّ عُلِمَ بَعْدَ بَيْعِهِ أَنَّ السَّيِّدَ قَدْ كَانَ أَمَرَهُ بِهَا، فَلَمْ يُفْسَخِ الْبَيْعُ لِمَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُشْتَرِي وَأُخِذَ مِنَ السَّيِّدِ قِيمَتُهُ رَهْنًا مَكَانَهُ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي أَنَّهُ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ السَّيِّدَ أَمَرَ الْعَبْدَ بِالْجِنَايَةِ إِلَّا بِقَوْلِ السَّيِّدِ وَهُوَ مُعْسِرٌ وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ السَّيِّدُ أَمَرَهُ بِهَا، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ السَّيِّدِ فِي تَأْخِيرِ حَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَيُبَاعُ الْعَبْدُ فِي الرَّهْنِ فَإِذَا أَيْسَرَ أُخِذَتْ مِنْهُ قِيمَةُ الْعَبْدِ تَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ، وَهَذَانِ الْجَوَابَانِ مِنْ أَبِي عَلِيٍّ عَنِ السُّؤَالِ حَسَنٌ عَلَى أَصْلٍ مِنَ المذهب صحيح.

(مسألة)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَلَوْ أُذِنَ لَهُ بِرَهْنِهِ فَجَنَى فَبِيعَ فِي الْجِنَايَةِ فَأَشْبَهُ الْأَمْرَيْنِ أَنَّهُ غَيْرُ ضَامِنٍ وَلَيْسَ كَالْمُسْتَعِيرِ الَّذِي مَنْفَعَتُهُ مَشْغُولَةٌ بِخِدْمَةِ الْعَبْدِ عَنْ مُعِيرِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: صُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فِي رَجُلٍ اسْتَعَارَ مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا لِيَرْهَنَهُ عِنْدَ رَجُلٍ بِحَقٍّ لَهُ عَلَيْهِ فَهَذَا جَائِزٌ لِأَمْرَيْنِ:

(6/167)


أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُمَلِّكَهُ رَقَبَةَ عَبْدِهِ جَازَ أَنْ يُمَلِّكَهُ الِانْتِفَاعَ بِرَقَبَتِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُمَلِّكَهُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ مُوَثَّقًا فِي ذِمَّةِ نَفْسِهِ جَازَ أَنْ يَجْعَلَهُ مُوَثَّقًا فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ لِاسْتِوَاءِ تَصَرُّفِهِ فِي ذِمَّةِ نَفْسِهِ وَرَقَبَةِ عَبْدِهِ.
فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حُكْمِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي الرَّهْنِ الصَّغِيرِ وَالرَّهْنِ الْقَدِيمِ.
أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الْعَارِيَةِ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَدْ أَرْفَقَ الرَّاهِنُ مَنْفَعَتَهُ فِيمَا اسْتَأْذَنَ بِهِ مِنْ رَهْنِ رَقَبَتِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَارِيَةً كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي الِانْتِفَاعِ بِخِدْمَتِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْعَبْدُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ سَيِّدِهِ وَكَانَتْ ذِمَّةُ السَّيِّدِ بَرِيَّةً مِنْ حَقِّ مُرْتَهِنِهِ انْصَرَفَ عَنِ الضَّمَانِ لِبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ إِلَى العارية لاختصاصه بِالْمَنْفَعَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَالِكًا لِرَقَبَةِ عَبْدِهِ كَمِلْكِهِ لِذِمَّةِ نَفْسِهِ ثُمَّ كَانَ لَوْ جُعِلَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ مُوَثَّقًا فِي ذِمَّةِ نَفْسِهِ كَانَ ضَمَانًا وَلَمْ يَكُنْ عَارِيَةً وَجَبَ إِذَا جُعِلَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ مُوَثَّقًا في رقبة عبده أن يكون ضمانا لا تكون عَارِيَةً.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَارِيَةَ تَخْتَصُّ بِالْمَنْفَعَةِ وَالضَّمَانَ يَخْتَصُّ بِالْوَثِيقَةِ فَلَمَّا كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ عَلَى مِلْكِ سَيِّدِهِ لَمْ يَكُنْ عَارِيَةً وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ضَمَانًا لِاخْتِصَاصِهِ بِالْوَثِيقَةِ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَرَهْنُهُ صَحِيحٌ سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ، أَوْ قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: إِنَّهُ يَصِحُّ رَهْنُهُ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ فَأَمَّا إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ لِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ فِي عَارِيَتِهِ وَالرَّهْنُ يَمْنَعُ مِنَ الرُّجُوعِ بَعْدَ تَمَامِهِ فَلَمَّا تَنَافَيَا حُكْمُ الْعَارِيَةِ وَالرَّهْنُ لَمْ يَصِحَّ إِعَارَةُ الرَّهْنِ. وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْعَارِيَةَ تَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ جَائِزَةً وَلَازِمَةً، فَالْجَائِزَةُ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا، وَاللَّازِمَةُ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا كَإِعَارَةِ حَائِطٍ لِوَضْعِ جُذُوعٍ وَإِعَارَةِ أَرْضٍ لِدَفْنِ مَيِّتٍ فَكَذَا إِعَارَةُ عَبْدِ الرَّهْنِ.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ رَهْنِهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى التَّفْرِيعِ عَلَيْهِمَا، فَإِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ جَازَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي رَهْنِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَارِفٍ بِجِنْسِ الْحَقِّ وَقَدْرِهِ وَوَصْفِهِ وَمَالِكِهِ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ بِمَنْفَعَةِ الْعَارِيَةِ لَا تَقْدَحُ فِي صِحَّتِهَا، فَلَوْ أُذِنَ لَهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَرْهَنَهُ فِي قَدْرٍ مَعْلُومٍ مِنْ جِنْسٍ مَعْلُومٍ عَلَى صِفَةٍ مَعْلُومَةٍ عِنْدَ رَجُلٍ مُعَيَّنٍ لَمْ يَجُزْ لِمُسْتَعِيرِهِ أن

(6/168)


يُخَالِفَ نَعْتَ مُعِيرِهِ، لِأَنَّ الْعَارِيَةَ لِمَنْفَعَةٍ مَخْصُوصَةٍ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا فِي غَيْرِ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ.
وَإِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ لَمْ يَجُزْ رَهْنُهُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْمَالِكِ لِجِنْسِ الْحَقِّ وَقَدْرِهِ وَوَصْفِهِ وَفِي وُجُوبِ مَعْرِفَةِ مَالِكِ الْحَقِّ وَجْهَانِ:
فَأَمَّا جِنْسُ الْحَقِّ فَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ هَلْ ذَلِكَ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ لِيَعْلَمَ جِنْسَ مَا ضَمِنَهُ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ فَيَصِحُّ ضَمَانُهُ وَأَمَّا قَدْرُ الْحَقِّ فَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ مِائَةٌ أَوْ أَلْفٌ لِتَنْتَفِيَ الْجَهَالَةُ عَمَّا ضَمِنَهُ فَيَصِحُّ ضَمَانُهُ.
وَأَمَّا وَصْفُ الْحَقِّ فَهُوَ أَنْ يُعْلَمَ هَلْ ذَلِكَ حَالٌ أَوْ مؤجل؛ لأن الجهالة يوصفه كَالْجَهَالَةِ بِقَدْرِهِ وَجِنْسِهِ. وَأَمَّا مَعْرِفَةُ مَالِكِ الْحَقِّ فَعَلَى وَجْهَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الضَّمَانِ هَلْ تَكُونُ مَعْرِفَةُ الْمَضْمُونِ لَهُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الضَّمَانِ أَمْ لَا؟ وَإِنْ قُلْنَا مَعْرِفَةُ الْمَضْمُونِ لَهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الضَّمَانِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْمُرْتَهِنِ، وَإِنْ قُلْنَا لَيْسَتْ شرطا في صحة الضمان جاز جهله بِالْمُرْتَهِنِ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا أُذِنَ لَهُ فِي رَهْنِهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا فَرَهَنَهُ كَذَلِكَ عَلَى الْأَوْصَافِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِيهَا صَحَّ الرَّهْنُ وَلَزِمَ، وَإِنْ خَالَفَهُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لَمْ يَخْلُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: إِمَّا أَنْ يُخَالِفَهُ فِي الْجِنْسِ أَوْ يُخَالِفَهُ فِي الْقَدْرِ أَوْ يُخَالِفَهُ فِي الْوَصْفِ أَوْ يُخَالِفَهُ فِي الْمَالِكِ، فَإِنْ خَالَفَهُ فِي الْجِنْسِ فَمِثَالُهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي رَهْنِهِ بِدَنَانِيرَ فَيَرْهَنُهُ بِدَرَاهِمَ أَوْ فِي دَرَاهِمَ فَيَرْهَنُهُ بِدَنَانِيرَ فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا. لِأَنَّنَا إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ فَمَنْ ضَمِنَ دَنَانِيرَ لَمْ يَلْزَمْهُ غَيْرُهَا، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ فَمَنْ أَعَارَ لِمَنْفَعَةٍ مَخْصُوصَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْعَارِيَةِ فِي مَنْفَعَةِ غَيْرِهَا، وَإِنْ خَالَفَهُ فِي الْقَدْرِ فَمِثَالُهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي رَهْنِهِ بِأَلْفٍ فَيَرْهَنُهُ بِأَقَلَّ أَوْ بِأَكْثَرَ فَهَذَا يُنْظَرُ فَإِنْ رَهَنَهُ بِأَقَلَّ مَنْ أَلْفٍ جَازَ رَهْنُهُ لِأَنَّهُ بَعْضُ الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَإِنْ رَهَنَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَلْفِ وَهَلْ يَبْطُلُ فِي الْأَلْفِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَإِنْ خَالَفَهُ فِي الصِّفَةِ فَمِثَالُهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي رَهْنِهِ بِدَيْنٍ حَالٍ فَيَرْهَنُهُ فِي مُؤَجَّلٍ أَوْ فِي مُؤَجَّلٍ فَيَرْهَنُهُ فِي حَالٍ فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ.
لِأَنَّهُ إِنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَرْهَنَهُ فِي حَالٍ فَرَهَنَهُ فِي مُؤَجَّلٍ فَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ مَنْ أَعَارَ شَيْئًا لِيُنْتَفَعَ بِهِ فِي الْحَالِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْتَفَعَ بِهِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَدِمِ الضَّمَانُ إِلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ.
وَإِنْ أَذِنَهُ أَنْ يَرْهَنَهُ فِي مُؤَجَّلٍ فَرَهَنَهُ فِي حَالٍ فَإِنْ قُلْنَا يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ

(6/169)


مَنْ أَعَارَ شَيْئًا لِيُنْتَفَعَ بِهِ بَعْدَ مُدَّةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْتَفَعَ قَبْلَ تِلْكَ الْمُدَّةِ وَإِنْ قُلْنَا يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ مِنْ ضَمِنَ شَيْئًا إِلَى مُدَّةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبْلَ تِلْكَ الْمُدَّةِ.
وَإِنْ خَالَفَهُ فِي الْمَالِكِ فَمِثَالُهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي رَهْنِهِ عِنْدَ زَيْدٍ فَرَهَنَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ، لِأَنَّ مَنْ ضَمِنَ لِزَيْدٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الضَّمَانُ لِغَيْرِهِ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ فَالرَّهْنُ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ وَإِنْ صَارَ مَرْهُونًا عِنْدَ غَيْرِ مَنْ أُذِنَ لَهُ، فَلَيْسَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ مَوْضُوعًا عَلَى يَدِ مَنِ ارْتَهَنَهُ وَإِذَا لَمْ يَجِبْ لَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ حَقُّ الِارْتِهَانِ لِزَيْدٍ أَوْ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ أَلَّا يُوضَعَ عَلَى يَدِ مُرْتَهِنِهِ وَيُوضَعَ عَلَى يَدِ عَدْلٍ يَرْضَيَانِ بِهِ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ رَهْنَهُ لَا يَصِحُّ إِذَا خَالَفَهُ فَرَهَنَهُ رَهْنًا صَحِيحًا كَمَا أَذِنَ لَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهُ بِفَكَاكِهِ مِنَ الرَّهْنِ وَخَلَاصِهِ. فَلَا يَخْلُو حَالُ الْحَقِّ الْمَرْهُونِ فِيهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَالًا أَوْ يَكُونُ مُؤَجَّلًا فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ حَالًا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِخَلَاصِهِ وَيُطَالِبَهُ بِفَكَاكِهِ إِنْ جَرَى مَجْرَى الْعَارِيَةِ، فَلِلْمُعِيرِ الرُّجُوعُ فِي الْعَارِيَةِ، وَإِنْ جَرَى مَجْرَى الضَّمَانِ فَلِلضَّامِنِ أَخْذُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِفَكَاكِهِ مِمَّا ضَمِنَهُ بِأَمْرِهِ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مُؤَجَّلًا فَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِفَكَاكِهِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِفَكَاكِهِ؛ لِأَنَّ لِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ فِي عَارِيَتِهِ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِفَكَاكِهِ لِأَنَّ الضَّامِنَ إِلَى أَجَلٍ لَيْسَ لَهُ أَخْذُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِفَكَاكِهِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُفَكَّ مِنَ الرَّهْنِ وَالثَّانِي أَنْ يُبَاعَ فِي الرَّهْنِ وَالثَّالِثُ أَنْ يُتْلَفَ فِي الرَّهْنِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يُفَكَّ مِنَ الرَّهْنِ فَلِسَيِّدِهِ أَنْ يَسْتَرْجِعَهُ وَيَسْقُطُ عَنِ الرَّاهِنِ الْمُسْتَعِيرِ ضَمَانُهُ، فَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ فَكَّهُ مِنَ الرَّهْنِ بِقَضَاءٍ أَوْ بِإِبْرَاءِ الْمُرْتَهِنِ لَهُ، خَلَصَ الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ وَبَرِئَ الرَّاهِنُ عَنْ ضَمَانِهِ وَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ قَدْ فَكَّهُ مِنَ الرَّهْنِ بِقَضَاءِ الْحَقِّ، نُظِرَ فَإِنْ فَكَّهُ بِأَمْرِ الرَّاهِنِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا افْتَكَّهُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ قَلِيلًا كَانَ الْحَقُّ أَمْ كَثِيرًا، وَإِنِ افْتَكَّهُ بِقَضَاءِ الْحَقِّ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ الرَّاهِنِ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا افْتَكَّهُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالْحَقِّ الَّذِي افْتَكَّهُ كَمَنْ ضَمِنَ عَنْهُ حَقًّا بِأَمْرِهِ فَلَهُ الرُّجُوعُ بِمَا غَرِمَهُ فِي ضَمَانِهِ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ فَلَا رُجُوعَ لَهُ بِالْحَقِّ الَّذِي افْتَكَّهُ لِأَنَّ الْعَارِيَةَ تُوجِبُ اسْتِرْجَاعَ مَا أَعَارَهُ وَلَا تُوجِبُ غُرْمَ مَا تعلق بالمعار.

(6/170)


(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يُبَاعَ فِي الرَّهْنِ وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ إِمَّا لِكَوْنِ الرَّاهِنِ مُعْسِرًا وَإِمَّا لِيَصِيرَ بِهِ مُوسِرًا فَإِذَا بِيعَ وَقَضَى بِهِ الْحَقَّ الْمَرْهُونَ فِيهِ، كَانَ مَضْمُونًا عَلَى الرَّاهِنِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا لِأَنَّهُ إِنْ جَرَى مَجْرَى الْعَارِيَةِ فَالْعَارِيَةُ مَضْمُونَةٌ عَلَى مُسْتَعِيرِهَا وَإِنْ جَرَى مَجْرَى الضَّمَانِ فَالضَّامِنُ يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِمَا أَدَّى، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ مَا بِيعَ بِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: -
أَحَدُهَا: أَنْ يُبَاعَ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُبَاعَ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يُبَاعَ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ.
فَإِنْ بِيعَ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ أَلْفًا فَيُبَاعُ بِأَلْفٍ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الرَّاهِنِ الْمُسْتَعِيرِ بِأَلْفٍ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا. لِأَنَّهُ إِنْ جَرَى مَجْرَى الْعَارِيَةِ فَالْعَارِيَةُ مَضْمُونَةٌ بِالْقِيمَةِ وَهِيَ أَلْفٌ وَإِنْ جَرَى مَجْرَى الضَّمَانِ فَالضَّامِنُ يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِمَا أَدَّى وَهُوَ أَلْفٌ.
فَلِذَلِكَ اسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ بِأَلْفٍ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا، وَإِنْ بِيعَ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ أَلْفًا فَيُبَاعُ بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ فَفِيمَا يَضْمَنُ الرَّاهِنُ الْمُسْتَعِيرُ وَيُرْجَعُ به على المالك المغير قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِأَلْفٍ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ، لِأَنَّ الْعَارِيَةَ مَضْمُونَةٌ بِالْقِيمَةِ دُونَ مَا زَادَ عَلَيْهَا.
وَالْقَوْلُ الثاني: أنه يستحق الرجوع بألف ومائة وإذا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ، لِأَنَّ الْمَضْمُونَ عَنْهُ يَضْمَنُ الْقَدْرَ الْمُؤَدَّى عَنْهُ.
وَإِنْ بِيعَ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ أَلْفًا فَيُبَاعُ بِتِسْعِمِائَةٍ فَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ الرَّاهِنُ الْمُسْتَعِيرُ وَيَسْتَحِقُّ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ الْمَالِكُ المعير قولان:
أحدهما: أنه يستحق الرجوع بألف إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ لِأَنَّ الْعَارِيَةَ مَضْمُونَةٌ بِجَمِيعِ الْقِيمَةِ وَهِيَ أَلْفٌ وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِتِسْعِمِائَةٍ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ عَنْهُ يَضْمَنُ الْقَدْرَ الْمُؤَدَّى عَنْهُ وَهُوَ تِسْعُمِائَةٍ وَلَوْ بَقِيَ لِلْمُرْتَهِنِ بَقِيَّةٌ مِنْ حَقِّهِ بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ لَمْ يَكُنِ الرُّجُوعُ بِهَا عَلَى الْمُعِيرِ سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ أَوْ مَجْرَى الضَّمَانِ لِأَنَّهُ إِنْ جَرَى مَجْرَى الْعَارِيَةِ فَالْمُعِيرُ لَا يَلْزَمُهُ غُرْمٌ، وَإِنْ جَرَى مَجْرَى الضَّمَانِ فَهُوَ إِنَّمَا يَضْمَنُ ذَلِكَ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْجِنَايَةِ بِرَقَبَتِهِ فِيمَا ضَاقَتْ

(6/171)


عَنْهُ رَقَبَةُ الْعَبْدِ فَهُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ، فَلَوْ فَضَلَ مِنْ ثَمَنِهِ بَعْدَ قَضَاءِ الْحَقِّ فَضْلَةٌ كَانَ الْمَالِكُ أَحَقَّ بِهَا وَيَسْقُطُ عَنِ الرَّاهِنِ الْمُسْتَعِيرِ ضَمَانُهَا.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يُتْلَفَ فِي الرَّهْنِ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ تَلَفُهُ بِالْمَوْتِ مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ تَلَفُهُ بِجِنَايَةٍ جُنِيَتْ عَلَيْهِ فَمَاتَ مِنْهَا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ تَلَفُهُ بِجِنَايَةٍ جَنَاهَا وَاقْتُصَّ مِنْهُ أَوْ بِيعَ فِيهَا.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ فِي الرَّهْنِ حَتْفَ أَنْفِهِ فَهَلْ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى رَاهِنِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ عَنْهُ لَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ إِلَّا مَا أَدَّى عَنْهُ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ تَالِفًا مِنْ مَالِ مَالِكِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونُ مَضْمُونًا إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ، لِأَنَّ الْعَارِيَةَ مَضْمُونَةٌ عَلَى مُسْتَعِيرِهَا فَعَلَى هَذَا فِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ قِيمَتَهُ يَوْمَ التَّلَفِ.
وَالثَّانِي: يَضْمَنُهُ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِنْ يَوْمِ الْقَبْضِ إِلَى يَوْمِ التَّلَفِ، فَإِذَا قَبَضَ الْقِيمَةَ اخْتَصَّ بِهَا الْمَالِكُ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حَقُّ الْمُرْتَهِنِ لِبُطْلَانِ الرَّهْنِ بِتَلَفِهِ مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ وَلَا غَصْبٍ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ إِذَا كان تلف بِالْقِيمَةِ كَالْجِنَايَةِ كَانَتِ الْقِيمَةُ رَهْنًا مَكَانَهُ فَهَلَّا كَانَتِ الْقِيمَةُ الْمَأْخُوذَةُ مِنَ الْمُسْتَعِيرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ رَهْنًا مَكَانَهُ؟
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجَانِيَ عَلَى الرَّهْنِ مُتَعَدٍّ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَتَعَلَّقَ بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَعِيرُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِمَا يُغْرِمُهُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ أَرْشَ الْجِنَايَةِ وَجَبَ بِالْإِتْلَافِ فَلَمْ يَبْطُلِ الرَّهْنُ بِالْإِتْلَافِ وَكَانَتِ الْقِيمَةُ فِي الرَّهْنِ قَائِمَةً مَقَامَ الرَّهْنِ، وَقِيمَةُ الْعَارِيَةِ وَاجِبَةً بِالْعَقْدِ لَا بِالْإِتْلَافِ وَإِنَّمَا يَسْتَقِرُّ وُجُوبُهَا بِالتَّلَفِ فَلَمْ تَكُنِ الْقِيمَةُ رَهْنًا يَبْطُلُ بِالتَّلَفِ كَمَا لَوْ بِيعَ بِثَمَنٍ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ لَمْ يَكُنِ الثَّمَنُ الْمَأْخُوذُ بِالْعَقْدِ رَهْنًا وَبَطَلَ الرَّهْنُ بِالْبَيْعِ.
(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ تَلَفُهُ بِجِنَايَةٍ جُنِيَتْ عَلَيْهِ فَمَاتَ مِنْهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:

(6/172)


أحدهما: أن يكون بجناية عمدا يوجب القود.
والثاني: أن تكون جناية خطأ يوجب الْمَالَ.
فَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا يُوجِبُ الْقَوَدَ فَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الْجَانِي فَإِذَا اقْتَصَّ مِنْهُ فَقَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ وَلَا مُطَالَبَةَ لَهُ عَلَى الرَّاهِنِ الْمُسْتَعِيرِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ أَوْ مَجْرَى الْعَارِيَةِ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَى بِالْقِصَاصِ حَقَّ الْجِنَايَةِ وَبَدَلَ الْمِلْكِ.
وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ خَطَأً تُوجِبُ الْمَالَ كَانَ الْجَانِي ضَامِنًا لِأَرْشِهَا وَهَلْ يَكُونُ الرَّاهِنُ الْمُسْتَعِيرُ ضَامِنًا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا لَا يَكُونُ ضَامِنًا. وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ، فَعَلَى هَذَا لِلْمَالِكِ مُطَالَبَةُ الْجَانِي بِالْأَرْشِ فَإِذَا اسْتَحَقَّهُ وَضَعَهُ رَهْنًا مَكَانَهُ، لِأَنَّ أَرْشَ الْجِنَايَةِ عَلَى الرَّهْنِ بِكَوْنِهِ رَهْنًا مَكَانَهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الرَّاهِنَ الْمُسْتَعِيرَ يَكُونُ ضَامِنًا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَالِكُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ مُطَالَبَةِ الْجَانِي أَوِ الرَّاهِنِ الْمُسْتَعِيرِ فَإِنْ أُغْرِمَ الْجَانِي لَمْ يَكُنْ لِلْجَانِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ.
وَكَانَ الْأَرْشُ رَهْنًا مَكَانَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَرْشُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ فَلَهُ أَنْ يَخْتَصَّ بِأَخْذِ الْفَاضِلِ عَلَى قِيمَتِهِ وَتَكُونُ لَهُ الْقِيمَةُ لَا غَيْرَ رَهْنًا مَكَانَهُ.
فَإِنْ أُغْرِمَ الْمُسْتَعِيرُ فَلَا يَخْلُو حَالُ أَرْشِ الْجِنَايَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ أَوْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ.
فَإِنْ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فَلَهُ أَنْ يُغْرِمَ الْمُسْتَعِيرَ جَمِيعَهَا وَلِلْمُسْتَعِيرِ إِذَا غَرِمَهَا أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْجَانِي بِهَا، وَإِنْ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ أَكْبَرَ مِنْ قِيمَتِهِ فَلَهُ أَنْ يُغْرِمَ الْمُسْتَعِيرَ قَدْرَ قِيمَتِهِ دُونَ الزِّيَادَةِ، وَيُغْرِمَ الْجَانِي مَا زَادَ عَلَى قِيمَتِهِ مِنَ الْأَرْشِ وَيَرْجِعُ الْمُسْتَعِيرُ بِمَا غَرِمَهُ مِنَ الْقِيمَةِ عَلَى الْجَانِي لِضَمَانِهِ لَهَا بِالْجِنَايَةِ ثُمَّ تَكُونُ الْقِيمَةُ رَهْنًا مَكَانَهُ دُونَ الزِّيَادَةِ.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ تَلَفُهُ بِجِنَايَةٍ جَنَاهَا فَاقْتُصَّ مِنْهُ أَوْ بِيعَ فِيهَا وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ قَدْ أَتَتْ عَلَى جَمِيعِهِ وَذَلِكَ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقِصَاصُ فِي نَفْسِهِ، أَوْ يَكُونَ الْأَرْشُ الَّذِي بِيعَ فِيهِ مُسْتَوْعِبًا لِقِيمَتِهِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَلْ يَكُونُ الرَّاهِنُ الْمُسْتَعِيرُ ضَامِنًا قِيمَتَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَلَّا يَكُونُ ضَامِنًا إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مجرى الضمان.

(6/173)


وَالثَّانِي: يَكُونُ ضَامِنًا لِقِيمَتِهِ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ وَفِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ وَجْهَانِ مَضَيَا، فَإِذَا غَرِمَ الْقِيمَةَ اخْتَصَّ الْمَالِكُ بِهَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ قَدْ أَتَتْ عَلَى بَعْضِهِ وَذَلِكَ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقِصَاصُ فِي طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِهِ أَوْ يَكُونَ الْأَرْشُ الَّذِي بِيعَ فِيهِ يُقَابِلُ قِيمَةَ بَعْضِهِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْبَاقِي رَهْنًا بحاله وهل يَكُونُ الرَّاهِنُ الْمُسْتَعِيرُ ضَامِنًا لِمَا تَلِفَ مِنْهُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلِلسَّيِّدِ فِي الرَّهْنِ أَنْ يَسْتَخْدِمَ عَبْدَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَأَمَّا مَنَافِعُ الرَّهْنِ فَهِيَ مِلْكٌ لِرَاهِنِهِ دُونَ مُرْتَهِنِهِ وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَإِذَا كَانَتْ عَلَى مِلْكِ رَاهِنِهِ فَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ الرَّهْنَ لِيَكُونَ الْمُسْتَأْجِرُ مُسْتَوْفِيًا لِمَنَافِعِهِ، وَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يُعِيرَهُ لِيَتَوَلَّى الْمُسْتَعِيرُ اسْتِيفَاءَ مَنَافِعِهِ، فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَوَلَّى اسْتِيفَاءَ مَنَافِعِهِ بِنَفْسِهِ حَتَّى إِذَا كَانَتْ دَارًا سَكَنَهَا وَإِنْ كَانَتْ دَابَّةً رَكِبَهَا وَإِنْ كَانَ عَبْدًا اسْتَخْدَمَهُ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الرَّهْنِ الصَّغِيرِ وَالرَّهْنِ الْقَدِيمِ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ وَسَائِرِ كُتُبِهِ: لَهُ ذَلِكَ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُخَرِّجُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَالرَّهْنِ الصَّغِيرِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مَنَافِعَ الرَّهْنِ وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ وَيُعِيرَهُ لِأَنَّ الرَّهْنَ إِذَا عَادَ إِلَى يَدِهِ لَمْ يُؤْمَنْ مِنْهُ جُحُودُ مُرْتَهِنِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ وَسَائِرِ كُتُبِهِ، لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مَنَافِعَ الرَّهْنِ بِنَفْسِهِ كَمَا يَسْتَوْفِيهَا غَيْرُهُ بِإِجَارَتِهِ وَإِعَادَتِهِ وَلَوْ جَازَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ عَوْدِهِ إِلَى يَدِهِ خَوْفًا مِنْ جُحُودِ مُرْتَهِنِهِ لَجَازَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ خُرُوجِهِ إِلَى يَدِ مُسْتَأْجِرِهِ، عَلَى أَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ لَا تُوجِبُ قَبُولَ قَوْلِهِ عِنْدَ جُحُودِ رَاهِنِهِ.
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: لَيْسَتِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ، فَالْمَوْضِعُ الَّذِي مَنَعَهُ مِنَ اسْتِيفَاءِ مَنَافِعِ الرَّهْنِ بِنَفْسِهِ إِذَا كَانَ غَيْرَ أَمِينٍ عَلَيْهِ وَكَانَ الْجُحُودُ غَيْرَ مَأْمُونٍ مِنْهُ. وَالْمَوْضِعُ الَّذِي جَوَّزَ لَهُ اسْتِيفَاءَ مَنَافِعِ الرَّهْنِ بِنَفْسِهِ إِذَا كَانَ أَمِينًا عَلَيْهِ وَكَانَ الجحود مأمونا عنه.
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْخَصْمُ فِيمَا جَنَى عَلَى الْعَبْدِ سَيِّدُهُ فَإِنْ أَحَبَّ الْمُرْتَهِنُ حَضَرَ خُصُومَتَهُ فَإِذَا قَضَى لَهُ بِشَيْءٍ أَخَذَهُ رَهْنًا وَلَوْ عَدَا الْمُرْتَهِنُ كَانَ عَفْوُهُ بَاطِلًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا كَمَا قَالَ، الْمُطَالِبُ بِمَا جَنَى عَلَى الْعَبْدِ وَالْخَصْمُ فِيهِ الراهن دون

(6/174)


الْمُرْتَهِنِ. وَقَالَ أبو حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ الْمُطَالِبُ بِهِ وَالْخَصْمُ فِيهِ الْمُرْتَهِنُ دُونَ الرَّاهِنِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ عَلَى مُرْتَهِنِهِ، وَلِأَنَّ الْيَدَ لَهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ له حق المطالبة كالمالك والدليل بِنَاؤُهُ عَلَى أَصْلِنَا فِي أَنَّ الرَّهْنَ عَلَى مِلْكِ رَاهِنِهِ وَغَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى مُرْتَهِنِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اسْتِحْقَاقُ الْمُطَالَبَةِ لِمَالِكِهِ كَغَيْرِ الرَّهْنِ وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ قَدْ تُوجِبُ الْقَوَدَ تَارَةً وَالْمَالَ أُخْرَى ثُمَّ أَنَّهَا لَوْ أَوْجَبَتِ الْقَوَدَ كَانَ الْخَصْمُ فِيهَا الرَّاهِنَ لِحَقِّ مِلْكِهِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ وَكَذَا إِذَا أَوْجَبَتِ الْمَالَ يَجِبُ أن يكون بالخصم فِيهَا الرَّاهِنَ لِحَقِّ الْمِلْكِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ.
وَقَدْ تَحَرَّرَ مِنَ اعْتِلَالِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ خَصْمًا فِي الْعَمْدِ كَانَ خَصْمًا فِي الْخَطَأِ كَغَيْرِ الْمَرْهُونِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ خَصْمًا فِي غَيْرِ الْمَرْهُونِ كَانَ خَصْمًا فِي الْمَرْهُونِ كَالْعَمْدِ، فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مَنْ بَنَاءِ عَلَى أَصْلِهِ فَمُقَابَلٌ بِمِثْلِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ حَقِّ الْيَدِ فَيَنْتَقِضُ بِالْمُسْتَأْجِرِ لَهُ يَدٌ وَلَيْسَ بِخَصْمٍ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْخَصْمَ فِي الْجِنَايَةِ هُوَ الرَّاهِنُ فَلِلْمُرْتَهِنِ حُضُورُ خُصُومَتِهِ لِيَرْتَهِنَ مَا يُقْضَى بِهِ مِنْ أَرْشٍ وَلَا يَخْلُو حَالُ الْجَانِي مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: -
إِمَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِالْجِنَايَةِ أَوْ يُنْكِرَهَا فَإِنِ اعْتَرَفَ بِالْجِنَايَةِ نُظِرَ، فَإِنْ صَدَّقَهُ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ عَلَيْهَا، كَانَ الْأَرْشُ مِلْكًا لِلرَّاهِنِ وَوَثِيقَةً لِلْمُرْتَهِنِ، وَإِنْ صَدَّقَهُ الرَّاهِنُ وَكَذَّبَهُ الْمُرْتَهِنُ كَانَ الْأَرْشُ مِلْكًا لِلرَّاهِنِ وَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ وَثِيقَةً لِلْمُرْتَهِنِ، فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُرْتَهِنُ وَكَذَّبَهُ الرَّاهِنُ كَانَ الْأَرْشُ الْمَأْخُوذُ وَثِيقَةً لِلْمُرْتَهِنِ وَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِلرَّاهِنِ، فَإِنْ أَخَذَ الْمُرْتَهِنُ حَقَّهُ مِنْ غَيْرِ الْأَرْشِ وَجَبَ رَدُّ الْأَرْشِ عَلَى الْجَانِي، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ حَقَّهُ مِنْ غَيْرِ الْأَرْشِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنَ الْأَرْشِ لِكَوْنِهِ وَثِيقَةً فِيهِ، فَإِنْ بَقِيَ مِنَ الْأَرْشِ بَعْدَ قَضَاءِ الْحَقِّ بَقِيَّةٌ وَجَبَ رَدُّهَا عَلَى الْجَانِي. فَهَذَا حُكْمُ اعْتِرَافِ الْجَانِي.
وَإِنْ أَنْكَرَ الْجَانِي فَإِنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِالْجِنَايَةِ لَزِمَتْهُ الْجِنَايَةُ وَإِنْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي مَعَ يَمِينِهِ فَإِنْ حَلَفَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الرَّاهِنِ لِأَنَّهُ مَالِكٌ بِمُوجِبِهَا فَإِنْ حَلَفَ ثَبَتَتِ الْجِنَايَةُ وَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا فَهَلْ يَجِبُ إِحْلَافُ الْمُرْتَهِنِ فِيهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى الْجَانِي إِمَّا بِإِقْرَارٍ أَوْ بِبَيِّنَةٍ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ خَطَأً يُوجِبُ الْمَالَ أَوْ تَكُونَ عَمْدًا يُوجِبُ الْقَوَدَ، فَإِنْ كَانَتْ خَطَأً يُوجِبُ الْمَالَ فَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ قَبْضُ أَرْشِهَا لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ خَصْمًا فِيهِ فَحَقُّ الْمُرْتَهِنِ مُتَعَلِّقٌ بِأَرْشِهَا وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ

(6/175)


يُثْبِتَ عَلَى الْجَانِي مَا وَجَبَ بِهَا، وَالْوَاجِبُ أَنْ يَقْبِضَ الْأَرْشَ مَا كَانَ قَابِضًا لِلرَّهْنِ، فَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَلِلْمُرْتَهِنِ قَبْضُ الْأَرْشِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى يَدِ عَدْلٍ فَلِلْعَدْلِ قَبْضُ الْأَرْشِ فَإِنْ عَفَا الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ عَنِ الْأَرْشِ بَرِئَ الْجَانِي وَلَمْ يَكُنْ لِلْعَدْلِ أَنْ يَقْبِضَ الْأَرْشَ، وَإِنْ عَفَا الْمُرْتَهِنُ عَنِ الْأَرْشِ دُونَ الرَّاهِنِ بَطَلَتْ وَثِيقَةُ الْمُرْتَهِنِ فِي الْأَرْشِ وَلَمْ يَبْرَأِ الْجَانِي وَكَانَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَقْبِضَ مِنْهُ الْأَرْشَ دُونَ الْعَدْلِ لِأَنَّ الْعَدْلَ إِنَّمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ الْأَرْشَ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَعَفْوُ الْمُرْتَهِنِ قَدْ أَبْطَلَ وَثِيقَتَهُ فِيهِ فَلَمْ يَبْقَ لِلْعَدْلِ نِيَابَةٌ عَنْهُ، وَإِنْ عَفَا الرَّاهِنُ دُونَ الْمُرْتَهِنِ لَمْ يَصِحَّ عَفْوُهُ لِأَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ قَدْ أَوْقَعَ حَجْرًا عَلَيْهِ وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ إِذَا عَفَا عَنْ مِلْكِهِ لَمْ يَصِحَّ عَفْوُهُ فَلِذَلِكَ قُلْنَا إِنَّ عَفْوَ الرَّاهِنِ لَا يُبْطِلُ مِلْكَهُ لِأَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ حَجْرًا عَلَيْهِ، وَعَفْوُ الْمُرْتَهِنِ يُبْطِلُ وَثِيقَتَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلرَّاهِنِ حَجْرًا عَلَيْهِ. وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ عَفْوُ الرَّاهِنِ فَلِلْعَدْلِ قَبْضُ الْأَرْشِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ لِبَقَاءِ نِيَابَةِ الْعَدْلِ عَنِ الرَّاهِنِ إِذْ عَفْوُهُ لَمْ يُبْطِلْ مِلْكَهُ عَنِ الْأَرْشِ، فَإِذَا قَبَضَ الْمُرْتَهِنُ حَقَّهُ مِنَ الْأَرْشِ كَانَ الْفَاضِلُ مِنْهُ مَرْدُودًا عَلَى الرَّاهِنِ وَإِنْ تَقَدَّمَ مِنْهُ الْعَفْوُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(فَصْلٌ)
وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا يُوجِبُ الْقَوَدَ فَلِلرَّاهِنِ الْخِيَارُ بَيْنَ الْقِصَاصِ أَوِ الْمَالِ فَإِنِ اخْتَارَ الْقِصَاصَ فَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ وَإِنْ لَمْ يَحْضُرِ الْمُرْتَهِنُ.
وَقَالَ أبو حنيفة لَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَقْتَصَّ إِلَّا بِحُضُورِ الْمُرْتَهِنِ وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الْقِصَاصَ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ وَلَيْسَ مِنْ حُقُوقِ الرَّهْنِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ الرَّهْنِ. وَإِنِ اخْتَارَ الرَّاهِنُ الْمَالَ وَعَفَا عَنِ الْقِصَاصِ كَانَ الْحُكْمُ فِي الْمَالِ عَلَى مَا مَضَى فِي جِنَايَةِ الْخَطَأِ لَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَقْبِضَهُ وَالْمُسْتَحِقُّ لِقَبْضِهِ مَنْ كَانَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ. فَإِنْ عَفَا الرَّاهِنُ عَنِ الْقِصَاصِ وَالْمَالِ مَعًا فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ صَحَّ عَفْوُهُ عَنْهُمَا وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنٍ صَحَّ عَفْوُهُ عَنِ الْقِصَاصِ وَهَلْ يَصِحُّ عَنِ الْمَالِ أم لا على قولين مضيا.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَهَنَهُ عَبْدًا بِدَنَانِيرَ وَعَبْدًا بِحِنْطَةٍ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ كَانَتِ الْجِنَايَةُ هَدَرًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ الْعَبْدَيْنِ إِذَا رُهِنَا عِنْدَ رَجُلٍ بِحَقَّيْنِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَقَّانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ جِنْسَيْنِ.
فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا رَهْنًا على عشرين دينارا والآخر رهنا على كسر حنطة، فإن كان قيمة الحنطة عشرين دينار فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْعَبْدَيْنِ إِذَا رُهِنَا بِحَقَّيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَإِنْ كَانَ قِيمَةُ الْحِنْطَةِ أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا أَوْ أَكْثَرَ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْعَبْدَيْنِ إِذَا رُهِنَا بِحَقَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ والله أعلم.

(6/176)


(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَكْرَهُ أَنْ يَرْهَنَ مِنْ مُشْرِكٍ مُصْحَفًا أَوْ عَبْدًا مُسْلِمًا وَأَجْبَرَهُ عَلَى أَنْ يَضَعَهُمَا عَلَى يدي مسلم ولا بأس برهنه مَا سِوَاهُمَا رَهَنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - درعه عند أبي الشحم اليهودي (قال الشافعي) في غير كتاب الرهن الكبير: إن الرهن في المصحف والعبد المسلم من النصراني باطل ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، كُلُّ شَيْءٍ جاز أن يملكه الْمُشْرِكُ جَازَ أَنْ يُرْهَنَ عِنْدَ الْمُشْرِكِ كَالدُّورِ وَالْأَرْضِينَ وَالْمَوَاشِي وَالثِّيَابِ وَالْعُرُوضِ وَالْأَثَاثِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَهَنَ دِرْعِهِ عِنْدَ أَبِي الشَّحْمِ الْيَهُودِيِّ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ فَاسْتَوَى فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ كَالضَّمَانِ. فَأَمَّا مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَهُ الْمُشْرِكُ كَالْعَبْدِ الْمُسْلِمِ وَالْمُصْحَفِ إِذَا رَهَنَهُ مُسْلِمٌ عِنْدَ مُشْرِكٍ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِطَا تَرْكَهُ عَلَى يَدَيِ الْمُشْرِكِ فَيَكُونُ رَهْنًا بَاطِلًا لِأَنَّ مُوجِبَ الشَّرْطِ مَحْظُورٌ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِطَا تَرْكَهُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ مُسْلِمٍ فَيَكُونُ رَهْنُهُ جَائِزًا لِأَنَّ مُوجِبَ الشَّرْطِ مُبَاحٌ.
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يُطْلِقَا رَهْنَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَفِي جَوَازِ رَهْنِهِ قَوْلَانِ: نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي كِتَابِ الرَّهْنِ مِنَ الْأُمِّ، أَحَدُهُمَا بَاطِلٌ وَالثَّانِي جَائِزٌ.
وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي بَيْعِ ذَلِكَ عَلَى الْمُشْرِكِ وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ.
فَإِذَا قُلْنَا بِبُطْلَانِ الرَّهْنِ فَسَوَاءٌ أَسْلَمَ الْمُشْرِكُ قَبْلَ الْقَبْضِ أَمْ لَا لِفَسَادِ الْعَقْدِ وَإِنْ قُلْنَا يَجُوزُ الرَّهْنُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُوضَعَ عَلَى يَدِ الْمُشْرِكِ لِأَنَّ الْمُشْرِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ تُقَرَّ يَدُهُ عَلَى مُسْلِمٍ وَلَا مُصْحَفٍ فَوَجَبَ أَنْ يُوضَعَ عَلَى يَدِ عَدْلٍ مُسْلِمٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب.

(6/177)


(باب اختلاف الراهن والمرتهن)
قال الشافعي رضي الله عنه: " ومعقول إذا أذن الله جل وعز بِالرَّهْنِ أَنَّهُ زِيَادَةٌ وَثِيقَةٌ لِصَاحِبِ الْحَقِّ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِالْحَقِّ بِعَيْنِهِ وَلَا جُزْءًا مِنْ عَدَدِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَهَذِهِ جُمْلَةٌ تَحْتَاجُ إِلَى تَفْصِيلٍ وَشَرْحٍ.
أَمَّا قَوْلُهُ وَمَعْقُولٌ فَيَعْنِي أَنَّ الرَّهْنَ لَمْ يُعْلَمْ كَوْنُهُ وَثِيقَةً بِنَصِّ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَإِنَّمَا عُقِلَ اسْتِنْبَاطًا مِنْ إِبَاحَتِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكُلِّ مَوْضِعٍ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَمَعْقُولٌ، فَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ مَعْقُولَ الشَّرْعِ، لَا مَعْقُولَ الْبَدِيهَةِ وَالْعَقْلِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ إِذَا أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى بِالرَّهْنِ فَلْيُعْلَمْ أَنَّهُ مُبَاحٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ رَدًّا عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ فِي السَّفَرِ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ بِهِ وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَأَمَرَ بِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ زِيَادَةٌ وَثِيقَةٌ لِصَاحِبِ الْحَقِّ فَقَدْ قِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ وَثِيقَةٌ، وَقَوْلُهُ زِيَادَةٌ صِلَةٌ فِي الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} [النساء: 11] وَكَقَوْلِهِ: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12] وَقِيلَ: بَلْ هُوَ زِيَادَةٌ وَثِيقَةٌ حَقِيقَةٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ صِلَةً، وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ زِيَادَةٌ وَثِيقَةٌ عَلَى الذِّمَّةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ زِيَادَةٌ مَعَ الشَّهَادَةِ الَّتِي هِيَ وَثِيقَةٌ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ، ثُمَّ عَقَّبَهَا بِإِبَاحَةِ الرَّهْنِ الَّذِي هُوَ وَثِيقَةٌ، فَصَارَ الرهن وثيقة زايدة مَعَ الشَّهَادَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّهُ لَيْسَ الْحَقَّ بعينه ولا جزء مِنْ عَدَدِهِ فَإِنَّمَا قَصَدَ بِهِ الرَّدَّ عَلَى أبي حنيفة فِي إِيجَابِهِ ضَمَانَ الرَّهْنِ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْقِيمَةِ أَوِ الْحَقِّ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الرَّهْنُ هُوَ الْحَقَّ بِعَيْنِهِ وَلَا جزء مِنْ عَدَدِهِ فَلِمَ أُبْطِلَ الْحَقُّ بِتَلَفِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ هُوَ الْحَقَّ بِعَيْنِهِ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَوْ أَبْرَأَ الرَّاهِنَ ومِنَ الرَّهْنِ بَرِئَ مِنْهُ وَلَمْ يَبْرَأْ مِنَ الْحَقِّ، وَلَوْ كَانَ هُوَ الْحَقَّ بِعَيْنِهِ لَكَانَ إِذَا بَرِئَ مِنْهُ بَرِئَ مِنَ الْحَقِّ.
وَلَمْ يَكُنْ أَيْضًا جُزْءًا مِنَ الْحَقِّ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الرَّهْنِ فِي الْقَرْضِ ولو كان جزءا منه

(6/178)


لكل زِيَادَةٍ فِي الْقَرْضِ وَالزِّيَادَةُ رِبًا مُحَرَّمٌ، فَهَذَا تَفْصِيلُ كَلَامِهِ وَبَيَانُ شَرْحِهِ، وَمَا قَصَدَهُ الشَّافِعِيُّ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِضَمِيرِ قَلْبِهِ.

(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ بَاعَ رَجُلٌ شَيْئًا عَلَى أَنْ يَرْهَنَهُ مِنْ مَالِهِ مَا يَعْرِفَانِهِ يَضَعَانِهِ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ أَوْ عَلَى يَدَيِ الْمُرْتَهِنِ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: الْبَيْعُ بِشَرْطِ الرَّهْنِ جَائِزٌ، فَإِنْ بَاعَهُ شَيْئًا عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ بِثَمَنِهِ رَهْنًا وَكَانَ الرَّهْنُ مُعَيَّنًا كَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا وَالرَّهْنُ جَائِزًا، لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إنما جَازَ اشْتِرَاطُهُ بَعْدَ الْعَقْدِ كَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مَعَ الْعَقْدِ لِأَنَّ مِنَ الشُّرُوطِ مَا يَلْزَمُ مَعَ الْعَقْدِ وَلَا يَلْزَمُ بَعْدَ الْعَقْدِ كَالْأَجَلِ، فَلَمَّا كَانَ الرَّهْنُ بَعْدَ الْعَقْدِ جَائِزًا كَانَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَعَ الْعَقْدِ جَائِزًا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّهْنَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِاسْتِيفَاءِ مُوجِبِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ جَازَ اشْتِرَاطُهُ فِيهِ كَالْخِيَارِ.
فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ اشْتِرَاطِهِ فِي الْعَقْدِ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِطَا تَرْكَ الرَّهْنِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُوضَعَ عَلَى يَدِهِ لِمُوجِبِ شَرْطِهِ، وَلَيْسَ لَهُ إِذَا قَبَضَهُ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنْهُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِطَا وَضْعَهُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُوضَعَ عَلَى يَدِهِ مَا لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى غَيْرِهِ وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا حَصَلَ الرَّهْنُ بِيَدِهِ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنْهُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُطْلِقَا وَلَا يَشْتَرِطَا تَرْكَهُ عَلَى يَدِ الْمُرْتَهِنِ وَلَا عَدْلٍ يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ.
فَفِي الرَّهْنِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ لِلْجَهْلِ بِمُسْتَحَقِّ الْيَدِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهَذَا أَصَحُّ أَنَّ الرَّهْنَ جَائِزٌ لِأَنَّ تَعَيُّنَهُ لِمَا لَمْ يَلْزَمْ بِالْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ، فَعَلَى هَذَا إِنِ اتَّفَقَا عَلَى تَرْكِهِ فِي يَدِ مَنْ يَرْضَيَانِ بِهِ، وَإِلَّا اخْتَارَ لَهُمَا الْحَاكِمُ عَدْلًا وَأَمَرَهُمَا بِوَضْعِهِ عَلَى يده.
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَمْ يَكُنِ الرَّهْنُ تَامًّا حَتَّى يَقْبِضَهُ الْمُرْتَهِنُ وَلَوِ امْتَنَعَ الرَّاهِنُ أَنْ يُقْبِضَهُ الرَّهْنَ لَمْ يُجْبِرْهُ وَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ فِي إِتْمَامِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ أَوْ رَدِّهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِذِمَّتِهِ دون الرهن ".

(6/179)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا قَصَدَ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا الْكَلَامِ الرَّدَّ عَلَى مَالِكٍ فِي مَسْأَلَةٍ، وَعَلَى أبي حنيفة فِي أُخْرَى.
أَمَّا عَلَى مَالِكٍ فَقَوْلُهُ: إِنَّ الرَّهْنَ يَتِمُّ بِالْعَقْدِ دُونَ الْقَبْضِ، وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَالْقَبْضِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ.
وَأَمَّا عَلَى أبي حنيفة فَإِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الرَّهْنَ إِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ أُجْبِرَ الرَّاهِنُ عَلَى قَبْضِهِ وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ: إِنَّ الرَّهْنَ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَإِنَّ الرَّاهِنَ لَا يُجْبَرُ عَلَى قَبْضِهِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ أَقْبَضَ الرَّاهِنُ الْمُرْتَهِنَ حَقَّهُ لَزِمَهُ وَسَقَطَ خِيَارُ الْبَائِعِ وَإِنْ لَمْ يُقْبِضْهُ الرَّهْنَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ وَلَكِنْ يَكُونُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بلا رهن وبين فسخه لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِذِمَّتِهِ حَتَّى شَرَطَ رَهْنًا يَتَوَثَّقُ بِهِ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ التَّوَثُّقُ بِالرَّهْنِ كَانَ ذَلِكَ نَقْصًا وَعَيْبًا، فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ وَهَذَا الْخِيَارُ يَجِبُ بَعْدَ الِامْتِنَاعِ عَلَى الْفَوْرِ لِأَنَّهُ خِيَارُ عَيْبٍ وَالِامْتِنَاعُ يَكُونُ بَعْدَ الطلب.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَهَكَذَا لَوْ بَاعَهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ حَمِيلًا بِعَيْنِهِ فَلَمْ يَتَحَمَّلْ لَهُ فَلَهُ رَدُّ الْبَيْعِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَأَمَّا الضَّمَانُ فَهُوَ أَحَدُ الْوَثَائِقِ الثَّلَاثَةِ فِي الْأَمْوَالِ. فَإِذَا شَرَطَ الْمُشْتَرِي عَلَى نَفْسِهِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ أَنْ يُقِيمَ بِالثَّمَنِ ضَامِنًا مُعَيَّنًا صَحَّ الْبَيْعُ وَلَزِمَ الشَّرْطُ كَالرَّهْنِ إِذَا شُرِطَ فِي الْعَقْدِ، فَإِذَا ضَمِنَهُ الضَّامِنُ الْمَشْرُوطُ سَقَطَ خِيَارُ الْبَائِعِ وَإِنْ لَمْ يَضْمَنْ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الضَّمَانِ، لِأَنَّ الضَّمَانَ لَا يَصِحُّ بِالْإِجْبَارِ وَيَكُونُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا ضَمَانٍ وَبَيْنَ فَسْخِهِ لِمَا دَخَلَ عَلَيْهِ مِنَ النَّقْصِ فِي شَرْطِهِ، فَإِنْ قَالَ الْمُشْتَرِي: أَنَا أُقِيمُ لَكَ بِالثَّمَنِ ضَمِينًا غَيْرَهُ لَمْ يَلْزَمِ الْبَائِعَ إِمْضَاءُ الْبَيْعِ بِضَمَانِ الثَّانِي وَكَانَ عَلَى خِيَارِهِ لِاخْتِلَافِ الذِّمَمِ وَفَقْدِ الشَّرْطِ، كَمَا أَنَّ الْبَائِعَ لَوْ سَأَلَ الْمُشْتَرِيَ أَنْ يُقِيمَ لَهُ ضَمِينًا غَيْرَ الْمُعَيَّنِ لَمْ يَلْزَمْهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ بِالشَّرْطِ.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا إِذَا شَرَطَ الْمُشْتَرِي عَلَى نَفْسِهِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ شَهَادَةَ شَاهِدِينَ مُعَيَّنَيْنِ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ وَالشَّرْطُ لَازِمٌ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ وَثِيقَةٌ كَالرَّهْنِ وَالضَّمَانِ، فَإِنْ أَشْهَدَهُمَا لَمْ يَلْزَمْهُ إِشْهَادُ غَيْرِهِمَا، وَلَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ خِيَارٌ بِمَوْتِهِمَا، كَمَا لَوْ مَاتَ الضَّامِنُ لَمْ يَلْزَمِ الْمُشْتَرِيَ إِقَامَةُ غَيْرِهِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ خِيَارٌ بِمَوْتِهِ، وَأَمَّا إِنْ مَاتَ الشَّاهِدَانِ قَبْلَ إِشْهَادِهِمَا أَوِ امْتَنَعَا مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِمَا، لَمْ يُجْبَرِ الْمُشْتَرِي عَلَى إِشْهَادِ غَيْرِهِمَا، وللبائع الخيار لفقد شرطه، فو أَشْهَدَ الْمُشْتَرِي عَلَى نَفْسِهِ غَيْرَهُمَا مِنَ الشُّهُودِ الْعُدُولِ. فَفِي خِيَارِ الْبَائِعِ وَجْهَانِ:

(6/180)


أَحَدُهُمَا: لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ لِعَدَمِ شَرْطِهِ كَمَا لَوْ شَرَطَ ضَامِنًا لَمْ يَلْزَمْهُ الرِّضَا بِضَمَانِ غَيْرِهِ وَإِذَا شَرَطَ رَهْنًا لَمْ يَلْزَمْهُ أَخْذُ رَهْنٍ غَيْرِهِ، كَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ شَهَادَةَ شَاهِدَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ، أَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ قَدْ أُسْقِطَ بِإِشْهَادِ شَاهِدَيْنِ إِذَا كَانَا عَدْلَيْنِ وَإِنْ كَانَا غَيْرَ الْمُعَيَّنَيْنِ الْمَشْرُوطَيْنِ بِخِلَافِ الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا صَحَّ اشْتِرَاطُ شَاهِدَيْنِ غَيْرِ مُعَيَّنَيْنِ لَمْ يَتَعَيَّنَا وَإِنْ شَرَطَا مُعَيَّنَيْنِ، وَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ اشْتِرَاطُ رَهْنٍ أَوْ ضَمِينٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ لَزِمَ إِذَا كَانَ مُعَيَّنًا.
وَالْفَرْقُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالضَّمَانِ وَالرَّهْنِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ ذِمَمِ الضُّمَنَاءِ وَقِيَمِ الرُّهُونِ. وَالْمَقْصُودُ بِالشَّهَادَةِ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الشُّهُودِ، وَلِهَذَا لَوْ قَدَرَ الْمُشْتَرِي عَلَى الشَّاهِدَيْنِ الْمُعَيَّنَيْنِ فَعَدَلَ عَنْ إِشْهَادِهِمَا إِلَى إِشْهَادِ غَيْرِهِمَا كَانَ خِيَارُ الْبَائِعِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، والله أعلم بالصواب.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي رَدُّ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ نَقْصٌ يَكُونُ لَهُ بِهِ الْخِيَارُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا شَرَطَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي عَقْدِ الْبَيْعِ رَهْنًا مُعَيَّنًا أَوْ ضَمِينًا مَعْرُوفًا ثُمَّ امْتَنَعَ مِنْ قَبْضِ الرَّهْنِ أَوْ قَبُولِ الضَّمَانِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْقَبْضِ أَوِ الْقَبُولِ لِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ لَهُ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي فِي فَسْخِ الْبَيْعِ بِامْتِنَاعِ الْبَائِعِ مِنْ قَبْضِ الرَّهْنِ وَقَبُولِ الضَّمَانِ وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: لِلْمُشْتَرِي فَسْخُ الْبَيْعِ فِي امْتِنَاعِ الْبَائِعِ مِنْ قَبُولِ الضَّمَانِ وَلَيْسَ لَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ فِي امْتِنَاعِهِ مِنْ قَبْضِ الرَّهْنِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لِلْمُشْتَرِي فَسْخُ الْبَيْعِ فِي امْتِنَاعِهِ مِنْ قَبْضِ الرَّهْنِ وَلَيْسَ لَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ فِي امْتِنَاعِهِ مِنْ قَبُولِ الضَّمَانِ.
وَبَنَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فَأَمَّا أبو حنيفة فَلِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْمَرْهُونَ مَضْمُونٌ عَلَى مُرْتَهِنِهِ، فَإِذَا امْتَنَعَ الْمُرْتَهِنُ مَنْ قَبْضِهِ صَارَ مُمْتَنِعًا مِمَّا شَرَطَ عَلَيْهِ مِنْ أَخْذِهِ بِحَقِّهِ فَثَبَتَ لِلرَّاهِنِ الْخِيَارُ. وَأَمَّا دَاوُدُ فَلِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الضَّمَانَ يُسْقِطُ الْحَقَّ مِنْ ذِمَّةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، فَإِذَا امْتَنَعَ الْبَائِعُ مِنْ قَبُولِ الضَّمَانِ صَارَ مُمْتَنِعًا مِنْ نَقْلِ حَقِّهِ مِنْ ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي، وَشَرْطُ الضَّمَانِ قَدْ أَلْزَمَهُ بِنَقْلِ حَقِّهِ فَثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ، وَكِلَا الْأَصْلَيْنِ عِنْدَنَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِمَا أَنَّهَا وَثِيقَةٌ فِي الْحَقِّ فَلَمْ يَكُنْ تَرْكُ قَبُولِهَا مُوجِبًا لِخِيَارِ مَنْ عَلَيْهِ

(6/181)


الْحَقُّ كَالشَّهَادَةِ. وَلِأَنَّ النَّقْصَ فِي صِفَةِ الْبَيْعِ نَقْصَانِ، نَقْصٌ فِي الثَّمَنِ يُوجِبُ خِيَارَ الْبَائِعِ، وَنَقْصٌ فِي الْمُثَمَّنِ يُوجِبُ خِيَارَ الْمُشْتَرِي.
فَلَمَّا كَانَ النَّقْصُ فِي الْمُثَمَّنِ بِظُهُورِ الْعَيْبِ إِذَا أَوْجَبَ خِيَارَ الْمُشْتَرِي لَمْ يُوجِبْ خِيَارَ الْبَائِعِ لِأَجْلِ مَا ثَبَتَ مِنْ خِيَارِ الْمُشْتَرِي، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ النَّقْصُ فِي الثَّمَنِ لِعَدَمِ الْوَثِيقَةِ إِذَا أَوْجَبَ خِيَارَ الْبَائِعِ لَمْ يُوجِبْ خِيَارَ الْمُشْتَرِي لِأَجْلِ مَا ثَبَتَ مِنْ خِيَارِ الْبَائِعِ.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَا جَهِلَا الرَّهْنَ أَوِ الْحَمِيلَ فَالْبَيْعُ فاسد (قال المزني) قلت أنا هذا عندي غلط الرهن فاسد للجهل به والبيع جائز لعلمهما به وللبائع الخيار إن شاء أتم البيع بلا برهن وإن شاء فسخ لبطلان الوثيقة فِي مَعْنَى قَوْلِهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
إِذَا شَرَطَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ رَهْنًا مَجْهُولًا أَوْ ضَمِينًا مَجْهُولًا، كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلًا وَالرَّهْنُ وَالضَّمَانُ فَاسِدَيْنِ مَا لَمْ يَكُونَا مُعَيَّنَيْنِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مُعَيَّنَيْنِ. وَقَالَ أبو حنيفة يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الضَّمَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا وَلَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الرَّهْنِ حَتَّى يَكُونَ مُعَيَّنًا، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهَا وَثِيقَةٌ فَجَازَ اشْتِرَاطُهَا غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ كَالشَّهَادَةِ، وَلِأَنَّ مَا يَتَعَيَّنُ بِالْعُرْفِ يُسْتَغْنَى فِيهِ عَنْ تَعَيُّنِهِ بِالشَّرْطِ كَالْأَثْمَانِ وَالْعُرْفُ فِي الرَّهْنِ أَنْ يَكُونَ بِقِيمَةِ الْحَقِّ، وَفِي الضَّمَانِ أَنْ يَكُونَ فِي الذِّمَّةِ كَمَا أَنَّ الْعُرْفَ فِي الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ أَنَّهَا مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ.
وَأَمَّا أبو حنيفة فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ بِأَنْ بَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الرَّهْنَ يُؤْخَذُ بَدَلًا مِنَ الْحَقِّ فَلَمْ يَصِحَّ إِلَّا مُعَيَّنًا، وَلَيْسَ الضَّمَانُ بَدَلًا مِنَ الْحَقِّ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا.
وَدَلِيلُنَا: أَنَّهُ رَهْنٌ مَجْهُولٌ فَوَجَبَ أَلَّا يَصِحَّ كَالْحَمْلِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْ ثَمَنِهِ، فَلَمَّا كَانَتْ جَهَالَةُ الْمَبِيعِ مَانِعَةً مِنْ صِحَّةِ الْبَيْعِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ جَهَالَةُ الْمَرْهُونِ مَانِعَةً مِنْ صِحَّةِ الرَّهْنِ.
وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أبي حنيفة: أَنَّهَا جَهَالَةٌ تَمْنَعُ صِحَّةَ الرَّهْنِ فَوَجَبَ أَنْ تَمْنَعَ صِحَّةَ الضَّمَانِ، أَصْلُهُ إِذَا شَرَطَ أَنْ يَضْمَنَ لَهُ مَنْ شَاءَ زَيْدٌ.
فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الشَّهَادَةِ فَالْمَعْنَى فِي الشَّهَادَةِ أَنَّهَا لَمَّا لم يتعين بِالتَّعَيُّنِ جَازَ إِطْلَاقُهَا مِنْ غَيْرِ تَعَيُّنٍ، وَلَمَّا تَعَيَّنَ الرَّهْنُ وَالضَّمَانُ بِالتَّعَيُّنِ لَمْ يَصِحَّ إِطْلَاقُهُمَا مِنْ غَيْرِ تَعَيُّنٍ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْأَثْمَانِ لِأَنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالْعُرْفِ فَغَلَطٌ لِأَنَّ الْأَثْمَانَ إِنَّمَا تتعين مِنْهَا بِالْعُرْفِ وَصْفُهَا دُونُ

(6/182)


قَدْرِهَا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهَا الرُّهُونُ فِي تَعْيِينِ قَدْرِهَا وَوَصْفِهَا مَعَ أَنَّ جِنْسَ الْأَثْمَانِ وَاحِدٌ فَيَصِحُّ تَعَيُّنُهُ بِالْعُرْفِ، وَلَيْسَ جِنْسُ الرهن واحد فَيَصِحُّ تَعَيُّنُهُ بِالْعُرْفِ، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الرَّهْنِ عُرْفٌ يَتَعَيَّنُ بِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَرْهَنُ الْقَلِيلَ فِي الْكَثِيرِ وَالْكَثِيرَ فِي الْقَلِيلِ، فَأَمَّا فَرْقُ أبي حنيفة بَيْنَ الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فَنَحْنُ نُخَالِفُهُ فِي أَصْلِهِ كَمَا نُخَالِفُهُ فِي فَرْعِهِ.

(فَصْلٌ)
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ جَهَالَةَ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ قَادِحَةٌ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ وَأَنَّهُمَا لَا يَصِحَّانِ إِلَّا مُعَيَّنَيْنِ، فَالضَّامِنُ لَا يَتَعَيَّنُ إِلَّا بِشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ مُشَاهَدَةً أَوْ تَسْمِيَةً، فَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِ مُشَاهَدَةً أَنْ يَقُولَ عَلَى أَنَّهُ تَضْمَنُ لِي هَذَا وَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِ تَسْمِيَةً أَنْ يَقُولَ عَلَي أَنْ يَضْمَنَ لَكَ هَذَا زَيْدٌ، وَلَا يَصِحُّ بِغَيْرِ الْإِشَارَةِ عَلَى غَيْرِ مُسَمًّى.
وَأَمَّا الرَّهْنُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ مُشَاهَدَةً أَوْ تَسْمِيَةً كَقَوْلِهِ: عَلَى أن أرهنك عبدي أَوْ أُرْهِنَكَ عَبْدِي سَالِمًا، وَإِمَّا بِالصِّفَةِ مِنْ غَيْرِ إِشَارَةٍ وَهَذَا فِيمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا فِي السَّلَمِ كَقَوْلِهِ: عَلَى أَنْ أُرْهِنَكَ عَبْدًا خُمَاسِيًّا وَيَذْكُرُ أَوْصَافَهُ الْمُسْتَحَقَّةَ فِي السَّلَمِ فَيَصِيرُ مُعَيَّنَ الْوَصْفِ، فَإِذَا أَقْبَضَهُ عَبْدًا بِتِلْكَ الصِّفَةِ صَارَ مُعَيَّنَ الذَّاتِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إبداله بعد قبضه بعيد عَلَى وَصْفِهِ.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ تَعَيُّنَ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ بِمَا وَصَفْنَاهُ، فَشَرَطَ فِي الْبَيْعِ رَهْنًا أَوْ ضَمِينًا صَحَّ، وَإِنْ شَرَطَ رَهْنًا أَوْ ضَمِينًا مَجْهُولًا بَطَلَ الشَّرْطُ فِي الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ، وَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَإِنْ صَحَّ أَنْ يُعَرَّى مِنَ الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ، فَقَدْ صَارَ الشَّرْطُ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ كَالْأَجَلِ، ثُمَّ كَانَ الْجَهْلُ بِالْأَجَلِ مُبْطِلًا لِلْبَيْعِ وَإِنْ صَحَّ أَنْ يُعَرَّى مِنْهُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجَهْلُ بِالرَّهْنِ وَالضَّمَانِ مُبْطِلًا لِلْبَيْعِ وَإِنْ صَحَّ أَنْ يُعَرَّى مِنْهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ وَلِلْبَائِعِ الْخِيَارُ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، لِأَنَّ الرَّهْنَ يَنْفَرِدُ بِنَفْسِهِ، فَلَمْ يَكُنْ فَسَادُهُ فِي الْعَقْدِ بِنَفْسِهِ مُفْسِدًا لِمَا اقْتَرَنَ بِهِ، كَالصَّدَاقِ الَّذِي لَمَّا صَحَّ إِفْرَادُهُ عَنِ الْعَقْدِ، لَمْ يَكُنْ فِي النِّكَاحِ مُفْسِدًا لِلنِّكَاحِ الَّذِي يَقْتَرِنُ بِهِ، وَلِهَذَا فَارَقَ فَسَادَ الْأَجَلِ، لِأَنَّ الْأَجَلَ لَا يَصِحُّ إِفْرَادُهُ بِنَفْسِهِ فَكَانَ فَسَادُهُ فِي الْعَقْدِ مُفْسِدًا لِمَا اقْتَرَنَ بِهِ.
قَالَ الْمُزَنِيُّ: الرَّهْنُ فَاسِدٌ لِلْجَهْلِ بِهِ وَالْبَيْعُ جَائِزٌ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَلِمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ أَنْ يَنْفَصِلَ عَنْ قَوْلِهِ بِأَنَّ دُخُولَ الْجَهَالَةِ فِي الرَّهْنِ وَفَسَادَهُ يُوجِبُ دُخُولَهُ الْجَهَالَةَ فِي الثَّمَنِ المضمون به، والله أعلم.

(6/183)


(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ أُرْهِنُكَ أَحَدَ عَبْدَيَّ كَانَ فَاسِدًا لَا يَجُوزُ إِلَّا مَعْلُومًا يَعْرِفَانِهِ جَمِيعًا بِعَيْنِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ رَهْنَ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ، فَإِذَا قَالَ: أُرْهِنُكَ أَحَدَ عَبِيدِي، أَوْ أَحَدَ عَبْدَيَّ هَذَيْنِ، فَالرَّهْنُ وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا فِي أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ فَالْجَهَالَةُ حَاصِلَةٌ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ الرَّهْنُ مِنَ الْعَبْدَيْنِ، وَكَانَ الرَّهْنُ مَجْهُولًا، إِذْ لَيْسَ بِمَوْصُوفٍ، وَلَا مُعَيَّنٍ، وَلِأَنَّهَا جَهَالَةٌ تَمْنَعُ جَوَازَ بَيْعِهِ، فَوَجَبَ أَنْ تَمْنَعَ جَوَازَ رَهْنِهِ كَرَهْنِ مَا فِي الصندوق أو القفل.
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَصَابَ الْمُرْتَهِنُ بَعْدَ الْقَبْضِ بِالرَّهْنِ عَيْبًا فَقَالَ كَانَ بِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَأَنَا أَفْسَخُ الْبَيْعَ وَقَالَ الرَّاهِنُ بَلْ حَدَثَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ إِذَا كَانَ مِثْلُهُ يَحْدُثُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا وَجَدَ الرَّهْنَ مَعِيبًا، فَادَّعَى الْمُرْتَهِنُ تَقَدُّمَ الْعَيْبِ لِيَفْسَخَ بِهِ الْبَيْعَ، وَادَّعَى الرَّاهِنُ حُدُوثَهُ لِيَمْنَعَ الْمُرْتَهِنَ مِنْ فَسْخِ الْبَيْعِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَيْبِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَلَّا يُمْكِنَ حُدُوثُ مِثْلِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ كَالْأُصْبُعِ الزَّائِدِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ فِي تَقَادُمِ الْعَيْبِ بِلَا يَمِينٍ، لِعِلْمِنَا بِصِدْقِهِ وَكَذِبِ الرَّاهِنِ، فَإِنِ ادَّعَى الرَّاهِنُ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ كَانَ عَالِمًا بِهَذَا الْعَيْبِ، لَمْ تُسْمَعْ مِنْهُ هَذِهِ الدَّعْوَى، لِأَنَّهُ بِادِّعَائِهِ حُدُوثَ الْعَيْبِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ مُكَذِّبٌ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ تَقَدُّمِ عِلْمِ الْمُرْتَهِنِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَلَّا يُمْكِنَ تَقَدُّمُ مِثْلِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالشَّجَّةِ الدَّامِيَةِ إِذَا وُجِدَتْ بِهِ فِي الْحَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْضُ الرَّهْنِ سَابِقًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ بِلَا يَمِينٍ، لِعِلْمِنَا بِصِدْقِهِ وَكَذِبِ الْمُرْتَهِنِ. وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ فَسْخُ الْبَيْعِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُمْكِنَ حُدُوثُ مِثْلِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَيُمْكِنَ تَقَدُّمُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَإِنْ كَانَتْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ لَهُ بِمَا يَدَّعِيهِ، عُمِلَ عَلَيْهَا.
وَالْبَيِّنَةُ شَاهِدَانِ، أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ، أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرْتَهِنَ بِدَعْوَاهُ يُرِيدُ فَسْخَ عَقْدٍ قَدْ ثَبَتَ، فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَدَّعِي تَقَدُّمَ عَيْبٍ لَمْ يُشَاهِدْهُ إِلَّا فِي يَدِهِ فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ.
فَإِنْ حَلَفَ الرَّاهِنُ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُرْتَهِنِ فَسْخٌ، وَإِنْ نَكَلَ الرَّاهِنُ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى

(6/184)


الْمُرْتَهِنِ، فَإِنْ حَلَفَ ثَبَتَ لَهُ الْفَسْخُ، وَإِنْ نَكَلَ الْمُرْتَهِنُ أَيْضًا، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْفَسْخُ، والله أعلم.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو قتل الراهن بردة أو قطع بِسَرِقَةٍ قَبْلَ الْقَبْضِ كَانَ لَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ (قال المزني) قلت أنا في هذا دليل أن البيع وإن جهلا الرهن أو الحميل غير فاسد وإنما له الخيار في فسخ البيع أو إثباته لجهله بالرهن أو الحميل وبالله التوفيق. (قال الشافعي) وإن كان حدث ذلك بعد القبض لم يكن لَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ حَالَ الْقَاتِلِ وَالْمُرْتَدِّ وَالسَّارِقِ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ، وَسَنَذْكُرُ مِنْهُ مَا يَقْتَضِيهِ هَذَا الْمَوْضِعُ، فَإِذَا قُتِلَ الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ بِرِدَّةٍ أَوْ قِصَاصٍ، لَمْ يَخْلُ حَالُ الرِّدَّةِ وَالْجِنَايَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ حَادِثَةً بَعْدَ الْقَبْضِ، أَوْ مُتَقَدِّمَةً، فَإِذَا كَانَتْ حَادِثَةً فَقَدْ بَطَلَ الرَّهْنُ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي الْبَيْعِ، لِحُدُوثِهِ فِي يَدِهِ كَحُدُوثِ الْعَيْبِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً قَبْلَ الْقَبْضِ، فَهَلْ لِلْمُرْتَهِنِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ، لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى قَتْلِهِ بِالرِّدَّةِ وَالْقِصَاصِ مَجْرَى الِاسْتِحْقَاقِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا بِرِدَّتِهِ أَمْ لَا، لِأَنَّهُ يَجْرِي قَتْلُهُ بِالرِّدَّةِ وَالْقِصَاصِ مَجْرَى مَوْتِهِ بِالْمَرَضِ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا قُطِعَتْ يَدُهُ بِالسَّرِقَةِ، فَإِنْ كَانَتِ السَّرِقَةُ حَادِثَةً بَعْدَ الْقَبْضِ، فَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً قَبْلَ الْقَبْضِ، نُظِرَ فِي حَالِ الْمُرْتَهِنِ، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِسَرِقَتِهِ، فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ، لِأَنَّهُ عَيْبٌ قَدْ كَانَ عَالِمًا بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِسَرِقَتِهِ، فَلَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الرَّهْنِ وَالْبَيْعِ، لِأَنَّهُ عَيْبٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ وَهُوَ قَادِرٌ على رده.
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ مَاتَ فِي يَدَيْهِ وَقَدْ دَلَّسَ لَهُ فِيهِ بِعَيْبٍ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ فَسْخَ الْبَيْعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ لِمَا فَاتَ مِنَ الرَّهْنِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا دَلَّسَ الرَّاهِنُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ حَتَّى خَفِيَ عليه، ثم علم المرتهن به فلا يخل حَالُ الرَّهْنِ بَعْدَ عِلْمِ الْمُرْتَهِنِ بِعَيْبِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا أَوْ تَالِفًا، فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا، فَلِلْمُرْتَهِنِ فَسْخُ الرَّهْنِ وَالْبَيْعِ، لِأَجْلِ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَيْبِ، كَمَا لَوْ ظَهَرَ فِيمَا ابْتَاعَهُ عَيْبٌ.
وَإِذَا بَذَلَ لَهُ الرَّاهِنُ أَرْشَ الْعَيْبِ لِيَزُولَ عَنْهُ الضَّرَرُ، فَيَمْتَنِعَ مِنَ الْفَسْخِ، لَمْ يَلْزَمِ

(6/185)


الْمُرْتَهِنَ قَبُولُ الْأَرْشِ، وَكَانَ لَهُ فَسْخُ الرَّهْنِ وَالْبَيْعِ، لِاسْتِحْقَاقِهِ بِوُجُودِ الْعَيْبِ كَالْمُشْتَرِي الَّذِي يَسْتَحِقُّ رَدَّ مَا ابْتَاعَهُ لِوُجُودِ الْعَيْبِ.
وَإِنْ بَذَلَ لَهُ الْأَرْشَ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمِ الْمُرْتَهِنُ بِالْعَيْبِ حَتَّى حَدَثَ عِنْدَهُ بِالرَّهْنِ عَيْبٌ آخَرُ، كَانَ لَهُ فَسْخُ الرَّهْنِ وَالْبَيْعِ، بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي الَّذِي لَيْسَ لَهُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ إِذَا حَدَثَ عِنْدَهُ عَيْبٌ آخَرُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ عَيْبَ الْمَبِيعِ إِذَا حَدَثَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مِنْ ضَمَانِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بَعْدَ حُدُوثِ عَيْبِهِ، وَلَيْسَ عَيْبُ الرَّهْنِ إِذَا حَدَثَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ مِنْ ضَمَانِهِ، وَكَانَ لَهُ رَدُّهُ بَعْدَ حُدُوثِ عَيْبِهِ.
فَلَوْ لَمْ يَعْلَمِ الْمُرْتَهِنُ بِالْعَيْبِ حَتَّى ارْتَفَعَ فِي يَدِهِ، كَانَ فِي خِيَارِهِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَهُ الْخِيَارُ، اعْتِبَارًا بِوُجُوبِهِ فِي الِابْتِدَاءِ.
وَالثَّانِي: لَا خِيَارَ لَهُ، اعْتِبَارًا بِسُقُوطِهِ فِي الِانْتِهَاءِ.

(فَصْلٌ)
وَإِذَا كَانَ الرَّهْنُ تَالِفًا قَبْلَ عِلْمِ الْمُرْتَهِنِ بِعَيْبِهِ، كَعَبْدٍ مَاتَ فِي يَدِهِ، أَوْ ثَوْبٍ سُرِقَ مِنْ حِرْزِهِ، ثُمَّ عَلِمَ حِينَئِذٍ بِعَيْبِهِ، فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ، لِفَوَاتِ رَدِّهِ وَلَا رُجُوعَ لَهُ بِأَرْشِهِ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعُ بِأَرْشِهِ عِنْدَ فَوَاتِ رَدِّهِ؟ فَهَلَّا كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ الرُّجُوعُ بِأَرْشِهِ عِنْدَ فَوَاتِ رَدِّهِ؟ قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْبَائِعَ لَمَّا أُجْبِرَ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ سَلِيمًا أُجْبِرَ عَلَى تَسْلِيمِ أَرْشِهِ مَعِيبًا، ولما لم يجبر الراهن على تسليم الراهن سَلِيمًا، لَمْ يُجْبَرْ عَلَى تَسْلِيمِ أَرْشِهِ مَعِيبًا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ رَدُّ الثَّمَنِ عِنْدَ تَعَذُّرِ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ الْأَرْشِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْمَبِيعِ، وَلَمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَى الرَّاهِنِ دَفْعُ الْحَقِّ عِنْدَ تَعَذُّرِ تَسْلِيمِ الرَّهْنِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ رَدُّ الْأَرْشِ لِفَوَاتِ رَدِّ الرَّهْنِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي مَنْعِ الْمُشْتَرِي مِنَ الْأَرْشِ تَفْوِيتٌ لِحَقِّهِ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي مَنْعِ الْمُرْتَهِنِ مِنَ الْأَرْشِ تَفْوِيتٌ لِحَقِّهِ، لِأَنَّ حَقَّهُ مُوَثَّقٌ فِي ذِمَّةِ رَاهِنِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ.
(فَصْلٌ)
وَإِذَا ارْتَهَنَ عَبْدَيْنِ فَقَبَضَ أَحَدَهُمَا فَمَاتَ فِي يَدِهِ وَمَاتَ الْآخَرُ فِي يَدِ رَاهِنِهِ أَوْ مَاتَ فِي يَدِهِ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُرْتَهِنِ رَدُّ الْبَيْعِ لِفَوَاتِ رَدِّ مَا تَلِفَ بِيَدِهِ.
(فَصْلٌ)
إِذَا ارْتَهَنَ عَبْدًا فَقُتِلَ فِي يَدِ مُرْتَهِنِهِ، ثُمَّ عَلِمَ الْمُرْتَهِنُ بِعَيْبٍ كَانَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ قَتْلُهُ قَدْ أَوْجَبَ مَالًا، تَرَكَ مَكَانَهُ رَهْنًا، وَلِلْمُرْتَهِنِ فَسْخُ الْبَيْعِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ فَاتَ رَدُّ العبد بعينه،

(6/186)


فَقَدْ رَدَّ مَا قَامَ مَقَامَهُ مِنْ قِيمَتِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَوْجَبَ قِصَاصًا، اقْتُصَّ لَهُ مِنْ قَاتِلِهِ، وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ فَسْخُ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي اقْتِصَاصِ سَيِّدِهِ وَاسْتِرْجَاعِ بَدَلِهِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ الْفَسْخُ مَعَ خُرُوجِهِ بِالْقَتْلِ وَالْقِصَاصِ مِنْ يَدِهِ، فَأَوْلَى أَلَّا يَكُونَ لَهُ الْفَسْخُ إِذَا عَلِمَ بِعَيْبِهِ.

(فَصْلٌ)
فَلَوْ بِيعَ الرَّهْنُ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، ثُمَّ عَلِمَ الْمُرْتَهِنُ بِتَقَدُّمِ عَيْبِهِ، لَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ فَسْخُ الْبَيْعِ وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ بَاقِيًا، فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَ لَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ وَرَدُّ الثَّمَنِ، لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلٌ يَقُومُ مَقَامَهُ كَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِذَا أُخِذَتْ قِيمَتُهُ، ثُمَّ عَلِمَ الْمُرْتَهِنُ بِعَيْبِهِ، تَكُونُ الْقِيمَةُ الْمَأْخُوذَةُ قَائِمَةً مَقَامَ رَدِّهِ بِعَيْبِهِ، وَلَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ.
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَبِيعِ وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، أَنَّ الْمَبِيعَ قَدْ عَاوَضَ عَلَيْهِ سَلِيمًا، وَلَمْ يَكُنْ نَقْصُ الْعَيْبِ مُؤَثِّرًا إِذَا لَمْ يَظْهَرْ عَيْبُهُ إِلَّا بَعْدَ نُفُوذِ بَيْعِهِ كَالْمُشْتَرِي إِذَا بَاعَ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى عَيْبٍ لَهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ فَسْخٌ وَلَا أَرْشٌ، وَلَيْسَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ فِيهِ قِيمَتُهُ الَّتِي كَانَ يَسْوَاهَا وَقْتَ الْجِنَايَةِ مَعَ نَقْصِهِ بِالْعَيْبِ فَافْتَرَقَا.
فَلَوْ أَنَّ مُشْتَرِيَ الرَّهْنِ ظَهَرَ عَلَى عَيْبِهِ فَرَدَّهُ بِهِ، وَطَالَبَ بِرَدِّ ثَمَنِهِ نُظِرَ، فَإِنِ اسْتَرْجَعَ الثَّمَنَ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ مِنْ يَدِ الْعَدْلِ الْمَوْضُوعِ عَلَى يَدِهِ الرَّهْنُ، فَلِلْمُرْتَهِنِ فَسْخُ الْبَيْعِ، لِأَنَّ الرَّهْنَ قَدْ عَادَ إِلَى حُكْمِهِ قَبْلَ الْبَيْعِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ رَجَعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِالثَّمَنِ وَلَمْ يَسْتَرْجِعْهُ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ، فَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ فَسْخُ الْبَيْعِ، لِسَلَامَةِ الثَّمَنِ لَهُ وَارْتِفَاعِ ضَرَرِ النَّقْصِ عنه، والله أعلم.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطَا رَهْنًا فِي الْبَيْعِ فَتَطَوَّعَ المشتري فرهنه فلا سبيل له إلى إخراجه مِنَ الرَّهْنِ وَبَقِيَ مِنَ الْحَقِّ شَيْءٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، التَّطَوُّعُ بِالرَّهْنِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ جَائِزٌ كَجَوَازِهِ لَوْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي الْبَيْعِ، لِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ فَيَصِحُّ التَّطَوُّعُ بِهَا كَالشَّهَادَةِ وَالضَّمَانِ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ عَقْدٌ يَنْفَرِدُ بِحُكْمِهِ بِدَلِيلِ افْتِقَارِهِ إِلَى بَذْلٍ وَقَبُولٍ، فَصَحَّ عَقْدُهُ مُفْرَدًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا فِي غَيْرِهِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ، وَلَيْسَ كَالْأَجَلِ الَّذِي لَا يَصِحُّ بِغَيْرِ شَرْطٍ فِي الْعَقْدِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَقْدٍ يَنْفَرِدُ بِحُكْمِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَتَطَوَّعَ الْمُشْتَرِي فَأَعْطَى الْبَائِعَ رَهْنًا بِالثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ عَلَيْهِ، فَقَدْ لَزِمَ الرَّهْنُ بِإِقْبَاضِهِ كَمَا لَوْ كَانَ مَشْرُوطًا، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي انْتِزَاعُ الرَّهْنِ إِلَّا بَعْدَ قَضَاءِ الْحَقِّ كُلِّهِ، وَتَكُونُ جَمِيعُ أَحْكَامِ هَذَا الرَّهْنِ كَأَحْكَامِ الرَّهْنِ للشروط فِي الْبَيْعِ. إِلَّا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ الْبَائِعَ الْمُرْتَهِنَ إِذَا بَانَ لَهُ بِالرَّهْنِ عَيْبٌ مُتَقَدِّمٌ لَيْسَ لَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ.
وَلَوْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي الْبَيْعِ كَانَ لَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَشْرُوطًا فَقَدْ دَخَلَ عليه

(6/187)


بِظُهُورِ الْعَيْبِ نَقْصٌ، وَإِذَا كَانَ تَطَوُّعًا لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ نَقْصٌ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْفَسْخُ، لِأَنَّهُ بَعْدَ ظُهُورِ الْعَيْبِ زِيَادَةٌ مَحْضَةٌ تَطَوَّعَ بها المشتري.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ اشْتَرَطَا أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ نَفْسُهُ رَهْنًا فَالْبَيْعُ مَفْسُوخٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَمْ يُمَلِّكْهُ الْمَبِيعَ إِلَا بِأَنْ يَكُونَ مَحْبُوسًا عَلَى الْمُشْتَرِي ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا شَرَطَا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ مَا ابْتَاعَهُ رَهْنًا عَلَى ثَمَنِهِ، كَانَ رَهْنًا بَاطِلًا، وَبَيْعًا بَاطِلًا أَمَّا بُطْلَانُ الرَّهْنِ فَلِمَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عُقِدَ الرَّهْنُ عَلَيْهِ قَبْلَ مِلْكِهِ لَهُ، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ مَا ابْتَاعَهُ، إِمَّا بِالْعَقْدِ، وَالِافْتِرَاقِ، أَوْ بِالْعَقْدِ وَحْدَهُ، وَهُوَ عَقَدَ الرَّهْنَ عَلَيْهِ قَبْلَ وُجُودِ هَذَيْنِ، فَكَانَ رَهْنًا لَهُ قَبْلَ مِلْكِهِ، وَالرَّهْنُ قَبْلَ الْمَلِكِ بَاطِلٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ يَنْفِي ضَمَانَ الثَّمَنِ، لِأَنَّهُ عَقْدُ أَمَانَةٍ فَإِذَا وَجَبَ ضَمَانُهُ بِالتَّعَدِّي كَانَ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ دُونَ الثَّمَنِ، وَالْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ مَضْمُونٌ عَلَى بَائِعِهِ بِالثَّمَنِ.
فَإِذَا جَعَلَ الْمَبِيعَ الْمَضْمُونَ بِالثَّمَنِ رَهْنًا لَا يَجِبُ ضَمَانُهُ بِالثَّمَنِ، صَارَ مُشْتَرِطًا فِي الرَّهْنِ ضَمَانًا يُنَافِيهِ فَبَطَلَ.
فَأَمَّا بُطْلَانُ الْبَيْعِ فَلِمَعْنَيَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ يُوجِبُ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ، وَعَقْدَ الرَّهْنِ يُوجِبُ حَبْسَ الْمَرْهُونِ، فَإِذَا اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ رَهْنًا فَقَدْ شَرَطَ فِي الْبَيْعِ تَأْخِيرَ التَّسْلِيمِ، وَبُيُوعُ الْأَعْيَانِ بشرط تأخير التسليم باطلة.
وَالثَّانِي: أَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ يَنْقُلُ مَنَافِعَ الْمَبِيعِ للمشتري كَمَا يَنْقُلُ الْمِلْكَ، فَإِذَا شَرَطَ ارْتِهَانَ الْمَبِيعِ فَقَدْ شَرَطَ لِنَفْسِهِ مَنْفَعَةَ الْمَبِيعِ، كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا.
فَإِنْ قِيلَ: ارْتِهَانُ الْمَبِيعِ إِنَّمَا هُوَ حَبْسُ الْمَبِيعِ عَلَى ثَمَنِهِ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَ ما باعه حتى يقبض ثَمَنَهُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ ارْتِهَانِهِ، كَانَ مَعَ شَرْطِ ارْتِهَانِهِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ.
قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَبِيعَ الْمَحْبُوسَ عَلَى ثَمَنِهِ مَضْمُونٌ بِالثَّمَنِ وَالرَّهْنُ يَنْفِي ضَمَانَ الثَّمَنِ.
وَالثَّانِي: أَنِ الْمَبِيعَ الْمَحْبُوسَ عَلَى ثَمَنِهِ يَمْنَعُ مِنْ بَيْعِهِ عِنْدَ تَأَخُّرِ ثَمَنِهِ وَالرَّهْنُ يُوجِبُ بَيْعَهُ عِنْدَ تَأَخُّرِ مَا رُهِنَ بِهِ، فَافْتَرَقَ حُكْمُهُمَا مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَبَايَعَا سِلْعَةً بِشَرْطِ أَنْ يُسَلِّمَهَا إِلَى الْمُشْتَرِي فَإِذَا صَارَتْ فِي قَبْضِ المشتري

(6/188)


رَهَنَهَا عِنْدَ الْبَائِعِ عَلَى ثَمَنِهَا، كَانَ الرَّهْنُ بَاطِلًا وَالْبَيْعُ بَاطِلًا، أَمَّا بُطْلَانُ الرَّهْنِ فَلِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّهُ رَهَنَهُ قَبْلَ مِلْكِهِ وَأَمَّا بُطْلَانُ الْبَيْعِ فَلِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّهُ شَرَطَ مَنْفَعَةَ مَا بَاعَهُ.

(فَصْلٌ)
فَلَوْ بَاعَ سِلْعَةً بِغَيْرِ شَرْطِ رَهْنِ الْمَبِيعِ، ثُمَّ إِنَّ الْمُشْتَرِيَ رهنها قبل قبضها. عند بايعها أو غير بايعها، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرْهَنَهَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ لِسَلَامَتِهِ مِنْ شَرْطٍ يُفْسِدُهُ وَالرَّهْنُ بَاطِلٌ سَوَاءٌ رَهَنَهُ عِنْدَ الْبَائِعِ أَوْ غَيْرِ الْبَائِعِ، لِأَنَّهُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ غَيْرُ مُسْتَقِرِّ الْمِلْكِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَرْهَنَهُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ لَمْ يَقْبِضِ الثَّمَنَ فَرَهْنُهُ غَيْرُ جَائِزٍ سَوَاءٌ رهنه عند البائع أو عند غَيْرِهِ، لِأَنَّ لِلْبَائِعِ حَبْسَ الْمَبِيعِ عَلَى ثَمَنِهِ فَلَا مَعْنَى لِارْتِهَانِهِ عَلَى ثَمَنِهِ، وَلَا عِنْدَ غَيْرِ بَائِعِهِ لِحَقِّ الْبَائِعِ فِي حَبْسِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ قَدْ قَبَضَ الثَّمَنَ، فَفِي جَوَازِ رَهْنِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يجوز رهنه عند بائعه وغير بائعه، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ جَوَّزَ إِجَارَةَ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ لَا مِنْ بَائِعِهِ وَلَا مِنْ غَيْرِ بَائِعِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَطَائِفَةٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ مَنَعَ مِنْ إِجَارَةِ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ رَهْنَهُ جَائِزٌ عِنْدَ غَيْرِ بَائِعِهِ وَرَهْنَهُ عِنْدَ بَائِعِهِ غَيْرُ جَائِزٍ وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ رَهْنَهُ عِنْدَ بَائِعِهِ يُوجِبُ اسْتِدَامَةَ ضَمَانِهِ بِالثَّمَنِ الْمُنَافِي لِلرَّهْنِ، وَرَهْنَهُ عِنْدَ غَيْرِ بَائِعِهِ يَنْفِي هَذَا الضَّمَانَ، والله أعلم.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ أُرْهِنُكَ عَلَى أَنْ تَزِيدَنِي فِي الْأَجَلِ فَفَعَلَا فَالرَّهْنُ مَفْسُوخٌ وَالْحَقُّ الْأَوَّلُ بِحَالِهِ وَيَرُدُّ مَا زَادَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
إِذَا كَانَ الْحَقُّ حَالًّا فَقَالَ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ لِمَنْ هُوَ لَهُ: أُعْطِيكَ بِحَقِّكَ رَهْنًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ الْحَقَّ مُؤَجَّلًا، أَوْ كَانَ الْحَقُّ إِلَى سَنَةٍ فَقَالَ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ: أُعْطِيكَ بِهِ رَهْنًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَهُ مُؤَجَّلًا إِلَى سَنَتَيْنِ فَفَعَلَا ذَلِكَ وَأَجَّلَا الْحَقَّ وَوَثَّقَاهُ بِالرَّهْنِ، فَالشَّرْطُ فِي الْأَجَلِ بَاطِلٌ، وَالرَّهْنُ فَاسِدٌ.
أَمَّا بُطْلَانُ الشَّرْطِ فِي الأجل فلمعنيين:

(6/189)


أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَجَلَ لَا يَنْفَرِدُ عَنِ الْعَقْدِ وَلَا يُفْرَدُ بِالْعَقْدِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا لِلْعَقْدِ، وَقَدْ عَرَّى الْأَجَلَ هَاهُنَا عَنْ أَنْ يَكُونَ تَبَعًا لِلْعَقْدِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ أَخْذَ الْعِوَضِ عَنِ الْأَجَلِ رِبًا، وَالرَّهْنُ عِوَضٌ مَأْخُوذٌ عَنِ الْأَجَلِ، فَلَمْ يَصِحَّ.
وَأَمَّا بُطْلَانُ الرَّهْنِ فَلِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّهُ عُقِدَ عَلَى شَرْطِ خِيَارٍ فِي مُقَابَلَتِهِ، فَلَمَّا بَطَلَ الشَّرْطُ فِي الْأَجَلِ، بَطَلَ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنَ الرَّهْنِ، فَإِذَا ثَبَتَ بُطْلَانُ الشَّرْطِ وَالرَّهْنِ فَالْحَقُّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلِ حُلُولٍ أَوْ تأجيل.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّ الْمَوْضُوعَ عَلَى يَدَيْهِ قَبَضَ الرَّهْنَ جَعَلْتُهُ رَهْنًا وَلَمْ أَقْبَلْ قَوْلَ الَعَدْلِ لَمْ أَقْبِضْهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ اخْتِصَارٌ، وَصُورَتُهَا فِي مُتَبَايِعَيْنِ شَرَطَا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ رَهْنًا يَضَعَانِهِ عَلَى يَدِ عَدْلٍ، فَأَقَرَّ الرَّاهِنُ الْمُشْتَرِي بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ، وَأَقَرَّ الْمُرْتَهِنُ الْبَائِعُ بِقَبْضِ الرَّهْنِ، وَأَنْكَرَ الْعَدْلُ أَنْ يَكُونَ قَبَضَ الرَّهْنَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ، وَالرَّهْنُ قَدْ تَمَّ وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ إِنْكَارُ الْعَدْلِ، لِأَنَّ مَنْ بِهِ يَتِمُّ الرَّهْنُ هُوَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ دُونَ الْعَدْلِ، وَقَدْ أَقَرَّا بِتَمَامِهِ، وَإِذَا كَانَ قَوْلُهُمَا مَقْبُولًا فَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ فَسْخُ الْبَيْعِ، لِإِقْرَارِهِ بِقَبْضِ الرَّهْنِ، وَلَا لِلرَّاهِنِ الرُّجُوعُ فِيهِ لِإِقْرَارِهِ بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ غَيْرَ أَنَّ إِقْرَارَهُمَا بِالرَّهْنِ لَا يَكُونُ مَقْبُولًا عَلَى الْعَدْلِ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْعَدْلِ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ مَا قَبَضْتُهُ إِنِ ادَّعَيَاهُ فِي يَدِهِ، فَإِذَا حَلَفَ صَارَ الرَّهْنُ تَالِفًا، وَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّهُ رَهْنٌ مَحْكُومٌ بِتَلَفِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِيَاهُ فِي يَدِهِ وَكَانَ مَعَ أَحَدِهِمَا: فَلَا يَمِينَ عَلَى الْعَدْلِ، وَلَهُمَا أَنْ يَضَعَاهُ عَلَى يَدِ مَنْ يَرْتَضِيَانِهِ.

(فَصْلٌ)
فَلَوْ أَقَرَّ الْمُرْتَهِنُ وَالْعَدْلُ بِقَبْضِ الرَّهْنِ، وَأَنْكَرَ الرَّاهِنُ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الراهن مع يمينه بالله ما أقبض، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ الرَّهْنِ الَّذِي أَقَرَّ الْعَدْلُ وَالْمُرْتَهِنُ بِقَبْضِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا أَوْ تَالِفًا، فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا فَلِلرَّاهِنِ انْتِزَاعُهُ وَاسْتِرْجَاعُهُ، فَإِذَا اسْتَرْجَعَهُ قِيلَ لَهُ: إِنْ أُقْبِضْتَ الرَّهْنَ فَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ، وَإِنِ امْتَنَعْتَ مِنْ إِقْبَاضِهِ فَلِلْمُرْتَهِنِ فِي الْبَيْعِ الْخِيَارُ، بَيْنَ فَسْخِهِ أَوْ إِمْضَائِهِ، وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ تَالِفًا فَلَهُ الرُّجُوعُ بِقِيمَتِهِ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنَ الْعَدْلِ أَوِ الْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّ كُلَّ واحد منهما مقر بقبضه، وقد حكمنا بإقرار أَنَّهُ غَيْرُ مَقْبُوضٍ فِي الرَّهْنِ، فَصَارَ مَقْبُوضًا بِالتَّعَدِّي فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُ بِالتَّلَفِ، فَإِنْ رَجَعَ الرَّاهِنُ عَلَى الْعَدْلِ وَأَغْرَمَهُ قِيمَةَ الرَّهْنِ فَلَا رُجُوعَ لِلْعَدْلِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّ الرَّاهِنَ ظَلَمَهُ بِهَا، وَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ

(6/190)


فِي فَسْخِ الْبَيْعِ، لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِقَبْضِ مَا شَرَطَهُ مِنَ الرَّهْنِ، فَإِنْ رَجَعَ الرَّاهِنُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَأَغْرَمَهُ قِيمَةَ الرَّهْنِ، فَلَا رُجُوعَ لِلْمُرْتَهِنِ عَلَى الْعَدْلِ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّ الْعَدْلَ أَمِينٌ، وَأَنَّ الرَّاهِنَ ظَالِمٌ، وَلِلْمُرْتَهِنِ فِي الْبَيْعِ الْخِيَارُ بَيْنَ فَسْخِهِ وَإِمْضَائِهِ لِأَنَّ حُكْمَنَا عَلَيْهِ يُغَرِّمُ القيمة وهو حكم يرد الرَّهْنَ، فَلَمْ يَكُنْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِقْرَارِهِ بِالْقَبْضِ مَانِعًا مِنَ الْفَسْخِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا رَجَعَ الرَّاهِنُ بِالْغُرْمِ عَلَى الْعَدْلِ إِذْ لَيْسَ فِيهِ حُكْمٌ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِرَدِّ الرَّهْنِ.

(فَصْلٌ)
وَلَوْ أَقَرَّ الرَّاهِنُ وَالْعَدْلُ بِقَبْضِ الرَّهْنِ وَأَنْكَرَ الْمُرْتَهِنُ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّهْنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا أَوْ تَالِفًا، فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا فَلَا يَمِينَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ وَإِنْ أَنْكَرَ قَبْضَهُ مِنْ قَبْلُ، أُمِرَ بِقَبْضِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ قَبْضِهِ ثُمَّ تَلِفَ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ، لَزِمَهُ إِمْضَاءُ الْبَيْعِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْفَسْخُ، فَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ تَالِفًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ: بِاللَّهِ مَا قَبَضَ الرَّهْنَ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِمَا يَدَّعِيهِ الرَّاهِنُ مِنَ الْإِقْبَاضِ، فَإِذَا حَلَفَ فَلَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ: لِأَنَّهُ شَرَطَ فِيهِ رَهْنًا لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِقَبْضِهِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْعَدْلِ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ إِقْرَارَ الْعَدْلِ بِقَبْضِهِ شَهَادَةٌ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، وَشَهَادَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ مَرْدُودَةٌ، وَلَيْسَ عَلَى الْعَدْلِ عَزْمُ مَا تَلِفَ بِيَدِهِ مِنَ الرَّهْنِ، لِأَنَّ الرَّاهِنَ مُقِرٌّ أَنَّهُ أَمِينٌ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانٌ وَالْمُرْتَهِنُ مُنْكِرٌ أَنْ يَكُونَ قَبَضَ فَأَوْلَى أَلَّا يَلْزَمَهُ ضَمَانٌ، وَاللَّهُ أعلم.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَيُّهُمَا مَاتَ قَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
إِذَا مَاتَ أَحَدُ مُتَعَاقِدَيِ الرَّهْنِ فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ بَعْدَ الْقَبْضِ، لَمْ يَبْطُلْ بِمَوْتِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّ الرَّهْنَ بَعْدَ الْقَبْضِ لَازِمٌ، وَالْعُقُودُ اللَّازِمَةُ لَا تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الرَّاهِنَ، فَقَدْ حَلَّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ الْمُؤَجَّلِ بِمَوْتِهِ وَالرَّهْنُ عَلَى حَالِهِ فِي يَدِ مُرْتَهِنِهِ حَتَّى يَقْبِضَ الْحَقَّ مِنْ وَرَثَتِهِ أَوْ يُبَاعَ الرَّهْنُ إِنِ امْتَنَعَ الْوَارِثُ، لِيَقْبِضَ الْمُرْتَهِنُ حَقَّهُ مِنْ ثَمَنِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الْمُرْتَهِنَ، فَحَقُّهُ فِي ذِمَّةِ الرَّاهِنِ، إِلَى أَجَلِهِ، لِأَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ يُحَلُّ بِمَوْتِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، وَلَا يُحَلُّ بِمَوْتِ مَنْ هُوَ لَهُ، ثُمَّ ينظر في الرهن فإن كانت عَلَى يَدِ عَدْلٍ، وَجَبَ إِقْرَارُهُ فِي يَدِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ وَلَا لِوَارِثِ الْمُرْتَهِنِ إِخْرَاجُهُ مِنْ يَدِهِ إِلَّا أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى إِخْرَاجِهِ، ثُمَّ لِوَارِثِ الْمُرْتَهِنِ مُطَالَبَةُ الرَّاهِنِ بِالْحَقِّ عِنْدَ حُلُولِ أَجَلِهِ.
وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ عَلَى يَدِ الْمُرْتَهِنِ، لَمْ يَلْزَمِ الرَّاهِنَ إِقْرَارُ الرَّهْنِ فِي يَدِ وَارِثِهِ إِلَّا بِاخْتِيَارِهِ، وَلَهُ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنْ يَدِ الْوَارِثِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِأَمَانَتِهِ وَيَضَعَانِهِ عَلَى يَدِ عَدْلٍ يَرْضَيَانِ بِهِ، فَإِنْ تَمَانَعَا وَاخْتَلَفَا ارْتَضَى الْحَاكِمُ لَهُمَا عَدْلًا، فَإِنْ مَنَعَ الْوَارِثُ مِنْ تَسْلِيمِ الرَّهْنِ ضَمِنَهُ.

(6/191)


(فَصْلٌ)
وَإِنْ كَانَ الْمَوْتُ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَالْحَيُّ مِنْهُمَا وَوَارِثُ الْمَيِّتِ عَلَى حَالِهِمَا، إِنْ أَحَبَّا أَنْ يُمْضِيَا الرَّهْنَ أَمْضَيَاهُ، لِأَنَّ الرَّهْنَ قَبْلَ الْقَبْضِ غَيْرُ لَازِمٍ. ثُمَّ هَلْ يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ حُكْمُ الْعَقْدِ الْمُتَقَدِّمِ؟ حَتَّى إِنْ أَحَبَّا إِمْضَاءَ الرَّهْنِ، اسْتَأْنَفَاهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ المزني: قلت أنا وَجُمْلَةُ قَوْلِهِ فِي اخْتِلَافِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ فِي الْحَقِّ وَالْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ فِيمَا يُشْبِهُ وَلَا يُشْبِهُ وَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُزَنِيَّ ذَكَرَ جُمْلَةً مُجْمَلَةً لَهَا تَفْصِيلٌ، وَبَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي تَأْوِيلِهَا خِلَافٌ. وَلِلْكَلَامِ فِيهَا مُقَدِّمَةٌ، فَمُقَدِّمَتُهَا وَمَا بِهِ يَنْكَشِفُ إِجْمَالُهَا شَرْحُ الْمَذْهَبِ فِي اخْتِلَافِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ فِي الْحَقِّ، وَفِي اخْتِلَافِهِمَا فِي الرَّهْنِ، فَأَمَّا اخْتِلَافُهُمَا فِي الْحَقِّ، فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي أَصْلِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي قَدْرِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي وَصْفِهِ.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَخْتَلِفَا فِي أَصْلِ الْحَقِّ، فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ الْمُرْتَهِنُ: لِي عَلَيْكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ رَهَنْتَنِي بِهَا عَبْدَكَ سَالِمًا. فَيَقُولُ الرَّاهِنُ: لَيْسَ لَكَ عَلَيَّ شَيْءٌ مِنْ بَيْعٍ وَلَا قَرْضٍ، أَوْ يَقُولُ: أَقْرَضَتْنِي أَلْفًا وَلَمْ تُقْبِضْنِي وَرَهَنْتُكَ سَالِمًا عَلَى أَنْ تُقْبِضَنِي مَا أَقْرَضْتَنِي، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ، بِاللَّهِ مَا لِلْمُرْتَهِنِ عَلَيْهِ الْأَلْفُ الَّتِي ادَّعَاهَا، أَوْ مَا أَقْبَضَهُ الْأَلْفَ الَّتِي أَقْرَضَهُ إِيَّاهَا، فَإِذَا حَلَفَ الرَّاهِنُ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ فِي الْحُكْمِ، وَلَا رَهْنَ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ الرَّهْنَ إِنَّمَا يَصِحُّ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَقِّ.
(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ اخْتِلَافُهُمَا فِي قَدْرِ الْحَقِّ، فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ الْمُرْتَهِنُ، رَهَنْتَنِي عَبْدَكَ سَالِمًا فِي أَلْفٍ، فَيَقُولُ الرَّاهِنُ: رَهَنْتُكَ فِي خَمْسِمِائَةٍ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الرَّاهِنُ مُقِرًّا بِخَمْسِمِائَةٍ وَمُنْكِرًا مَا زَادَ عَلَيْهَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا بِالْأَلْفِ كُلِّهَا وَمُنْكِرًا أَنْ يَكُونَ سَالِمٌ رَهْنًا إِلَّا فِي خَمْسِمِائَةٍ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِخَمْسِمِائَةٍ وَمُنْكِرًا مَا زَادَ عَلَيْهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ فِي نَفْسِ مَا زَادَ عَلَيْهَا، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا لَهُ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ فَإِذَا حَلَفَ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ فِي الْحُكْمِ مِمَّا زَادَ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ، وَكَانَ سَالِمٌ رَهْنًا بها.

(6/192)


وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِالْأَلْفِ كُلِّهَا وَمُنْكِرًا أَنْ يَكُونَ سَالِمٌ رَهْنًا إِلَّا فِي خَمْسِمِائَةٍ مِنْهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ: بِاللَّهِ مَا رَهَنَهُ سَالِمًا إِلَّا فِي خَمْسِمِائَةٍ وَسَوَاءٌ كَانَ سَالِمٌ يُسَاوِي أَلْفًا أَوْ خَمْسَمِائَةٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ سَالِمٌ الْمَرْهُونُ يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ فَمَا دُونَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ وَيَكُونُ رَهْنًا بِخَمْسِمِائَةٍ، وَإِنْ كَانَ سَالِمٌ يُسَاوِي أَلْفًا فَمَا زَادَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ، وَيَكُونُ رَهْنًا بِالْأَلْفِ، اسْتِدْلَالًا بِالْعَادَةِ وَاسْتِشْهَادًا بِالْعُرْفِ، إِنَّ الْعَبْدَ يَكُونُ رَهْنًا بِقَدْرِ قِيمَتِهِ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمْ عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ ". وَلِأَنَّ إِنْكَارَ الرَّاهِنِ مَا زَادَ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ، أَغْلَظُ مِنْ إِنْكَارِهِ الرَّهْنَ فِيهَا مَعَ إِقْرَارِهِ بِهَا، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ الِاسْتِشْهَادُ بِالْعُرْفِ فِي اعْتِبَارِهِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ دَلِيلًا عَلَى قَبُولِ قَوْلِ الْمُرْتَهِنِ فِي إِثْبَاتِ الزِّيَادَةِ، لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا عَلَى قَبُولِهِ فِي إِثْبَاتِ الرَّهْنِ فِي الزِّيَادَةِ، وَلِأَنَّ إِنْكَارَهُ الْأَلْفَ فِي جَمِيعِ الرَّهْنِ، أَعْظَمُ مِنْ إِنْكَارِهِ الرَّهْنَ فِي بَعْضِ الْأَلْفِ، فَلَمَّا كَانَ لَوْ أَنْكَرَ الرَّهْنَ فِي جَمِيعِ الْأَلْفِ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَمْ يُعْتَبَرِ الْعُرْفُ فِي الرَّاهِنِ أَنَّهُ مِمَّا لَا يُوثَقُ بِذِمَّتِهِ إِلَّا بِرَهْنٍ، وَلَا فِي الْمُرْتَهِنِ أَنَّهُ مِمَّا لَا يُوثَقُ بِذِمَّتِهِ إِلَّا بِرَهْنٍ، وَجَبَ إِذَا أَنْكَرَ الرَّهْنَ فِي بَعْضِ الْأَلْفِ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ فِي قِيمَةِ الرَّهْنِ، وَلِأَنَّ الدَّعَاوَى لَا تَقْوَى بِالتَّعَارُفِ وَظُهُورِ الْحَالِ، بِدَلِيلِ أَنَّ دَعْوَى الْعَدْلِ التَّقِيِّ عَلَى الْفَاسِقِ الْغَوِيِّ فِي الشَّيْءِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ فِي التَّعَارُفِ صِدْقَ الْمُدَّعِي فِيهَا، وَدَعْوَى الْعَطَّارِ عَلَى الدَّبَّاغِ عِطْرًا لَا يُوجِبُ قَبُولَ قَوْلِ الْعَطَّارِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الْعُرْفُ يَقْتَضِيهِ، كَذَلِكَ الرَّهْنُ لَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ فِي قَبُولِ قَوْلِ الْمُرْتَهِنِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْعُرْفُ مَعَهُ، وَلِأَنَّ الْعُرْفَ فِي الرَّهْنِ يَخْتَلِفُ، فَمِنِ النَّاسِ مَنْ يَرْهَنُ مَا فِيهِ وَفَاءٌ عَلَى الْحَقِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْهَنُ مَا فِيهِ نُقْصَانٌ عَنِ الْحَقِّ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْعُرْفُ مَعَ اخْتِلَافِهِ مُعْتَبَرًا.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ اخْتِلَافُهُمَا فِي صِفَةِ الْحَقِّ فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ الْمُرْتَهِنُ: رَهَنْتَنِي عَبْدَكَ سَالِمًا فِي أَلْفٍ حَالَّةٍ، وَيَقُولُ الرَّاهِنُ رَهَنْتُكَ فِي أَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ أَلْفَ حَالَّةً وَأَنَّ لَهُ أَلْفًا مُؤَجَّلَةً، ثُمَّ يَخْتَلِفَانِ، فَيَقُولُ الْمُرْتَهِنُ، رَهَنْتَنِي سَالِمًا فِي الْأَلْفِ الْحَالَّةِ، وَيَقُولُ الرَّاهِنُ: رَهَنْتُكَ فِي الْأَلْفِ الْمُؤَجَّلَةِ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ، بِاللَّهِ مَا رَهَنَهُ سَالِمًا فِي الْأَلْفِ الْحَالَّةِ، وَيَخْرُجُ سَالِمٌ مِنَ الرَّهْنِ فِي الْمُؤَجَّلَةِ وَالْحَالَّةِ، أَمَّا الْحَالَّةُ فَبِيَمِينِ الرَّاهِنِ وَأَمَّا الْمُؤَجَّلَةُ فَبِإِنْكَارِ الْمُرْتَهِنِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنَّهَا أَلْفٌ وَاحِدَةٌ وَأَنَّ سَالِمًا رَهْنٌ بِهَا، ثُمَّ يَخْتَلِفَانِ فِي حُلُولِهَا وَتَأْجِيلِهَا، فَيَقُولُ الْمُرْتَهِنُ: هِيَ حَالَّةٌ، وَيَقُولُ الرَّاهِنُ: بَلْ هِيَ مُؤَجَّلَةٌ، فَفِيهَا قَوْلَانِ:

(6/193)


أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ، بِاللَّهِ أَنَّ الْأَلْفَ حَالَّةٌ، وَيَصِيرُ سَالِمٌ رَهْنًا فِي أَلْفِ حَالَّةٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ: بِاللَّهِ أَنَّ الْأَلْفَ مُؤَجَّلَةٌ، وَيَصِيرُ سَالِمٌ رَهْنًا فِي أَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِيمَنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ، هَلْ يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِي الْأَجَلِ أَمْ لَا؟ فَهَذَا حُكْمُ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْحَقِّ.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا اخْتِلَافُهُمَا فِي الرَّهْنِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي أَصْلِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي قَدْرِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي صِفَتِهِ وَعَيْنِهِ، فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ اخْتِلَافُهُمَا فِي أَصْلِ الرَّهْنِ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي أَصْلِ الرَّهْنِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْحَقِّ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي أَصْلِ الرَّهْنِ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْحَقِّ، فَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي أَصْلِ الرَّهْنِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْحَقِّ فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ صَاحِبُ الْحَقِّ، رَهَنْتَنِي عَبْدَكَ سَالِمًا بِالْأَلْفِ الَّتِي لِي عَلَيْكَ، فَيَقُولُ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ، مَا رَهَنْتُكَ سَالِمًا وَلَا غَيْرَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ: بِاللَّهِ مَا رَهَنَهُ سَالِمًا، وَيَصِيرُ الْأَلْفُ بِلَا رَهْنٍ، وَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي أَصْلِ الرَّهْنِ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْحَقِّ فَصُورَتُهُ، أَنْ يَقُولَ صَاحِبُ الْحَقِّ: بِعْتُكَ دَارِي بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ تَرْهَنَنِي بِهَا عَبْدَكَ سَالِمًا، وَيَقُولُ الْمُشْتَرِي: بِعْتَنِي دَارَكَ بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ لَا رَهْنَ بِهَا، فَيَتَحَالَفَانِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعٍ عَلَى صَاحِبِهِ. فَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي شِرَاءَ الدَّارِ بِلَا رَهْنٍ، وَالْبَائِعُ يَدَّعِي عَلَى الْمُشْتَرِي عَقْدَ الرَّهْنِ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْلِفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ، فَيَبْدَأُ الْمُشْتَرِي بِالْيَمِينِ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ، لِأَنَّ يَمِينَهُ لِإِنْكَارِ عَقْدِ الرَّهْنِ، وَيَمِينَ الْبَائِعِ لِفَسْخِ الْبَيْعِ لِعَدَمِ الرَّهْنِ فَيَقُولُ الْمُشْتَرِي: وَاللَّهِ لَقَدِ اشْتَرَيْتُهَا بِلَا رَهْنٍ. ثُمَّ يَحْلِفُ الْبَائِعُ، بِاللَّهِ لَقَدْ بِعْتُهَا بِرَهْنٍ، فَإِذَا حَلَفَا جَمِيعًا خَرَجَ الْعَبْدُ مِنَ الرَّهْنِ، وَلَمْ يَلْزَمِ الْبَائِعَ إِمْضَاءُ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ، وَكَانَ بِالْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ بَيْنَ إِمْضَائِهِ بِلَا رَهْنٍ، وَبَيْنَ فَسْخِهِ، وَإِنْ حَلَفَ الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ، خَرَجَ الْعَبْدُ مِنَ الرَّهْنِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ فَسْخُ الْبَيْعِ، وَإِنْ حَلَفَ الْبَائِعُ دُونَ الْمُشْتَرِي، كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِالثَّمَنِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ فَسْخُ الْبَيْعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِلَافُهُمَا فِي قَدْرِ الرَّهْنِ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ أَيْضًا.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْحَقِّ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ الْمُرْتَهِنُ: رَهَنْتَنِي

(6/194)


عَبْدَيْكَ سَالِمًا وَغَانِمًا فِي الْأَلْفِ الَّتِي لِي عَلَيْكَ، وَيَقُولُ الرَّاهِنُ رَهَنْتُكَ عَبْدِي سَالِمًا وَحْدَهُ فِي الْأَلْفِ الَّتِي لَكَ عَلَيَّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ، وَيَكُونُ سَالِمٌ وَحْدَهُ رَهْنًا فِي الْأَلْفِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَتْ قِيمَةُ سَالِمٍ وَحْدَهُ أَلْفًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ سَالِمٍ وَغَانِمٍ مَعًا أَلْفًا، فَالْقَوْلُ قول المرتهن ويكون سالم غانم رَهْنًا وَقَدْ مَضَتِ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْحَقِّ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ الْمُرْتَهِنُ: بِعْتُكَ دَارِي بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ تَرْهَنَنِي سَالِمًا وَغَانِمًا، وَيَقُولُ الرَّاهِنُ: ابْتَعْتُ دَارَكَ بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ أُرْهِنَكَ سَالِمًا دُونَ غانم، فإنهما يتحالفان ثم يكون البائع في البيع بالخيار بين إمضائه برهن سالم وحده وبين فسخه.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ اخْتِلَافُهُمَا فِي صفة الرهن وعينه، فعلى ضربين أيضا: أحدهما: أن يكون بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْحَقِّ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ الْمُرْتَهِنُ: رهنتني عبدك سالما فِي الْأَلْفِ الَّتِي لِي عَلَيْكَ، وَيَقُولُ الرَّاهِنُ: رهنتك عبدي غانما فِي الْأَلْفِ الَّتِي لَكَ عَلَيَّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ، بِاللَّهِ مَا رَهَنَهُ سَالِمًا، فإذا حلف خرج سالم بيمين الراهن، ولم يكن غانم في الرهن لإنكار المرتهن.
والضرب الثاني: أن يكون قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْحَقِّ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ الْمُرْتَهِنُ: بعتك داري بألف على أن ترهنني عبدك سالما، وَيَقُولُ الرَّاهِنُ: ابْتَعْتُ دَارَكَ بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ أرهنك عبدي غانما، فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ فإذا حلفا لم يكن سالم ولا غانم رهنا، والمرتهن بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ وَبَيْنَ فَسْخِهِ، فهذا حكم اختلافهما في الرهن، فإن اختلفا في الحق والرهن معا، كان اختلافهما في الحق على ما وصفنا وفي الرهن على ما بينا، وهذه مقدمة أوضحنا بها شرح المذهب، لنبني عليها كلام المزني واختلاف أصحابنا في تأويله.
(فَصْلٌ)
قَالَ الْمُزَنِيُّ: وَجُمْلَةُ قَوْلِهِ فِي اخْتِلَافِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ فِي الْحَقِّ وَالْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ، أَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ فِي الْحَقِّ فَصَحِيحٌ مُطَّرِدٌ، لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَوْ قَالَ الْحَقُّ أَلْفٌ وَقَالَ الرَّاهِنُ الْحَقُّ خَمْسُمِائَةٍ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ فِي الْحَقِّ أَنَّهُ خَمْسُمِائَةٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ، فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَوِ ادَّعَى فِي الْحَقِّ رَهْنًا، وَأَنْكَرَهُ الرَّاهِنُ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ، وَلَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِ مُرَادِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ مُرَادَهُ بِهِ إِذَا اخْتَلَفَا فِي الرَّهْنِ بَعْدَ تَلَفِهِ. فَقَالَ الرَّاهِنُ: تَلِفَ الرَّهْنُ بِتَعَدِّيكَ

(6/195)


أَيُّهَا الْمُرْتَهِنُ وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: تَلِفَ بِغَيْرِ تَعَدٍّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ أَنَّهُ تَلِفَ بِغَيْرِ تَعَدٍّ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: مُرَادُ الْمُزَنِيِّ بِهِ إِذَا اخْتَلَفَا بَعْدَ تَلَفِ الرَّهْنِ بِالتَّعَدِّي، فِي قَدْرِ قِيمَتِهِ، فَقَالَ الرَّاهِنُ: قِيمَتُهُ أَلْفٌ وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ قِيمَتُهُ مِائَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ مَعَ يَمِينِهِ، بِاللَّهِ أَنَّ قِيمَتَهُ مِائَةٌ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: هُوَ أَصَحُّ الْمَذَاهِبِ، أَنَّ مُرَادَهُ إِذَا اخْتَلَفَا فِي الْبَيْعِ، فَقَالَ الرَّاهِنُ: ابْتَعْتُهُ بِلَا رَهْنٍ، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: مَا بِعْتُكَ إِلَّا بِرَهْنٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ فِي الْحَقِّ أَنَّهُ لَزِمَهُ بِغَيْرِ رَهْنٍ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ أَنَّهُ وَثِيقَةٌ فِي الْحَقِّ.
أَلَا تَرَاهُ قَالَ بَعْدَهُ: وَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ، وَهُمَا لَا يَتَحَالَفَانِ إِلَّا فِي مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ، فَأَمَّا فِي تَلَفِهِ بِتَعَدٍّ أَوْ غَيْرِ تَعَدٍّ فَإِنَّمَا يَحْلِفُ أَحَدُهُمَا، فَأَمَّا قَوْلُ الْمُزَنِيِّ فِيمَا يُشْبِهُ وَلَا يُشْبِهُ، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الرَّدَّ عَلَى مَالِكٍ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنَ اعْتِبَارِ الْعَادَةِ مِنْ قِيمَةِ الرَّهْنِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِرَجُلَيْنِ رَهَنْتُمَانِي عَبْدَكُمَا هَذَا بِمِائَةٍ وَقَبَضْتُهُ مِنْكُمَا فَصَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ كَانَ نِصْفُهُ رَهْنًا بِخَمْسِينَ وَنِصْفُهُ خَارِجًا مِنَ الرَّهْنِ فَإِنْ شَهِدَ شَرِيكُ صَاحِبِ نِصْفِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ بِدَعْوَى الْمُرْتَهِنِ وَكَانَ عَدْلًا حَلَفَ الْمُرْتَهِنُ مَعَهُ وَكَانَ نَصِيبُهُ مِنْهُ رَهْنًا بِخَمْسِينَ وَلَا مَعْنَى فِي شَهَادَتِهِ نَرُدُّهَا بِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلَيْنِ، أَنَّهُمَا رَهَنَاهُ عَبْدَهُمَا سَالِمًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ لَهُ عَلَيْهِمَا، لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا فِي الدَّعْوَى مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُصَدِّقَاهُ عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ الْعَبْدُ رَهْنًا لَهُمَا عِنْدَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَيْهِمَا لَهُ، فَيَكُونُ نِصْفُ الْعَبْدِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَهْنًا عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا، فَإِذَا قَضَاهُ أَحَدُهُمَا مَا عَلَيْهِ، خَرَجَ نِصْفُ الْعَبْدِ مِنَ الرَّهْنِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُكَذِّبَاهُ عَلَيْهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا مَعَ أَيْمَانِهِمَا، فَإِذَا حَلَفَا لَمْ يَكُنِ الْعَبْدُ رَهْنًا، فَإِنْ كَانَا يَعْتَرِفَانِ بِالْحَقِّ وَيُنْكِرَانِ الرَّهْنَ، كَانَ الْحَقُّ عَلَيْهِمَا بِلَا رَهْنٍ، وَإِنْ كَانَا يُنْكِرَانِ الْحَقَّ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا وَنَكَلَ الْآخَرُ، بَدَأَ الْحَالِفُ بِيَمِينِهِ وَرُدَّتْ يَمِينُ النَّاكِلِ عَلَى الْمُدَّعِي فَإِذَا حَلَفَ حُكِمَ لَهُ بِدَعْوَاهُ، وَإِنْ نَكَلَا مَعًا رُدَّتْ يَمِينُهُمَا عَلَى الْمُدَّعِي، فَيَحْلِفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينًا، فَإِذَا حَلَفَ لَهُمَا حُكِمَ عَلَيْهِمَا بِدَعْوَاهُ، وَكَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِمَا ادَّعَاهُ.

(6/196)


وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، أَنْ يُصَدِّقَهُ أَحَدُهُمَا وَيُكَذِّبَهُ الْآخَرُ، فَتَكُونُ حِصَّةُ الْمُصَدِّقِ مِنْهُمَا وَهِيَ نِصْفُ الْعَبْدِ رَهْنًا عَلَى خَمْسِينَ، وَعَلَى الْمُكَذِّبِ الْيَمِينُ، فَإِنْ حَلَفَ، كَانَتْ حِصَّتُهُ خَارِجَةً مِنَ الرَّهْنِ، وَإِنْ نَكَلَ الْمُكَذِّبُ، رُدَّتْ يَمِينُهُ عَلَى الْمُدَّعِي، فَإِذَا حَلَفَ حُكِمَ لَهُ بِدَعْوَاهُ وَصَارَ جَمِيعُ الْعَبْدِ رَهْنًا بِمِائَةٍ، نِصْفُهُ بِتَصْدِيقِ أَحَدِهِمَا بِخَمْسِينَ. وَنِصْفُهُ الْآخَرُ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي بَعْدَ نُكُولِ الْمُكَذِّبِ مِنْهُمَا رَهْنٌ بِخَمْسِينَ، فَأَيُّهُمَا قَضَاهُ خَمْسِينَ، خَرَجَتْ حِصَّتُهُ مِنَ الرَّهْنِ، وَهِيَ نِصْفُ الْعَبْدِ، وَكَانَتْ حِصَّةُ الْآخَرِ بَاقِيَةً مِنَ الرَّهْنِ، فَلَوْ كَانَ الْمُصَدِّقُ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ عَدْلًا، جَازَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَرِيكِهِ الْمُكَذِّبِ، لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ لَا تَجُرُّ لَهُ نَفْعًا وَلَا تَدْفَعُ عَنْهُ ضَرَرًا، فَلَمْ يَكُنْ لِرَدِّ شَهَادَتِهِ مَعْنًى، فَإِنْ شَهِدَ مَعَهُ عَدْلٌ آخَرُ أَوِ امْرَأَتَانِ أَوْ حَلَفَ مَعَهُ الْمُدَّعِي، فَقَدْ كَمُلَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُكَذِّبِ وَصَارَ جَمِيعُ الْعَبْدِ رَهْنًا لَهُمَا عِنْدَهُ عَلَى مِائَةٍ نِصْفُهُ بِالتَّصْدِيقِ وَنِصْفُهُ بِالْبَيِّنَةِ.

(فَصْلٌ)
فَلَوِ ادَّعَى رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ، أَنَّهُ رَهَنَهُمَا عَبْدَهُ عَلَى مِائَةٍ لَهُمَا عَلَيْهِ، فَصَدَّقَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، كَانَ نِصْفُهُ رَهْنًا عِنْدَ الْمُصَدِّقِ، وَحَلَفَ الْمُكَذِّبُ فَلَوْ أَرَادَ الْمُصَدِّقُ وَهُوَ عَدْلٌ أَنْ يَشْهَدَ لِصَاحِبِهِ عَلَى الْمُنْكِرِ، لَمْ يَجُزْ إِذَا كَانَا شَرِيكَيْنِ، لِأَنَّهُ يَجُرُّ بِشَهَادَتِهِ نَفْعًا إِلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ يَشْهَدُ لِشَرِيكِهِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى يَشْهَدُ عَلَى شَرِيكِهِ.
(فَصْلٌ)
فَلَوِ ادَّعَى رَجُلَانِ عَلَى رَجُلَيْنِ فِي عَبْدٍ بَيْنَهُمَا أَنَّهُمَا رَهَنَاهُمَا عَبْدَهُمَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ لَهُمَا فَصَدَّقَا أَحَدَ الْمُدَّعِيَيْنِ، كَانَ نِصْفُ الْعَبْدِ رَهْنًا عِنْدَ الْمُصَدِّقِ مِنْهُمَا عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبْعُهُ رَهْنًا عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الرَّاهِنَيْنِ أَنْ يَحْلِفَا لِلْمُكَذِّبِ مِنَ الْمُرْتَهِنَيْنِ، فَإِنْ حَلَفَا، كَانَ نِصْفُهُ بَيْنَهُمَا خَارِجًا مِنَ الرَّهْنِ.
فَلَوْ كَانَ الْمُصَدِّقُ مِنَ الْمُرْتَهِنَيْنِ عَدْلًا، جَازَ أَنْ يَشْهَدَ لِلْمُرْتَهِنِ الْمُكَذِّبِ عَلَى الرَّاهِنَيْنِ، لِأَنَّ شَهَادَتَهُ لَا تَجُرُّ إِلَيْهِ نَفْعًا، وَلَا تَدْفَعُ عَنْهُ ضَرَرًا، فَإِذَا شَهِدَ حَلَفَ مَعَهُ الْمُرْتَهِنُ الْمُكَذِّبُ، وَصَارَ جَمِيعُ الْعَبْدِ رَهْنًا عِنْدَهُمَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ، نِصْفُهُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ الْمُصَدِّقِ رَهْنٌ عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا بِتَصْدِيقِ الرَّاهِنَيْنِ وَنِصْفُهُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ الْمُكَذِّبِ رَهْنٌ عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا، لِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الرَّاهِنَيْنِ، فَلَوْ صَدَّقَ أَحَدُ الرَّاهِنَيْنِ الْمُرْتَهِنَيْنِ مَعًا، وَكَذَّبَ الرَّاهِنُ الْآخَرُ الْمُرْتَهِنَيْنِ مَعًا، كَانَ نِصْفُ الْعَبْدِ وَهِيَ حِصَّةُ الْمُصَدِّقِ مِنَ الرَّاهِنَيْنِ رَهْنًا عِنْدَ الْمُرْتَهِنَيْنِ عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبْعُهُ رَهْنٌ عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَالنِّصْفُ الثَّانِي مِنَ الْعَبْدِ وَهِيَ حِصَّةُ الْمُكَذِّبِ خَارِجَةٌ مِنَ الرَّهْنِ إِذَا حَلَفَ.
فَلَوْ صَدَّقَ أَحَدُ الرَّاهِنَيْنِ أَحَدَ الْمُرْتَهِنَيْنِ وَكَذَّبَ الْمُرْتَهِنُ الْآخَرُ، وَكَذَّبَ الرَّاهِنُ الْآخَرُ الْمُرْتَهِنَيْنِ مَعًا، كَانَ رُبْعُ الْعَبْدِ وَهِيَ نِصْفُ حِصَّةِ الرَّاهِنِ الْمُصَدِّقِ رَهْنًا عِنْدَ الْمُصَدَّقِ مِنْ

(6/197)


الْمُرْتَهِنَيْنِ عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ خَارِجَةٌ مِنَ الرَّهْنِ نِصْفُهُ لِمُكَذِّبِ الْمُرْتَهِنَيْنِ وَرُبْعُهُ لِمُكَذِّبِ أَحَدِ الْمُرْتَهِنَيْنِ.
فَلَوْ صَدَّقَ أَحَدُ الرَّاهِنَيْنِ أَحَدَ الْمُرْتَهِنَيْنِ، وَصَدَّقَ الرَّاهِنُ الْآخَرُ الْمُرْتَهِنَ الْآخَرَ، وَكَذَّبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الرَّاهِنَيْنِ مَنْ صَدَّقَهُ صَاحِبُهُ، كَانَ نِصْفُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُوَ الرُّبُعُ رَهْنًا عِنْدَ مَنْ صَدَّقَهُ عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَنْ كَذَّبَهُ.

(فَصْلٌ)
فَلَوِ ادَّعَى ثَلَاثَةٌ عَلَى ثَلَاثَةٍ فِي عَبْدٍ بَيْنَهُمْ أَنَّهُمْ رَهَنُوهُ عِنْدَهُمْ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ، فَصَدَّقُوا أَحَدَ الثَّلَاثَةِ: كَانَ ثُلُثُ الْعَبْدِ رَهْنًا عِنْدَ الْمُصَدِّقِ مِنَ الثَّلَاثَةِ عَلَى ثُلُثِ الْمِائَةِ لِثَلَاثَةِ أَنْفُسٍ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُ الثُّلُثِ، وَهُوَ تُسْعُ الرَّهْنِ، عِنْدَ الْمُصَدِّقِ عَلَى ثُلُثٍ مِنَ الْمِائَةِ، وَهُوَ تُسْعُ الْمِائَةِ، فَإِذَا قَضَاهُ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ مَا عَلَيْهِ وَهُوَ تُسْعُ الْمِائَةِ، خَرَجَتْ حِصَّتُهُ مِنَ الرَّهْنِ وَهِيَ تُسْعُ الْعَبْدِ، لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ إِذَا عَاقَدُوا ثَلَاثَةً، جَرَى عَلَى عَقْدِهِمْ حُكْمُ عُقُودٍ تِسْعَةٍ، فَلَوْ صَدَّقَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ جَمِيعَ الثَّلَاثَةِ، كَانَتْ حِصَّةُ الْمُصَدِّقِ وَهِيَ ثُلُثُ الْعَبْدِ رَهْنًا عِنْدَ الثَّلَاثَةِ عَلَى ثُلُثِ الْمِائَةِ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تُسْعُ الْعَبْدِ رَهْنٌ عَلَى تُسْعِ الْمِائَةِ.
(فَصْلٌ)
فَلَوِ ادَّعَى أَرْبَعَةٌ عَلَى أَرْبَعَةٍ فِي عَبْدٍ بَيْنَهُمْ أَنَّهُمْ رَهَنُوهُ عِنْدَهُمْ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ، فَصَدَّقَ جَمِيعُ الْأَرْبَعَةِ. أَحَدَ الْأَرْبَعَةِ كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا عِنْدَ الْمُصَدَّقِ مِنَ الْأَرْبَعَةِ عَلَى رُبْعِ الْمِائَةِ لِأَرْبَعَةِ أَنْفُسٍ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَرْبَعَةِ رُبْعُ الْعَبْدِ وَاحِدٌ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ رَهْنٌ فِي رُبْعِ رُبْعِ الْمِائَةِ سِتَّةُ دَرَاهِمَ وَرُبْعٌ، فَلَوْ صَدَّقَ أَحَدُ الْأَرْبَعَةِ جَمِيعَ الأربعة، كانت حصة المصدق وهي ربع العبد رَهْنًا عِنْدَ الْأَرْبَعَةِ عَلَى رُبْعِ الْمِائَةِ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رُبْعُ رُبْعِ الْعَبْدِ وَاحِدٌ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ رَهْنٌ عَلَى رُبْعِ رُبْعِ سِتَّةِ دَرَاهِمَ وَرُبْعٍ.
(فَصْلٌ)
فَلَوِ ادَّعَى ثَلَاثَةٌ عَلَى أَرْبَعَةٍ فِي عَبْدٍ بَيْنَهُمْ، أَنَّهُمْ رَهَنُوهُ عِنْدَهُمْ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ، فَصَدَّقَ جَمِيعُ الْأَرْبَعَةِ أَحَدَ الثَّلَاثَةِ كَانَ ثُلُثُ الْعَبْدِ رَهْنًا لِلْأَرْبَعَةِ عند المصدق من الثلاثة على ثلث المائة لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَرْبَعَةِ رُبْعُ ثُلُثِ الْعَبْدِ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ رَهْنٌ عَلَى رُبْعِ ثُلُثِ الْمِائَةِ ثَمَانِيَةِ دَرَاهِمَ وَثُلُثٍ.
فَلَوْ صَدَّقَ أَحَدُ الأربعة جميع الأربعة كانت حصة المصدق وهي رُبْعُ الْعَبْدِ رَهْنًا عِنْدَ الثَّلَاثَةِ عَلَى رُبْعِ الْمِائَةِ، عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُ رُبْعِ الْعَبْدِ وَاحِدٌ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ رَهْنٌ عَلَى ثُلُثِ الْمِائَةِ ثَمَانِيَةِ دَرَاهِمَ وَثُلُثٍ، فَهَذِهِ فُصُولٌ كَافِيَةٌ وَفُرُوعٌ مُقْنِعَةٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا كَانَتْ لَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفَانِ إِحْدَاهُمَا بِرَهْنٍ وَالْأُخْرَى بِغَيْرِ رَهْنٍ فَقَضَاهُ أَلْفًا ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْقَاضِي هِيَ الَّتِي فِي الرَهْنِ وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ هِيَ الَّتِي بِلَا رَهْنٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاضِي مَعَ يَمِينِهِ ".

(6/198)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ عَلَيْهِ لِرَجُلٍ أَلْفَانِ، أَحَدُهُمَا بِرَهْنٍ وَالْآخَرُ بِغَيْرِ رَهْنٍ، فَقَضَاهُ مِنَ الْأَلْفَيْنِ أَلْفًا، فَإِنْ جَعَلَهَا قَضَاءً فِي الْأَلْفِ الَّتِي فِيهَا الرَّهْنُ، كَانَتْ كَذَلِكَ، وَخَرَجَ الرَّهْنُ مِنْ وَثِيقَةِ الْمُرْتَهِنِ، وَإِنْ جَعَلَهَا قَضَاءً مِنَ الْأَلْفِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا الرَّهْنُ، كَانَتْ كَذَلِكَ، وَكَانَ الرَّاهِنُ عَلَى حَالِهِ في الألف الأخرى وثيقة للمرتهن.
فإن دَفَعَهَا مُطْلَقَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَيِّنَهَا فِي أَيِّ الْأَلْفَيْنِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ المروزي: إن لَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا قَضَاءً فِي أَيِّ الْأَلْفَيْنِ شَاءَ، كَمَا لَوْ طَلَّقَ إِحْدَى امْرَأَتَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَعَيُّنٍ، كَانَ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَ الطَّلَاقَ فِي أَيِّهِمَا شَاءَ، فَعَلَى هَذَا إِنْ شَاءَ أَنْ يَجْعَلَهَا قَضَاءً مِنَ الْأَلْفِ الَّتِي فِيهَا الرَّهْنُ، كَانَ ذَلِكَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَجْعَلَهَا قَضَاءً مِنَ الْأَلْفِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا الرَّهْنُ فَذَلِكَ لَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا تكون قَضَاءً فِي الْأَلْفَيْنِ مَعًا، فَيَكُونُ نِصْفُهَا قَضَاءً مِنَ الْأَلْفِ الَّتِي فِيهَا الرَّهْنُ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ قضاء من الألف التي ليس فيها الرهن، لِاسْتِوَاءِ الْأَلْفَيْنِ وَحُصُولِ الْإِبْرَاءِ بِالدَّفْعِ، فَلَمْ تَكُنْ إِحْدَى الْأَلْفَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْأُخْرَى.
فَعَلَى هَذَا وَلَوِ اتَّفَقَا بَعْدَ الدَّفْعِ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأَلْفُ قَضَاءً مِنْ إِحْدَى الْأَلْفَيْنِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَتُعْتَبَرُ الْأَلْفُ الْمَدْفُوعَةُ قَضَاءً فِيمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ مِنَ الْأَلْفَيْنِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ الدَّفْعِ، جَازَ ذَلِكَ لَهُ بَعْدَ الدَّفْعِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ، أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ قَدْ حَصَلَ بِالدَّفْعِ، فَإِذَا كَانَ الدَّفْعُ قَدْ جَعَلَهَا مِنَ الْأَلْفَيْنِ نِصْفَيْنِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ بِاتِّفَاقِهِمَا قَضَاءً مِنْ إِحْدَى الْأَلْفَيْنِ، لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ نَقْلَ دَيْنٍ بِدَيْنٍ.

(فَصْلٌ)
فَلَوْ دَفَعَ الْأَلْفَ قَضَاءً مِنْ إِحْدَى الْأَلْفَيْنِ، ثُمَّ اخْتَلَفَا، فَقَالَ الدَّافِعُ الْقَاضِي: دَفَعْتُهَا قَضَاءً مِنَ الْأَلْفِ الَّتِي بِرَهْنٍ، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: بَلْ دَفَعْتَهَا مِنَ الْأَلْفِ الَّتِي بَلَا رَهْنٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ الْقَاضِي، لِأَنَّهُ بِالدَّفْعِ مُزِيلٌ لِمِلْكِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي صِفَةِ إِزَالَةِ مِلْكِهِ كَسَائِرِ الْأَمْلَاكِ، وَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ الْقَاضِي، لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُرْتَهِنِ الْقَابِضِ مِنْ أحد أمرين، إما أن يدعي على القاضي، أَنَّهُ صَرَّحَ لَهُ عِنْدَ الدَّفْعِ أَنَّهَا الَّتِي بَلَا رَهْنٍ، أَوْ لَا يَدَّعِي ذَلِكَ، فَإِنِ ادَّعَى أَنَّهُ صَرَّحَ لَهُ بِذَلِكَ عِنْدَ الدَّفْعِ، وَجَبَ عَلَى الرَّاهِنِ الْقَاضِي الْيَمِينُ، بِاللَّهِ أَنَّهُ دَفَعَهَا قَضَاءً مِنَ الَّتِي فِيهَا الرَّهْنُ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ أَنَّهُ صَرَّحَ بِذَلِكَ عِنْدَ

(6/199)


الدَّفْعِ، وَسَأَلَ يَمِينَهُ، فَفِي الْيَمِينِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، أَنَّ الْيَمِينَ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ لِإِنْكَارِ مَا ادَّعَى عَلَيْهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ لَا يَمِينَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ عَدَمَ التَّصْرِيحِ بِهِ يُوجِبُ الرُّجُوعَ إِلَى مُرَادِهِ، وَمُرَادُهُ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِإِخْبَارِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْقَابِضِ سَبِيلٌ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ.

(فَصْلٌ)
وَقَدْ يَتَفَرَّعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ جِهَةِ الْمُرْتَهِنِ أَنْ يُبَرِّئَ الرَّاهِنَ مِنْ إِحْدَى الْأَلْفَيْنِ، ثُمَّ يَخْتَلِفَانِ، فَيَقُولُ الْمُرْتَهِنُ: أَبْرَأْتُكَ مِنَ الْأَلْفِ الَّتِي لَا رَهْنَ فِيهَا، وَيَقُولُ الرَّاهِنُ: بَلْ أَبْرَأْتَنِي مِنَ الْأَلْفِ الَّتِي فِيهَا الرَّهْنُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ الْمُبَرِّئِ، لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ كَالْقَضَاءِ، فَلَمَّا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْقَاضِي وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُبَرِّئِ ثُمَّ الْكَلَامُ فِي الْيَمِينِ عَلَى مَا مَضَى.
(فَصْلٌ)
وَقَدْ يَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الضَّمَانِ أَنْ يَكُونَ عَلَى رَجُلٍ أَلْفَانِ، إِحْدَاهُمَا مَضْمُونَةٌ عَنْهُ وَالْأُخْرَى غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَنْهُ فَيَقْضِي إِحْدَى الْأَلْفَيْنِ، ثُمَّ يَخْتَلِفَانِ، فَيَقُولُ الْقَاضِي: قَضَيْتَ الْمَضْمُونَةَ عَنِّي، وَيَقُولُ الْقَابِضُ: بَلْ قَبَضْتُ غَيْرَ الْمَضْمُونَةِ عَنْكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاضِي مَعَ يَمِينِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
فَلَوْ أَنَّ صَاحِبَ الْأَلْفَيْنِ أَبْرَأَهُ مِنْ إِحْدَى الْأَلْفَيْنِ، ثُمَّ اخْتَلَفَا، فَقَالَ الْمُبَرِّئُ، أَبْرَأْتُكَ مِنَ الْأَلْفِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ، وَقَالَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ: أَبْرَأْتَنِي مِنَ الْأَلْفِ الْمَضْمُونَةِ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُبَرِّئِ وَالْكَلَامُ فِي يَمِينِهِ عَلَى مَا مَضَى، وَالدَّعْوَى عَلَى ذَلِكَ مَسْمُوعَةٌ مِنَ الضَّامِنِ دُونَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ.
(فَصْلٌ)
وَقَدْ يَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ، أَنْ يَكُونَ عَلَى الرَّجُلِ أَلْفَانِ أَحَدُهُمَا بِرَهْنٍ وَالْأُخْرَى بِضَمِينٍ فَيَقْضِي إِحْدَى الْأَلْفَيْنِ، ثُمَّ يَخْتَلِفُ الْقَاضِي وَالضَّامِنُ، فَيَقُولُ الْقَاضِي: قَضَيْتُ عَنِ الْأَلْفِ الَّتِي فِيهَا الرَّهْنُ فَقَدْ خَرَجَ الرَّهْنُ وَبَقِيَ الضَّمَانُ يَقُولُ الضَّامِنُ: بَلْ قَضَيْتَ الْأَلْفَ الَّتِي ضَمِنْتُهَا عَنْكَ فَقَدْ خَرَجَ الضَّمَانُ وَبَقِيَ الرَّهْنُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاضِي لِمَا ذَكَرْنَا وَالْكَلَامُ فِي يَمِينِهِ عَلَى مَا مَضَى، ثُمَّ لَا يَخْلُو صَاحِبُ الدَّيْنِ، مِنْ أَنْ يُصَدِّقَ الْقَاضِيَ أَوِ الضَّامِنَ، فَإِنْ صَدَّقَ الْقَاضِيَ، كَانَ الضَّمَانُ بِحَالِهِ، وَلَيْسَ لِلضَّامِنِ إِحْلَافُ صَاحِبِ الدَّيْنِ، وَإِنَّمَا لَهُ إِحْلَافُ الْقَاضِي.
وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الدَّيْنِ قَدْ صَدَّقَ الضَّامِنَ وَكَذَّبَ الْقَاضِيَ، كَانَ تَصْدِيقُهُ مَقْبُولًا عَلَى نَفْسِهِ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ وَبَرَاءَةِ الضَّامِنِ، وَلَا يَكُونُ مَقْبُولًا عَلَى الْقَاضِي فِي بَقَاءِ الرَّهْنِ، وَتَكُونُ الْأَلْفُ الثَّانِيَةُ لَهُ بِلَا رهن وضمين.

(6/200)


(فَصْلٌ)
وَقَدْ يَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ فِي الْقَضَاءِ وَالْإِبْرَاءِ، أَنْ يَكُونَ عَلَى رَجُلٍ أَلْفَانِ، إِحْدَاهُمَا بِرَهْنٍ وَالْأُخْرَى بِضَمِينٍ فَيَقْضِي ألفا ويبرؤه صَاحِبُ الْحَقِّ مِنْ أَلْفٍ، ثُمَّ يَخْتَلِفُ الْقَاضِي وَالْمُبَرِئُ، فَيَقُولُ الْقَاضِي قَضَيْتُكَ الْأَلْفَ الَّتِي فِيهَا الرَّهْنُ وَأَبْرَأْتَنِي مِنَ الَّتِي فِيهَا الضَّمِينُ، وَيَقُولُ الْمُبَرِئُ: أَبْرَأْتُكَ مِنَ الَّتِي فِيهَا الرَّهْنُ وَقَضَيْتَنِي الَّتِي فِيهَا الضَّمِينُ، فَهَذَا اخْتِلَافٌ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَا بِعَكْسِ ذَلِكَ، لِحُصُولِ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْأَلْفَيْنِ مَعًا، بِالْقَضَاءِ وَالْإِبْرَاءِ، وَخُرُوجِ الرَّهْنِ والضمين، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ الْقَاضِي: قَضَيْتُكَ الَّتِي فِيهَا الرَّهْنُ وَأَبْرَأْتَنِي مِنَ الَّتِي فِيهَا الضَّمِينُ، وَقَالَ الْمُبَرِئُ: بَلْ أَبْرَأْتُكَ مِنَ الَّتِي فِيهَا الرَّهْنُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاضِي فِي قَضَائِهِ، وَقَوْلُ الْمُبَرِئِ فِي إِبْرَائِهِ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْإِبْرَاءِ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَضَاءِ فَلَا تَأْثِيرَ لِوُقُوعِ الْإِبْرَاءِ قَبْلَهُ بِالْقَضَاءِ، وَتَكُونُ الْأَلْفُ الَّتِي فِيهَا الضَّمِينُ بَاقِيَةً، وَإِنْ كَانَ الْإِبْرَاءُ كَانَ مَا دَفَعَهُ مِنَ الْقَضَاءِ مَنْقُولًا عَمَّا فِيهِ الرَّهْنُ لِتَقَدُّمِ الْبَرَاءَةِ مِنْهُ، إِلَى مَا فِيهِ الضَّمِينُ لِبَقَائِهِ عليه، ويبرأ من الألفين والله أعلم.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ رَهَنْتُهُ هَذِهِ الدَّارَ الَّتِي فِي يَدَيْهِ بِأَلْفٍ وَلَمْ أَدْفَعْهَا إِلَيْهِ فَغَصَبَنِيهَا أَوْ تَكَارَاهَا مِنِّي رَجُلٌ وَأَنْزَلَهُ فِيهَا أَوْ تَكَارَاهَا هُوَ مِنِّي فَنَزَلَهَا وَلَمْ أُسْلِمْهَا رَهْنًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
إِذَا ادَّعَى رَجُلٌ دَارًا فِي يَدِهِ أَنَّهَا مَرْهُونَةٌ عِنْدَهُ عَلَى أَلْفٍ لَهُ عَلَى مَالِكِهَا، وَقَالَ الْمَالِكُ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ رَهَنْتُهُ الدَّارَ بِهَا، غَيْرَ أَنَّنِي لَمْ أُقْبِضْهُ إِيَّاهَا، وَإِنَّمَا غَصَبَنِيهَا أَوْ تَكَارَاهَا أَوِ اسْتَعَارَهَا أَوْ تَكَارَاهَا رَجُلٌ فَأَنْزَلَهُ بِهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَالِكِهَا مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ فَكَانَ الْخُلْفُ فِي الْقَبْضِ، خُلْفًا فِي أَصْلِ الْعَقْدِ، وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي عَقْدِ الرَّهْنِ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ وَكَذَلِكَ إِذَا اخْتَلَفَا فِي الْقَبْضِ بَعْدَ الْعَقْدِ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الرَّاهِنِ، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ لَوِ اشْتَرَى رَجُلٌ دَارًا ثُمَّ وُجِدَتِ الدَّارُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَقَالَ الْمُشْتَرِي: أَقْبَضَنِيهَا وَقَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُهُ وَلَمْ أَقْبِضْ، لَكِنْ غَصَبَنِيهَا، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي لِحُصُولِ يَدِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُسْتَأْجِرُ إِذَا كَانَتِ الدَّارُ فِي يَدِهِ، وَقَالَ أَقْبَضَنِيهَا الْمُؤَجِّرُ، وَقَالَ الْمُؤَجِّرُ: بَلْ غَصَبَنِيهَا الْمُسْتَأْجِرُ لِحُصُولِ يَدِهِ فَهَلَّا كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْمُرْتَهِنِ فِي قَبْضِ الْمَرْهُونِ لِحُصُولِ يَدِهِ.
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، أَنَّ الْقَبْضَ فِي الرَّهْنِ شَرْطٌ في تمامه لا يصح أن يجبر عَلَى الرَّاهِنِ، وَلَيْسَتْ يَدُ الْمُرْتَهِنِ دَلِيلًا عَلَى اخْتِيَارِهِ، وَالْقَبْضُ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَاجِبٌ يُجْبَرُ عَلَيْهِ الْبَائِعُ وَالْمُؤَجِّرُ، فَكَانَتْ يَدُ الْمُشْتَرِي وَالْمُسْتَأْجِرِ دَلِيلًا عَلَى حُصُولِهِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى تَعْلِيلِ هَذَا الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِجَارَةِ، وَالرَّهْنِ، أَنَّ إِجَارَةَ الرَّهْنِ مِنْ مُرْتَهِنِهِ جَائِزَةٌ، وَلَا تَحْتَاجُ إِلَى قَبْضٍ لكونها في

(6/201)


قبضه، ورهن ما في الإجارة من مستأجره جَائِزٌ، وَيَحْتَاجُ إِلَى قَبْضٍ، وَإِنْ كَانَ فِي قَبْضِهِ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ قَبْضَ الْإِجَارَةِ يَصِحُّ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَقَبْضَ الرَّهْنِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِإِذْنٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(6/202)


(باب انتفاع الراهن بما يرهنه)
" قال حدثنا إبراهيم بن محمد قال أخبرني المزني قال (قال الشافعي) وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال " الرهن مركوب ومحلوب " (قال) ومعنى هذا القول أَنَّ مَنْ رَهَنَ ذَاتَ دَرٍّ وَظَهْرٍ لَمْ يمنع الراهن من ظهرها ودرها وأصل المعرفة بهذا الباب أن للمرتهن حقا في رقبة الرهن دون غيره وما يحدث مما يتميز منه غيره ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ نَمَاءُ الرَّهْنِ وَمَنَافِعُهُ مِنْ ثَمَرَةٍ وَنِتَاجٍ وَدَرٍّ وَرُكُوبٍ وَسُكْنَى، مِلْكٌ لِلرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ، سَوَاءٌ أَنْفَقَ عَلَى الرَّهْنِ أَمْ لَا.
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وأبي حنيفة.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: جَمِيعُ نَمَاءِ الرَّهْنِ وَسَائِرُ مَنَافِعِهِ مِلْكُ الْمُرْتَهِنِ دُونَ الرَّاهِنِ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْمُنْفِقُ عَلَى الرَّهْنِ أَمْ لا.
وقال أبو ثور: إذا كان الراهن هو الذي ينفق على الرهن، فالنماء والمنافع له.
وإذا كان المرتهن هُوَ الْمُنْفِقُ عَلَى الرَّهْنِ، فَالنَّمَاءُ وَالْمَنَافِعُ لَهُ.
فَأَمَّا أَحْمَدُ فَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الرَّهْنُ مَحْلُوبٌ وَمَرْكُوبٌ " وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ عَلَّقَ عَلَى الرَّهْنِ هَذَا الْحُكْمَ، لَمَّا حَدَثَ عَقْدُ الرهن، فلم يجز أن يكون الحلب وَالرُّكُوبُ مُضَافًا إِلَى الرَّاهِنِ، لِأَنَّ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ الرَّهْنِ، فَعَلِمَ أَنَّهُ أَضَافَ ذَلِكَ إِلَى الْمُرْتَهِنِ، لِيَصِيرَ حُكْمُهُ مُسْتَفَادًا بِالرَّهْنِ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ كَالْبَيْعِ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدٌ عَلَى مِلْكٍ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ عَقْدُ الْبَيْعِ يَجْعَلُ نَمَاءَ الْمَبِيعِ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَقْدُ الرَّهْنِ يَجْعَلُ نَمَاءَ الْمَبِيعِ مِلْكًا لِلْمُرْتَهِنِ.
وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ فَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " الرَّهْنُ يُرْكَبُ

(6/203)


بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ " قَالَ: فَجَعَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - النَّمَاءَ تَبَعًا لِلنَّفَقَةِ، فَعَلِمَ أَنَّهَا مِلْكٌ لِمَنْ تَوَلَّى النَّفَقَةَ، قَالَ: وَلِأَنَّ النَّمَاءَ فِي مُقَابَلَةِ النَّفَقَةِ لِأَنَّ النَّفَقَةَ نَقْصٌ وَغُرْمٌ وَالنَّمَاءَ زِيَادَةٌ وَكَسْبٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَسْبُ النَّمَاءِ لِمَنْ جُعِلَ عَلَيْهِ نَقْصُ النَّفَقَةِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهَا حَدِيثُ ابن المسيب مرسلا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ رَاهِنِهِ الَذِي رَهَنَهُ لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ.
فَجَعَلَ لِمَالِكِ الرَّهْنِ غُنْمَهُ مِنْ نَمَاءٍ وَزِيَادَةٍ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ غرمه من مؤونة وَنَقْصٍ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ مِلْكٌ، كَانَ لَهُ نَمَاءُ ذَلِكَ الْمِلْكِ لِأَنَّ الْفُرُوعَ تَابِعَةٌ لِلْأُصُولِ، فَلَمَّا كَانَ الرَّهْنُ عَلَى مِلْكِ الراهن، وجب أن يكون النماء على ملك الراهن كَسَائِرِ الْأَمْلَاكِ وَلِأَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ عَلَيْهِ لِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنْهُ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ تَمَلُّكَ الْمَنَافِعِ كَحَبْسِ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ قَدْ تَعَلَّقَ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ كَتَعَلُّقِ الْجِنَايَةِ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ الْجَانِي، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ تعلق حق الجناية بالرقبة موجبا لتملك الْمَنَافِعِ، وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِالرَّهْنِ مُوجِبًا لِتَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الرَّهْنُ مَحْلُوبٌ وَمَرْكُوبٌ " فَيَعْنِي لِرَاهِنِهِ وَقَصَدَ بِهِ بَيَانَ الْحُكْمِ بِأَنَّ الرَّاهِنَ لَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِالْبَيْعِ فَالْبَيْعُ لَمَّا نَقَلَ مِلْكَ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي نَقَلَ نَمَاءَ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَلَمَّا لَمْ يَنْقُلْ عَقْدُ الرَّهْنِ الْمِلْكَ إِلَى الْمُرْتَهِنِ لَمْ يَنْقُلْ نَمَاءَ الرَّهْنِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو ثَوْرٍ مِنَ الْخَبَرِ فَالْمُرَادُ بِهِ الرَّاهِنُ بِدَلِيلَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: الرَّهْنُ مِنْ رَاهِنِهِ الَذِي رَهَنَهُ لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ مِلْكًا لِمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ وَلَمْ يَجْعَلْهُ لِمَنْ تَطَوَّعَ بِالنَّفَقَةِ. وَالنَّفَقَةُ واجبة على الرهن دُونَ الْمُرْتَهِنِ.
فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِدَلِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ، النَّمَاءُ وَاجِبًا لِلرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ، وَهُوَ جَوَابٌ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّمَاءَ مِلْكٌ لِلرَّاهِنِ فَالْكَلَامُ فِي خُرُوجِهِ مِنَ الرَّهْنِ وَخِلَافِ مَالِكٍ وأبي حنيفة فِيهِ يَأْتِي مِنْ بعد.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَكَذَلِكَ سُكْنَى الدُّورِ وَزُرُوعُ الْأَرَضِينَ وَغَيْرُهَا ".

(6/204)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَنَّ نماء الرهن ومنافعه ملك للراهن دون المرتهن، فَقَدَّمَ الشَّافِعِيُّ سُكْنَى الدُّورِ وَزُرُوعَ الْأَرَضِينَ فَإِنْ كان الرهن دارا فللراهن حالات، حَالٌ يُرِيدُ سُكْنَاهَا وَحَالٌ يُرِيدُ إِجَارَتَهَا، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْكُنَهَا فَمَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي كُتُبِهِ الْجَدِيدَةِ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ وَلَا يُمْنَعُ مِنْ سُكْنَاهَا مُدَّةَ الرَّهْنِ، فَإِذَا حَلَّ الْحَقُّ بِيعَتْ فِيهِ.
وَقَالَ فِي الرَّهْنِ الصَّغِيرِ وَالرَّهْنِ الْقَدِيمِ: يُمْنَعُ مِنْ سُكْنَاهَا إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ الْمُرْتَهِنُ، وَقِيلَ: لَكَ أَنْ تُؤْجِرَهَا غَيْرَكَ وَلَا تَسْكُنَهَا بِنَفْسِكَ.
فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُخَرِّجُهَا عَلَى قولين.
وقال آخرون وهذا الصَّحِيحُ: إِنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ، فَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَجَازَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَسْكُنَهَا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ وَغَيْرِ إِذْنِهِ إِذَا كَانَ ثِقَةً يُؤْمَنُ جُحُودُهُ وَالْمَوْضِعُ الَّذِي مَنَعَ الرَّاهِنَ أَنْ يَسْكُنَهَا إِلَّا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ إِذَا كَانَ مُتَّهَمًا لَا يُؤْمَنُ جُحُودُهُ. فَإِنْ أَرَادَ الرَّاهِنُ إِجَارَتَهَا، فَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهَا مُدَّةَ الرَّهْنِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهَا، مِثَالُهُ أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ الرَّهْنِ وَأَجَلُ الْحَقِّ سَنَةً، فَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهَا سَنَةً فَمَا دُونَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهَا أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ فَإِنْ آجَرَهَا أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ قَدْ آجَرَهَا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، صَحَّتِ الْإِجَارَةُ وَلَزِمَتْ، وَإِنْ أَجَّرَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَفِي الْإِجَارَةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: جَائِزَةٌ.
وَالثَّانِي: غَيْرُ جَائِزَةٍ، بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي بَيْعِ الدَّارِ الْمُؤَاجَرَةِ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّ بَيْعَ الدَّارِ الْمُؤَاجَرَةِ جَائِزٌ، جَازَتِ الْمُؤَاجَرَةُ وَإِنْ قِيلَ إِنَّ بَيْعَ الدَّارِ الْمُؤَاجَرَةِ لَا يَجُوزُ لَمْ تَجُزِ الْإِجَارَةُ.
فَإِذَا قُلْنَا إِنَّ الْإِجَارَةَ غَيْرُ جَائِزَةٍ، فَهِيَ بَاطِلَةٌ فِيمَا زَادَ عَلَى السَّنَةِ، وَهَلْ تَبْطُلُ فِي السَّنَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، لِأَنَّهُ عَقْدٌ قَدْ جَمَعَ جَائِزًا وَغَيْرَ جَائِزٍ. وَإِذَا قُلْنَا الْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تُوكِسُ فِي ثَمَنِ الرَّهْنِ فَهِيَ لَازِمَةٌ فِي جَمِيعِ مُدَّتِهَا، وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ الِاعْتِرَاضُ، وَإِنْ كَانَتْ تُوكِسُ فِي ثَمَنِ الرَّهْنِ، بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ فِيمَا زَادَ عَلَى السَّنَةِ، وَهَلْ تَبْطُلُ فِي السَّنَةِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ، لِأَنَّ مَا فَعَلَهُ الرَّاهِنُ مِمَّا يُوكِسُ فِي ثَمَنِ الرَّهْنِ مَرْدُودٌ كَتَزْوِيجِ الْأَمَةِ، وَسَوَاءٌ رَضِيَ بِذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ فِيمَا بَعْدُ أَوْ لَمْ يَرْضَ.

(فَصْلٌ)
وَإِذَا كَانَ الرَّهْنُ أرضا. فللراهن حالات، حَالٌ يُرِيدُ إِجَارَتَهَا وَحَالٌ يُرِيدُ زِرَاعَتَهَا، فَإِنْ أَرَادَ إِجَارَتَهَا كَانَ عَلَى مَا مَضَى فِي إِجَارَةِ الدَّارِ، وَإِنْ أَرَادَ زِرَاعَتَهَا فَلَهُ ذَلِكَ قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ سُكْنَى الدَّارِ، فَإِنَّ لِلسَّاكِنِ يَدًا عَلَى الدَّارِ فَجَازَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ الرَّاهِنُ إِلَّا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، وَلَيْسَ لِلزَّارِعِ يَدٌ عَلَى الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا يَدُهُ عَلَى الزَّرْعِ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا الرَّاهِنُ.

(6/205)


وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يَزْرَعَهَا مَا يُحْصَدُ قَبْلَ مَحَلِّ الْحَقِّ أَوْ مَعَهُ، فَإِنْ زرعها ما يحصد يعد محل الحق ففيه قولان مبينان عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ الْمَزْرُوعَةِ دُونَ الزَّرْعِ.
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا مَزْرُوعَةً دُونَ الزَّرْعِ، فَعَلَى هَذَا يُمْنَعُ مِنْ زَرْعِهَا فَإِنْ زَرَعَ لَمْ يُقْلَعْ زَرْعُهُ قَبْلَ مَحَلِّ الْحَقِّ فَإِذَا حَلَّ الْحَقُّ أَخَذَ بِقَلْعِ الزَّرْعِ إِلَّا أَنْ يَخْتَارَ الْمُرْتَهِنُ تَأْخِيرَ حَقِّهِ إِلَى حَصَادِ الزَّرْعِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ بَيْعَ الْأَرْضِ الْمَزْرُوعَةِ جَائِزٌ فَعَلَى هَذَا لَا يُمْنَعُ مِنْ زَرْعِهَا، فَإِذَا زَرَعَهَا وَحَلَّ الْحَقُّ وَالزَّرْعُ قَائِمٌ فِيهَا، فَإِنْ قَضَاهُ الْحَقَّ تُرِكَ زَرْعُهُ فِي الْأَرْضِ، وَإِنْ لَمْ يَقْضِهِ حَقَّهُ بِيعَتِ الْأَرْضُ، وَإِنْ كَانَ فِي بَيْعِهَا مَعَ بَقَاءِ الزَّرْعِ فِيهَا، وَفَاءٌ لِلْحَقِّ، لَمْ يُؤْخَذْ بِقَلْعِ الزَّرْعِ وَبِيعَتِ الْأَرْضُ وَالزَّرْعُ فِيهَا قَائِمٌ، فَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ وَفَاءَ حَقِّهِ إِلَّا بِأَنْ يَقْلَعَ الزَّرْعَ، أَخَذَ بِقَلْعِهِ إِلَّا أَنْ يَجِدَ مَنْ يَشْتَرِيهَا مِنْهُ بِحَقِّهِ عَلَى أَنَّهُ يَقْلَعُ الزَّرْعَ، ثُمَّ يُقِرُّ الْمُشْتَرِي الزَّرْعَ فِي أَرْضِهِ إِنْ شَاءَ مُتَطَوِّعًا.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا إِنْ أَرَادَ أَنْ يَغْرِسَ الْأَرْضَ أَوْ يَبْنِيَ فِيهَا، فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ بَيْعَ بَيَاضِ الْأَرْضِ دُونَ غِرَاسِهَا وَبِنَائِهَا غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ الْغَرْسَ وَالْبِنَاءَ يُرَادُ بِهِ الِاسْتِدَامَةُ وَالْبَقَاءُ وَهُوَ يُوكِسُ قِيمَةَ الْأَرْضِ عَنْ حَالِهَا بَيْضَاءَ، فَإِنْ بَنَى أَوْ غَرَسَ لَمْ يُؤْخَذْ بِقَلْعِ غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ قَبْلَ مَحَلِّ الْحَقِّ كَمَا قُلْنَا فِي الزَّرْعِ، فَإِنْ حَلَّ الْحَقُّ وَكَانَ فِي بَيَاضِ الْأَرْضِ وَفَاءٌ بِالْحَقِّ بِيعَ الْبَيَاضُ مُفْرَدًا، وَأُقِرَّ الْغَرْسُ وَالْبِنَاءُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيَاضِ وَفَاءٌ بِالْحَقِّ، أُخِذَ بِقَلْعِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ وَبِيعَتِ الْأَرْضُ بَيْضَاءَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُفْلِسًا فَتُبَاعُ الْأَرْضُ مَعَ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ، وَيُدْفَعُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ مِنَ الثَّمَنِ مَا قَابَلَ قِيمَةَ الْأَرْضِ بَيْضَاءَ، وَيُدْفَعُ إِلَى الْغُرَمَاءِ مَا قَابَلَ قِيمَةَ الزَّرْعِ وَالْبِنَاءِ.
(فصل)
فَإِنْ أَرَادَ الرَّاهِنُ أَنْ يُحْدِثَ فِيهَا عَيْنًا أَوْ يَحْفِرَ فِيهَا بِئْرًا.
فَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ وَالْبِئْرُ يُزِيدَانِ فِيهَا وَلَا يُنْقِصَانِ ثَمَنَهَا، لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَا يُنْقِصَانِهَا قَبْلَ أَنْ يَكُونَا فِيهَا مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ.

(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي رضي الله عنه: " فللراهن أن يستخدم في الرهن عبده وَيَرْكَبَ دَوَابَّهُ وَيُؤَاجِرَهَا وَيَحْلِبَ دَرَّهَا وَيَجِزَّ صُوفَهَا وَتَأْوِيَ بِاللَّيْلِ إِلَى مُرْتَهِنِهَا أَوْ إِلَى يَدَيِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى يَدَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ

(6/206)


وَقَدْ مَنَعَ أبو حنيفة مِنَ اسْتِخْدَامِ الْعَبْدِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ وَإِجَارَتِهَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي اسْتِدَامَةِ قَبْضِ الرَّهْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي هَذَا الْأَصْلِ. فَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ عَبْدًا، فَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ كَالدَّارِ، فَأَمَّا اسْتِخْدَامُهُ فَإِنْ كَانَ ثِقَةً جَازَ لَهُ اسْتِخْدَامُهُ كَسُكْنَى الدَّارِ، وَقَدْ خَرَجَ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ اسْتِخْدَامُهُ بِنَفْسِهِ، كَمَا خَرَجَ فِي سُكْنَى الدَّارِ قَوْلٌ آخَرُ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُكْنَاهَا بِنَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ غَيْرَ ثِقَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِخْدَامُهُ بِنَفْسِهِ قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ سُكْنَى الدَّارِ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى إِخْفَاءِ الْعَبْدِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِخْفَاءِ الدَّارِ عَنْ مُرْتَهِنِهَا، فَإِذَا اسْتَخْدَمَهُ أَوْ آجَرَهُ لِلْخِدْمَةِ فَهُوَ كَالدَّارِ إِذَا سَكَنَهَا أَوْ آجَرَهَا لِلسُّكْنَى فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ إِلَّا فِي شَرْطٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ الدَّارَ لَهُ أَنْ يَسْكُنَهَا لَيْلًا وَنَهَارًا وَالْعَبْدَ لَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ نَهَارًا، وَيَرْجِعُ فِي اللَّيْلِ إِلَى يَدِ مُرْتَهِنِهِ أَوِ الْمَوْضُوعِ عَلَى يَدِهِ، لِأَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِاسْتِخْدَامِ الْعَبْدِ نَهَارًا دُونَ اللَّيْلِ، وَسُكْنَى الدَّارِ فِي النَّهَارِ وَاللَّيْلِ، وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ دَابَّةً فَهُوَ فِي حُكْمِ الْعَبْدِ سَوَاءٌ، لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهَا، وَإِنْ كَانَ ثِقَةً فَلَهُ أَنْ يَرْكَبَهَا، ثُمَّ تَعُودُ فِي اللَّيْلِ إِلَى يَدِ مُرْتَهِنِهَا.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَافِرَ بِعَبْدِهِ وَلَا بِدَابَّتِهِ وَلَا يُؤَاجِرَهُمَا مِمَّنْ يُسَافِرُ بِهِمَا لِمَا فِي السَّفَرِ مِنَ التَّغْرِيرِ بِهِمَا وَإِحَالَةِ يَدِ الْمُرْتَهِنِ عَنْهُمَا.

(فَصْلٌ)
فَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ ماشية فعلى ضربين:
أحدهما: أن تكون عامل كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ الْعَامِلَةِ فِي الْحُمُولَةِ وَالنَّاضِحِ. فَحُكْمُهَا حُكْمُ الدَّوَابِّ، لِأَنَّهَا مَفْقُودَةُ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ مُرْصَدَةٌ لِلرُّكُوبِ وَالْعَمَلِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ غَيْرَ عَوَامِلَ قَدْ أُرْصِدَتْ لِلدَّرِّ وَالنَّسْلِ سَائِمَةً أَوْ مَعْلُوفَةً، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: -
إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَفْقُودَةَ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ عِنْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ، أَوْ مَوْجُودَةَ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ فَإِنْ كَانَتْ مَفْقُودَةَ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ فَكُلَّمَا حَدَثَ مِنْ دَرِّهَا وَنَسْلِهَا فَهُوَ لِلرَّاهِنِ.
فَعَلَى هَذَا فَلِلرَّاهِنِ أَنْ يَحْلِبَهَا وَيَجِزَّ صُوفَهَا، أَمَّا الْحِلَابُ فَفِي وَقْتِ الْعَادَةِ وَلَا يَسْتَقْصِي فِيهِ اسْتِقْصَاءً يَضُرُّ بِالْمَاشِيَةِ مَعَ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنَ النَّهْيِ عَنْهُ، وَأَمَّا جَزُّ الصُّوفِ فَفِي الزَّمَانِ الَّذِي لَا يَضُرُّ أَخْذُهُ بِالْمَاشِيَةِ، يَأْخُذُهُ جَزًّا وَلَا يَأْخُذُهُ حَلْقًا، وَيُبْقِي مِنْهُ بَعْدَ الْجَزِّ مَا يَكُونُ حَافِظًا لِلْمَاشِيَةِ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةَ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَقْتَ عَقْدِ الرَّهْنِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا حَمْلٌ وَفِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ وَعَلَى ظُهُورِهَا صُوفٌ، فَفِي الْحَمْلِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ دَاخِلًا فِي الرَّهْنِ.

(6/207)


وَالثَّانِي: لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِيهِ، بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْحَمْلِ هَلْ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
فَأَمَّا اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ وَالصُّوفُ عَلَى الظَّهْرِ فَمَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي الرَّهْنِ، وَلِلرَّاهِنِ أَنْ يَأْخُذَهَا قَالَ الرَّبِيعُ: وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ إِنَّهُ يَكُونُ رَهْنًا، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، فَكَانَ أَكْثَرُهُمْ يُخَرِّجُونَ اللَّبَنَ وَالصُّوفَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْحَمْلِ، وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولُ: يَدْخُلُ الصُّوفُ فِي الرَّهْنِ وَلَا يَدْخُلُ اللَّبَنُ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ اللَّبَنَ مُنْفَصِلٌ لَا يُسْتَبْقَى وَالصُّوفُ مُتَّصِلٌ يُسْتَبْقَى.
فَأَمَّا مَا حَدَثَ مِنَ اللَّبَنِ وَالصُّوفِ بَعْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْقَبْضِ لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي الرَّهْنِ وَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فيه والله أعلم.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَكُلُّ وَلَدِ أَمَةٍ وَنِتَاجِ مَاشِيَةٍ وَثَمَرِ شَجَرَةٍ وَنَخْلَةٍ فَذَلِكَ كُلُّهُ خَارِجٌ مِنَ الرَّهْنِ يُسَلَّمُ لِلرَّاهِنِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ نَمَاءَ الرَّهْنِ مِلْكٌ لِلرَّاهِنِ فَأَمَّا دُخُولُهُ فِي الرَّهْنِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ.
أَحَدُهَا: مَا يَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ وَهُوَ النَّمَاءُ الْمُتَّصِلُ كَالطُّولِ وَالسِّمَنِ.
وَالثَّانِي: مَا لَا يَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ وَهُوَ كَسْبُ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ.
وَالثَّالِثُ: مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ وَهُوَ مَا سِوَى الْكَسْبِ مِنَ النَّمَاءِ الْمُنْفَصِلِ كَالثَّمَرَةِ وَالنِّتَاجِ وَالدَّرِّ وَالصُّوفِ وَأَوْلَادِ الْإِمَاءِ، فَفِيهِ ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ.
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ خَارِجٌ مِنَ الرَّهْنِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة، أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الرَّهْنِ.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، أَنَّ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ الرَّهْنِ كَالْأَوْلَادِ وَالنِّتَاجِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ دَاخِلًا فِي الرَّهْنِ، وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ كَالدَّرِّ وَالثَّمَرَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ خَارِجًا مِنَ الرَّهْنِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ نَمَاءٌ فِي الرَّهْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي الرَّهْنِ كَالنَّمَاءِ الْمُتَّصِلِ وَلِأَنَّهُ مَحْبُوسٌ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ فَوَجَبَ أَنْ يكون ماؤه محبوسا معه كالمبيع، إذا حبسه البائع على ثمنه كان نماؤه الْحَادِثُ مَحْبُوسًا مَعَهُ كَالْمَبِيعِ وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى مِلْكٍ فَوَجَبَ أَنْ

(6/208)


يَكُونَ النَّمَاءُ الْحَادِثُ بَعْدَهُ تَابِعًا لَهُ كَالْمَبِيعِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَقْضِي إِلَى زَوَالِ الْمِلْكِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ فِيهِ تَابِعًا لِأُمِّهِ كَالْكِتَابَةِ.
وَلِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ فِي الرَّقَبَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ فِيهِ تَابِعًا لِأُمِّهِ كَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَةِ، وَلِأَنَّ الْوَلَدَ لَمَّا كَانَ تَابِعًا لِأُمِّهِ فِي الزَّكَاةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِأُمِّهِ فِي الرَّهْنِ.
وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الرَّهْنُ مَحْلُوبٌ وَمَرْكُوبٌ " فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِلْمُرْتَهِنِ ثَبَتَ أَنَّهُ لِلرَّاهِنِ، وَلِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلًا وَمُسْنَدًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال " لا يغلق الرهن الرَّهْنُ مِنْ رَاهِنِهِ الَذِي رَهَنَهُ لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ " وَغُنْمُهُ نَمَاؤُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ جعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غُنْمَهُ مِلْكًا لِلرَّاهِنِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ خَارِجًا مِنَ الرَّهْنِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ مِلْكٌ لِلرَّاهِنِ وَإِنَّمَا نَخْتَلِفُ فِي خُرُوجِهِ مِنَ الرَّهْنِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ جَعَلَ غُنْمَ الرَّهْنِ مِلْكًا لِلرَّاهِنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَدُخُولُهُ فِي الرَّهْنِ يَمْنَعُ مِنْ إِطْلَاقِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَّقَ فِي الْحَدِيثِ بَيْنَ الرَّهْنِ وَبَيْنَ غُنْمِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّهْنَ عَلَى مِلْكِ رَاهِنِهِ، فَعُلِمَ أَنَّ مَا أَضَافَهُ إِلَيْهِ مِنْ غُنْمِهِ مُخَالِفٌ لِمَا لَمْ يُضِفْهُ إِلَيْهِ مِنْ رَهْنِهِ وَلَا وَجْهَ يَخْتَلِفَانِ فِيهِ إِلَّا خُرُوجُهُ مِنَ الرَّهْنِ وَعَدَمُ دُخُولِهِ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ نَمَاءٌ مُنْفَصِلٌ مِنَ الرَّهْنِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَارِجًا مِنَ الرَّهْنِ كَالْكَسْبِ وَلِأَنَّ النَّمَاءَ عَيْنٌ يَصِحُّ أَنْ تُفْرَدَ بِالْعَقْدِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَدْخُلَ فِي الرَّهْنِ إِلَّا بِعَقْدٍ كَالْأُمِّ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ فِي الْحَقِّ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْرِيَ حُكْمُهُ لِلْوَلَدِ كَالشَّهَادَةِ وَالضَّمَانِ.
وَلِأَنَّهَا عَيْنٌ مُحْتَبَسَةٌ لِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ زَوَالِ مِلْكِ مَالِكِهَا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتْبَعَهَا وَلَدُهَا كَالْعَيْنِ الَّتِي آجَرَهَا، وَلِأَنَّ حَقَّ الْجِنَايَةِ آكَدُ ثُبُوتًا مِنْ حَقِّ الرَّهْنِ، لِأَنَّ حَقَّ الْجِنَايَةِ يَطْرَأُ عَلَى الرَّهْنِ وَحَقُّ الرَّهْنِ لَا يَطْرَأُ عَلَى الْجِنَايَةِ، ثُمَّ كَانَ حَقُّ الْجِنَايَةِ مَعَ تَأَكُّدِهِ لَا يَسْرِي عَلَى وَلَدِ الْجَانِيَةِ، فَحَقُّ الرَّهْنِ مَعَ ضَعْفِهِ أَوْلَى أَلَّا يَسْرِيَ إِلَى وَلَدِ الْمَرْهُونَةِ.
وَتَحْرِيرُ عِلَّتِهِ، أَنَّهُ حَقٌّ تَعَلَّقَ بِالرَّقَبَةِ لِاسْتِيفَائِهِ مِنْهَا، فَوَجَبَ أَلَّا يَسْرِيَ إِلَى وَلَدِهَا كَالْجِنَايَةِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى النَّمَاءِ الْمُتَّصِلِ فَمُنْتَقَضٌ أَوَّلًا بِالْكَسْبِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْمُتَّصِلِ أَنَّهُ تابع للأصل فِي مَوْضِعِ الْأُصُولِ، لِعَدَمِ تَمْيِيزِهِ عَنْهُ وَالْمُنْفَصِلُ غير تابع للأصول لتمييزه عنه ألا ترى أن المتصل تابع للأصل في الإجارة والجناية والبيع إذا رد بعيب، فَكَذَلِكَ يَتْبَعُ الْأَصْلَ فِي الرَّهْنِ، وَالْمُنْفَصِلُ لَا يَتْبَعُ الْأَصْلَ فِي الْإِجَارَةِ وَالْجِنَايَةِ وَلَا الْمَبِيعِ إِذَا رُدَّ بِعَيْبٍ، فَكَذَلِكَ لَا يَتْبَعُ الْأَصْلَ فِي الرَّهْنِ.

(6/209)


وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمَبِيعِ إِذَا حَبَسَهُ الْبَائِعُ عَلَى ثَمَنِهِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ لِأَنَّ عِنْدَنَا أَنَّ الْبَائِعَ إِذَا حَبَسَ الْمَبِيعَ لِاسْتِيفَاءِ ثَمَنِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبْسُ النَّمَاءِ الْحَادِثِ بَعْدَ مَبِيعِهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْبَيْعِ فَدَلِيلُنَا أَنَّهُ يُوجِبُ كَوْنَ النَّمَاءِ لِمَالِكِ الْأَصْلِ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ مَلَكَ الْأَصْلَ، كَذَلِكَ الرَّهْنُ لَمَّا كَانَ عَلَى مِلْكِ الرَّاهِنِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلرَّاهِنِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْكِتَابَةِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ عَقْدٌ يُفْضِي إِلَى زَوَالِ الْمِلْكِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: مَنْعُ الْوَصْفِ بِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى زَوَالِ الْمِلْكِ، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ وَإِنْ أَفْضَتْ إِلَى زَوَالِ الْمِلْكِ فَالرَّهْنُ لَا يُفْضِي إِلَى زَوَالِ الْمِلْكِ، لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى اسْتِيفَائِهِ وَثِيقَةً لِمُرْتَهِنِهِ وَإِنْ طَالَتِ الْمُدَّةُ، وَإِنَّمَا بَيْعُهُ يُفْضِي إِلَى زَوَالِ الْمِلْكِ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ سَلِمَ لَهُمُ الْوَصْفُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي وَلَدِ الْمُكَاتَبَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَوْقُوفٌ لَا يَتْبَعُهَا وَكَذَا وَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ حُكْمَهُ مُعْتَبَرٌ بِحُكْمِ أُمِّهِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ، فَإِنْ عُتِقَتِ الْمُكَاتَبَةُ بِالْأَدَاءِ وَالْمُدَبَّرَةُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ، عُتِقَ وَلَدُهُمَا وَإِنْ عَجَزَتْ وَرَقَّتْ رَقَّ وَلَدُهَا فَإِنْ قِيلَ لَا يَتْبَعُهَا سَقَطَ السُّؤَالُ.
وَإِنْ قِيلَ يَتْبَعُهَا فَهُوَ لَيْسَ يَتْبَعُهَا فِي الْكِتَابَةِ وَإِنَّمَا يَتْبَعُهَا فِي الْحُرِّيَّةِ، فَلَمْ يَسْلَمْ لَهُمُ الْحُكْمُ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ وَلَدَ الْمَرْهُونَةِ دَاخِلٌ فِي الرَّهْنِ، وَوَلَدُ الْمُكَاتَبَةِ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْكِتَابَةِ.
وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ لَمَّا تَبِعَهَا كَسْبُهَا تَبِعَهَا وَلَدُهَا وَالرَّهْنُ لَمَّا لَمْ يَتْبَعْهُ الْكَسْبُ لَمْ يَتْبَعْهُ الْوَلَدُ وَالْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ فِي أَنَّ وَلَدَهَا مِنْ غَيْرِ السَّيِّدِ يَتْبَعُهَا فِي الْعِتْقِ بِمَوْتِ السَّيِّدِ فَالْقِيَاسُ مُنْتَقَضٌ بِوَلَدِ الْجَانِيَةِ.
ثُمَّ الْمَعْنَى أَنَّ سَبَبَ حُرِّيَّتِهَا مُسْتَقِرٌّ اسْتِقْرَارًا يَمْنَعُ مِنْ إِزَالَتِهِ، فَجَازَ أَنْ يَسْرِيَ إِلَى الْوَلَدِ لِقُوَّتِهِ وَالرَّهْنُ لَا يَسْتَقِرُّ اسْتِقْرَارًا يَمْنَعُ مِنْ إِزَالَتِهِ، فَلَمْ يَسْرِ إِلَى الْوَلَدِ لِضَعْفِهِ، وَأَمَّا الْمُدَبَّرَةُ فَهَلْ يَتْبَعُهَا وَلَدُهَا أَمْ لَا، عَلَى قَوْلَيْنِ، وَأَمَّا الْمُكَاتَبَةُ فَلَا يَتْبَعُهَا وَلَدُهَا فِي الْكِتَابَةِ وَلَكِنْ هَلْ يَثْبُتُ لَهُ ... حُكْمُهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَأَمَّا نِتَاجُ الْمَاشِيَةِ، فَإِنَّمَا كَانَ تَبَعًا لِلْأُمَّهَاتِ فِي حَوْلِ الزَّكَاةِ لِأَنَّهُ لَمَّا ارْتَفَقَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ بِالرِّبَا وَالْمَاخِضِ ارْتَفَقَ الْمَسَاكِينُ بِحَوْلِ السِّخَالِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرَّهْنُ، فَأَمَّا وَلَدُ الْمُوصَى بِهَا، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي لَمْ يَتْبَعْهَا وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْقَبُولِ تَبِعَهَا لِانْتِقَالِ الْمِلْكِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَ الْقَبُولِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ:

(6/210)


أَحَدُهُمَا: لِلْوَرَثَةِ، هَذَا إِذَا قِيلَ إِنَّ الْقَبُولَ هُوَ التَّمَلُّكُ.
وَالثَّانِي: لِلْمُوصِي لَهُ، وَهَذَا إِذَا قِيلَ إِنَّ الْقَوْلَ يُبْنَى عَلَى مِلْكٍ سَابِقٍ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي وَلَدِ الْمَرْهُونَةِ.
وَأَمَّا وَلَدُ الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ فَيَتْبَعُ لِلْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ لِزَوَالِ الْمِلْكِ عَنْهَا إِلَى الْمَسَاكِينِ، وَكَانَ الْوَلَدُ حَادِثًا عَلَى مِلْكِ الْمَسَاكِينِ.
وَأَمَّا وَلَدُ الْمَغْصُوبَةِ فَيَتْبَعُ لِأُمِّهِ فِي الضَّمَانِ لِحُصُولِ التَّعَدِّي فِيهِمَا.
وَأَمَّا وَلَدُ الْمُودَعَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَأُمِّهِ أَمَانَةٌ لَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِخِلَافِ أُمِّهِ، لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَى أُمِّهِ دُونَ وَلَدِهَا.
وَأَمَّا وَلَدُ الْعَارِيَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَأُمِّهِ مَضْمُونٌ لِأَنَّهُ فَرْعٌ لِأَصْلٍ مَضْمُونٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِخِلَافِ أُمِّهِ، لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْأُمِّ أَوْجَبَ ضَمَانَهَا، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الِانْتِفَاعُ بِالْوَلَدِ لَمْ يَجِبْ ضَمَانُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَعَلَيْهِ مُؤْنَةُ رُهُونِهِ وَمَنْ مَاتَ مِنْ رَقِيقِهِ فعليه كفنه والفرق بين الأمة تعتق أو تباع فيتبعها ولدها وبين الرهن أنه إذا أعتق أو باع زال ملكه وحدث الولد في غير ملكه وإذا رهن فلم يزل ملكه وحدث الولد في ملكه إلا أنه محول دونه لحق حبس به لغيره كما يؤاجرها فتكون محتبسة بحق غيره وإن ولدت لم يدخل ولدها في ذلك معها والرهن كالضمين لا يلزم إلا من أدخل نفسه فيه وولد الأمة لم يدخل في الرهن قط ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
كُلُّ نَفَقَةٍ احْتَاجَ الرَّهْنُ إِلَيْهَا مِنْ نَفَقَةِ مَطْعَمٍ وَمَشْرَبٍ وَنَفَقَةِ دَوَاءٍ وَعِلَاجٍ وَنَفَقَةِ مُرَاعَاةٍ وَحِفْظٍ، فَهِيَ وَاجِبَةٌ على الرهن دُونَ الْمُرْتَهِنِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: نَفَقَةُ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ عَلَى الرَّاهِنِ، وَنَفَقَةُ الْمُرَاعَاةِ وَالْحِفْظِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَنَفَقَةُ الدَّوَاءِ وَعِلَاجِ الدُّبُرِ مُعْتَبَرَةٌ بِقِيمَةِ الرَّهْنِ، فَإِنْ كَانَتْ بِقَدْرِ الْحَقِّ أَوْ أَقَلَّ فَهُوَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَكْثَرَ مِنَ الْحَقِّ فَهُوَ عَلَى الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ بِالْقِسْطِ، مِثَالُهُ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ بِقِيمَةِ نِصْفِ الرَّهْنِ، فَالنَّفَقَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ: وَهَذَا خَطَأٌ، لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: الرَّهْنُ مِنْ رَاهِنِهِ الَذِي رَهَنَهُ لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ فَجَعَلَ الْغُرْمَ وَاجِبًا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوجِبَهُ عَلَى غَيْرِهِ.

(6/211)


وَلِأَنَّهُ مَالِكٌ لِرَقَبَتِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُلْتَزِمًا لِلنَّفَقَةِ كَسَائِرِ الْمُلَّاكِ وَلِأَنَّهَا نَفَقَةٌ تَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ فِي غَيْرِ الرَّهْنِ، فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ فِي الرَّهْنِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ النَّفَقَةِ عَلَى الرَّاهِنِ، فَإِنْ شَرَطَهَا الرَّاهِنُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، كَانَ الشَّرْطُ وَالرَّهْنُ بَاطِلَيْنِ. من غير شرط، كَانَ مُتَطَوِّعًا بِالنَّفَقَةِ سَوَاءٌ كَانَ الرَّاهِنُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَنْفَقَ بِأَمْرِ الرَّاهِنِ، أَوْ أَذِنَ الْحَاكِمُ عِنْدَ غَيْبَةِ الرَّاهِنِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا أَنْفَقَهُ.
(فَصْلٌ)
فَأَمَّا كَيْفِيَّةُ النَّفَقَةِ وَمَا يَجِبُ مِنْهَا وَمَا لَا يَجِبُ فَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا كَانَتْ وَاجِبَةً.
وَالثَّانِي: مَا كَانَتْ غَيْرَ وَاجِبَةٍ.
وَالثَّالِثُ: مَا كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ، فَأَمَّا مَا كَانَتْ وَاجِبَةً فَهِيَ نَفَقَةُ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ فِي الْحَيَوَانِ دُونَ غَيْرِهِ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ لَا رُخْصَةَ لَهُ فِي تَرْكِهَا، وَلَا تَخْيِيرَ بينها وبين غيرها.
فإن كانت مما تعلف ولا ترعى وجب عليه علفها، وإن كانت مما ترعى ولا تعلف وجب عليه رعيها ولم يكن له علفها. لأن ما يرعى ولا يعلف يضر به العلف.
وإن كَانَتْ مِمَّا تَرْعَى وَتُعْلَفُ مَعًا، فالراهن مخير بين رعيها وعلفها، إلا أن يكون الرعي مخوفا فليس له رعيها وعليه علفها حفظا لوثيقة الرهن.
(فَصْلٌ)
فَأَمَّا مَا كَانَتْ مِنَ النَّفَقَةِ غَيْرَ وَاجِبَةٍ، فَنَفَقَةُ الدَّوَاءِ وَعِلَاجِ الْمَرَضِ لا يجب على الراهن، وقال الشافعي رحمه الله: لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَذْهَبُ بِغَيْرِ عِلَاجٍ وَكَذَلِكَ لو كان الرهن دارا فاستهدمت لَمْ يَلْزَمْهُ عِمَارَتُهَا.
فَلَوْ أَرَادَ الرَّاهِنُ عِلَاجَ مَا مَرِضَ وَمِرَمَّةَ مَا اسْتُهْدِمَ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُهُ مِنْهُ، فَإِنْ أَرَادَ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لِيَرْجِعَ بِهِ عَلَى الرَّاهِنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهِ كَانَ لَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَمْنَعْهُ إِذَا كَانَ مَا يُعَالِجُهَا بِهِ نَافِعًا، فَإِنْ عَالَجَهَا بِشَيْءٍ يَنْفَعُ فِي حَالٍ وَيَضُرُّ فِي أخرى منع، فإن فعل ضمن.
فَأَمَّا مَا كَانَتْ مِنَ النَّفَقَةِ وَاجِبَةً عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ، فَنَفَقَةُ الْحِفْظِ وَالْمُرَاعَاةِ وَارْتِيَادِ الْحِرْزِ وَالسَّكَنِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ سَقَطَ عَنْهُ، وَإِنْ أَبَى إِلَّا بِمَالِهِ وجب عليه وكذا مؤونة نَقْلِ الرَّهْنِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ أَوْ إِلَى يَدِ الْمَوْضُوعِ عَلَى يَدِهِ وَاجِبَةٌ عَلَى الرَّاهِنِ أَيْضًا.
وأما مؤونة رَدِّهِ بَعْدَ الْفِكَاكِ وَاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ فَفِيهَا وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا عَلَى الرَّاهِنِ أَيْضًا لِتَعَلُّقِهَا بِالْمِلْكِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا عَلَى الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ رَدُّهُ بعد استيفاء الحق فكانت مؤونة الرَّدِّ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ.

(6/212)


فأما مؤونة رد العبد الآبق والجمل الشارد فواجب عَلَى الرَّاهِنِ وَكَذَا عَلَيْهِ كَفَنُ مَنْ مَاتَ من رقيقه ومؤونة دَفْنِهِ.

(فَصْلٌ)
قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ مَاشِيَةً فِي بَادِيَةٍ فَأَجْدَبَ مَوْضِعُهَا، لَمْ يُؤْمَرِ الْمَالِكُ بِعَلْفِهَا إِذَا كَانَتْ سَائِمَةً وَكُلِّفَ رَبُّهَا النُّجْعَةَ بِهَا، فَإِنْ أَرَادَ النُّجْعَةَ بِهَا وَأَرَادَ الْمُرْتَهِنُ حَبْسَهَا، قِيلَ لِلْمُرْتَهِنِ إن رضيت أن تنجع بها وإلا اختر أَنْ تَضَعَهَا عَلَى يَدِ عَدْلٍ يَنْجَعُ بِهَا إِذَا طَلَبَ ذَلِكَ رَبُّهَا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَإِنْ أَرَادَتِ الْمَاشِيَةُ النُّجْعَةَ مِنْ غَيْرِ جَدْبٍ وَالْمُرْتَهِنُ الْمَقَامَ، قِيلَ لِرَبِّ الْمَاشِيَةِ: لَيْسَ لَكَ إِخْرَاجُهَا مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي رَهَنْتَهَا بِهِ إِلَّا مِنْ ضَرَرٍ عَلَيْهَا، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا ضَرَرَ عَلَيْهَا فَوَكِّلْ بِرَشْلِهَا مَنْ شِئْتَ يَعْنِي بِالرَّشْلِ اللَّبَنَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِنْ أَرَادَ الْمُرْتَهِنُ النُّجْعَةَ مِنْ غَيْرِ جَدْبٍ، قِيلَ لَهُ: لَيْسَ لَكَ تَحْوِيلُهَا مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي ارْتَهَنْتَهَا بِهِ وَبِحَضْرَةِ مَالِكِهَا إِلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ، فَتَرَاضَيَا بِمَنْ شِئْتُمَا، مِمَّنْ يُقِيمُ فِي الدَّارِ أَنْ تَكُونَ عَلَى يَدَيْهِ مَا كَانَتِ الدَّارُ غَيْرَ مُجْدِبَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَجْبَرْنَاهُ عَلَى رجل تأوي إليه.
(فصل)
فَإِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ الَّتِي رَهَنَهَا بِهَا غَيْرَ مُجْدِبَةٍ وَغَيْرُهَا أَخْصَبُ مِنْهَا، لَمْ يُجْبَرْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى نَقْلِهَا مِنْهَا، وَإِنْ أَجْدَبَتْ فَاخْتَلَفَتْ نُجْعَتُهَا إِلَى بَلَدَيْنِ مُشْتَبِهَيْنِ فِي الْخِصْبِ، فَسَأَلَ رَبُّ الْمَاشِيَةِ أَنْ تَكُونَ مَعَهُ وَسَأَلَ الْمُرْتَهِنُ أَنْ تَكُونَ مَعَهُ، قِيلَ لَهُمَا: إِنِ اجْتَمَعْتُمَا بِبَلَدٍ فَهِيَ مَعَ الْمُرْتَهِنِ أَوِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى يَدَيْهِ، وَإِنِ اخْتَلَفْتُمَا أُجْبِرْتُمَا عَلَى عَدْلٍ تَكُونُ عَلَى يَدَيْهِ فِي الْبَلَدِ الَّذِي يَنْتَجِعُ إِلَيْهِ رَبُّ الْمَاشِيَةِ لِيَنْتَفِعَ بِرَشْلِهَا، فَأَيُّهُمَا دَعَا إِلَى بَلَدٍ فِيهِ عَلَيْهَا ضَرَرٌ لَمْ يَجِبْ إِلَيْهِ لِحَقِّ الرَّاهِنِ فِي رِقَابِهَا وَرَشْلِهَا وَحَقِّ الْمُرْتَهِنِ في رقابها.
(فصل)
قال الشافعي رحمه الله، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ إِلَى أَجَلٍ فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ لِلرَّاهِنِ فِي حَالِ تَسَاقُطِ الْمَاشِيَةِ مِنَ الْهُزَالِ وَالضَّرَرِ: مُرْ مَنْ يَذْبَحُهَا وَيَبِيعُ لُحُومَهَا وَجُلُودَهَا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى الرَّاهِنِ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ يُحْدِثُ لَهَا الْغَيْثَ فَيَحْسُنُ حَالُهَا، وَإِنْ كَانَ حَالًّا أَخَذَ الرَّاهِنُ بِبَيْعِهَا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا أَصَابَهَا مَرَضٌ وَكَانَ الْحَقُّ إِلَى أَجَلٍ، لَمْ يُكَلَّفِ الرَّاهِنُ عِلَاجَهَا لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَذْهَبُ بِغَيْرِ عِلَاجٍ.
وَلَوْ كَانَتِ الماشية أوارك أو خميصه أو غوادي فاستؤنيت مَكَانَهَا، فَسَأَلَ الْمُرْتَهِنُ الرَّاهِنَ أَنْ يَنْجَعَهَا إِلَى مَوْضِعٍ غَيْرِهِ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى الرَّاهِنِ، لِأَنَّ الْمَرَضَ قَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ الْمَرْعَى.

(6/213)


(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَكْرَهُ رَهْنَ الْأَمَةِ إِلَّا أَنْ تُوضَعَ عَلَى يَدَيِ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
إِذَا رَهَنَ أَمَةً لَهُ فَالْوَاجِبُ أَنْ تُوضَعَ عَلَى يَدَيِ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ، لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ ذَاتُ فَرْجٍ، فَإِنْ شَرَطَ أَنْ تَكُونَ عَلَى يَدِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ عَدْلٍ، فَإِنْ كَانَ مَأْمُونًا ذَا زَوْجَةٍ جَازَ أَنْ تُوضَعَ عَلَى يَدَيْهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ أَوْ كَانَ مَأْمُونًا لَكِنَّهُ أَعْزَبُ غَيْرُ ذِي زَوْجَةٍ، لَمْ يَجُزْ أَنْ تُوضَعَ عَلَى يَدَيْهِ لِقَوْلِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ ثَالِثُهُمَا.
سواء كَانَتْ جَمِيلَةً تَدْعُو الشَّهْوَةُ إِلَيْهَا، أَوْ كَانَتْ قَبِيحَةً لَا تَدْعُو الشَّهْوَةُ إِلَيْهَا لِأَنَّ الْقَبِيحَةَ تَشْتَهَى، وَسَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّا يَحْبَلُ مِثْلُهَا أَوْ كَانَتْ مِمَّا لَا يَحْبَلُ لِصِغَرٍ أَوْ إِيَاسٍ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ لَيْسَ لِأَجْلِ الْإِحْبَالِ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا الْمَنْعُ خَوْفًا مِنْ مُوَاقَعَةِ الْفَاحِشَةِ، وَسَوَاءٌ رَضِيَ بِذَلِكَ الرَّاهِنُ أَمْ لَا، لِأَنَّ هَذَا الْمَنْعَ لَا يَخْتَصُّ بِهَا لِأَجْلِ مِلْكِهِ وَإِنَّمَا هُوَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى خَوْفًا مِنْ مُوَاقَعَةِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا لَا تُوضَعُ عَلَى يَدِ الْمُرْتَهِنِ وَإِنْ شَرَطَ كَوْنَهَا عَلَى يَدِهِ، فَإِنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَمْ يُمْنَعُ مِنْهُ لِأَجْلِ الْمِلْكِ وَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْهُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَتُوضَعُ عَلَى يَدِ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ، فَلَوْ رَهَنَهَا وَلَمْ يَشْرُطْ فِي الْعَقْدِ مَنْ تُوضَعُ عَلَى يَدَيْهِ، صَحَّ الْعَقْدُ بِخِلَافِ رَهْنِ غَيْرِهَا مِنَ الْأَمْلَاكِ، فَإِنَّ غَيْرَهَا مِنَ الْأَمْلَاكِ الْمَنْقُولَةِ إِذَا لَمْ يَذْكُرْ فِي الْعَقْدِ مَنْ يَكُونُ عَلَى يَدَيْهِ بَطَلَ الْعَقْدُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الْأَمَةِ لَا يَبْطُلْ وَجْهًا وَاحِدًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَمَةَ لَيْسَتْ لَهَا إِلَّا جِهَةٌ وَاحِدَةٌ تَكُونُ مَوْضُوعَةً فِيهَا، وَهِيَ أَنْ تَكُونَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى يَدِ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ، وَغَيْرُهَا مِنَ الرُّهُونِ لَهُ جِهَاتٌ شَتَّى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا، فَبَطَلَ الرَّهْنُ مَعَ الْإِطْلَاقِ عَلَى أَحَدِ الوجهين لاختلاف الجهات.
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَخْذُهَا لِلْخِدْمَةِ خَوْفًا أَنْ يُحْبِلَهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَنَافِعَ الرَّهْنِ لِلرَّاهِنِ، وَهُوَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهَا مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا سَبَبٌ يُفْضِي إِلَى إِبْطَالِ وَثِيقَةِ الْمُرْتَهِنِ، أَوْ إِلَى النُّقْصَانِ فِيهَا، فَإِذَا كَانَ الرَّهْنُ أَمَةً، فَلَهَا مَنْفَعَتَانِ، اسْتِخْدَامٌ وَاسْتِمْتَاعٌ فَأَمَّا الِاسْتِخْدَامُ فَهُوَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفْضِي إِلَى إِبْطَالِ وَثِيقَةِ الْمُرْتَهِنِ وَلَا إِلَى النُّقْصَانِ فِيهَا.
وَأَمَّا الِاسْتِمْتَاعُ فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ يُخَافُ حَبَلُهَا فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، لِأَنَّ حبلها

(6/214)


يُفْضِي إِلَى إِبْطَالِ وَثِيقَةِ الْمُرْتَهِنِ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يُخَافُ حَبَلُهَا لِصِغَرٍ أَوْ إِيَاسٍ، فَفِي جَوَازِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: يَجُوزُ اسْتِمْتَاعُهُ بِهَا وَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ، لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ لَا تُفْضِي إِلَى إِبْطَالِ وَثِيقَةِ الْمُرْتَهِنِ مِنْهَا وَلَا إِلَى النُّقْصَانِ فِيهَا.
وَتَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ يَقْتَضِيهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ، لِأَنَّ عَادَةَ النِّسَاءِ فِي زَمَانِ الْحَمْلِ مُخْتَلِفَةٌ، فَرُبَّمَا أَسْرَعَ إِلَيْهَا بِقُوَّةِ الطَّبْعِ وَفَرَطِ الْحَرَارَةِ، وَرُبَّمَا تَأَخَّرَ لِضَعْفِ الطَّبْعِ وَكَثْرَةِ الْبُرُودَةِ، فَكَانَ حَسْمُ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِهِ خَوْفًا مِنْ حُدُوثِ الْإِحْبَالِ أَوْلَى.
كَمَا أَنَّ طِبَاعَ النَّاسِ لَمَّا كَانَتْ تَخْتَلِفُ فِي السُّكْرِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْكَرُ بِالْقَلِيلِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْكَرُ بِهِ، مُنِعَ مِنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا فِي الِاسْتِخْدَامِ لَهَا خَوْفًا مِنْ مُوَاقَعَتِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ جَمِيلَةً أَمْ لَا، إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ الْمُرْتَهِنُ فَيَجُوزُ، لِأَنَّ هَذَا الْمَنْعَ لَيْسَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَمَنْعِ الْمُرْتَهِنِ فَإِذَا أَذِنَ جَازَ.
فَإِذَا قِيلَ: إِنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ، جَازَ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا فِي الِاسْتِخْدَامِ لَهَا، لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يُخَافُ مِنَ الْخَلْوَةِ بِهَا أَنْ يَطَأَ وَالْوَطْءُ مُبَاحٌ لَهُ، والله أعلم.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَا كَانَتْ مِنْ زِيَادَةٍ لَا تَتَمَيَّزُ مِنْهَا مِثْلَ الْجَارِيَةِ تَكْبُرُ وَالثَّمَرَةِ تَعْظُمُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ مُتَمَيِّزٍ مِنْهَا وَهِيَ رَهْنٌ كُلُّهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ فيما مضى قبل.
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ مَاشِيَةً فَأَرَادَ الرَّاهِنُ أَنْ يُنْزِيَ عَلَيْهَا أَوْ عَبْدًا صَغِيرًا فَأَرَادَ أَنْ يَخْتِنَهُ أَوِ احْتَاجَ إِلَى شُرْبِ دَوَاءٍ أَوْ فَتْحِ عِرْقٍ أَوِ الدَّابَّةُ إِلَى تَوْدِيجٍ أَوْ تَبْزِيعٍ فَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِمَّا فِيهِ لِلرَّهْنِ مَنْفَعَةٌ وَيَمْنَعُهُ مِمَا فِيهِ مَضَرَّةٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَانَ الرهن مَاشِيَةً، فَإِنْ كَانَتْ ذُكْرَانًا فَلَهُ أَنْ يُنْزِيَهَا عَلَى إِنَاثِهِ مَا لَمْ يَتَجَاوَزْ فِيهَا الْعُرْفَ، لِأَنَّ الْإِنْزَاءَ مِنْ مَنْفَعَتِهَا وَلَا يَنْتَقِصُ شَيْءٌ مِنْ ثَمَنِهَا، فَإِنْ كَانَتْ إِنَاثًا فَأَرَادَ أَنْ يُنْزِيَ عَلَيْهَا ذُكْرَانًا، فَإِنْ كَانَتْ تَضَعُ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ فَلَهُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُهُ مِنْهُ فِي أَوَانِهِ، لِمَا فِي مَنْعِهِ مِنْ تَعْطِيلِ نَفْعِهَا وَذَهَابِ نِتَاجِهَا، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ لَوْ كَانَ الرَّهْنُ جَارِيَةً لَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ أَنْ يُزَوِّجَهَا خَوْفًا مِنْ حَبَلِهَا. فَهَلَّا كَانَ مَمْنُوعًا فِي الْمَاشِيَةِ مِنَ الْإِنْزَاءِ عَلَيْهَا لِأَجْلِ حَبَلِهَا قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:

(6/215)


أَحَدُهَا: أَنَّ النِّتَاجَ فِي الْمَاشِيَةِ هُوَ الْمَنْفَعَةُ الْمَقْصُودَةُ وَالنَّمَاءُ الْمَطْلُوبُ غَالِبًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْإِمَاءِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ غَالِبَ الْوِلَادَةِ فِي الْإِمَاءِ مُخَوَّفٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْمَاشِيَةِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْوِلَادَةَ فِي الْإِمَاءِ فِي الْغَالِبِ نَقْصٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْمَاشِيَةِ.
فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ لَا تَضَعُ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ، فَهَلْ لَهُ الْإِنْزَاءُ عَلَيْهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الماشية هل تباع إذ حَلَّ الْحَقُّ وَهِيَ حَوَامِلُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: -
أَحَدُهُمَا: يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى بَيْعِهَا عِنْدَ حُلُولِ الْحَقِّ وَإِنْ حَمَلَتْ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّ الْحَمْلَ تَبَعٌ، فَعَلَى هَذَا لَهُ أَنْ يُنْزِيَ عَلَيْهَا وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّاهِنَ لَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهَا عِنْدَ حُلُولِ الْحَقِّ إِذَا حَمَلَتْ حَتَّى تَضَعَ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّ الْحَمْلَ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ.
فَعَلَى هَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُنْزِيَ عَلَيْهَا إِلَّا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ وَلِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُهُ مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَأْخِيرِ حَقِّهِ.
وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، لَوْ كَانَتِ الْمَاشِيَةُ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا، كَانَ وُجُوبُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ ذُكْرَانِهَا وأنثاها، عَلَى قَوْلَيْنِ، فَلَوْ قَالَ الرَّاهِنُ: أَنَا أُنْزِي عَلَيْهَا وَأَبِيعُهَا عِنْدَ مَحَلِّ الْحَقِّ حَوَامِلَ، كَانَ هَذَا وَعْدًا، وَلَهُ أَلَّا يَفْعَلَ وَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهُ.

(فَصْلٌ)
وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ عَبْدًا وَأَرَادَ الرَّاهِنُ أَنْ يَخْتِنَهُ، فَإِنْ كَانَ حَقُّهُ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا يَحِلُّ قَبْلَ بُرْئِهِ مِنَ الْخِتَانِ، فَإِنَّ لِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُهُ، لِأَنَّ فِي بَيْعِهِ قَبْلَ بُرْئِهِ نَقْصًا فِي ثَمَنِهِ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مُؤَجَّلًا يَحِلُّ بَعْدَ بُرْئِهِ مِنَ الْخِتَانِ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُهُ لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي شِدَّةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ بِالْعَبْدِ ضَنًى مِنْ مَرَضٍ يُخْشَى عَلَيْهِ إِنْ خُتِنَ فَيُمْنَعَ مِنْهُ حَتَّى يَطِيبَ الزَّمَانُ فَيَزُولَ الْمَرَضُ، فَأَمَّا إِنْ أَرَادَ أَنْ يَحْجُمَهُ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَا يُمْنَعُ، لِأَنَّ الْحِجَامَةَ نَافِعَةٌ فِي الْغَالِبِ غَيْرُ مُخَوِّفَةٍ فِي الْعَادَةِ.
فَأَمَّا الْفِصَادُ فَهُوَ أَخْوَفُ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " قَطْعُ الْعُرُوقِ مَسْقَمَةٌ وَالْحِجَامَةُ خَيْرٌ مِنْهُ ".
فَإِنْ لَمْ تَدْعُهُ إِلَى الْفِصَادِ حَاجَةٌ مُنِعَ مِنْهُ، وَإِنْ دَعَتْهُ إِلَى الْفِصَادِ حَاجَةٌ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنَّهُ أَرْخَصَ لِأُبَيِّ بِنْ كَعْبٍ فِي الْفَصْدِ ".

(6/216)


وَأَمَّا إِنْ وَقَعَتْ فِي عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ أَكَلَةٌ فَأَرَادَ قَطْعَهَا فَإِنْ كَانَ الْخَوْفُ مِنَ الْقَطْعِ أَكْثَرَ مِنَ الْخَوْفِ مِنَ الْأَكَلَةِ، مُنِعَ مِنْ قَطْعِهَا، وَإِنْ كَانَ الْخَوْفُ مِنَ الْأَكَلَةِ أَكْثَرَ مِنَ الْخَوْفِ مِنَ الْقَطْعِ لَمْ يُمْنَعْ.
وَإِنْ كَانَ الْخَوْفُ مِنَ الْأَكَلَةِ كَالْخَوْفِ مِنَ الْقَطْعِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ يُزِيدُ فِي ثَمَنِهِ لَمْ يُمْنَعْ، وَإِنْ كَانَ لَا يُزِيدُ فِيهِ مُنِعَ.
فَأَمَّا شُرْبُ الدَّوَاءِ فَنَوْعَانِ، مُخَوِّفٌ وَغَيْرُ مُخَوِّفٍ، فَأَمَّا غَيْرُ الْمُخَوِّفِ كَالشَّرَابِ وَالسَّعُوطِ فَغَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ، وَأَمَّا الْمُخَوِّفُ فَمَا لَمْ تَدْعُ إِلَيْهِ حَاجَةٌ فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ، وَإِنْ دَعَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ.
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ السَّلَامَةُ فِيهِ أَغْلَبَ مِنَ الْخَوْفِ، فَهَذَا غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْخَوْفُ مِنْهُ أَغْلَبَ مِنَ السَّلَامَةِ، فَهَذَا مَمْنُوعٌ مِنْهُ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ السَّلَامَةُ وَالْخَوْفُ، فَيُمْنَعُ مِنْهُ لِأَنَّهُ مُخَوِّفٌ.

(فَصْلٌ)
وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ دَابَّةً، فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْعَبْدِ وَحُكْمُ التَّوْدِيجِ وَالتَّبْزِيغِ حُكْمُ الْحِجَامَةِ وَالْفِصَادِ، لِأَنَّ التَّوْدِيجَ فِي الرَّقَبَةِ وَالتَّبْزِيغَ فِي الْيَدَيْنِ فَيَجُوزُ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَفْعَلَهُ وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُهُ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي وَصَفْنَاهُ، فَأَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِحَالٍ، لِأَنَّ الرَّهْنَ مِلْكٌ لِغَيْرِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي غير ملكه.

(6/217)


(باب رهن المشترك)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا رَهَنَاهُ مَعَا عَبْدًا بِمَائَةٍ وَقَبَضَ الْمُرْتَهِنُ فَجَائِزٌ وَإِنْ أَبْرَأَ أَحَدَهُمَا مِمَّا عَلَيْهِ فَنِصْفُهُ خَارِجٌ مِنَ الرَّهْنِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ - إِذَا كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَرَهَنَا مَعًا عِنْدَ رَجُلٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ صَحَّ الرَّهْنُ، بِوِفَاقِ أبي حنيفة: وَإِنْ كَانَ فِي رَهْنٍ مَشَاعٍ مُخَالِفًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ بَيْعُ عَبْدِهِمَا عَلَيْهِ صَحَّ رَهْنُ عَبْدِهِمَا عِنْدَهُ وَإِذَا صَحَّ رَهْنُهُ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصَّفَهُ بِخَمْسِينَ، فإن قضاه أحدهما: أو أبرأه أَحَدَهُمَا خَرَجَتْ حِصَّتُهُ وَهِيَ نِصْفُ الْعَبْدِ مِنَ الرَّهْنِ، وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا أَبْرَأَ أَحَدَهُمَا لَمْ تَخْرُجْ حِصَّتُهُ مِنَ الرَّهْنِ حَتَّى يُؤَدِّيَ الشريك ما عليها، وتبرئه الْمُرْتَهِنِ مِنْهُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ رَهْنَ الْمَشَاعِ لَا يَجُوزُ فِي ابْتِدَاءِ عَقْدِهِ، فَكَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ الرَّهْنُ مَشَاعًا فِي انْتِهَاءِ فَكِّهِ.
وَدَلِيلُنَا الْجَوَابُ عَلَى أَصْلِنَا فِي أَنَّ رَهْنَ الْمَشَاعِ جَائِزٌ فِي الِابْتِدَاءِ، فَكَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ الرَّهْنُ مَشَاعًا فِي الِانْتِهَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَرِئَ مِنْ جَمِيعِ مَا كَانَ مِلْكُهُ مَرْهُونًا فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ يخرج من الرهن كالمتفرد، ولأنها براءة تنفك بِهَا رَهْنُ الْمُنْفَرِدِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْفَكَّ بِهَا رَهْنُ الْمُشْتَرِي. أَصْلُهُ: إِذَا بَرِئَ الشَّرِيكَانِ وَاللَّهُ أعلم.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَهَنَهُ مِنْ رَجُلَيْنِ بِمَائَةٍ وَقَبَضَاهُ فَنِصْفُهُ مَرْهُونٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخَمْسِينَ فَإِنْ أَبْرَأَهُ أَحَدَهُمَا أَوْ قَبَضَ مِنْهُ نِصْفَ الْمِائَةِ فَنِصْفُهُ خَارِجٌ مِنَ الرَّهْنِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا رَهَنَ رجل واحدا عَبْدًا لَهُ مِنْ رَجُلَيْنِ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ لَهُمَا عَلَيْهِ وَصَحَّ الرَّهْنُ، كَانَ نِصْفُهُ رَهْنًا عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى خَمْسِينَ، فَيَصِيرُ الرَّهْنُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاحِدًا، وَالْمُرْتَهِنُ اثْنَيْنِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى كَانَ الْمُرْتَهِنُ وَاحِدًا وَالرَّاهِنُ اثْنَيْنِ، وَالْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءٌ، فَإِذَا بَرِئَ الرَّاهِنُ مِنْ حَقِّ أَحَدِهِمَا بِأَدَاءٍ أَوْ إِبْرَاءٍ خَرَجَ نِصْفُ الْعَبْدِ مِنَ الرَّهْنِ وَكَانَ نِصْفُهُ الْبَاقِي رَهْنًا فِي يَدِ الْآخَرِ حَتَّى يُؤَدِّيَ إِلَيْهِ حقه وتبرئه منه.

(6/218)


(فَصْلٌ)
إِذَا رَهَنَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ عَبْدَيْنِ لَهُ عِنْدَ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ عَلَى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَذَلِكَ على ضربين:
أحدها: أَنْ يَرْهَنَ جَمِيعَ الْعَبْدَيْنِ عَلَى جَمِيعِ الْمِائَتَيْنِ، فَهَذَا رَهْنٌ وَاحِدٌ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى عَبْدَيْنِ، فَإِنْ قَضَاهُ أَحَدَ الْمِائَتَيْنِ لَمْ يَنْفَكَّ وَاحِدٌ مِنَ الْعَبْدَيْنِ، فَإِنْ قَضَاهُ جَمِيعَ الْمِائَتَيْنِ انْفَكَّ جَمِيعُ الْعَبْدَيْنِ، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَقْبَضَهُ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ كَانَ الْمَقْبُوضُ رَهْنًا بِجَمِيعِ الْمِائَتَيْنِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَرْهَنَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَبْدَيْنِ فِي مِائَةٍ فَيَصِيرَا رَهْنَيْنِ رَاهِنُهُمَا وَاحِدٌ، وَمُرْتَهِنُهُمَا وَاحِدٌ، فَإِنْ قَضَاهُ إِحْدَى الْمِائَتَيْنِ انْفَكَّ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَقْبَضَهُ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ كَانَ الْمَقْبُوضُ رَهْنًا فِي إِحْدَى الْمِائَتَيْنِ، فَيَجْرِي عَلَيْهِمَا حُكْمُ الْعَقْدَيْنِ إِذَا كَانَا مِنْ رَاهِنَيْنِ أَوْ مُرْتَهِنَيْنِ، فَلَوِ اخْتَلَفَتْ قِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ فَقَالَ الرَّاهِنُ قَضَيْتُ الْمِائَةَ الَّتِي فِيهَا أَكْثَرُ الْعَبْدَيْنِ قِيمَةً وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ بَلْ قَضَيْتَ الْمِائَةَ الَّتِي فِيهَا أَقَلُّ الْعَبْدَيْنِ قِيمَةً كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ.
(فَصْلٌ)
وَلَوْ كَانَ الرَّاهِنُ قَضَاهُ مِائَةً يَنْوِي بِهَا إِحْدَى الْمِائَتَيْنِ بِكَمَالِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَيَّنَهَا فِي أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ، ثُمَّ أَرَادَ الرَّاهِنُ أَنْ يَفُكَّ بِهَا أَكْثَرَ الْعَبْدَيْنِ قِيمَةً، وَأَرَادَ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَفُكَّ أَقَلَّهُمَا قِيمَةً فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: إِنَّ الْمِائَةَ الْمَقْضِيَّةَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى خِيَارِ الرَّاهِنِ فِي تَعْيِينِهَا فِي أَيِّ الْعَبْدَيْنِ شَاءَ، فَعَلَى هَذَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّ الْعَبْدَيْنِ شَاءَ بَعْدَ أَنْ يُعَيِّنَ الْمِائَةَ فِيهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّ الْمِائَةَ الْمَقْضِيَّةَ لَا تَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى خِيَارِ الرَّاهِنِ فِي التَّعْيِينِ، وَلَا عَلَى خِيَارِ الْمُرْتَهِنِ لِوُقُوعِ الْإِبْرَاءِ بِالْأَدَاءِ، فَعَلَى هَذَا قَدْ بَرِئَ فِي إِحْدَى الْمِائَتَيْنِ لَا بِعَيْنِهَا، وَخَرَجَ مِنَ الرَّاهِنِ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ، وَبَقِيَ فِي الرَّهْنِ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ، وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ بِعَيْنِهِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَرْهُونُ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَحْبِسَ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ بِعَيْنِهِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَفْكُوكُ، وَيُوضَعُ الْعَبْدَانِ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ لِلْجَهْلِ بِتَعْيِينِ الْمَفْكُوكِ مِنَ الْمَرْهُونِ، إِلَّا أَنْ يَصْطَلِحَا عَلَى فَكِّ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ، وَبَقَاءِ الْآخَرِ بِعَيْنِهِ
(فَصْلٌ)
فَلَوْ كَانَ الرَّاهِنُ قَضَاهُ مِائَةً مُطْلَقَةً، وَلَمْ يَنْوِ بِهَا إِحْدَى الْمِائَتَيْنِ بِكَمَالِهَا كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ:

(6/219)


أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهَا مَوْقُوفَةٌ وَلَهُ أَنْ يَصْرِفَهَا إِلَى أَيِّ الْمِائَتَيْنِ شَاءَ، وَيُفَكُّ بِهَا الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ فِيهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا تَكُونُ قَضَاءً مِنْ قَضَاءٍ مِنَ الْمِائَتَيْنِ نِصْفَيْنِ، وَلَا يَنْفَكُّ وَاحِدٌ مِنَ الْعَبْدَيْنِ.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ كَانَ لِلَّذِيَ افْتَكَّ نِصْفَهُ أَنْ يُقَاسِمَ الْمُرْتَهِنَ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا عَطَفَ الشَّافِعِيُّ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّاهِنُ اثْنَيْنِ وَالْمُرْتَهِنُ وَاحِدٌ، فَيَنْفَكُّ حِصَّةُ أحد الراهنين من الرهنين، إِمَّا بِأَدَاءٍ أَوْ إِبْرَاءٍ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الرهن إذا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يُقَسَّمُ جَبْرًا وَلَا صُلْحًا كَالْعَبْدِ وَالدَّابَّةِ، فَتَكُونُ الْحِصَّةُ الْخَارِجَةُ مِنَ الرَّهْنِ شَائِعَةً، وَلِمَالِكِهَا التَّصَرُّفُ فِيهَا، كَتَصَرُّفِ الشُّرَكَاءِ فِي الْمَشَاعِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُقَسَّمُ جَبْرًا، وَهُوَ ما تماثل أجزاؤه من الحبوب المكيلة والمائعات الموزونة، فإذا ادعى الشريك إلى القيمة أَجْبَرَ الشَّرِيكُ الرَّاهِنَ وَالْمُرْتَهِنَ عَلَى مُقَاسَمَتِهِ، فَإِنْ قسم ذلك بنفسه، وأخذ من الحملة قَدْرَ حِصَّتِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَقَاسَمَهُ الْمُرْتَهِنُ وَالشَّرِيكُ وَالرَّاهِنُ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ لا يجوز، لأن الملك مشترك بينها فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِتَمْلِيكِ بَعْضِهِ، وعلى هذا يكون ما أخذه بالقسمة بينها، وَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ وَمَا تَرَكَهُ بَيْنَهُمَا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، لِأَنَّ مَا أَخَذَهُ لَوْ كَانَ غَاصِبًا ضَمِنَهُ بِمِثْلِهِ، فَإِذَا كَانَ شَرِيكًا ضَمِنَهُ بِحَقِّهِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَخَذَ بِالْقِسْمَةِ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ مَلَكَ مِنْهُ قَدْرَ حِصَّتِهِ، وَضَمِنَ الزِّيَادَةَ لِشَرِيكِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُقَسَّمُ صُلْحًا وَلَا يقسم جبرا، وهو ما اختلقت أجزاؤه وتفاضلت قيمته، كالبقر والأرض والعروض والنبات، فلا تصح للقسمة إلا برضى الرَّاهِنِ الْبَاقِي وَالْمُرْتَهِنِ، فَإِنْ تَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِمُقَاسَمَتِهِ تَصِحُّ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّ لِلرَّاهِنِ حَقَّ الْمِلْكِ وَلِلْمُرْتَهِنِ حق المنفعة الْوَثِيقَةِ، فَإِنْ رَضِيَ الرَّاهِنُ دُونَ الْمُرْتَهِنِ لَمْ يجبر المرتهن؛ لحقه في الْوَثِيقَةِ، فَإِنْ رَضِيَ الرَّاهِنُ دُونَ الْمُرْتَهِنِ لَمْ يجبر المرتهن؛ لحقه فِي الْوَثِيقَةِ، وَلَوْ رَضِيَ الْمُرْتَهِنُ دُونَ الرَّاهِنِ لَمْ يُجْبَرِ الرَّاهِنُ لِحَقِّهِ فِي الْمِلْكِ، وَلَكِنْ لَوْ رَضِيَا مَعًا وَجَعَلَ أَحَدُهُمَا إِلَى

(6/220)


الْآخَرِ مُقَاسَمَةَ الشَّرِيكِ جَازَ ذَلِكَ وَصَحَّتِ الْقِسْمَةُ، سَوَاءٌ قَاسَمَهُ الرَّاهِنُ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، أَوْ قَاسَمَهُ بإذن الراهن.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْذَنَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ فِي أَنْ يَرْهَنَ عَبْدَهُ إِلَّا بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ أَوْ أَجَلٍ مَعْلُومٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي بَابِ بَيْعِ الْحَاكِمِ وَالِاسْتِحْقَاقِ وَاسْتَوْفَيْنَا منصوصها، واستقصينا فروعها، فإذا استعار أرضا لرهنه جَازَ وَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الْعَارِيَةِ، فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ أَنْ يَسْتَعِيرَهُ لِيَرْهَنَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرَ قَدْرَ الْحَقِّ وَوَصْفَهُ وَمُسْتَحَقَّهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الضَّمَانِ، وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ حَتَّى يَذْكُرَ قَدْرَ الْحَقِّ ووصفه ومستحقه.
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ رَهَنَهُ بِأَكْثَرَ لَمْ يَجُزْ مِنَ الرَّهْنِ شيء ".
قال الماوردي: لأنا قد ذكرنا إِذَا أَذِنَ لَهُ مَالِكُ الْعَبْدِ أَنْ يَرْهَنَهُ بِمِائَةٍ، جَازَ أَنْ يَرْهَنَهُ بِالْمِائَةِ فَمَا دُونَ، فَإِنْ رَهَنَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ كَانَ رَهْنُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ بَاطِلًا، وَفِي الْمِائَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ.
(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَهَنَهُ بِمَا أَذِنَ لَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَخْذَهُ بِافْتِكَاكِهِ وَكَانَ الْحَقُّ حَالًّا كَانَ ذَلِكَ له وتبع في ماله حتى يوفى الغريم حقه ولو لم يرد ذلك الغريم أسلم عبده المرهون وإن كان أذن له إلى أجل معلوم لم يكن له أن يأخذه بافتكاكه إلا إلى محله ".
قال الماوردي: قد ذكرنا أنه إذا رهن الْمُسْتَعِيرُ بِمَا أُذِنَ لَهُ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرَهُ ثُمَّ أَرَادَ الْمَالِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ الْمُسْتَعِيرُ بِفِكَاكِهِ، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مُنْجَزًا فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَهُ ذَلِكَ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ؛ لِأَنَّ الْعَوَارِيَ مُسْتَرْجَعَةٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ، لِأَنَّ الضَّمَانَ لَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ الرُّجُوعُ قَبْلَ الْمَحَلِّ، وَقَدِ اسْتَوْفَيْنَا فِي فُصُولٍ هَذِهِ الْمَسَائِلَ مَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ، وَسَنَذْكُرُ فُصُولًا تَتَعَلَّقُ بها.

(فَصْلٌ)
إِذَا اسْتَعَارَ رَجُلَانِ مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا وَرَهَنَاهُ عِنْدَ رَجُلٍ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ، كَانَ نصفه

(6/221)


رَهْنًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا، فَإِنْ أَقْضَاهُ أَحَدُهُمَا خَمْسِينَ خَرَجَ نِصْفُهُ مِنَ الرَّهْنِ، وَلَوِ اسْتَعَارَ رَجُلٌ عَبْدَيْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ وَرَهَنَهُمَا عِنْدَ رَجُلٍ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ كَانَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَفْتَكَّ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ وَيَدْفَعَ نِصْفَ الْمِائَةِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَا لِمَالِكَيْنِ جَرَى عَلَيْهِمَا حُكْمُ الْعَقْدَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ عَالِمًا بِأَنَّ الْعَبْدَيْنِ لِرَجُلَيْنِ فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ الْمَشْرُوطِ ارْتِهَانُ الْعَبْدِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ جَاهِلًا بِأَنَّ العبدين الاثنين فإن قضاه الراهن ما قضاه مجتمعا وافتكها معا فلا خيار له، وإن قَضَاهُ عَنْ أَحَدِهِمَا وَافْتَكَّ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَهَلْ لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: حَكَاهُمَا أَبُو حَامِدٍ فِي جَامِعِهِ.
أَحَدُهُمَا: لَا خِيَارَ لَهُ، لِبَقَاءِ وَثِيقَتِهِ فِي بَاقِي الْحَقِّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّ فَكَّهُمَا مَعًا خَيْرٌ لِلْمُرْتَهِنِ مِنْ فَكِّ أَحَدِهِمَا.

(فَصْلٌ)
وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، وَكَانَ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَاسْتَعَارَهُ رَجُلٌ لِرَهْنِهِ عِنْدَ رجل، وأقر بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَرَهَنَهُ عِنْدَهُ عَلَى الْمِائَةِ، ثُمَّ أَرَادَ الرَّاهِنُ أَنْ يَفُكَّ إِحْدَى الْحِصَّتَيْنِ قَبْلَ الْأُخْرَى، فَإِنْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ عَالِمًا أَنَّ الْعَبْدَ لِرَجُلَيْنِ فَلِلرَّاهِنِ أَنْ يَفُكَّ أَيَّ الْحِصَّتَيْنِ شَاءَ، بِأَنْ يَدْفَعَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا وَيَفُكَّ نِصْفَ الْعَبْدِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ جَاهِلًا فَإِنَّ الْعَبْدَ لِرَجُلَيْنِ فهل للراهن أن يفك إحدى الحصتين، قيل فِكَاكِ الْأُخْرَى أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ نَصَّ عليهما في الرهن الكبير في الْجَدِيدِ.
أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَفُكَّ جَمِيعَهُ، لِأَنَّهُ رَهْنٌ وَاحِدٌ، كَمَا لَوْ رَهَنَ عَبْدًا لِنَفْسِهِ بِمِائَةٍ ثُمَّ أَدَّى تِسْعِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفُكَّ تِسْعَةَ أَعْشَارِهِ، فَعَلَى هَذَا لَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي الْبَيْعِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ: لَهُ أَنْ يَفُكَّ حِصَّتَهُ أَيَّهُمَا شَاءَ، وَيَخْرُجُ نِصْفُ الْعَبْدِ مِنَ الرَّهْنِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَمَا لَوِ اسْتَعَارَ مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا وَمِنْ آخَرَ عَبْدًا جَازَ لَهُ أَنْ يَفُكَّ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ، وَالرَّجُلَانِ، وَإِنْ كان في ملكيهما فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ فَأَحْكَامُهُمَا في البيع والرهن حكم مالكي العبدين المتفرقين، فَعَلَى هَذَا هَلْ لِلْمُرْتَهِنِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ البيع أم لا؟ على قولين. وكذا لو كان عبدين شريكين فاستعار أحد الشريكين حصة شريكه وَرَهَنَهَا مَعَ حِصَّتِهِ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَفُكَّ إِحْدَى الْحِصَّتَيْنِ قَبْلَ الْأُخْرَى أَمْ لَا؟ عَلَى قولين.
(فصل)
ولو كان العبدان رَجُلَيْنِ فَأَذِنَا لِرَجُلٍ أَنْ يَرْهَنَهُ عِنْدَ رَجُلَيْنِ بمائة فَرَهَنَهُ بِهَا، فَلِلرَّاهِنِ أَنْ يُعْطِيَ خَمْسِينَ لِأَحَدِهِمَا وَيَفُكَّ نِصْفَ الْعَبْدِ، وَهَلْ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ وَيَفُكَّ رُبْعَ الْعَبْدِ أَمْ لَا؟ على قولين:

(6/222)


فَلَوْ وَكَّلَ الْمُرْتَهِنَانِ رَجُلًا يَقْبِضُ حَقَّهُمَا فَأَعْطَاهُ الراهن خمسين وقال هي قضاء ما عَلَيَّ وَلَمْ يَدْفَعْهَا الْوَكِيلُ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى قَالَ لَهُ ادْفَعْهَا إِلَى أَحَدِهِمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَانَتْ لِلَّذِي أَمْرَهُ بِدَفْعِهَا إِلَيْهِ، فَلَوْ دَفَعَهُ الْوَكِيلُ إِلَيْهِمَا مَعًا فَقَبَضَاهَا ثُمَّ قَالَ هِيَ لِفُلَانٍ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْآخَرِ مَا قَبَضَ مِنْ مَالِ غَرِيمِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَجَدَ لِغَرِيمِهِ مَالًا وَأَخَذَهُ لَمْ يَكُنْ لِغَرِيمِهِ إِخْرَاجُهُ مِنْ يَدِهِ.

(فصل)
قال الشافعي فِي الرَّهْنِ الْكَبِيرِ فِي الْأُمِّ فِي بَابِ الرِّسَالَةِ فِي الرَّهْنِ: وَإِذَا دَفَعَ رَجُلٌ إِلَى رَجُلٍ مَتَاعًا فَقَالَ ارْهَنْهُ عِنْدَ فُلَانٍ فَرَهَنَهُ عِنْدَهُ ثُمَّ اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ، فَقَالَ الرَّاهِنُ: إِنَّمَا أَمَرْتُ الرَّسُولَ أَنْ يَرْهَنَ عِنْدَكَ بِعَشَرَةٍ، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ جَاءَنِي فِي رِسَالَتِكَ أَنْ أُسَلِّفَكَ عِشْرِينَ فَأَعْطَيْتُهُ إِيَّاهَا وَكَذَّبَهُ الرَّسُولُ فَالْقَوْلُ قَوْلِ الرسول والمرسل؛ لأنها ينكران دعواه وله إحلاف كل واحد منها.
قال الشافعي: وَلَا أَنْظُرُ إِلَى قِيمَةِ الرَّهْنِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ رَدًّا عَلَى مَالِكٍ.
قَالَ الشافعي: فَلَوْ صَدَّقَهُ الرَّسُولُ فَقَالَ: قَبَضْتُ مِنْكَ عِشْرِينَ وَدَفَعْتُهَا إِلَى الْمُرْسِلِ وَكَذَّبَهُ الْمُرْسِلُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُرْسِلِ مَعَ يَمِينِهِ، وَكَانَ الرَّاهِنُ عَلَيْهِ عَشَرَةٌ وَالرَّسُولُ ضَامِنٌ لِلْعَشَرَةِ الَّتِي أَقَرَّ بِقَبْضِهَا الزَّائِدَةِ عَلَى الْعَشَرَةِ الْمَأْمُورِ بِقَبْضِهَا.
(فَصْلٌ)
قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي بَابِ الرِّسَالَةِ فِي الرَّهْنِ: وَلَوِ اختلف الرسول والمرسل فقال المرسل أمرتك أَنْ تَسْتَلِفَ مِنْهُ عَشَرَةً بِغَيْرِ رَهْنٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْسِلِ مَعَ يَمِينِهِ، وَالْعَشَرَةُ حَالَّةٌ عَلَيْهِ بِلَا رَهْنٍ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الرَّسُولِ دَعْوَى غَيْرُ مَقْبُولَةٍ عليه؛ ولأن ضمانه على الرسول من الْعَشَرَةِ، لِأَنَّ الْمُرْسِلَ قَدْ أَقَرَّ بِقَبْضِهَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَلَوْ قَالَ الْمُرْسِلُ أَمَرْتُكَ بِأَنْ تَأْخُذَ عَشَرَةً عَلَى عَبْدِ فُلَانٍ، وَقَالَ الرَّسُولُ بَلْ على ثوبك منها، أو عبد غير العبد الَّذِي قَالَهُ الْمُرْسِلُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ، وَالْعَشَرَةُ حَالَّةٌ عَلَيْهِ، وَلَا رَهْنَ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ الْمُرْسِلُ، وَلَا فِيمَا رَهَنَ الرَّسُولُ، إِلَّا أَنْ يُجَدِّدَ فِيهِ رَهْنًا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ ما رهنه الرَّسُولُ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ الْمُرْسِلُ، وَمَا أَذِنَ فِيهِ الْمُرْسِلُ لَمْ يَرْهَنْهُ الرَّسُولُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: ولو أقام المرتهن يسأل الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِرَهْنِ الْعَبْدِ دُونَ الثَّوْبِ، وَأَنَّهُ نَهَاهُ عَنْ رَهْنِ الثَّوْبِ كَانَتِ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةَ الْمُرْتَهِنِ، وَجَعَلْتُ مَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَيْهِ رهنا، والبينتان ههنا يمكن أن تكونا صادقتين؛ لأنه قد بينها عَنْ رَهْنِهِ بَعْدَ مَا يَأْذَنُ فِيهِ وَيَرْهَنُ ولا يَنْفَسِخُ ذَلِكَ الرَّهْنُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَهَنَ عَبْدَهُ رَجُلَيْنِ وَأَقَرَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهما

(6/223)


بِقَبْضِهِ كُلِّهِ بِالرَّهْنِ وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ رَهْنَهُ وَقَبْضَهُ كَانَ قَبْلَ صَاحِبِهِ وَلَيْسَ الرَّهْنُ فِي يَدَيْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَصَدَّقَ الرَّاهِنُ أَحَدَهُمَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ وَلَوْ أَنْكَرَ أَيُّهُمَا أَوَّلٌ أُحْلِفَ وَكَانَ الرَّهْنُ مَفْسُوخًا وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمَا مَعًا وَإِنْ كَانَ فِي يَدَيْ أَحَدِهِمَا وَصَدَّقَ الَّذِي ليس في يديه ففيها قولان: أحدهما يصدق والآخر لا يصدق لأن الذي في يديه العبد يملك بالرهن مثل ما يملك المرتهن غيره (قال المزني) قلت أنا أصحهما أَنْ يُصَدَّقَ لِأَنَّهُ حَقٌّ مِنَ الْحُقُوقِ اجْتَمَعَ فيه إقرار المرتهن ورب الرهن (قال المزني) ثُمَّ رَأَيْتُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ الَّذِي هو في يديه لأن الراهن مقر له أنه أقبضه إياه في جملة قوله وله فضل يديه على صاحبه فلا تقبل دعوى الراهن عليه إلا أن يقر الذي في يديه أن كل واحد منهما قد قبضه فيعلم بذلك أن قبض صاحبه قبله. ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَ لرجل عبد فادعى عليه رجلان بارتهانه منه فقال: أحدهما رهنتني عبدك هذا، وأقبضت كُلِّ وَاحِدٍ فَهُوَ رَهْنٌ بِحَقِّي وَقَالَ الْآخَرُ بَلْ رَهَنْتَنِيهِ وَأَقْبَضْتَنِيهِ قَبْلَ كُلِّ وَاحِدٍ فَهُوَ رَهْنٌ بِحَقِّي، فَلَا يَخْلُو حَالُ هَذَا الْعَبْدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُكَذِّبَهُمَا مَعًا.
وَالثَّانِي: أَنْ يُكَذِّبَ أَحَدَهُمَا وَيُصَدِّقَ الْآخَرَ.
وَالثَّالِثَ: أن يصدقهما معا.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يُكَذِّبَهُمَا جَمِيعًا فَيَقُولُ مَا رَهَنْتُهُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْكُمَا، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ بَيِّنَةٌ أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَتْ هُنَاكَ بَيِّنَةٌ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِأَحَدِهِمَا أَوْ لَهُمَا، فَإِنْ كَانَتِ الْبَيِّنَةُ لِأَحَدِ المدعيين حُكِمَ بِهَا وَجُعِلَ الْعَبْدُ رَهْنًا فِي يَدِ صَاحِبِهَا، وَالْبَيِّنَةُ هَاهُنَا شَاهِدَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ، لِأَنَّهَا مَسْمُوعَةٌ فِيمَا يُفْضَى إِلَى مَالٍ، وَإِنْ كَانَتِ الْبَيِّنَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُدَّعِيَيْنِ جَمِيعًا فَقَدْ تَعَارَضَتِ الْبَيِّنَتَانِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْبَيِّنَتَيْنِ إِذَا تَعَارَضَتَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: إِسْقَاطُهَا وَالرُّجُوعُ إِلَى الدَّعْوَى.
وَالثَّانِي: الْإِقْرَاعُ بَيْنَهُمَا وَالْحُكْمُ لِمَنْ قُرِعَتْ منهما،
والثالث: استعمالها وقسم الشيء بينها، فَيَجِيءُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِسْقَاطُ الْبَيِّنَتَيْنِ وَالرُّجُوعُ إِلَى الدَّعْوَى.
وَالثَّانِي: الْإِقْرَاعُ بَيْنَ البينتين والحكم لمن قرعت منها.

(6/224)


وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِ الْقَوْلِ الثَّالِثِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُ الْبَيِّنَتَيْنِ، وَجَعْلُ الْعَبْدِ بينهما نصفين على وجهين وهذا حُكْمُ الْبَيِّنَةِ، فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ بَيِّنَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ مَا رَهَنَهُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنْ حَلَفَ فَالْعَبْدُ غَيْرُ مَرْهُونٍ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِنْ نَكَلَ فَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِيَيْنِ، فَإِذَا رُدَّتْ عَلَيْهِمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
إِمَّا أَنْ يَحْلِفَا مَعًا، أَوْ يَنْكُلَا مَعًا، أَوْ يَحْلِفَ أَحَدُهُمَا وَيَنْكُلَ الْآخَرُ، فَإِنْ حَلَفَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا لَا يَكُونُ رَهْنًا عِنْدَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّ يَمِينَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تُعَارِضُ يَمِينَ صَاحِبِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ رَهْنًا بَيْنَهُمَا.
وَإِنْ نَكَلَا لَمْ يَكُنِ الْعَبْدُ رَهْنًا عِنْدَ واحد منها.
فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا وَنَكَلَ الْآخَرُ قُضِيَ بِهِ رَهْنًا لِلْحَالِفِ دُونَ النَّاكِلِ، فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فِي تَكْذِيبِهِ لَهُمَا.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يُصَدِّقَ أَحَدَهُمَا وَيُكَذِّبَ الْآخَرَ فَيَقُولُ: رَهَنْتُهُ مِنْ فُلَانٍ وَأُقْبِضُهُ دُونَ غَيْرِهِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُكَذَّبِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ، أَوْ لَا يَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بينة فالقول قول الراهن المقر من كَوْنِ الْعَبْدِ رَهْنًا عِنْدَ الْمُصَدَّقِ وَهَلْ عَلَيْهِ اليمين أم لا؟ على قولين، المنصوص منها فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ لَا يَمِينَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ تَجِبُ زَجْرًا لِلْمُسْتَحْلَفِ لِيَرْجِعَ عَنْهَا فَيُحْكَمُ بِرُجُوعِهِ، وَهَذَا الرَّاهِنُ لَوْ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ لَمْ يُحْكَمْ بِرُجُوعِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِوُجُوبِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ فِيهِ وَجْهٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ مُخَرَّجٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْإِمْلَاءِ فِي الزَّوْجَةِ إِذَا أَنْكَحَهَا الْوَلِيَّانِ وَصَدَّقَتْ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ أَنَّ عَلَيْهَا الْيَمِينَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَفِي الرَّاهِنِ إِذَا أَقَرَّ بِجِنَايَةِ عَبْدِهِ الْمَرْهُونِ وَقُبِلَ قَوْلُهُ أن عليه اليمين وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ، وَوَجْهُ وُجُوبِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ يُسْتَفَادُ بِهَا إِنْ نَكَلَ أَنْ تُرَدَّ عَلَى الْمُكَذَّبِ فَيَسْتَحِقُّ بِهَا إِنْ حَلَفَ مَا سَنَذْكُرُهُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ فِي وُجُوبِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَمِينَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَحَلَفَ كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا فِي يَدِ الْمُصَدَّقِ، وَإِنْ قُلْنَا عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَنَكَلَ عَنْهَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَنْكُلَ عَنِ الْيَمِينِ وَيَعْتَرِفَ لِلْمُكَذَّبِ، أَوْ يَنْكُلَ عَنْهَا وَلَا يَعْتَرِفَ لِلْمُكَذَّبِ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا وَاعْتَرَفَ لِلْمُكَذَّبِ لَمْ تُرَدَّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُكَذَّبِ، لِحُدُوثِ الِاعْتِرَافِ لَهُ، وَيَصِيرُ الرَّاهِنُ بِهَذَا الِاعْتِرَافِ رَاجِعًا عَنِ الأول مقر لِلثَّانِي فَلَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ عَنِ الْأَوَّلِ، وَكَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِيَدِهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ إِقْرَارِهِ وَهَلْ يُغَرَّمُ قِيمَةَ الرَّهْنِ لِلثَّانِي أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنِ

(6/225)


اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ أَقَرَّ فِي دَارٍ بِيَدِهِ لِزَيْدٍ ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا لِعَمْرٍو، وَهَلْ يُغَرَّمُ قِيمَتَهَا لِعَمْرٍو أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ خَرَجَ مِنْهُمَا هَذَانِ الْوَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ غُرْمُ قِيمَةِ الْعَبْدِ يَكُونُ رَهْنًا بِيَدِ الثَّانِي لِتَفْوِيتِهِ الرَّهْنَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: أَنَّهُ لَا غُرْمَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ بِمَا لَزِمَهُ وَلَمْ يُتْلِفْ عَلَيْهِ مَالًا فَيَلْزَمُهُ غُرْمُهُ، وَهَذَا إِنْ نَكَلَ وَاعْتَرَفَ، فَأَمَّا إِنْ نَكَلَ وَلَمْ يَعْتَرِفْ فَإِنَّ الْيَمِينَ تُرَدُّ عَلَى الْمُكَذَّبِ فَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِيَدِ الْمُصَدَّقِ وَلَا شَيْءَ لِلْمُكَذَّبِ وَإِنْ حَلَفَ الْمُكَذَّبُ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِ وكانت يَمِينُهُ بَعْدَ نُكُولِ الرَّاهِنِ عَنْهَا بِمَنْزِلَةِ إِقْرَارِهِ للأول فاستويا، وإذا كان كذلك فقد حكاهم ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أن الرهن منسوخ، لِأَنَّ جَمِيعَهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَرْهُونًا عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَبْدَ يُجْعَلُ رَهْنًا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، لِأَنَّهُمَا فِيهِ مُتَسَاوِيَانِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْعَبْدَ رَهْنٌ لِلْأَوَّلِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ إِقْرَارِهِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُغَرَّمَ قِيمَتَهُ وَتَكُونَ رَهْنًا بِيَدِ الثَّانِي لِأَجْلِ اعْتِرَافِهِ، فَهَذَا الْحُكْمُ فِيهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُكَذَّبِ بَيِّنَةٌ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ لِلْمُكَذَّبِ بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ لَهُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُصَدَّقِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ تُعَارِضُ بَيِّنَةَ الْمُكَذَّبِ، أَوْ لَا تَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ حُكِمَ لِلْمُكَذَّبِ بِبَيِّنَتِهِ، وَكَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِيَدِ الْمُكَذَّبِ دُونَ الْمُصَدَّقِ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ أَوْلَى مِنَ الْإِقْرَارِ وَإِنْ كان للمصدق بينة سمعت لا عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ وَالْمُقِرُّ لَا تُسْمَعُ عليه البينة بإقراره، ولكن تسمع في معارضة بينة المكذب، فإذا تعارضت قوى المصدق بالإقرار له فحكم له لقوله، وَسَقَطَتِ الْبَيِّنَتَانِ لِتَعَارُضِهِمَا، وَكَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِيَدِ الْمُصَدَّقِ، وَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّانِي فِي تَصْدِيقِ أحدهما ويكذب الْآخَرِ.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يُصَدِّقَهُمَا مَعًا، فَيَقُولُ قَدْ رَهَنْتُهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا وَأَقْبَضْتُهُ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ، إِلَّا أَنْ يَتَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَالْمُتَقَدِّمُ مِنْهُمَا أَحَقُّ بِرَهْنِهِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الرَّاهِنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَعْلَمَ الْمُتَقَدِّمَ مِنْهُمَا أو لا يعلم، فإن قال كنت علمت المتقدم فيهما فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ مَا لَمْ يَكُنْ لواحد من المرتهنين بينة، وإنما لزمه الْيَمِينُ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ عَنْهُمَا وَعَنِ الْأَوَّلِ مِنْهَا قُبِلَ مِنْهُ فَلِذَلِكَ لَزِمَتْهُ الْيَمِينُ، وَإِذَا كَانَتِ الْيَمِينُ لَازِمَةً لَهُ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَحْلِفَ أَوْ يَنْكُلَ، فَإِنْ حَلَفَ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الرهن مقسوم وَسَوَاءٌ كَانَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ أَوْ

(6/226)


فِي يَدِ أَحَدِ الْمُرْتَهِنَيْنِ، لِاسْتِوَائِهِمَا فَيَ الدَّعْوَى، وَسُقُوطِ دَعْوَيْهِمَا بِالْيَمِينِ، وَفِي الرَّهْنِ وَجْهٌ آخَرُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ يَمِينُ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ لَمْ تَكُنْ لِنَفْيِ الرَّهْنِ وَإِنَّمَا كَانَتْ لِنَفْيِ الْعِلْمِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْطُلَ بِهَا الرَّهْنُ، وَإِذَا لَمْ يَبْطُلِ الرَّهْنُ بِيَمِينِهِ كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ نَكَلَا عَنِ اليمين وجب ردها على المرتهنين ولها ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَنْكُلَا عَنْهَا، فَالرَّهْنُ حِينَئِذٍ مَفْسُوخٌ لِنُكُولِهِمَا، وَالْعَبْدُ فِي يَدِ مَالِكِهِ غير مرهون.
الحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَحْلِفَ أَحَدُهُمَا وَيَنْكُلَ الْآخَرُ، فَيُقْضَى لِلْعَبْدِ رَهْنًا فِي يَدِ الْحَالِفِ مِنْهَا دُونَ الناكل.
والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَحْلِفَا مَعًا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّهْنَ مَفْسُوخٌ لِتَعَارُضِ بَيِّنَتِهِمَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ رَهْنٌ بَيْنَهُمَا لِتَسَاوِيهِمَا، وَهَذَا حُكْمُ الرَّهْنِ إِذَا لَمْ يُعْلَمْ تَقَدُّمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، فَأَمَّا إِذَا عُلِمَ تَقَدُّمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، قَالَ هُوَ فُلَانٌ دُونَ فُلَانٍ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الرَّاهِنِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ أَحَدِ الْمُرْتَهِنَيْنِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنَيْنِ جَمِيعًا.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ أَجْنَبِيٍّ.
فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الرَّاهِنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَيَكُونُ رَهْنًا لِمَنْ أَقَرَّ لَهُ مَا لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ بَيِّنَةٌ، وَهَلْ عليه التمييز أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: لَا يَمِينَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ.
وَالثَّانِي: عَلَيْهِ الْيَمِينُ زَجْرًا لَهُ لِيَنْكُلَ عَنْهَا فَتُرَدَّ عَلَى الْآخَرِ.
فَإِنْ قِيلَ لَا يَمِينَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَحَلَفَ كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا فِي يَدِ الْمُقَرِّ لَهُ بِالتَّقَدُّمِ دُونَ الْآخَرِ، وَإِنْ قِيلَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَنَكَلَ عَنْهَا رُدَّتْ عَلَى الْآخَرِ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِيَدِ الْمُقَرِّ لَهُ بِالتَّقَدُّمِ، وَإِنْ حَلَفَ فَفِي الرَّهْنِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ مَضَتْ.
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ مَفْسُوخًا لتعارضهما.
والثاني: يكون بينها لتساويهما.

(6/227)


وَالثَّالِثُ: يَكُونُ رَهْنًا بِيَدِ الْمُقَرِّ لَهُ بِالتَّقَدُّمِ، ويغرم للراهن قِيمَتُهُ تَكُونُ رَهْنًا بِيَدِ الْآخَرِ، وَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فِي كَوْنِ الْعَبْدِ بِيَدِ الرَّاهِنِ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ بِيَدِ أَحَدِ الْمُرْتَهِنَيْنِ، وَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَقَرَّ بِالتَّقَدُّمِ لِمَنْ هُوَ في يده، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَهَلْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ثُمَّ عَلَى مَا مَضَى.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَقَرَّ بِالتَّقَدُّمِ وَالسَّبْقِ لِمَنْ لَيْسَ الْعَبْدُ بِيَدِهِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ صَاحِبِ الْيَدِ دُونَ المرتهن، ووجهه أن فِي الْيَدِ يُنَافِي التَّدَاعِي، أَلَا تَرَى لَوْ تداعيا عبد بعبد مَبِيعًا لَا رَهْنًا وَكَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَصَدَّقَهُمَا عَلَى الْبَيْعِ وَأَقَرَّ بِالتَّقَدُّمِ وَالسَّبْقِ لِغَيْرِ صَاحِبِ الْيَدِ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ، وَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ صَاحِبِ الْيَدِ كَذَلِكَ فِي الرَّهْنِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِنْ حَلَفَ كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِيَدِهِ، وَإِنْ نَكَلَ كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِيَدِ الْمُقَرِّ لَهُ بِالتَّقَدُّمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِ الْيَمِينُ؛ لِأَنَّ ارْتِهَانَهُ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ قَدْ بَطَلَ بنكوله ومع هذا الإقرار لم يحتج إلى يمين.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ دُونَ صَاحِبِ الْيَدِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْيَدَ فِي الرَّهْنِ لَيْسَتْ بَيَانًا لِصِحَّةِ الدَّعْوَى أَلَا ترى لو أنكر الرهن وكان فِي يَدِهِ لَمْ تَكُنْ يَدُهُ دَلِيلًا عَلَى صحة دعواه، وكذلك إِذَا اعْتَرَفَ أَنَّ رَهْنَهُ بَعْدَ الْأَوَّلِ رَهْنًا فَاسِدًا، كَمَا لَوْ أَنْكَرَهُ وَلَمْ تَكُنْ يَدُهُ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ، وَيُفَارِقُ الْبَيْعَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَيْعَ يَنْقُلُ الْمِلْكَ، وَالْيَدَ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرَّهْنُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْبَيْعَ قَدْ أَزَالَ مِلْكَ الْبَائِعِ فَصَارَ مُقَرًّا فِي غَيْرِ مَالِهِ فَلَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ، وَالرَّهْنُ لَمْ يُزِلْ مِلْكَ الراهن وكان مُقَرًّا فِي مِلْكِهِ، وَكَانَ إِقْرَارُهُ نَافِذًا عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ وَهَلْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَمْ لَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ ثُمَّ عَلَى مَا مَضَى حَلِفِهِ وَنُكُولِهِ، وَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّانِي فِي كَوْنِ الْعَبْدِ فِي يَدِ أَحَدِ الْمُرْتَهِنَيْنِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنَيْنِ جَمِيعًا. فَمَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنَيْنِ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ وَيَكُونُ الْعَبْدُ كُلُّهُ رَهْنًا فِي يَدِ الْمُقَرِّ لَهُ، وَهَلْ عَلَى الرَّاهِنِ الْيَمِينُ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ، وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ وَهُوَ الَّذِي فِي يَدِ الْمُقَرِّ لَهُ، وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ الَّذِي فِي يَدِ المرتهن

(6/228)


الْآخَرِ عَلَى قَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِهِ لِغَيْرِهِ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُمَا قَدِ اسْتَوَيَا فِي الْيَدِ وَفُضِّلَ أَحَدُهُمَا بِالْإِقْرَارِ فَكَانَ الْحُكْمُ لَهُ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ يكون الرهن في يد أجنبي، فإنه يسأل عن يده، فإن كانت نابتة عَنِ الرَّاهِنِ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ كَانَ في يد الراهن، وإن كانت نابتة عَنْ أَحَدِ الْمُرْتَهِنَيْنِ كَانَ حُكْمُهُ كَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَإِنْ كَانَتْ غَاصِبَةً لا ينوب بها عن أحد، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدِ الرَّاهِنِ، لِأَنَّهُ مُسْتَحِقُّ الْيَدِ بِحُكْمِ الْمِلْكِ.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ أَصَحُّهُمَا عِنْدِي أَنْ يُصَدَّقَ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ مِنَ الْحُقُوقِ اجْتَمَعَ فِيهِ إِقْرَارُ الْمُرْتَهِنِ وَرَبِّ الرَّهْنِ، ثُمَّ رَأَيْتُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ الفصل إلى آخره.
وكان أَوَّلُ كَلَامِهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ اخْتَارَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ دُونَ صَاحِبِ الْيَدِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: أَصَحُّهُمَا عِنْدِي أَنْ يُصَدَّقَ يَعْنِي الرَّاهِنَ لِأَنَّهُ حَقٌّ مِنَ الْحُقُوقِ اجْتَمَعَ فِيهِ إِقْرَارُ الْمُرْتَهِنِ وَرَبِّ الرَّهْنِ، ثُمَّ آخِرُ كَلَامِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اخْتَارَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ صَاحِبِ الْيَدِ دُونَ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: ثُمَّ رَأَيْتُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ الَّذِي هُوَ فِي يَدَيْهِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ لِلْمُزَنِيِّ أَيْضًا فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إِنَّ الْمُزَنِيَّ قَالَ: أَصَحُّهُمَا عِنْدِي أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ صَرِيحُ أُصُولِهِ، وَالَّذِي أَرَاهُ عَلَى مَذْهَبِي أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي اخْتِيَارِهِ قَوْلَيْنِ ثُمَّ أَخَذَ بِنَصِّ اخْتِيَارِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(6/229)


(باب رهن الأرض)
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " إِذَا رَهَنَ أَرْضًا وَلَمْ يَقُلْ بِبِنَائِهَا وَشَجَرِهَا فَالْأَرْضُ رَهْنٌ دُونَ بِنَائِهَا وَشَجَرِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: إِذَا رَهَنَ أَرْضًا ذَاتَ نَبَاتٍ وَشَجَرٍ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِطَ دُخُولَ نَبَاتِهَا وَشَجَرِهَا فِي الْأَرْضِ، فَيَكُونَ جَمِيعُ ذَلِكَ رَهْنًا مَعَ الْأَرْضِ وِفَاقًا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِطَ خُرُوجَ نَبَاتِهَا وَشَجَرِهَا مِنَ الرَّهْنِ فَيَكُونَ جَمِيعُ ذَلِكَ خَارِجًا مِنَ الرَّهْنِ، وَتَكُونَ الْأَرْضُ وَحْدَهَا رَهْنًا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُطْلَقَ الرَّهْنُ فِي الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ فِي الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ شَرْطٌ، فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الرَّهْنِ أن الأرض تكون رهنا دون نباتها، وَقَالَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ: إِذَا بَاعَهُ الْأَرْضَ ذَاتَ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ مُطْلَقًا، كَانَ الْبِنَاءُ وَالشَّجَرُ دَاخِلًا فِي الْبَيْعِ تَبَعًا لِلْأَرْضِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ سَوَاءٌ، وَأَنَّ الْبِنَاءَ وَالشَّجَرَ خَارِجٌ مِنَ الْعَقْدِ وَغَيْرُ تَابِعٍ لِلْأَرْضِ فِي الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ، وَحَمَلُوا مَا ذَكَرُوهُ فِي الْبُيُوعِ عَلَى بَيْعِ الْأَرْضِ بِحُقُوقِهَا، وَأَمَّا مَعَ الْإِطْلَاقِ فَلَا.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ خَرَّجُوا فِي الرَّهْنِ مِنَ الْبُيُوعِ قَوْلًا، وَفِي الْبُيُوعِ في الرَّهْنِ قَوْلًا، وَجَعَلُوا مَسْأَلَةَ الرَّهْنِ وَالْبُيُوعِ مَعًا على قولين:
أَحَدُهُمَا: دُخُولُ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ تَبَعًا لِلْأَرْضِ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْأَرْضِ فَأَشْبَهَ حُقُوقَ الْأَرْضِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: خُرُوجُ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ فِي الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ لِأَنَّهُ مِمَّا يُمْكِنُ إِفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ فَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ إِلَّا بِالشَّرْطِ كَالْأَرْضِ.

(6/230)


وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، حَمْلُ الْجَوَابِ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَيَكُونُ الْبِنَاءُ وَالشَّجَرُ يَدْخُلَانِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ بِغَيْرِ شَرْطٍ وَلَا يَدْخُلَانِ فِيِ عَقْدِ الرَّهْنِ إِلَّا بِشَرْطٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَيْعَ عقد ينقل الملك قد حل فِيهِ تَوَابِعُ الْمَبِيعِ بِغَيْرِ شَرْطٍ لِقُوَّتِهِ، وَعَقْدُ الرَّهْنِ وَثِيقَةٌ لَا تَنْقُلُ الْمِلْكَ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ إِلَّا مَا سُمِّيَ لِضَعْفِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْبَيْعَ لَمَّا تَبِعَهُ مَا حَدَثَ بَعْدَ الْعَقْدِ تَبِعَهُ مَا كَانَ مَوْجُودًا حِينَ الْعَقْدِ، وَالرَّهْنُ لَمَّا لَمْ يَتْبَعْهُ مَا حَدَثَ بَعْدَ الْعَقْدِ لَمْ يَتْبَعْهُ مَا كَانَ مَوْجُودًا حِينَ الْعَقْدِ.

(فَصْلٌ)
إِذَا قَالَ رَهَنْتُكَ هَذَا الْبُسْتَانَ فَإِنَّ الْغِرَاسَ وَالشَّجَرَ يَدْخُلَانِ فِي الرَّهْنِ لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ، لِأَنَّ الْبُسْتَانَ اسْمٌ يَشْتَمِلُ عَلَى الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا، وَكَذَا لَوْ قَالَ: رَهَنْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ دَخَلَ فِي الرَّهْنِ جَمِيعُ بِنَائِهَا، لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا مَعَ بِنَائِهَا.

(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَهَنَ شَجَرًا وَبَيْنَ الشَّجَرِ بَيَاضٌ فَالشَّجَرُ رَهْنٌ دُونَ الْبَيَاضِ وَلَا يَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ إلا ما سمي ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ
إِذَا رَهَنَ الْبِنَاءَ وَالشَّجَرَ لَمْ يَدْخُلْ فِي الرَّهْنِ بَيَاضُ الْأَرْضِ، وَكَذَا الْبَيْعُ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ أَصْحَابُنَا، لِأَنَّ الشَّجَرَ فَرْعٌ تَابِعٌ وَالْأَرْضَ أَصْلٌ مَتْبُوعٌ، وَالْفَرْعُ قَدْ يَتْبَعُ أَصْلَهُ، وَالْأَصْلُ لَا يَتْبَعُ فَرْعَهُ. فَأَمَّا قَرَارُ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ مِنَ الْأَرْضِ فَغَيْرُ دَاخِلٍ فِي الرَّهْنِ، لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ، وَهَلْ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَدْخُلُ فِيهِ كَالرَّهْنِ.
وَالثَّانِي: يَدْخُلُ فِيهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قُوَّةِ الْبَيْعِ وَضَعْفِ الرَّهْنِ.
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا رَهَنَ ثَمَرًا قَدْ خَرَجَ مِنْ نَخْلَةٍ قبل يحل بَيْعُهُ وَمَعَهُ النَّخْلُ فَهُمَا رَهْنٌ لِأَنَّ الْحَقَّ لَوْ حَلَّ جَازَ أَنْ يُبَاعَ وَكَذَلِكَ إِذَا بلغت هذه الثمرة قبل محل الحق وبيعت خُيِّرَ الرَّاهِنُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنُهَا مَرْهُونًا مَعَ النَّخْلِ أَوْ قِصَاصًا إِلَّا أَنْ تَكُونَ هذه الثمرة تيبس فلا يكون لَهُ بَيْعُهَا إِلَّا بِإِذْنِ الرَّاهِنِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا رَهَنَهُ تَمْرًا مَعَ نَخْلِهِ صَحَّ الرَّهْنُ مِنْهُمَا، سَوَاءٌ كَانَتِ الثَّمَرَةُ بادية الصلاح أو غير بادية الصلاح، مرة كانت أو غير مرة، وَلَيْسَ يَحْتَاجُ صِحَّةُ الرَّهْنِ

(6/231)


إِلَى اشْتِرَاطِ قَطْعِهَا فِي الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهَا تَبَعٌ للنخل يجوز بيعها من غير شرط، فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الرَّهْنِ فِيهِمَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْحَقِّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَجَّلًا أَوْ مُؤَجَّلًا، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مُعَجَّلًا اسْتَقَرَّتْ صِحَّةُ الرَّهْنِ فِي النَّخْلِ وَالثَّمَرَةِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الثَّمَرَةُ تَيْبَسُ وَتَبْقَى مُدَّخَرَةً أَمْ لا؟ لأن تعجيل حقها مُسْتَحَقٌّ وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مُؤَجَّلًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ قَبْلَ تَنَاهِي الثَّمَرَةِ وإدراكها فالراهن فِيهِمَا مُسْتَقِرٌّ عَلَى مَا مَضَى.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ محله بعد تناهي الثمرة من إدراكها فَلَا يَخْلُو حَالُ الثَّمَرة مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مِمَّا يَيْبَسُ وَيُدَّخَرُ وَذَلِكَ أَزْيَدُ فِي ثَمَنِهَا.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مِمَّا ييبس مدخرا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ مِمَّا يُؤْكَلُ وَلَا يَيْبَسُ مُدَّخَرًا.

(فَصْلٌ)
وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا تَيْبَسُ مُدَّخَرَةً وَيَكُونُ أَوْفَرَ مِنْ ثَمَنِهَا كَالرُّطَبِ الَّذِي يَصِيرُ تمرا، أو العنب الَّذِي يُصِيرُ زَبِيبًا، فَالْوَاجِبُ تَجْفِيفُهَا وَاسْتِبْقَاؤُهَا إِلَى حُلُولِ الْحَقِّ، فَإِنْ دَعَا أَحَدُهُمَا إِلَى بَيْعِهَا وَدَعَا الْآخَرُ إِلَى اسْتِبْقَائِهَا حُكِمَ بِقَوْلِ مَنْ دَعَا إِلَى اسْتِبْقَائِهَا، لِأَنَّ مُوجَبَ الرَّهْنِ يَقْتَضِيهِ، وَإِنِ اتُّفِقَ عَلَى بَيْعِهَا فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ.
أَحَدُهَا: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى بَيْعِهَا بِشَرْطِ أَنْ يَتَعَجَّلَ الْمُرْتَهِنُ ثَمَنَهَا. فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لِفَسَادِ الشَّرْطِ وَتَأْخِيرِ الْحَقِّ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى بَيْعِهَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ التَّعْجِيلِ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ، وَقَدْ بَطَلَ الرَّهْنُ فِي الثَّمَرَةِ إِذَا بِيعَتْ، ولا حق للمرتهن في ثمنها.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى بَيْعِهَا لِيَكُونَ ثَمَنُهَا رَهْنًا مَكَانَهَا، فَفِي صِحَّةِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: صحيح ويكون الثمر رهنا.
والثاني: بَاطِلٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا تَوْجِيهَ الْقَوْلَيْنِ مِنْ قَبْلُ.
(فَصْلٌ)
وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ مِمَّا تَيْبَسُ مُدَّخَرَةً لَكِنَّ ذَلِكَ مُوكِسٌ لِثَمَنِهَا وَبَيْعُهَا قَبْلَ الْيُبْسِ وَالْجَفَافِ أَوْفَرُ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى تَرْكِهَا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى بَيْعِهَا.

(6/232)


وَالثَّالِثُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فَيَدْعُو أَحَدُهُمَا إِلَى بَيْعِهَا وَيَدْعُو الْآخَرُ إِلَى تَرْكِهَا، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى تَرْكِهَا إِلَى حُلُولِ الْحَقِّ جَازَ، وَكَانَ النَّقْصُ لِجَفَافِهَا دَاخِلًا عَلَيْهَا بِاخْتِيَارِهِمَا، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى بَيْعِهَا، فَإِنْ بِيعَتْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ رَهْنًا، أَوْ بِيعَتْ مُطْلَقًا حَقَّ الْبَيْعُ وَكَانَ الثَّمَنُ رَهْنًا؛ لِأَنَّ هَذَا الْبَيْعَ لِحِفَاظِ الْحَقِّ، وَتَوْفِيرِ الثَّمَنِ وَلَيْسَ كَالَّذِي تَقَدَّمَ، فَإِنْ بِيعَتْ بِشَرْطِ تَعْجِيلِ الثَّمَنِ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا، وَإِنِ اخْتَلَفَا فَدَعَا أَحَدُهُمَا إِلَى بَيْعِهَا وَدَعَا الْآخَرُ إِلَى تَرْكِهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنْ دَعَا إِلَى تَرْكِهَا إِلَى مَحَلِّ الْحَقِّ لِأَنَّهُ مُوجَبُ الرَّهْنِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ دَعَا إِلَى بَيْعِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَوْفِيرِ الثَّمَنِ وَحِفْظِ الزِّيَادَةِ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ.

(فَصْلٌ)
وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ مِمَّا تُؤْكَلُ رَطْبًا وتفكها ولا تيبس مدخرة فَهَذِهِ الثَّمَرَةُ تَفْسُدُ إِنْ تُرِكَتْ إِلَى مَحَلِّ الْحَقِّ، وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيمَنِ ارْتَهَنَ طَعَامًا رَطْبًا إِلَى أَجَلٍ يَفْسُدُ قَبْلَ مَحَلِّهِ عَلَى قَوْلَيْنِ.
فَأَمَّا رَهْنُ هَذِهِ الثَّمَرَةِ: فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُخْرِجُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالطَّعَامِ الرَّطْبِ، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْوَصْفِ. أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ الرَّهْنَ فِي الثَّمَرَةِ جَائِزٌ وَفِي النخل معا.
وفي القول الثَّانِي: الرَّهْنُ بَاطِلٌ فِي الثَّمَرِ.
وَهَلْ يَبْطُلُ فِي النَّخْلِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: الرَّهْنُ فِي الثَّمَرَةِ جَائِزٌ قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ الطَّعَامِ الرَّطْبِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الثَّمَرَةَ تَبَعٌ لِلنَّخْلِ فَلَمْ يُغَيَّرْ حُكْمُهَا مُفْرَدَةً كسائر التوابع وليس الطعام الرطب كذلك؛ لأن غَيْرُ تَبَعٍ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الرَّهْنَ فِي التَّمْرِ لَا يَبْطُلُ فَهَلْ يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى بَيْعِهَا عِنْدَ تَنَاهِيهَا وَإِدْرَاكِهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهَا كَالطَّعَامِ الرَّطْبِ الَّذِي لَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ عِنْدَ حدوث فساده.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهَا بِخِلَافِ الطَّعَامِ الرَّطْبِ.
وَالْفَرْقُ بينهما: أن الثمرة هاهنا تبع لأصل باقي وَهُوَ النَّخْلُ فَالْحَقُّ يَحْكُمُ أَصْلَهُ، وَوَجَبَ بَيْعُهُ لِيَكُونَ بَاقِيًا مَعًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّعَامُ الرَّطْبُ؛ لأنه لا يتبع أصلا باقيا فكان يحكم نفسه مفردا.

(6/233)


(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَهَنَهُ الثَّمْرَ دُونَ النَّخْلِ طَلْعَا أَوْ مُؤَبَّرَةً أَوْ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا لَمْ يَجُزِ الرَّهْنُ إِلَّا أَنْ يَتَشَارَطَا أَنَّ الْمُرْتَهِنَ إِذَا حَلَّ حَقُّهُ قَطَعَهَا وَبَاعَهَا فَيَجُوزُ الرَّهْنُ لِأَنَّ المعروف من الثمر أنه يترك إلى أن يصلح أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا لمعرفة الناس أنها تترك إلى بدو صلاحها ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي رَهْنِ النَّخْلِ مَعَ الثَّمَرَةِ آنِفًا، وَمَضَى الْكَلَامُ فِي رهن النخل على الإطلاق في حكمه، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي رَهْنِ الثَّمَرَةِ دُونَ النَّخْلِ وَهِيَ إِذَا رُهِنَتْ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ بَادِيَةَ الصَّلَاحِ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ غَيْرَ بَادِيَةِ الصَّلَاحِ.
فَإِنْ كَانَتْ بَادِيَةَ الصَّلَاحِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تُرْهَنَ فِي حَقٍّ حَالٍّ، فَرَهْنُهَا جَائِزٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّا تَيْبَسُ مُدَّخَرَةً أَمْ لَا.
وَالثَّانِي: أَنْ تُرْهَنَ فِي مُؤَجَّلٍ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مِمَّا تَيْبَسُ وَتَجِفُّ، فَرَهْنُهَا جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ، وَسَوَاءٌ كَانَ حُلُولُ الْحَقِّ قَبْلَ جَفَافِهَا أَوْ بَعْدَهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مِمَّا لَا تَيْبَسُ وَلَا تَجِفُّ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حُلُولُ الْأَجَلِ قَبْلَ تَنَاهِيهَا وَفَسَادِهَا فَرَهْنُهَا جَائِزٌ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حُلُولُ الْأَجَلِ بَعْدَ تَنَاهِيهَا وَفَسَادِهَا، فَفِي رَهْنِهَا قَوْلَانِ، كَالطَّعَامِ الرَّطْبِ سَوَاءٌ، بَلْ هِيَ طَعَامٌ رَطْبٌ.
أَحَدُهَا: أَنَّ رَهْنَهَا بَاطِلٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ رَهْنَهَا جَائِزٌ.

(فَصْلٌ)
وإن كانت الثمرة غير بَادِيَةَ الصَّلَاحِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تُرْهَنَ فِي دَيْنٍ حَالٍّ.
وَالثَّانِي: فِي مُؤَجَّلٍ.
فَإِنْ رُهِنَتْ فِي دَيْنٍ حَالٍّ فَهَلْ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ رَهْنِهَا اشْتِرَاطُ قَطْعِهَا، أَمْ لَا؟ عَلَى قولين:

(6/234)


أحدهما: إن اشتراط القطع شرط في صِحَّةِ الرَّهْنِ، فَإِنْ رُهِنَتْ بِغَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ كَانَ رَهْنًا بَاطِلًا كَالْبَيْعِ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَنْصُوصٌ فِي كِتَابِ التَّفْلِيسِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ صَحَّ رَهْنُهَا بِاشْتِرَاطِ قَطْعِهَا فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ بِعْتُهَا عَلَى رؤوس النَّخْلِ قَبْلَ الْقَطْعِ، وَقَالَ الرَّاهِنُ لَسْتُ أَبِيعُهَا إِلَّا بَعْدَ الْقَطْعِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ لِأَجْلِ شَرْطِهِ، وَيُؤْخَذُ الْمُرْتَهِنُ بِقَطْعِهِ قَبْلَ بَيْعِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهُوَ الصحيح: إِنَّ اشْتِرَاطَ الْقَطْعِ فِيهَا لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صحة الرهن، فَإِنْ رَهَنَهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ صَحَّ الرَّهْنُ، وَوَجَبَ بِالْقَطْعِ، فَإِنْ رَهَنَهَا بِغَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ صَحَّ الرَّهْنُ وَلَمْ يَجِبِ الْقَطْعُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنِ الْقَطْعُ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ شَرْطًا، وَإِنْ كَانَ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ شَرْطًا، أَنَّ فِي الْبَيْعِ ثَمَنًا مَنَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ اسْتِحْلَالِهِ فِي الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ فِيمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ " فَكَانَ الْقَطْعُ شَرْطًا فِي صحته، لأن لا يُؤَدِّيَ إِلَى اسْتِحْلَالِ الثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، وَلِأَنَّ حُصُولَهُ فِي يَدِ مُشْتَرِيهِ، وَالرَّهْنُ لَا يُقَابِلُ ثَمَنًا، وَإِنَّمَا دَخَلَ فِي الْحَقِّ وَثِيقَةً، فَلَمْ يَكُنِ الْقَطْعُ فِي صِحَّتِهِ شَرْطًا.

(فَصْلٌ)
وَإِذَا رُهِنَتِ الثَّمَرَةُ فِي دَيْنٍ مُؤَجَّلٍ، فَالْأَجَلُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حُلُولُهُ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ رَهْنِهَا فِي الدَّيْنِ الْحَالِّ، وَهَلْ يَكُونُ اشْتِرَاطُ الْقَطْعِ فِي صِحَّةِ رَهْنِهَا شَرْطًا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حُلُولُ الدَّيْنِ قَبْلَ بدو الصلاح قبل أَنْ يَكُونَ حُلُولُ الدَّيْنِ بَعْدَ شَهْرٍ وَبُدُوُّ الصَّلَاحِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ اشْتِرَاطَ الْقَطْعِ مَعَ الْعَقْدِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ، فَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ قَطْعُهَا فِي الرَّهْنِ فَسَدَ الرَّهْنُ، سَوَاءٌ شُرِطَ قَطْعُهَا عِنْدَ حُلُولِ الدَّيْنِ أَمْ لَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ الطَّعَامِ الرَّطْبِ، لِأَنَّ قَطْعَهَا واجب.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ شَرْطَ قَطْعِهَا مَعَ حُلُولِ الدَّيْنِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يُشْتَرَطَ قَطْعُهَا مَعَ الْعَقْدِ قَبْلَ حُلُولِ الدَّيْنِ، فَعَلَى هَذَا رَهْنُهَا جَائِزٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّا تَيْبَسُ وَتَجِفُّ أَمْ لَا.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ اشْتِرَاطَ قَطْعِهَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، لَا حَالَ الْعَقْدِ، وَلَا عِنْدَ حُلُولِ الدَّيْنِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ مَعَ الْبَيْعِ، فَلَوْ قَالَ الرَّاهِنُ: أَقْطَعُهَا عِنْدَ حُلُولِ الدَّيْنِ وَأَبِيعُهَا، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: بِعْهَا على رؤوس النخل يشرط الْقَطْعَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ قَطْعَهَا يَضُرُّ ولا يوجبه شرط ولا عقد إذا جرت العادة بيعها على رؤوس النَّخْلِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْعَادَةُ جَارِيَةً بِبَيْعِهَا

(6/235)


مَقْطُوعَةً، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ دَعَا إِلَى قَطْعِهَا، لِأَنَّ الْعُرْفَ مَعَهُ، فَأَمَّا إِذَا رَهَنَهَا بِشَرْطِ التبقية كان رهنها باطلا قولا واحد؛ لِأَنَّ رَهْنَهَا يَمْنَعُ مِنْ تَبْقِيَتِهَا.

(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ ثَمَرَةٍ وَزَرْعٍ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا فَمَا لَمْ يَحِلَّ بَيْعُهُ فَلَا يَجُوزُ رَهْنُهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي رَهْنِ ثِمَارِ النَّخْلِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ وَبَعْدَهُ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي غَيْرِ ثِمَارِ النَّخْلِ كالحكم في ثِمَارِ النَّخْلِ، فَأَمَّا الزَّرْعُ فَكَالثَّمَرَةِ أَيْضًا وَالِاشْتِدَادُ كَبُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَعَدَمُ الِاشْتِدَادِ كَعَدَمِ الصَّلَاحِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الزَّرْعُ مُتَّصِلًا غَيْرَ مُشْتَدٍّ، فَإِنْ رهنه في حق معجل فصل يَلْزَمُ اشْتِرَاطُ الْقَطْعِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَإِنْ كَانَ فِي حَقٍّ مُؤَجَّلٍ: فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مُشْتَدًّا فعلى ضربين:
أحدهما: أن يكون بائنا فِي سُنْبُلِهِ غَيْرَ مَسْتُورٍ بِحَائِلٍ كَالشَّعِيرِ فِي سنبله جاز فِي الْمُعَجَّلِ وَالْمُؤَجَّلِ، لِأَنَّ الْحُبُوبَ الْمَزْرُوعَةَ تَيْبَسُ مُدَّخَرَةً فِي الْغَالِبِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَسْتُورًا فِي سُنْبُلِهِ بِحَائِلٍ يَمْنَعُ مِنْ مُشَاهَدَتِهِ كالتين، فَفِي جَوَازِهِ قَوْلَانِ، كَالْبَيْعِ مُعَجَّلًا كَانَ الْحَقُّ أَوْ مُؤَجَّلًا؛ لِأَنَّ مَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لم يجز رهنه.
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ مِنَ الثَّمَرِ شَيْءٌ يَخْرُجُ فَرَهَنَهُ وَكَانَ يَخْرُجُ بَعْدَهُ غَيْرُهُ مِنْهُ فَلَا يَتَمَيَّزُ الْخَارِجُ الْأَوَّلُ الْمَرْهُونُ مِنَ الْآخَرِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَا أن يقطع في مدة قبل أن يلحفه الثَّانِي فَيَجُوزَ الرَّهْنُ فَإِنْ تُرِكَ حَتَى يُخْرِجَ بعده ثمرة لا تتميز ففيها قولان أحدهما أنه يفسد الرهن كما يفسد البيع. والثاني أنه لا يفسد والقول قول الراهن في قدر الثمرة المختلطة من المرهونة كما لو رهنه حنطة فاختلطت بحنطة للراهن كان القول قوله في قدر المرهونة من المختلطة بها مع يمينه (قال المزني) قلت أنا هذا أشبه بقوله وقد بينته في هذا الكتاب في باب ثمر الحائط يباع أصله (قلت أنا) وينبغي أن يكون القول في الزيادة قول المرتهن لأن الثمرة في يديه والراهن مدع قدر الزيادة عليه فالقول قول الذي هي في يديه مع يمينه في قياسه عندي وبالله التوفيق ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا رَهَنَهُ ثَمَرَةً تُخْرِجُ بَعْدَهَا ثَمَرَةً أُخْرَى، فَلَا يَخْلُو حَالُ الثَّمَرَةِ الْخَارِجَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُتَمَيِّزَةً عَنِ الْمُتَقَدِّمَةِ، أَوْ غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ مُتَمَيِّزَةً عَنِ الْمُتَقَدِّمَةِ كَانَ

(6/236)


رَهْنُ الثَّمَرَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، جَائِزٌ، سَوَاءٌ كَانَ الْحَقُّ مُعَجَّلًا أَوْ مُؤَجَّلًا، وَإِنْ كَانَتِ الْحَادِثَةُ غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ عَنِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْحَقِّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أن يكون معجلا، أَوْ مُؤَجَّلًا، فَإِنْ كَانَ مُعَجَّلًا جَازَ رَهْنُ الثَّمَرَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْأَجَلِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ حُلُولُهُ قَبْلَ ثَمَرَةٍ أُخْرَى، أَوْ بعد حدوثها فإن كان حلوله قيل حُدُوثِ ثَمَرَةٍ أُخْرَى فَرَهْنُهَا جَائِزٌ، لِأَنَّهَا وَقْتَ الْبَيْعِ مُمْتَازَةٌ عَنْ غَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ حُلُولُهُ بَعْدَ ثَمَرَةٍ أُخْرَى فَلَا يَخْلُو حَالُ رَهْنِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَرْهَنَ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ إِلَى حُلُولِ الْأَجَلِ، فَرَهْنُهَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهَا وَقْتَ حُلُولُ الْأَجَلِ غَيْرُ مُمْتَازَةٍ، وَإِفْرَادُهَا بِالْبَيْعِ غَيْرُ مُمْكِنٍ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَرْهَنَهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ أَوِ اشْتِرَاطِ الْقَطْعِ مَعَ الرَّهْنِ أَوْ بَعْدَ مُدَّةٍ لَمْ تَخْرُجْ فِيهَا الثَّمَرَةُ الْحَادِثَةُ، فَالْحُكْمُ فِيهِ سَوَاءٌ. وَلَا يَخْلُو حَالُ الثَّمَرَةِ بَعْدَ الْقَطْعِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ تَبْقَى إِلَى حُلُولِ الْأَجَلِ أَوْ لَا تَبْقَى، فَإِنْ كَانَتْ تَبْقَى إِلَى حُلُولِ الْأَجَلِ فَرَهْنُهَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّهَا بِالْقَطْعِ تَمْتَازُ عَنْ غَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَبْقَى إِلَى وَقْتِ حُلُولِ الْأَجَلِ فَرَهْنُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ، كَالطَّعَامِ الرَّطْبِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَرْهَنَهَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ وَلَا شَرْطِ التَّرْكِ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّ رَهْنَهَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الرَّهْنِ يُوجِبُ تَرْكَهَا إِلَى حُلُولِ الأجل، فهذا الرهن بَاطِلٌ، وَفِيهَا وَجْهٌ آخَرُ خَرَّجَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَهْنَهَا جَائِزٌ، قَالَ لأنهما يتطوعان ببيعها وقطعها.

(فصل)
فإذا ثبت جَوَازَ رَهْنِهَا مَشْرُوطٌ بِمَا ذَكَرْنَا فَرَهْنُهَا جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ تُقْطَعْ حَتَّى حَدَثَتْ ثَمَرَةٌ أُخْرَى، فَإِنْ كَانَتِ الْحَادِثَةُ مُتَمَيِّزَةً عَنِ الْأُولَى، فَرَهْنُ الْأُولَى عَلَى حَالِهِ فِي الْجَوَازِ لَا يَتَغَيَّرُ بِحُدُوثِ مَا يُمَيَّزُ عَنْهَا، وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ الْحَادِثَةُ غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ حَادِثَةً قَبْلَ الْقَبْضِ فَيَكُونَ الرَّهْنُ بَاطِلًا لِلْجَهَالَةِ بِقَدْرِ الْمَرْهُونِ قَبْلَ تَمَامِ الرَّهْنِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ جَائِزًا بَعْدَ الْقَبْضِ، فَفِي بُطْلَانِ الرَّهْنِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَاطِلٌ لِلْجَهَالَةِ بِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ جَائِزٌ لِسَلَامَتِهِ إِلَى حِينِ تَمَامِهِ بِالْقَبْضِ، وَبَقَاءُ مَا تَنَاوَلَهُ عَقْدُ الرهن، وَالْجَوَابُ فِي الرَّهْنِ مِمَّا يُخَالِفُ الْجَوَابَ فِي الْبَيْعِ، لِأَنَّ الِاخْتِلَاطَ إِذَا حَدَثَ فِي الْبَيْعِ بَعْدَ الْقَبْضِ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ فِي الرَّهْنِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ

(6/237)


كَانَ الرَّهْنُ بَاطِلًا، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْقَبْضَ فِي الرَّهْنِ شَرْطٌ فِي تَمَامِهِ، وَفِي الْبَيْعِ حَقٌّ مِنْ أَحْكَامِهِ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى التَّفْرِيعِ عَلَيْهِمَا فَإِذَا قُلْنَا بِبُطْلَانِ الرَّهْنِ فَفِي زَمَانِ بُطْلَانِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّهْنَ قَدْ بَطَلَ حِينَ اخْتِلَاطِهِ وَيَجْرِي مَجْرَى تَلَفِ الرَّهْنِ فَيَكُونُ قَاطِعًا لِتَمَامِهِ وَاسْتِدَامَتِهِ، وَلَا يَكُونُ رَافِعًا مِنْ أَصْلِهِ، فَعَلَى هَذَا لَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ، كَمَا لَا يَسْتَحِقُّ بِتَلَفِ الرَّهْنِ بَعْدَ الْقَبْضِ الْخِيَارَ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الرَّهْنَ بَاطِلٌ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ، وَيَكُونُ حُدُوثُ الِاخْتِلَاطِ وإلا عَلَى الْجَهَالَةِ بِهِ حِينَ الْعَقْدِ، فَيَصِيرُ رَافِعًا لَهُ مِنْ أَصْلِهِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَعَلَى هَذَا إِذَا كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ بَاطِلٌ.
وَالثَّانِي: جَائِزٌ وَلِلْبَائِعِ الْخِيَارُ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِالرَّهْنِ وَبَيْنَ فَسْخِهِ، وَإِذَا قُلْنَا بِجَوَازِ الرَّهْنِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّاهِنِ مِنَ الثَّمَرَةِ الْحَادِثَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَرْهَنَهُ إِيَّاهَا.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يسامحه.
والثالث: أن لا يفعل أحدهما ولكن يريد أخذها.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَرْهَنَهُ إِيَّاهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَا قَدْرَهَا أَوْ يَتَّفِقَا عَلَى قَدْرِهَا، فَرَهْنُهَا جَائِزٌ سَوَاءٌ رَهَنَهَا فِي الْحَقِّ الْأَوَّلِ أَوْ فِي غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْحَقِّ الْأَوَّلِ صَارَ مُدْخِلًا رَهْنًا ثَانِيًا عَلَى رَهْنٍ أَوَّلٍ فِي حَقٍّ واحد، وذلك جائز، فيكون جَمِيعُ الثَّمَرَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْهَا وَالْحَادِثَةِ رَهْنًا فِي حَقٍّ وَاحِدٍ، وَإِنْ رَهَنَهَا فِي حَقٍّ ثَانٍ صَارَتِ الثَّمَرَةُ رَهْنَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الرَّهْنَيْنِ مُبْتَاعٌ فِي الرَّهْنِ الْآخَرِ، فيكون بقدر الثَّمَرَةِ الْأُولَى الَّذِي قَدْ عَلِمَاهُ، أَوِ اتَّفَقَا عِلَيْهِ مِنْ نِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ رَهْنًا فِي الْحَقِّ الْأَوَّلِ، وَالثَّمَرَةُ الْحَادِثَةُ الَّتِي قَدْ عَلِمَاهَا أَوِ اتَّفَقَا عَلَيْهَا مِنْ ثُلُثٍ أَوْ ثُلُثَيْنِ رهنا مساغا في الْحَقِّ الثَّانِي.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَعْلَمَا قَدْرَ الثَّمَرَةِ الْحَادِثَةِ وَلَا يَتَّفِقَا عَلَيْهَا، وَإِنْ رَهَنَهَا فِي غَيْرِ الْحَقِّ الْأَوَّلِ كَانَ رَهْنًا بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ رَهْنٌ مَجْهُولُ الْقَدْرِ، وَإِنْ رَهَنَهَا في الحق الأول فعلى وجهين:

(6/238)


أحدهما: أنه رَهْنٌ بَاطِلٌ لِلْجَهَالَةِ بِقَدْرِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ رَهْنٌ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ الثَّانِيَ إِذَا دَخَلَ عَلَى رَهْنٍ أَوَّلٍ صَارَا جَمِيعًا رَهْنًا وَاحِدًا، وَالْجَمِيعُ مَعْلُومٌ، وَإِنْ جُهِلَ قَدْرُ الثَّانِي فَلَا يَمْنَعُ صحة الرهن للجميع جهالة قدر الثاني، وهذا حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُسَامِحَهُ بِهَا فَيَقُولَ قَدْ سَامَحْتُكَ بِالثَّمَرَةِ الْحَادِثَةِ، فَهَذِهِ الْمُسَامَحَةُ تُتْرَكُ الْمُطَالَبَةُ بِهَا، وَلَيْسَتْ رَهْنًا وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا مَتَى شَاءَ، وَيُطَالِبَهُ بِهَا، وَمَا لَمْ يُطَالِبْهُ بِهَا فَهِيَ تَابِعَةٌ لِلرَّهْنِ تُبَاعُ مَعَهُ إِذَا بِيعَ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْمُسَامَحَةُ قَطْعًا لِلِاخْتِلَافِ وَالْمُنَازَعَةِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ لَا يَرْهَنَهَا وَلَا يُسَامِحَ بها ويطالب بأحدها فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي الرَّهْنِ، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى قَدْرِهَا وَأَنَّهَا ثُلُثُ الْجُمْلَةِ أَوْ رُبُعُهَا سَقَطَ النِّزَاعُ، وَكَانَ ذَلِكَ الْعَقْدُ مِنَ الْجُمْلَةِ مَشَاعًا فِي الثَّمَرَةِ خَارِجًا مِنَ الرَّهْنِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِهَا فَقَالَ الرَّاهِنُ: هِي النِّصْفُ، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ، هِيَ الثُّلُثُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّهُ حَلِفٌ فِي قَدْرِ الرَّهْنِ، وَاخْتِلَافُهُمَا فِي قَدْرِ الرَّهْنِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي قَدْرِ الْمَرْهُونِ بَعْدَ الِاخْتِلَاطِ إِذَا لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ يُوجِبُ فَسْخَ الرَّهْنِ، كَمَا أَنَّ اخْتِلَافَ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي قَدْرِ الْمَبِيعِ بَعْدَ الِاخْتِلَاطِ إِذَا لَمْ يَقْدَحْ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ يُوجِبُ فَسْخَ الْبَيْعِ، قِيلَ: هُمَا سَوَاءٌ إِذَا كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْمَبِيعِ فِيمَا لَا يَتَمَيَّزُ أَوْجَبَ فَسْخَ الْبَيْعِ كَالْبُقُولِ الْمَبِيعَةِ بِشَرْطِ الْجَزِّ، فَإِذَا تَأَخَّرَ جَزُّهَا حَتَّى زَادَتْ وَطَابَتْ فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: إِنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: جَائِزٌ.
فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى قَدْرِ الزَّائِدِ مِنْهَا صَحَّ الْبَيْعُ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فُسِخَ الْبَيْعُ، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ زِيَادَةُ الْمَرْهُونِ غَيْرَ مُنْفَصِلَةٍ كَالْعَلَفِ إِذَا طَالَ وَالْبَقْلِ إِذَا زَادَ، فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ الرَّهْنَ بَاطِلٌ، وَالثَّانِي جَائِزٌ فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى قَدْرِ الزِّيَادَةِ فَالرَّهْنُ صَحِيحٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي فَسْخِ الرَّهْنِ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى قَوْلِ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ مَا لا ينفصل يستحيل العلم بحقيقة قدره، وهل الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ إِذَا اخْتَلَطَتْ بِالرَّهْنِ إِذَا كَانَتْ فِي الْبَيْعِ، كَانَ الْحُكْمُ فِيهَا كَالْحُكْمِ فِي الرَّهْنِ فَاسْتَوَيَا.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اعْتَرَضَ عَلَى الشَّافِعِيِّ حَيْثُ قَالَ إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ، وَقَالَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ فِي يَدِهِ، كَالْمُشْتَرِي إِذَا قَبَضَ مَا ابْتَاعَهُ وَاخْتَلَطَ بِمَالِ الْبَائِعِ. كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي، لِكَوْنِهِ فِي يَدِهِ، وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ مِنَ الْمُزَنِيِّ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَالْمَذْهَبُ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ فَاسِدٌ.

(6/239)


وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَالْمُرْتَهِنِ: أَنَّ نِزَاعَهُمَا فِي البيع نزاع في الملك.
واليد تدل، فَكَانَ الْقَوْلَ قَوْلُ صَاحِبِ الْيَدِ، وَنِزَاعُهُمَا فِي الرَّهْنِ نِزَاعٌ فِي قَدْرِ الْمَرْهُونِ، وَالْيَدُ لَا تَدُلُّ عَلَى الرَّهْنِ، فَلَمْ يَجِبْ أَنْ يُحْكَمَ بِقَوْلِ صَاحِبِ الْيَدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا رَهَنَهُ ثَمَرَةً فَعَلَى الرَّاهِنِ سَقْيُهَا وَصَلَاحُهَا وَجِدَادُهَا وَتَشْمِيسُهَا كَمَا يَكُونُ عَلَيْهِ نَفْقَةُ الْعَبْدِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: كُلَّمَا احْتَاجَتِ الثَّمَرَةُ إليه من نفقة سقي أو مؤونة حِفَاظٍ فَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ رَاهِنِهِ الَذِي رَهَنَهُ لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الرَّهْنِ لَوْ كَانَ دَابَّةً لَوَجَبَتْ عَلَى الرَّاهِنِ، فَكَذَلِكَ الثَّمَرَةُ، فَأَمَّا الْجِدَادُ وَالتَّشْمِيسُ: فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الرَّاهِنِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى الرَّاهِنِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ، فَالْمَوْضِعُ الَّذِي قَالَ: يَجِبُ عَلَيْهِ جِدَادُهَا وَتَشْمِيسُهَا إِذَا بَلَغَ وَقْتَ الْجِدَادِ وَالتَّشْمِيسِ فَالْحَقُّ لَمْ يَحِلَّ بَعْدُ، فَعَلَى الرَّاهِنِ جِدَادُهَا وَتَشْمِيسُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ حِفْظِهَا وَصَلَاحِهَا، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْهُ الرَّاهِنُ أُجْبِرَ عَلَيْهِ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي قَالَ لَيْسَ عَلَيْهِ جِدَادُهَا وَتَشْمِيسُهَا هُوَ إِذَا بَلَغَ وَقْتَ الْجِدَادِ وَالتَّشْمِيسِ وَالْحَقُّ قَدْ حَلَّ، لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ بَعْدَ حُلُولِهِ فِي بَيْعِهَا دُونَ تَبْقِيَتِهَا فَلَمْ يَجِبْ عَلَى الرَّاهِنِ جِدَادُهَا وَتَشْمِيسُهَا.
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ وَلَا لِلْمُرْتَهِنِ قَطْعُهَا قَبْلَ أَوَانِهَا إِلَّا بِأَنْ يَرْضَيَا بِهِ وَإِذَا بَلَغَتْ إِبَّانَهَا فَأَيُّهُمَا أَرَادَ قَطْعَهَا جُبِرَ الْآخَرُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ صَلَاحِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِنِ اتَّفَقَا عَلَى قَطْعِهَا فَذَاكَ لَهُمَا، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ إِدْرَاكِهَا أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهَا حَقٌّ لهما، وإن اتفقا على تركها فذلك لها، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ إِدْرَاكِهَا أَوْ قَبْلَهُ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فَدَعَا أَحَدُهُمَا إِلَى قَطْعِهَا وَدَعَا الْآخَرُ إِلَى تَرْكِهَا وَالْحَقُّ مُؤَجَّلٌ لَمْ يَحِلَّ فَلَا يَخْلُو حَالُ الثَّمَرَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: -
إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُدْرَكَةً أَوْ غَيْرَ مُدْرَكَةٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ دَعَا إِلَى تَرْكِهَا، سَوَاءٌ كَانَ الرَّاهِنُ دَاعِيًا إِلَى تَرْكِهَا أَوِ الْمُرْتَهِنُ، لِأَنَّ الثَّمَرَةَ زِيدَ فِي ثَمَنِهَا، وَفِي نَفْسِهَا إِلَى وَقْتِ إِدْرَاكِهَا، وَالزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ بِالرَّهْنِ حَادِثَةٌ عَلَى مِلْكِ الرَّاهِنِ، وَدَاخِلَةٌ فِي وَثِيقَةِ الْمُرْتَهِنِ، فَلَمْ يُجْبَرِ الرَّاهِنُ عَلَى قَطْعِهَا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ مِلْكِهِ مِنْ زِيَادَتِهَا وَلَمْ يُجْبَرِ الْمُرْتَهِنُ عَلَى قَطْعِهَا، لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ استساقة زيادتها، وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ مُدْرَكَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ دَعَا إِلَى قَطْعِهَا، سَوَاءٌ كَانَ الرَّاهِنُ دَاعِيًا إِلَى قَطْعِهَا أَوِ الْمُرْتَهِنُ؛ لِأَنَّ فِي تَرْكِهَا بعد الإدراك إضاعة لها وإتلاف وفي قطعها

(6/240)


حِرَاسَةٌ لَهَا وَحِفْظٌ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ دَعَا إِلَى حِرَاسَتِهَا وَحِفْظِهَا، دُونَ مَنْ دَعَا إِلَى إِضَاعَتِهَا وَإِتْلَافِهَا.
فَلَوْ دَعَا أَحَدُهُمَا إِلَى قَطْعِهَا فِي أَوَّلِ إِدْرَاكِهَا، وَدَعَا الْآخَرُ إِلَى قَطْعِهَا بَعْدَ تَنَاهِي إِدْرَاكِهَا، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يُجْتَنَى رَطْبًا وَلَا يُشَمَّسُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ دَعَا إِلَى قَطْعِهَا مِنْ أَوَّلِ إِدْرَاكِهَا؛ لِأَنَّهُ أحفظ لها، وإن كانت مما يجفف وتشمس، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ دَعَا إِلَى قَطْعِهَا بَعْدَ تَنَاهِي إِدْرَاكِهَا، لِأَنَّهُ أَكْمَلُ لِزِيَادَتِهَا وَأَوْفَرُ لِثَمَنِهَا.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ أَبَى الْمَوْضُوعَةُ عَلَى يَدَيْهِ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِأَنْ يَضَعَهَا فِي مَنْزِلِهِ إِلَّا بِكِرَاءٍ قِيلَ لِلرَّاهِنِ عَلَيْكَ لَهَا مَنْزِلٌ تُحْرَزُ فِيهِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صَلَاحِهَا فَإِنْ جِئْتَ بِهِ وَإِلَّا اكْتَرَى عَلَيْكَ مِنْهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا كَانَ الرَّهْنُ مَوْضُوعًا عَلَى يَدِ عَدْلٍ لِيَشْتَرِطَ فِي عَقْدِ الرَّهْنِ فَأَبَى الْعَدْلُ أَنْ يُحْرِزَهُ فِي مَنْزِلِهِ إِلَّا بِكِرَاءٍ، لَمْ يُجْبَرِ الْعَدْلُ عَلَى إِحْرَازِهِ فِي مَنْزِلِهِ بِغَيْرِ كِرَاءٍ، وَلَا الرَّاهِنُ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ لِلْعَدْلِ الْكِرَاءَ، وَقِيلَ: لِلرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ إِنِ اتَّفَقْتُمَا عَلَى نَقْلِهِ إِلَى يَدِ عَدْلٍ يَتَطَوَّعُ بِإِحْرَازِهِ فِي مَنْزِلِهِ بِغَيْرِ كِرَاءٍ، وَإِلَّا عَلَى الرَّاهِنِ كِرَاءُ مَنْزِلٍ يُحْرِزُ فِيهِ، لِأَنَّ كِرَاءَ الْمَنْزِلِ مِنْ مؤونة الرَّهْنِ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الرَّاهِنِ، وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " له غنمه وعليه غرمه ".
وإن امْتَنَعَ الرَّاهِنُ مِنَ اكْتِرَاءِ مَنْزِلٍ اكْتَرَى الْقَاضِي عليه من ماله فَإِنْ وَجَدَ لَهُ مَالًا غَيْرَ الرَّهْنِ اكْتَرَى فِيهِ وَلَمْ يَبِعْ مِنَ الرَّهْنِ مَا يُكْتَرَى فيه، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ مَالًا غَيْرَ الرَّهْنِ بَاعَ مِنَ الرَّهْنِ بِقَدْرِ مَا يَكْتَرِي بِهِ مَنْزِلًا يُحْرِزُهُ فِيهِ، وَيَكُونُ مَكْرِيُّ الْمَنْزِلِ مُقَدَّمًا بِالْكِرَاءِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَعَلَى سَائِرِ الْغُرَمَاءِ.

(فَصْلٌ)
فَإِنِ اكْتَرَى الْمُرْتَهِنُ مَنْزِلًا مِنْ مَالِهِ لِإِحْرَازِ الرَّهْنِ فِيهِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّاهِنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا، فَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ حَاضِرًا، لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُرْتَهِنِ فِي دَفْعِ الْكِرَاءِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَدْفَعَهُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ، أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. فَإِنْ دَفَعَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ كَانَ مُتَطَوِّعًا بِهِ، وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ، وَإِنْ دَفَعَهُ بِإِذْنِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِشَرْطِ الرُّجُوعِ بِمَا يَدْفَعُ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الرَّاهِنِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ شَرْطِ الرُّجُوعِ، فَهَلْ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الرَّاهِنِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.

(6/241)


فَلَوْ شَرَطَ الْمُرْتَهِنُ الرُّجُوعَ بِمَا دَفَعَ مِنَ الْكِرَاءِ، عَلَى أَنَّ الرَّاهِنَ مَرْهُونٌ فِي يَدِهِ بالحق المتقدم، والأجرة المستأخرة فَيَصِيرُ مُدْخِلًا لِحَقٍّ ثَانٍ عَلَى حَقٍّ أَوَّلٍ فِي رَهْنٍ وَاحِدٍ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ صَلَاحًا فَجَرَى مَجْرَى جِنَايَةِ الْعَبْدِ إِذَا فَدَاهُ الْمُرْتَهِنُ مِنْهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ رَهْنًا بِهَا وَبِحَقِّهِ الْأَوَّلِ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَكُونُ جَوَازُ ذلك على قولين، ومنهم من قال قَوْلًا وَاحِدًا. فَأَمَّا إِنْ كَانَ الرَّاهِنُ غَائِبًا، فَإِنْ دَفَعَ الْمُرْتَهِنُ الْكِرَاءَ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ فَلَهُ الرجوع به، وإن كان بغير إذنه: فَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ مَوْجُودًا وَالْمُرْتَهِنُ عَلَى اسْتِئْذَانِهِ قَادِرًا فَلَا رُجُوعَ لِلْمُرْتَهِنِ بِالْكِرَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ غَيْرَ مَوْجُودٍ فَهَلْ لِلْمُرْتَهِنِ الرُّجُوعُ بِالْكِرَاءِ أم لا؟ على وجهين والله تعالى أعلم.

(6/242)


(بَابُ مَا يُفْسِدُ الرَّهْنَ مِنَ الشَّرْطِ وَمَا لا يفسده وغير ذلك)
قال الشافعي رضي الله عنه: " إِنِ اشْتَرَطَ الْمُرْتَهِنُ مِنْ مَنَافِعِ الرَّهْنِ شَيْئًا فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: عُقِدَ هَذَا الْبَابُ وَمُقَدَّمَتُهُ وَمَا تُبْنَى عَلَيْهِ مَسَائِلُهُ أَنَّ الشَّرْطَ فِي الرَّهْنِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: مَا كَانَ مِنْ مُوجِبَاتِهِ.
وَالثَّانِي: مَا كَانَ مِنْ جَائِزَاتِهِ.
وَالثَّالِثُ: مَا كَانَ مِنْ مَمْنُوعَاتِهِ النَّاقِصَةِ.
وَالرَّابِعُ: مَا كَانَ مِنْ مَمْنُوعَاتِهِ الزَّائِدَةِ.
فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ مِنْهَا وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ مُوجِبَاتِهِ، فَمِثْلُ اشْتِرَاطِ سُقُوطِ ضَمَانِهِ عَنْ مُرْتَهِنِهِ، وَتَمْلِيكِ مَنَافِعِهِ لِرَاهِنِهِ، وَبَيْعِهِ عِنْدَ حُلُولِ أَجَلِهِ، وَقَضَاءِ الْحَقِّ مِنْ ثَمَنِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ قَبْضِهِ وَهَذِهِ وَمَا بَيَّنَّا كُلُّهَا مِنْ مُوجِبَاتِ الرَّهْنِ لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْهَا لَوَجَبَتْ وَإِذَا اشْتَرَطَهَا تَأَكَّدَتْ.
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي مِنْهَا وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ جَائِزَاتِهِ، فَمِثْلُ اشْتِرَاطِ وَضْعِهِ عَلَى يَدِ عَدْلٍ يَرْضَيَانِ بِهِ، وَالتَّوْكِيلِ فِي بَيْعِهِ نِيَابَةً لِرَاهِنِهِ وَمُرْتَهِنِهِ، فَإِنْ شُرِطَ هَذَا مَعَ الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ صَحَّ الْعَقْدُ وَجَازَ الشَّرْطُ، وَإِنْ أَخَلَّا بِتَعْيِينِهِ وَبِالشَّرْطِ صَحَّ الْعَقْدُ وَسَقَطَ الشَّرْطُ، فَأَمَّا حُلُولُ الرَّهْنِ وَتَأْجِيلُهُ فَلَيْسَ مِنْ جَائِزَاتِ الرَّهْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ مُوجِبَاتِ الدَّيْنِ، لَا عَقْدِ الرَّهْنِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِحَسَبِ الدَّيْنِ مِنْ حُلُولِهِ وَتَأْجِيلِهِ، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَقْدُ الرَّهْنِ حَالًّا، فَإِنْ عُقِدَ مُؤَجَّلًا بَطَلَ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ مِمَّا أَمْكَنَ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِهِ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَقْدُ الرَّهْنِ مُؤَجَّلًا، فَإِنْ عَقَدَهُ حَالًّا بَطَلَ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ مَا أَمْكَنَ اسْتِدَامَةَ التَّوَثُّقِ إِلَى حُلُولِ الدَّيْنِ؛ فَلِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُلُولُ الرَّهْنِ وَتَأْجِيلُهُ عَلَى حَسَبِ الدَّيْنِ وَتَأْجِيلِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ مِنْهَا وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ مَمْنُوعَاتِهِ النَّاقِصَةِ قَبْلَ اشْتِرَاطِ تَأْخِيرِ بَيْعِهِ شَهْرًا بَعْدَ حُلُولِ أَجَلِهِ أَوْ يَمْتَنِعُ مِنْ بَيْعِهِ عِنْدَ حُلُولِهِ إِلَّا بِاخْتِيَارِ رَاهِنِهِ، أَوْ يُبَاعُ بِيَمِينٍ عِنْدَ

(6/243)


اسْتِحْقَاقِ بَيْعِهِ، فَإِذَا بِيعَ لَمْ يَسْتَوْفِ جَمِيعَ الْحَقِّ مِنْ ثَمَنِهِ فَهَذِهِ وَمَا شَاءَ كُلُّهَا شُرُوطٌ يَمْنَعُ الرَّهْنُ مِنْهَا، وَهِيَ شُرُوطٌ نَاقِصَةٌ فَكَانَتْ بَاطِلَةً، لِمُنَافَاتِهَا مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَكَانَ الرَّهْنُ بَاطِلًا، لِأَنَّهَا تَمْنَعُ مِنْ مُوجَبِ الرَّهْنِ، وَإِذَا بَطَلَ الرَّهْنُ بِهَا، فَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَهَلْ يَبْطُلُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِبُطْلَانِهِ، لِأَنَّ الرَّهْنَ مِنْ مُقَابَلَةِ جُزْءٍ مِنَ الثَّمَنِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الثَّمَنَ فِي الْعُرْفِ يَزِيدُ بِعَدَمِهِ، وَيَنْقُصُ بِاشْتِرَاطِهِ كَالْخِيَارِ، وَالْأَجَلِ، وَإِذَا بَطَلَ الرَّهْنُ بَطَلَ مِنَ الثَّمَنِ مَا قَابَلَهُ وَذَلِكَ مَجْهُولٌ، وَيُؤَدِّي إِلَى جَهَالَةِ بَاقِي الثَّمَنِ، وَالثَّمَنُ الْمَجْهُولُ يُبْطِلُ صِحَّةَ الْبَيْعِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي إِنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ، وَالْمُرْتَهِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ وَفَسْخِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا وَإِنْ بَطَلَ الرَّهْنُ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ عَقْدٌ يَصِحُّ إِفْرَادُهُ عَنِ الْبَيْعِ، فَإِذَا اقْتَرَنَ بِهِ وَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ بِحُكْمِهِ فَلَا يَكُونُ فَسَادُهُ مُوجِبًا لِفَسَادِ الْبَيْعِ الْمُقْتَرِنِ بِهِ، كَالصَّدَاقِ الَّذِي لَمَّا صَحَّ أَنْ يَكُونَ مُفْرَدًا عَنِ النِّكَاحِ لَمْ يَكُنْ بُطْلَانُهُ مُبْطِلًا لِلنِّكَاحِ، وَبِهَذَا فَارَقَ الْخِيَارَ وَالْأَجَلَ الَّذَيْنِ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ إِفْرَادُهُمَا عَنِ الْعَقْدِ كَانَ بُطْلَانُهُمَا مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الرَّهْنَ فِي مُقَابَلَةِ جُزْءٍ مِنَ الثَّمَنِ لِجَوَازِ اشْتِرَاطِهِ فِي الْقَرْضِ الَّذِي لَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بِشَرْطٍ.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الضَّرْبُ الرَّابِعُ مِنْهَا: وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ مَمْنُوعَاتِهِ الزَّائِدَةِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ زِيَادَةَ صِفَةٍ فِي الْحُكْمِ.
وَالثَّانِي: زِيَادَةً وَثِيقَةً كَالرَّهْنِ.
وَالثَّالِثُ: زِيَادَةَ تَمْلِيكٍ مِنَ الرَّهْنِ.
فَأَمَّا زِيَادَةُ الصِّفَةِ فِي الْحُكْمِ: فَمِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُرْتَهِنُ في العقد ببيع الرَّهْنِ مَتَى شَاءَ، أَوْ يَشْتَرِطَ بَيْعَهُ بِأَيِّ ثَمَنٍ شَاءَ فَهَذَا وَمَا شَاءَ كُلُّهُ شُرُوطٌ زَائِدَةٌ عَلَى مُقْتَضَى الرَّهْنِ فَكَانَتْ بَاطِلَةً لِمُنَافَاتِهَا مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَهَلْ يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِبُطْلَانِهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَ لِشَرْطِ مَا يُنَافِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ شُرُوطًا زَائِدَةً، كَمَا يَبْطُلُ بِاشْتِرَاطِ مَا يُنَافِيهِ مِنَ الشُّرُوطِ النَّاقِصَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الشُّرُوطَ النَّاقِصَةَ تَمْنَعُ بَعْضَ مُوجِبَاتِ الرَّهْنِ فَكَانَتْ مُبْطِلَةً، وَالشُّرُوطُ الزَّائِدَةُ قَدِ اسْتَوْفَى مَعَهَا مُوجِبَاتِ الرَّهْنِ فَلَمْ تُبْطِلْهُ، وَأَمَّا زِيَادَةُ الْوَثِيقَةِ فِي الرَّهْنِ فَمِثْلُ أَنْ يَرْهَنَهُ نَخْلًا عَلَى أَنَّ مَا أَثْمَرَتْ كَانَ رَهْنًا مَعَهَا، أَوْ مَاشِيَةً عَلَى أَنَّ مَا أَنْتَجَتْ كَانَ رَهْنًا مَعَهَا، أَوْ دَارًا عَلَى أَنَّ مَا اسْتُغِلَّ مِنْ أُجْرَتِهَا كَانَ رَهْنًا مَعَهَا، فَهَذَا وَمَا يَشَاءُ كُلُّهُ مِنَ الشُّرُوطِ الزَّائِدَةِ فِي وَثِيقَةِ الرَّهْنِ، وَفِيهَا قَوْلَانِ:

(6/244)


أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّهَا لَازِمَةٌ وَعَقْدُ الرَّهْنِ بِاشْتِرَاطِهَا صَحِيحٌ وَتَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ تَبَعًا لِلرَّهْنِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا بَاطِلَةٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: غُرْمُهُ وَقْتَ عَقْدِهِ.
وَالثَّانِي: جَهَالَةُ قَدْرِهِ.
فَعَلَى هَذَا فِي بُطْلَانِ الرَّهْنِ بِبُطْلَانِ هَذَا الشَّرْطِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّهْنَ بَاطِلٌ بِبُطْلَانِ هَذَا الشَّرْطِ، فَعَلَى هَذَا فِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّهْنَ جَائِزٌ وَإِنْ بَطَلَ هَذَا الشَّرْطُ، فَعَلَى هَذَا الْبَيْعُ أَجْوَزُ، وَالْبَائِعُ فِيهِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إِمْضَائِهِ وَفَسْخِهِ لِبُطْلَانِ الشَّرْطِ فِي إِرْهَانِ الْحَادِثِ.
وَأَمَّا زِيَادَةُ التَّمْلِيكِ فِي الرَّهْنِ: فَمِثْلُ أَنْ يَرْهَنَ نَخْلًا عَلَى أَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ ثَمَرَتَهَا، أَوْ مَاشِيَةً عَلَى أَنَّ لَهُ نِتَاجَهَا، أَوْ دَارًا عَلَى أَنَّ لَهُ سُكْنَاهَا، أَوْ دَابَّةً عَلَى أَنَّ لَهُ رُكُوبَهَا، فَهَذَا وَمَا شَاءَ كُلُّهَا مِنَ الشُّرُوطِ الزَّائِدَةِ فِي تَمَلُّكِهِ مِنَ الرَّهْنِ، إِذَا كَانَتْ مُشْتَرَطَةً فِي رَهْنٍ لَمْ يَخْلُ ذَلِكَ الرَّهْنُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنْ دَيْنٍ أَوْ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ، فَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ مَأْخُوذًا فِي بَيْعٍ كَانَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ كُلُّهَا بَاطِلَةً، لِأَنَّهَا تَمْلِيكُ أَعْيَانٍ وَمَنَافِعَ بِعَقْدٍ لَا يُوجِبُهَا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ يُقَابِلُهَا، وَإِذَا بَطَلَتِ الشُّرُوطُ فَفِي بُطْلَانِ الرَّهْنِ قَوْلَانِ؛ لِأَنَّهَا شُرُوطٌ زَائِدَةٌ، وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ لَمْ تَخْلُ هَذِهِ الشُّرُوطُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَشْرُوطَةً فِي الرَّهْنِ أَوْ فِي الْبَيْعِ، فَإِنْ كَانَتْ مَشْرُوطَةً فِي الرَّهْنِ كَانَتِ الشُّرُوطُ بَاطِلَةً، وَفِي بُطْلَانِ الرَّهْنِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ. فَعَلَى هَذَا فِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ
وَالثَّانِي: جَائِزٌ فَعَلَى هَذَا الْبَيْعُ أَجْوَزُ، وَالْبَائِعُ فِي الْبَيْعِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إِمْضَائِهِ وَفَسْخِهِ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ مَشْرُوطَةً فِي الْبَيْعِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الشَّرْطِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ تَكُونَ أَعْيَانًا أَوْ مَنَافِعَ، فَإِنْ كَانَتْ أَعْيَانًا كَالثِّمَارِ وَالنِّتَاجِ كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلًا وَالْبَيْعُ بَاطِلًا، لِأَنَّهَا تَصِيرُ مِنْ جُمْلَةِ الثَّمَنِ وَهِيَ أَعْيَانٌ مَجْهُولَةٌ لَمْ تُخْلَقْ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ تَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الثَّمَنِ فَبَطَلَتْ وَبَطَلَ الْبَيْعُ بِبُطْلَانِهَا، وَلَا رَهْنَ، فَإِنْ كَانَتْ مَنَافِعَ كَسُكْنَى الدَّارِ، وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ، كَانَ كَاشْتِرَاطِهِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ الَّذِي قَدِ ارْتَهَنَ فِيهِ دَارًا عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا سَنَةً، أَوِ ارْتَهَنَ

(6/245)


فِيهِ دَابَّةً عَلَى أَنْ يَرْكَبَهَا سَنَةً، فَهَذَا عَقْدٌ قَدْ جَمَعَ بَيْعًا وَإِجَارَةً بِعِوَضٍ وَاحِدٍ لَا يُعْرَفُ مِنْهُ حِصَّةُ الْبَيْعِ مِنْ حِصَّةِ الْإِجَارَةِ، وَلِلشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَيْعَ وَالْإِجَارَةَ جَائِزَانِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الشَّرْطُ لَازِمًا، وَالْبَيْعُ صَحِيحًا، وَالرَّهْنُ جَائِزًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْبَيْعَ وَالْإِجَارَةَ بَاطِلَانِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ وَالْإِجَارَةَ مُخْتَلِفَا الْحُكْمِ، فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَجْتَمِعَا فِي الْمَنْفَعَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الشَّرْطُ بَاطِلًا، وَالْبَيْعُ فاسد، وَالرَّهْنُ مَحْلُولًا، فَهَذَا عَقْدُ هَذَا الْبَابِ وَمُقَدِّمَتُهُ وَمَا يُبْنَى عَلَيْهِ مَسَائِلُهُ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ فَالْبَابُ كُلُّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى تِسْعِ مسائل مسطورة. فأول مسائله.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوِ اشْتَرَطَ الْمُرْتَهِنُ مِنْ مَنَافِعِ الرهن شيئا فالشرط باطل، وصورتها في رهن مستقر من ثمن مبيع، أو أرش جناية، أو صداقه زَوْجَةٍ، أَخَذَ بِهِ رَهْنًا وَشَرَطَ الْمُرْتَهِنُ مَنَافِعَهُ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا الشَّرْطُ بَاطِلٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَفِي بُطْلَانِ الرَّهْنِ قَوْلَانِ؛ لِأَنَّهَا شُرُوطٌ زَائِدَةٌ، سَوَاءٌ كَانَ الشَّرْطُ أَعْيَانًا أَوْ مَنَافِعَ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الرَّهْنَ قَدْ بَطَلَ كَانَ الدَّيْنُ مُسْتَقِرًّا بِلَا رَهْنٍ وَلَا خِيَارَ لَهُ.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الرَّهْنَ لَمْ يَبْطُلْ كَانَ وَثِيقَةً فِي الدين ولا خيار له.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَتْ لَهُ أَلْفٌ فَقَالَ زِدْنِي أَلْفًا عَلَى أَنْ أَرْهَنَكَ بِهِمَا مَعًا رَهْنًا يَعْرِفَانِهِ كَانَ الرَّهْنُ مَفْسُوخًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ عَلَيْهِ لِرَجُلٍ أَلْفٌ، فَقَالَ لِمَنْ لَهُ الْأَلْفُ أَقْرِضْنِي أَلْفًا عَلَى أَنْ أُعْطِيَكَ بِهَا وَبِالْأَلْفِ الْأُولَى عَبْدِي الْفُلَانِيِّ رَهْنًا، فَهَذَا قَرْضٌ بَاطِلٌ، وَرَهْنٌ بَاطِلٌ، وَإِنَّمَا يَبْطُلُ الْقَرْضُ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ فِيهِ رَهْنًا فِي الْأُولَى فَصَارَ قَرْضًا جَرَّ مَنْفَعَةً، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَهُوَ رِبًا " وَيَبْطُلُ الرَّهْنُ فِي الْأَلْفِ الْأُولَى وَفِي الْقَرْضِ، وَإِنَّمَا بَطَلَ فِي الرَّهْنِ؛ لِبُطْلَانِ الْقَرْضِ، وَبَطَلَ فِي الأولى؛ لأن الرهن فيهما كان يشرط الْقَرْضِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا فَاسِدٌ مِنْ جِهَةِ الشَّرْطِ فِي الرَّهْنِ، وَهُوَ شَرْطٌ زَائِدٌ فَيَكُونُ الشَّرْطُ فِي نَفْسِهِ بَاطِلًا، وَهَلْ يَبْطُلُ الرَّهْنُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَالصَّحِيحُ على مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ وَهُوَ قَوْلُ سَائِرِ أصحابنا.
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ لَهُ بِعْنِي عَبْدًا بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ أُعْطِيَكَ بِهَا وَبِالْأَلْفِ الَّتِي لَكَ عَلَيَّ بِلَا رَهْنٍ دَارِي رَهْنًا فَفَعَلَ كَانَ الْبَيْعُ والرهن مفسوخا ".

(6/246)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ عَلَيْهِ لِرَجُلٍ أَلْفٌ، فَقَالَ لِمَنْ لَهُ الْأَلْفُ بِعْنِي عَبْدَكَ بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ أُعْطِيَكَ بِهَا وَبِالْأَلْفِ الَّتِي لَكَ عَلَيَّ بِلَا رَهْنٍ دَارِي هَذِهِ رَهْنًا، فَهَذَا بَيْعٌ بَاطِلٌ، وَرَهْنٌ بَاطِلٌ، أَمَّا بُطْلَانُ الْبَيْعِ، فَلِأَنَّهُ شَرَطَ فِيهِ رَهْنًا فِيمَا لَا يَسْتَحِقُّ رَهْنًا فَبَطَلَ، فَكَانَ ذَلِكَ مَضْمُونًا إِلَى الثَّمَنِ فَأَدَّى إِلَى جَهَالَةٍ فِي بَابِ الثَّمَنِ، وَأَمَّا بُطْلَانُ الرَّهْنِ فَيَبْطُلُ فِي الْبَيْعِ، لِبُطْلَانِ الْبَيْعِ وَبَطَلَ فِي الْأَلْفِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ فِيهَا كَانَ بِشَرْطِ الْبَيْعِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: هَذَا فَسَادٌ مِنْ جِهَةِ الشَّرْطِ فِي الرَّهْنِ وَهُوَ شَرْطٌ زَائِدٌ فَكَانَ شَرْطًا بَاطِلًا، وَفِي بُطْلَانِ الرَّهْنِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ بَاطِلٌ، فَعَلَى هَذَا فِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ.
وَالثَّانِي: جَائِزٌ، فَعَلَى هَذَا الْبَيْعُ جَائِزٌ وَالصَّحِيحُ مَا ذكر؛ لأن التعليل يقتضيه.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَسْلَفَهُ أَلْفًا عَلَى أَنْ يَرْهَنَهُ بِهَا رَهْنًا وَشَرَطَ الْمُرْتَهِنِ لِنَفْسِهِ مَنْفَعَةَ الرَّهْنِ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ لِأَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي السَّلَفِ ".
قَالَ الماوردي: صورتها فِي رَجُلٍ اقْتَرَضَ مِنْ رَجُلٍ أَلْفًا عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ بِهَا رَهْنًا مُعَيَّنًا عَلَى أَنَّ لَهُ مَنَافِعَ الرَّهْنِ، وَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْتَرِطَ مَنَافِعَ الرَّهْنِ مِلْكًا لِنَفْسِهِ، فَهَذَا قَرْضٌ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَجُرُّ مَنْفَعَةً، وَرَهْنٌ بَاطِلٌ، لأنه مشروط في قرض قد بطل.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِطَ فِي مَنَافِعِ الرَّهْنِ أَنْ يَكُونَ رَهْنًا وَهِيَ أَعْيَانٌ، فَالْقَرْضُ لَا يَبْطُلُ، لِأَنَّ فَسَادَ الرَّهْنِ فِي الْقَرْضِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْقَرْضِ، وَفِي صِحَّةِ الشَّرْطِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ صَحِيحٌ، وَتَكُونُ الْمَنَافِعُ رَهْنًا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ، وَلَا تَكُونُ الْمَنَافِعُ الْحَادِثَةُ رَهْنًا، فَعَلَى هَذَا فِي بُطْلَانِ الرهن قولان.
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ اشْتَرَى مِنْهُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فَالْبَيْعُ بِالْخِيَارِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ أَوْ إِثْبَاتِهِ والرهن ويبطل الشرط (قال المزني) قلت أنا أصل قول الشافعي كُلَّ بَيْعٍ فَاسِدٍ بِشَرْطٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يجوز وإن أجيز حتى يبتدأ بما يجوز ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ ابْتَاعَ مِنْ رَجُلٍ بَيْعًا وَشَرَطَ أَنْ يُعْطِيَهُ بِثَمَنِهِ رَهْنًا معينا على أن منافع الرهن للمرتهن، وهذا على ضربين:

(6/247)


أحدهما: وهو مسألة الكتاب: أن يكون الشرط بَاطِلًا، وَهَلْ يَبْطُلُ الرَّهْنُ أَمْ لَا؟ عَلَى قولين:
أحدهما: إنه باطل، فعلى هذا من بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا بَاطِلٌ، وَالثَّانِي جَائِزٌ، وَلِلْبَائِعِ الْمُرْتَهِنِ الْخِيَارُ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ وَبَيْنَ فَسْخِهِ. وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ فَسْخُهُ وَإِنْ صَحَّ الرَّهْنُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، لِأَنَّهُ شَرَطَ مَنَافِعَهُ لِنَفْسِهِ فَلَمَّا فَاتَهُ الشَّرْطُ ثَبَتَ له الخيار، وقد كان بعض أصحابنا يرتبها غير هذا الترتيب، وخرج الْمَسْأَلَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: بُطْلَانُ الشَّرْطِ فِي الرَّهْنِ وَالْبَيْعِ.
وَالثَّانِي: بُطْلَانُ الشَّرْطِ وَالرَّهْنِ وَجَوَازُ الْبَيْعِ.
وَالثَّالِثُ: بُطْلَانُ الشَّرْطِ وَجَوَازُ الرَّهْنِ وَالْبَيْعِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ فِي الْبَيْعِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَنَافِعِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ تَكُونَ أَعْيَانًا كَالنِّتَاجِ وَالثِّمَارِ، أَوْ آثَارًا كَالسُّكْنَى وَالرُّكُوبِ، فَإِنْ كَانَتْ أَعْيَانًا كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ الْمَعْدُومَةَ صَارَتْ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ، وَإِذَا بَطَلَ الْبَيْعُ فَلَا رَهْنَ أَصْلًا.
وَإِنْ كَانَتْ آثَارًا كَالسُّكْنَى وَالرُّكُوبِ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُقَدَّرَةٍ بِزَمَانٍ وَإِنَّمَا شُرِطَتْ ما بقي الرهن، فالبيع باطل؛ لأن الرهن قَدْ يُعَجِّلُ قَضَاءَ الْحَقِّ أَوْ يُؤَخِّرُهُ، فَتُجْهَلُ الْمَنَافِعُ الَّتِي هِيَ مُضَافَةٌ إِلَى الثَّمَنِ، وَكَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا وَالرَّهْنُ مَجْهُولًا، وَإِنْ كَانَتْ مُقَدَّرَةً بِزَمَانٍ كَأَنَّهُ شَرَطَ سُكْنَى الدَّارِ الْمَرْهُونَةِ سَنَةً، أَوْ شَرَطَ رُكُوبَ الدَّابَّةِ الْمَرْهُونَةِ شَهْرًا، فَهَذَا عَقْدٌ قَدْ جَمَعَ بَيْعًا وَإِجَارَةً فَكَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمَا بَاطِلَانِ وَلَا رَهْنَ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُمَا جَائِزَانِ وَالرَّهْنُ صَحِيحٌ وَلَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ الْمُرْتَهِنِ لِحُصُولِ غَرَضِهِ وَاسْتِيفَائِهِ.

(فَصْلٌ)
قَدْ ذَكَرْنَا فِي أَصْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ كُلَّ بَيْعٍ فَاسِدٍ بِشَرْطٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ أُجْبِرَ حَتَّى يَعْقِدَا بِمَا يَجُوزُ، وَهَذَا اعْتِرَاضٌ مِنَ الْمُزَنِيِّ عَلَى الضَّرْبِ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ. ظَنَّ فِيهِ أَنَّ الْبَيْعَ إِذَا بَطَلَ بِفَسَادِ الشَّرْطِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ جَعَلَ لِلْمُرْتَهِنِ الْبَائِعِ فِيهِ الْخِيَارَ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ وَبَيْنَ فَسْخِهِ، فَقَالَ: كَيْفَ يُجْعَلُ الْخِيَارُ فِي بَيْعٍ فَاسِدٍ، وَهَذَا غَلَطٌ

(6/248)


مِنَ الْمُزَنِيِّ وَهِمَ فِيهِ عَلَى الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ الْبَيْعَ إِذَا بَطَلَ لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ إِمْضَاؤُهُ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الشَّافِعِيُّ لِلْبَائِعِ الْخِيَارَ فِي إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ إِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ الرَّهْنِ وجواز البيع.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ اشْتَرَطَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَنْ لَا يُبَاعَ الرَّهْنُ عِنْدَ مَحَلِّ الْحَقِّ إِلَّا بِمَا يُرْضِي الرَّاهِنَ أَوْ حَتَى يَبْلُغَ كَذَا أَوْ بَعْدَ مَحَلِّ الْحَقِّ بِشَهْرٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ كَانَ الرَّهْنُ فَاسِدًا حَتَى لَا يَكُونَ دُونَ بَيْعِهِ حائل عند محل الحق ".
قال الماوردي: وقد ذَكَرْنَا أَنَّ الشُّرُوطَ الَّتِي يَمْنَعُ مِنْهَا الرَّهْنُ ضربين:
أَحَدُهَا: شُرُوطٌ نَاقِصَةٌ.
وَالثَّانِي: شُرُوطٌ زَائِدَةٌ.
فَأَمَّا الشُّرُوطُ النَّاقِصَةُ: فَهِيَ مَا شَرَطَهَا الرَّاهِنُ لِنَفْسِهِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَأَمَّا الشُّرُوطُ الزَّائِدَةُ فَهِيَ مَا شَرَطَهَا الْمُرْتَهِنُ لِنَفْسِهِ عَلَى الرَّاهِنِ، فَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ نَاقِصًا كَاشْتِرَاطِ الرَّاهِنِ لِنَفْسِهِ أَنْ لَا يُبَاعَ إِلَّا بِمَا يَرْضَى، أَوْ لَا يُبَاعَ إِلَّا بِمَا سَمَّى، أَوْ لَا يُبَاعَ إِلَّا بَعْدَ مَحَلِّ الْحَقِّ بِشَهْرٍ، أَوْ لَا يُبَاعَ مِنْهُ إِلَّا الْبَعْضُ فَهَذَا شَرْطٌ بَاطِلٌ لِمُنَافَاتِهِ الرَّهْنَ، لِأَنَّ الرَّهْنَ يُوجِبُ بَيْعَهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الحق، رضي الراهن أو لم يرض، ويثمن مِثْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ عِنْدَ مَحَلِّ الْحَقِّ، وَيُبَاعُ مِنْهُ بِقَدْرِ الْحَقِّ، وَإِنْ كَانَ الْأَجَلُ وَالشَّرْطُ إِذْنًا فِي الْعَقْدِ لَوَجَبَ بُطْلَانُ الشَّرْطِ وَالْعَقْدِ، وَإِذَا صَحَّ بِمَا ذَكَرْنَا بِأَنَّ الشَّرْطَ وَالْعَقْدَ بَاطِلَانِ فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ.
وَالثَّانِي: جَائِزٌ.
وَلِلْبَائِعِ الْخِيَارُ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ بَيْنَ الْإِمْضَاءِ وَالْفَسْخِ، وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ زَائِدًا فَقَدْ تَقَدَّمَ مِثَالُهُ، فَإِذَا بَطَلَ الشَّرْطُ كَانَ فِي بُطْلَانِ الرَّهْنِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ كَالشَّرْطِ فِي النَّاقِصِ.
وَالثَّانِي: الرَّهْنُ جَائِزٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الشَّرْطِ النَّاقِصِ وَالشَّرْطِ الزَّائِدِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّاقِصَ قَدْ أَسْقَطَ بَعْضَ مُوجِبَاتِ الرَّهْنِ فَأَبْطَلَهُ، وَالزَّائِدَ قَدِ اسْتَوْفَى مَعَهُ مُوجِبَاتِ الرَّهْنِ فَلَمْ يُبْطِلْهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّرْطَ النَّاقِصَ مُقْتَرِنٌ بِالْعَقْدِ فِي الْحَالِ، وَالزَّائِدَ مُنْتَظَرٌ فِي ثَانِي الْحَالِ، فَصَارَ الرَّهْنُ بِالشَّرْطِ النَّاقِصِ مُقْتَرِنًا ومن الشرط خاليا.

(6/249)


(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَهَنَهُ نَخْلًا عَلَى أَنَّ مَا أَثْمَرَتْ أَوْ مَاشِيَةً عَلَى أَنَّ مَا نَتَجَتْ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الرَّهْنِ كَانَ الرَّهْنُ مِنَ النَّخْلِ وَالْمَاشِيَةِ رَهْنًا وَلَمْ يَدْخُلْ مَعَهُ ثَمَرُ الْحَائِطِ وَلَا نِتَاجُ الْمَاشِيَةِ إِذَا كَانَ الرَّهْنُ بِحَقٍّ وَاجِبٍ قَبْلَ الرَّهْنِ وَهَذَا كَرَجُلٍ رَهَنَ مِنْ رَجُلٍ دَارًا عَلَى أَنْ يَرْهَنَهُ أُخْرَى غَيْرَ أَنَّ الْبَيْعَ إِنْ وَقَعَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فُسِخَ الرَّهْنُ وَكَانَ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ لِأَنَّهُ لَمْ يتم له الشرط (قال المزني) قلت أنا وقال في موضع آخر هذا جائز في قول من أجاز أن يرهنه عبدين فيصيب أحدهما حرا فيجيز الجائز ويرد المردود (قال المزني) وفيها قول آخر يفسد كما يفسد البيع إذا جمعت الصفقة جائزا وغير جائز (قال المزني) قلت أنا ما قطع به وأثبته أولى وجواباته في هذا المعنى بالذي قطع به شبيه وقد قال لو تبايعا على أن يرهنه هذا العصير فرهنه إياه فإذا هو من ساعته خمر فله الخيار في البيع لأنه لم يتم له الرهن ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ ابْتَاعَ بَيْعًا وَشَرَطَ فِيهِ رَهْنًا عَلَى أَنَّ مَنَافِعَ الرَّهْنِ دَاخِلَةٌ فِي الرَّهْنِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَنَافِعِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ تَكُونَ أَعْيَانًا أَوْ آثَارًا، فَإِنْ كَانَتِ الْمَنَافِعُ آثَارًا كَدَارٍ ارْتَهَنَهَا وَشَرَطَ مَعَهَا ارْتِهَانَ سُكْنَاهَا، أَوْ دَابَّةٍ ارْتَهَنَهَا وَشَرَطَ مَعَهَا ارْتِهَانَ رُكُوبِهَا، فَهَذَا شَرْطٌ بَاطِلٌ، لِأَنَّ ارْتِهَانَ سُكْنَى الدَّارِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ مَا أَمْكَنَ اسْتِيفَاءَ الْحَقِّ مِنْهُ عِنْدَ مَحَلِّهِ، وَالرُّكُوبُ وَالسُّكْنَى يَتْلِفُ بِمُضِيِّهِ، وَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلًا فَفِي بُطْلَانِ الرَّهْنِ قَوْلَانِ، وَإِذَا بَطَلَ الرَّهْنُ فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَنَافِعُ أَعْيَانًا كَنَخْلٍ ارْتَهَنَهَا وَشَرَطَ مَعَهَا ارْتِهَانَ مَا يَحْدُثُ مِنْ ثَمَرَتِهَا، أَوْ مَاشِيَةٍ ارْتَهَنَهَا وَشَرَطَ مَعَهَا ارْتِهَانَ ما يحدث من نتاجها فإنه منصوص عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ الشَّرْطَ فِي ارْتِهَانِ مَا يَحْدُثُ مِنَ الثَّمَرَةِ وَالنِّتَاجِ بَاطِلٌ.
وَقَالَ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ الْقَدِيمِ وَفِي الرَّهْنِ الصَّغِيرِ مِنَ الْجَدِيدِ: وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ إِذَا تَشَارَطَا عِنْدَ الرَّهْنِ أَنْ يَكُونَ مَا يَحْدُثُ مِنَ النِّتَاجِ وَالثَّمَرَةِ رَهْنًا يُشْبِهُ أَنْ يَجُوزَ عِنْدِي، وَإِنَّمَا أَجَزْتُهُ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ أَنَّهُ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ، ثُمَّ احْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ مُطَرِّفُ بْنُ مَازِنٍ " أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَضَى بِالْيَمَنِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَيٌّ " أَنَّ مَنِ ارْتَهَنَ نَخْلًا فَثَمَرَتُهَا مَحْسُوبَةٌ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِهِ وَأَبُو حَامِدٍ فِي جَامِعِهِ يُخَرِّجَانِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّرْطَ فِي ارْتِهَانِ مَا يَحْدُثُ مِنَ الثَّمَرَةِ وَالنِّتَاجِ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا مَجْهُولًا فَهُوَ تَبَعٌ لموجود معلوم.

(6/250)


وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الشَّرْطَ فِي ارْتِهَانِ مَا يَحْدُثُ مِنَ الثَّمَرَةِ وَالنِّتَاجِ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ دُخُولُهُ فِي الرَّهْنِ بِغَيْرِ شَرْطٍ صَارَ رَهْنًا مَقْصُودًا فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ تَبَعًا فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الرَّهْنِ إِنْ كَانَ مُفْرَدًا، فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَمْتَنِعُ مِنْ تَخْرِيجِ الشَّرْطِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَيَقُولُ هُوَ بَاطِلٌ قَوْلًا وَاحِدًا.
وَمَا قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ لَيْسَ بِنَصٍّ صَرِيحٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً عَنْ غَيْرِهِ وَهُوَ الْعَبَّاسُ عَلَى قَوْلِهِ، فَإِذَا قِيلَ بِصِحَّةِ الشَّرْطِ كَانَ الرَّهْنُ صَحِيحًا، وَالْبَيْعُ لَازِمًا، وَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ الْبَائِعِ.
وَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ الشَّرْطِ فَفِي بُطْلَانِ الرَّهْنِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ، فَعَلَى هَذَا فِي الْبَيْعِ قَوْلَانِ.
وَالثَّانِي: جَائِزٌ فَعَلَى هَذَا الْبَيْعُ جَائِزٌ، وَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ وَلَهُ مَا شَرَطَهُ مِنِ ارْتِهَانِ مَا يَحْدُثُ مِنْ ثَمَرَةٍ أَوْ نِتَاجٍ.
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يُرَتِّبُ الْمَسْأَلَةَ غَيْرَ هَذَا التَّرْتِيبِ فَيُخَرِّجُ فِيهَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ أَرْبَعَةَ أَقَاوِيلَ، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي عَلِيٍّ ثَلَاثَةَ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الشَّرْطَ وَالرَّهْنَ فِي الْبَيْعِ جَائِزٌ كُلُّهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّرْطَ وَالرَّهْنَ فِي الْبَيْعِ بَاطِلٌ كُلُّهُ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ وَالرَّهْنَ وَالْبَيْعَ جَائِزٌ وَلِلْمُرْتَهِنِ الْخِيَارُ وَكَانَ الْقَاضِي أَبُو الْقَاسِمِ الْمَيْمُونِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُرَتِّبُ الْمَسْأَلَةَ تَرْتِيبًا ثَالِثًا وَيَقُولُ فِي الْبَيْعِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ فَعَلَى هَذَا الرَّهْنُ وَالشَّرْطُ أَبْطَلُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ فَعَلَى هَذَا فِي الرَّهْنِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ، فَعَلَى هَذَا الشَّرْطُ أَبْطَلُ.
وَالثَّانِي: جَائِزٌ، فَعَلَى هَذَا فِي الشَّرْطِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ وَلَهُ الْخِيَارُ.
والثاني: جاز وليس له خيار.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اخْتَارَ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ صَحِيحًا، وَإِنْ بَطَلَ الشَّرْطُ وَالْبَيْعُ جَازَا وَإِنْ بَطَلَ الرَّهْنُ.

(6/251)


وَاسْتَدَلَّ بِصِحَّةِ الرَّهْنِ مَعَ بُطْلَانِ الشَّرْطِ بِمِثْلِهِ، وَبِصِحَّةِ الْبَيْعِ مَعَ بُطْلَانِ الرَّهْنِ بِمِثْلِهِ.
فَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ مَعَ بُطْلَانِ الشَّرْطِ فَهِيَ أَنْ قَالَ: لَوِ ارْتَهَنَ عَبْدَيْنِ فَوَجَدَ أَحَدَهُمَا حُرًّا فَإِنَّ الرَّهْنَ بَاطِلٌ فِي الْحُرِّ جَائِزٌ فِي الْمَمْلُوكِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَمَسْأَلَةُ الْكِتَابِ سَوَاءٌ فِي الصُّورَةِ وَالْحُكْمِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْجَوَابِ، لِأَنَّ الرَّهْنَ بَاطِلٌ فِي الْحُرِّ وَفِي الْمَمْلُوكِ عَلَى قَوْلَيْنِ، كَمَا أَنَّ الرَّهْنَ إِذَا بَطَلَ فِي الثَّمَرَةِ وَالنِّتَاجِ كَانَ الرَّهْنُ عَلَى قَوْلَيْنِ فَلَمْ يَكُنْ لِلْمُزَنِيِّ فِيمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ دَلِيلٌ، وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ مَعَ بُطْلَانِ الرَّهْنِ فَهِيَ إِنْ قَالَ: لَوِ ارْتَهَنَ مِنْهُ عَصِيرًا حُلْوًا فَصَارَ مِنْ سَاعَتِهِ قَبْلَ القبض خمرا إذ الرَّهْنَ فِي الْعَصِيرِ بَاطِلٌ، وَالْبَيْعُ جَائِزٌ، وَهَذِهِ المسألة في العصير تخالف مسألتنا في الصُّورَةِ وَالْحُكْمِ، لِأَنَّ الرَّهْنَ فِي الْعَصِيرِ عَقْدٌ صَحِيحٌ، وَإِنَّمَا طَرَأَ الْفَسَادُ بَعْدَ صِحَّتِهِ بِمَا حَدَثَ فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ الَّتِي صَارَ بِهَا خَمْرًا، فَجَرَى مَجْرَى تَلَفِ الرَّهْنِ وَمَوْتِ الْعَبْدِ بعد الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ فَبَطَلَ الرَّهْنُ لِتَلَفِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَمْ يَبْطُلْ لِصِحَّةِ الرَّهْنِ حِينَ الْعَقْدِ فَكَانَ لِلْمُرْتَهِنِ الْخِيَارُ فِي الْبَيْعِ لِفَوَاتِ مَا شرطه من الرهن.
ومسألة الكتاب إن كان عَقْدُ الرَّهْنِ فِيهَا فَاسِدًا فَكَانَ فَاسِدُ الرَّهْنِ قَادِحًا فِيمَا قُرِنَ مِنَ الْبَيْعِ فَلَمَّا اخْتَلَفَا فِي الشَّرْطِ وَجَبَ أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الْحُكْمِ فَلَمْ يَكُنْ فِيمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ فِيهَا دَلِيلٌ والله تعالى أعلم.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ حَقًّا فَقَالَ قَدْ رَهَنْتُكَهُ بِمَا فِيِهِ وَقَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ وَرَضِيَ كَانَ الْحَقُّ رهنا وَمَا فِيهِ خَارِجًا مِنَ الرَّهْنِ إِنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ لِجَهْلِ الْمُرْتَهِنِ بِمَا فِيهِ وَأَمَّا الْخَرِيطَةُ فَلَا يَجُوزُ الرَّهْنُ فِيهَا إِلَّا بِأَنْ يَقُولَ دُونَ مَا فِيهَا وَيَجُوزُ فِي الْحَقِّ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الْحَقِّ أَنَّ لَهُ قِيمَةً وَالظَّاهِرَ مِنَ الْخَرِيطَةِ أَنْ لَا قِيمَةَ لَهَا وَإِنَمَا يُرَادُ مَا فِيهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: إِذَا رَهَنَهُ حَقًّا أَوْ خَرِيطَةً وَفِي جَوْفِ ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ ثِيَابٍ أَوْ عَرَضٍ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةٍ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَرْهَنَهُ مَا فِي الْحَقِّ أَوِ الْخَرِيطَةِ دُونَ الْحَقِّ [أو الخريطة] فهذا ينظر فيه
فإن كان يَعْلَمَانِ مَا فِي الْحَقِّ أَوِ الْخَرِيطَةِ صَحَّ الرَّهْنُ. وَإِنْ كَانَا يَجْهَلَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا مَا فِي الْحَقِّ أَوِ الْخَرِيطَةِ بَطَلَ الرَّهْنُ. وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَفِي بُطْلَانِ الرَّهْنِ قَوْلَانِ:
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَرْهَنَهُ الْحَقَّ أَوِ الْخَرِيطَةَ دُونَ مَا فِيهَا، فَالرَّهْنُ فِي الْحَقِّ جائز، لأن

(6/252)


غَالِبَ الْحِقَاقِ أَنَّ لَهَا قِيمَةً فَجَازَ رَهْنُهَا، وَالرَّهْنُ فِي الْخَرِيطَةِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ غَالِبَ الْخَرِيطَةِ لَا قِيمَةَ لَهَا فَلَمْ يَجُزْ رَهْنُهَا، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مِمَّا لَا قِيمَةَ لِمِثْلِهِ لَمْ يَجُزْ رَهْنُهَا كَالْخَرِيطَةِ، وَلَوْ كَانَتِ الْخَرِيطَةُ مِمَّا لَهَا قِيمَةٌ جَازَ رَهْنُهَا كَالْحَقِّ.
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَرْهَنَهُ الْحَقَّ وَالْخَرِيطَةَ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ، فَإِنْ كَانَا يَعْلَمَانِ مَا فِيهَا صَحَّ الرَّهْنُ فِي الْحَقِّ وَالْخَرِيطَةِ مَعَ مَا فِيهَا، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْخَرِيطَةُ مِمَّا لَهَا قيمة أو لَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ تَبَعًا لِمَا لَهُ قِيمَةٌ، وَإِنْ كَانَا يَجْهَلَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا مَا فِي الْحَقِّ أَوِ الْخَرِيطَةِ كَانَ رَهْنُ مَا فِيهَا باطل لِلْجَهْلِ بِهِ، وَهَلْ يَبْطُلُ الرَّهْنُ فِي الْحَقِّ أَوِ الْخَرِيطَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ.
أَحَدُهُمَا: يَبْطُلُ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يُمْنَعُ فِيهِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فَعَلَى هَذَا فِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ.
وَالثَّانِي: لَا يَبْطُلُ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ الرَّهْنُ فِي الْحَقِّ إِنْ كَانَ لَهُ قِيمَةٌ، وَيَبْطُلُ فِي الْخَرِيطَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا قِيمَةٌ، وَالْبَيْعُ لَا يَبْطُلُ، وَالْبَائِعُ مُخَيَّرٌ فيه بين الإمضاء والفسخ.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ شُرِطَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَنَّهُ ضَامِنٌ لِلرَّهْنِ وَدَفَعَهُ فَالرَّهْنُ فَاسِدٌ وَغَيْرُ مَضْمُونٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّ الرَّهْنَ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْمُرْتَهِنِ. فَإِذَا شُرِطَ لِلرَّاهِنِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ضَمَانُ الرَّهْنِ كَانَ شَرْطًا بَاطِلًا، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَلَوْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ شَرْطُ اللَّهِ أَحَقُّ وَعَقْدُهُ أَوْثَقُ "، وَلِأَنَّ لِلْعُقُودِ أُصُولًا مُقَدَّرَةً وَأَحْكَامُهَا مُعْتَبَرَةٌ لَا تُغَيِّرُهَا الشُّرُوطُ عَنْ أَحْكَامِهَا فِي شَرْطِ سُقُوطِ الضَّمَانِ وَإِيجَابِهِ كَالْوَدَائِعِ وَالشَّرِكَةُ لَمَّا كَانَتْ غَيْرَ مَضْمُونَةٍ كَالْعُقُودِ لَا تُعْتَبَرُ مَضْمُونَةً بِالشُّرُوطِ وَالْقُرُوضِ وَالْعَوَارِي لَمَّا كَانَتْ مَضْمُونَةً بِالْعَقْدِ لَمْ يَسْقُطِ الضَّمَانُ بِالشَّرْطِ كَذَلِكَ الرَّهْنُ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اشْتِرَاطَ ضَمَانِ الرَّهْنِ فَاسِدٌ وَجَبَ اعْتِبَارُهُ، فَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي عَقْدِ الرَّهْنِ صَحَّ الرَّهْنُ وَبَطَلَ الشَّرْطُ، وَلَمْ يَكُنْ بُطْلَانُهُ قَادِحًا فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي عَقْدِ الرَّهْنِ فَهَذَا مِنَ الشروط الناقضة لِأَنَّهُ شَرْطٌ مِنْ جِهَةِ الرَّاهِنِ يَنْفِي بَعْضَ أَحْكَامِ الرَّهْنِ فَكَانَ الرَّهْنُ بِاشْتِرَاطِهِ فِيهِ بَاطِلًا قَوْلًا وَاحِدًا، وَهَلْ يَبْطُلُ الْبَيْعُ الْمَشْرُوطُ فِيهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَبْطُلُ.
وَالثَّانِي: لَا يَبْطُلُ، لَكِنْ يَكُونُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ وَإِمْضَائِهِ بِلَا رَهْنٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أعلم.

(6/253)


(باب الرهن غير مضمون)
قال الشافعي رضي الله عنه: " أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ وَالرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ " وَوَصَلَهُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِثْلَهُ أَوْ مِثْلَ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ إِذْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ فَمَنْ كَانَ مِنْهُ شَيْءٌ فَضَمَانُهُ مِنْهُ لَا مِنْ غَيْرِهِ " ثَمَّ أَكَدَهُ بِقَوْلِهِ " لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ " وَغُنْمُهُ سَلَامَتُهُ وزيادته وغرمه عطبه ونقصانه ألا ترى لو ارتهن خاتما بدرهم يساوي درهما فهلك الخاتم فمن قال ذهب درهم المرتهن بالخاتم زعم أنه غرمه على المرتهن لأن درهمه ذهب وكان الراهن بريئا من غرمه لأنه قد أخذ ثمنه من المرتهن ولم يغرم له شيئا وأحال ما جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قال) وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا يغلق الرهن " لا يستحقه المرتهن بأن يدع الراهن قضاء حقه عند محله (قال الشافعي) ملك الرهن لربه والمرتهن غير متعد بأخذه ولا مخاطر بارتهانه لأنه لو كان إذا هلك بطل ماله كان مخاطرا بماله وإنما جعله الله تبارك وتعالى وثيقة له وكان خيرا له ترك الارتهان بأن يكون ماله مضمونا في جميع مال غريمه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الرَّهْنِ هَلْ هُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَوْ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى خَمْسَةِ مَذَاهِبَ.
إِحْدَاهَا: وَهُوَ مَذْهَبُنَا أَنَّ الرَّهْنَ أَمَانَةٌ لَا يُضْمَنُ إِلَّا بِالتَّعَدِّي، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمِنَ التَّابِعِينَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ بِأَقَلِّ أَمْرَيْنِ: مِنْ قِيمَتِهِ أَوِ الْحَقِّ الْمَرْهُونِ فِيهِ.
مثاله: أن تكون قيمة الرهن ألفا والحق أَلْفَيْنِ فَيَكُونَ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ وَهِيَ أَلْفٌ، وَلَوْ كَانَ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَلْفَيْنِ، وَالْحَقُّ أَلْفًا، كَانَ مَضْمُونًا بِالْحَقِّ وَهُوَ أَلْفٌ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصحابة عمر.

(6/254)


وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أبو حنيفة وَصَاحِبَاهُ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ بِقِيمَتِهِ وَإِنْ زَادَتْ عَلَى الْحَقِّ وَيَتَرَادَّا فِي الْفَضْلِ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَلْفًا وَالْحَقُّ أَلْفَيْنِ ضَمِنَهُ الْمُرْتَهِنُ بِأَلْفٍ وَرَجَعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِبَقِيَّةِ الْقِيمَةِ وَهِيَ أَلْفٌ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ إِسْحَاقُ.
وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: أَنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ بِالْحَقِّ فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ أَلْفَيْنِ وَقِيمَةُ الرَّهْنِ أَلْفًا ضَمِنَهُ بِالْحَقِّ وَهُوَ أَلْفَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ أَلْفًا، وَقِيمَةُ الرَّهْنِ أَلْفَيْنِ ضَمِنَهُ بِالْحَقِّ وَهُوَ أَلْفٌ، حَتَّى قَالَ أَصْحَابُ هذا المذهب: لو كان قيمة الرهن درهم وَالْحَقُّ أَلْفًا ضَمِنَهُ بِأَلْفٍ، وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ شُرَيْحٌ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ.
وَالْمَذْهَبُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ تَلَفُهُ ظَاهِرًا كَالنُّصْبِ وَالْحَرِيقِ وَانْهِدَامِ الدَّارِ وَنَفَاقِ الْحَيَوَانِ فَهُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ، وَإِنْ كَانَ تَلَفُهُ بَاطِنًا كَالسَّرِقَةِ فَهُوَ مَضْمُونٌ بِقِيمَتِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ فَهَذِهِ جُمْلَةُ مَذَاهِبِ النَّاسِ فِي ضَمَانِ الرَّهْنِ.

(فَصْلٌ)
فَمَنْ أَوْجَبَ ضَمَانَهُ اسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ رَجُلًا رَهَنَ عِنْدَ رَجُلٍ فَرَسًا فَنَفَقَ الْفَرَسُ فِي يَدَيِ الْمُرْتَهِنِ فَاخْتَلَفَا فَتَدَافَعَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذهب حقك قالوا: فلما خير الْمُرْتَهِنُ بِذَهَابِ حَقِّهِ لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ.
إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَخْبَرْ بِذَهَابِ وَثِيقَتِهِ أَوْ بِذَهَابِ الْمُطَالَبَةِ بِبَدَلِهِ أَوْ بِذَهَابِ دَيْنِهِ فَلَمْ يَحْسُنْ أَنْ يُخْبِرَ بِذَهَابِ وَثِيقَتِهِ لِأَنَّ هَذَا يُعْلَمُ ضَرُورَةً بِالْحُسْنِ وَلَمْ يَكُنِ اخْتِلَافُهُمَا فِيهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْبِرَهُ بِذَهَابِ الْمُطَالَبَةِ بِبَدَلِهِ، لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِبَدَلِهِ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً قَبْلَ تَلَفِهِ فَيَذْهَبُ بِتَلَفِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ بِذَهَابِ دَيْنِهِ، وَبِرِوَايَةِ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ ".
قَالُوا: فَلَمَّا جَعَلَ الرَّهْنَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَلَفُهُ مُسْقِطًا لِلْحَقِّ.
قَالُوا: وَلِأَنَّ الْحَقَّ مُتَعَلِّقٌ بِالرَّهْنِ كَتَعَلُّقِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ بِالْعَبْدِ ثُمَّ ثبت أن تلف العبد الجاني مسقطا للأرش فكذا تلف الرهن مسقط للحق.

(6/255)


وتحريره علة أَنَّهُ اسْتِيفَاءُ حَقٍّ تَعَلَّقَ ابْتِدَاءً بِالْعَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ بِتَلَفِ الْعَيْنِ كَالْعَبْدِ الْجَانِي
وَقَوْلُهُمُ ابْتِدَاءً: احْتِرَازًا مِنْ وَلَدِ الْمَرْهُونِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْحَقَّ يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَلَا يُسْقِطُ بِتَلَفِهِ لِأَنَّ حَقَّ الِاسْتِيفَاءِ لَمْ يَتَعَلَّقْ فِي الِابْتِدَاءِ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ مُحْتَبَسٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ بِالْحَقِّ كَمَا أَنَّ الْمَبِيعَ مُحْتَبِسٌ فِي يَدِ الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ، فَلَمَّا كَانَ تَلَفُ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ مُوجِبًا لِسُقُوطِ الثَّمَنِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَلَفُ الرَّهْنِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ مُوجِبًا لِسُقُوطِ الحق.
وتحريره علة أَنَّهُ مُحْتَبِسٌ بِعَقْدٍ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِيثَاقِ لِاسْتِيفَاءِ مَالٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَلَفُهُ مُوجِبًا لِسُقُوطِ الْمَالِ كَالْمَبِيعِ إِذَا تَلِفَ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَلِأَنَّ أَخْذَ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَلَفِهِ ضَمَانُ ذَلِكَ الْوَجْهِ كَالسَّوْمِ، لِأَنَّ الْمُسَاوِمَ يأخذ الشيء على وجد الْبَدَلِ، فَإِذَا تَلِفَ فِي يَدِهِ لَزِمَهُ الْبَدَلُ كَذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ يَأْخُذُ الرَّهْنَ عَلَى وَجْهِ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ فَإِذَا تَلِفَ فِي يَدِهِ تَلِفَ بِالْحَقِّ.
وتحريره علة أَخَذَ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ إِذَا تَلِفَ حُكْمَ الْمُسْتَوْفَى كَالسَّوْمِ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ فِي مُقَابَلَةِ الْحَقِّ فَلَمَّا كَانَ الْحَقُّ مَضْمُونًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنَ الرَّهْنِ مَضْمُونًا كَالدُّيُونِ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مَضْمُونٍ كَانَ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنَ الْحَقِّ غَيْرَ مضمون كالودائع.
تحريره أَنَّهُ مَأْخُوذٌ فِي مُقَابَلَةِ حَقٍّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ فِي الضَّمَانِ حُكْمَ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنَ الْحَقِّ كَالْقُرُوضِ الْمَأْخُوذَةِ فِي الدَّيْنِ، ولأنه عقد يقضي إِلَى زَوَالِ الْمِلْكِ فِي ثَانِي حَالٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا فِي الْحَالِ كَالْقَرْضِ.
وِالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ مَعْمَرٍ وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ وَابْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنِ الزُّهُرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ.
فَالدَّلَالَةُ مِنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: قَوْلُهُ لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ لَهُ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَا يَمْلِكُهُ عِنْدَ تَأَخُّرِ الْحَقِّ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ غَلْقًا فَيَتْلَفَ الْحَقُّ بِتَلَفِهِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَفِي هَذَا نَظَرٌ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُبْهَمَ إِذَا لَمْ يُعْلَمْ مُرَادُهُ بِمُجَرَّدِهِ لَمْ يَجُزِ ادِّعَاءُ الْعُمُومِ فِي مُوجَبِهِ حَتَّى يَكُونَ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ يَتَنَاوَلُ شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ ادِّعَاءُ الْعُمُومِ فِيهِ.
وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ الْخَبَرِ قَوْلُهُ " الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ " يَعْنِي: مِنْ ضَمَانِ

(6/256)


صَاحِبِهِ، وَلَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ مِلْكِ صَاحِبِهِ، لِأَنَّ حَرْفَ التَّمْلِيكِ هُوَ اللَّامُ فَلَوْ أَرَادَ الْمِلْكَ لَقَالَ الرَّهْنُ لِصَاحِبِهِ وَلَفْظَةُ " مِنْ " مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الضَّمَانِ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: هَذَا مِنْ ضَمَانِ فُلَانٍ فَلَمَّا قَالَ: " مِنْ صَاحِبِهِ " عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ مِنْ ضَمَانِ صَاحِبِهِ وَالدَّلَالَةُ الثالثة من الخبر قوله " لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ " قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ الله عنه: غنمه زيادة وَنَمَاؤُهُ وَغُرْمُهُ عَطَبُهُ وَنَقْصُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: الْغُرْمُ فِي اللِّسَانِ هُوَ الْتِزَامُ الْبَدَلِ عَنِ الشَّيْءِ عَنْ تَلَفِهِ وَلَا يَنْطَلِقُ اسْمُ الْغُرْمِ عَلَى مَنْ تَلِفَ الشَّيْءُ مِنْ مَالِهِ.
قِيلَ: قَدْ يَنْطَلِقُ اسْمُ الْغُرْمِ عَلَى الْأَمْرَيْنِ مَعًا عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَصِيرُ غَارِمًا لِلْحَقِّ، ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ أَيْضًا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَمْ تَجِدُوا كاتبا فرهن مقبوضة} [البقرة: 282] فجعل الله تعالى الرهن بدل مِنَ الْكِتَابِ وَالْإِبْدَالِ فِي عَامِّ أَحْكَامِهَا وَفِي حُكْمِ مُبْدَلَاتِهَا، كَالصِّيَامِ فِي الْكَفَّارَةِ لَمَّا كَانَ بَدَلًا مِنَ الْعِتْقِ كَانَ فِي الْوُجُوبِ كَالْعِتْقِ، وَكَالتَّيَمُّمِ فِي الطَّهَارَةِ لَمَّا كَانَ بَدَلًا مِنَ الْمَاءِ كَانَ فِي الْوُجُوبِ كَالطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ، وَإِذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْبَدَلِ حُكْمَ الْمُبْدَلِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الشَّاهِدِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الرَّهْنِ حُكْمَ الْكِتَابِ فَلَمَّا كَانَ تَلَفُ الْكِتَابِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحَقِّ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَلَفُ الرَّهْنِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحَقِّ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ كَالضَّمَانِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ لَا يَسْقُطُ بِتَلَفِ الضَّامِنِ وَجَبَ أن لا يسقط بتلف الرهن.
وتحريره علة أَنَّهُ وَثِيقَةٌ فِي الْحَقِّ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ تَلَفُهُ مُسْقِطًا لِلْحَقِّ كَالضَّمَانِ، وَلِأَنَّ فَاسِدَ كُلِّ عَقْدٍ مَرْدُودٌ إِلَى صَحِيحِهِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَسُقُوطِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ لَمَّا كَانَ فَاسِدُهُ مَضْمُونًا كَانَ صَحِيحُهُ مَضْمُونًا، وَالشَّرِكَةُ وَالْمُضَارَبَاتُ لَمَّا كَانَ صَحِيحُهَا غَيْرَ مَضْمُونٍ كَانَ فَاسِدُهَا غَيْرَ مَضْمُونٍ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الرَّهْنَ الْفَاسِدَ غَيْرُ مَضْمُونٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ الصحيح غير مضمون.
وتحريره علة أَنَّهُ عَقْدٌ فَاسِدٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ صَحِيحُهُ غَيْرَ مَضْمُونٍ كَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَاتِ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ قَدْ يَبْطُلُ بِتَلَفِهِ كَمَا يَبْطُلُ بِفَسْخِهِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ بُطْلَانَهُ بِالْفَسْخِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحَقِّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بُطْلَانَهُ بِالتَّلَفِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحَقِّ.
وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ مَعْنًى يُبْطِلُ الرَّهْنَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُسْقِطَ الْحَقَّ كَالْفَسْخِ، وَلِأَنَّ الْأُصُولَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ بَعْضُهُ غَيْرَ مَضْمُونٍ كَانَ جَمِيعُهُ غَيْرَ مَضْمُونٍ كَالْوَدَائِعِ وَالشَّيْءِ الْمُسْتَأْجَرِ، وَكُلُّ شَيْءٍ كَانَ بَعْضُهُ مَضْمُونًا كَانَ جَمِيعُهُ مَضْمُونًا كَالْبُيُوعِ والغصوب، فلما كان كَانَ بَعْضُ الرَّهْنِ غَيْرَ مَضْمُونٍ وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْحَقِّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُ غَيْرَ مَضْمُونٍ بِالْحَقِّ.
وَقَدْ يَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ:

(6/257)


أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَقْبُوضٌ لَا يُوجِبُهُ ضَمَانُ بَعْضِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ ضَمَانُ جَمِيعِهِ كَالْوَدَائِعِ، وَالشَّيْءِ الْمُسْتَأْجَرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَرْهُونٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِالْعَقْدِ غَيْرَ مَضْمُونٍ كَالزِّيَادَةِ عَلَى الْحَقِّ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ لِمَنْ لَهُ الْحَقُّ، فَلَوْ كَانَ مَضْمُونًا بِالْحَقِّ لَكَانَ وَثِيقَةً عَلَى مَنْ لَهُ الْحَقُّ، وَفِي ذَلِكَ إِبْطَالٌ لِمَعْنَى الرَّهْنِ، وَهَذَا اسْتِدْلَالُ الشَّافِعِيِّ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لمرتهن الفرس " ذهب حقك " فراويه مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، ثُمَّ هُوَ مُرْسَلٌ؛ لِأَنَّهُ عَنْ عَطَاءٍ وَالْمَرَاسِيلُ عِنْدَنَا لَا يَجِبُ بِهَا الْعَمَلُ، ثُمَّ هو مرسل لأنه عن عطاء ثم هِيَ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَلَى وَجْهِ التَّعَدِّي، فَلَزِمَ فِيهِ الضَّمَانُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ خَلَا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمَانِعَةِ مِنْ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ وَجَاءَ مَجِيئًا يُلْزِمُ الْآخِذَ بِهِ لَكَانَ عَنْ قَوْلِهِ " ذَهَبَ حَقُّكَ " جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ بِهِ حَقُّ الْوَثِيقَةِ، وَسُقُوطُ حَقِّهِ مِنَ الدَّيْنِ سَقَطَ لِحَقِّهِ مِنَ الْوَثِيقَةِ، وليس سقوط حقه من الوثيقة مسقط لِحَقِّهِ مِنَ الدَّيْنِ، فَلَوْ كَانَ أَرَادَ بِهِ ذَهَابَ حَقِّهِ مِنَ الدَّيْنِ لَقَالَ ذَهَبَ حَقُّكَ، فَلَمَّا قَالَ: " ذَهَبَ حَقُّكَ " وَأَشَارَ إِلَى حَقٍّ وَاحِدٍ عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ حَقَّ الْوَثِيقَةِ دُونَ الدَّيْنِ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ ذَهَبَ حَقُّكَ، مَحْمُولٌ عَلَى ذَهَابِ حَقِّهِ مِنْ فَسْخِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَلِفَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَكَانَ يَسْتَحِقُّ فَسْخَ الْبَيْعِ فَإِذَا تَلِفَ بَعْدَ الْقَبْضِ كَانَ فِي الْجَائِزِ أَنْ يَسْتَحِقَّ فَسْخَ الْبَيْعِ فَأَذْهَبَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَقَّهُ فِي الْفَسْخِ بَعْدَ الْقَبْضِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ " الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ " إن صح مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ وَثِيقَةٌ بِمَا فِيهِ فَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِمَا فِيهِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ زِيَادَةٌ لِضَمَانٍ لَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ الرَّهْنَ بِمَا فِيهِ مَعَ بَقَائِهِ، وَهُوَ عَلَى بَقَائِهِ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى مُرْتَهِنِهِ حِينَ يَتْلَفُ، وَإِنَّمَا هُوَ مَعَ بَقَائِهِ وَثِيقَةٌ بِمَا فِيهِ فَلَمْ تَصِحَّ الدَّلَالَةُ مِنْهُ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى تَلَفِ الْعَبْدِ الْجَانِي فَالْمَعْنَى فِي الْعَبْدِ الْجَانِي أَنَّ الْأَرْشَ تَعَلَّقَ بِمَحَلٍّ وَاحِدٍ وَهُوَ رَقَبَةُ الْجَانِي فَإِذَا تَلِفَ الْعَبْدُ بُذِلَ الْأَرْشُ كَتَلَفِ مَحَلِّهِ، وَحَقُّ الْمُرْتَهِنِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحَلَّيْنِ
أَحَدُهُمَا: ذِمَّةُ الرَّاهِنِ.
وَالثَّانِي: رَقَبَةُ الرَّهْنِ.

(6/258)


فَإِذَا تَلِفَ الرَّهْنُ فَقَدْ تَلِفَ أَحَدُ الْمَحَلَّيْنِ، وَبَقِيَ الْآخَرُ فَلَمْ يَتْلَفِ الْحَقُّ لِبَقَاءِ أَحَدِ مَحَلَّيْهِ كَالدَّيْنِ الْمَضْمُونِ لَمَّا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْمَحَلَّيْنِ يَلْزَمُهُ الْمَضْمُونُ عَنْهُ، وَبِذِمَّةِ الضَّامِنِ لَمْ يَكُنْ تَلَفُ الضَّامِنِ لِلدَّيْنِ مُبْطِلًا لِلْحَقِّ لِبَقَاءِ الْمَحَلِّ الْآخَرِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى تَلَفِ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ. فَالْمَبِيعُ غَيْرُ مُحْتَبَسٍ بِعَقْدٍ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ يُوجِبُ تَسْلِيمَهُ، وَيَمْنَعُ مِنْ حَبْسِهِ، وَإِنَّمَا تَأْخِيرُ الثَّمَنِ يُوجِبُ حَبْسَهُ أَلَا تَرَاهُ يَسْتَدِيمُ حَبْسًا قَبْلَ الْبَيْعِ فَلَمْ يَسْلَمِ الْوَصْفُ فِي قَوْلِهِمْ مُحْتَبَسٌ بِعَقْدٍ وَإِذَا لَمْ يَسْلَمِ الْوَصْفُ انْتَقَصَتِ الْعِلَّةُ عَلَى أَصْلِهِمْ بِزِيَادَاتِ الرَّهْنِ مِنَ الْأَوْلَادِ وَالنِّتَاجِ وَهِيَ مُحْتَبَسَةٌ بِالْحَقِّ ثُمَّ لَا يَضْمَنُهَا. الْمُرْتَهِنُ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْبَيْعِ أَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ يَسْقُطُ بِالْفَسْخِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْقُطْ بِالتَّلَفِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى السَّوْمِ فَمُنْتَقَضٌ بِالشَّيْءِ الْمُسْتَأْجَرِ، لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِيفَاءِ، وَلَا يُضْمَنُ إِذَا تَلِفَ ضَمَانُ الِاسْتِيفَاءِ عَلَى أَنَّ السَّوْمَ دَلِيلُنَا.
وَذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ كُلِّ شَيْءٍ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالضَّمَانِ حُكْمُ سَبَبِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَخَذَ الشَّيْءَ مِنْ مُسَاوِمِهِ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَلَوْ أَخَذَهُ عَنْ عَقْدِ مُبَايَعَةٍ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ لَوْ أَخَذَ الشَّيْءَ لِمُرْتَهِنِهِ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَجَبَ إِذَا أَخَذَهُ عَنْ عَقْدِ رَهْنٍ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْقُرُوضِ الْمَأْخُوذَةِ بِالدَّيْنِ، وَعَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْقَرْضِ فَوَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ مَأْخُوذٌ عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ مِنَ الْحَقِّ بِدَلِيلِ أَنَّ قِيمَتَهُ لَا تُوجِبُ سُقُوطَ الْحَقِّ فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا والله أعلم.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَا ظَهَرَ هَلَاكُهُ وَخَفِيَ سَوَاءٌ لَا يَضْمَنُ الْمُرْتَهِنُ وَلَا الْمَوْضُوعُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الرَّهْنِ شَيْئًا إِلَّا فِيمَا يَضْمَنَانِ فِيهِ مِنَ الْوَدِيعَةِ بالتعدي ".
قال الماوردي: وهذا له ردا عَلَى مَالِكٍ حَيْثُ أَوْجَبَ ضَمَانَ حَقَيْ هَلَاكِهِ مِنَ الرَّهْنِ وَأَسْقَطَ ضَمَانَ مَا ظَهَرَ هَلَاكُهُ وَكَانَ مِنْ صِحَّتِهِ فِيهِ أَنَّ النَّاسَ مُضْطَرُّونَ إِلَى الرَّهْنِ فَلَوْ سَقَطَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ مِمَّا خَفِيَ هَلَاكُهُ لَصَارَ ذَرِيعَةً إِلَى ادِّعَاءِ تَلَفِ الرَّهْنِ وَالْمُطَالَبَةِ بِالْحَقِّ فَإِذَا وَجَبَ الضَّمَانُ كَانَ ذَلِكَ مَأْمُونًا، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ اعْتِبَارُ هَذَا الْمَعْنَى فِي الرَّهْنِ خَوْفًا مَنِ ادَّعَى بِتَلَفِ الرَّهْنِ مَعَ بَقَائِهِ وَلَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ فِي الْوَدَائِعِ وَالْمُضَارَبَاتِ وَالشِّرَكِ وَالْأَمَانَاتِ فَيَجِبُ ضَمَانُ مَا خَفِيَ هَلَاكُهُ مِنْهَا، وَيَسْقُطُ ضَمَانُ مَا ظَهَرَ، وَلَا غَيْرَ مِثْلِهِ فِي الْعَوَارِي ولغصب فَلَمَّا كَانَتِ الْأَمَانَاتُ غَيْرَ مَضْمُونَةٍ فِيمَا خَفِيَ هَلَاكُهُ أَوْ ظَهَرَ وَالْعَوَارِي وَالْغُصُوبُ مَضْمُونَةً فِيمَا خَفِيَ هَلَاكُهُ أَوْ ظَهَرَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ لَاحِقًا لِأَحَدِهِمَا فِي وُجُوبِ ضَمَانِهِ أَوْ سُقُوطِهِ إِذْ هُمَا أَصْلَانِ لَيْسَ لَهُمَا ثَالِثٌ فيرد الرهن إليه.

(6/259)


(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ قَضَاهُ مَا فِي الرَّهْنِ ثُمَّ سَأَلَهُ الرَّاهِنُ فَحَبَسَهُ عَنْهُ وَهُوَ يُمْكِنُهُ فَهُوَ ضَامِنٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ وَلِلْمُرْتَهِنِ حَبْسُهُ فِي حَقِّهِ، فَإِنْ تَلِفَ لَمْ يَضْمَنْهُ، لِأَنَّهُ مُحْتَبَسٌ بِحَقِّهِ وَكَذَلِكَ لَوْ بَقِيَ مِنَ الْحَقِّ شَيْءٌ وَإِنْ قَلَّ فَحَبَسَهُ بِمَا بَقِيَ مِنْهُ لَمْ يَضْمَنْهُ فَإِذَا اسْتَوْفَى حَقَّهُ لَزِمَهُ تَسْلِيمُهُ وَرَفْعُ يَدِهِ فَإِنْ حَبَسَهُ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ حَتَّى تَلِفَ بِطَرَفَيْهِ فَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا فِي حَبْسِهِ بِحُدُوثِ سَبَبٍ مَنَعَ مِنْ رَدِّهِ لِغَيْبَةٍ أَوْ مَرَضٍ لَمْ يَضْمَنْهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ فِي حَبْسِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ، لِأَنَّهُ صَارَ بِحَبْسِهِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مُتَعَدِّيًا فَلَوِ اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ فِيهِ فَقَالَ الرَّاهِنُ حَبَسَهُ غَيْرَ مَعْذُورٍ فَعَلَيْكَ ضَمَانُهُ، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: حَبَسَهُ مَعْذُورًا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيَّ، فَالْقَوْلُ لِلْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ لَقَدْ حَبَسْتُهُ مَعْذُورًا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَرَى الذِّمَّةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ هَذَا آخِرُ كِتَابِ الرَّهْنِ مِنَ الْمُزَنِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.

(فَصْلٌ)
فِي فُرُوعِ الرَّهْنِ يَجُوزُ أَنْ يَرْهَنَ الدَّنَانِيرَ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّرَاهِمَ فِي الدَّنَانِيرِ سَوَاءٌ كَانَتِ الْمَرْهُونَةُ مَوْزُونَةً أَوْ غَيْرَ مَوْزُونَةٍ إِذَا كَانَتْ مُشَاهَدَةً؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْحَقِّ مِنْهَا مُمْكِنٌ وَبَيْعُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ جُزَافًا جَائِزٌ.
فَرْعٌ: وَيَجُوزُ رَهْنُ الدَّرَاهِمِ فِي الدَّنَانِيرِ وَالدَّنَانِيرَ فِي الدَّنَانِيرِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الدَّرَاهِمُ أَوِ الدَّنَانِيرُ الْمَرْهُونَةُ جُزَافًا أَوْ مَوْزُونَةً؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْحَقِّ كَانَ الرَّهْنُ مِنْ جِنْسِ الْحَقِّ بِالْجَوَازِ أَحَقَّ.
فَرْعٌ: إِذَا رَهَنَهُ بِحَقِّهِ دَيْنًا لَهُ عَلَى غَيْرِهِ لَمْ يُجِزْهُ، لِأَنَّ الدَّيْنَ لَيْسَ بِعَيْنٍ فَيُمْكِنُ بَيْعُهَا، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ لَيْسَ بِحَوَالَةٍ فَيَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِهَا، وَمَا لَا يُمْكِنُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ وَلَا اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْهُ فَرَهْنُهُ بَاطِلٌ.
فَرْعٌ: إِذَا رَهَنَهُ بِحَقِّهِ دَيْنًا لَهُ فِي ذِمَّتِهِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ دَرَاهِمُ وَعَلَيْهِ دَنَانِيرُ أَوْ حِنْطَةٌ مِنْ سَلَمٍ فَيَرْهَنُهُ مَا فِي ذِمَّتِهِ مِنَ الْحِنْطَةِ بِمَالِهِ مِنَ الدَّرَاهِمِ كَانَ فَاسِدًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ.
فَرْعٌ: إِذَا رَهَنَهُ بِدَيْنِهِ سُكْنَى دَارٍ مُدَّةً مَعْلُومَةً كَانَ فَاسِدًا؛ لِأَنَّ السُّكْنَى بِمُضِيِّ مُدَّتِهِ فَاتَتْ، فَلَا يَبْقَى رَهْنٌ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَوْفَى مِنْهُ الدَّيْنُ.
فَرْعٌ: إِذَا آجَرَهُ دَارًا سَنَةً جَازَ أَنْ يَأْخُذَ بِالْأُجْرَةِ رَهْنًا قَبْلَ مُضِيِّ السَّنَةِ، لِأَنَّ الْأُجْرَةَ وَاجِبَةٌ فِي الذِّمَّةِ.
فَرْعٌ: إِذَا اسْتَأْجَرَ مِنْهُ عَمَلًا مَعْلُومًا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ بِالْعَمَلِ رَهْنًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْإِجَارَةُ معينة.

(6/260)


وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ فِي الذِّمَّةِ فَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ مُعَيَّنَةً وَهُوَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ فِي عَيْنِهِ لِبِنَاءِ دَارٍ، أَوْ لِعَمَلٍ مَعْلُومٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ رَهْنًا، لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ من العمل تعين عليه لا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فِيهِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَعْيَانِ فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ كَالْعَوَارِي وَالْغُصُوبِ فَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ فِي الذِّمَّةِ، وَهُوَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مِنْهُ فِي ذِمَّتِهِ بِنَاءُ دَارٍ أَوْ عَمَلٌ مَعْلُومٌ فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ دَفَعَ الْأُجْرَةَ إِلَيْهِ أَوْ لَمْ يَدْفَعْهَا، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْفَعْ إِلَيْهِ الْأُجْرَةَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ رِضًا، لِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ مِنَ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ وَالْعَمَلُ قَبْلَ دَفْعِ الْأُجْرَةِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ، فَإِنْ كَانَ قَدْ دَفَعَ الْأُجْرَةَ إِلَيْهِ فَفِي جَوَازِ أَخْذِ الرَّهْنِ فِي الْعَمَلِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ، لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْعَمَلِ مِنَ الرَّهْنِ غَيْرُ مُمْكِنٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ أَخْذَ الرَّهْنِ فِيهِ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ حَقٌّ مُسْتَقِرٌّ فِي الذِّمَّةِ لَهُ قِيمَةٌ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا مِنَ الرَّهْنِ فَجَازَ فِيهِ كَالدَّيْنِ.

(فَصْلٌ آخَرُ)
: إِذَا ضَمِنَ لَهُ أَلْفًا وَاسْتَقَرَّ ضَمَانُ الْأَلْفِ عَلَيْهِ جَازَ أَنْ يُعْطِيَهُ بِالْأَلْفِ الَّتِي ضَمِنَهَا رَهْنًا، لِأَنَّهُ حَقٌّ مُسْتَقِرٌّ.
فَرْعٌ: وَلَوْ ضَمِنَهَا بِشَرْطِ أَنْ يُعْطِيَهُ بِهَا رَهْنًا مِثْلَ أَنْ يَقُولَ ضَمِنْتُ لَكَ عَنْ فُلَانٍ أَلْفًا عَلَى أَنَّنِي أُعْطِيكَ بِهَا رَهْنًا كَانَ فِي صِحَّةِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ رَهْنُ شَرْطٍ مَعَ وُجُوبِ الْحَقِّ كَالْبَيْعِ، فَعَلَى هَذَا الضَّامِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِقْبَاضِ الرَّهْنِ وَمَنْعِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: الضَّمَانُ فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ فَإِذَا شَرَطَ فِيهِ الِاسْتِيثَاقَ بِالرَّهْنِ صَارَتْ وَثِيقَةُ الضَّمَانِ وَاهِيَةً فَبَطَلَتْ والله أعلم.
فرع: فلو أعطاه رهن بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ يَضْمَنَ الْأَلْفَ فُلَانٌ كَانَ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ وَجْهَانِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الضَّمَانِ [لِأَنَّ شَرْطَ الضَّمَانِ فِي الرَّهْنِ كَشَرْطِ الرَّهْنِ فِي الضَّمَانِ] أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّ الرَّهْنَ صَحِيحٌ، وَالْمَشْرُوطُ ضَمَانُهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَضْمَنَ أَوْ يَمْتَنِعَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الرَّهْنَ فَاسِدٌ لِوَهَاءِ الِاسْتِيثَاقِ بِهِ عِنْدَ شَرْطِ الضَّمَانِ فِيهِ.
فَرْعٌ: وَلَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ أَلْفٌ فَأَعْطَاهُ بِهَا رَهْنًا وَأَقَامَ لَهُ بِهَا ضَامِنًا جَازَ، لِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ، وَالضَّمَانَ وَثِيقَةٌ، فَلَمْ يَمْتَنِعِ اجْتِمَاعُهُمَا مِنْ حَقٍّ وَاحِدٍ كَاجْتِمَاعِ الشَّهَادَةِ وَالضَّمَانِ، فَإِذَا حَلَّ الْحَقُّ فَفِيهِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا أَبُو حَامِدٍ فِي جَامِعِهِ أَحَدُهُمَا أَنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مُطَالَبَةَ الضامن به،

(6/261)


وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُ الرَّهْنِ إِلَّا بَعْدَ اسْتِيفَائِهِ مِنَ الضَّمَانِ، لِأَنَّ مَا أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنَ الْحُقُوقِ مِنْ غَيْرِ إِزَالَةِ مِلْكٍ وَجَبَ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْ غَيْرِ إِزَالَةِ مِلْكٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ بَيْعَ الرَّهْنِ وَاسْتِيفَاءَ حَقِّهِ مِنْ صُلْبِهِ وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ الضَّامِنِ بِهِ إِلَّا بَعْدَ تَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهِ مِنَ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ عَيْنٌ بِيَدِهِ أَخْذُهَا لِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ وَالصَّحِيحُ عِنْدِي غَيْرُ هَذَيْنِ وَأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ بِالْخِيَارِ فِي حَقِّهِ بَيْنَ مُطَالَبَةِ الضَّامِنِ بِهِ وَبَيْنَ بَيْعِ الرَّهْنِ فِيهِ لِأَنَّ ضَمَانَ الْحَقِّ لَا يَمْنَعُ مِنْ مُطَالَبَةِ غَيْرِهِ بِهِ وَمُطَالَبَةُ غَيْرِهِ بِهِ لَا تَمْنَعُ مِنْ مُطَالَبَةِ الضَّامِنِ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَضَمِنَهُ ضَامِنٌ فَلَهُ مُطَالَبَةُ الضَّامِنِ وَالْمَضْمُونِ عَنْهُ وَلَا تَكُونُ مُطَالَبَةُ أَحَدِهِمَا مَانِعًا مِنْ مُطَالَبَةِ الْآخَرِ.

(فَصْلٌ)
إِذَا كَانَ عَلَى رَجُلٍ أَلْفٌ فَأَحَالَ بِهَا عَلَى رَجُلٍ انْتَقَلَتِ الْأَلْفُ بِالْحَوَالَةِ مِنْ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَجَازَ أَنْ يَأْخُذَ بِهَا رَهْنًا مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا دَيْنٌ مُسْتَقِرٌّ عَلَيْهِ.
فَرْعٌ: وَلَوْ أَحَالَهُ بِالْأَلْفِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ الْمُحِيلُ بِهَا رَهْنًا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ قَدْ نَقَلَتِ الْحَقَّ مِنْ ذِمَّتِهِ فَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى رَهْنًا فِيهِ، وَلَيْسَ كَالضَّمَانِ الَّذِي لَا يَنْقُلُ الْحَقَّ وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَى فِيهِ رَهْنًا.
فَرْعٌ: وَلَوْ أَحَالَهُ بِالْأَلْفِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ رَهْنًا بِهَا فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْحَوَالَةِ، هَلْ هِيَ بَيْعٌ أَوْ عَقْدُ إِرْفَاقٍ
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بَيْعٌ، فَعَلَى هَذَا اشْتِرَاطُ الرَّهْنِ مِنْهَا جَائِزٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا عَقْدُ إِرْفَاقٍ فَعَلَى هَذَا اشْتِرَاطُ الرَّهْنِ فِيهَا بَاطِلٌ وَفِي بُطْلَانِ الْحَوَالَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَتْ لِقَدْحِ الشَّرْطِ الْبَاطِلِ فِيهَا.
وَالثَّانِي: لَا تَبْطُلُ لِخُرُوجِهَا عَنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ وَلُحُوقِهَا بِعُقُودِ الْإِرْفَاقِ وَالْمَعُونَاتِ.
(فَصْلٌ)
إِذَا وَهَبَ لَهُ عَبْدًا فَرَهَنَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ كَانَ رَهْنًا فَاسِدًا؟ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا تُمْلَكُ إِلَّا بِالْقَبْضِ، وَلَوْ رَهَنَهُ بَعْدَ قَبْضِهِ كَانَ رَهْنُهُ جَائِزًا سَوَاءٌ وَهَبَهُ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ فِي هِبَتِهِ كَالْوَالِدِ أَمْ لِإِتْمَامِ الْمِلْكِ بِحُصُولِ الْقَبْضِ، فَلَوْ وَهَبَ لَهُ عَبْدًا وَأَذِنَ لَهُ فِي رَهْنِهِ صَحَّ الرَّهْنُ وَلَمْ تَتِمَّ الْهِبَةُ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالرَّهْنِ لَيْسَ بِقَبْضٍ فَتَتِمُّ بِهِ الْهِبَةُ. وَالرَّهْنُ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْهُ فَقَدْ رهنه بإذن

(6/262)


مَالِكِهِ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ مِنَ الصِّحَّةِ، فَإِنْ أَقْبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ ثَمَّ الرَّهْنَ بِالْعَقْدِ السَّابِقِ عَنْ إِذْنِهِ، وَالْقَبْضِ الْحَادِثِ عَنْ إِذْنِهِ، وَلَمْ تَتِمَّ الْهِبَةُ، لِأَنَّ قَبْضَهُ رَهْنًا غَيْرُ قَبْضِهِ هِبَةً، وَيَكُونُ حُكْمُ هَذَا الْعَبْدِ كَحُكْمِ الْمُعَارِ فِي الرَّهْنِ.
فَرْعٌ: إِذَا ابْتَاعَ عَبْدًا وَرَهَنَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ نُظِرَ.
فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ لَمْ يَقْبِضْ عَنْهُ. فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مَحْبُوسٌ بِثَمَنِهِ فَصَارَ كَالْمَرْهُونِ فَلَمْ يَجُزْ رَهْنُهُ قَبْلَ فَكَاكِهِ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ قَبْضِ ثَمَنِهِ فَفِي جَوَازِ رَهْنِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ. أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِتَمَامِ مِلْكِهِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْهُ فِي الْبُيُوعِ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ كَالْبَيْعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(6/263)