الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

 (كتاب الحجر)
أَمَّا الْحَجْرُ فَهُوَ مِنْ كَلَامِهِمُ الْمَنْعُ.
سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ باختياره.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] . ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَمَعْنَى قَوْلِهِ (ابْتَلُوا) أَيِ اخْتَبِرُوا، وَقَوْلُهُ (الْيَتَامَى) هُمُ الصغار الذين ليس لهم آباء لأن اليتم فِي الْآدَمِيِّينَ بِمَوْتِ الْآبَاءِ وَفِي الْبَهَائِمِ بِمَوْتِ الْأُمَّهَاتِ لِأَنَّ الْبَهِيمَةَ تُنْسَبُ إِلَى أُمِّهَا فَكَانَ يُتْمُهَا بِمَوْتِ الْأُمِّ، وَالْآدَمِيُّ يُنْسَبُ إِلَى أَبِيهِ فَكَانَ يُتْمُهُ بِمَوْتِ الْأَبِ. وَقَوْلُهُ: {حَتَّى إِذَا بلغوا النكاح} [النساء: 6] يعني الاحتلام لأن بالاحتلام يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ التَّكْلِيفُ وَيَزُولُ عَنْهُ الْيُتْمُ.
قَالَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (لَا يُتْمَ بَعْدَ حُلُمٍ) .
وَقَوْلُهُ {فَإِنْ آنَسْتُمْ} أي علمتم منهم رشدا في الرُّشْدِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْعَقْلُ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالشَّعْبِيِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْعَقْلُ وَالصَّلَاحُ فِي الدِّينِ وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ وَالصَّلَاحُ فِي الْمَالِ وَهُوَ قول ابن عباس. والحسن والبصري. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] يَعْنِي الَّتِي تَحْتَ أَيْدِيكُمْ {ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا} أَيْ لَا تَأْخُذُوهَا إِسْرَافًا يَعْنِي عَلَى غَيْرِ مَا أَبَاحَ اللَّهُ لَكُمْ

(6/339)


وَأَصْلُ الْإِسْرَافِ: تَجَاوُزُ الْحَدِّ الْمُبَاحِ. {وَبِدَارًا أَنْ يكبروا} يَعْنِي تَأْكُلُ مَالَ الْيَتِيمِ مُبَادِرًا أَنْ يَبْلُغَ فَيَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: 6] يَعْنِي بِمَالِ نَفْسِهِ عَنْ مَالِ الْيَتِيمِ {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فليأكل بالمعروف} اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى هَذَا الْأَكْلِ الْمُبَاحِ لِلْفَقِيرِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْقَرْضُ يَسْتَقْرِضُ ثُمَّ يَقْضِي إِذَا وَجَدَ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَأْكُلُ مَا سَدَّ الْجَوْعَةَ وَيَلْبَسُ مَا وَارَى الْعَوْرَةَ وَلَا قَضَاءَ وَهُوَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ. وَمَكْحُولٍ وَقَتَادَةَ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ثَمَرِهِ وَيَشْرَبَ مِنْ رَسْلِ مَاشِيَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ وَالشَّعْبِيِّ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَأْخُذَ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا أُجْرَةَ عَمَلِهِ مَعْلُومَةً عَلَى قَدْرِ خِدْمَتِهِ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ.
وَمِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْحَجْرِ أَيْضًا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يستطع أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] .
أَمَّا السَّفِيهُ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْجَاهِلُ بِالصَّوَابِ فِيمَا لَهُ وَعَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْمُبَذِّرُ لِمَالِهِ الْمُفْسِدُ لَهُ فِي الْجِهَاتِ الْمُحَرَّمَةِ وَهَذَا أَصَحُّ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّهُ أَلْيَقُ بِمَعْنَى اللَّفْظِ.
أَمَّا الضَّعِيفُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْأَحْمَقُ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ ضَعِيفُ الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ مِنْ صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ الصَّغِيرُ الَّذِي يَضْعُفُ عَنِ الْقِيَامِ بِأَمْرِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ.
" أَمَّا الَذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ " فَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْأَخْرَسُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.

(6/340)


وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْمَمْنُوعُ بِحَبْسٍ أَوْ غَيْبَةٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ الْمَغْلُوبُ عَلَى عَقْلِهِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّ الْخَرَسَ وَالْغَيْبَةَ لَا يُوجِبَانِ الْحَجْرَ.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] فَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُرِيدُ وَلِيَّ الْحَقِّ وَهُوَ صَاحِبُهُ أَنْ يَعْدِلَ فِي إِمْلَائِهِ وَمُطَالَبَتِهِ بِالْحَقِّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى وَلِيِّ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ فِيمَا لَزِمَ مِنْ أَرْشِ جِنَايَةٍ أَوْ قِيمَةِ مُتْلَفٍ وَهَذَا قَوْلُ الضَّحَّاكِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: 282] بِمَعْنَى الَّذِي لَهُ الْحَقُّ فَأَقَامَ عَلَيْهِ بِمَعْنَى لَهُ لِأَنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ يَقُومُ بَعْضُهَا مَقَامَ بَعْضٍ. فَدَلَّتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ عَلَى الْحَجْرِ.
أَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى: فَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهَا أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِدَفْعِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى بِوُجُودِ شَرْطَيْنِ وَهُمَا: الْبُلُوغُ وَالرُّشْدُ، اقْتَضَى أَنْ لَا يَدْفَعَ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ قَبْلَ وُجُودِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ وَهَذَا هُوَ الْحَجْرُ.
وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ: فَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهَا أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِالْإِمْلَاءِ عَنِ السَّفِيهِ وَالضَّعِيفِ دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُهُمْ مِنَ التَّصَرُّفِ وَاسْتِحْقَاقِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِمَا.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (أَنَّهُ حَجَرَ عَلَى مُعَاذٍ بِدَيْنِهِ) فَلَمَّا أَوْقَعَ الْحَجْرَ لِحَقِّ الْغَيْرِ كَانَ وُقُوعُهُ لِنَفْسِهِ أَوْلَى.
وَرُوِيَ أَنَّ قَوْمَ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ يَخْدَعُ فِي بِيَاعَاتِهِ، فَحَجَرَ عَلَيْهِ حَجْرَ مِثْلِهِ وَلَمْ يَجْعَلْ عقوده منبرمة وجعل له خيار ثلاث وَقَالَ لَهُ: " إِذَا ابْتَعْتَ فَقُلْ لَا خِلَابَةَ فِي الْإِسْلَامِ " وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَهُوَ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ حِينَ سَأَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ وَإِجْمَاعُ بَاقِي الصَّحَابَةِ عَلَى جَوَازِ الْحَجْرِ حَتَّى كَانَ مِنْ شَأْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَا سَنَذْكُرُهُ.

(فصل: القول في أسباب الحجر)
فَإِذَا ثَبَتَ اسْتِحْقَاقُ الْحَجْرِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلِيلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَالْحَجْرُ مُسْتَحَقٌّ مِنْ ثمانية أوجه:

(6/341)


أَحَدُهَا: حَجْرُ الصِّغَرِ.
وَالثَّانِي: حَجْرُ الْجُنُونِ.
وَالثَّالِثُ: حَجْرُ السَّفَهِ.
وَالرَّابِعُ: حَجْرُ الْفَلَسِ.
وَالْخَامِسُ: حَجْرُ الْمَرَضِ.
وَالسَّادِسُ: حَجْرُ الرِّدَّةِ.
وَالسَّابِعُ: حَجْرُ الرِّقِّ.
والثامن: حجر الكتابة.
وينقسم الحجر إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
قِسْمٌ لَا يَثْبُتُ الْحَجْرُ بِهِ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ وَهُوَ حَجْرُ الْفَلَسِ وَحَجْرُ السَّفَهِ.
وَقِسْمٌ يَثْبُتُ بِغَيْرِ حُكْمٍ وَهُوَ حَجْرُ الصِّغَرِ، وَحَجْرُ الْجُنُونِ وَحَجْرُ الْمَرَضِ وَحَجْرُ الرِّقِّ وَحَجْرُ الْكِتَابَةِ.
وَقِسْمٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ حجر الردة.
(أقسام الحجر باعتبار أثره)

ثُمَّ هِيَ أَيْضًا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
قِسْمٌ يَثْبُتُ الْحَجْرُ فِي حَقِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَهُوَ حَجْرُ الصِّغَرِ وَالْجُنُونِ وَالسَّفَهِ.
وَقِسْمٌ يَثْبُتُ الْحَجْرُ فِيهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَهُوَ حَجْرُ الْفَلَسِ وَالْمَرَضِ وَالرِّدَّةِ وَالرِّقِّ وَقِسْمٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ حَقِّهِ وَحَقِّ غَيْرِهِ وَهُوَ الْكِتَابَةُ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ مَوْضِعٌ.
وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ هَذَا الْكِتَابُ بِحَجْرِ الصِّغَرِ وَحَجْرِ السَّفَهِ.
(الْقَوْلُ فِي عَلَامَاتِ وَزَمَانِ البلوغ)

1 - البلوغ بالاحتلام:

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْبُلُوغُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً إِلَّا أَنْ يَحْتَلِمَ الغلام أو تحيض الجارية قبل ذلك وقال الله تبارك وتعالى {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فليملل وليه بالعدل} فأثبت الولاية على السفيه والضعيف والذي لا يستطيع أن يمل هو وأمر وليه بالإملاء عنه لأنه أقامه فيما لا غنى به عنه في ماله مقامه وقيل الذي لا يستطيع يحتمل أن يكون المغلوب على عقله وهو أشبه معانيه به والله أعلم ".

(6/342)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: ثُمَّ بَدَأَ الشَّافِعِيُّ بِذِكْرِ الصِّغَرِ وَحَدِّ الصِّغَرِ إِلَى زَمَانِ الْبُلُوغِ وَالْبُلُوغُ يَكُونُ بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ، ثَلَاثَةٌ مِنْهَا يَشْتَرِكُ فِيهَا الرِّجَالُ والنساء وهي: الاحتلام، والإنبات، وَالسِّنُّ، وَشَيْئَانِ مِنْهَا يَخْتَصُّ بِهِمَا النِّسَاءُ دُونَ الرِّجَالِ وَهُمَا الْحَيْضُ وَالْحَمْلُ.
فَأَمَّا الِاحْتِلَامُ فَإِنَّمَا كَانَ بُلُوغًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59]
وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ " وَذَكَرَ مِنْهَا الصَّبِيَّ حَتَّى يَحْتَلِمَ.
وَالِاحْتِلَامُ هُوَ إِنْزَالُ الْمَنِيِّ الدَّافِقِ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ مِنْ نَوْمٍ أَوْ جِمَاعٍ أَوْ غَيْرِهِمَا.
وَأَقَلُّ زَمَانِ الِاحْتِلَامِ فِي الْغِلْمَانِ عَشْرُ سِنِينَ، وَفِي الْجَوَارِي تِسْعُ سِنِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا الْإِنْبَاتُ فَقَدْ مَنَعَ أبو حنيفة أَنْ يَكُونَ لَهُ بالبلوغ تعلق لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ " وَذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ الصَّبِيّ حَتَّى يَحْتَلِمَ. فَجَعَلَ الِاحْتِلَامَ حَدًّا لِبُلُوغِهِ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ إِنْبَاتُ شَعْرِ الْوَجْهِ بُلُوغًا فَأَوْلَى أَلَّا يَكُونَ إِنْبَاتُ شَعْرِ الْعَانَةِ بُلُوغًا.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ بُلُوغًا أَنَّ سَبْيَ بَنِي قُرَيْظَةَ نَزَلُوا مِنْ حُصُونِهِمْ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ ابْنِ مُعَاذٍ الْأَشْهَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ سَعْدٌ حُكْمِي فِيهِمْ أَنَّ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمُوسَى قُتِلَ وَمَنْ لَمْ تَجْرِ عَلَيْهِ اسْتُرِقَّ.
فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هَذَا حُكْمُ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ " لِأَنَّ السَّمَاءَ رُقَعٌ، وَلِأَنَّ شَعْرَ الْعَانَةِ وَالْإِنْزَالَ يَخْتَصَّانِ بِعُضْوٍ يَحْدُثَانِ عِنْدَ وَقْتِ الْبُلُوغِ بِالْإِنْزَالِ شَرْعًا وَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْإِنْبَاتِ شَرْعًا.
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْبُلُوغُ عُرْفًا فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْبُلُوغُ شَرْعًا كَالْإِنْزَالِ. وَبِهَذَا الْمَعْنَى مِنَ الِاسْتِدْلَالِ فَرَّقْنَا بَيْنَ شَعْرِ الْوَجْهِ وَبَيْنَ شَعْرِ الْعَانَةِ.
فَأَمَّا الْخَبَرُ فَلَيْسَ فِي ظَاهِرِهِ مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ النَّصِّ وَالِاسْتِدْلَالِ حُجَّةٌ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا وَأَنَّ الْإِنْبَاتَ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْبُلُوغُ فِي الْمُشْرِكِينَ فَهَلْ يَكُونُ بُلُوغًا فِيهِمْ أَوْ دَلَالَةً عَلَى بُلُوغِهِمْ؟ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَكُونُ بُلُوغًا فِيهِمْ كَالْإِنْزَالِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بُلُوغًا فِي الْمُسْلِمِ أَيْضًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ دلالة على بلوغهم، لأن سعد جَعَلَهُ دَلِيلًا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعِلْمِ بِسِنِّهِمْ.

(6/343)


فَعَلَى هَذَا هَلْ هُوَ دَلَالَةٌ عَلَى بُلُوغِ الْمُسْلِمِينَ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَكُونُ دَلَالَةً عَلَى بُلُوغِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْبُلُوغُ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَكُونُ دَلَالَةً عَلَى بُلُوغِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ دَلَالَةً عَلَى بُلُوغِ الْمُشْرِكِينَ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أحدهما: أن المشرك تغلظ أحكامه ببلوغه كوجوب قَتْلِهِ وَأَخْذِ جِزْيَتِهِ فَانْتَفَتْ عَنْهُ التُّهْمَةُ فِي مُعَالَجَةِ الْإِنْبَاتِ.
وَالْمُسْلِمُ تُخَفَّفُ أَحْكَامُهُ بِبُلُوغِهِ فِي فَكِّ حَجْرِهِ وَثُبُوتِ وِلَايَتِهِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ فَصَارَ مُتَّهَمًا فِي مُعَالَجَةِ الْإِنْبَاتِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الضَّرُورَةَ دعت إلى جعل الإنبات بلوغا في المشرك لِأَنَّ سِنَّهُ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِخَبَرِهِ وَخَبَرُ الشركِ لَا يُقْبَلُ.
وَلَمْ تَدْعُ الضَّرُورَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي الْمُسْلِمِ، لِأَنَّ خَبَرَهُ فِي سِنِّهِ مَقْبُولٌ. ثُمَّ لَا اعْتِبَارَ فِي الْإِنْبَاتِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ شَعْرًا قَوِيًّا فَأَمَّا إِنْ كَانَ زغبا فلا فلو أن غلاما من المسلمين نَبَتَ الشَّعْرُ عَلَى عَانَتِهِ فَشَهِدَ لَهُ عَدْلَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَكْمِلْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَيَكُونُ بُلُوغُهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ إِنْ قِيلَ إِنَّ الْإِنْبَاتَ يَكُونُ بُلُوغًا حُكِمَ بِبُلُوغِهِ.
وَإِنْ كَانَ سِنُّهُ أَقَلَّ مِنْ خَمْسِ عَشْرَةَ سَنَةً وَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْإِنْبَاتَ دَلَالَةٌ عَلَى الْبُلُوغِ لَمْ يُحْكَمْ بِبُلُوغِهِ إِذَا عُلِمَ نُقْصَانُ سِنِّهِ، وَهَذِهِ فَائِدَةُ الْقَوْلَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا السِّنُّ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ إِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْبُلُوغُ بِحَالٍ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْبُلُوغُ بالاحتلام وغلظ الصوت وانشقاق الغضروف لأن البلوغ يختلف بحسب اختلاف الحلق وَتَبَايُنِ النَّاسِ كَاخْتِلَافِ أَعْمَارِهِمْ. فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ مَعَ اخْتِلَافِهِ حَدًّا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة وَسَائِرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْبُلُوغَ يَكُونُ بِالسِّنِّ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَكُونُ بِهِ بَالِغًا مِنَ السِّنِّ وَفِيمَا نَذْكُرُهُ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي قَدْرِهِ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ أَصْلِهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ الْبُلُوغِ بِالسِّنِّ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَنَّ الْبُلُوغَ يَكُونُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فِي الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: يَكُونُ بُلُوغُ الْجَارِيَةِ بِسَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَبُلُوغُ الْغُلَامِ بِثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ نَصَّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُوجِبَانِ اسْتِصْحَابَ الصِّغَرِ إِلَى الِاحْتِلَامِ وَتَعْلِيقِ التَّكْلِيفِ بِهِ

(6/344)


قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ ".
ثُمَّ كَانَ هَذَا السِّنُّ مُجْمَعًا عَلَى الْبُلُوغِ بِهِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا دُونَهُ مردودا بظاهر الثمن. وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رِوَايَةُ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: عُرِضْتُ عَلَى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَرَدَّنِي وَلَمْ يَرَنِي بَلَغْتُ وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ عَامَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَأَجَازَنِي فِي الْمُقَاتِلَةِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: عُرِضْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَ بَدْرٍ وَأَنَا ابْنُ ثَلَاثَ عَشَرَةَ سَنَةً فَرَدَّنِي، وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ عَامَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَرَدَّنِي ولم يرني بلغت وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ عَامَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشَرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي فِي الْمُقَاتِلَةِ. فَالدَّلَالَةُ مِنْ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا رَدَّهُ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشَرَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ عَلِمَ أَنَّ إِجَازَتَهُ سَنَةَ خَمْسَ عَشَرَةَ، لِأَنَّهُ قَدْ بَلَغَ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرُدَّهُ لِمَعْنًى ثُمَّ يُجِيزُهُ مَعَ وُجُودِ ذَلِكَ الْمَعْنَى.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَجَازَهُ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ فِي الْمُقَاتِلَةِ وَهُمُ الْبَالِغُونَ وَبِذَلِكَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِأُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ أَنَّ هَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ الذُّرِّيَّةِ وَالْمُقَاتِلَةِ، فَإِنْ قِيلَ: فَيَجُوزُ أن يكون ابن عمر بلغ خمس عشرة سنة بِالِاحْتِلَامِ لَا بِالسِّنِّ قِيلَ هَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمَنْقُولَ مَعَ السَّبَبِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى ذَلِكَ السَّبَبِ. كَمَا نُقِلَ أَنَّ مَاعِزًا زَنَا فَرُجِمَ. وَالسَّبَبُ الْمَنْقُولُ هُوَ السِّنُّ فَعُلِمَ أَنَّ الْبُلُوغَ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الرَّدَّ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لِلضَّعْفِ وَالْإِجَازَةَ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ لِلْقُوَّةِ.
كَمَا رُوِيَ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّهُ قَالَ: " عُرِضْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَدَّنِي وَأَجَازَ غُلَامًا فَقُلْتُ رَدَدْتَنِي وَأَجَزْتَهُ وَلَوْ صَارَعْتُهُ لَصَرَعْتُهُ، فَقَالَ صَارِعْهُ فَصَارَعْتُهُ فَصَرَعْتُهُ فَأَجَازَنِي ".
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الرَّدَّ وَالْإِجَازَةَ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالضَّعْفِ وَالْقُوَّةِ.
قِيلَ: قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ لِلضَّعْفِ وَالْإِجَازَةُ لِلْقُوَّةِ حَمْلًا لَهُ عَلَى سَبَبِهِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عمر للسن حملا على سببه.
فإن قيل: لحديث ابْنِ عُمَرَ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ نَقَلَ أَنَّ بَيْنَ أُحُدٍ وَالْخَنْدَقِ سَنَةً وَقَدْ رَوَى

(6/345)


الْوَاقِدِيُّ وَأَهْلُ السِّيَرِ أَنَّ بَيْنَ أُحُدٍ وَالْخَنْدَقِ سَنَتَيْنِ. قُلْنَا: نَقْلُ ابْنِ عُمَرَ أَثْبَتُ مِنْ نَقْلِ الْوَاقِدِيِّ.
وَقَدْ تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُرِضَ عَلَيْهِ عام أحد وهو في أول ستة أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَعُرِضَ عَلَيْهِ عَامَ الْخَنْدَقِ وَهُوَ في آخر ستة خمس عشرة فصار بينهما سنتان فإن قيل إن ابن عُمَرَ لَا يَعْرِفُ سِنَّ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَمْ ير قط وِلَادَته فَلَمْ يَصِحَّ إِخْبَارُهُ بِهِ، قُلْنَا لَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا حَتَّى لَا يَجُوزَ الْإِخْبَارُ بِهِ لَمَا جَازَ لَهُ الْإِخْبَارُ بِنَسَبِهِ، وَلَمَا جَازَ بِأَنْ يَقُولَ أَنَا ابْنُ عُمَرَ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ وِلَادَةَ نَفْسِهِ عَلَى فِرَاشِ عُمَرَ.
فإن قيل: فقد يعلم بنسبه بالاستعاضة قيل وقد يعلم بسنه بالاستعاضة. وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا اسْتَكْمَلَ الْمَوْلُودُ خَمْسَ عَشرَةَ سنة كتب ماله وَمَا عَلَيْهِ وَأُخِذَتْ مِنْهُ الْحُدُودُ ".
وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ نَصٌّ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ وَبِمَا ذَكَرْنَا يَفْسُدُ وَجْهُ اسْتِدْلَالِهِمْ.
وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى فَسَادِ مَا قَالُوا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ بُلُوغِ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ وَأَنَّ لِلسِّنِّ مَعْنًى يَثْبُتُ بِهِ الْبُلُوغُ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِيهِ كَالِاحْتِلَامِ. وَلِأَنَّ الضَّعْفَ مَعْنًى يُوجِبُ الْحَجْرَ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِيهِ كَالْجُنُونِ وَلِأَنَّ مَا يَكْمُلُ بِهِ تَصَرُّفُهُمَا يَجِبُ أَنْ يَسْتَوِيَا فِيهِ وَلَا يَتَفَاضَلَا كَالرُّشْدِ، وَلِأَنَّهُ حَالٌ لَوْ أَسْلَمَ فِيهَا صَحَّ إِسْلَامُهُ أَوْ تَصَرَّفَ فِيهَا بِبَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ صَحَّ تَصَرُّفُهُ فَوَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ فِيهَا بِبُلُوغِهِ كَالثَّمَانِيَ عَشْرَةَ.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْبُلُوغَ يَكُونُ بِخَمْسَ عَشرَةَ سَنَةً فَإِنَّمَا يَعْنِي السِّنِينَ الْقَمَرِيَّةَ الَّتِي كُلُّ سَنَةٍ مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا هِلَالًا.
وَابْتِدَاؤُهَا مِنْ حِينِ أَنْ يَنْفَصِلَ الْمَوْلُودُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ، وَكَذَا لَا مِيرَاثَ لَهُ حَتَّى يَنْفَصِلَ جَمِيعُهُ حَيًّا مِنَ الرَّحِمِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ إِذَا خَرَجَ أَكْثَرُ الْمَوْلُودِ مِنَ الرَّحِمِ فَحِينَئِذٍ تُعْتَبَرُ أَوَّلَ سَنَةٍ. وَإِذَا عُلِمَتْ حَيَاتُهُ عِنْدَ خُرُوجِ أَكْثَرِهِ ثُمَّ خَرَجَ بَاقِيهِ مَيِّتًا وَرِثَ.
وَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ أَوْلَى لِأَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ مُقَرَّرَةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ حَالٍ ثَبَتَ لَهَا حُكْمٌ لَمْ يَزَلْ حُكْمُهَا إِلَّا بِالِانْفِصَالِ عَنْهَا كَالْإِيمَانِ.
وَلِأَنَّ وَضْعَ الْحَمْلِ لَمَّا أَوْجَبَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ لَمْ تَنْقَضِ إِلَّا بَعْدَ انْفِصَالِ جَمِيعِهِ صَارَ فِي حُكْمِ الْحَمْلِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الولادة لتنافيهما.

(6/346)


(فَصْلٌ)
أَمَّا الْحَيْضُ فَهُوَ بُلُوغٌ فِي النِّسَاءِ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فَلَا يَحِلُّ أَنْ يُنْظَرَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهَا إِلَّا إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا " فَجَعَلَهَا بِالْحَيْضِ عَوْرَةً يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا بِالْحَيْضِ صَارَتْ بَالِغَةً.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إِلَا بِخِمَارٍ " يَعْنِي بَلَغَتْ وَقْتَ الْحَيْضِ لَا أَنَّهُ أَرَادَ كَوْنَهَا فِي وَقْتِ الْحَيْضِ، لِأَنَّ الْحَائِضَ لَا تَصِحُّ مِنْهَا الصَّلَاةُ بِحَالٍ.
(فَصْلٌ)
فَأَمَّا الْحَمْلُ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى تَقَدُّمِ الْبُلُوغِ، وَلَيْسَ بِبُلُوغٍ فِي نَفْسِهِ كَمَا وَهِمَ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْوَلَدَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ وَمَاءِ الْمَرْأَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خلق من ماء دافق يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 7، 8] ، يَعْنِي أَصْلَابَ الرِّجَالِ وَتَرَائِبَ النِّسَاءِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا خلقناه من نطفة أمشاج نبتليه} [الدهر: 2] أَيْ أَخْلَاطٍ فَإِذَا كَانَ الْوَلَدُ مَخْلُوقًا مِنْ ماءيهما دل الحمل على تقدم إنزالهما فصار دليلا على تقدم بلوغهما.
(فَصْلٌ)
فَأَمَّا الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ فَيَكُونُ بَالِغًا بِالسِّنِّ إِذَا اسْتَكْمَلَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً.
فَأَمَّا الْحَيْضُ وَالْإِنْزَالُ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
حَالٌ يَنْفَرِدُ بِالْإِنْزَالِ.
وَحَالٌ يَنْفَرِدُ بِالْحَيْضِ.
وَحَالٌ يَجْمَعُ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالْإِنْزَالِ.
فَإِذَا أَنْزَلَ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ أَنْزَلَ مِنْ ذَكَرِهِ لَمْ يَكُنْ بَالِغًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً فَلَا يَكُونُ إِنْزَالُهَا مِنْ غَيْرِ الْفَرْجِ بُلُوغًا.
وَإِنْ كَانَ أَنْزَلَ مِنْ فَرْجِهِ لَمْ يَكُنْ بَالِغًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا فَلَا يَكُونُ إِنْزَالُهُ مِنْ غَيْرِ الْفَرْجِ بُلُوغًا.
وَإِنْ كَانَ أَنْزَلَ مِنْ ذَكَرِهِ وَفَرْجِهِ جَمِيعًا كَانَ بَالِغًا لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ رَجُلًا فَقَدْ أَنْزَلَ مِنْ ذَكَرِهِ وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً فَقَدْ أَنْزَلَتْ مِنْ فَرْجِهَا.

(6/347)


فَإِنْ حَاضَ لَمْ يَكُنْ بُلُوغًا بِحَالٍ سَوَاءٌ خَرَجَ الدَّمُ مِنْ فَرْجَيْهِ مَعًا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا وَإِنْ أَنَزَلَ وَحَاضَ فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْحَيْضُ وَالْإِنْزَالُ مِنْ فَرْجِهِ فلا يكون بلوغا لجواز أن يكون رجلا
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الدَّمُ وَالْإِنْزَالُ مِنْ ذَكَرِهِ فَلَا يَكُونُ بُلُوغًا لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْإِنْزَالُ مِنْ فَرْجِهِ وَالدَّمُ من ذكره فلا يكون بلوغا فجواز أَنْ يَكُونَ رَجُلًا فَلَا يَكُونُ خُرُوجُ الدَّمِ مِنْ ذَكَرِهِ بُلُوغًا.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْإِنْزَالُ مِنْ ذَكَرِهِ وَالْحَيْضُ مِنْ فَرْجِهِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَكُونُ بُلُوغًا لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ رَجُلًا فَقَدْ أَنْزَلَ مِنْ ذَكَرِهِ وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً فَقَدْ حَاضَتْ مِنْ فَرْجِهَا.
وَقَدْ حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَنَّهُ قَالَ: وَلَوْ حَاضَ وَاحْتَلَمَ لَمْ يَكُنْ بَالِغًا وَلَيْسَ هَذَا قَوْلًا لَهُ ثَانِيًا كَمَا وَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَلَكِنْ لَهُ أَحَدُ تَأْوِيلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَالَ وَلَوْ حَاضَ أَوِ احْتَلَمَ فَأَسْقَطَ الْكَاتِبُ أَلِفًا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ وَلَوْ حَاضَ وَاحْتَلَمَ مِنْ أَحَدِ فَرْجَيْهِ لَمْ يَكُنْ بُلُوغًا، فَأَمَّا بُلُوغُهُ بِالْإِنْبَاتِ فَإِنْ كَانَ عَلَى أَحَدِ الْفَرْجَيْنِ لَمْ يَكُنْ بُلُوغًا، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْفَرْجَيْنِ جَمِيعًا كَانَ بُلُوغًا فِي الْمُشْرِكِينَ وَفِي المسلمين على ما ذكرنا.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " فإذا أمر الله جل وعز بِدَفْعِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى إِلَيْهِمْ بِأَمْرَيْنِ لَمْ يُدْفَعْ إليهم إلا بهما وهو الْبُلُوغُ وَالرُّشْدُ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَالرُّشْدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ حَتَّى تَكُونَ الشَّهَادَةُ جَائِزَةً مَعَ إِصْلَاحِ الْمَالِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: الْيَتِيمُ لَا يَنْفَكُّ حَجْرُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَشِيدًا فِي دِينِهِ وَمَالِهِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ فُكَّ حَجْرُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُبَذِّرًا.
فَيُسْتَدَامُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ إِلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً ثُمَّ يُفَكُّ حَجْرُهُ. وَإِنْ تَصَرَّفَ قَبْلَ اسْتِكْمَالِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً بِبَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ صَحَّ تَصَرُّفُهُ. اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] .
فَذَكَرَ الرُّشْدَ مُنَكَّرًا فَاقْتَضَى رُشْدًا " مَا " وَصَلَاحُهُ لِمَالِهِ فِي حَالَة " مَا " نَوْعٌ مِنَ الرُّشْدِ.
وَلِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ غَيْرُ مُبَذِّرٍ فَوَجَبَ أَنْ يُفَكَّ حَجْرُهُ كَالرَّشِيدِ فِي دِينِهِ.
وَلِأَنَّ بُلُوغَ الْكَافِرِ عَاقِلًا يُوجِبُ فَكَّ حَجْرِهِ مَعَ عَدَمِ الرَّشَادِ فِي دِينِهِ فَالْمُسْلِمُ إِذَا بَلَغَ

(6/348)


عَاقِلًا أَوْلَى بِفَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ؛ وَلِأَنَّ الْيَتِيمَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ وَنِكَاحِهِ فَلَمَّا انْفَكَّ الْحَجْرُ عَنْ نِكَاحِهِ إِذَا بَلَغَ عَاقِلًا. وَجَبَ أَنْ يُفَكَّ الْحَجْرُ عَنْ مَالِهِ إِذَا بَلَغَ عَاقِلًا.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ: قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] فَأَمَرَ بِدَفْعِ أموالهم إليهم بشرطين: البلوغ والرشد.
فلم يجز أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِمْ بِوُجُودِ الْبُلُوغِ دُونَ الرُّشْدِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِمْ بِوُجُودِ الرشد دون البلوغ فمن لَمْ يَكُنْ مُصْلِحًا فِي دِينِهِ لَا يَنْطَلِقُ اسْمُ الرُّشْدِ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالرُّشْدُ هُوَ الْعَقْلُ كَانَ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أن الرشد عرفا مستعملا فِي صَلَاحِ الدِّينِ وَالْمَالِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْعَقْلِ وَإِنْ كَانَ بَعْضَ شَرَائِطِ الرُّشْدِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَ بِاخْتِبَارِهِ قَبْلَ الرُّشْدِ وَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى اخْتِبَارٍ لِظُهُورِ أَمْرِهِ فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى مَنْ يَشْتَبِهُ أَمْرُهُ لِيَحْتَاجَ إِلَى اخْتِبَارٍ أَوْلَى وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " اقْبِضُوا عَلَى أَيْدِي سُفَهَائِكُمْ ".
وَالْعَادِمُ لِلرُّشْدِ سَفِيهٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا عَلَى يَدِهِ مَمْنُوعًا مِنْ تَصَرُّفِهِ فِي مَالِهِ وَلِأَنَّهُ بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ مَالِهِ كَالْمَجْنُونِ أَوِ الْمُبَذِّرِ قَبْلَ الْخَمْسِ وَالْعِشْرِينَ. وَلِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ مَالِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ كَالصَّغِيرِ، وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ مَا نُدِبَ إِلَيْهِ مِنْ صَلَاحَيْ رُشْدِهِ وَهُمَا صَلَاحُ نَفْسِهِ بِالدِّينِ وَصَلَاحُ مَالِهِ بِالْقَصْدِ فَلَمَّا كَانَ صَلَاحُ مَالِهِ بِالْبُلُوغِ مُعْتَبَرًا فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ صَلَاحُ نَفْسِهِ مُعْتَبَرًا. فَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ جَعَلْنَاهَا دَلِيلًا لَنَا وَمَا حَمَلُوهَا عَلَيْهِ مِمَّا انْطَلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ رُشْدٍ. " مَا " غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ التَّلَفُّظَ بِالشَّهَادَتَيْنِ رُشْدٌ وَدَفْعُ الْأَذَى مِنَ الطَّرِيقِ رُشْدٌ. وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ فَكُّ الْحَجْرِ.
وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرُوا لَا يَكُونُ رُشْدًا مُطْلَقًا وَالسَّفِيهُ لَيْسَ بِرَشِيدٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] .
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرَّشِيدِ فَالْمَعْنَى فِيهِ الْإِصْلَاحُ فِي الدِّينِ وَالْمَالِ.
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ النِّكَاحِ " وَالْمَالِ " فَهُمَا سَوَاءٌ مَتَى لَمْ يَنْفَكَّ الْحَجْرُ عَنْ مَالِهِ لَمْ يَنْفَكَّ عَنْ نِكَاحِهِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَهُوَ رَشِيدٌ فِي دِينِ نَفْسِهِ، لِأَنَّ الرُّشْدَ هُوَ أَنْ يَنْتَهِيَ عَمَّا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ وَيَفْعَلَ مَا يَعْتَقِدُ حُسْنَهُ وَوُجُوبَهُ، وَلَا اعْتِبَارَ فِي رُشْدِهِ بِمَا يَعْتَقِدُهُ الْغَيْرُ مِنْ قُبْحٍ وَحَظَرٍ فَكَانَ اسْمُ

(6/349)


الرُّشْدِ مُنْطَلِقًا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا يُفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهُ. وَلَا يَنْطَلِقُ اسْمُ الرُّشْدِ عَلَى الْمُسْلِمِ إِذَا كَانَ فَاسِقًا فَلَمْ يُفَكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ. كَمَا يَلِي الْكَافِرُ عَلَى مَالِ وَلَدِهِ وَلَا يَلِي الْفَاسِقُ عَلَى مَالِ وَلَدِهِ.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالرُّشْدُ الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ حَتَّى تَكُونَ الشَّهَادَةُ جَائِزَةً مَعَ إِصْلَاحِ الْمَالِ. فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَوْلِهِ حَتَّى تَكُونَ الشَّهَادَةُ جَائِزَةً مَا الَّذِي أَرَادَ بِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مُرَادَهُ بِهِ أَنْ يَكُونَ بِوَصْفِ مَنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ فَلَا يَرْتَكِبُ مَحْظُورًا وَلَا يَأْتِي قَبِيحًا وَلَا يُخِلُّ بِوَاجِبٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ بِوَصْفِ مَنْ تَكُونُ الشَّهَادَةُ لَهُ بِالرُّشْدِ جَائِزَةً لِظُهُورِ أَفْعَالِهِ الْجَمِيلَةِ وَانْتِشَارِ سِدَادِهِ عِنْدَ أَكْفَائِهِ.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنَّمَا يُعْرَفُ إِصْلَاحُ الْمَالِ بِأَنْ يُخْتَبَرَ الْيُتْمَانُ وَالِاخْتِبَارُ يَخْتَلِفُ بِقَدْرِ حَالِ الْمُخْتَبَرِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَبْتَذِلُ فَيُخَالِطُ النَّاسَ بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَبَعْدَهُ فَيَقْرُبُ اخْتِبَارُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَانُ عَنِ الْأَسْوَاقِ فَاخْتِبَارَهُ أَبْعَدُ فَيُخْتَبَرُ فِي نَفَقَتِهِ فَإِنْ أَحْسَنَ إِنْفَاقَهَا عَلَى نَفْسِهِ وَشِرَاءَ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ أَوْ يُدْفَع إِلَيْهِ الشَّيْءُ الْيَسِيرُ فَإِذَا أَحْسَنَ تَدْبِيرَهُ وَتَوْفِيرَهُ وَلَمْ يُخْدَعْ عَنْهُ دُفِعَ إِلَيْهِ مَالُهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَاخْتِبَارُ الْأَيْتَامِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي زَمَانِهِ.
وَالثَّانِي: فِي صِفَتِهِ. فَأَمَّا زَمَانُ الِاخْتِبَارِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَعْدَ الْبُلُوغِ لِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي يَنْفُذُ فِيهِ تَصَرُّفُهُ وَتَصِحُّ فِيهِ عُقُودُهُ وَيَثْبُتُ لِقَوْلِهِ حُكْمٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُخْتَبَرُ قَبْلَ الْبُلُوغِ لِيَصِلَ إِلَى قَبْضِ مَالِهِ عِنْدَ بُلُوغِهِ وَرُشْدِهِ وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ لِأَجْلِ الِاخْتِبَارِ.
كَمَا لَزِمَ تَعْلِيمُ الصَّبِيِّ الطَّهَارَةَ وَالصَّلَاةَ قَبْلَ البلوغ حتىلا يَتَأَخَّرَ بَعْدَ الْبُلُوغِ عَنْ أَدَاءِ الْفَرْضِ تَشَاغُلًا بِالتَّعْلِيمِ. فَمَنْ قَالَ بِهَذَا فَفِي كَيْفِيَّةِ اخْتِبَارِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَلِيَّ يُعْطِيهِ مَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ مِنْ يَسِيرِ الْمَالِ. فَيَبِيعُ بِهِ وَيَشْتَرِي وَيَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُ لِمَوْضِعِ الضَّرُورَةِ إِلَيْهِ.

(6/350)


وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْيَتِيمَ يُبَاشِرُ بِمَا دُفِعَ إِلَيْهِ مِنْ يَسِيرِ مَالِهِ الْمُسَاوَمَةَ وَتَقْدِيرَ الثَّمَنِ وَاسْتِصْلَاحَ الْعَقْدِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ لَهُ ذَلِكَ تَوَلَّى الْوَلِيُّ الْعَقْدَ عَنْهُ وَلَا يَصِحُّ لِعَدَمِ بُلُوغِهِ الْعَقْدُ مِنْهُ.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا صِفَةُ الِاخْتِبَارِ فَقَدْ يَكُونُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: مَا كَانَ اخْتِبَارًا لِدِينِهِ وَهُوَ لُزُومُ الْعِبَادَاتِ وَتَجَنُّبُ الْمَحْظُورَاتِ وَتُوَقِّي الشُّبُهَاتِ.
وَالثَّانِي: مَا كَانَ اخْتِبَارًا لِمَالِهِ وَهُوَ التَّوَصُّلُ إِلَى الِاكْتِسَابِ وَالْقَصْدِ فِي الْإِنْفَاقِ.
وَالثَّالِثُ: مَا كَانَ مُشْتَرِكًا فِي اخْتِبَارِ دِينِهِ وَمَالِهِ وَهُوَ حَالُهُ فِيمَنْ يُصَاحِبُ مِنَ النَّاسِ أَوْ يُخَالِطُ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُولَى عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ غُلَامًا أَوْ جَارِيَةً.
فَأَمَّا الْغُلَامُ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُسْتَبْذَلُ بِدُخُولِ الْأَسْوَاقِ.
أَوْ مِمَّنْ يُصَانُ عَنْهَا فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَدْخُلُ الْأَسْوَاقَ أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ فِي دُخُولِ السُّوقِ الَّتِي تَلِيقُ بِمِثْلِهِ وَدَفَعَ إِلَيْهِ يَسِيرًا مِنْ مَالِهِ وَرَاعَى مَا يَكُونُ مِنْ بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ وَأَخْذِهِ وَعَطَائِهِ.
فَإِنْ كَانَ شَدِيدًا فِيهَا حَسَنَ التَّدْبِيرِ لَهَا لَا يُغْبَنُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لَمْ يَقْنَعْ مِنْهُ بِدُفْعَةٍ وَاحِدَةٍ حَتَّى يُرَاعَى ذَلِكَ مِنْهُ ثَانِيَةً وَثَالِثَةً لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأُولَى مِنْهُ اتِّفَاقًا لَا قَصْدًا، فَإِذَا تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلِمَ صِحَّةَ قَصْدِهِ فِيهِ كَالْكَلْبِ إِذَا عُلِّمَ فَأَمْسَكَ مَرَّةً لَمْ يَصِرْ مُعَلَّمًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ بِالِاتِّفَاقِ فَإِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ صَارَ قَصْدًا فَصَارَ مُعَلَّمًا. فَإِذَا رَآهُ الْوَلِيُّ مِرَارًا يَمْضِي عَلَى شَاكِلَتِهِ فِي الْقَصْدِ وَصَوَابِ التَّدْبِيرِ وَحُسْنِ التَّقْدِيرِ عَلِمَ رُشْدَهُ فِي الْمَالِ. وَإِنْ رَآهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ مِنْ فَسَادِ الْقَصْدِ وَحُصُولِ الْغَبْنِ عَلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ رَشِيدٍ فِي الْمَالِ.
وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُصَانُ عَنِ الْأَسْوَاقِ فَاخْتِبَارُهُ أَشَدُّ فَيُدْفَعُ إِلَيْهِ نَفَقَةُ يَوْمٍ ثُمَّ مِنْ بعدها نفقة أسبوع ثم نفقة شهر. ورعاه الْوَلِيُّ فِي تَقْدِيرِهَا وَصَرْفِهَا فِي وُجُوهِهَا، وَإِنْ كَانَ صَاحِبَ ضَيْعَةٍ أَذِنَ لَهُ فِي تَدْبِيرِهَا. فَإِنْ رَآهُ مُصِيبَ الرَّأْيِ فِيهَا وَاضِعًا لِلْأُمُورِ مَوَاضِعَهَا يُقَدِّرُ النَّفَقَةَ عَلَى وَاجِبِهَا عَلِمَ رُشْدَهُ فِي مَالِهِ وَإِنْ رَآهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ رَشِيدٍ فِيهِ فَهَذَا اخْتِبَارُ رُشْدِهِ فِي الْمَالِ.
وَأَمَّا اخْتِبَارُ رُشْدِهِ فِي دِينِهِ فَهُوَ بِمُرَاعَاةِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي وَمُصَاحَبَةِ مَنْ يُخَالِطُ وَيُمَاشِي، فَإِنْ كَانَ مُقْبِلًا عَلَى عِبَادَاتِهِ فِي أَوْقَاتِهَا الرَّاتِبَةِ مُجَانِبًا لِلْمَعَاصِي وَالشُّبُهَاتِ مُمَاشِيًا لِأَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ مُحَافِظًا عَلَى مُرُوءَةِ مِثْلِهِ عَلِمَ رُشْدَهُ فِي دِينِهِ.
وَإِنْ كَانَ خِلَافَ هَذَا فَهُوَ غَيْرُ رَشِيدٍ فِي الدِّينِ.

(6/351)


فَإِذَا اجْتَمَعَ رُشْدُهُ فِي دِينِهِ وَمَالِهِ وَجَبَ فَكُّ حَجْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ أَبًا أَوْ جَدًّا انْفَكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ بِرُشْدِهِ مِنْ غَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَبِ لَمَّا ثَبَتَتْ بِغَيْرِ حُكْمٍ ارْتَفَعَتْ بِالرُّشْدِ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ، وَإِنْ كَانَتِ الْوِلَايَةُ لِأَمِينِ حَاكِمٍ لَمْ تَرْتَفِعْ عَنْهُ إِلَّا بِحُكْمٍ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَتْ وِلَايَتُهُ بِحُكْمٍ لَمْ تَرْتَفِعْ إِلَّا بِحُكْمٍ. وَإِنْ كَانَتِ الْوِلَايَةُ لِوَصِيِّ أَبٍ أَوْ جَدٍّ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَرْتَفِعُ بِالرُّشْدِ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ كَالْأَبِ لِثُبُوتِهَا لِلْوَصِيِّ بِغَيْرِ حُكْمٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَرْتَفِعُ إِلَّا بِحُكْمٍ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْوَصِيِّ لَمْ تَثْبُتْ إِلَّا بِغَيْرِهِ كَأَمِينِ الْحَاكِمِ.
فَإِذَا صَارَ مَفْكُوكَ الْحَجْرِ بِمَا ذَكَرْنَا وَجَبَ تَسْلِيمُ مَالِهِ إِلَيْهِ فَإِنْ مُنِعَ مِنْهُ صَارَ الْمَانِعُ لَهُ مِنْهُ مَعَ زَوَالِ الْعُذْرِ ضَامِنًا لَهُ فَإِنْ عَقَدَ لَهُ فِيهِ عَقْدًا مِنْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ كَانَ عَقْدُهُ بَاطِلًا.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا أَرَادَ وَلِيُّ الْيَتِيمِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ أُجْرَةً بِحَقِّ قِيَامِهِ فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ فَقِيرًا جَازَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ أَجْرَ مثله بحق قيامه عليه. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] . وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: 6] يَعْنِي بِمَالِهِ عَنْ مَالِ الْيَتِيمِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا أَنْ يَأْخُذَ الْأُجْرَةَ لِأَنَّهَا عِوَضٌ عَنْ قِيَامِهِ فَلَمْ يَخْتَصَّ بِهَا فَقِيرٌ دُونَ غَنِيٍّ كَسَائِرِ الْأُجُورِ. وَتَكُونُ الْآيَةُ مَحْمُولَةً عَلَى الِاسْتِحْبَابِ.

(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَاخْتِبَارُ الْمَرْأَةِ مَعَ عِلْمِ صَلَاحِهَا لِقِلَّةِ مُخَالَطَتِهَا فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ أَبْعَدُ فَتَخْتَبِرُهَا النِّسَاءُ وَذَوُو الْمَحَارِمِ بِمِثْلِ مَا وَصَفْتُ فَإِذَا أُونِسَ مِنْهَا الرُّشْدُ دُفِعَ إِلَيْهَا مَالُهَا تَزَوَّجَتْ أَمْ لَمْ تَتَزَوَّجْ كَمَا يُدْفَعُ إِلَى الْغُلَامِ نَكَحَ أَوْ لم ينكح لأن الله تبارك وتعالى سوى بينهما في دفع أموالهما إليهما بالبلوغ والرشد ولم يذكر تزويجا واحتج الشافعي في الحجر بعثمان وعلي والزبير رضي الله عنهم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: وَاخْتِبَارُ الْجَارِيَةِ فِي رُشْدِهَا أَصْعَبُ مِنَ اخْتِبَارِ الْغُلَامِ؛ لِأَنَّ حَالَ الْغُلَامِ أَظْهَرُ وَحَالَ الْجَارِيَةِ أَخْفَى وَالَّذِي يَتَوَلَّى اخْتِبَارَهَا ذَوُو مَحَارِمِهَا وَنِسَاءُ أَهْلِهَا بِخِلَافِ الْغُلَامِ الَّذِي يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَتَوَلَّى اخْتِبَارَهُ وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا.
وَحَالُ النِّسَاءِ أَيْضًا يَخْتَلِفُ فِي الْبُرُوزِ وَالْخُفْيِ فَيُدْفَعُ إِلَيْهما مِنْ مَالِهَا مَا تَتَوَلَّى إِنْفَاقَهُ عَلَى نَفْسِهَا وَفِي تَدْبِيرِ خَدَمِهَا وَمَنْزِلِهَا فَإِذَا وُجِدَ مِنْهَا الْقَصْدُ فِي جَمِيعِهِ وَأَصَابَتْ تَدْبِيرَ مَا يَتَوَلَّاهُ النِّسَاءُ مِنْ أُمُورِ الْمَنَازِلِ وَاسْتِغْزَالِ الْكِسْوَاتِ مَعَ صَلَاحِ رُشْدِهَا فِي الدِّينِ عُلِمَ رُشْدُهَا وَوَجَبَ فَكُّ حَجْرِهَا سَوَاءٌ تَزَوَّجَتْ أَوْ لَمْ تَتَزَوَّجْ.

(6/352)


وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُفَكَّ حَجْرُهَا حتى تتزوج، ولا يجوز تصرفها بعد التزويج إلا أن تصير عجوزا معنسة. إلا بإذن الزوج.
وَاسْتُدِلَّ عَلَى بَقَاءِ الْحَجْرِ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ تَتَزَوَّجَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] .
وَبُلُوغُ النِّكَاحِ هُوَ التَّزْوِيجُ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي فَكِّ الْحَجْرِ.
وَاسْتُدِلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهَا بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] .
وَبِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تَتَصَرَّفَ فِي مَالِهَا بَعْدَ أَنْ ملك الزوج عصمتها بِإِذْنِهِ ".
وَهَذَا نَصٌّ وَلِمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ عَطِيَّةُ شَيْءٍ إِلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا ".
وَلِأَنَّ مَالَ الزَّوْجَةِ فِي الْغَالِبِ مَقْصُودٌ فِي عَقْدِ نِكَاحِهَا لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِزِيَادَةِ صَدَاقِهَا لِكَثْرَةِ مَالِهَا وَقِلَّتِهِ لِقِلَّةِ مَالِهَا وَهُوَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ عَلَيْهَا فَاقْتَضَى أَنْ يَمْلِكَ فِيهِ مَنْعَهَا.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهَا تَسْتَحِقُّ فَكَّ الْحَجْرِ بِالْبُلُوغِ وَالرُّشْدِ مِنْ غَيْرِ تَزْوِيجٍ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] . وَبُلُوغُ النِّكَاحِ إِنَّمَا هُوَ بُلُوغُ زَمَانِهِ كَالْغُلَامِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَمَّ إِلَى هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ ثَالِثٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إِسْقَاطِ فَائِدَةِ الشَّرْطِ وَالْغَايَةِ.
وَلِأَنَّ مَا انْفَكَّ بِهِ الْحَجْرُ بَعْدَ التَّزْوِيجِ انْفَكَّ بِهِ حَجْرُ الْجَارِيَةِ كَالْمُزَوَّجَةِ وَلِأَنَّ الْجَارِيَةَ قَبْلَ التَّزْوِيجِ أَشَحُّ لِمَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مُؤْنَةِ جِهَازِهَا وَنَفَقَةِ نَفْسِهَا وَبَعْدَ التَّزْوِيجِ أَسْمَحُ لِسُقُوطِ الْجِهَادِ عَنْهَا وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى زَوْجِهَا.
وَالْغُلَامُ ضِدُّهَا، لِأَنَّهُ قَبْلَ التَّزْوِيجِ أَسْمَحُ لِقِلَّةِ مَؤُونَتِهِ وَبَعْدَ التَّزْوِيجِ أَشَحُّ لِكَثْرَةِ مَؤُونَتِهِ، فَلَمَّا جَازَ فَكُّ الْحَجْرِ عَنِ الْغُلَامِ قَبْلَ التَّزْوِيجِ فِي أَسْمَحِ حَالَيْهِ فَأَوْلَى أَنْ يُفَكَّ حَجْرُ الْجَارِيَةِ قَبْلَ التَّزْوِيجِ فِي أَشَحِّ حَالَيْهَا.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ تَصَرُّفِهَا بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجِ مَا رُوِيَ: " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَطَبَ عَلَى النَّسَاءِ فِي يَوْمِ عِيدٍ فَقَالَ تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تَتَصَدَّقُ بِخَاتَمِهَا وَقُرْطِهَا. وَلَمْ يُعْتَبَرْ

(6/353)


فِيهِ إِذْنُ زَوْجِهَا، وَلِأَنَّ مَنِ اسْتَحَقَّ تَسْلِيمَ مَالِهِ إِلَيْهِ اسْتَحَقَّ جَوَازَ تَصَرُّفِهِ فِيهِ كَالْغُلَامِ؛ وَلِأَنَّ لِلزَّوْجَةِ حَقًّا فِي يَسَارِ الزَّوْجِ فِي زيادة النفقة مَا لَيْسَ لِلزَّوْجِ فِي يَسَارِ الزَّوْجَةِ فَلَمَّا جَازَ تَصَرُّفُ الزَّوْجِ بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجَةِ مَعَ حَقِّهَا فِي يَسَارِهِ فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ تَصَرُّفُ الزَّوْجَةِ بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجِ لِسُقُوطِ حَقِّهِ بِيَسَارِهَا فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ مِنْهَا فَكَانَ جَوَابًا عَنْهَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُمْ أَهْلُ قِيَامٍ عَلَى نِسَائِهِمْ فِي تَأْدِيبِهِنَّ عَلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِنَّ.
وَقَدْ رَوَى جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ لَطَمَ امْرَأَتَهُ فَجَاءَتْ تَلْتَمِسُ الْقِصَاصَ فجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَهُمَا الْقِصَاصَ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 114] . ثُمَّ نَزَلَتْ {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 34] . فَلَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ عَلَى مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ دَلِيلٌ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فَهُوَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ. وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْمُبَذِّرَةِ إِذَا وَلِيَ الزَّوْجُ الْحَجْرَ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ عَطِيَّةُ شَيْءٍ إِلَا بِإِذْنِ زَوْجِهَا " فَهُوَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَالِ الزَّوْجِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ إِنَّ الْمَهْرَ يَزِيدُ بِزِيَادَةِ مَالِهَا وَيَنْقُصُ بِنُقْصَانِهِ فَهُوَ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلِأَجْلِ مَا يَعُودُ فِي الزَّوْجِ مِنْ تَوْفِيرِ الْمَالِ بِالْإِرْثِ وَسُقُوطِ نَفَقَةِ أَوْلَادِهِ عَنْهُ بِالْإِعْسَارِ.

(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا كَانَ وَاجِبًا أَنْ يَحْجُرَ عَلَى مَنْ قَارَبَ الْبُلُوغَ وَقَدْ عَقَلَ نَظَرًا لَهُ وَإِبْقَاءً لِمَالِهِ فَكَانَ بَعْدَ الْبُلُوغِ أَشَدَّ تَضْيِيعًا لِمَالِهِ وأكثر إتلافا له لَا يَجِبُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ وَالْمَعْنَى الَّذِي أَمَرَ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ بِهِ فِيهِ قَائِمٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: السَّفِيهُ الْمُبَذِّرُ لِمَالِهِ يَجِبُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ بَالِغًا.
وَقَالَ أبو حنيفة وزفر: لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ الْحَجْرُ عَلَى بَالِغٍ عَاقِلٍ وَإِنْ كَانَ سَفِيهًا مُبَذِّرًا.
اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ: أَمَرَ بِالْإِنْفَاقِ وَنَهَى عَنِ الْإِمْسَاكِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المنافقون: 10] .
وَقَالَ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] .
فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ مَا نَدَبَ إِلَيْهِ يُوجِبُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ليس لك

(6/354)


مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ " فَكَانَ ذَلِكَ حَثًّا مِنْهُ عَلَى الْإِنْفَاقِ لِلْمَالِ وَتَرْكِ إِمْسَاكِهِ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا حَجْرَ عَلَى حُرٍّ " فَهَذَا نَصٌّ وَلِأَنَّهُ حُرٌّ مُكَلَّفٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْجَرَ عَلَيْهِ كَغَيْرِ الْمُبَذِّرِ؛ وَلِأَنَّ مَنْ حُجِرَ عَلَيْهِ فِي عُقُودِهِ حُجِرَ عَلَيْهِ فِي إِقْرَارِهِ كَالْمَجْنُونِ وَمَنْ لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ فِي إِقْرَارِهِ لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ فِي عُقُودِهِ كَالرَّشِيدِ.
فَلَمَّا صَحَّ إِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ صَحَّ فِي مَالِهِ وَعُقُودِهِ.
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ مَنْ قُبِلَ إِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ قُبِلَ إِقْرَارُهُ فِي مَالِهِ كَالرَّشِيدِ.
وَلِأَنَّ تَصَرُّفَ الْإِنْسَانِ فِي مَالِ نَفْسِهِ أَقْوَى مِنْ تَصَرُّفِ غَيْرِهِ فِي مَالِهِ فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ إِبْطَالُ عُقُودِهِ الْمُسْتَقْبَلَةِ. فَأَوْلَى أَنْ لَا يَصِحَّ فِي غَيْرِهِ أَنْ يُبْطِلَ عُقُودَهُ الْمُسْتَقْبَلَةَ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} [النساء: 5] الْآيَة.
وَالْمُرَادُ بِالسُّفَهَاءِ الْبَالِغُونَ الْعُقَلَاءُ، لأن السفه صفة قيام لَا تَتَوَجَّهُ إِلَّا عِلْمًا مُكَلَّف فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْحَجْرِ بِالسَّفَهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَوْله تَعَالَى: {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] أَنْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمُ الْقِيَامَ عَلَيْهَا.
وَالثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5] ، ولا يجوز أن يتولى ذلك الأولى.
وقوله تعالى: {أموالكم} يَعْنِي أَمْوَالَهُمْ وَإِنَّمَا أَضَافَ ذَلِكَ إِلَى الْأَوْلِيَاءِ لِتَصَرُّفِهِمْ فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَمَرَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ مِنْهَا وَلَا يَجِبُ الْإِنْفَاقُ مِنْ غَيْرِ أَمْوَالِهِمْ. وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] .
فَأَثْبَتَ الْوِلَايَةَ عَلَى السَّفِيهِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَجْنُونِ وَالصَّغِيرِ.
وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَبْتَاعُ وَكَانَ فِي عُقْدَتِهِ ضَعْفٌ فَأَتَى أَهْلُهُ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ احْجُرْ عَلَى فُلَانٍ فَإِنَّهُ يَبْتَاعُ وَفِي

(6/355)


عُقْدَتِهِ ضَعْفٌ فَدَعَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَنَهَاهُ عَنِ الْبَيْعِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا أَصْبِرُ عَنْهُ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ غَيْرَ تَارِكٍ فَقُلْ لَا خِلَابَةَ. فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْحَجْرِ عَلَى الْبَالِغِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَجَرَ عَلَيْهِ حَجْرَ مِثْلِهِ بِأَنْ أَثْبَتَ لَهُ الْخِيَارَ فِي عُقُودِهِ وَلَمْ يَجْعَلْهَا مُنْبَرِمَةً.
وَالثَّانِي: سُؤَالُهُمُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ وَإِمْسَاكُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْإِنْكَارِ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " خُذُوا عَلَى أَيْدِي سُفَهَائِكُمْ " وَلَا يُمْكِنُ الْأَخْذُ عَلَى أَيْدِيهِمْ إِلَّا بِالْحَجْرِ عَلَيْهِمْ.
وروي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: حَجَرَ عَلَى مُعَاذٍ لِأَجْلِ غُرَمَائِهِ فَكَانَ الْحَجْرُ عَلَى السَّفِيهِ لِحَقِّ نَفْسِهِ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرَّ بِأَرْضٍ سَبِخَةٍ فَقَالَ: لِمَنْ هَذِهِ؟ فَقَالُوا: كَانَتْ لِفُلَانٍ وَاشْتَرَاهَا عبد الله بن جعفر بسنين أَلْفَ دِرْهَمٍ فَقَالَ: مَا يَسُرُّنِي أَنْ تَكُونَ لِي بِنَعْلَيْنِ. ثُمَّ رَأَى عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: لِمَ لَا تَقْبِضُ عَلَى يَدِ ابْنِ أَخِيكَ وَتَحْجُرُ عَلَيْهِ، فَعَلِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ بِذَلِكَ فَلَقِيَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَذَكَرَ لَهُ الْحَالَ فَقَالَ شَارِكْنِي فِيهَا فَشَارَكَهُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلِيٌّ إِلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَسْأَلُهُ الْحَجْرَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ عُثْمَانُ: كَيْفَ أَحْجُرُ عَلَى مَنْ شَرِيكُهُ الزُّبَيْرُ.
وَكَانَ مَعْرُوفًا بِالْإِمْسَاكِ وَالِاسْتِصْلَاحِ فَصَارَتْ شَرِكَتُهُ شُبْهَةً تَنْفِي اسْتِحْقَاقَ الْحَجْرِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَمِنْ بَاقِي الصَّحَابَةِ فِي إِمْسَاكِهِمْ إِجْمَاعًا مُنْعَقِدًا عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْحَجْرِ عَلَى الْبَالِغِ وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا تُبَذِّرُ مَالَهَا في العطايا والصلاة وَالصَّدَقَاتِ فَقَالَ: لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ أَوْ لَأَحْجُرَنَّ عَلَيْهَا فَبَلَغَ ذَلِكَ عَائِشَةَ فَحَلَفَتْ أَنْ لَا تُكَلِّمَهُ حَتَى رَكِبَ إِلَيْهَا فَاعْتَذَرَ لَهَا وَكَفَّرَتْ عَنْ يَمِينِهَا وَكَلَّمَتْهُ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَجْرَ عَلَى الْبَالِغِ مَشْهُورٌ، فِيهِمْ وَإِنْ كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وهم في موجبه لأن عن مَنْ صَرَفَ مَالَهُ فِي الْقُرْبِ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ الْحَجْرَ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ رَاسَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِمِثْلِ ذَلِكَ وَلِأَنَّ عَدَمَ التَّدْبِيرِ وَوُجُودَ التَّبْذِيرِ يُوجِبُ ثُبُوتَ الْحَجْرِ كَالصَّغِيرِ: وَلِأَنَّ مَا يُسْتَدَامُ بِهِ الحجر لاستدامته وجب إذا طرأ أن يبتدئ الْحَجْرُ بِهِ كَالْجُنُونِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالْإِنْفَاقِ فِي الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ. فَهُوَ إِنَّهُ أَمَرَ بِالْإِنْفَاقِ فِي الطَّاعَاتِ دُونَ التَّبْذِيرِ وَالْإِنْفَاقِ فِي الْمَعَاصِي لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِمَا نُهِي عَنْهُ وَدَلَّ عَلَى قُبْحِهِ، وَكَذَا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا حَجْرَ عَلَى حُرٍّ ". فَحَدِيثٌ مُرْسَلٌ وَلَوْ صح لاحتمل حجر حَجْرَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حُكْمٍ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرشيد فالمعنى فيه فيه وجود الإصلاح منه.

(6/356)


وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ بِعِلَّةِ أَنَّهُ مِمَّنْ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ على نفسه فالمعنى فيه انتقاء التهمة عنه فيما يتعلق بنفسه ولحقوقها فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ كَالْعَبْدِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبْطِلَ مَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ عُقُودِ نَفْسِهِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ فَهُوَ أَنَّ غَيْرَهُ لَمْ يُبْطِلْ عُقُودَهُ الْمُسْتَقْبَلَةَ وَإِنَّمَا وُقُوعُ الْحَجْرِ عَلَيْهِ مَنَعَ مِنْ صِحَّةِ الْعُقُودِ مِنْهُ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْحَجْرِ عَلَى الْكَبِيرِ بِالسَّرَفِ وَالتَّبْذِيرِ فَلَا يَخْلُو حَالُ ذِي الْمَالِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُصْلِحًا لِدِينِهِ مُصْلِحًا لِمَالِهِ فَهَذَا هُوَ الرَّشِيدُ الَّذِي يَجُوزُ أمره وتصح عقوده.
والحال الثاني: أَنْ يَكُونَ مُفْسِدًا فِي دِينِهِ لِظُهُورِ فِسْقِهِ فِي مَالِهِ لِظُهُورِ تَبْذِيرِهِ فَهَذَا هُوَ السَّفِيهُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ بِمَا نَذْكُرُهُ مِنْ أحوال التبذير.
والحال الثالث: أَنْ يَكُونَ مُصْلِحًا لِدِينِهِ مُفْسِدًا لِمَالِهِ بِالتَّبْذِيرِ لَهُ فَلَا يَخْلُو حَالُ تَبْذِيرِهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بِالْغَبْنِ الَّذِي يَلْحَقُهُ فِي بَيُوعِهِ وَأَشْرِيَتِهِ فَهَذَا يَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ بِهِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّبْذِيرُ بِإِنْفَاقِ مَالِهِ فِي الْمَعَاصِي فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُوجِبُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ التَّبْذِيرُ بِإِنْفَاقِ مَالِهِ فِي الطَّاعَاتِ وَالصِّلَاتِ فَلَيْسَ ذَلِكَ تَبْذِيرًا وَهُوَ فِيهِ مَأْجُورٌ وَالْحَجْرُ عَلَيْهِ غَيْرُ جَائِزٍ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ تَبْذِيرُهُ بِإِنْفَاقِ مَالِهِ فِي مَلَاذِّهِ وَالْإِسْرَافِ فِي مَلْبُوسِهِ وَالْإِنْفَاقِ فِي شَهَوَاتِهِ حَتَّى يَتَجَاوَزَ فِي جَمِيعِهَا الْحَدَّ الْمَأْلُوفَ وَالْقَدْرَ الْمَعْرُوفَ فَفِي وُجُوبِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُحْجَرُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنْفَاقٌ فِي غَيْرِ حَقٍّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا حَجْرَ عَلَيْهِ في ذلك لإباحته فهذا حكم الحال الثالث.
وَأَمَّا الْحَالُ الرَّابِعَةُ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُصْلِحًا فِي مَالِهِ مُفْسِدًا فِي دِينِهِ لِفِسْقِهِ وَفُجُورِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ. فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يَجِبُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بِفِسْقِهِ بأنْ كَانَ مُصْلِحًا فِي مَالِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ فَسَادُ الدِّينِ شَرْطًا فِي اسْتِدَامَةِ الْحَجْرِ كَانَ شَرْطًا فِي ابْتِدَاءِ الْحَجْرِ كَالْفَسَادِ فِي الْمَالِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ لَا يَجُوزُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُصْلِحًا فِي مَالِهِ لِعَدَمِ التَّأْثِيرِ بِهِ وَفَرْقٌ بَيْنَ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ فِي اسْتِدَامَةِ الْحَجْرِ عَلَى الصَّغِيرِ بِإِفْسَادِ الدِّينِ وَعَدَمِ ابْتِدَاءِ الْحَجْرِ عَلَى الْكَبِيرِ بِإِفْسَادِ الدِّينِ بِأَنَّ الصَّغِيرَ قَدْ ثَبَتَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرْتَفِعْ إِلَّا بِرُشْدٍ كَامِلٍ وَالْكَبِيرُ مَرْفُوعُ الْحَجْرِ فَلَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ إِلَّا بِسَفَهٍ كامل.

(6/357)


(فَصْلٌ)
فَأَمَّا الشَّحِيحُ الَّذِي يَبْخَلُ عَلَى نَفْسِهِ فِي النَّفَقَةِ فَلَا يَأْكُلُ حَسْبَ كِفَايَتِهِ وَلَا يَلْبَسُ بِقَدْرِ حَالِهِ شُحًّا عَلَى نَفْسِهِ وَبُخْلًا وَحُبًّا لِلْمَالِ وَجَمْعًا، فَقَدْ كَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ يُوجِبَانِ الْحَجْرَ عَلَيْهِ بِالشُّحِّ وَالتَّقْصِيرِ كَمَا يُوجَبُهُ بِالسَّرَفِ وَالتَّبْذِيرِ.
لأن الله تعالى فقد نَهَى عَنْهُمَا فَقَالَ: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29]
وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْحَجْرَ يُفِيدُ جَمْعَ الْمَالِ وَإِمْسَاكَهُ لَا إِنْفَاقَهُ.
وَلَيْسَ كُلُّ مَنْهِيٍّ عَنْهُ يُوجِبُ الْحَجْرَ. فَمَنْ قَالَ بِإِيجَابِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ عُقُودِهِ وَلَا كَفَّهُ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ. وَلَكِنْ يُنْفَقُ عَلَيْهِ جَبْرًا بِالْمَعْرُوفِ مِنْ مَالِهِ إِلَّا أَنْ يُخَافَ عَلَيْهِ إِخْفَاءُ مَالِهِ لِعِظَمِ شُحِّهِ فَيُمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا حَجَرَ الْإِمَامُ عَلَيْهِ لِسَفَهِهِ وَإِفْسَادِهِ مَالَهُ أَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ حَجْرَ السَّفَهِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ بِخِلَافِ حَجْرِ الصِّغَرِ وَالْجُنُونِ لِأَنَّ ثُبُوتَ السَّفَهِ يَكُونُ بِاجْتِهَادٍ فَلَمْ يَثْبُتْ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ وَالصِّغَرُ وَالْجُنُونُ لَا اجْتِهَادَ فِيهِ وَهُوَ بِالنَّصِّ فَثَبَتَ بِغَيْرِ حُكْمٍ وَسَوَاءٌ كَانَ لِلسَّفِيهِ أَبٌ وَأُمٌّ فَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ مِنْ سَفَهِهِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْحَجْرَ عَلَيْهِ حَجَرَ عَلَيْهِ.
وَحَجْرُ السَّفَهِ أَعَمُّ مِنْ حَجْرِ الْفَلَسِ لِأَنَّ حَجْرَ الْفَلَسِ يَخْتَصُّ بِمَالِهِ دُونَ عُقُودِهِ الَّتِي لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَالِهِ وَحَجْرُ السَّفَهِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ عُقُودِهِ. فَيَقُولُ فِي السَّفَهِ قد حجزت عَلَى فُلَانٍ بِخِلَافِ الْفَلَسِ فِي الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ لِأَنَّ لَفْظَ الْحَجْرِ أَعَمُّ.
فَإِذَا حَجَرَ عَلَيْهِ قَوْلًا عَلَى مَا مَضَى أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ. وَهَلْ ذَلِكَ شَرْطٌ فِي ثُبُوتِ الحجر عليه أم لا على وجهين:
أحدهما: لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الْحَجْرَ حُكْمٌ وَثُبُوتُ الْحُكْمِ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْإِشْهَادِ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّ الْحَجْرَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْحَجْرِ إِظْهَارُ مَنْعِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ لِيَتَحَفَّظَ النَّاسُ مِنْ مُعَامَلَتِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُحَصَّلُ إِلَّا بِالْإِشْهَادِ.
فَعَلَى هَذَا لَا يَتِمُّ الْحَجْرُ قَبْلَ الْإِشْهَادِ. وَيَكُونُ جَائِزَ التَّصَرُّفِ فَإِذَا أَشْهَدَ فَقَدْ تَمَّ الْحَجْرُ. وَيُخْتَارُ لَهُ بَعْدَ الْإِشْهَادِ أَنْ يُنَادِيَ فِي النَّاسِ بِإِيقَاعِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ لِيَكُونَ أشهر لأمره.

(6/358)


فَإِنْ لَمْ يُنَادِ فِيهِمْ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ جَازَ وكان تصرفه بعد الإشهاد مردود أو سواء أَظْهَرَ الشَّاهِدَانِ ذَلِكَ أَوْ كَتَمَاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " فَمَنْ بَايَعَهُ بَعْدَ الْحَجْرِ فَهُوَ الْمُتْلِفُ لِمَالِهِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مُبَايَعَةُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ بَاطِلَةٌ. فَإِنْ كَانَ السَّفِيهُ هُوَ الْبَائِعُ انْتُزِعَ مَا بَاعَ مِنْ يَدِ مُشْتَرِيهِ لِفَسَادِ الْعَقْدِ فِيهِ فَإِنْ تَلِفَ الْمَبِيعُ فِي يده الْمُشْتَرِي كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ دُونَ الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَ السَّفِيهُ هُوَ الْمُشْتَرِي كَانَ لِبَائِعِهِ انْتِزَاعُ ذَلِكَ مِنْ يَدِ السَّفِيهِ إِنْ كَانَ بَاقِيًا. وَإِنْ كَانَ تَالِفًا فَلَا ضَمَانَ عَلَى السَّفِيهِ لَا فِي الْحَالِ وَلَا بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ. لِأَنَّ مَنْ عَامَلَهُ مَعَ ظُهُورِ حَالِهِ صَارَ هُوَ الْمُتْلِفُ لِمَالِهِ.
وَلَكِنْ هَلْ يَلْزَمُهُ غُرْمُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ فُتْيَا لَا حُكْمًا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّ اخْتِيَارَ الْمَالِكِ لِمُعَامَلَتِهِ رِضًا مِنْهُ بِاسْتِهْلَاكِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُ غُرْمُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ اسْتِهْلَاكَ مَالٍ عَلَى طَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ.
وَلَكِنْ لَوْ ضَمِنَ مَالًا بَطَلَ ضَمَانُهُ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْغُرْمُ حُكْمًا وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَجْهًا وَاحِدًا. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الضَّمَانِ اسْتِهْلَاكٌ وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ الْتِزَامٍ إِذَا بَطَلَ سَقَطَ حُكْمُهُ.

(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا عَقْدُ الْخُلْعِ فَيَصِحُّ مِنَ السَّفِيهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ. لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ مِنْهُ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَأَحْرَى أَنْ يَصِحَّ مِنْهُ بِعِوَضٍ وَيَكُونُ ذَلِكَ اسْتِفَادَةُ مَالٍ مَحْضٍ كَمَا يَصِحُّ مِنْهُ قَبُولُ الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ اسْتِفَادَةُ مَالٍ مَحْضٍ. وَلَا يَجُوزُ لَهُ بَعْدَ خَلْعِهِ أَنْ تُسَلِّمَ الزَّوْجَةُ مَالَ الْخَلْعِ إِلَيْهِ وَتُسَلِّمُهُ إِلَى وَلِيِّهِ لِأَنَّهُ بِالْحَجْرِ قَدْ سَقَطَ حَقُّهُ مِنْ قَبْضِ مَالِهِ.
فَإِنْ قَبَضَهُ السَّفِيهُ فَبَادَرَ الْوَلِيُّ إِلَى أَخْذِهِ مِنْهُ سَقَطَ عَنِ الزَّوْجَةِ.
وَإِنْ أَتْلَفَهُ السَّفِيهُ كَانَ الْحَقُّ بَاقِيًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجَةِ وَعَلَيْهَا دَفْعُهُ ثَانِيَةً إِلَى الْوَلِيِّ وَلَا رُجُوعَ لَهَا عَلَى السَّفِيهِ بِمَا دَفَعَتْ إِلَيْهِ إِذَا اسْتَهْلَكَهُ. وَهَكَذَا إِذَا قَبِلَ السَّفِيهُ الْهِبَةَ وَالْوَصِيَّةَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَلِّمَهَا إِلَيْهِ فَإِنْ سَلَّمَ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَاسْتَهْلَكَهُ وَجَبَ عَلَى مَنْ أَقْبَضَهُ ذَلِكَ غُرْمُ الْوَصِيَّةِ دُونَ الْهِبَةِ لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ الْوَصِيَّةَ بِقَبُولِهِ فَيُلْزَمُ غُرْمَهَا لَهُ وَلَمْ يَمْلِكِ الْهِبَةَ بِقَبُولِهِ فَلَمْ يَجِبْ غُرْمُهُ.
(فَصْلٌ)
فَأَمَّا عَقْدُ الْإِجَارَةِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ مُسْتَأْجِرًا كَانَ أَوْ مُؤَجِّرًا لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ كَالْبَيْعِ.

(6/359)


فَإِنْ أَجَّرَ نَفْسَهُ فَإِنْ كَانَ فِيمَا هُوَ مَقْصُودٌ مِنْ عَمَلِهِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ صَانِعًا وَعَمَلُهُ مَقْصُودٌ فِي كَسْبِهِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ مِنْهُ وَتَوَلَّى الْوَلِيُّ الْعَقْدَ عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْصُودٍ مِثْلَ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ فِي حَجٍّ أَوْ وَكَالَةٍ فِي عَمَلٍ وَلَيْسَ عَمَلُهُ مَقْصُودًا فِي كَسْبِهِ لِاسْتِغْنَائِهِ بِمَالِهِ صَحَّتِ الْإِجَارَةُ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَتَطَوَّعَ عَنْ غَيْرِهِ بهذا العمل فأولى أن يجوز منه بعضو.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا هِبَتُهُ وَعِتْقُهُ وَكِتَابَتُهُ فَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ لَا يَصِحُّ مِنْهُ وَلَكِنْ يَصِحُّ مِنْهُ التَّدْبِيرُ وَالْوَصِيَّةُ. لِأَنَّ تَأْثِيرَ ذَلِكَ بَعْدَ زَوَالِ الْحَجْرِ بِالْمَوْتِ.
فَلَوْ مَرِضَ السَّفِيهُ وَأَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ ثُمَّ مَاتَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ حَجْرُ السَّفَهِ أَوْ حَجْرُ الْمَرَضِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَغْلِبُ حَجْرُ السَّفَهِ لِأَنَّهُ أَسْبَقُ وَلِأَنَّ حُدُوثَ مَا يُوجِبُ الْحَجْرَ لَا يَرْفَعُ حُكْمَ الْحَجْرِ الْمُتَقَدِّمِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عِتْقُهُ بَاطِلًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ حَجْرَ الْمَرَضِ أَغْلَبُ لِأَنَّهَا حَالٌ تَسْتَحِقُّ حِفْظَ الْمَالِ فِيهَا لِلْوَارِثِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عِتْقُهُ مَاضِيًا فِي ثُلُثِهِ كَالْمَرِيضِ.
(فَصْلٌ)
فَأَمَّا مُدَايَنَاتُهُ فَتَنْقَسِمُ ثلاثة أقسام:
[الأول] : قِسْمٌ يَسْتَقِرُّ وُجُوبُهُ بِاخْتِيَارِ أَرْبَابِهِ كَالْقَرْضِ وَمُهُورِ الزَّوْجَاتِ وَأَثْمَانِ الْمَبِيعَاتِ فَهَذَا لَا يَضْمَنُهُ وَغُرْمُهُ لا يلزمه.
[الثاني] وَقِسْمٌ يَسْتَقِرُّ وُجُوبُهُ بِلَا اخْتِيَارِ أَرْبَابِهِ كَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَقِيَمِ الْمَتْلَفَاتِ فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ.
وَيَلْزَمُهُ غُرْمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَزِمَ ذَلِكَ الصَّبِيَّ والمجنون، فأولى أن يجب على السفيه.
[الثالث] : قِسْمٌ يَكُونُ السَّبَبُ فِيهِ بِاخْتِيَارِهِمْ وَحُصُولُ الْوُجُوبِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ كَالْوَدِيعَةِ إِذَا تَلِفَتْ وَالْعَارِيَةِ إِذَا اسْتُهْلِكَتْ فَلَا يَخْلُو تَلَفُ ذَلِكَ وَهَلَاكُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِفِعْلِ السَّفِيهِ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ. فَإِنْ كَانَ تَلَفُهُ بِغَيْرِ فِعْلِهِ كَانَ ضَمَانُهُ هَدْرًا وَهُوَ تَالِفٌ مِنْ مَالِ مَالِكِهِ، لِأَنَّهُ بِتَسْلِيمِهِ قَدْ عَرَّضَهُ لِهَلَاكِهِ.
وَإِنْ كَانَ تَلَفُهُ بِفِعْلِهِ بِأَنْ أَتْلَفَ الْوَدِيعَةَ الَّتِي أُودِعَهَا أَوِ اسْتَهْلَكَ الْعَارِيَةَ الَّتِي اسْتَعَارَهَا فَفِي وُجُوبِ غُرْمِ ذَلِكَ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: غُرْمُهُ عَلَى السَّفِيهِ وَاجِبٌ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْإِتْلَافِ لِأَنَّهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا غُرْمَ عَلَيْهِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ التَّسْلِيمِ لِأَنَّهُ كَانَ بِاخْتِيَارِهِ.

(6/360)


(فَصْلٌ)
فَأَمَّا إِقْرَارُهُ فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَلْزَمُ. وَقِسْمٌ لَا يَلْزَمُ. وَقِسْمٌ مُخْتَلَفٍ فِي لُزُومِهِ. فَأَمَّا مَا يَلْزَمُ إِقْرَارُهُ فِيهِ فَهُوَ مَا تَعَلَّقَ بِبَدَنِهِ كَإِقْرَارِهِ بِمَا يُوجِبُ حَدًّا أَوْ قَوْدًا فَيسْتَوْفي ذَلِكَ مِنْهُ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْهُ وَلِتَعَلُّقِهِ بِمَا لَمْ يَقَعِ الْحَجْرُ عَلَيْهِ. فَلَوْ عَفَا مَنْ أَقَرَّ لَهُ بِالْقَوْدِ إِلَى الْمَالِ ثَبَتَ لَهُ الْمَالُ لِأَنَّهُ فَرْعٌ لِقَوْدٍ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ. وَهَكَذَا لَوْ أَقَرَّ بِابْنٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِإِقْرَارِهِ فَلَوْ أَقَرَّ بِابْنِ أَمَةٍ ثَبَتَ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهِ وَصَارَ حُرًّا.
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إِقْرَارُهُ بِهِ بَاطِلٌ لَا يُثْبِتُ نَسَبًا وَلَا يُوجِبُ عِتْقًا.
وَقَالَ محمد بن الحسن: يَثْبُتُ نَسَبُهُ وَيَصِيرُ حُرًّا يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ. وَمَا قُلْنَاهُ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَوْ أَوْلَدَ أَمَتَهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَصَارَ حُرًّا فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ بِهِ مُقِرًّا. وَأَمَّا مَا لَا يَلْزَمُ بِإِقْرَارِهِ فَهُوَ مَا تَعَلَّقَ بِالْمَالِ لِحُصُولِ التُّهْمَةِ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ عَنْ مُعَامَلَةٍ أَوْ إِتْلَافٍ، لَكِنْ إِنْ كَانَ عَنْ إِتْلَافٍ لَزِمَ بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ مُعَامَلَةٍ لَمْ يَلْزَمْ وَإِنْ قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ، فَلَوْ فُكَّ حَجْرُهُ لَمْ يَلْزَمْهُ فِي الْحُكْمِ مَا كَانَ أَقَرَّ بِهِ. وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ مَا أَقَرَّ بِهِ قَدْ لَزِمَهُ قَبْلَ حَجْرِهِ بِقَرْضٍ كَانَ اقْتَرَضَهُ أَوْ بَيْعٍ كَانَ ابْتَاعَهُ لَزِمَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَدَاءُ ذَلِكَ بَعْدَ فَكِّ حَجْرِهِ. وَإِنْ كَانَ لُزُومُ ذَلِكَ فِي حَالِ الْحَجْرِ فَفِي لُزُومِ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى. وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي لُزُومِ إِقْرَارِهِ بِهِ فَشَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: جِنَايَاتُ الْخَطَأِ عَلَى النُّفُوسِ فَفِي لُزُومِهَا بِإِقْرَارِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُ لِتَعَلُّقِهَا بِالْمَالِ كَإِقْرَارِهِ بِاسْتِهْلَاكِ الْأَمْوَالِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا تَلْزَمُ بِإِقْرَارِهِ لِتَغْلِيظِ النُّفُوسِ وَإِنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ عَمْدُهَا بِإِقْرَارِهِ ثَبَتَ خَطَؤُهَا بِإِقْرَارِهِ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ السَّرِقَةُ يُقِرُّ بِهَا فَفِي لُزُومِهَا وَوُجُوبِ غُرْمِهَا بِإِقْرَارِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَلْزَمُ وَيَجِبُ غُرْمُهَا لِأَنَّهَا تُوجِبُ الْقَطْعَ الَّذِي يَنْفِي التُّهْمَةَ عَنْهُ فِي إِقْرَارِهِ بِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا تَلْزَمُهُ لِأَنَّ أَصْلَ إِقْرَارِهِ إِنَّمَا هُوَ بِمَالٍ لَا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ. فَعَلَى هَذَا فِي وُجُوبِ قَطْعِهِ وَجْهَانِ:
فَأَمَّا إِقْرَارُ وَلَيِّهِ عَنْهُ فَلَا يَصِحُّ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَبْدَانِ وَلَا فِيمَا وَجَبَ فِي الْمَالِ عَنْ جِنَايَةٍ وَإِتْلَافٍ وَلَا فِيمَا تَوَلَّاهُ السَّفِيهُ مِنْ عُقُودِهِ.
وَيَصِحُّ فِيمَا تَوَلَّاهُ الْوَلِيُّ مِنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي مَالِهِ فَيُقِرُّ بِالْبَيْعِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ وَبِالِابْتِيَاعِ وَقَبْضِ الْمَبِيعِ وَبِصِفَاتِ الْعَقْدِ مِنْ حُلُولٍ أَوْ تَأْجِيلٍ وَثُبُوتِ خِيَارٍ وَانْبِرَامِ عَقْدٍ عَنْ تَرَاضٍ وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ تَأْوِيلُ قَوْله تَعَالَى: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] .

(6/361)


(فَصْلٌ)
فَأَمَّا عِبَادَاتُهُ فَتَصِحُّ مِنْهُ بِدُخُولِهِ فِيهَا فَرْضًا كَانَتْ أَوْ تَطَوُّعًا فَلَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ فَإِنْ كَانَ الْحَجُّ تَطَوُّعًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطي نَفَقَةَ الْحَجِّ مِنْ مَالِهِ. وَإِنْ كَانَ فَرْضًا وَجَبَ عَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ نَفَقَةَ حَجِّهِ.
فَلَوْ أَفْسَدَهُ بِوَطْءٍ مَكَّنَهُ مِنْ نَفَقَةِ الْمُضِيِّ فِيهِ حتى ينهيه فأما نفقة لقضاء فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُعْطِيهِ لِوُجُوبِهِ وَهُوَ قَوْلُ محمد بن الحسن.
وَالثَّانِي: لَا يُعْطِيهِ لِتَعَلُّقِهِ بِإِفْسَادِهِ وَأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مِنْهُ فِي الثَّانِي مِثْلُ مَا كَانَ مِنْهُ فِي الْأَوَّلِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ. فَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ فِي زَمَانِ حَجْرِهِ كَفَّارَةٌ فَإِنْ كَانَتْ كَفَّارَةَ تَخْيِيرٍ بَيْنَ الصَّوْمِ وَغَيْرِهِ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْمَالِ.
وَإِنْ كَانَتْ كَفَّارَةَ تَرْتِيبٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْقَلَ إِلَى الصَّوْمِ إِلَّا بِالْإِعْسَارِ فَهَلْ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْيَسَارِ أَوِ الْإِعْسَارِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْيَسَارِ لِوُجُودِ مِلْكِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصَّوْمِ وَيُكَفِّرُ بِالْمَالِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِعْسَارِ لِأَنَّهُ بِالْحَجْرِ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْمُعْسِرِ فَيُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ.
فَعَلَى هَذَا لَوْ لَمْ يُكَفِّرْ بِالصَّوْمِ حَتَّى فُكَّ حَجْرُهُ. فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْمُرَاعَى بِالْكَفَّارَةِ حَالُ الْأَدَاءِ لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ. وَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْمُرَاعَى بِالْكَفَّارَةِ حَالُ الْوُجُوبِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجْزِيهِ الصَّوْمُ اعْتِبَارًا بِحَالِهِ عِنْدَ الْوُجُوبِ.
وَالثَّانِي: لَا يَجْزِيهِ إِلَّا الْمَالُ لِأَنَّهُ كَانَ مُوسِرًا وَإِنَّمَا ثُبُوتُ الْحَجْرِ عليه كان مانعا.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَتَى أُطْلِقَ عَنْهُ الْحَجْرُ ثُمَّ عَادَ إِلَى حَالِ الْحَجْرِ حُجِرَ عَلَيْهِ وَمَتَى رَجَعَ بَعْدَ الْحَجْرِ إِلَى حَالِ الْإِطْلَاقِ أُطْلِقَ عَنْهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا حَجَرَ الْحَاكِمُ عَلَى رَجُلٍ بِالسَّفَهِ ثُمَّ ظَهَرَ رُشْدُهُ وَجَبَ على الحاكم أن يفك حجره وفي هذا الرُّشْدِ الَّذِي يُوجِبُ فَكَّ حَجْرِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ وَالْإِصْلَاحُ فِي الْمَالِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ.
فَإِنْ وُجِدَ مِنْهُ الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُوجَدِ الصَّلَاحُ فِي الْمَالِ. أَوْ وُجِدَ مِنْهُ الْإِصْلَاحُ فِي الْمَالِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِصْلَاحُ فِي الدِّينِ وَجَبَ اسْتِدَامَةُ الْحَجْرِ عَلَيْهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ الْإِصْلَاحُ فِي الْمَالِ وَحْدَهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إسحاق المروزي.

(6/362)


فَإِذَا ظَهَرَ رُشْدُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ لَمْ يَنْفَكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ إِلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ.
لِأَنَّ مَا يُوجِبُ زَوَالَ الْحَجْرِ يَفْتَقِرُ إلى اجتهاد بخلاف الجنون لذي الْإِفَاقَةُ مِنْهُ ظَاهِرَةٌ وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى اجْتِهَادٍ.
وَيَرْتَفِعُ الْحَجْرُ بِوُجُودِ الْإِفَاقَةِ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ. وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْوِلَايَةُ عَلَى السَّفِيهِ مَرْدُودَةً إِلَى أَبِيهِ أَوْ غَيْرِهِ. بِخِلَافِ الصَّغِيرِ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ فَلَمْ يَرْتَفِعْ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ، وَابْتِدَاءُ الْحَجْرِ عَلَى الصَّغِيرِ يَثْبُتُ بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ فَجَازَ أَنْ يَرْتَفِعَ مَعَ الْأَبِ بِغَيْرِ حُكْمٍ، فَإِذَا فَكَّ الْحَاكِمُ الْحَجْرَ عَنْهُ بِعَوْدَةٍ إِلَى حَالِ الرُّشْدِ جَازَ تَصَرُّفُهُ فَلَوْ عَادَ إِلَى حَالِ التَّبْذِيرِ وَالسَّفَهِ وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُعِيدَ الْحَجْرَ عَلَيْهِ.
فَإِنْ عَادَ إِلَى حَالِ الرُّشْدِ رَفَعَ الْحَجْرَ عَنْهُ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحُكْمُ كُلَّمَا عَادَ إِلَى السَّفَهِ حُجِرَ عَلَيْهِ وَإِنْ عَادَ إِلَى الرُّشْدِ فُكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ لِأَنَّ كُلَّ عِلَّةٍ أَوْجَبَتْ حُكْمًا اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ زَوَالُ تِلْكَ الْعِلَّةِ مُوجِبًا لِزَوَالِ ذَلِكَ الحكم.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ أَجَزْتَ إِطْلَاقَهُ عَنْهُ وَهُوَ إِتْلَافُ مَالٍ؟ قِيلَ لَيْسَ بِإِتْلَاف مَالٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمُوتُ فَلَا تُورثُ عَنْهُ امْرَأَتُهُ وَلَا تَحِلُّ لَهُ فِيهَا هِبَةٌ وَلَا بَيْعَةٌ وَيُورَثُ وَيُبَاعُ عَلَيْهِ وَيُمْلَكُ ثَمَنُهُ فَالْعَبْدُ مَالٌ بِكُلِّ حَالٍ وَالْمَرْأَةُ لَيْسَتْ بِمَالٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ يُؤْذَنُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَالنِّكَاحِ فَيَكُونَ لَهُ الطَّلَاقُ وَالْإِمْسَاكُ دُونَ سَيِّدِهِ وَلِمَالِكِهِ أَخْذُ مَالِهِ كُلِّهِ دُونَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. طَلَاقُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ وَاقِعٌ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وأبو يوسف طَلَاقُهُ لَا يَقَعُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ إِتْلَافُ مَالٍ كَالْعِتْقِ لِأَنَّ الْبُضْعَ يُمْلَكُ بِالْمَالِ وَيَزُولُ عَنْهُ الْمِلْكُ بِالْمَالِ فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ عِتْقُهُ وَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ طَلَاقُهُ، وَلِأَنَّ شَاهِدَيْنِ لَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَمَضَى الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمَا فَرَجَعَ الشَّاهِدَانِ لَزِمَهُمَا مَهْرُ الْمِثْلِ.
فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِتْلَافَ مَالٍ مَا لَزِمَهُمَا غُرْمُ الْمَالِ. وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ ".

(6/363)


وَلِأَنَّ السَّفِيهَ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْعَبْدِ لِحُرِّيَّتِهِ وَثُبُوتِ مِلْكِهِ فَلَمَّا صَحَّ طَلَاقُ الْعَبْدِ فَأَوْلَى أَنْ يَصِحَّ طَلَاقُ السَّفِيهِ.
وَلِأَنَّهُ يَسْتَفِيدُ بِطَلَاقِهِ سُقُوطَ النَّفَقَةِ إِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ وَنِصْفَ الْمَهْرِ إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ هَذِهِ الْفَائِدَةِ وَيُجْبَرَ عَلَى التزام النفقة.
وَقَوْلُهُمْ إِنَّهُ مَالٌ كَالْعَبْدِ غَلَطٌ لِأَنَّ الْعَبْدَ يصح بيعه ورهنه ويورث عنه ولا يصح ذلك في الزوجة.
وَغُرْمُ الشَّاهِدَيْنِ الْمَهْرَ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ مَا أَوْقَعَا مِنَ الْحَيْلُولَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَتَفْوِيتِ الِاسْتِمْتَاعِ عليهما وإن لم يتلقا بِشَهَادَتِهِمَا مَالًا.
كَمَا لَوْ شَهِدَا بِمَا أَوْجَبَ الْقَوْدَ لَزِمَتْهُمَا الدِّيَةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْحَقُّ مالا. والله أعلم بالصواب.

(6/364)