الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

 (كتاب العدد) (عدة المدخول بها) (من الجامع من كتاب العدد ومن كتاب الرجعة والرسالة)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْعِدَّةُ بِالْكَسْرِ مَصْدَرُ الْإِحْصَاءِ لِلْعَدَدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) [الطلاق: 4] وَالْعُدَّةُ: بِالضَّمِّ الشَّيْءُ الْمُسْتَعَدُّ لِشَيْءٍ قَالَ اللَّهُ تعالى: {أعدوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة: 46] وَالْعَدُّ بِالْفَتْحِ الْجُمْلَةُ الْمَعْدُودَةُ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِنْ شَاءَ مَوَالِيكَ عَدَدْتُ لَهُمْ ثَمَنَكَ عَدَّةً وَاحِدَةً.
وَعِدَّةُ النِّسَاءِ تَرَبُّصُهُنَّ عَنِ الْأَزْوَاجِ بَعْدَ فُرْقَةِ أَزْوَاجِهِنَّ.
وَرَوَى أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلْ مِنَ الْعِدَدِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَوْلُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فَارْتَابَ نَاسٌ بِالْمَدِينَةِ فِي عِدَّةِ الصِّغَارِ وَالْمُؤْيِسَاتِ وَذَوَاتِ الْحَمْلِ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأخبرته بذلك فأنزل الله تعالى: {واللاتي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فعدتهن ثلاثة أشهر واللاتي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] فَزَالَتِ الِاسْتِرَابَةُ عَنْهُمْ وَعَلِمُوا كُلَّ الْعِدَدِ، وَنَزَلَتْ عِدَّةُ الْوَفَاةِ مُخَالِفَةً لِعِدَّةِ الطَّلَاقِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) [البقرة: 234] فَصَارَتِ الْعِدَدُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ وُضِعَتْ تَعَبُّدًا واستبراء:
أحدها: وهو أقواهما الْحَمْلُ وَالِاسْتِبْرَاءُ فِيهِ أَقْوَى مِنَ التَّعَبُّدِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَوْسَطُهَا: الْأَقْرَاءُ وَيُسْتَوْفَى فِيهِ التَّعَبُّدُ وَالِاسْتِبْرَاءُ.
والثالث: وهو اضعفهما الشُّهُورُ فَإِنْ كَانَتْ بِمَدْخُولٍ بِهَا مِمَّنْ يَجُوزُ حَبَلُهَا كَانَتْ تَعَبُّدًا وَاسْتِبْرَاءً وَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا مِنْ وَفَاةٍ كَانَتْ تَعَبُّدًا محضاً.

(مسألة)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} قَالَ وَالْأَقْرَاءُ عِنْدَهُ الْأَطْهَارُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِدَلَالَتَيْنِ أَُولَاهُمَا: الْكِتَابُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَالْأُخْرَى اللسان (قال) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لعدتهن} وقال عليه الصلاة والسلام في غير حديث لما طلق ابن عمر امرأته وهي حائض " يرتجعها فإذا طهرت فليطق أو ليمسك " وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إذا طلقتم النساء فطلقوهن لقبل عدتهن أو في قبل عدتهن " الشافعي شك فأخبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن الله تعالى أن العدة الأطهار

(11/163)


دون الحيض وقرأ " فطلقوهن لقبل عدتهن " وهو أن يطلقها طاهراً لأنها حينئذ تستقبل عدتها، ولو طلقت حائضاً لم تكن مستقبلة عدتها إلا من بعد الحيض والقرء اسم وضع لمعنى فلما كان الحيض دماً يرخيه الرحم فيخرج والطهر دماً يحتبس فلا يخرج كان معروفاً من لسان العرب أن القرء الحبس تقول العرب هو يقري الماء في حوضه وفي سقائه وتقول هو يقري الطعام في شدقه وقالت عائشة رضي الله عنها " هل تدرون ما الأقراء الأقراء الأطهار " وقالت " إذا طعنت المطلقة في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه والنساء بهذا أعلم " وقال زيد بن ثابت وابن عمر إذا دخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها ولا ترثه ولا يرثها (قال الشافعي) والاقراء والأطهار والله أعلم ولا يمكن أن يطلقها طاهراً إلا وقد مضى بعض الطهر وقال الله تعالى {الحج أشهر معلومات) وكان شوال وذو القعدة كاملين وبعض ذي الحجة كذلك الأقراء طهران كاملان وبعض طهر.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِيمَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْقُرْءِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: يَنْطَلِقُ عَلَى الْحَيْضِ حَقِيقَةً، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الطُّهْرِ مَجَازًا؛ لِأَنَّهُ لَا تُسَمَّى الْمَرْأَةُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ إِلَّا إِذَا حَاضَتْ وَاسْتِشْهَادًا بِقَوْلِ الرَّاجِزِ:
(يَا رُبَّ ذِي ضِغْنٍ عَلَيَّ فَارِضِ ... لَهُ قُرُوءٌ كَقُرُوءِ الْحَائِضِ)

يَعْنِي أَنَّ نُفُوذَ حِقْدِهِ كَنُفُوذِ دَمِ الْحَيْضِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ اسْمٌ يَنْطَلِقُ عَلَى الطُّهْرِ حَقِيقَةً، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْحَيْضِ مَجَازًا لِمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّ الْقُرْءَ الْجَشْمُ وَاسْتِشْهَادًا بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
(أَفِي كُلِّ عَامٍ أَنْتَ جَاشِمُ غَزْوَةٍ ... تَشُدُّ لِأَقْصَاهَا غَرِيمَ عَزَائِكَا)

(مُوَرَّثَةٍ مَالَا وَفِي الْحَيِّ رَفْعَةٌ ... لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا)

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ أَنَّهُ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يَنْطَلِقُ عَلَى الطُّهْرِ حَقِيقَةً وَعَلَى الْحَيْضِ حَقِيقَةً كَالْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ الَّتِي تَقَعُ عَلَى مُتَضَادَّيْنِ مُتَعَاقِبَيْنِ كَالصَّرِيمِ: اسْمُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالنَّاهِلِ: اسْمٌ لِلْعَطْشَانِ وَالرَّيَّانِ، وَالْمَسْحُورِ: اسْمٌ لِلْفَارِغِ وَالْمَلْآنِ، وَالْحُورِ اسْمٌ لِجَمِيعِ الْأَلْوَانِ، وَالشَّفَقِ اسْمٌ لِلْحُمْرَةِ، وَالْبَيَاضِ، وَالدُّلُوكِ: اسْمٌ لِلزَّوَالِ والغروب.

(11/164)


والقول الرابع: إن اسْمٌ يَنْطَلِقُ عَلَى الِانْتِقَالِ مِنْ مُعْتَادٍ إِلَى مُعْتَادٍ فَيَتَنَاوَلُ الِانْتِقَالَ مِنَ الْحَيْضِ إِلَى الطُّهْرِ، وَالِانْتِقَالَ مِنَ الطُّهْرِ إِلَى الْحَيْضِ، كَمَا يُقَالُ: أَقْرَأَ النَّجْمُ إِذَا طَلَعَ وَأَقْرَأَ إِذَا غَابَ قَالَ الشَّاعِرُ:
(إِذَا مَا الثُّرَيَّا وَقَدْ أَقْرَأَتْ ... أَحَسَّ السِّمَا كَانَ مِنْهَا أُفُولَا)

وَيُقَالُ قَرَأَتْ إِذَا انْتَقَلَتْ مِنْ شَمَالٍ إِلَى جَنُوبٍ أَوْ مِنْ جَنُوبٍ إِلَى شَمَالٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
(كَرِهْتُ الْعَقْرَ عَقْرَ بَنِي شَلِيلِ ... إِذَا هَبَّتْ لِقَارِئِهَا الرِّيَاحُ)

وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَقْرَاءَ الْعِدَّةِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْحَيْضِ أَوِ الطُّهْرِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْمُرَادُ بِالْأَقْرَاءِ الْحَيْضُ دُونَ الطُّهْرِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَحَكَاهُ الشَّعْبِيُّ عَنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمِنَ التَّابِعَيْنِ: الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالشَّعْبِيُّ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: الْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَهْلُ الْعِرَاقَيْنِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: الْأَقْرَاءُ الْأَطْهَارُ: وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ؛ الزَّهْرِيُّ وَابْنُ أَبِي ذُؤَيْبٍ، وَمَالِكٌ وَرَبِيعَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَحَكَى الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنُ عُمَرَ وَابْنُ حَزْمٍ: أَنَّهُ قَالَ: مَا أَجِدُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي الْأَقْرَاءِ خِلَافًا لِمَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: أَنَا أَعْلَمُ فِيهَا بِقَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، ثُمَّ قَالَ: أَنَا لَا أُحْسِنُ أَنْ أُفْتِيَ فِيهَا بِشَيْءٍ فَتَوَقَّفَ.
وَتَأْثِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي حُكْمِ الْمُعْتَدَّةِ أَنَّ مَنْ جَعَلَ الْأَقْرَاءَ الْأَطْهَارَ قَالَ: إِنْ طُلِّقَتْ فِي طُهْرٍ كَانَ الْبَاقِي مِنْهُ، وَإِنْ قَلَّ قُرْءًا فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتِ الطُّهْرَ الثَّانِيَ كَانَ قُرْءًا ثَانِيًا فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتِ الطُّهْرَ الثَّالِثَ حَتَّى بَرَزَ دَمُ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ كَانَ قُرْءًا ثَالِثًا، وَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا.
وَإِنْ طُلِّقَتْ فِي الْحَيْضِ فَإِذَا بَرَزَ دَمُ الْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا.
وَمَنْ قَالَ الْأَقْرَاءُ الْحَيْضُ قَالَ إِنْ طُلِّقَتْ فِي طُهْرٍ أَوْ حَيْضٍ لَمْ تُعَدَّ بِمَا طُلِّقَتْ فِيهِ

(11/165)


مِنَ الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِدُخُولِهَا فِي الطُّهْرِ الرَّابِعِ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ جَعَلَ الْأَقْرَاءَ الْحَيْضَ بِقَوْلِ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فَاقْتَضَتِ الْآيَةُ اسْتِيفَاءَ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ، وَمَنْ جَعَلَهَا الْأَطْهَارَ، لَمْ يَسْتَوْفِهَا إِذَا طُلِّقَتْ فِي طُهْرٍ وَجَعَلَ عِدَّتَهَا مُنْقَضِيَةً بِقُرْأَيْنِ وَبَعْضِ ثَالِثٍ، وَمَنْ جَعَلَ الْحَيْضَ اسْتَوْفَاهَا كَامِلَةً فَصَارَ بِالْأَطْهَارِ أَخَصَّ لِأَنَّهُ لَمَّا تَنْقَضِ الْأَقْرَاءُ الثَّلَاثَةُ كَمَا لَمْ تَنْقَضِ الشُّهُورُ الثَّلَاثَةُ.
ثُمَّ قَالَ عُقَيْبَهُ: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] يَعْنِي مَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ مِنْ حَمْلٍ وَحَيْضٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَقْرَاءَ الْمُعْتَدَّ بِهَا هِيَ الْحَيْضُ وقَوْله تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وَلَمْ يَقُلْ فِي عِدَّتِهِنَّ، وَالطَّلَاقُ لَهَا غَيْرُ الطَّلَاقِ فِيهَا، وَمَنْ جَعَلَ الْأَقْرَاءَ الْأَطْهَارَ قَدْ جَعَلَ الطَّلَاقَ فِي الْعِدَّةِ إِذَا طُلِّقَتْ فِي طُهْرٍ، وَمَنْ جَعَلَهَا الْحَيْضَ اسْتَقْبَلَ بِهَا الْعِدَّةَ فَكَانَ بِالظَّاهِرِ أَحَقَّ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] فَنَقَلَهَا عَمَّا يَئِسَتْ مِنْهُ إِلَى بَدَلِهِ، وَالْبَدَلُ غَيْرُ الْمُبْدَلِ فَلَمَّا كَانَ الْإِيَاسُ مِنَ الْحَيْضِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَقْرَاءَ هِيَ الْحِيَضُ، وَاسْتَدَلُّوا مِنَ السُّنَّةِ بِرِوَايَةِ مُظَاهِرِ بْنِ أَسْلَمَ عن الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " طَلَاقُ الْأَمَةِ طَلْقَتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ " وَهَذَا نَصٌّ فِي الِاعْتِدَادِ بِالْحَيْضِ دُونَ الطُّهْرِ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: " اقْعُدِي عَنِ الصَّلَاةِ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ " يَعْنِي: أَيَّامَ حَيْضَتِكِ فَكَانَ ذَلِكَ أَيْضًا قَضَاءً عَلَى الْحَيْضِ فِي الْأَقْرَاءِ، وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الِاعْتِبَارِ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ يَكُونُ بِالْحَيْضِ؛ لِأَنَّ مَنْ يَجْعَلُهَا الْأَطْهَارَ جَعَلَ عِدَّتَهَا مُتَقَضِّيَةً بِدُخُولِهَا فِي الْحَيْضِ، وَمَنْ جَعَلَهَا الْحَيْضَ جَعَلَ عِدَّتَهَا مُتَقَضِّيَةً بِخُرُوجِهَا مِنَ الْحَيْضِ، فَقَاسُوا الطَّرَفَ الْأَوَّلَ عَلَى الطَّرَفِ الثَّانِي فَقَالُوا: أَحَدُ طَرَفَيِ الْعِدَّةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَيْضُهَا الثَّانِي.
قَالُوا: وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ إِذَا انْقَضَتْ بِخُرُوجِ كَامِلِ وَقْتِ انْقِضَائِهَا عَلَى انْفِصَالِ جَمِيعِهَا كَالْحَمْلِ لَا يَنْقَضِي بِخُرُوجِ بعضه كذلك بالحيض الأخير لا ينقضي الْعِدَّةُ بِخُرُوجِ بَعْضِهِ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ.
قَالُوا: وَلِأَنَّ مَقْصُودَ الْعِدَّةِ يُرَادُ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ عَنِ الْحَمْلِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْحَيْضِ دُونَ الطُّهْرِ فَكَانَ اعْتِبَارُ الْأَقْرَاءِ بِمَا يُرَى أَوْلَى مِنَ اعْتِبَارِهَا بِمَا لَا يُرَى وَلِأَنَّ مَوْضُوعَ الْعِدَّةِ الِاسْتِبْرَاءُ فِي الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ اسْتِبْرَاءَ الْأَمَةِ بِالْحَيْضِ دُونَ الطُّهْرِ، فَكَذَلِكَ الْحُرَّةُ؛ لِأَنَّ الِاعْتِدَادَ بِالْأَقْرَاءِ عِنْدَ فَقْدِ الْحَمْلِ فَكَانَتْ بَدَلًا مِنْهُ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الِاعْتِدَادَ

(11/166)


لِلْحَامِلِ بِخُرُوجِ مَا فِي الْبَطْنِ فَاعْتِدَادُ ذَاتِ الْأَقْرَاءِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِخُرُوجِ مَا فِي الْبَطْنِ وَهُوَ الْحَيْضُ دُونَ الطُّهْرِ.

(فَصْلٌ)
وَدَلِيلُنَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ.
فَأَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وَمِنْهُ دَلِيلَانِ.
أَحَدُهُمَا: مَا أَوْجَبَهُ مِنَ التَّرَبُّصِ بِالْأَقْرَاءِ عَقِيبَ الطَّلَاقِ الْمُبَاحِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ فِي الطُّهْرِ فَاقْتَضَى أَنْ تَصِيرَ مُعْتَدَّةً بِالطُّهْرِ لِيَتَّصِلَ اعْتِدَادُهَا بِمُبَاحِ طَلَاقِهَا وَمَنِ اعْتَدَّ بِالْحَيْضِ لَمْ يَصِلِ الْعِدَّةَ بِالطَّلَاقِ سَوَاءً كَانَ مُبَاحًا فِي طُهْرٍ أَوْ مَحْظُورًا فِي حَيْضٍ فَكَانَ قَوْلُنَا بِالظَّاهِرِ أَحَقَّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {ثَلاثَةَ قروء} فَأَثْبَتَ التَّاءَ فِي الْعَدَدِ وَإِثْبَاتُهَا يَكُونُ فِي مَعْدُودٍ مُذَكَّرٍ، فَإِنْ أُرِيدَ مُؤَنَّثًا حُذِفَتْ كَمَا يُقَالُ: ثَلَاثَةُ رِجَالٍ، وَثَلَاثُ نِسْوَةٍ وَالطُّهْرُ مُذَكَّرٌ وَالْحَيْضُ مُؤَنَّثٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَمْعُ الْمُذَكَّرِ مُتَنَاوِلًا لِلطُّهْرِ الْمُذَكَّرِ دُونَ الْحَيْضِ الْمُؤَنَّثِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وَمِنْهُ دَلِيلَانِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ قوله {لعدتهن) أَيْ لِوَقْتِ عِدَّتِهِنَّ ثُمَّ كَانَ هَذَا الطَّلَاقُ مَأْمُورًا بِهِ فِي الطُّهْرِ فَوَجَبَ أَنْ يُكُونَ الطُّهْرُ هُوَ الْعِدَّةَ دُونَ الْحَيْضِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا جَعَلَ الطُّهْرَ عِدَّةَ الطَّلَاقِ دُونَ الِاحْتِسَابِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ دُخُولَ لَامِ الْإِضَافَةِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْعِدَّةُ لَهَا لَا عَلَيْهَا، وَعِدَّةُ الِاحْتِسَابِ الَّذِي هُوَ لَهَا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهَا مَعَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق: 1] وَالْإِحْصَاءُ لِعِدَّةِ الِاحْتِسَابِ دُونَ الطَّلَاقِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَمْرَيْنِ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَالِاحْتِسَابِ مَعًا فَيَكُونُ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى أَحَدِهِمْ.
وَالدَّلِيلُ الثَّانِي: مِنَ الْآيَةِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {لعدتهن} يَقْتَضِي اسْتِقْبَالَ الْعِدَّةِ وَاتِّصَالَهَا بِالطَّلَاقِ لِأَمْرَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَرَأَ فَطَلَّقُوهُنَّ لِقُبُلِ عِدَّتِهِنَّ وَقُبُلُ الشَّيْءِ مَا اتَّصَلَ بِأَوَّلِهِ فَكَانَ الْقُبُلُ وَالِاسْتِقْبَالُ سَوَاءً.
وَالثَّانِي: أَنَّ دُخُولَ اللَّامِ عَلَى الشَّرْطِ يَقْتَضِي اتِّصَالَهُ بِالْمَشْرُوطِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ

(11/167)


أَطْعِمْ زَيْدًا لِيَشْبَعَ وَأَعْطِ زَيْدًا لِيَعْمَلَ، يَقْتَضِي التَّعْقِيبَ دُونَ التَّأْخِيرِ.
وَمَنْ جَعَلَ الْأَقْرَاءَ الْأَطْهَارَ اعْتَدَّ بِبَقِيَّةِ الطُّهْرِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ هَذَا الطَّلَاقُ الْمَأْمُورُ بِهِ فَوَصَلَ بِهِ الْعِدَّةَ.
وَمَنْ جَعَلَهَا الْحَيْضَ لَمْ يَعْتَدَّ بِبَقِيَّتِهِ فَفَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِدَّةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَنَحْنُ يُمْكِنُنَا أَنْ نَصِلَ الْعِدَّةَ بِهَذَا الطَّلَاقِ إِذَا كَانَ فِي آخِرِ الطُّهْرِ لِاتِّصَالِ الْحَيْضِ بِهِ وَهُوَ مُعْتَدٌّ بِهِ عِنْدَنَا وَغَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ عِنْدَكُمْ فَسَاوَيْنَاكُمْ فِي هَذَا الظَّاهِرِ حَيْثُ وَصَلْنَا بَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْوَضْعِ دُونَكُمْ وَوَصَلْتُمْ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ دُونَنَا.
قِيلَ: قَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الِاعْتِدَادِ بِزَمَانِ الطَّلَاقِ إِذَا كَانَ آخِرَ أَجْزَاءِ الطهر على وجهين حكاهما ابن سري.
أَحَدُهُمَا: يُعْتَدُّ بِهِ قُرْءًا، وَيَكُونُ الْعِدَّةَ وَالطَّلَاقَ مَعًا كَمَا لَوْ قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي بِأَلْفٍ فَأَعْتَقَهُ، كَانَ وَقْتُ عِتْقِهِ وَقْتًا لِلتَّمْلِيكِ وَالْعِتْقِ جَمِيعًا، فَعَلَى هَذَا لَمْ يَسْلَمْ لَهُمُ التَّسَاوِي فِي الظَّاهِرِ، لِأَنَّنَا نُسَاوِيهِمْ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي اسْتَعْمَلْنَاهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَحَكَاهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ نَصًّا فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ الِاعْتِدَادُ بِزَمَانِ الطَّلَاقِ حَتَّى يَتَعَقَّبَهُ زَمَانُ الْعِدَّةِ لتمييز فَتَكُونُ الْعِدَّةُ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَلَوْ وَقَعَ الِاعْتِدَادُ بِزَمَانِ الطَّلَاقِ لَصَارَتِ الْعِدَّةُ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الطَّلَاقِ، وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ فَعَلَى هَذَا هُمْ يَسْتَعْمِلُونَ الظَّاهِرَ فِي نَادِرٍ غَيْرِ مُعْتَادٍ وَنَحْنُ نَسْتَعْمِلُهُ فِي غَالِبٍ مُعْتَادٍ، فَكَانَ حَمْلُ الظَّاهِرِ عَلَى اسْتِعْمَالٍ مُعْتَادٍ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى تَكَلُّفِ اسْتِعْمَالٍ نَادِرٍ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِعُمَرَ " مُرْهُ فَلَيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تطهر إِنْ شَاءَ طَلَّقَ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ " فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُطْلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ. فَجَعَلَ الطُّهْرَ زَمَانَ الْعِدَّةِ وَالطَّلَاقِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَقْرَاءَ الْأَطْهَارُ.
فَإِنْ قِيلَ فَقَوْلُهُ فَتِلْكَ إِشَارَةٌ مِنْهُ إِلَى مُؤَنَّثٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعُودَ إِلَى الطُّهْرِ؛ لِأَنَّهُ مُذَكَّرٌ وَعَادَ إِلَى الْحَيْضِ لِأَنَّهُ مُؤَنَّثٌ.
قِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَجَّهَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْحَيْضِ، لِأَنَّ زَمَانَ الطَّلَاقِ الْمَأْمُورَ بِهِ الطُّهْرُ دُونَ الْحَيْضِ وَتَكُونُ إِشَارَةُ التَّأْنِيثِ مَحْمُولَةً عَلَى الْعِدَّةِ أَوْ عَلَى حَالِ الطُّهْرِ وَالْحَالُ مُؤَنَّثَةٌ، وَأَمَّا الِاعْتِبَارُ فَقِيَاسٌ وَاسْتِدْلَالٌ وَاشْتِقَاقٌ.

(11/168)


فَأَمَّا الْقِيَاسُ فَقِيَاسَانِ.
أَحَدُهُمَا: مَا أَثْبَتَ الطُّهْرَ.
وَالثَّانِي: مَا نَفَى الْحَيْضَ. فَأَمَّا مَا أَثْبَتَ الطُّهْرَ فَقِيَاسَانِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ إِذَا تَعَقَّبَهُ طُهْرٌ أَوْجَبَ الِاعْتِدَادَ بِذَلِكَ الطُّهْرِ كَالصَّغِيرَةِ وَالْمُؤَيَّسَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْعِدَّةَ إِذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى خَارِجٍ مِنَ الرَّحِمِ كَانَ الِاعْتِدَادُ بِحَالِ كُمُونِهِ دُونَ ظُهُورِهِ كَالْحَمْلِ.
وَأَمَّا مَا نَفَى الْحَيْضَ فَقِيَاسَانِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ إِذَا تَعَقَّبَهُ حَيْضٌ لَمْ يَقَعِ الِاعْتِدَادُ بِهِ كَالْمُطَلَّقَةِ فِي الْحَيْضِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ دَمٌ لَا يَقَعُ الِاعْتِدَادُ بِبَعْضِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَدَّ بِجَمِيعِهِ كَدَمِ النِّفَاسِ وَأَمَّا الِاشْتِقَاقُ فَهُوَ أَنَّ الْقُرْءَ مِنْ قرأ يقرى أي جميع وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ قَرَا الطَّعَامَ فِي فَمِهِ، وَقَرَا الْمَاءَ فِي جَوْفِهِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ مَقْرَاةً لِاجْتِمَاعِ الْمَاءِ فِيهِ كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
(فَتُوضِحَ فَالْمَقْرَاةُ لَمْ يَعْفُ رَسْمُهَا ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...)

وَمِنْ ذَلِكَ سُمِّيَتِ الْقَرْيَةُ قَرْيَةً لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فِيهَا، وَسُمِّيَ الْقُرْآنُ قُرْآنًا لِاجْتِمَاعِهِ قَالَ اللَّهُ: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] يَعْنِي إِذَا جَمَعْنَاهُ فَاتَّبِعِ اجْتِمَاعَهُ وقيل: ما قرأت الناقة ساقط أَيْ مَا ضَمَّتْ رَحِمًا عَلَى وَلَدٍ، قَالَ الشَّاعِرُ فِي صِفَةِ نَاقَةٍ لَهُ.
(تُرِيكَ إِذَا دَخَلْتَ عَلَى خَلَاءٍ ... وَقَدْ أَمِنَتْ عُيُونُ الْكَاشِحِينَا)

(ذِرَاعَيْ عَيْطَلٍ أَدْمَاءَ بِكْرٍ ... هِجَانِ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأْ جَنِينَا)
أَيْ لَمْ يَجْمَعْ بَطْنُهَا وَلَدًا وَإِذَا كَانَ الْقُرْءُ هُوَ الْجَمْعَ كَانَ بِالطُّهْرِ أَحَقَّ مِنَ الْحَيْضِ، لِأَنَّ الطُّهْرَ اجْتِمَاعُ الدَّمِ فِي الرَّحِمِ وَالْحَيْضَ خُرُوجُ الدَّمِ مِنَ الرَّحِمِ، وَمَا وَافَقَ الِاشْتِقَاقَ كَانَ أَوْلَى بِالْمُرَادِ مِمَّا خَالَفَهُ.
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْعِدَّةَ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ وَزَمَانُ الطُّهْرِ أَخَصُّ بِحُقُوقِهِ مِنْ

(11/169)


زَمَانِ الْحَيْضِ لِاخْتِصَاصِهِ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْوَطْءِ وَيَمْلِكُ إِيقَاعَهُ مِنَ الطَّلَاقِ الْمُبَاحِ فَكَذَلِكَ الْعِدَّةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ بِالطُّهْرِ أَخَصَّ مِنَ الْحَيْضِ.
وَلَكَ تَحْرِيرُهُ قِيَاسًا فَنَقُولُ: حَقُّ الزَّوْجِ إِذَا تَفَرَّدَ بِأَحَدِ الزَّمَانَيْنِ كَانَ بِالطُّهْرِ أَخَصَّ مِنْهُ بِالْحَيْضِ كَالْوَطْءِ وَالطَّلَاقِ.
وَالِاسْتِدْلَالُ الثَّانِي: أَنَّ الْعِدَّةَ بِالْأَقْرَاءِ تَجْمَعُ حَيْضًا وَطُهْرًا؛ لِأَنَّهَا عِنْدَنَا ثَلَاثَةُ أطهار تتخللها حيضتان وعندهم ثلاث حيض تتخللها طُهْرَانِ، وَأَكْثَرُهُمَا مَتْبُوعٌ وَأَقَلُّهَا تَابِعٌ فَكَانَ الطُّهْرُ بِأَنْ يَكُونَ مَتْبُوعًا أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِطَرْءِ الْحَيْضِ عَلَى الطُّهْرِ فِي الصِّغَرِ وَارْتِفَاعِهِ مِنْ بَقَاءِ الطُّهْرِ فِي الْكِبَرِ.
وَالثَّانِي: لِغَلَبَةِ الطُّهْرِ بِكَثْرَتِهِ عَلَى الْحَيْضِ لِقِلَّتِهِ. وَالِاسْتِدْلَالُ الثَّالِثُ: أَنَّ الطَّلَاقَ إِنَّمَا أُبِيحَ فِي الطُّهْرِ وَحُظِرَ فِي الْحَيْضِ لِيَكُونَ تَسْرِيحًا بِإِحْسَانٍ يَتَعَجَّلُ بِهِ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ وَتُخَفُّفُ بِهِ أَحْكَامُ الْفُرْقَةِ وَانْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِالطُّهْرِ أَعْجَلُ مِنَ انْقِضَائِهَا بِالْحَيْضِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي الِابْتِدَاءِ؛ لِأَنَّهَا تَعْتَدُّ عِنْدَنَا بِالطُّهْرِ الَّذِي طُلِّقَتْ فِيهِ وَلَا تَعْتَدُّ عِنْدَهُمْ بِالْحَيْضِ الَّذِي طُلِّقَتْ فِيهِ.
وَالثَّانِي: في الانتهاء؛ لأنها تقضي عِنْدَنَا بِدُخُولِ الْحَيْضَةِ الْأَخِيرَةِ وَتَنْقَضِي عِنْدَهُمْ بِاسْتِكْمَالِ الْحَيْضَةِ الْأَخِيرَةِ وَمَا وَافَقَ مَقْصُودَ الْإِبَاحَةِ كَانَ أَوْلَى بِالْمُرَادِ مِمَّا وَافَقَ مَقْصُودَ الْحَظْرِ.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] يَقْتَضِي اسْتِكْمَالَهَا وَالِاعْتِدَادُ بِالْأَطْهَارِ مُفْضٍ إِلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى اثْنَيْنِ وَبَعْضِ الثَّالِثِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْقُرْءَ مَا وَقَعَ الِاعْتِدَادُ بِهِ مِنْ قَلِيلِ الزَّمَانِ وَكَثِيرِهِ، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِ الطُّهْرِ وَكَثِيرِهِ عِنْدَنَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِ الْحَيْضِ وَكَثِيرِهِ عِنْدَهُمْ فَصَارَ الطُّهْرُ الَّذِي طُلِّقَتْ فِيهِ قُرْءًا كَامِلًا وَإِنْ كَانَ زَمَانُهُ قَلِيلًا.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ يَنْطَلِقُ اسْمُ الثَّلَاثِ عَلَى الِاثْنَيْنِ وَبَعْضِ الثَّالِثِ كَمَا قَالَ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] وَهُوَ شَهْرَانِ وَبَعْضُ الثَّالِثِ، وَكَقَوْلِهِمْ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ وَهُوَ يَوْمَانِ وَبَعْضُ الثَّالِثِ كَذَلِكَ فِي الْأَقْرَاءِ.
وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ الطُّهْرَ وَإِنْ أَفْضَى إِلَى نُقْصَانِ الثَّالِثِ إِذَا طُلِّقَتْ فِيهِ فَالْحَيْضُ مُفْضٍ إِلَى الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّالِثِ إِذَا طُلِّقَتْ فِيهِ فَصَارَ النُّقْصَانُ عِنْدَنَا مُسَاوِيًا لِلزِّيَادَةِ عِنْدَهُمْ فِي مُخَالَفَةِ الظَّاهِرِ ثُمَّ عِنْدَهُمْ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ النُّقْصَانِ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عِنْدَهُمْ نَسْخٌ.

(11/170)


وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ قَوْلَهُ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] كَلَامٌ تَامٌّ مُخْتَصٌّ بِالْعِدَّةِ وَقَوْلُهُ {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أرحامهن} اسْتِئْنَافُ خِطَابٍ مُبْتَدَأٍ وَلَيْسَ بِتَفْسِيرٍ؛ لِمَا تَقَدَّمَ نُهِيَتْ فِيهِ عَنْ كَتْمِ حَمْلِهَا أَوْ حَيْضِهَا فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ تَفْسِيرًا عَائِدًا لِمَا تَقَدَّمَ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ الطُّهْرَ وَالْحَيْضَ جَمِيعًا فَاسْتَوَيَا. وَالثَّانِي: لَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ الْحَيْضَ؛ لِأَنَّ بِهِ يُنْقَضُ الطُّهْرُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: {فطلقوهن لعدتهن} وَلَمْ يَقُلْ فِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الطَّلَاقَ فِي الطُّهْرِ الْمُعْتَدِّ بِهِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ مَا بَعْدَ زَمَانِ الطَّلَاقِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يكون قوله {لعدتهن} أَيْ فِي عِدَّتِهِنَّ كَمَا قَالَ: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47] أَيْ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] وَأَنَّ الِانْتِقَالَ إِلَى الْبَدَلِ مُخَالِفٌ لِلْمُبْدَلِ فَهُوَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لَهُ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَعْتَدُّ بِطُهْرٍ مُقَدَّرٍ بِحَيْضٍ فَصَارَتْ بِالْإِيَاسِ مُعْتَدَّةً بِطُهْرٍ مُقَدَّرٍ بِالشُّهُورِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " طَلَاقُ الْأَمَةِ طَلْقَتَانِ وَعَدَّتُهَا حَيْضَتَانِ " فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ضَعِيفٌ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: مَدَارُهُ عَلَى مُظَاهِرِ بْنِ أَسْلَمَ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا يَكُونُ بِحَيْضَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقَعَ الِاعْتِدَادُ بِالْحَيْضِ، لِأَنَّ الْعِدَّةَ مُقَدَّرَةٌ بِالْحَيْضِ وَالطُّهْرِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا أَحَدَهُمَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ " اقْعُدِي عَنِ الصَّلَاةِ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ " فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ زِيَادَةٌ فِي الْخَبَرِ لَيْسَتْ بِثَابِتَةٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْقُرْءَ قَدْ يَنْطَلِقُ عَلَى الْحَيْضِ إِمَّا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا إِذَا انْضَمَّ إِلَى قَرِينِةٍ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيهِ إِذَا أُطْلِقَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الطَّرَفِ الثَّانِي فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَسْلَمُ لَهُمُ الطَّرَفَانِ لِأَنَّ

(11/171)


الطَّرَفَ الْأَوَّلَ لَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا عِنْدَهُمْ إِلَّا بِالدُّخُولِ فِي الطُّهْرِ وَالطَّرَفَ الْأَوَّلَ لَا يُعْتَدُّ فِيهِ بِالْحَيْضِ إِذَا طُلِّقَتْ فِيهِ فَبَطَلَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْحَمْلِ فَهُوَ دَلِيلُنَا؛ لِأَنَّ عِدَّةَ الْحَامِلِ لِزَمَانِ كُمُونِهِ وَالْخُرُوجَ مِنْهَا بطهوره فقياسه أن تكون عدة الحائض زمانه كُمُونِهِ، وَالْخُرُوجُ مِنْهَا بِظُهُورِهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ فِي الْحَيْضِ بَرَاءَةَ الرَّحِمِ مِنَ الْحَمْلِ فَهُوَ أَنَّ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ تَكُونُ بِالْحَيْضِ وهو مبرئ، وإن كان الاعتداء بِغَيْرِهِ كَالْوِلَادَةِ تَنْقَضِي بِهَا الْعِدَّةُ وَبَرِئَ بِهَا الرحم، وإن كان الاعتداء بِمَا تَقَدَّمَهَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْحَيْضِ فِي اسْتِبْرَاءِ الْأَمَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنِ اسْتَبْرَأَهَا عَلَى قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا يَكُونُ بِالطُّهْرِ كَالْحُرَّةِ فَاسْتَوَيَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونُ بِالْحَيْضِ وَالْحُرَّةُ بِالطُّهْرِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اسْتِبْرَاءَ الْأَمَةِ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ وَاسْتِبْرَاءَ الْحُرَّةِ لِزَوَالِ الْمِلْكِ فَكَانَ اخْتِلَافُ الْمُوجِبَيْنِ دَلِيلًا عَلَى اخْتِلَافِ الْحُكْمَيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ اسْتِبْرَاءَ الْأَمَةِ مَوْضِعٌ لِاسْتِبَاحَةِ وَطْئِهَا فَكَانَ بِالْحَيْضِ لِيَتَعَقَّبَهُ الطُّهْرُ الْمُبِيحُ، وَاسْتِبْرَاءَ الْحُرَّةِ مَوْضُوعٌ لِاسْتِبَاحَةِ النِّكَاحِ وَعَقْدُ النِّكَاحِ يَجُوزُ فِي الْحَيْضِ كَمَا يَجُوزُ فِي الطُّهْرِ فَاخْتَلَفَا لِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ بِهِمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي: " وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ لِلْغُسْلِ بَعْدَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ مَعْنًى تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ ".
قال الماوردي: والذي أراد الشافعي بِهَذَا الْفَصْلِ الرَّدُّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعِرَاقِيِّينَ فِي مُخَالَفَةِ الظَّاهِرِ فِي الثَّلَاثَةِ الْأَقْرَاءِ الَّتِي أمر الله تعالى بها، ويناقض أَقَاوِيلِهِمْ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ قَدْ دَلَّا عَلَى وُجُوبِ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، وَزَادَ عَلَيْهَا أَبُو حَنِيفَةَ مَعَ كَوْنِ الزِّيَادَةِ عِنْدَهُ نَسْخًا، فَقَالَ: إِذَا اسْتَكْمَلَتِ الْحَيْضَةَ الثَّالِثَةَ الَّتِي تَنْقَضِي بِهَا عِنْدَهُ الْعِدَّةُ قَالَ: اعْتَبَرَ الْحَيْضَةَ الثَّالِثَةَ، فَإِنْ كَانَتْ عَشْرَةَ أَيَّامٍ كَامِلَةً انْقَضَتْ بِهَا الْعِدَّةُ إِذَا تَعَقَّبَهَا الطُّهْرُ سَوَاءٌ اغْتَسَلَتْ أَوْ لَمْ تَغْتَسِلْ، وَإِنْ كَانَتِ الْحَيْضَةُ الثَّالِثَةُ نَاقِصَةً لِنُقْصَانِهَا عَنْ عَشْرَةِ أَيَّامٍ لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ أَوْ يَمُرَّ عَلَيْهَا وَقْتُ الصَّلَاةِ وَيَفُوتَ وَهِيَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْعِدَّةِ وَلِلزَّوْجِ الرَّجْعَةُ، وَكَذَلِكَ يَقُولُ فِي اسْتِبْرَاءِ الْأَمَةِ بِالْحَيْضَةِ إِنَّهَا كَالْحُرَّةِ فِي الِاسْتِبْرَاءِ قَبْلَ الْغُسْلِ فَإِنِ اغْتَسَلَتْ إِلَّا مِقْدَارَ كَفٍّ مِنْ جسدها فكلا غُسْلَ، وَالْعِدَّةُ بَاقِيَةٌ وَإِنِ اغْتَسَلَتْ إِلَّا مِقْدَارَ أُصْبُعٍ فَقَدِ انْقَضَتِ الْعِدَّةُ، وَبَطَلَتِ الرَّجْعَةُ وَحَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ وَإِنْ لَمْ تَسْتَبِحِ الصَّلَاةَ حَتَّى يَعُمَّ الغسل جسدها وإن تممت فَهِيَ فِي الْعِدَّةِ حَتَّى تَدْخُلَ فِي

(11/172)


الصَّلَاةِ، وَإِنِ اغْتَسَلَتْ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ فَهِيَ فِي العدة حتى تتمم فَتَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ وَإِنْ لَمْ تَدْخُلْ فِي الصَّلَاةِ وَلَا يَحِلُّ لَهَا التَّصَرُّفُ فِي نَفْسِهَا حَتَّى تَدْخُلَ فِي الصَّلَاةِ، وَقَالَ فِي الذِّمِّيَّةِ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا، وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِلْ وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْهَا وَقْتُ الصَّلَاةِ.
وَهَذِهِ كُلُّهَا أَقَاوِيلُ مُخْتَلِفَةٌ يَنْقُضُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَجَمِيعُهَا زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ الْمُقَدَّرِ، وَقَالَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ لَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ إِلَّا بِالْغُسْلِ وَحْدَهُ مَعَ كَمَالِ الْحَيْضِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ بَقَاءَ الْغُسْلِ مِنْ بَقَايَا أَحْكَامِ الْحَيْضِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْكَمَ بِانْقِضَائِهِ مَعَ بَقَاءِ حُكْمِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ قَوْلُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فَفِي الظَّاهِرِ وُجُوبُ غَيْرِهَا فَصَارَتِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ مُخَالِفَةً الظاهر كالنقصان منها، وقال: {وإذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف} فَأَبَاحَهُنَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ أَجَلِهِنَّ التَّصَرُّفَ فِي أَنْفُسِهِنَّ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ غُسْلًا وَلَا صَلَاةً؛ وَلِأَنَّهَا عِدَّةٌ مَنَعَتْ مِنَ الْأَزْوَاجِ فَوَجَبَ أَنْ تَرْتَفِعَ قَبْلَ الِاغْتِسَالِ كَالْحَيْضِ الْكَامِلِ، وَلِأَنَّ مَا انْقَضَتِ الْعِدَّةُ بِكَمَالِ مُدَّتِهِ انْقَضَتْ بِنُقْصَانِ مُدَّتِهِ كَالْحَمْلِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْغُسْلُ مَشْرُوطًا فِي ابْتِدَائِهَا فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ مَشْرُوطًا فِي انْتِهَائِهَا لِقُوَّةِ الِابْتِدَاءِ وَضَعْفِ الِانْتِهَاءِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ بَقَاءَ الْغُسْلِ مِنْ أَحْكَامِ الْحَيْضِ دَلِيلٌ عَلَى بَقَاءِ الْحَيْضِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فَسَادُ اعْتِبَارٍ بِالْحَيْضِ الْكَامِلِ وَمُرُورِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ بَقَاءَ الْغُسْلِ فِيهِمَا لَا يُوجِبُ بَقَاءَ الصَّلَاةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ وُجُوبَ الْغُسْلِ مُسْتَحَقٌّ لِلصَّلَاةِ وَوَطْءِ الزَّوْجِ، وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَشْرُوطًا فِي الْعِدَّةِ فَلَمْ يَكُنْ مَا يُوجَبُ لَهُمَا مُسْتَحَقًّا فِيهِمَا ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ شَرْطُهُمُ الْغُسْلُ لِلْعِدَّةِ فِي بَعْضِ الْحِيَضِ وَهُوَ وَاجِبٌ فِي كُلِّ الْحِيَضِ، وَأَوْجَبْتُمُوهُ عَلَى بَعْضِ الْمُعْتَدَّاتِ مِنَ الْمُسَلِّمَاتِ وَلَمْ تُوجِبُوهُ عَلَى الذِّمِّيَّاتِ وَجَمِيعُهُنَّ فِي الْعِدَّةِ سَوَاءٌ وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَنِ اغْتَسَلَتْ إِلَّا قدر الكف وبين ما اغْتَسَلَتْ إِلَّا قَدْرَ الْأُصْبُعِ وَكِلَاهُمَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَلَا يُبِيحُ الصَّلَاةَ، وَأَقَمْتُمُ التَّيَمُّمَ مَقَامَ الْغُسْلِ فِي اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ وَلَمْ تُقِيمُوهُ مَقَامَهُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مَعَ ارْتِفَاعِ الْحَدَثِ عِنْدَكُمْ بِالتَّيَمُّمِ وَأَقَمْتُمُ الْغُسْلَ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ مَعَ التَّيَمُّمِ مَقَامَ الْغُسْلِ بِمَاءِ الْقِرَاحِ وَمَنَعْتُمُوهَا مِنَ التَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهَا مَعَ انْقِضَاءِ عَدَّتِهَا وَإِبْطَالِ رَجْعَتِهَا وَلَمْ تَحْكُمُوا بِذَلِكَ فِي غُسْلِهَا فَجَعَلْتُمُوهَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ مُعْتَدَّةً وَغَيْرَ مُعْتَدَّةٍ وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ: هَدَمْتُمْ بِذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَصْلًا فِي أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ وَقَدْ مَنَعْتُمْ بِهِ مِنَ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَمِنَ النَّفْيِ مَعَ الْجَلْدِ وَلَمْ تَمْنَعُوا مِنْ وُجُوبِ الْغُسْلِ مع الأقراء.

(11/173)


فَإِنْ قَالُوا: رُوِّينَاهُ عَنِ الصَّحَابَةِ.
قِيلَ: فَقَدْ نَسَخْتُمْ عَلَى قَوْلِكُمُ الْقُرْآنَ بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ اسْتِوَاءٌ لِلْحَالِ وَحَسْبُكَ بِهَذَا التَّنَاقُضِ فَسَادًا، وَبِهَذَا الاعتذار تقصيراً

(مسألة)
قال الشافعي: " وَلَوْ طَلَّقَهَا طَاهِرًا قَبْلَ جِمَاعٍ أَوْ بَعْدَهُ ثَمَّ حَاضَتْ بَعْدَهُ بِطَرْفَةٍ فَذَلِكَ قُرْءٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ فِي الطُّهْرِ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ وَلِلْبَاقِي مِنْهُ قُرُوءٌ مُعْتَدٌّ بِهِ سَوَاءٌ جَامَعَهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ أَوْ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ.
وَقَالَ أَبُو عَبِيدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: إِنْ جَامَعَهَا فِيهِ لَمْ يُعْتَدَّ بِبَاقِيهِ؛ لِأَنَّهُ طَلَاقُ بِدْعَةٍ كَالْحَيْضِ.
وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ فَلَوْ لَمْ يُحْتَسَبْ بِطُهْرِ الطَّلَاقِ صَارَتْ أَرْبَعًا، وَلِأَنَّهُ مُنِعَ مِنَ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ لِئَلَّا تَطُولَ عِدَّتُهَا لِفَوَاتِ الِاعْتِدَادِ بِحَيْضِهَا وَتَرْكُهُ الِاعْتِدَادَ بِطُهْرِ الْجِمَاعِ أَبْعَدُ لِعِدَّتِهَا وَأَسْوَأُ حَالًا مِنَ الطَّلَاقِ فِي حَيْضِهَا، فَإِذَا ثَبَتَ الِاعْتِدَادُ بِهِ كَالطُّهْرِ الَّذِي لَمْ يُجَامِعُ فِيهِ اشْتَمَلَتْ فِيهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي أَوَّلِ الْعِدَّةِ.
وَالثَّانِي: فِي آخِرِهَا.
فَأَمَّا أَوَّلُ الْعِدَّةِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الطَّلَاقِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي حَيْضٍ أَوْ طُهْرٍ.
فَإِنْ كَانَ فِي حَيْضٍ فَهُوَ طَلَاقُ بِدْعَةٍ وَلَا يُعْتَدُّ بِبَقِيَّةِ الْحَيْضِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ مُخَالِفِنَا فَإِذَا دَخَلَتْ فِي الطُّهْرِ الْمُقْبِلِ فَهُوَ أَوَّلُ عِدَّتِهَا عِنْدَنَا، وَيَكُونُ اعْتِدَادُهَا بِثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ كَوَامِلَ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ فِي طُهْرٍ فَهُوَ طَلَاقُ سُنَّةٍ وَلَهُ حَالَتَانِ:
أحدهما: أَنْ يَبْقَى مِنْهُ بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِيهِ زَمَانٌ يَقَعُ الِاعْتِدَادُ بِهِ فَيَكُونُ الْبَاقِي مِنْهُ قُرْءًا وَإِنْ قَلَّ وَحَدَّهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ بِثَلَاثَةِ أَزْمِنَةٍ زَمَانٍ لِلَفْظِ الطَّلَاقِ، وَزَمَانٍ لِوُقُوعِهِ، وَزَمَانٍ لِلِاعْتِدَادِ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي اعْتَبَرَهُ مِنْ زَمَانِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بَعْدَ زَمَانِ التَّلَفُّظِ بِهِ وَلَا يَتَمَيَّزُ فِي التَّصَوُّرِ، لِأَنَّهُ وَاقِعٌ بِاسْتِيفَاءِ لَفْظِهِ فَلَمْ يَحْتَجْ بَعْدَهُ إِلَى زَمَانٍ يَخْتَصُّ بِهِ، وَصَارَ مَحْدُودًا بِزَمَانَيْنِ، زَمَانِ التَّلَفُّظِ بِالطَّلَاقِ وَزَمَانِ الِاعْتِدَادِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ فِي آخِرِ الطُّهْرِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ بَعْدَ التَّلَفُّظِ بِهِ إِمَّا بِأَنْ وَقَعَ ذَلِكَ اتِّفَاقًا، وَإِمَّا بِأَنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ فِي آخِرِ أَجْزَاءِ طُهْرِكِ فَاسْتَوْعَبَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ آخِرَ الطُّهْرِ فَقَدْ حَكَى أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ فِيهِ وَجْهَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا:

(11/174)


أَحَدُهُمَا: تَعْتَدُّ بِذَلِكَ الطُّهْرِ قُرْءًا وَيَكُونُ زَمَانُ الطَّلَاقِ زَمَانًا لِوُقُوعِهِ وَلِلْعِدَّةِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الطَّلَاقُ طَلَاقَ سُنَّةٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، أَنَّ زَمَانَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ لَا يَقَعُ بَعْدَ الِاعْتِدَادِ فَإِنْ لَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ حَرُورُ الطُّهْرِ اعْتَدَّتْ بِمَا تَسْتَقْبِلُهُ مِنَ الطُّهْرِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ طَلَاقَ بِدْعَةٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ طَوَّلَ الْعِدَّةَ عَلَيْهَا، وَنَحْنُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، إِذَا طَلَّقَهَا فِي آخِرِ أَجْزَاءِ حَيْضِهَا.
فَإِنْ قِيلَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ: إِنَّ الطَّلَاقَ فِي آخِرِ الطُّهْرِ طَلَاقُ سُنَّةٍ كَانَ هَذَا طَلَاقَ بِدْعَةٍ.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ ذَاكَ طَلَاقُ بِدْعَةٍ لِمَا فِيهِ مِنْ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ كَانَ هَذَا طَلَاقَ سُنَّةٍ لِاتِّصَالِهِ بِالْعِدَّةِ.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا آخِرُ الْعِدَّةِ فَقَدْ رَوَى الْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ أَنَّهَا إِذَا رَأَتْ دَمَ الْحَيْضِ بَعْدَ الطُّهْرِ الثَّالِثِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِرُؤْيَةِ الدَّمِ وَرَوَى الْبُوَيْطِيُّ وَحَرْمَلَةُ: أَنَّهُ لَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا حَتَّى يَمْضِيَ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ هَذَا النَّقْلِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ عِدَّتَهَا تَنْقَضِي بِرُؤْيَةِ الدَّمِ عَلَى مَا رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ؛ لِأَنَّ تَحْدِيدَ عَدَّتِهَا ثَلَاثَةَ أَقَرَاءٍ يَمْنَعُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ عِدَّتَهَا لَا تَنْقَضِي إِلَّا بِمُضِيِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ عَلَى مَا رَوَاهُ الْبُوَيْطِيُّ وَحَرْمَلَةُ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ حَيْضٌ بيقين.
الوجه الثَّانِي: أَنَّ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَرِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ وَالرَّبِيعِ أَنَّ عِدَّتَهَا تَنْقَضِي بِرُؤْيَةِ الدَّمِ إِذَا كَانَتْ مُعْتَادَةً وَرَأَتِ الدَّمَ فِي وَقْتِ الْعَادَةِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْهُ أَنَّهُ حَيْضٌ؛ وَرِوَايَةُ الْبُوَيْطِيِّ وَحَرْمَلَةَ أَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَنْقَضِي إِلَّا بِمُضِيِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِذَا كَانَتْ مُبْتَدِأَةً أَوْ مُعْتَادَةً وَرَأَتِ الدَّمَ فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْعَادَةِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنَ ابْتِدَائِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيْضٍ حَتَّى تَسْتَدِيمَ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنَ اعْتِبَارِ الدَّمِ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِيهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي زَمَانِهِ، هَلْ يَكُونُ مِنَ الْعِدَّةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنَ الْعِدَّةِ لِاعْتِبَارِهِ فِيهَا، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ رَجْعَتُهَا فِيهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَزَوَّجَ فِيهِ.

(11/175)


وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَلَيْسَ مِنْهَا كَغَسْلِ الرَّأْسِ فِي تَجَاوُزِهِ إِلَى مَا لَيْسَ مِنَ الْوَجْهِ لِيَسْتَوْفِيَ بِهِ جَمِيعَ الوجه كالصائم يستزيد بإمساك جزئين مِنْ طَرَفَيِ اللَّيْلِ لِيَسْتَوْفِيَ بِهِ إِمْسَاكَ جَمِيعِ النَّهَارِ فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ رَجْعَتُهَا فِيهِ وَيَجُوزُ أَنْ تَتَزَوَّجَ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي: " وَتُصَدَّقُ عَلَى ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ فِي أَقَلِّ مَا يُمْكِنُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَا أَقَلُّ الزَّمَانِ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ تَعْتَدَّ فِيهِ بِثَلَاثَةِ أَقَرَاءٍ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَقَلُّهُ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا وَسَاعَتَانِ، وَبَيَانُهُ أَنْ يُطَلِّقَ مِنْ آخِرِ الطُّهْرِ فَتَكُونُ السَّاعَةُ الْبَاقِيَةُ مِنْهُ قُرْءًا ثُمَّ يَمْضِي أَقَلُّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، ثُمَّ أَقَلُّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَهُوَ الْقُرْءُ الثَّانِي، ثُمَّ أَقَلُّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، ثُمَّ أَقَلُّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَهُوَ الْقُرْءُ الثَّالِثُ فَإِذَا طَعَنَتْ فِي أَوَّلِ سَاعَةٍ مِنْ حَيْضَتِهَا الثَّالِثَةِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا اعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ فِي أَقَلِّ الطُّهْرَيْنِ، وَذَلِكَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا، وَأَقَلِّ حَيْضَتَيْنِ وَذَلِكَ يَوْمَانِ وَلَيْلَتَانِ وَسَاعَةٌ فِي الِابْتِدَاءِ مِنْ طُهْرٍ هِيَ قُرْءٌ، وَسَاعَةٌ فِي الِانْتِهَاءِ مِنْ حَيْضٍ يُعْلَمُ بِهَا انْقِضَاءُ الطُّهْرِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: أَقَلُّ مَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا وَسَاعَةٌ وَاحِدَةٌ اعْتِبَارًا بِالْأَقَلِّ مِنْ ثَلَاثِ حيضات وطهرين؛ لأن أقل الحيض عندهما ثلاث أَيَّامٍ وَبَيَانُهُ أَنْ يُطَلِّقَ فِي آخِرِ الطُّهْرِ الْمُتَّصِلِ بِالْحَيْضِ ثُمَّ يَمْضِي ثَلَاثُ حَيْضَاتٍ أَقَلُّهَا تِسْعَةُ أَيَّامٍ يَتَخَلَّلُهَا طُهْرَانِ أَقَلُّهَا ثَلَاثُونَ يَوْمًا، ثُمَّ تَدْخُلُ فِي أَوَّلِ سَاعَةٍ مِنْ طُهْرِهَا فَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَقَلُّ مَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ سِتُّونَ يَوْمًا وَسَاعَةٌ مِنْ طُهْرِهَا اعْتِبَارًا بِالْأَكْثَرِ مِنْ ثَلَاثِ حَيْضَاتٍ، وَذَلِكَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ أَكْثَرَهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ عِنْدَهُ وَالْأَقَلُّ مِنْ طُهْرَيْنِ، وَذَلِكَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا وَسَاعَةٌ يَدْخُلُ بِهَا فِي الطُّهْرِ الثَّالِثِ فَوَافَقَ فِي اعْتِبَارِ أَقَلِّ الطُّهْرِ، وَخَالَفَنَا وَخَالَفَ صَاحِبَهُ فِي اعْتِبَارِهِ لِأَكْثَرِ الْحَيْضِ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ اعْتِبَارُ أَقَلِّ الطُّهْرِ وَجَبَ اعْتِبَارُ أَقَلِّ الْحَيْضِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا أَوْجَبَ اعْتِبَارَ الْيَقِينِ وَجَبَ اعْتِبَارُ الْأَقَلِّ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَلَا يَخْلُو حَالُ طلاقها من ثلاثة أقسام:
أحدهما: أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ فِي طُهْرٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ فِي حَيْضٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يعلم واحداً منهما. فإذا عَلِمَ أَنَّهُ فِي طُهْرٍ رَجَعَ إِلَى قَوْلِهَا فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ}

(11/176)


[البقرة: 228] . يَعْنِي مِنْ حَمْلٍ وَحَيْضٍ فَوَجْهُ الْوَعِيدِ النَّهْيُ لِقَبُولِ قَوْلِهِنَّ فِيهَا ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ مَا ادَّعَتْهُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مِنْ ثلاثة أقسام:
أحدهما: أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِأَقَلِّ مَا يُمْكِنُ، وَذَلِكَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا وَسَاعَتَانِ فَقَوْلُهَا فِيهِ مَقْبُولٌ، فَإِنْ أَكْذَبَهَا الزَّوْجُ أَحْلَفَهَا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ أَزْيَدَ مِنْ أَقَلِّ الْمُمْكِنِ فَأَوْلَى أَنْ تقبل قَوْلُهَا فِيهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنَ الْمُمْكِنِ كَادِّعَائِهَا انْقِضَاءَ ثَلَاثَةِ أَقَرَاءٍ فِي ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَقَوْلُهَا مَرْدُودٌ لِاسْتِحَالَتِهِ ثُمَّ فِيهِ وجهان:
أحدهما: أنها إذ اسْتَكْمَلَتْ أَقَلَّ الْمُمْكِنِ وَهُوَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا وَسَاعَتَانِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَإِنْ لَمْ تَسْتَأْنِفِ الدَّعْوَى لِدُخُولِ ذَلِكَ فِي دَعْوَى الْأَوَّلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ مَا لَمْ تَسْتَأْنِفِ الدَّعْوَى، لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ مَرْدُودَةٌ بِالِاسْتِحَالَةِ فَإِنِ اسْتَأْنَفَتِ الدَّعْوَى فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ قَبْلَ قَوْلِهَا مَعَ يَمِينِهَا إِنْ أَكْذَبَتْ نَفْسَهَا وَإِلَّا فَهِيَ بَاقِيَةٌ فِي الْعِدَّةِ وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهَا طُلِّقَتْ فِي حَيْضٍ فأقل ما تنقضي بِهِ عَدَّتُهَا سَبْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ يَوْمًا وَسَاعَةٌ وَاحِدَةٌ وَبَيَانُهُ أَنْ يُطَلِّقَ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ حَيْضِهَا فَتَسْتَقْبِلُ بَعْدَهَا ثَلَاثَةَ أَطْهَارٍ أَقَلُّهُمَا خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ يَوْمًا يَتَخَلَّلُهَا حَيْضَتَانِ أَقَلُّهَا يَوْمَانِ وَلَيْلَتَانِ ثُمَّ تَطْعَنُ فِي أَوَّلِ سَاعَةٍ مِنَ الْحَيْضِ فَتَقْضِي عِدَّتَهَا، فَإِنِ ادَّعَتِ انْقِضَاءَهَا فِي هَذَا الْقَدْرِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ قُبِلَ قَوْلُهَا، وَإِنِ ادَّعَتِ انْقِضَاءَهَا فِي أَقَلَّ مِنْهُ لَمْ يُقْبَلْ، وَكَانَ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ وُقُوعُ الطَّلَاقِ قِيلَ: كَانَ فِي حيض أو طهر رجع إلىقولها فيه كما يرجع إلى قولها يفي الطَّلَاقِ إِذَا عَلَّقَهُ بِحَيْضِهَا أَوْ طُهْرِهَا، فَإِنِ ادَّعَتْ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِي حَيْضِهَا فَهُوَ أَغْلَظُ أَمْرَيْهَا فَيُقْبَلُ قَوْلُهَا فِيهِ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهَا لِلزَّوْجِ إِنْ أَكْذَبَهَا مَا لَمْ تُرِدْ بِهِ إِسْقَاطَ نَفَقَتِهَا، وَكَانَ أَقَلُّ مَا تَنْقَضِي بِهِ عَدَّتُهَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ سَبْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا وَسَاعَةٍ، وَإِنِ ادَّعَتْ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ فَقَوْلُهَا فِيهِ مَقْبُولٌ وَلِلزَّوْجِ إِحْلَافُهَا إِنْ أَكْذَبَهَا لِأَنَّهُ أَمْرٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْ جِهَتِهَا، وَيَكُونُ أَقَلُّ مَا يَقْتَضِي بِهِ الْعِدَّةُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَسَاعَتَيْنِ.

(فَصْلٌ)
وَإِذَا كَانَ عَادَةُ الْمُطَلَّقَةِ أَنْ تَحِيضَ خَمْسَةَ أَيَّامٍ وَتَطْهُرَ عِشْرِينَ يَوْمًا فَلَا يَخْلُو حَالُهَا إِذَا طُلِّقَتْ مِنْ أَنْ تَدَّعِيَ انْتِقَالَ العادة أو لا تدعيها، فإن لم تدعي انْقِضَاءَ الْعَادَةِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ طَلَاقُهَا فِي طُهْرٍ فَأَقَلُّ مَا تَنْقَضِي بِهِ عِدَّتُهَا خَمْسُونَ يَوْمًا وَسَاعَتَانِ وَبَيَانُهُ أَنْ تُطَلَّقَ فِي آخِرِ طهرها فيكون قرءاً ثم طهرين أربعون يوماً وحيضتين عَشَرَةُ أَيَّامٍ ثُمَّ سَاعَةٌ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ وَإِنْ طُلِّقَتْ فِي الْحَيْضِ فَأَقَلُّ مَا تَنْقَضِي بِهِ عَدَّتُهَا سَبْعُونَ يَوْمًا وَسَاعَةٌ وَاحِدَةٌ وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَطْهَارٍ كَوَامِلُ هِيَ سِتُّونَ يَوْمًا يَتَخَلَّلُهَا حَيْضَتَانِ هِيَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ وَسَاعَةٌ مِنَ الْحَيْضَةِ الَّتِي يَنْقَضِي بِهَا الطُّهْرُ الثَّالِثُ فَإِنِ ادَّعَتْ فِي أَحَدِ الطَّلَاقَيْنَ أَقَلَّ

(11/177)


مِنْ هَذَا الْقَدْرِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهَا إِذَا كَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى عَادَتِهَا فَإِنِ ادَّعَتِ انْتِقَالَ عَادَتِهَا فِي الْحَيْضِ إِلَى أَقَلِّهِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وفي الطهر إلى أقله خمسة عشرة يَوْمًا فَفِي قَبُولِ قَوْلِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ مَقْبُولًا لِإِمْكَانِهِ كَمَا قِيلَ فِي ابْتِدَائِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ إِنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي الِانْتِقَالِ عَنِ الْعَادَةِ لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ أصلاً متيقناً.

(مسألة)
قال الشافعي: " وَأَقَلُّ مَا عَلِمْنَاهُ مِنَ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَقَالَ في موضع آخر يوم وليلة (قال المزني) رحمه الله وهذا أولى لأنه زيادة في الخبر والعلم وقد يحتمل قوله يوماً بليلة فيكون المفسر من قوله يقضي على المجمل وهكذا أصله في العلم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى فِي كِتَابِ الْحَيْضِ أَقَلُّ الْحَيْضِ وَإِعَادَتُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْعِدَّةِ بِالْأَقْرَاءِ فَذَكَرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ أَقَلَّهُ يَوْمٌ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَقَلُّهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَقَلُّهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ.
وَالثَّانِي: أَقَلُّهُ يَوْمٌ وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ فَاسِدَةٌ، لِأَنَّ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا احْتَمَلَهُ الِاجْتِهَادُ مِنْ تَعَارُضِ ظَاهِرَيْنِ أَوْ تَرْجِيحِ قِيَاسَيْنِ وَأَقَلُّ الْحَيْضَتَيْنِ مُعْتَبَرٌ بِالْوُجُودِ الْمُعْتَادِ فَإِنْ وُجِدَ الْأَقَلُّ بَطَلَ الْأَكْثَرُ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ بَطَلَ الْأَقَلُّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لِأَصْحَابِنَا أَنَّ أَقَلَّهُ يَوْمٌ بِغَيْرِ لَيْلَةٍ، لِأَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ أَقَلَّهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ إِلَى أَنْ صَحَّ عِنْدَهُ مَا قَالَهُ الْأَوْزَاعِيُّ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمُ امْرَأَةٌ تَحِيضُ بِالْغَدَاةِ وَتَطْهُرُ بِالْعَشِيِّ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَصَارَ إِلَيْهِ وَرَجَعَ عَنِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَصَحُّ الطُّرُقِ الثَّلَاثَةِ أَنَّ أَقَلَّهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الموضع " أقله يوم " يريد يه لَيْلَتَهُ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَذْكُرُ الْأَيَّامَ، وَتُرِيدُ بِهَا مع الليالي ويذكر اللَّيَالِيَ وَتُرِيدُ بِهَا مَعَ الْأَيَّامِ وَيُجْمَعُ بَيْنَهَا للتأكيد قال الله تعالى: {أن لا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم: 10] . وَأَرَادَ بِأَيَّامِهَا وَقَالَ تَعَالَى: {ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا} [آل عمران: 41] . وَأَرَادَ بِلَيَالِيهَا، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ وَافَقَ عَلَى هَذَا، فِي أَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَخَالَفَ فِي الْعِلَّةِ قَالَ: لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ فِي الْخَبَرِ وَالْعِلْمِ، وَهَذَا تَعْلِيلٌ فَاسِدٌ، لِأَنَّ زِيَادَةَ الْعِلْمِ وُجُودُ الْأَقَلِّ لَا وُجُودُ الْأَكْثَرِ وَلَوْ كَانَ هَذَا التَّعْلِيلُ صَحِيحًا لَكَانَ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ تَحْدِيدِ أَقَلِّهِ بِالثَّلَاثِ أَصَحُّ، لِأَنَّهُ أَزْيَدُ عِلْمًا وَأَحْسَبُ الْمُزَنِيَّ لَمْ يَزِدْ مَا تَوَهَّمَهُ

(11/178)


أَصْحَابُنَا مِنْ زِيَادَةِ الْعِلْمِ بِالْوُجُودِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ زِيَادَةَ الْعِلْمِ بِالنَّقْلِ عَنِ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّهُ مِمَّنْ لَا يَخِيلُ عَلَيْهِ مِثْلُ هَذَا فَيُنْسَبَ إِلَيْهِ والله أعلم.

(مسألة)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّ طُهْرَ امْرَأَةٍ أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ جَعَلْنَا الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلَهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ أَقَلَّ الطُّهْرَيْنِ الْحَيْضَتَيْنِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا اعْتِبَارًا بِأَقَلِّ الْوُجُودِ الْمُعْتَادِ، لِأَنَّ مَا لَمْ يَتَقَدَّرْ بِالشَّرْعِ وَاللُّغَةِ تَقَدَّرَ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ كَالْقَبْضِ وَالتَّفَرُّقِ، فَلَوْ وَجَدْنَا طُهْرًا مُعْتَادًا كَانَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا انْتَقَلْنَا إِلَيْهِ وَعُمِلَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ يَكُونُ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَتَكَرَّرَ طُهْرُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ مِرَارًا مُتَوَالِيَةً أَقَلُّهَا ثلاث مرارا مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ وَلَا عَارِضٍ، فَإِنْ تَفَرَّقَ وَلَمْ يَصِرْ عَادَةً.
وَإِمَّا بِأَنْ يُوجَدَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ جَمَاعَةِ نِسَاءٍ أَقَلُّهُنَّ ثَلَاثُ نِسْوَةٍ، وهل يراعى أن تكون ذَلِكَ فِي فَصْلٍ وَاحِدٍ مِنْ عَامٍ وَاحِدٍ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُرَاعَى وُجُودُ ذَلِكَ مِنْهُنَّ فِي فَصْلٍ وَاحِدٍ مِنْ عَامٍ وَاحِدٍ، فَإِنِ اتُّفِقَ عَلَيْهِ فِي فَصْلَيْنِ مَنْ عَامٍ وَاحِدٍ أَوْ فَصْلٍ وَاحِدٍ مِنْ عَامَيْنِ لَمْ يَصِرْ عَادَةً مُعْتَبَرَةً لِيَكُونَ اخْتِلَافُ طِبَاعِهِنَّ مع اتفاق زمانهن شاهد عَلَى صِحَّةِ الْعَادَةِ احْتِيَاطًا لَهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَإِنِ اخْتَلَفَ فِي الْفُصُولِ وَالْأَعْوَامِ جَازَ وَصَارَ عَادَةً لِيَكُونَ أَنْفَى لِلتَّوَاطُؤِ وَأَبْعَدَ مِنَ التُّهْمَةِ وَلَا يُقْبَلُ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ نِسَاءٍ ثِقَاتٍ تَجُوزُ شَهَادَتُهُنَّ لِمَا فِيهِ مِنْ إِثْبَاتِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَلَا يُقْبَلُ خبر المعتدة معهن في حق نفسها لتوحه التُّهْمَةِ إِلَيْهَا وَفِي قَبُولِهَا فِي حَقِّ غَيْرِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ لِرَدِّهِ بِالتُّهْمَةِ.
وَالثَّانِي: لَا تُقْبَلُ، لِأَنَّهَا ثِقَةٌ فَإِذَا انْتَقَلْنَا فِي أَقَلِّ الطُّهْرِ عَنِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ إِلَى مَا هو أقل في أحد الوجهين المذكورين واعدت الْمُعْتَدَّةُ انْقِضَاءَ عَدَّتِهَا بِالطُّهْرِ الْأَقَلِّ قُبِلَ قَوْلُهَا فيما نقض عَنْهَا وَإِلَى وَقْتِنَا مِنْ هَذَا الزَّمَانِ لَمْ يستمر طهر نقضي عنها فلا تقبل فِيهِ قَوْلٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا مُعْتَدَّةً - والله أعلم -. مسألة: قال الشافعي: " وَكَذَلِكَ تُصَدَّقُ عَلَى الصِّدْقِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ: إِذَا ادَّعَتِ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ بِالسَّقْطِ كَانَ قَوْلُهَا مَقْبُولًا إِذَا أَمْكَنَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ}

(11/179)


[البقرة: 228] . وَإِمْكَانُهُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ ثَمَانِينَ يَوْمًا مِنْ وَطْئِهِ وَإِنَّمَا اعْتُبِرَ بِالثَّمَانِينَ، لِأَنَّ أَقَلَّ حَمْلٍ يَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ أَنْ يَكُونَ مُضْغَةً مُخَلَّقَةً.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيُخْلَقُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ نُطْفَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَلَا يَقَعُ الِاعْتِدَادُ بِإِسْقَاطِهِ قَبْلَ الثَّمَانِينَ، وَقُبِلَ قَوْلُهَا بَعْدَهَا، وَلَا يَلْزَمُهَا إِحْضَارُ السَّقْطِ لِأَنَّهَا لَوْ أَحْضَرَتْهُ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مِنْهَا إِلَّا بِقَوْلِهَا.
فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ فَادَّعَتِ انْقِضَاءَ عَدَّتِهَا، وَأَكْذَبَهَا الزَّوْجُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ دُونَهَا، لِأَنَّ الشُّهُورَ مُقَدَّرَةٌ بِالشَّرْعِ وَالْحَلِفُ فِيهَا إِنَّمَا هُوَ حَلِفٌ فِي زَمَانِ الطَّلَاقِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي زَمَانِ طَلَاقِهِ كَمَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي أَصْلِ الطَّلَاقِ.

(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي: " وَلَوْ رَأَتِ الدَّمَ فِي الثَّالِثَةِ دَفْعَةً ثُمَّ ارْتَفَعَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً أَوْ أَكْثَرَ فَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ الَّذِي رَأَتْ فِيهِ الدَّفْعَةَ فِي أَيَّامِ حَيْضِهَا وَرَأَتْ صُفْرَةً أَوْ كُدْرَةً أَوْ لَمْ تَرَ طُهْرًا حَتَّى يُكْمِلَ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَهُوَ حَيْضٌ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْحَيْضِ فَكَذَلِكَ إِذَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ رؤيتها الدم والحيض قبله قدر طهر وإن رأت الدم أقل من يوم وليلة لم يكن حيضاً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَةِ فِي الطُّهْرِ تَنْقَضِي بِدُخُولِهَا فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، وَالْمُطَلَّقَةُ فِي الْحَيْضِ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِدُخُولِهَا فِي الْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ فَوَصَفَ الشَّافِعِيُّ حَالَ الْحَيْضَةِ الْأَخِيرَةِ لتعلق انقضاء المدة بها، فإذا رأت يوم الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ بَعْدَ الطُّهْرِ الثَّالِثِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي أَيَّامِ الْعَادَةِ، أَوْ يَكُونَ فِي غَيْرِهَا، فَإِنْ كَانَ فِي أَيَّامِ الْعَادَةِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَّصِلَ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَيَكُونُ حَيْضًا سَوَاءٌ بَلَغَ قَدْرَ عَادَتِهَا مِنَ الْحَيْضِ أَوْ نَقَصَ عَنْهَا، لِأَنَّ الْحَيْضَ قَدْ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَسَوَاءٌ كَانَ الدَّمُ أَسْوَدَ أَوْ كَانَ صُفْرَةً أَوْ كُدْرَةً لِأَنَّ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ فِي أَيَّامِ الْعَادَةِ حَيْضٌ بِإِجْمَاعِ أَصْحَابِنَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِدُخُولِهَا فِي هَذَا الْحَيْضِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الْمَذْهَبِ فِيهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَنْقَطِعَ لِأَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَّصِلَ الطُّهْرُ الَّذِي بَعْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الدَّمُ

(11/180)


النَّاقِصُ عَنِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ حَيْضًا لِنُقْصَانِهِ عَنْ أَقَلِّ الْحَيْضِ وَيَكُونُ دَمَ فَسَادٍ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الطُّهْرِ فِي بَقَاءِ الْعِدَّةِ، وَيَكُونُ مَا بَعْدَهُ مِنَ الطُّهْرِ مُضَافًا إِلَى الطُّهْرِ الْأَوَّلِ وَجَمِيعُهُمَا طُهْرٌ وَاحِدٌ وَيَكُونُ مَا بَعْدَهُ مِنَ الدَّمِ الْمُسْتَقْبَلِ هُوَ الْحَيْضَ الَّذِي تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ إِذَا اتَصَلَ يَوْمًا وَلَيْلَةً.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أن لا يتصل الطهر الذي يعده خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا حَتَّى يُرَى الدَّمُ فَيُلَفَّقُ بَيْنَ الدَّمَيْنِ إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَإِنِ اسْتَكْمَلَ يَوْمًا وَلَيْلَةً كَانَ الْأَوَّلُ حَيْضًا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ، وَإِنْ لَمْ تَسْتَكْمِلْ بِالتَّلْفِيقِ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَلَيْسَ بِحَيْضٍ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ فِي الْعِدَّةِ.

(فَصْلٌ)
وَإِنْ رَأَتِ الدَّمَ فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْعَادَةِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَرَاهُ قَبْلَ اسْتِكْمَالِ الطُّهْرِ الْأَخِيرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَلَا يَكُونُ حَيْضًا لِوُجُودِهِ قَبْلَ اسْتِكْمَالِ الطُّهْرِ وَسَوَاءٌ اتَّصَلَ يَوْمًا وليلة أن انْقَطَعَ لِأَقَلَّ مِنْهَا، وَيَكُونُ دَمَ فَسَادٍ وَهِيَ بَاقِيَةٌ فِي الْعِدَّةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَرَاهُ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الطُّهْرِ الْأَخِيرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَّصِلَ الدَّمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَيُنْظَرُ فِي صِفَةِ الدَّمِ فَإِنْ كَانَ أَسْوَدَ فَهُوَ حَتَّى يَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ، وَإِنْ كَانَ صُفْرَةً أَوْ كُدْرَةً فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَمَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا أَنْ يَكُونَ حَيْضًا، لِأَنَّهُ قَالَ: وَالصُّفْرَةُ وَالْكُدْرَةُ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ حَيْضٌ فَحَمَلَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَيَّامِ الْإِمْكَانِ.
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: لَا يَكُونُ الصُّفْرَةُ وَالْكُدْرَةُ فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْعَادَةِ حَيْضًا، وَحَمَلَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ: وَالصُّفْرَةُ وَالْكُدْرَةُ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ حَيْضٌ عَلَى أَيَّامِ الْعَادَةِ، لِأَنَّهُ إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ صِفَةِ الْحَيْضِ وَخَرَجَ عَنْ زَمَانِهِ كَانَ قَاصِرًا وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَدْ كُنْتُ أَذْهَبُ إِلَى هَذَا حَتَّى رأيت للشافعي نصاً يسوي كُنَّا نُعِدُّ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ فِي أَيَّامِ ألْحَيْضِ حيضاً، وإن كان هذا القول يتحمل الْأَمْرَيْنِ غَيْرَ أَنَّ نَصَّ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَمْنَعُ مِنْ تَأْوِيلِ مَذْهَبِهِ عَلَى غَيْرِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ وَيَصِيرُ ذَلِكَ مَذْهَبًا لِقَائِلِهِ.
(فَصْلٌ)
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَنْقَطِعَ دَمُهَا لِأَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَيُعْتَبَرُ مَا بَعْدَهُ مِنَ الطُّهْرِ فَإِنِ اتَّصَلَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَهَذَا الدَّمُ لِنُقْصَانِهِ عَنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دَمُ فساد وما بعده من

(11/181)


الطهر متصلاً بِالَّذِي قَبْلَهُ وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا حَتَّى تَرَى دَمَ الْحَيْضِ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ طُهْرِهَا، وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلِ الطُّهْرُ الَّذِي بَعْدَ هَذَا الدَّمِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا حَتَّى رَأَتْ دَمًا آخَرَ رُوعِيَ حَالُ الدَّمِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلِ الطُّهْرُ الَّذِي بَعْدَهُ هَذَا الدَّمُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا حَتَّى رَأَتْ دَمًا آخَرَ رُوعِيَ حَالُ الدَّمِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ كَانَ أَسْوَدَ لُفِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّمِ الثَّانِي، فَإِذَا اسْتَكْمَلَا يَوْمًا وَلَيْلَةً بِالتَّلْفِيقِ صَارَ الدَّمُ الْأَوَّلُ مَعَ الثَّانِي حَيْضًا، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِرُؤْيَةِ الدَّمِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ صُفْرَةً أَوْ كُدْرَةً فَعَلَى قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ لَيْسَ بِحَيْضٍ لِوُجُودِهِ فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْعَادَةِ، وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِرُؤْيَةِ الدَّمِ الثَّانِي إِذَا اتَّصَلَ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَعَلَى قَوْلِ سَائِرِ أَصْحَابِنَا فِي الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ أَنَّهَا حَيْضٌ فِي أَيَّامِ الْعَادَةِ وَغَيْرِهَا يَعْتَبِرُونَ حَالَ الثَّانِي، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ صُفْرَةً أَوْ كُدْرَةً كَانَ الْأَوَّلُ مَعَ الثَّانِي حَيْضًا إِذَا تَلَفَّقَا يَوْمًا وَلَيْلَةً وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِرُؤْيَةِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَسْوَدَ فَفِي الْأَوَّلِ مِنَ الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ لَهُمْ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - يَكُونُ حَيْضًا، وَيُسَوِّي بَيْنَ حُكْمِ الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ فِي تَقَدُّمِهَا عَلَى الدَّمِ وَتَأَخُّرِهَا عَنْهُ لِوُجُودِهَا فِي زَمَانِ الْإِمْكَانِ، وَيَجْعَلُ عِدَّتَهَا مُنْقَضِيَةً بِرُؤْيَةِ الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ - أَنَّ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ إِذَا تَقَدَّمَتْ عَلَى الدَّمِ لَمْ يَكُنْ حَيْضًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ حَيْضًا إِذَا تَأَخَّرَتْ عَنْهُ، لِأَنَّ الدَّمَ الْأَسْوَدَ أَقْوَى وَالصُّفْرَةَ أَضْعَفُ وَأَوَّلَ الْحَيْضِ أَقْوَى، وَآخِرَهُ أَضْعَفُ، فَإِذَا صَادَفَتِ الصُّفْرَةُ بِالتَّأْخِيرِ زَمَانَ الضَّعْفِ وَافَقَهُ فَكَانَ حَيْضًا، فَإِذَا صَادَفَ بِالتَّقَدُّمِ زَمَانَ الْقُوَّةِ خَالَفَهُ فَلَمْ يَكُنْ حَيْضًا، وَيَكُونُ انْقِضَاءُ عِدَّتِهَا بِالدَّمِ الثَّانِي دُونَ الصُّفْرَةِ الْأُولَى.

(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: " ولو طبق عليها فإن كان دمها ينفصل فيكون فِي أَيَّامٍ أَحْمَرَ قَانِئًا مُحْتَدِمًا كَثِيرًا وَفِي أَيَّامٍ بَعْدَهُ رَقِيقًا إِلَى الصُّفْرَةِ فَحَيْضُهَا أَيَّامَ المحتدم الكثير وطهرها أيام الرقيق القليل إلى الصفرة وإن كان مشتبها كان حيضها بقدر أيام حيضها فيما مضى قبل الاستحاضة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا طَبَقَ فَاتَّصَلَ دَمُ الْحَيْضِ بِدَمِ الِاسْتِحَاضَةِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لَهَا تَمْيِيزٌ وَلَيْسَ لَهَا عَادَةٌ، فَهَذِهِ تُرَدُّ إِلَى تَمْيِيزِهَا لِدَمِهَا فَمَا كَانَ مِنْهُ مُحْتَدِمًا ثَخِينًا فَهُوَ حَيْضٌ إِذَا بَلَغَ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَلَمْ يَزِدْ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَإِنْ طُلِّقَتْ فِيهِ كَانَ طَلَاقَ بِدْعَةٍ وَإِنْ رَأَتْهُ بَعْدَ الطُّهْرِ الثَّالِثِ انْقَضَتْ بِهِ الْعِدَّةُ، وَمَا كَانَ مِنْهُ

(11/182)


أَصْفَرَ رَقِيقًا فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ تَجْرِي عَلَيْهِ فِي الْعِدَّةِ حُكْمُ الطُّهْرِ، فَإِنْ طُلِّقَتْ فِيهِ كَانَ طَلَاقَ سُنَّةٍ وَاعْتَدَّتْ بِهِ قُرْءًا، وَإِذَا رَأَتْهُ بَعْدَ الطُّهْرِ الثَّالِثِ لَمْ تَنْقَضِ بِهِ الْعِدَّةُ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَهَا عَادَةٌ وَلَيْسَ لَهَا تَمْيِيزٌ، لِأَنَّ دَمَهَا كَاللَّوْنِ الْوَاحِدِ إِمَّا عَلَى صِفَةِ الْحَيْضِ ثَخِينٌ مُحْتَدِمٌ وَإِمَّا عَلَى صِفَةِ الِاسْتِحَاضَةِ أَصْفَرُ رَقِيقٌ، فَهَذِهِ تُرَدُّ إِلَى عَادَتِهَا فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَيْضِهَا فَإِنْ كَانَتْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ حِيضَتْ عَشْرًا، وَكَانَ مَا سِوَاهَا طُهْرًا، وَإِنْ طُلِّقَتْ فِي الْعَشْرِ كَانَ طَلَاقَ بِدْعَةٍ وَلَمْ يُعْتَدَّ بِهَا قُرْءًا وَانْقَضَتْ بِدُخُولِهَا فِي الْعَشْرِ الثَّالِثِ الْعِدَّةُ، وَإِنْ طُلِّقَتْ بَعْدَ الْعَشْرِ كَانَ طَلَاقَ سُنَّةٍ وَاعْتَدَّتْ بِهِ قُرْءًا، وَلَمْ يَنْقَضِ بِهِ فِي الْعَشْرِ الثَّالِثِ الْعِدَّةُ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُجْمَعَ لَهَا تَمْيِيزٌ وَعَادَةٌ فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مَعَ اخْتِلَافِ حُكْمِهِمَا غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَفِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ - يَغْلِبُ حُكْمُ التَّمْيِيزِ عَلَى الْعَادَةِ، لِأَنَّ التَّمْيِيزَ دَلَالَةٌ فِي الْحَيْضِ الْمُشْكِلِ، وَالْعَادَةُ لَا دَلَالَةَ فِي غَيْرِ الْمُشْكِلِ فَيَكُونُ حُكْمُ الْمُمَيِّزَةِ عَلَى مَا مَضَى.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ - يَغْلِبُ حُكْمُ الْعَادَةِ عَلَى التَّمْيِيزِ لِتَكَرُّرِهَا فَيَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ الْمُعْتَادَةِ عَلَى مَا مَضَى.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا تَمْيِيزٌ وَلَا عَادَةٌ وَهِيَ إِمَّا مُبْتَدَأَةٌ أَوْ نَاسِيَةٌ.

(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: " وَإِنِ ابْتَدَأَتْ مُسْتَحَاضَةً أَوْ نَسِيَتْ أَيَّامَ حَيْضِهَا تَرَكَتِ الصَّلَاةَ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَاسْتَقْبَلْنَا بِهَا الْحَيْضَ مِنْ أَوَّلِ هِلَالٍ يَأْتِي عَلَيْهَا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فَإِذَا أَهَلَّ الْهِلَالُ الرَّابِعُ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى الْقِسْمِ الرَّابِعِ مِنْ أَقْسَامِ الْحَيْضِ الَّتِي لَا تَمْيِيزَ لَهُ وَلَا عَادَةَ وَهِيَ امْرَأَتَانِ مُبْتَدَأَةٌ، وَنَاسِيَةٌ.
فَأَمَّا الْمُبْتَدَأَةُ إِذَا طَبَقَ عَلَيْهَا الدَّمُ وَلَمْ تُمَيِّزْ فَفِي مَا تُرَدُّ إِلَيْهِ مِنْ قَدْرِ الْحَيْضِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَوْمًا وَلَيْلَةً، لِأَنَّهُ الْيَقِينُ.
وَالثَّانِي: سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، لِأَنَّهُ أَغْلَبُ، فَأَمَّا الْعِدَّةُ فَلَا يَخْلُو حَالُ طَلَاقِهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الدَّمِ أَوْ قَبْلَهُ، وَإِنْ كَانَ فِي الدَّمِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ فَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ كَامِلَةٍ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ عَادَةِ النِّسَاءِ أَنْ يَحِضْنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً فَيَكُونُ كُلُّ شَهْرَيْنِ مِنْ شُهُورِهَا يَجْمَعُ

(11/183)


حَيْضًا وَطُهْرًا، فَإِذَا حَاضَتْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ مَضَى لَهَا ثَلَاثَةُ أَطْهَارٍ وَثَلَاثُ حِيَضٍ لِتَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ، وَإِنَّمَا كَانَ الْأَغْلَبُ مُعْتَبَرًا لأمرين:
أحدهما: أن الأغلب محصور.
والثاني: غَيْرُ مَحْصُورٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ التَّأْكِيدَ يَتَقَابَلُ فِيهِ الْأَقَلُّ وَالْأَكْثَرُ فَغَلَبَ فِيهِ حُكْمُ الْأَغْلَبِ، فَإِذَا صَحَّ انْقِضَاءُ عَدَّتِهَا بِاسْتِكْمَالِ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ طلاقها فقد حكى المزني ها هنا وَفِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ " فَإِذَا أَهَلَّ الْهِلَالُ الرَّابِعُ فَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا " وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا وَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا الْمُزَنِيُّ عَدَّ الهلال الذي طلقت فيه مع رويته لِاتِّصَالِهِ بِالْعِدَّةِ فَجَعَلَ الْعِدَّةَ مُنْقَضِيَةً إِذَا أَهَلَّ الْهِلَالُ الرَّابِعُ، وَالرَّبِيعُ لَمْ يَعُدَّ الْهِلَالَ الْأَوَّلَ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بَعْدَهُ فَصَارَ الْهِلَالُ الَّذِي انْقَضَتْ بِهِ الْعِدَّةُ ثَالِثًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُطَلِّقَ بَعْدَ أَنْ مَضَى بَعْضُ الشَّهْرِ، وَبَقِيَ بَعْضُهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْبَاقِي مِنْ شَهْرِهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ هَلْ يُعْتَدُّ بِهِ قُرْءًا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُعْتَدُّ بِبَاقِيهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا حَتَّى يُسْتَكْمَلَ بَعْدَهُ بِالشَّهْرِ فَتَصِيرُ عِدَّتُهَا مُنْقَضِيَةً بِالْهِلَالِ الرَّابِعِ، وَحَمَلُوا نَقْلَ الْمُزَنِيِّ عَلَى هَذَا وَنَسَبُوا إِلَيْهِ قَوْلَ هَذَا الْوَجْهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَاخْتَارَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ - أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِبَقِيَّةِ الشَّهْرِ قُرْءًا، لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْأَغْلَبِ فِي الشَّهْرِ أَنَّهُ يَجْمَعُ حَيْضًا وَطُهْرًا يَقْتَضِي تَغْلِيبَ الْحَيْضِ فِي أَوَّلِهِ وَالطُّهْرَ فِي آخِرِهِ فَيَصِيرُ الطَّلَاقُ الْأَخِيرُ طَلَاقًا فِي الطُّهْرِ فَاعْتَدَّتْ بِهِ قُرْءًا وَتَصِيرُ عِدَّتُهَا مُنْقَضِيَةً بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ الثَّالِثِ، وَحَمَلُوا نَقْلَ الرَّبِيعِ عَلَى هَذَا وَنَسَبُوا إِلَيْهِ هَذَا الْوَجْهَ.
وَأَمَّا إِذَا طُلِّقَتِ الْمُبْتَدَأَةُ فِي الطُّهْرِ قَبْلَ رُؤْيَةِ الدَّمِ ثُمَّ رَأَتِ الدَّمَ فِي شَهْرِهَا فَفِي اعْتِدَادِهَا بِمَا مَضَى مِنْ طُهْرِهَا قُرْءًا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يُعْتَدُّ بِهِ قُرْءًا لِكَوْنِهِ طُهْرًا فَإِنَّمَا اسْتُكْمِلَ شَهْرَيْنِ بَعْدَهُ مَعَ اتِّصَالِ الدَّمِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مَعَ انْقِضَائِهَا بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ الثَّالِثِ.
وَالْوَجْهُ الثاني: وهي مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ قُرْءًا لِأَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الطُّهْرُ مِنَ الْحَيْضَتَيْنِ يَتَقَدَّمُهُ أَحَدُهُمَا وَيَتَعَقَّبُهُ الْآخَرُ فَعَلَى هَذَا يُعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مِنْ بَعْدِ رُؤْيَةِ الدَّمِ وَلَا يُحْتَسَبُ بِمَا بَقِيَ مِنَ الطُّهْرِ وَسَوَاءٌ كَانَ الدَّمُ فِي أَوَّلِ شَهْرٍ أَوْ فِي تَضَاعِيفِهِ، لِأَنَّ أَوَّلَ الدَّمِ هُوَ الْحَيْضُ يَقِينًا، فَلِذَلِكَ احْتُسِبَ بِأَوَّلِ شُهُورِ الْإِقْرَاءِ مِنْ وَقْتِ رؤيته.

(11/184)


(فصل)
وما النَّاسِيَةُ فَعَلَى ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ نَاسِيَةً لِقَدْرِ حَيْضَتِهَا ذَاكِرَةً لِوَقْتِهِ وَهُوَ أَنْ تَقُولَ أَعْلَمُ أَنَّ لِي فِي كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً، إِمَّا نَاسِيَةٌ لِقَدْرِهَا فَفِي مَا تَرُدُّ إِلَيْهِ مِنْ قَدْرِ الْحَيْضِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَوْمًا وَلَيْلَةٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: سِتَّةُ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةُ أَيَّامٍ، فَإِنْ طُلِّقَتْ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ كَامِلَةٍ، وَكَانَ طَلَاقُهَا فِي أَوَّلِهِ طلاق بدعة، وإن طلقت في تضاعيفه اعتدت بثلاثة أشهر كوامل، وَكَانَ طَلَاقُهَا فِي أَوَّلِهِ طَلَاقَ بِدَعَةٍ، فَإِنْ طُلِّقَتْ فِي تَضَاعِيفِهِ اعْتَدَّتْ بِبَاقِيهِ قُرْءًا وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّهَا قَدْ تَيَقَّنَتْ وُجُودَ حَيْضِهَا فِي أَوَّلِهِ فَصَارَ بَاقِيهِ طُهْرًا يَقِينًا فَلِذَلِكَ اعْتَدَّتْ بِهِ قُرْءًا، فَإِذَا مَضَى بَعْدَهُ شَهْرَانِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ الثَّالِثِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ نَاسِيَةً لِوَقْتِ حَيْضِهَا ذَاكِرَةً لِقَدْرِهِ، وَهِيَ أَنْ تَقُولَ: أَعْلَمُ أَنَّ حِيضَتِي فِي كُلِّ شهر عشر أَيَّامٍ، وَنَسِيتُ وَقْتَهَا مِنَ الشَّهْرِ هَلْ كَانَتْ فِي أَوَّلِهِ أَوْ وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ؟ فَهَذِهِ ينظر في الباقي في شَهْرِهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ احْتُسِبَ بِبَقِيَّةِ الشَّهْرِ قُرْءًا لِوُجُودِ الطُّهْرِ فِي بَقِيَّتِهِ، فَإِذَا مَضَى عَلَيْهَا بَعْدَ بَقِيَّةِ شَهْرِهَا وَرَأَتِ الْهِلَالَ الثَّالِثَ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْ شَهْرِهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ فَمَا دُونَ لَمْ تَعْتَدَّ بِبَقِيَّةِ الشَّهْرِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا وَاسْتَقْبَلَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ شَهْرِهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ كَامِلَةً، فَإِذَا أَهَلَّ الْهِلَالُ الرَّابِعُ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا.
وَلَوْ قَالَتْ: أَعْلَمُ أَنِّي أَحِيضُ فِي كُلِّ شَهْرَيْنِ حَيْضَةً انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَلَوْ قَالَتْ: أَحِيضُ فِي كل أربعة أَشْهُرٍ حَيْضَةً انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَلَوْ قَالَتْ: أَحِيضُ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ حَيْضَةً انقضت عدتها ستة تَجْمَعُ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ، ثُمَّ عَلَى قياس ما قدمناه ما اعْتِدَادِهَا بِبَقِيَّةِ شَهْرِ الطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الْحَيْضِ وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ أَوْ أَقَلَّ لَمْ تَعْتَدَّ بِبَقِيَّتِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ نَاسِيَةً لِقَدْرِ حَيْضَتِهَا وَوَقْتِهِ فَلَا تَعْلَمُ هَلْ كَانَ حَيْضُهَا يَوْمًا أَوْ عَشْرًا وَهَلْ كَانَ فِي كُلِّ شَهْرٍ، أَوْ شُهُورٍ، أَوْ فِي كُلِّ سَنَةٍ، أَوْ سَنَتَيْنِ؟ فَهَذِهِ هِيَ الْمُتَحَيِّرَةُ وَحُكْمُهَا فِي الْعِبَادَاتِ قَدْ مَضَى.
فَأَمَّا حُكْمُهَا فِي الْعِدَّةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا كَالْمُبْتَدَأَةِ تَحِيضُ فِي كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَعَلَى هَذَا تَحِيضُ فِي كُلِّ شَهْرٍ وَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ فَإِنْ طُلِّقَتْ فِي شَهْرٍ قَدْ بَقِيَ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ اعْتَدَّتْ بِبَقِيَّتِهِ قُرْءًا ثُمَّ شَهْرَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْهُ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَمَا دُونَ لَمْ يُعْتَدَّ بِبَقِيَّتِهِ يَجُوزُ ان

(11/185)


يَكُونُ حَيْضًا، وَاسْتَقْبَلَتْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ كَامِلَةً.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَحِيضُ سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ طُلِّقَتْ فِي شَهْرٍ قَدْ بَقِيَ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ سِتَّةِ أَوْ سَبْعَةِ أَيَّامٍ اعْتَدَّتْ بِبَقِيَّتِهِ قُرْءًا، وَإِنْ بَقِيَ مِنْهُ هَذَا الْقَدْرُ فَمَا دُونَ لَمْ تَعْتَدَّ بِبَقِيَّتِهِ فَهَذَا حُكْمُ قَوْلِهِ: أَنْ يُجْعَلَ لَهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ أَمْرَهَا مُشْكِلٌ وَكُلَّ زَمَانِهَا شَكٌّ وَلَا يُحْكَمُ لَهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ بِحَيْضٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِي أَكْثَرَ مِنْهُ فَعَلَى هَذَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ كَامِلَةٍ مِنْ وَقْتِ طَلَاقِهَا سَوَاءٌ كَانَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ أَوْ تَضَاعِيفِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] . وَهَذِهِ مُرْتَابَةٌ فَتَكُونُ عِدَّتُهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ غَيْرَ أَنَّهَا تَكُونُ شُهُورَ إِقْرَاءٍ لَا شُهُورَ إِيَاسٍ، وَفِي هَذَا الْحُكْمِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ دَخَلَتْ لَوْلَا الضَّرُورَةُ الدَّاعِيَةُ إِلَى إِمْضَائِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهَا تَعْتَدُّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ تَارَةً بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَتَارَةً بِأَكْثَرَ مِنْهَا، وَتَعْتَدُّ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ لَا تَزِيدُ عَلَيْهَا وَلَا تنقص - والله أعلم -.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: " وَلَوْ كَانَتْ تَحِيضُ يَوْمًا وَتَطْهُرُ يَوْمًا وَنَحْوُ ذَلِكَ جُعِلَتْ عِدَّتُهَا تَنْقَضِي بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَذَلِكَ الْمَعْرُوفُ مِنْ أَمْرِ النِّسَاءِ أَنَّهُنَّ يَحِضْنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً فَلَا أَجِدُ مَعْنًى أَوْلَى بِعِدَّتِهَا مِنَ الشُّهُورِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا رَأَتِ الْمَرْأَةُ يَوْمًا دَمًا وَيَوْمًا نَقَاءً، وَاسْتَدَامَ ذَلِكَ بِهَا فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُسْتَحَاضَةٌ فِي أَيَّامِ الدَّمِ وَأَيَّامِ النَّقَاءِ، وَيَكُونُ حُكْمُهَا كَالَّتِي طَبَقَ بِهَا الدَّمُ وَاسْتَمَرَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا تُلَفِّقُ أَيَّامَ الدَّمِ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، وَأَيَّامَ النَّقَاءِ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ فَتُلَفِّقُ لَهَا مِنَ الشَّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا دَمًا وَهِيَ أَكْثَرُ الحيض، وخمسة عشر يوماً أَيَّامِ الدَّمِ كَانَ طَلَاقَ بِدْعَةٍ، وَإِنْ طُلِّقَتْ فِي أَيَّامِ النَّقَاءِ كَانَ طَلَاقَ سُنَّةٍ، وَهَذَا إِنْ عَدِمَتِ التَّمْيِيزَ وَالْعَادَةَ وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، لِأَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ أَحْوَالِ النِّسَاءِ أَنْ تَحِيضَ فِي كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً فَأُجْرِيَ عَلَيْهَا حُكْمُ الْأَغْلَبِ مِنْ أَحْوَالِهِنَّ، وَيَكُونُ اخْتِلَافُ الْقَوْلَيْنِ فِي التَّلْفِيقِ مُؤَثِّرًا فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا بِالتَّلْفِيقِ، يَكُونُ لَهَا حَيْضٌ وَطُهْرٌ وَلَا تَكُونُ مُسْتَحَاضَةً، وَإِذَا لَمْ تُلَفِّقْ كَانَتْ مُسْتَحَاضَةً.

(11/186)


وَالثَّانِي: أَنَّ قَدْرَ حَيْضِهَا يَكُونُ مُخْتَلِفًا فَيَكُونُ حَيْضُهَا بِالتَّلْفِيقِ فِي كُلِّ شَهْرٍ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَإِذَا لَمْ تُلَفِّقْ فَفِي قَدْرِ مَا تَرُدُّ إِلَيْهِ مِنَ الْحَيْضِ فِي كُلِّ شَهْرٍ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: سِتَّةُ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةُ أَيَّامٍ فَإِنْ رَدَّتْ إِلَى السِّتَّةِ أَيَّامٍ كَانَ حَيْضُهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ، لِأَنَّهَا فِي السَّادِسِ فِي طُهْرٍ لَمْ يَتَّصِلْ بِدَمِ الْحَيْضِ، وَإِنْ رَدَّتْ إِلَى سَبْعَةِ أَيَّامٍ كَانَ جَمِيعُهَا حَيْضًا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ حَيْضَهَا فِي التَّلْفِيقِ يَكُونُ مُتَفَرِّقًا وَكَذَلِكَ طُهْرُهَا، وَإِنْ لَمْ تُلَفِّقْ كَانَ مُجْمَعًا، وَأَمَّا الْعِدَّةُ فَتَقَارَبَ الْقَوْلَانِ فِيهِمَا وإن كان بينهما فرق تقدم ذكره يكون انْقِضَاؤُهَا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَقَدْ مَضَى مِنَ التَّلْفِيقِ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ مَا أَغْنَى مِنْ إِعَادَتِهِ.

(مسألة)
قال الشافعي: " وَلَوْ تَبَاعَدَ حَيْضُهَا فَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْحَيْضِ حَتَّى تَبْلُغَ السِّنَ الَّتِي مَنْ بَلَغَهَا لَمْ تَحِضْ بَعْدَهَا مِنَ الْمُؤَيَّسَاتِ اللَّاتِي جَعَلَ اللَّهُ عدتهن ثلاثة أشهر فاستقبلت ثلاثة أشهر. وقد روي عن ابن مسعود وغيره مثل هذا وهو يشبه ظاهر القرآن وقال عثمان لعلي وزيد في امرأة حبان بن منقذ طلقها وهو صحيح وهي ترضع فأقامت تسعة عشرة شهراً لا تحيض ثم مرض: ما تريان؟ قالا نرى أنها ترثه إن مات وَيَرِثُهَا إِنْ مَاتَتْ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْقَوَاعِدِ اللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ وَلَيْسَتْ مِنَ الْأَبْكَارِ اللَّاتِي لَمْ يَبْلُغْنَ الْمَحِيضَ ثُمَّ هِيَ عَلَى عدة حَيْضِهَا مَا كَانَ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ فَرَجَعَ حبان إلى أهله فاخذ ابنته فلما فقدت الرَّضَاعَ حَاضَتْ حَيْضَتَيْنِ ثُمَّ تُوُفِّيَ حِبَّانُ قَبْلَ الثالثة فاعتدت عدة المتوفى عنها وورثته. وقال عطاء كما قال الله تعالى إذا يئست اعتدت ثلاثة اشهر (قال الشافعي) رحمه الله: في قول عمر رضي الله عنه في التي رفعتها حيضتها تنتظر تسعة أشهر فإن بان بها حمل فذلك وإلا اعتدت بعد التسعة ثلاثة أشهر ثم حلت يحتمل قوله قد بلغت السن التي من بلغها من نسائها يئسن فلا يكون مخالفا لقول ابن مسعود رضي الله عنه وذلك وجه عندنا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ لِلْمُعْتَدَّةِ إِذَا تَأَخَّرَ حَيْضُهَا قَبْلَ وَقْتِ الْإِيَاسِ حَالَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِسَبَبٍ مَعْرُوفٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ رَضَاعٍ فَتَكُونَ بَاقِيَةً فِي عِدَّتِهَا، وَإِنْ تَطَاوَلَتْ مُدَّتُهَا حتى يعاودها الحيض فتعد بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ رُوِيَ أَنَّ حِبَّانَ بْنَ مُنْقِذٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ تُرْضِعُ فَأَقَامَتْ تِسْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا لَا تَحِيضُ ثُمَّ مَرِضَ حِبَّانُ فَقَالَ عُثْمَانُ لِعَلِيٍّ وَزَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - مَا تَرَيَانِ فِي امْرَأَةِ حِبَّانَ فَقَالَا: نَرَى أَنَّهَا تَرِثُهُ وَيَرِثُهَا إِنْ

(11/187)


مَاتَتْ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْقَوَاعِدِ اللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ وَلَيْسَتْ مِنَ الْأَبْكَارِ اللَّاتِي لَمْ يَبْلُغْنَ الْمَحِيضَ ثُمَّ هِيَ عَلَى حَيْضِهَا مَا كَانَ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ فَرَجَعَ حِبَّانُ إِلَى أَهْلِهِ وَأَخَذَ بِنْتَهُ فَلَمَّا فَصَلَتِ الرَّضَاعَ حَاضَتْ حيضتين ثم توفي حبان قبل الثلاثة فَاعْتَدَّتْ عِدَّةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَوَرِثَتْهُ.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ تَأَخُّرُ حَيْضِهَا بِغَيْرِ سَبَبٍ يُعْرَفُ فَفِيمَا تَعْتَدُّ بِهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ومذهب مالك - رحمه الله - أَنَّهَا تَمْكُثُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ تَتَرَبَّصُ بِنَفْسِهَا مُدَّةَ غَالِبِ الْحَمْلِ، فَإِذَا انْقَضَتْ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ وَهِيَ غَيْرُ مُسْتَرِيبَةٍ اعْتَدَّتْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ عِدَّةَ الطَّلَاقِ، وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ بِإِيَاسِهَا لِأَنَّ الْعِدَّةَ مَوْضُوعَةٌ لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ بِالظَّاهِرِ دُونَ الْإِحَاطَةِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ بِمُضِيِّ عِدَّةِ الْمُدَّةِ، وَفِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا إِدْخَالُ ضَرَرٍ عَلَيْهَا فَلَمْ يُكَلَّفْ مَا يَضُرُّهَا، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَأَخَّرَتْ حَيْضَتُهَا بَعْدَ أَنْ يَمْضِيَ لَهَا قُرْءٌ مِنَ الْأَقْرَاءِ الثَّلَاثَةِ لَمْ تَعْتَدَّ بِهِ مِنْ شَهْرِهَا لِأَنَّهُ لَا تُبْنَى أَحَدُ الْعِدَّتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى وَاسْتَأْنَفَتْ بَعْدَ الْحُكْمِ بِتَأَخُّرِ حَيْضَتِهَا سَنَةً مِنْهَا تِسْعَةُ أَشْهُرٍ لَيْسَتْ بِعِدَّةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلِاسْتِظْهَارِ بِهَا فِي اسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ، وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ بَعْدَهَا هِيَ الْعِدَّةُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَمْكُثُ مُتَرَبِّصَةً بِنَفْسِهَا مُدَّةَ أَكْثَرِ الْحَمْلِ وَهِيَ أَرْبَعُ سِنِينَ، لِأَنَّهُ أَحْوَطُ لَهَا وَلِلزَّوْجِ فِي اسْتِبْرَاءِ رَحِمِهَا، فَإِذَا انْقَضَتْ أَرْبَعُ سِنِينَ اسْتَأْنَفَتِ الْعِدَّةَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ حَاضَتْ قَبْلَ اسْتِكْمَالِ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ عَاوَدَتِ الْأَقْرَاءَ وَسَقَطَ حُكْمُ مَا مَضَى، وَإِنَّ تَأَخَّرَ بَعْدَ الْحَيْضَةِ اسْتَأْنَفَتْ تَرَبُّصَ أَرْبَعِ سِنِينَ ثُمَّ اعْتَدَّتْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَكَذَلِكَ حُكْمُهَا إِنْ عَاوَدَهَا مِنْ بَعْدُ.
فَأَمَّا إِنْ حَاضَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الشُّهُورِ الثَّلَاثَةِ رُوعِي حَالُهَا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَتْ فَقَدِ انْتَهَتْ عِدَّةُ الْأَوَّلِ وَهِيَ عَلَى نِكَاحِ الثَّانِي وَإِنْ حَاضَتْ قَبْلَ أَنْ تَزَوَّجَتْ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تُعَاوِدُ الِاعْتِدَادَ بِالْأَقْرَاءِ لِمَا يُحْذَرُ مِنْ مُخَالَفَةِ الظَّاهِرِ كَمَا لَوْ عَاوَدَهَا الْحَيْضُ قَبْلَ انْقِضَاءِ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ عِدَّتَهَا قَدِ انْقَضَتْ لِلْحُكْمِ بِانْقِضَائِهَا كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ ذَكَرَهُمَا الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ.
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَنَّهَا تَمْكُثُ مُتَرَبِّصَةً بِنَفْسِهَا مُدَّةَ الْإِيَاسِ، لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْعِدَدِ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فِي اسْتِبْرَاءِ الْأَرْحَامِ وَحِفْظِ الْأَنْسَابِ، فَوَجَبَ الِاسْتِظْهَارُ لَهَا لَا عَلَيْهَا،

(11/188)


وَلَيْسَ لِتَطَاوُلِهَا بِالْبَلْوَى مِنْ وَجْهٍ فِي تَغْيِيرِ الْحُكْمِ كَامْرَأَةِ الْمَفْقُودِ، فَعَلَى هَذَا فِيمَا يُعْتَبَرُ مِنْ مُدَّةِ إِيَاسِهَا؟ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُعْتَبَرُ نِسَاءُ عَشِيرَتِهَا فِي زَمَانِ إِيَاسِهِنَّ، فَإِذَا انْتَهَتْ إِلَى ذَلِكَ السِّنِّ حُكِمَ بِإِيَاسِهَا، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ تَحِضِ امْرَأَةٌ لِخَمْسِينَ سَنَةً إِلَّا أَنْ تَكُونَ عَرَبِيَّةً، وَلَمْ تَحِضْ لِسِتِّينَ سَنَةً إِلَّا أَنْ تَكُونَ قُرَشِيَّةً، وَهُوَ قَوْلٌ لَمْ يَتَحَقَّقْ، وَحَضَرَتْنِي وَأَنَا بِجَامِعِ الْبَصْرَةِ امْرَأَةٌ ذَاتُ خَفَرٍ وَخُشُوعٍ، فَقَالَتْ: قَدْ عَاوَدَنِي الدَّمُ بَعْدَ الْإِيَاسِ فَهَلْ يَكُونُ حَيْضًا فَقُلْتُ كَيْفَ عَاوَدَكِ قَالَتْ: أَرَاهُ كُلَّ شَهْرٍ كَمَا يَعْتَادُنِي فِي زَمَانِ الشَّبَابِ، فَقُلْتُ: وَمُذْ كَمْ رَأَيْتِيهِ فَقَالَتْ: مُذْ نَحْوٍ مِنْ سَنَةٍ قُلْتُ: كَمْ سِنُّكِ؟ قَالَتْ: سَبْعِينَ سَنَةً، قُلْتُ: مِنْ أَيِّ النَّاسِ أَنْتِ؟ قَالَتْ: مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، قُلْتُ: أَيْنَ مَنْزِلُكِ؟ قَالَتْ: فِي بَنِي حَصِينٍ، فَأَفْتَيْتُهَا أَنَّهُ حَيْضٌ يَلْزَمُهَا أَحْكَامُهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُعْتَبَرُ بِإِيَاسِهَا أَبْعَدُ زَمَانِ الْإِيَاسِ فِي نِسَاءِ الْعَالَمِ كُلِّهِنَّ كَمَا يُعْتَبَرُ فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرُ مِنْ عَادَةِ نِسَاءِ الْعَالَمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَحِيضَ بِأَهْلِهَا وَعَشِيرَتِهَا، فَإِذَا حُكِمَ بِإِيَاسِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ اعْتَدَّتْ حِينَئِذٍ بِثَلَاثَةِ اشهر عدة المؤيسة.

(مسألة)
قال الشافعي: " وإن مَاتَ صَبِيٌّ لَا يُجَامِعُ مِثْلُهُ فَوَضَعَتِ امْرَأَتُهُ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ أَتَمَّتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا لِأَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ مِنْهُ فَإِنْ مَضَتْ قَبْلَ أَنْ تَضَعَ حَلَّتْ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ بَقِيَ لَهُ شَيْءٌ يَغِيبُ فِي الْفَرْجِ أَوْ لَمْ يَبْقَ لَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا مَاتَ صَبِيٌّ لَا يُولَدُ لِمِثْلِهِ عَنْ زَوْجَةٍ حَامِلٍ لَمْ تَعْتَدَّ مِنْهُ بِوَضْعٍ وَاعْتَدَّتْ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ سَوَاءٌ انْقَضَتْ قَبْلَ وَضْعِ الحمل أو بعده.
به قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو يُوسُفَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ مَاتَ وَهِيَ حَامِلٌ اعْتَدَّتْ بِوَضْعِ الْحَمْلِ سَوَاءٌ وَضَعَتْهُ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ أَوْ بَعْدَهَا، وَإِنْ حَدَثَ الْحَمْلُ بَعْدَ مَوْتِهِ اعْتَدَّتْ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ سَوَاءٌ انْقَضَتْ قَبْلَ وَضْعِ الْحَمْلِ أَوْ بَعْدَهُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] . وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ أَجَلُ كُلِّ ذَاتِ حَمْلٍ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا فَكَانَ عُمُومُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُوجِبُ انْقِضَاءَ عَدَّتِهَا قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ مَنِ اعْتَدَّتْ زوجته عنه بالشهر جاز، وإن تَعْتَدَّ عَنْهُ بِالْحَمْلِ كَالْبَالِغِ، وَلِأَنَّ كُلَّ حَمْلٍ وَقَعَ الِاعْتِدَادُ بِهِ إِذَا كَانَ لَاحِقًا بِالزَّوْجِ جَازَ أَنْ يَقَعَ الِاعْتِدَادُ بِهِ، وَإِنِ انْتَفَى عَنِ الزَّوْجِ كَوَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ.

(11/189)


وَدَلِيلُنَا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] . فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ وَلِأَنَّهُ وَلَدٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ فَلَمْ يَقَعِ الِاعْتِدَادُ بِهِ كَمَا لَوْ ظَهَرَ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلِأَنَّهُ حَمْلٌ لَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ لَوْ ظَهَرَ بَعْدَ وُجُوبِهَا فَوَجَبَ أَنْ لَا تَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ إِذَا ظَهَرَ قَبْلَ وُجُوبِهَا قِيَاسًا عَلَى زَوْجَةِ الْحَيِّ إِذَا وَضَعَتْهُ بَعْدَ طَلَاقِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ عَقْدِهِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّعَبُّدِ لَا لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ فَكَانَتْ مَقْصُورَةً عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ التَّعَبُّدُ مِنَ الشُّهُورِ دُونَ مَا يَقَعُ بِهِ الِاسْتِبْرَاءُ مِنَ الْوِلَادَةِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] . فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا فِي الْمُطَلَّقَةِ لِاتِّصَالِهَا بِالطَّلَاقِ، وَعِدَّةُ الْوَفَاةِ مَنْصُوصٌ فِيهَا عَلَى الشُّهُورِ، وَإِنَّمَا اعْتَدَّتْ بِالْحَمْلِ إِذَا كَانَ لَاحِقًا بِالسُّنَّةِ فِي حَدِيثِ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى حَمْلٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ لِإِجْمَاعِنَا أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ بِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ لَمْ تَعْتَدَّ بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَعِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا بِالشُّهُورِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَهِيَ مُتَقَدِّمَةٌ وَعَدَّتُهَا بِالْحَمْلِ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ، وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ وَالْمُتَأَخِّرَةُ نَاسِخَةٌ لِلْمُتَقَدِّمَةِ وَبِهَذَا احْتَجَّ ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَى عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ حِينَ قَالَا: إِنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إِذَا كَانَتْ حَامِلًا اعْتَدَّتْ بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: بَلْ يوضع الْحَمْلِ وَإِنْ كَانَ أَقَصَرَ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِآيَةِ الْحَمْلِ لِتَأَخُّرِهَا، وَقَالَ: مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ، أَنَّ السُّورَةَ الصُّغْرَى نَزَلَتْ بَعْدَ الطُّولَى يَعْنِي نَزَلَتْ سُورَةُ الطَّلَاقِ بَعْدَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَعَنْ ذَلِكَ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ خَالَفَا فَلَمْ يَكُنْ حُجَّةً.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا نَسْخٌ فَيُقْضَى بِالْمُتَأَخِّرِ عَلَى الْمُتَقَدِّمِ، وَإِنَّمَا تُخَصُّ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى وَالتَّخْصِيصُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمُتَقَدِّمٍ وَمُتَأَخِّرٍ، وَقَدْ أَجْمَعْنَا أَنَّ آيَةَ الْحَمْلِ مَخْصُوصٌ بِالشُّهُورِ إِذَا كَانَ ظَاهِرُ الْعَقْدِ مَوْتَ الصَّبِيِّ فَكَذَلِكَ إِذَا ظَهَرَ قَبْلَ مَوْتِهِ، لأنه في الحالين غير لاحق به.
وأم الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَكَالْجَوَابِ عَنِ الْآيَةِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْبَالِغِ فَالْمَعْنَى فِيهِ إِمْكَانُ لُحُوقِهِ بِهِ فَلِذَلِكَ اعْتَدَّتْ بِوَضْعِهِ، وَحَمْلُ الصَّبِيِّ لَا يَلْحَقُ بِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ تَعْتَدَّ بِوَضْعِهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ فَهُوَ جَوَازُ كَوْنِهِ مِنْهُ، وَيَلْحَقُ بِهِ لو

(11/190)


اعْتَرَفَ بِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحَمْلُ مِنَ الصَّبِيِّ لعلمنا قطعيا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ وَلَا يَلْحَقُهُ لَوِ اعْتَرَفَ بِهِ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا لَا تَعْتَدُّ بِوَضْعِ الْحَمْلِ فِي وَفَاةِ الصَّبِيِّ فَلِلْحَمْلِ حَالَتَانِ:
أحدهما: أنه لا يكون لاحقاً بوطء شبهة.
والثاني: أَنْ يَكُونَ مِنْ زِنًا لَا يَلْحَقُ بِأَحَدٍ، فَإِنْ كَانَ لَاحِقًا بِوَطْءِ شُبْهَةٍ اعْتَدَّتْ بِوَضْعِهِ مِنْ وَاطِئِ الشُّبْهَةِ وَلَا تَحْتَسِبُ أَشْهُرَ الْحَمْلِ مِنْ عِدَّةِ الْوَفَاةِ، لِأَنَّهُ لَا تَتَدَاخَلُ عِدَّتَانِ مِنْ شَخْصَيْنِ ثُمَّ تَسْتَأْنِفُ بَعْدَ الْوَضْعِ عِدَّةَ الْوَفَاةِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ من زنا لا يلحق بأحد اعتدت بِشُهُورِ حَمْلِهَا مِنْ عِدَّةِ الْوَفَاةِ لِاسْتِحْقَاقِهَا فِي عِدَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنِ انْقَضَتْ شُهُورُهَا قَبْلَ وَضْعِ الْحَمْلِ حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ، وَإِنْ بَقِيَتْ بَعْدَ وَضْعِ الْحَمْلِ اسْتَكْمَلَتْهَا ثُمَّ حَلَّتْ بَعْدَهَا.

(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي رضي الله تعالى عنه: " وَكَانَ وَالْخَصِيُّ يُنْزِلَانِ لَحِقَهُمَا الْوَلَدُ وَاعْتَدَّتْ زَوْجَتَاهُمَا كَمَا تَعْتَدُّ زَوْجَةُ الْفَحْلِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مُرَادَ الشَّافِعِيِّ بِالْخَصِيِّ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ الْمَجْبُوبُ، لِأَنَّهُ قَالَ مِنْ بَعْدُ " وَكَانَ وَالْخَصِيُّ يُنْزِلَانِ " فَعُلِمَ أَنَّ الْأَوَّلَ غَيْرُ خَصِيٍّ وَمَجْبُوبٍ وَمَسْمُوحٍ.
فَأَمَّا الْخَصِيُّ فَهُوَ الْمَسْلُولُ الْأُنْثَيَيْنِ بَاقِي الذَّكَرِ، فَهَذَا يَصِحُّ مِنْهُ الْوَطْءُ لِبَقَاءِ ذَكَرِهِ، وَيَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ لِإِحْدَاثِهِ الْمَاءَ مِنْ ظَهْرِهِ بِقُوَّةِ إِيلَاجِهِ، وَيَكُونُ كَالْفَحْلِ فِي لُحُوقِ الْوَلَدِ بِهِ وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ مِنْهُ، سَوَاءٌ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ.
(فَصْلٌ)
فَأَمَّا الْمَجْبُوبُ فَهُوَ الْمَقْطُوعُ الذَّكَرِ بَاقِي الْأُنْثَيَيْنِ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبْقَى مِنْ ذَكَرِهِ بِقَدْرِ حَشَفَةِ الْفَحْلِ فَيَصِحُّ مِنْهُ الْإِيلَاجُ وَالْإِنْزَالُ فَيَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ وَتَجِبُ مِنْهُ الْعِدَّةُ فِي فُرْقَةِ الْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ، وَلِأَنَّ الْفَحْلَ لَوْ أَوْلَجَ مِنْ ذَكَرِهِ قَدْرَ الْحَشَفَةِ اسْتَقَرَّ بِهِ الدُّخُولُ وَوَجَبَتْ بِهِ الْعِدَّةُ وَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَبْقَى مِنْ ذَكَرِهِ قَدْرُ الْحَشَفَةِ إِمَّا باستئصال الذكر أو باستبفاء أَقَلَّ مِنَ الْحَشَفَةِ فَالْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءٌ فَيَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ لِأَنَّهُ قَدْ سَاحَقَ فَرْجَ الْمَرْأَةِ فَيُنْزِلُ مَاءً يَسْتَدْخِلُهُ الْفَرْجَ فَتَحْبَلُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ قُلْنَا إِنَّ حَبَلَ الْبِكْرِ بِاسْتِدْخَالِ الْمَنِيِّ عِنْدَ الْإِنْزَالِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَتْ مِنْهُ عِدَّةُ الْوَفَاةِ، لِأَنَّ الدُّخُولَ لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا فَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا انْقَضَتْ بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَإِنْ كَانَتْ حائلاً فبأربعة أشهر وعشر.
فأما عِدَّةُ الطَّلَاقِ فَلَا تَجِبُ مِنْهُ، لِأَنَّ الدُّخُولَ فِيهَا مُعْتَبَرٌ وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ أَوِ الشُّهُورِ، وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا

(11/191)


فَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنَ الْأَزْوَاجِ مُدَّةَ حَمْلِهَا حَفِظًا لِمَائِهِ، وَجَرَى عَلَيْهَا حُكْمُ الْعِدَّةِ لِامْتِنَاعِهَا مِنَ الْأَزْوَاجِ فِي حَقِّهِ.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْمَمْسُوحُ فَهُوَ الْمَقْطُوعُ الذَّكَرِ الْمَسْلُوبُ الْأُنْثَيَيْنِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَخْرَجُ الْمَنِيِّ مُلْتَحِمًا فَهَذَا غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْإِيلَاجِ لِجَبِّ ذَكَرِهِ وَغَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْإِنْزَالِ لِالْتِحَامِ مَخْرَجِهِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ لِعَدَمِ مَائِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54] . فَإِذَا عُدِمَ الْمَاءُ اسْتَحَالَ الْوَلَدُ، فَإِنْ طَلَّقَ لَمْ تَعْتَدَّ مِنْهُ لِعَدَمِ دُخُولِهِ وَإِنْ مَاتَ اعْتَدَّتْ مِنْهُ بِالشُّهُورِ دُونَ الْحَمْلِ كَالصَّبِيِّ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَخْرَجُ الْمَنِيِّ مَفْتُوحًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي لُحُوقِ الْوَلَدِ بِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَلْحَقُ بِهِ، لأن المني بسل الأنثيين قد بعد ولده بجب الذكر وقد قعد.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ حَرْبَوَيْهِ أَنَّهُ يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ، لِأَنَّ إِنْزَالَهُ مِنَ الظهور مجوز، وَإِنْ كَانَ مُسْتَبْعَدًا وَالْوَلَدُ يَلْحَقُ بِالْإِمْكَانِ وَالْجَوَازِ، وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ حَرْبَوَيْهِ مِنْ أَصْحَابِنَا قُلِّدَ قَضَاءَ مِصْرَ فَقَضَى فِي مِثْلِ هَذَا بِلُحُوقِ الْوَلَدِ فَحَمَلَهُ الْخَصِيُّ عَلَى كَتِفِهِ، وَطَافَ بِهِ فِي الْأَسْوَاقِ وَقَالَ: انْظُرُوا هَذَا الْقَاضِي يُلْحِقُ أَوْلَادَ الزِّنَا بِالْخَدَمِ، فَأَمَّا إِنْ بَقِيَ إِحْدَى أُنْثَيَيِ الْمَجْبُوبِ لَحِقَ بِهِ الولد وجهاً واحداً سواء كان يُمْنَى أَوْ يُسْرَى.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إِنْ بَقِيَتِ الْيُسْرَى لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ وَإِنْ بَقِيَتِ الْيُمْنَى لَمْ يَلْحَقْ بِهِ، لِأَنَّ الْيُسْرَى لِلْمَنِيِّ، وَالْيُمْنَى لِشَعْرِ اللِّحْيَةِ وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّهُ مِنْ قَوْلِ الطِّبِّ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِمْ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَقَدْ وُجِدَ فِي إِنْسَانٍ ذُو خِصْيَةٍ وَاحِدَةٍ وَكَانَ ذَا لِحْيَةٍ وَأَوْلَادٍ، فَإِنْ كَانَتْ يُمْنَى فَقَدْ وُلِدَ لَهُ وَإِنْ كَانَتْ يُسْرَى فَقَدْ نَبَتَتْ لَهُ لِحْيَةٌ فَعُلِمَ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ.
فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْوَلَدَ لَا يَلْحَقُ بِهِ لَمْ تَنْقَضِ بِهِ الْعِدَّةُ وَلَمْ يَلْزَمْ إِلَّا فِي الْوَفَاةِ دُونَ الطَّلَاقِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ.
وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ يَلْحَقُ بِهِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فِي الْوَفَاةِ بِوَضْعِهِ وَلَمْ يَلْزَمْهَا فِي الطَّلَاقِ عِدَّةٌ إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا فَيَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ الْعِدَّةِ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْأَزْوَاجِ حتى تضع - والله أعلم -.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: " وَإِنْ أَرَادَتِ الْخُرُوجَ كَانَ لَهُ مَنْعُهَا حَيًّا وَلِوَرَثَتِهِ مَيِّتًا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا ".

(11/192)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مُعْتَبَرٌ بِلُحُوقِ الْوَلَدِ بِهِ.
فَإِنَّا قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَلْحَقُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهَا مِنَ الْخُرُوجِ فِي فُرْقَةِ الطَّلَاقِ، لِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا.
فَأَمَّا فُرْقَةُ الْمَوْتِ فَتَعْتَدُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فَتُمْنَعُ مِنَ الْخُرُوجِ فِيهَا وَلَا تُمْنَعُ بَعْدَ انْقِضَائِهَا مِنَ الْخُرُوجِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي حَمْلِهَا فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْوَلَدَ لَاحِقٌ بِهِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا فِي حَيَاتِهِ مِنَ الْخُرُوجِ فِي فُرْقَةِ الطَّلَاقِ، وَيَحْكُمُ بِهَا بِالسُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ وَلِوَرَثَتِهِ فِي فُرْقَةِ الْمَوْتِ مَنْعُهَا مِنَ الْخُرُوجِ حَتَّى تَضَعَ وَلَا يُحْكَمُ لَهَا بِالنَّفَقَةِ وَفِي السُّكْنَى قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَهَا السُّكْنَى وَلَهُمْ إِجْبَارُهَا عَلَى الْمُقَامِ فِي الْمَسْكَنِ الَّذِي مَاتَ زَوْجُهَا وَهِيَ فِيهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا سُكْنَى لَهَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لَهَا الْخُرُوجُ إِلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ الْوَرَثَةُ لَهَا بِالسُّكْنَى فتمنع من الخروج.

(مسألة)
قال الشافعي: " وَإِنْ طَلَّقَ مَنْ لَا تَحِيضُ مِنْ صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ أَوْ آخِرِهِ اعْتَدَّتْ شَهْرَيِنِ بِالْأَهِلَّةِ وَإِنْ كَانَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَشَهْرًا ثَلَاثِينَ لَيْلَةً حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيْهَا تِلْكَ السَّاعَةُ الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا مِنَ الشَّهْرِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، لِأَنَّ عِدَّةَ مَنْ لَا تَحِيضُ بِصِغَرٍ أَوْ إِيَاسٍ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ طَلَاقُهَا عَنْ أَنْ يَكُونَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ أَوْ فِي تَضَاعِيفِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ أَوْ مَعَ اسْتِهْلَالِهِ وَقَبْلَ مُضِيِّ شَيْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، إِمَّا بِأَنْ يُرَاعِي وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِيهِ أَوْ عَلَّقَهُ فِيهِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ بِالْأَهِلَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ كَامِلَةً فَكَانَتْ تِسْعِينَ يَوْمًا أَوْ كَانَتْ نَاقِصَةً فَكَانَتْ سَبْعَةً وَثَمَانِينَ يَوْمًا أَوْ كَانَ بَعْضُهَا كَامِلًا وَبَعْضُهَا نَاقِصًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {ويسئلونك عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] . فَكَانَتِ الشُّهُورُ مُعْتَبَرَةً بِالْأَهِلَّةِ فِي الشَّرْعِ، وَقَدْ تَرَدَّدَ شَهْرُ الْهِلَالِ بَيْنَ كَمَالٍ وَنُقْصَانٍ قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا مُشِيرًا بِأَصَابِعِهِ الْعَشْرِ يَعْنِي ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ قَالَ: وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَحَبَسَ إِبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ يَعْنِي تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَإِنْ طَلَّقَهَا فِي تَضَاعِيفِ الشَّهْرِ كَأَنَّهُ طَلَّقَهَا، وَقَدْ مَضَى مِنَ الشَّهْرِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ اعْتَدَّتْ بِبَقِيَّتِهِ مِنْ سَاعَةِ طَلَاقِهَا

(11/193)


وَبِشَهْرَيْنِ بَعْدَهَا بِالْأَهِلَّةِ وَسَوَاءٌ كَانَا كَامِلَيْنِ أَوْ نَاقِصَيْنِ ثُمَّ اسْتَكْمَلَتْ بَعْدَهُ الْعِدَّةَ مِنَ الشَّهْرِ الرَّابِعِ، فَإِنْ كَانَ شَهْرُ الطَّلَاقِ كَامِلًا وَكَانَ الْبَاقِي مِنْهُ عِشْرِينَ يَوْمًا اعْتَدَّتْ مِنَ الرَّابِعِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَإِنْ كَانَ الشَّهْرُ نَاقِصًا اسْتَكْمَلَتْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَاعْتَدَّتْ مِنَ الرَّابِعِ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَعْتَدُّ مِنَ الرَّابِعِ عِدَّةَ مَا مَضَى مِنْ شَهْرِ الطَّلَاقِ، وَهُوَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ فِي زِيَادَتِهِ وَنُقْصَانِهِ اعْتِبَارًا بِعَدَدِ مَا فَاتَ مِنْهُ كَمَا يُعْتَبَرُ فِي قَضَاءِ شَهْرِ رَمَضَانَ بِعَدَدِ مَا فَاتَ مِنْهُ فِي زِيَادَتِهِ وَنُقْصَانِهِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ: الطَّلَاقُ فِي تَضَاعِيفِ الشَّهْرِ يَرْفَعُ حُكْمَ الْأَهِلَّةِ، لِأَنَّ كُلَّ شَهْرٍ يَتَّصِلُ فَلَا تَبْتَدِئُهُ إِلَّا فِي غَيْرِ هِلَالٍ فَوَجَبَ أَنْ تَسْتَوْفِيَ تعيين يوماً كاملاً لِفَوَاتِ هِلَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا يُسْتَوْفَى الشَّهْرُ الْأَوَّلُ كَامِلًا لِفَوَاتِ هِلَالِهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ: إِذَا طُلِّقَتْ فِي تَضَاعِيفِ يَوْمٍ لَمْ تَحْتَسِبْ بِبَقِيَّتِهِ، وَإِنْ طُلِّقَتْ نَهَارًا كَانَ أَوَّلَ عِدَّتِهَا دُخُولُ اللَّيْلِ وَإِنْ طُلِّقَتْ لَيْلًا كَانَ أَوَّلَ عِدَّتِهَا طُلُوعُ الْفَجْرِ فَصَارَ الْخِلَافُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي يَوْمِ نَقْصِهِ وَزِيَادَتِهِ وَمَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ فِي يَوْمَيْ زِيَادَتِهَا وَنُقْصَانِهَا، وَمَعَ مَالِكٍ فِي بَقِيَّةِ الْيَوْمِ أَسْقَطَهَا وَاحْتَسَبْنَاهَا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: أَنَّ الشَّهْرَ إِذَا أُدْرِكَ هِلَالُهُ تَعْتَدُّ بِهِ مَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ مِنْ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ، فَإِذَا فَاتَ هِلَالُهُ اسْتُكْمِلَ عِدَّةَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا فَابْتَدَأَ الصِّيَامَ فِي أَوَّلِ شَهْرٍ اعْتُبِرَ بِمَا بَيْنَ هِلَالَيْهِ، وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا، وَلَوِ ابْتَدَأَ بِالصِّيَامِ فِي تَضَاعِيفِ الشَّهْرِ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا لِيَكُونَ بِفَوَاتِ الْهِلَالِ كَامِلًا فَاقْتَضَى أَنْ تَسْتَكْمِلَ الْمُعْتَدَّةُ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا لِفَوَاتِ هِلَالِهِ بِخِلَافِ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ: وَتَعْتَدُّ بِمَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ فِي الشَّهْرِ مِنَ الْمُسْتَقْبَلَيْنِ وَإِنْ كَانَا نَاقِصَيْنِ لِإِدْرَاكِ هِلَالِهِمَا بِخِلَافِ مَا قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ.
فَأَمَّا مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ فَقَدْ زَادَا فِي الْعِدَّةِ بِمَا اسْتَنْقَصَاهُ مِنْ بَقِيَّةِ يَوْمِ الطَّلَاقِ وَلَيْلَتِهِ عَلَى مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهَا كَالنُّقْصَانِ مِنْهَا فِي مُخَالَفَةِ التَّقْدِيرِ وَمُجَاوَزَةِ النَّصِّ، وَلَوْ لَمْ تَعْتَدَّ بِبَقِيَّةِ الْيَوْمِ اعْتِبَارًا بِالْكَمَالِ لَلَزِمَ أَنْ لَا تَعْتَدَّ بِبَقِيَّةِ الشَّهْرِ اعْتِبَارًا بِالْكَمَالِ وَفِي فَسَادِ هَذَا فِي بَقِيَّةِ الشَّهْرِ دَلِيلٌ عَلَى فساده في بقية اليوم.

(مسألة)
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ حَاضَتِ الصَّغِيرَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الثَّلَاثَةِ الْأَشْهُرِ فَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَلَوْ حَاضَتْ قَبْلَ انْقِضَائِهَا بِطَرْفَةٍ خَرَجَتْ مِنَ اللَّاتِي لَمْ يَحِضْنَ وَاسْتَقْبَلَتِ الْأَقْرَاءَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ تَحِضْ لِصِغَرٍ عِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، فَإِنِ

(11/194)


اعْتَدَّتْ بِالشُّهُورِ ثُمَّ حَاضَتْ لَمْ يَخْلُ حَيْضُهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الشُّهُورِ أَوْ قَبْلَهَا، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الشُّهُورِ أَجْزَأَتْهَا الْعِدَّةُ بِالشُّهُورِ، وَإِنْ صَارَتْ بَعْدَهَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ لِلْحُكْمِ بِانْقِضَائِهَا وَلَمْ يُؤَثِّرْ حُدُوثُ الْحَيْضِ كَمَا لَوِ اعْتَدَّتْ بِالْأَقْرَاءِ ثُمَّ صَارَتْ مُؤَيَّسَةً أَجْزَأَتْهَا الْأَقْرَاءُ، وَإِنْ صَارَتْ بَعْدَهَا مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ لَوِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالْأَقْرَاءِ ثُمَّ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ بَطَلَ الْأَقْرَاءُ، فَهَلَّا كَانَتِ الصَّغِيرَةُ فِي حُدُوثِ الحيض كذلك؟ قيل؛ - لأن الحمل متقدما على الأقراء ما انْتَقَلَتْ إِلَى الِاعْتِدَادِ بِالشُّهُورِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَلْفِيقُ الْعِدَّةِ مِنْ جِنْسَيْنِ شُهُورٍ وَأَقْرَاءٍ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَحَدَ الْجِنْسَيْنِ مِنْ أَقَرَاءٍ وَشُهُورٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " اسْتَقْبَلَتِ الْأَقْرَاءَ " فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِأَجْلِ هَذَا الِاحْتِمَالِ فِيمَا مَضَى مِنْ طُهْرِهَا هَلْ تَعْتَدُّ بِهِ قُرْءًا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِهِ قُرْءًا؛ لِأَنَّ الْقُرْءَ هُوَ طُهْرٌ بَعْدَهُ حَيْضٌ، فَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ حَيْضٌ كَمَا لَوْ طُلِّقَتْ فِي طهرها اعتدت به؛ لأن بعده حيض وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ حَيْضٌ؛ لِأَنَّ مَا مَضَى مِنَ الْحَيْضِ قَبْلَ الطَّلَاقِ لَا يُحْتَسَبُ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّهَا لَا تَعْتَدُّ بِمَا مَضَى مِنَ الطُّهْرِ قُرْءًا وَلْتَسْتَقْبِلْ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ؛ لِأَنَّ القرء هو طهرين حيضتين فَلَمَّا كَانَ فَقْدُ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ فِي الِانْتِهَاءِ تَمْنَعُ مِنْ أَنْ تَكُونَ قُرْءًا، كَانَ فَقْدُ الْحَيْضَةِ الْأَوْلَى فِي الِابْتِدَاءِ أَوْلَى بِالْمَنْعِ مِنْ أَنْ تَكُونَ قُرْءًا؛ وَلِأَنَّهَا لَوِ اعْتَدَّتْ بِقُرْءٍ ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهَا الْإِيَاسُ لَمْ تَحْتَسِبْ بِزَمَانِ الْقُرْءِ وَشَهْرٍ وَلْتَسْتَقْبِلَنَّ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ لِئَلَّا تُلَفَّقَ عِدَّةٌ مِنْ جِنْسَيْنِ كَذَلِكَ حَيْضُ الصَّغِيرَةِ لَا يُوجِبُ احْتِسَابَ مَا مَضَى مِنَ الشُّهُورِ قُرْءًا لِئَلَّا يَجْمَعَ فِي عِدَّتَيْنِ جِنْسَيْنِ.

(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي: " وَأَعْجَبُ مَنْ سَمِعْتُ بِهِ مِنَ النِّسَاءِ يَحِضْنَ نساء تهامة لِتِسْعِ سِنِينَ فَتَعْتَدُّ إِذَا حَاضَتْ مِنْ هَذِهِ السِّنِّ بِالْأَقْرَاءِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَقَدْ مَضَى فِي كِتَابِ الْحَيْضِ أَنَّ أَقَلَّ الزَّمَانِ الَّذِي تَحِيضُ فِيهِ النِّسَاءُ تِسْعُ سِنِينَ اعْتِبَارًا بِالْوُجُودِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَجُزْ بِذَلِكَ عَادَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ فَإِنْ وُجِدَتْ عَادَةٌ فِي الْحَيْضِ لِأَقَلَّ مِنْ تِسْعِ سِنِينَ من السَّلَامَةِ مِنَ الْعَوَارِضِ، إِمَّا فِي ثَلَاثِ نِسَاءٍ حِضْنَ لِأَقَلَّ مِنْ تِسْعٍ، وَإِمَّا فِي امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ حَاضَتْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِأَقَلَّ مِنْ تِسْعِ سِنِينَ انْتَقَلْنَا عَنِ التِّسْعِ فِي أَقَلِّهِ إِلَى مَا وَجَدْنَاهُ غَيْرَ أَنَّنَا لَمْ نَجِدْ ذَلِكَ فَوَقَفْنَا فِي الْأَقَلِّ عَلَى مَا اسْتَقَرَّ وُجُودُهُ وَهُوَ تِسْعُ سِنِينَ، فَلَوْ أَنَّ مُعْتَدَّةً رَأَتِ الدَّمَ لِأَقَلَّ مِنْ تِسْعِ سِنِينَ كَانَ دَمَ فساد ولم

(11/195)


يَكُنْ حَيْضًا فَتَعْتَدُّ بِالشُّهُورِ لِأَنَّهَا مِمَّنْ لَمْ تَحِضْ وَلَوْ رَأَتْهُ لِتِسْعِ سِنِينَ، وَكَانَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ اعْتَدَّتْ بِالشُّهُورِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تحض.

(مسألة)
قال الشافعي: فَإِنْ بَلَغَتْ عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ لَمْ تَحِضْ قَطُّ اعْتَدَتْ بِالْشُهُورِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ أَكْثَرَ الزَّمَانِ الَّذِي تَحِيضُ فِيهِ النِّسَاءُ غَيْرُ مُحَدَّدٍ، فَإِذَا تَأَخَّرَ عَنِ الْمَرْأَةِ الْحَيْضُ حَتَّى طَعَنَتْ فِي السِّنِّ اعْتَدَّتْ بِالشُّهُورِ؛ لِأَنَّهَا مِمَّنْ لَمْ تَحِضْ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ صِفَةُ الْمُعْتَدَّةِ وَإِنْ خَرَجَتْ عَنْ غَالِبِ الْعَادَةِ كَالْحَمْلِ الَّذِي يُعْتَبَرُ فِيهِ حَالُ الْحَامِلِ فِي بَقَائِهِ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَإِنْ خَالَفَ غَالِبَ الْعَادَةِ فِي تِسْعَةِ أَشْهُرٍ فَأَمَّا إِذَا وَلَدَتْ وَلَمْ تَرَ حَيْضَهَا قَبْلَهُ وَلَا نِفَاسًا بَعْدَهُ ثُمَّ طُلِّقَتْ فَفِي عِدَّتِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِالشُّهُورِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَحِضْ وَوِلَادَتُهَا قَبْلَ الْحَيْضِ كَالْبُلُوغِ الَّذِي تَعْتَدُّ بَعْدَهُ بِالشُّهُورِ إِذَا لَمْ تَحِضْ كَذَلِكَ بَعْدَ الْحَمْلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَكُونُ كَالَّتِي ارْتَفَعَ حَيْضُهَا قَبْلَ الْإِيَاسِ لِغَيْرِ عِلَّةٍ فَيَكُونُ فِيمَا يُعْتَدُّ بِهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ ذَكَرْنَاهَا:
أَحَدُهَا: تَمْكُثُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ مُدَّةَ أَوْسَطِ الْحَمْلِ ثُمَّ تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَالثَّانِي: تَمْكُثُ مُدَّةَ أَكْثَرِ الْحَمْلِ لِأَرْبَعِ سِنِينَ ثُمَّ تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ.
وَالثَّالِثُ: تَمْكُثُ إِلَى مُدَّةِ الْإِيَاسِ ثُمَّ تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ لِأَنَّ مَنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْحَمْلِ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ لِقُوَّةِ الحمل على الأقراء.
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: " وَلَوْ طَرَحَتْ مَا تَعْلَمُ أَنَّهُ وَلَدٌ مُضْغَةً أَوْ غَيْرَهَا حَلَّتْ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابَيْنِ لَا تَكُونُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ حَتَّى يَبِينَ فِيهِ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ شَيْءٌ وَهَذَا أَقْيَسُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ إِسْقَاطَ الْوَلَدِ يَتَعَلَّقُ بِهِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ:
أَحَدُهَا: انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ.
وَالثَّانِي: كَوْنُهَا أُمَّ وَلَدٍ.
وَالثَّالِثُ: وُجُوبُ الْعِدَّةِ.
وَلَهُ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مُضْغَةً.
وَالثَّانِي: أَنْ تكون دونها.

(11/196)


وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ فَوْقَهَا، وَإِنْ كَانَ دُونَ الْمُضْغَةِ نُطْفَةً أَوْ عَلَقَةً لَمْ يَتَعَلَّقْ بِإِلْقَائِهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الثَّلَاثَةِ فَلَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ وَلَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَلَا يَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ لِأَنَّهُ دَمٌ فَصَارَ كَدَمِ الْحَيْضِ وَلَا يَتِمُّ بِهِ الْقُرُوءُ بِخِلَافِ الْحَيْضِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدُمْ دَوَامَ الْحَيْضِ فَإِنِ اتَّصَلَ بِهِ الدَّمُ حَتَّى صَارَ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَهُوَ دَمُ حَيْضٍ يَتِمُّ بِهِ الطُّهْرُ وَلَا يَكُونُ نِفَاسًا لِأَنَّ النِّفَاسَ مَا اتَّصَلَ بِوَضْعِ الْوَلَدِ، فَإِنْ كَانَ قَوِيَّ الْمُضْغَةِ فَهُوَ مَا اسْتَكْمَلَ خَلْقُهُ وَتَشَكَّلَتْ أَعْضَاؤُهُ وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ إِلَّا التَّمَامُ وَالِاشْتِدَادُ فَهَذَا تَتَعَلَّقُ الْأَحْكَامُ الثَّلَاثَةُ بِهِ فَتَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ وَتَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَتَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ وَيَكُونُ مَا اتَّصَلَ بِهِ مِنَ الدَّمِ نِفَاسًا، وَإِنْ كَانَتْ مُضْغَةً فَلَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَظْهَرَ فِيهِ بَعْضُ الْأَعْضَاءِ مَنْ عَيْنٍ، أَوْ أُصْبُعٍ، أَوْ تَبِينُ فِيهِ أَوَائِلُ التَّخْطِيطِ وَأَوَائِلُ الصُّورَةِ فَتَتَعَلَّقُ فِيهِ الْأَحْكَامُ الثَّلَاثَةُ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ ظَاهِرًا مُشَاهَدًا أَوْ كَانَ خَفِيًّا تُفَرِّقُهُ الْقَوَابِلُ عِنْدَ إِلْقَائِهِ في الماء الجار فَتَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ، وَتَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَتَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا تبلغ هذا الْحَدَّ وَتَضْعُفَ عَنْ قُوَّةِ الْحَمْلِ الْمُتَمَاسِكِ فَيَكُونُ بِالْعَلَقَةِ أَشْبَهَ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ أَحْوَالِ انْتِقَالِهِ عَنْهَا فَلَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَحْكَامِ الثَّلَاثَةِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ لَحْمًا مُتَمَاسِكًا قَدْ تَهَيَّأَ لِلِانْتِقَالِ إِلَى التَّصَوُّرِ وَالتَّخْطِيطِ وَلَمْ يَبْدُ فِيهِ تَصَوُّرٌ وَلَا تُخَطُّطٌ لَا ظَاهِرَ وَلَا خفي، فظاهر ما قاله الشافعي ها هنا فِي الْقَدِيمِ أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِهِ، وَظَاهِرُ مَا قَالَهُ فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ: أَنَّهَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ جَمَعُوا بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ وَخَرَّجُوهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ وَتَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَتَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ؛ لِأَنَّهُ فِي مَبَادِئِ الْخِلْقَةِ فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ وَلَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَلَا تَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَقِرَّ بِهِ خَلْقُهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْجَوَابَ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَتَنْقَضِي بهد الْعِدَّةُ وَلَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَلَا تجب في الْغُرَّةُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْعِدَّةَ مَوْضُوعَةٌ لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ وَإِلْقَاؤُهُ وَإِنْ لَمْ يُتَصَوَّرْ مُسْتَبْرِئٌ لِرَحِمِهَا كَمَا لَوْ تُصُوِّرَ فَلِذَلِكَ انْقَضَتِ الْعِدَّةُ بِهِ، وَهِيَ إِنَّمَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ إِذَا انْطَلَقَ اسْمُ الْوَلَدِ عَلَيْهِ وَثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ فَتَعَدَّتْ إِلَيْهَا، وَهُوَ قَبْلَ التَّصَوُّرِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْوَلَدِ اسْتَقَرَّتْ لَهُ حُرْمَةٌ تَعَدَّتْ إِلَيْهَا، فَلِذَلِكَ لَمْ تَصِرْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَلَمْ تَجِبْ فيه الغرة.

(11/197)


(مسألة)
قال الشافعي: " وَلَوْ كَانَتْ تَحِيضُ عَلَى الْحَمْلِ تَرَكَتِ الصَّلَاةَ وَاجْتَنَبَهَا زَوْجُهَا وَلَمْ تَنْقَضِ بِالْحَيْضِ عِدَّتُهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُعْتَدَّةً بِهِ وَعِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْعَادَةَ فِي أَغْلَبِ أَحْوَالِ النِّسَاءِ أَنْ يَنْقَطِعَ عَنْهُنَّ الْحَيْضُ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ لِمَا ذُكِرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجْعَلُهُ غِذَاءً لِلْجَنِينِ وَرُبَّمَا بَرَزَ الدَّمُ فِي حَالِ الْحَمْلِ إِمَّا لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مِنْ غِذَاءِ الْجَنِينِ، وَإِمَّا لِضَعْفِ الْجَنِينِ عَنِ الاعتداء بِجَمِيعِهِ فَيَخْرُجُ فَاضِلُ الدَّمِ، وَيَكُونُ عَلَى صِفَةِ الْحَيْضِ وَقَدْرِهِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهَا لَا تَعْتَدُّ بِهِ وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ، هَلْ يَكُونُ حَيْضًا تَجْتَنِبُ فِيهِ مَا تَجْتَنِبُ النِّسَاءُ فِي الْحَيْضِ أَوْ يَكُونُ دَمَ فَسَادٍ لَا حُكْمَ لَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَكُونُ حَيْضًا وَيَكُونُ دَمَ فَسَادٍ لَا تُمْنَعُ فِيهِ مِنَ الصَّلَاةِ وَإِتْيَانِ الزَّوْجِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وما تحيض الأَرْحَامُ} [الرعد: 8] فَأَخْبَرَ أَنَّ الْحَيْضَ يَفِيضُ مَعَ الْحَمْلِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا ظَهَرَ مِنَ الدَّمِ لَيْسَ بِحَيْضٍ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: أَلَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ فَجَعَلَ بَرَاءَةَ الرَّحِمِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَدَلَّ عَلَى تَنَافِي اجْتِمَاعِهِمَا، وَلِأَنَّهُ دَمٌ لَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ حَيْضًا كَدَمِ الِاسْتِحَاضَةِ عَلَى الْحَمْلِ، وَلِأَنَّ الْحَيْضَ عَلَى الْحَمْلِ فِي ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ لَيْسَ بِدَالٍّ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ فلو حاضت لما دل عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ مِنْهُ وَلَكَانَتِ الْعِدَّةُ غَيْرَ مُقْتَضِيَةٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ أَنَّهُ يَكُونُ حَيْضًا فِي تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ وَاجْتِنَابِ الزَّوْجِ، وَإِنْ لَمْ تَنْقَضِ بِهِ الْعِدَّةُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ إِنَّ لِدَمِ الْحَيْضِ عَلَامَاتٍ وَأَمَارَاتٍ إِنَّهُ الْأَسْوَدُ الثَّخِينُ الْمُحْتَدِمُ فَأَمَّا إِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُ هَذِهِ الصِّفَةِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَيْهَا إِذَا وُجِدَتْ، وَلِأَنَّ الْحَيْضَ وَالْحَمْلَ لَا يُنَافِي اجْتِمَاعُهُمَا سُنَّةً وَإِجْمَاعًا، وَاسْتِدْلَالًا.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ فَلَمَّا رَأَتْ بَرِيقَ أَسَارِيرِهِ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَنْتَ أَحَقُّ بِمَا قَالَهُ أَبُو كَبِيرٍ الْهُذَلِيُّ.
(وَمُبَرَّأٍ مِنْ كُلِّ غُبَّرِ حَيْضَةٍ ... وَفَسَادِ مُرْضِعَةٍ وَدَاءٍ مُغْيِلِ)

(وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى أَسِرَّةِ وجهه ... برقت كبرق العارض المتهلل)

(11/198)


يَعْنِي أَنَّهُ قَدْ بَرِئَ أَنْ تَكُونَ أُمُّهُ حَمَلَتْ بِهِ وَهِيَ حَائِضٌ لِأَنَّ مَا تَحْمِلُهُ في الحيض يكون غير اللَّوْنِ كَمِدَاءٍ وَمَا يَحْمِلُهُ فِي الطُّهْرِ وَضِيءَ الْأَسَارِيرِ صَافِيَ اللَّوْنِ، وَكَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ.
وَقَوْلُهُ: وَدَاءٍ مُغْيِلٍ: الْوَطْءُ عَلَى الْحَمْلِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرَدْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الْغِيلَةِ يَعْنِي وَطْءَ الْحَامِلِ حَتَّى قِيلَ لِي إِنَّ نِسَاءَ الرُّومِ يَفْعَلْنَ ذَلِكَ وَلَا يَضُرُّهُنَّ فَمَوْضِعُ السُّنَّةِ الْمُسْتَدَلِّ بِهَا مِنْ هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا نَزَّهَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن الحمل به في الحيض أُمِّهِ وَعَنْ غِيلَتِهَا بِصِفَتِهِ الَّتِي يُخَالِفُ حَالَ مَنْ حَمَلَتْ بِهِ فِي حَيْضَتِهَا فَأَقَرَّهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَمَا أَنْكَرَهُ مِنْهَا، وَلَوْ خَالَفَ الشَّرْعَ لِأَنْكَرَهُ وَنَهَى عَنْهُ مَعَ قَوْلِهِ فِي الْغِيلَةِ: " أَرَدْتُ أَنْ أَنْهَى عَنْهَا ثُمَّ عَرَفْتُ أَنَّ الرُّومَ لَا يَضُرُّهُمْ " يُرِيدُ فِي الْحَمْلِ الْحَادِثِ مِنْهُ فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ وَمِنْ إِقْرَارِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَنَافَى فِي اجْتِمَاعِ الْحَيْضِ وَالْحَمْلِ وَأَمَّا الِاجْتِمَاعُ فَمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ تَدَاعِيًا وَلَدًا وَتَنَازَعَا فِيهِ إِلَى عمر رضي الله تعالى عنه فدعي لَهُ الْقَافَةُ فَأَلْحَقُوهُ بِهِمَا، فَدَعَا لَهُ عَجَائِزَ قُرَيْشٍ وَسَأَلَهُنَّ عَنْهُ فَقُلْنَ: إِنَّهَا حَمَلَتْ بِهِ مِنَ الْأَوَّلِ وَحَاضَتْ عَلَى الْحَمْلِ فَاسْتَخْشَفَ الْوَلَدُ، فَلَمَّا تَزَوَّجَ بِهَا الثَّانِي انْتَعَشَ بِمَائِهِ فَأَخَذَ الشَّبَهَ مِنْهُ، فَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْأَوَّلِ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ شَهِدَهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، وَسَمِعُوا مَا جَرَى فَأَقَرُّوا عَلَيْهِ وَلَمْ يُنْكِرُوهُ، فَدَلَّ عَلَى إِجْمَاعِهِمْ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ فَهُوَ مَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ فِيمَنْ وَطِئَ فِي حَيْضٍ أَوْ عَقَدَ نِكَاحًا عَلَى حَائِضٍ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَطْئِهِ وَعَقْدِهِ فِي الْحَيْضِ أَنَّ الْوَلَدَ لَاحِقٌ بِهِ لِوُجُودِ زَمَانِ حَمْلِهِ مِنْ وَقْتِ وَطْئِهِ وَعَقْدِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ حَمْلِهَا فِي الْحَيْضِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاعْتَبَرُوا سِتَّةَ أَشْهُرٍ مِنْ بَعْدِ انْقِضَاءِ حَيْضَتِهَا فَإِنْ فَرَّقُوا بَيْنَ عُلُوقِ الْوَلَدِ وَبَيْنَ الْحَمْلِ جَوَّزْنَاهُ قِيَاسًا، فَقُلْنَا: إِنَّ كُلَّ حَالَةٍ لَا تُنَافِي عُلُوقَ الْوَلَدِ لَا تنافي الحمل كالظهر لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ حُدُوثُ الْحَمْلِ عَلَى الْحَيْضِ صَحَّ حُدُوثُ الْحَيْضِ عَلَى الْحَمْلِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَتَنَافَيَانِ؛ وَلِأَنَّ مَا تَأَخَّرَ بِهِ الْحَيْضُ فِي الْغَالِبِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ثُبُوتِ حُكْمِهِ إِذَا حَدَثَ نَادِرًا كَالرَّضَاعِ، لِأَنَّ الْحَيْضَ يَتَأَخَّرُ بِهِ الحمل، ولأن الأقراء بالعدة أَقْوَى مِنَ الشُّهُورِ وَالْحَمْلَ فِيهَا أَقْوَى مِنَ الْأَقْرَاءِ فَلَمَّا انْتَقَلَتْ إِلَى الْحَمْلِ مَعَ وُجُودِ الشُّهُورِ جَازَ أَنْ تَنْتَقِلَ إِلَى الْحَمْلِ مَعَ وُجُودِ الْأَقْرَاءِ، وَهَذَا اسْتِدْلَالُ الْمُزَنِيِّ وَفِيهِ انْفِصَالٌ.

(11/199)


(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ تَوْجِيهِ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْقَدِيمِ مِنْهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيْضٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَوَّلِ زَمَانِهِ الَّذِي يَرْتَفِعُ عَنْهُ حُكْمُ الْحَيْضِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ وَإِنْ تَرَكَتِ الصَّلَاةَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الدَّمِ بِخَفَاءِ أَمَارَاتِ الْحَمْلِ قَضَتْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مِنْ وَقْتِ حَرَكَةِ الْحَمْلِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى الِاعْتِدَادِ بِهِ مِنَ الْحَيْضِ؛ فَإِنْ صَامَتْ بَعْدَ الْعُلُوقِ وَقَبْلَ حَرَكَتِهِ أَعَادَتْ، وَإِنْ قُلْنَا: هُوَ لَهُ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الْأَصَحُّ نظر في الدم فإن كان ثخيناً محترماً فَهُوَ حَيْضٌ، وَإِنْ كَانَ رَقِيقًا أَصْفَرَ فَفِي كَوْنِهِ حَيْضًا وَجْهَانِ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ فِي الْحَمْلِ غَيْرُ مُعْتَادٍ وَفِي وُجُودِ الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْعَادَةِ وَجْهَانِ كَذَلِكَ هَذَا.

(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي: " وَلَا تُنْكَحُ الْمُرْتَابَةُ وَإِنْ أَوْفَتْ عِدَّتَهَا لِأَنَّهَا لَا تَدْرِي مَا عِدَّتُهَا فَإِنْ نُكِحَتْ لَمْ يُفْسَخْ وَوَقَّفْنَاهُ فَإِنْ بَرِئَتْ مِنَ الْحَمْلِ فَهُوَ ثَابِتٌ وَقَدْ أَسَاءَتْ وَإِنْ وَضَعَتْ بَطَلَ النِّكَاحُ (قال المزني) رحمه الله جعل الحامل تحيض ولم يجعل لحيضها معنى يعتد به كما تكون التي لم تحض تعتد بالشهور فإذا حدث الحيض كانت العدة بالحيض والشهور كما كانت تمر عليها وليست بعدة وكذلك الحيض يمر عليها وليس كل حيض عدة كما ليس كل شهور عدة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْمُرْتَابَةُ فَهِيَ الَّتِي تَمْضِي فِي أَقْرَائِهَا وَهِيَ مُرْتَابَةٌ بِحَمْلِهَا لِمَا تَجِدُهُ مِنْ غِلَظٍ وَتَحُسُّ بِهِ مِنْ نَقْلٍ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنَ النِّكَاحِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا حَتَّى تزول ريبتها، فإن نكحت قال الشافعي ها هنا لَمْ يُفْسَخِ النِّكَاحُ وَوَقَّفْنَاهُ فَإِنْ بَرِئَتْ مِنَ الْحَمْلِ فَهُوَ ثَابِتٌ وَقَدْ أَسَاءَتْ وَإِنْ وَضَعَتْ بَطَلَ النِّكَاحُ.
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِنْ نَكَحَتِ الْمُرْتَابَةُ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا وَهِمَ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ حَالَتِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ الْمَوْضِعُ الَّذِي أَبْطَلَ فِيهِ نِكَاحَهَا إِذَا كَانَتِ الرِّيبَةُ مَوْجُودَةً قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَالْمَوْضِعُ الَّذِي وَقَّفَ فِيهِ نِكَاحَهَا إِذَا أُحْدِثَتِ الرِّيبَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عَدَّتِهَا؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ مَوْضُوعَةٌ لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ وَوُجُودُ الرِّيبَةِ فِيهَا تَمْنَعُ مِنَ اسْتِبْرَائِهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْكَمَ بِانْقِضَائِهَا فَلِذَلِكَ بَطَلَ نِكَاحُهَا؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْبَاقِيَةِ فِي عِدَّتِهَا وَإِنِ انْقَضَتْ أَقَرَاؤُهَا

(11/200)


وَإِذَا صَدَقَتِ الرِّيبَةُ بَعْدَ الْعِدَّةِ فَقَدْ تَقَدَّمَهَا الْحُكْمُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلَمْ تَنْقَضِ لِمَظْنُونٍ مُجَوِّزٍ، وَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ مَوْقُوفًا عَلَى مَا تَحَقَّقَ مِنْ حَالِ الْحَمْلِ كَالْحَاكِمِ إِذَا اجْتَهَدَ ثُمَّ بَانَ لَهُ مَا هُوَ أَوْلَى مِنِ اجْتِهَادِهِ الْأَوَّلِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ نُفُوذِ الْحُكْمِ بِهِ رَجَعَ عَنِ الْأَوَّلِ وَحَكَّمَ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ نُفُوذِ الْحُكْمِ بِهِ أَمْضَى الْحُكْمَ بِالِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يُبَعِّضْهُ فَإِنْ بَانَ لَهُ مُخَالَفَةُ النَّصِّ نَقَضَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ اخْتِلَافَ حَالَتِهِمَا مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَبْطُلُ فِيهِ نِكَاحُهَا إِذَا كَانَتِ الرِّيبَةُ مَوْجُودَةً قَبْلَ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَالْمَوْضِعَ الَّذِي وُقِفَ فِيهِ نِكَاحُهَا إِذَا حَدَثَتِ الرِّيبَةُ بَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ اسْتِبْرَاءَهَا قَبْلَ النِّكَاحِ مِنْ حُقُوقِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ وَلَدَهَا يُلْحَقُ بِهِ إِلَى مُدَّةِ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ طَلَاقِهِ فَاسْتَوَى فِي حَقِّهِ وُجُودُ الرِّيبَةِ قَبْلَ الْعِدَّةِ وَبَعْدَهَا فَلِذَلِكَ بَطَلَ نِكَاحُهَا وَاسْتِبْرَاؤُهَا بَعْدَ النِّكَاحِ فِي حَقِّ الثَّانِي، لِأَنَّهُ يُلْحَقُ بِهِ ولدها إذا وضعته لستة أشهر فلذلك وقت نِكَاحُهَا.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ يَنْزِلُ لَهَا مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: مَا كَانَ نِكَاحُهَا فِيهِ بَاطِلًا، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الرِّيبَةُ مَوْجُودَةً قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِي بُطْلَانِ نِكَاحِهَا سَوَاءٌ زالت الريبة أو تحققت بالولادة.
والحال الثاني: مَا كَانَ نِكَاحُهَا فِيهِ مَوْقُوفًا، وَهُوَ أَنْ تَحْدُثَ الرِّيبَةُ بَعْدَ النِّكَاحِ فَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ لَا يَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ عُقِدَ عَلَى الصِّحَّةِ فِي الظَّاهِرِ فَلَمْ يَبْطُلْ بِالْوَهْمِ لكن يكره له وطئها حَتَّى يُنْظَرَ مَا يَكُونُ مِنْ حَالِ رِيبَتِهَا، فَإِنِ انْفَشَّ الْحَمْلُ كَانَ النِّكَاحُ عَلَى صِحَّتِهِ وَإِنْ وَضَعَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ فَالْوَلَدُ لِلثَّانِي، وَالنِّكَاحُ عَلَى صِحَّتِهِ، وَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ لِلْأَوَّلِ، وَالنِّكَاحُ حِينَئِذٍ بَاطِلٌ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: مَا كَانَ نِكَاحُهَا مُخْتَلَفًا فِيهِ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الرِّيبَةُ حَادِثَةً بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَقَبْلَ نِكَاحِ الثَّانِي فَفِي النِّكَاحِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ، وَهُوَ قَوْلُ مَنِ اعْتَبَرَ الرِّيبَةَ قَبْلَ النِّكَاحِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مَوْقُوفٌ، وَهُوَ قَوْلُ مَنِ اعْتَبَرَ الرِّيبَةَ قَبْلَ الْعِدَّةِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ النِّكَاحُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مَوْقُوفًا وَعَقْدُ النِّكَاحِ عِنْدَهُ لَا يَقِفُ عَلَى الْإِجَازَةِ وَلَا يَنْعَقِدُ إِلَّا عَلَى فَسَادٍ أَوْ صِحَّةٍ قِيلَ: إِنَّمَا جُعِلَ مَوْقُوفًا عَلَى الْفَسْخِ لَا عَلَى الْإِجَازَةِ وَالْإِمْضَاءِ كَمَا يُوقَفُ نِكَاحُ الْوَثَنِيَّيْنِ إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْفَسْخِ دون الإمضاء.

(11/201)


(مسألة)
قال الشافعي رضوان الله عليه: " وَلَوْ كَانَتْ حَامِلًا بِوَلَدَيْنِ فَوَضَعَتِ الْأَوَّلَ فَلَهُ الرَّجْعَةُ وَلَوِ ارْتَجَعَهَا وَخَرَجَ بَعْضُ وَلَدِهَا وَبَقِيَ بَعْضُهُ كَانَتْ رَجْعَةً وَلَا تَخْلُو حَتَّى يُفَارِقَهَا كُلُّهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَحُكِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّهَا إِذَا وَضَعَتْ أَحَدَ الْوَلَدَيْنِ، أَوْ خَرَجَ بَعْضُ أَحَدِهِمَا انْتَقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَبَطَلَتْ رَجْعَةُ الزَّوْجِ كَمَا تَنْقَضِي عِدَّةُ ذَاتِ الْأَقْرَاءِ بِأَوَّلِ الْحَيْضِ كَذَلِكَ الْحَامِلُ تَقْضِي عِدَّتَهَا بِأَوَّلِ الْحَمْلِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِقَوْلِهِ: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وَوَضْعُ الْحَمْلِ يَكُونُ بَعْدَ انْفِصَالِ جَمِيعِهِ، وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ مَوْضُوعَةٌ لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ وَخُلُوِّهِ مِنْ وَلَدٍ مَظْنُونٍ فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ تَنْقَضِيَ مَعَ بَقَاءِ وَلَدٍ مَوْجُودٍ، فَأَمَّا ذَاتُ الْأَقْرَاءِ فَعِدَّتُهَا بِالْأَطْهَارِ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى أَوَّلُ الْحَيْضِ لِاسْتِكْمَالِهَا وَالْحَامِلُ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ فَاقْتَضَى أَنْ يُرَاعَى اسْتِكْمَالُهُ، فَعَلَى هَذَا لَوِ ارْتَجَعَهَا بَعْدَ خُرُوجِ بَعْضِ الْوَلَدِ وَبَقَاءِ بَعْضِهِ صَحَّتْ رَجْعَتُهُ، وَلَوْ نَكَحَتْ غَيْرَهُ بَطَلَ نِكَاحُهَا وَلَوِ انْفَصَلَ جَمِيعُ حَمْلِهَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَلَمْ يَصِحَّ لَهُ الرَّجْعَةُ وَلَا يَمْنَعُهَا بَقَاءُ النَّاسِ مِنْ نكاح غيره.
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: " وَلَوْ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ فَلَمْ يَدْرِ أَقَبْلَ وِلَادِهَا أَمْ بَعْدَهُ فَقَالَ وَقَعَ بَعْدَ مَا وَلَدَتْ فَلِيَ الرَّجْعَةُ وَكَذَّبَتْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ حَقٌّ لَهُ وَالْخُلُوَّ مِنَ الْعِدَّةِ حَقٌّ لَهَا وَلَمْ يَدْرِ وَاحِدٌّ مِنْهُمَا كَانِتِ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا وَجَبَتْ وَلَا نُزِيلُهَا إِلَّا بِيَقِينٍ وَالْوَرَعُ أَنْ لَا يَرْتَجِعَهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ دُونَ الثَّلَاثِ فَوَلَدَتْ ثُمَّ اخْتَلَفَا هَلْ كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الْوِلَادَةِ أَوْ بَعْدَهَا فَادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ وَأَنْ عِدَّتَهَا بِالْأَقْرَاءِ وَلَهُ الرَّجْعَةُ، وَقَالَتْ: بَلْ طَلَّقَنِي قَبْلَ الْوِلَادَةِ فَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتِي بِهَا وَلَا رَجْعَةَ لَكَ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى وَقْتِ الْوِلَادَةِ أَنَّهُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَيَخْتَلِفَا فِي وَقْتِ الطَّلَاقِ فَيَقُولُ الزَّوْجُ: هُوَ يَوْمُ السَّبْتَ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ، هُوَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسَ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ وَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِالْأَقْرَاءِ وَلَهُ الرَّجْعَةُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مِنْ فِعْلِهِ فَرُجِعَ فِيهِ إِلَى قَوْلِهِ كَمَا يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي أَصْلِ وُقُوعِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى وَقْتِ الطَّلَاقِ أَنَّهُ كَانَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَيَخْتَلِفَا فِي وَقْتِ الْوِلَادَةِ فَيَقُولُ الزَّوْجُ وَلَدَتْ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ، بَلْ وَلَدْتُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ، وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجَةِ مَعَ يَمِينِهَا، وَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالْوِلَادَةِ لِتَأَخُّرِهَا وَلَا رَجْعَةَ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ مِنْ فِعْلِهَا وَمَعْلُومٌ مِنْ جهتها.

(11/202)


وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي وَقْتِ الطَّلَاقِ، وَفِي وَقْتِ الْوِلَادَةِ فَيَقُولُ الزَّوْجُ، وَلَدَتْ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَطَلَّقْتُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ بَلْ طُلِّقْتُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَوَلَدْتُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ، فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَالْبَادِي بِالْيَمِينِ أَسْبَقُهُمَا بِالدَّعْوَى، وَفِي كَيْفِيَّةِ الْيَمِينِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَحْلِفُ الزَّوْجُ بِاللَّهِ مَا طَلَّقْتُهَا إِلَّا بَعْدَ وِلَادَتِهَا، وَتَحْلِفُ الزَّوْجَةُ بِاللَّهِ مَا وَلَدْتُ إِلَّا بَعْدَ طَلَاقِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَوْجَزَ وَأَخْصَرَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا يَحْلِفَانِ عَلَى صِفَةِ الدَّعْوَى فَتَضْمَنُ يَمِينُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِثْبَاتَ مَا ادَّعَاهُ وَنَفْيَ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ الزَّوْجُ: وَاللَّهِ لَقَدْ وَلَدَتْ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَمَا طَلَّقْتُهَا إِلَّا فِي يَوْمِ السَّبْتِ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ: وَاللَّهِ لَقَدْ طَلَّقَنِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَلَقَدْ وَلَدْتُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ، وَلَا تَحْتَاجُ أَنْ تَقُولَ مَا وَلَدْتُ إِلَّا فِي يَوْمِ السَّبْتِ وَإِنِ احْتِيجَ إِلَى ذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ لَا تَتَكَرَّرُ وَالطَّلَاقَ قَدْ يَتَكَرَّرُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا فِي التَّحَالُفِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَنْكُلَا فَيُحْكَمُ عِنْدَ نُكُولِهَا بِقَوْلِ أَسْبَقِهِمَا بِالدَّعْوَى، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ حُكِمَ لَهُ بِالرَّجْعَةِ، وَعَلَيْهَا بِالْعِدَّةِ وَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ حُكِمَ لَهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَإِسْقَاطِ الرَّجْعَةِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَحْلِفَ أَحَدُهُمَا وَيَنْكُلَ الْآخَرُ فَيُحْكَمُ لِلْحَالِفِ مِنْهُمَا دُونَ النَّاكِلِ سَوَاءٌ كَانَ سَابِقًا بِالدَّعْوَى أَوْ مَسْبُوقًا.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَحْلِفَا مَعًا فَالتَّحَالُفُ مِنْهُمَا وَقَعَ عَلَى حُكْمَيِ الرَّجْعَةِ وَالْعِدَّةِ فَأَثْبَتَهُمَا الزَّوْجُ لِنَفْسِهِ بِيَمِينِهِ وَنَفَتْهُمَا الزَّوْجَةُ عَنْهَا بِيَمِينِهَا فَوَجَبَ أَنْ يُلْزَمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَغْلَظَ الْأَمْرَيْنِ فِي حَقِّهِ يَقِينًا لِلتُّهْمَةِ عَنْهُمَا فَتَسْقُطُ رَجْعَةُ الزَّوْجِ بِيَمِينِ الزَّوْجَةِ لِأَنَّهُ أَغْلَظُ الْأَمْرَيْنِ عَلَيْهَا وَأَنْفَى لِلتُّهْمَةِ عَنْهَا.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى وَقْتِ الْوِلَادَةِ وَيَشُكَّا فِي الطَّلَاقِ هَلْ تَقَدَّمَهَا أَوْ تَأَخَّرَ عَنْهَا فَيُحْكُمُ عَلَيْهَا بِالْعِدَّةِ وَلِلزَّوْجِ الرَّجْعَةُ لِأَنَّا عَلَى يَقِينٍ مِنْ حُدُوثِ الطَّلَاقِ وَفِي شَكٍّ مِنْ تَقَدُّمِهِ وَالْوَرَعُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْتَجِعَ لِجَوَازِ تَقَدُّمِهِ.
وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى وَقْتِ الطَّلَاقِ وَيَشُكَّا فِي الْوِلَادَةِ هَلْ تَقَدَّمَتْ عَلَيْهِ أو تأخرت عنه فَيُحْكَمُ لَهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَسُقُوطِ الرَّجْعَةِ لِأَنَّا عَلَى يَقِينٍ مِنْ حُدُوثِ الْوِلَادَةِ وَفِي شَكٍّ مِنْ تَقَدُّمِهَا وَالْوَرَعُ لَهَا أَنْ تَعْتَدَّ لِجَوَازِ تَقَدُّمِهَا.
وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ: قَدْ عَلِمْتِ أَنَّنِي طَلَّقْتُكِ بَعْدَ وِلَادَتِكَ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ: لَسْتُ أَعْلَمُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ لِعِلْمِهِ بِمَا جَهِلَتْهُ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَهُ الرَّجْعَةُ، وَلَهَا إِحْلَافُهُ عَلَى الرَّجْعَةِ دُونَ الْعِدَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَرْتَجِعْهَا فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ تَلْزَمُهَا مَعَ الجهل بأدائها.

(11/203)


وَالْقِسْمُ السَّابِعُ: أَنْ تَقُولَ الزَّوْجَةُ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّنِي وَلَدْتُ بَعْدَ طَلَاقِكَ وَيَقُولَ الزَّوْجُ: لَسْتُ أَعْلَمُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَلَا رَجْعَةَ لَهُ وَلَهُ إِحْلَافُهَا فِي سُقُوطِ الْعِدَّةِ دُونَ الرَّجْعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَبِيحُ الرَّجْعَةَ مَعَ الْجَهْلِ بِاسْتِحْقَاقِهَا.
وَالْقِسْمُ الثَّامِنُ: أَنْ يَجْهَلَا جَمِيعًا وَقْتَ الْوِلَادَةِ وَالطَّلَاقِ وَلَا يَعْلَمُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، هَلْ تَقَدَّمَ الطَّلَاقُ عَلَى الْوِلَادَةِ أَوْ تَقَدَّمَتِ الْوِلَادَةُ عَلَى الطَّلَاقِ فَعَلَيْهِمَا الْعِدَّةُ وَلَهُ الرَّجْعَةُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ الْعِدَّةِ فَلَا تَنْقَضِي بِالشَّكِّ وَأَنَّ الرَّجْعَةَ مُسْتَحَقَّةٌ فَلَا تَبْطُلُ بِالشَّكِّ وَيُخْتَارُ لَهُ فِي الْوَرَعِ أَنْ لَا يَرْتَجِعَهَا احتياطاً.

(مسألة)
قال الشافعي: " وَلَوْ طَلَّقَهَا فَلَمْ يُحْدِثْ لَهَا رَجْعَةً وَلَا نِكَاحًا حَتَّى وَلَدَتْ لَأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ فَأَنْكَرَهُ الزَّوْجُ فَهُوَ مَنْفِيٌّ بِاللِّعَانِ لِأَنَّهَا وَلَدَتْهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ لِمَا لَا يَلِدُ لَهُ النِّسَاءُ (قال المزني) رحمه الله فَإِذَا كَانَ الْوَلَدُ عِنْدَهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَلِدَهُ مِنْهُ فَلَا مَعْنَى لِلِّعَانِ بِهِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا غَلَطًا مِنْ غَيْرِ الشَّافِعِيِّ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيَانُ أَقَلِّ الْحَمْلِ وَأَكْثَرِهِ، فَأَمَّا مُدَّةُ أَقَلِّ الْحَمْلِ الَّذِي يَعِيشُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَسِتَّةُ أَشْهُرٍ اسْتِنْبَاطًا مِنْ نَصٍّ وَانْعِقَادًا مِنْ إِجْمَاعٍ وَاعْتِبَارًا بِوُجُودٍ.
أَمَّا اسْتِنْبَاطُ النَّصِّ فَقَوْلُ اللَّهِ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف 15] فَجَعَلَهَا مُدَّةً لِلْحَمْلِ وَلِفِصَالِ الرَّضَاعِ وَلَا تَخْلُو هَذِهِ الْمُدَّةُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ.
إِمَّا أَنْ تَكُونَ جَامِعَةً لِأَقَلِّهِمَا أَوْ لِأَكْثَرِهِمَا أَوْ لِأَكْثَرِ الْحَمْلِ وَأَقَلِّ الرَّضَاعِ أَوْ لِأَقَلِّ الْحَمْلِ وَأَكْثَرِ الرَّضَاعِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ جَامِعَةً لِأَقَلَّيْهِمَا لِأَنَّ أَقَلَّ الرَّضَاعِ غَيْرُ مُحَدَّدٍ، ولم يجز أن تكون جامعة لأكثرهما لزيادها عَلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ جَامِعَةً لِأَكْثَرِ الْحَمْلِ وَأَقَلِّ الرَّضَاعِ؛ لِأَنَّ أَقَلَّهُ غير محدد فلم يبق إلا أن جَامِعَةً لِأَقَلِّ الْحَمْلِ وَأَكْثَرِ الرَّضَاعِ ثُمَّ ثَبَتَ أن أكثر الرضاع حولين لِقَوْلِ اللَّهِ: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] عُلِمَ أَنَّ الْبَاقِيَ وَهُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ مُدَّةُ أَقَلِّ الْحَمْلِ.
وَأَمَّا انْعِقَادُ الإجماع فما رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى عَهْدِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَوَلَدَتْ فَرَافَعَهَا إِلَيْهِ فَهَمَّ عُثْمَانُ بِرَجْمِهِمَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنْ خَاصَمْتُكَ الْمَرْأَةُ خَاصَمْتُكَ بِالْقُرْآنِ، فَقَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَمِنْ أَيْنَ ذَلِكَ فَقَالَ: قَالَ اللَّهُ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] وَقَالَ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] فَإِذَا ذَهَبَ الْحَوْلَانِ

(11/204)


مِنْ ثَلَاثِينَ شَهْرًا كَانَ الْبَاقِي لِحَمْلِهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَعَجِبَ النَّاسُ مِنِ اسْتِخْرَاجِهِ وَرَجَعَ عُثْمَانُ، وَمَنْ حَضَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ إِلَى قَوْلِهِ فَصَارَ إِجْمَاعًا.
وَأَمَّا اعْتِبَارُ الْوُجُودِ فَمَا حُكِيَ أَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وُلِدَ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وِلَادَةِ أَخِيهِ الْحَسَنِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا.
وَأَمَّا مُدَّةُ أَكْثَرِ الْحَمْلِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّ أَكْثَرَ مُدَّتِهِ أَرْبَعُ سِنِينَ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، أَكْثَرُ مُدَّتِهِ سَبْعُ سِنِينَ وَعَنْ مَالِكٍ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: رُوِيَ عَنْهُ أَرْبَعُ سِنِينَ، وَرُوِيَ خَمْسُ سِنِينَ، وَرُوِيَ سَبْعُ سِنِينَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَكْثَرُ مُدَّتِهِ سَنَتَانِ.
وبه قال المزني استدلالا بقول اللَّهِ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] فَجَعَلَهَا مَقْصُورَةً عَلَى الْمُدَّتَيْنِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ إِحْدَاهُمَا أَكْثَرَ مِنْهُمَا وَلِأَنَّ هَاتَيْنِ الْمُدَّتَيْنِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِمَا فَلَمْ يَجُزِ الِانْتِقَالُ عَنْهُمَا إِلَّا بِإِجْمَاعٍ أَوْ دَلِيلٍ.
وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ كُلَّ مَا احْتَاجَ إِلَى حَدٍّ وَتَقْدِيرٍ إِذَا لَمْ يَتَقَدَّرْ بِشَرْعٍ وَلَا لُغَةٍ كَانَ مِقْدَارُهُ بِالْعُرْفِ وَالْوُجُودِ كَالْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ، وَقَدْ وُجِدَ مِرَارًا حَمْلٌ وُضِعَ لِأَرْبَعِ سِنِينَ رَوَى دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: قُلْتُ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ إِنِّي حُدِّثْتُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لَا تَزِيدُ الْمَرْأَةُ فِي حَمْلِهَا عَلَى سَنَتَيْنِ قَدْرَ ظِلِّ الْمِغْزَلِ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَنْ يَقُولُ هَذَا؟ هَذِهِ جَارَتُنَا امْرَأَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ امْرَأَةُ صِدْقٍ وَزَوْجُهَا رَجُلُ صِدْقٍ وَحَمَلَتْ ثَلَاثَةَ أَبْطُنٍ فِي اثْنَيْ عشر سَنَةً تَحْمِلُ كُلَّ بَطْنٍ أَرْبَعَ سِنِينَ.
وَرَوَى الْمُبَارَكُ بْنُ مُجَاهِدٍ قَالَ: مَشْهُورٌ عِنْدَنَا كَانَتِ امْرَأَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ تَحُولُ وَتَضَعُ فِي أَرْبَعِ سِنِينَ فَكَانَتْ تُسَمَّى حَامِلَةَ الْفِيلِ.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ الْقُرَشِيِّ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ رَأَى رَجُلًا فَقَالَ: إِنَّ أَبَا هَذَا غَابَ عَنْ أُمِّهِ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ قَدِمَ فَوَضَعَتْ هَذَا، وَلَهُ ثَنَايَا.
وَرَوَى هِشَامُ بْنُ يَحْيَى الْمُجَاشِعِيُّ قَالَ: بَيْنَمَا مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ يَوْمًا جَالِسٌ إِذْ قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا يَحْيَى ادْعُ لِامْرَأَتِي حُبْلَى مُنْذُ أَرْبَعِ سِنِينَ قَدْ أَصْبَحَتْ فِي كَرْبٍ شَدِيدٍ فَغَضِبَ مَالِكٌ وَأَطْبَقَ الْمُصْحَفَ، وَقَالَ: مَا يَرَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ إِلَّا أَنَّا أَنْبِيَاءُ ثُمَّ دَعَا ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ

(11/205)


هَذِهِ الْمَرْأَةُ إِنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا رِيحٌ فَأَخْرِجْهَا عَنْهَا السَّاعَةَ وَإِنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا جَارِيَةً فَأَبْدِلْهَا بِهَا غُلَامًا فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ وَعِنْدَكَ أُمُّ الْكِتَابِ ثُمَّ رَفَعَ مَالِكٌ يَدَهُ وَرَفَعَ النَّاسُ أَيْدِيَهُمْ وَجَاءَ الرَّسُولُ إِلَى الرَّجُلِ فَقَالَ: أَدْرِكِ امْرَأَتَكَ: فَذَهَبَ الرَّجُلُ فَمَا حَطَّ مَالِكٌ يَدَهُ حَتَّى طَلَعَ الرَّجُلُ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ عَلَى غُلَامٍ جَعْدٍ قَطَطٍ ابْنِ أَرْبَعِ سِنِينَ، قَدِ اسْتَوَتْ أَسْنَانُهُ مَا قُطِعَتْ أَسْرَارُهُ وَإِذَا كَانَ هَذَا النَّقْلُ صَحِيحًا مِنْ طُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ ثَبَتَ وُجُودُهُ وَاسْتَقَرَّ حُكْمُهُ.
فَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ ذَكَرْنَا مَا اقْتَضَتْهُ وَفِيهِ جواباً.
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدِ انْتَقَلْنَا عَنْهُ بِالْوُجُودِ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ فَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فِي الظَّاهِرِ بِالشُّهُورِ أَوْ بِالْأَقْرَاءِ ثُمَّ وَضَعَتْ قَبْلَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِ وَلَدًا فَإِنْ رَضَّعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ فَهُوَ لَاحِقٌ بِالزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَجَاوَزْ مُدَّةَ أَكْثَرِ الْحَمْلِ وَهِيَ أَرْبَعُ سِنِينَ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ نَادِرًا فَوَجَبَ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ وَإِنْ خَالَفَ الْغَالِبَ كَمَا يَلْحَقُ بِهِ إِذَا وَلَدَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ عَقْدِهِ وَإِنْ نَدَرَ وَخَالَفَ الْغَالِبَ لِوُجُودِ الْإِمْكَانِ فِي الْحَالَيْنِ مَعَ كَوْنِهِمَا نَادِرَيْنِ وَتَنْقَضِي عِدَّتُهُمَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ دُونَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الشُّهُورِ وَالْأَقْرَاءِ، لِأَنَّ لُحُوقَ الْوَلَدِ بِهِ يَمْنَعُ مِنِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِغَيْرِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا.
وَإِنْ وَضَعَتِ الْوَلَدَ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ فَوْتِ الطَّلَاقِ لَمْ يَخْلُ الطَّلَاقُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا فَإِنْ كَانَ بَائِنًا وَالْبَائِنُ وَاحِدٌ مِنْ ثَلَاثِ فِرَقٍ. إِمَّا الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ، أَوِ الْخُلْعُ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ، أَوِ الْفَسْخُ بِمَا اسْتَحَقَّ بِهِ الْفَسْخَ، فَإِنَّ الْوَلَدَ لَا يُلْحَقُ بِهِ، لِأَنَّ الْعُلُوقَ مَعَ حَادِثٍ بَعْدَ تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ فِي حَالٍ لَوْ وَطِئَهَا حُدَّ فَصَارَ مَنْفِيًّا عَنْهُ بِغَيْرِ لِعَانٍ.
فَأَمَّا الْعِدَّةُ فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ: أَنَّهَا تَنْقَضِي بِالْوِلَادَةِ فَإِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الشُّهُورِ أَوِ الْأَقْرَاءِ، لِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ بِالْوِلَادَةِ أَقْوَى وَالْعِدَّةُ تُعْتَبَرُ فِي الِاسْتِبْرَاءِ بِمَا هُوَ الْأَقْوَى؛ لِأَنَّهَا تُعْتَدُّ بِالشُّهُورِ، فَإِنْ وُجِدَتِ الْأَقْرَاءُ انْتَقَلَتْ إِلَيْهَا لِقُوَّتِهَا فَإِنْ وُجِدَتِ الْوِلَادَةُ انْتَقَلَتْ عَنِ الْأَقْرَاءِ إِلَيْهَا لِقُوَّتِهَا.
قَالُوا: وَلَيْسَ بِتَكْرَارٍ تَعْتَدُّ بِوَضْعِ الْوَلَدِ لَا يُلْحَقُ بِهِ كَوَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ، وَالَّذِي عِنْدِي: أَنَّ عِدَّتَهَا قَدِ انْقَضَتْ بِالشُّهُورِ أَوْ بِالْأَقْرَاءِ الَّتِي كَانَتْ قَدِ اعْتَدَّتْ بِهَا دُونَ مَا حَدَثَ بَعْدَهَا

(11/206)


مِنْ حَمْلٍ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ؛ لِأَنَّ مَا انْتَفَى عَنْهُ لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ امْتَنَعَ أَنْ تَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ كَزَوْجَةِ الصَّغِيرِ إِذَا وَلَدَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ عَنْهَا تَعْتَدُّ بِالشُّهُورِ دُونَ الْحَمْلِ.
فَإِنْ قَالُوا: وَلَدُ الصَّغِيرِ لَا يُلْحَقُ بِهِ إِذَا ادَّعَاهُ قِيلَ: كَذَلِكَ هُوَ الْوَلَدُ لَا يُلْحَقُ به لو ادعاه كما لا يحلق بِالزَّانِي مَا لَمْ يَدَّعِ نِكَاحًا أَوْ شُبْهَةً، وَلَوْ جَازَ هَذَا لَوَجَبَ أَنْ لَا يُحْكَمَ لِمُطَلَّقَتِهِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مَا لَمْ يَتَزَوَّجْ حَتَّى تَجَاوَزَ أَرْبَعَ سِنِينَ لِجَوَازِ أَنْ تَضَعَ وَلَدًا وَهَذَا مَدْفُوعٌ.
فَأَمَّا وَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يُحْكَمْ بِانْقِضَاءِ عَدَّتِهَا بِغَيْرِهِ فَجَازَ أَنْ تَقْضِيَ عِدَّتَهَا بِهِ، وَهَذِهِ قَدْ حُكِمَ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِغَيْرِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ تَسْتَدِمِ الْعِدَّةُ إِلَى حِينِ وَضْعِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ وَلَدَ الْمُلَاعَنَةِ قَدْ نَفَاهُ بِاللِّعَّانِ مَعَ إِمْكَانِهِ، وَهَذَا نَفَاهُ الشَّرْعُ بِاسْتِحَالَتِهِ فَافْتَرَقَا.

(فَصْلٌ)
وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ وَقَدْ وَضَعَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُلْحَقُ بِهِ وَيَنْتَفِي عَنْهُ بِغَيْرِ لِعَانٍ؛ لِأَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ قَبْلَ الرَّجْعَةِ تَحْرِيمَ الْمَبْتُوتَةِ فَانْتَفَى عَنْهُ وَلَدُهَا لِحُدُوثِهِ بَعْدَ التَّحْرِيمِ كَمَا يَنْتَفِي عَنْهُ وَلَدُ الْمَبْتُوتَةِ وَتَكُونُ عِدَّتُهَا تَنْقَضِي عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَعِنْدِي بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الشُّهُورِ وَالْأَقْرَاءِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُلْحَقُ وَلَدُ الرَّجْعَةِ وَإِنْ لَمْ يُلْحَقْ بِهِ وَلَدُ الْمَبْتُوتَةِ؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ بَعْدَ الْفُرْقَةِ فِي حُكْمِ الزَّوْجَاتِ لِوُجُوبِ نَفَقَتِهَا، وَمِيرَاثِهَا، وَسُقُوطِ الْحَدِّ فِي وَطْئِهَا فَكَانَ مُخَالَفَتُهَا لِلْمَبْتُوتَةِ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ مُوجِبًا لِمُخَالَفَتِهَا فِي لُحُوقِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ زَوْجَةٌ وَالْمَبْتُوتَةُ أَجْنَبِيَّةٌ، فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي يُلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ بعد أربع سنين، هل تقدم أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهَا غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ وَأَنَّهَا مَتَى وَلَدَتْهُ وَلَوْ إِلَى عَشْرِ سِنِينَ لَحِقَ الْوَلَدُ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ، وَهَذَا بِعِيدٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أشبه أنه مُقَدَّرَةٌ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ بِمُدَّةِ الْعِدَّةِ، لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ وَإِنْ خَالَفَتِ الْمَبْتُوتَةَ فِي زَمَانِ الْعِدَّةِ فَهِيَ مُسَاوِيَةٌ لَهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ فِي التَّحْرِيمِ، وَوُجُوبِ الْحَدِّ فِي الْوَطْءِ فَصَارَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَالْمَبْتُوتَةِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ فَاقْتَضَى أَنْ يُعْتَبَرَ فِي لُحُوقِ وَلَدِهَا أَرْبَعُ سِنِينَ بَعْدَ تَسَاوِيهِمَا، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ إِنْ وَلَدَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ وَمُدَّةِ الْعِدَّةِ لَحِقَ بِهِ وَانْقَضَتْ به العدة.

(11/207)


وَإِنْ وَلَدَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ وَمُدَّةِ الْعِدَّةِ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ وَانْقَضَتْ بِهِ الْعِدَّةُ عَلَى ظَاهِرِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَانْقَضَتْ عِنْدِي بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعِدَّةِ.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ نَقَلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ يَنْتَفِي عَنْهُ بِاللِّعَانِ ثُمَّ نَسَبَ ذَلِكَ إِلَى الْغَلَطِ فِي النَّقْلِ عَنْهُ وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يكون منفياً عنه لا بل اللعان فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ مِنَ الْغَلَطِ فِي النَّقْلِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا قَالَهُ الْمُزَنِيُّ مِنَ الْغَلَطِ فِي النَّقْلِ وَأَنَّ الرَّبِيعَ نَقَلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ أَنَّهُ مَنْفِيٌّ عَنْهُ لَا بِاللِّعَانِ وَتَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ: لِأَنَّهَا وَلَدَتْهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ لِمَا لَا يَلِدُ لَهُ النِّسَاءُ.
قَالُوا: وَإِنَّمَا الْتَصَقَتِ اللَّامُ مِنْ لَا بِأَلِفٍ مِنَ اللِّعَانِ فَقُرِئَ بِاللِّعَانِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ النَّقْلَ صَحِيحٌ أَنَّهُ مَنْفِيٌّ باللعان ولا حق بِهِ إِنْ لَمْ يَلْتَعِنْ، وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ أَنَّ وَلَدَ الرَّجْعِيَّةِ لَاحِقٌ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ فَلَا يَنْتَفِي عَنْهُ إِلَّا بِاللِّعَانِ، وَيَكُونُ تَعْلِيلُهُ بِأَنَّهَا وَلَدَتْهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ لِمَا لَا يَلِدُ لَهُ النِّسَاءُ يَعْنِي فِي الْأَغْلَبِ يُجْعَلُ لِلزَّوْجِ عُذْرًا فِي نَفْيِهِ بِاللِّعَانِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
(فَصْلٌ)
قَالَ المزني: " وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ كُلَّمَا وَلَدْتِ وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ وَلَدَيْنِ بَيْنَهُمَا سَنَةٌ طُلِّقَتْ بِالْأَوَّلِ وَحَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ بِالْآخَرِ ولم نلحق به الآخر لأن طلاقه وقع بولادتها ثم لم يحدث لها نكاحاً ولا رجعة ولم يقربه فيلزمه إقراره فكان الولد منتفياً عنه بلا لعان وغير ممكن أن يكون في الظاهر منه (قال المزني) رحمه الله فوضعها لما لا يلد له النساء من ذلك أبعد وبأن لا يحتاج إلى لعان به أحق ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ أَوْرَدَهَا الْمُزَنِيُّ احْتِجَاجًا بِمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْغَلَطِ فِي النَّقْلِ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَنَحْنُ نَذْكُرُ فِيهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنِ الْغَلَطِ فِي النَّقْلِ، فَنَقُولُ: إِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: كُلَّمَا وَلَدْتِ وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ وَلَدَيْنِ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُمَا مِنْ حَمْلٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ أَقَلَّ الْحَمْلِ إِذَا كَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ كَانَ الْمَوْلُودُ قَبْلَهَا مُتَقَدِّمَ الْعُلُوقِ عَلَى وِلَادَةِ الْأَوَّلِ فَصَارَا حَمْلًا وَاحِدًا، وَإِذَا كَانَا حَمْلًا وَاحِدًا لَحِقَ بِهِ جَمِيعًا وَطُلِّقَتْ بِالْأَوَّلِ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالثَّانِي وَلَمْ تُطَلَّقْ بِهِ، لِأَنَّ الْوِلَادَةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ تَنْقَضِي بِهَا الْعِدَّةُ فَلَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ بِمَا انْقَضَتْ بِهِ الْعِدَّةُ لِأَنَّهُ يَكُونُ طَلَاقًا بَعْدَ الْعِدَّةِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرُ فَالطَّلَاقُ الْوَاقِعُ بِالْأَوَّلِ فِي هَذِهِ المسألة رجعي،

(11/208)


وَلَوْ كَانَ بَائِنًا لَمْ يُلْحَقْ بِهِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَمْلٍ حَادِثٍ بَعْدَ وَضْعِ الْأَوَّلِ الَّذِي صَارَتْ بِهِ مَبْتُوتَةً، وَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْمُعْتَدَّةِ بِالْأَقْرَاءِ إِذَا وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، فَإِذَا كَانَ الطَّلَاقُ الْوَاقِعُ بِوِلَادَةِ الْأَوَّلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رَجْعِيًّا، وَوَلَدَتِ الثَّانِيَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فَفِي لُحُوقٍ الثَّانِي بِهِ قَوْلَانِ كَالْمُعْتَدَّةِ بِالْأَقْرَاءِ إِذَا كَانَتْ رَجْعِيَّةً وَوَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُلْحَقُ بِهِ كَالْمَبْتُوتَةِ.
وَالثَّانِي: يُلْحَقُ بِهِ، وَفِي تَقْدِيرِ مُدَّتِهِ وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى:
أَحَدُهُمَا: لَا تَتَقَدَّرُ وَاعْتِبَارُهُ بِأَنْ لَا يَتَزَوَّجَ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَتَقَدَّرُ بِمُدَّةِ الْعِدَّةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ وِلَادَةِ ذَاتِ الأقراء والله أعلم.

(مسألة)
قال الشافعي: " وَلَوِ ادَعَتِ الْمَرْأَةُ أَنَهُ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ أَوْ نَكَحَهَا إِنْ كَانَتْ بَائِنًا أَوْ أَصَابَهَا وَهِيَ تَرَى أَنَّ لَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَلَدُ وَكَانَتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ حَيًّا وَعَلَى وَرَثَتِهِ عَلَى عِلْمِهِمْ إِنْ كَانَ مَيِّتًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: أَنْ تَأْتِيَ الْمُطَلَّقَةُ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ وَيُحْكَمُ بِنَفْيِهِ عَنْهُ فَتَدَّعِي عَلَى الزَّوْجِ أَنَّهُ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، أَوْ نَكَحَهَا إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا أَوْ أَصَابَهَا فِي عِدَّةِ الرَّجْعَةِ فَإِنَّ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا ثَابِتٌ، وَإِنَّ الْوَلَدَ بِهِ لَاحِقٌ فَهَذِهِ دَعْوَى مَسْمُوعَةٌ، وَلِلزَّوْجِ حَالَتَانِ: حَيٌّ، وَمَيِّتٌ، فَإِنْ كَانَ حَيًّا سُئِلَ عَنْهَا فَإِنْ صَدَّقَهَا ثَبَتَ نِكَاحُهَا وَاسْتَحَقَّتْ فِي الْعَقْدِ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ بِالرَّجْعَةِ وَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ إِنْ صَدَّقَهَا عَلَى وِلَادَتِهِ، وَإِنْ أَنْكَرَ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ وَأَنَّهَا الْتَقَطَتْهُ كُلِّفَتِ الْبَيِّنَةَ عَلَى وِلَادَتِهِ شاهدين، أو شاهد وامرأتين، أو أربع نسوة يشهدت لَهَا عَلَى وِلَادَتِهِ فَإِنْ أَقَامَتْهَا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ، وَلَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ إِلَّا بِاللِّعَانِ، وَإِنْ عَدِمَتْهَا حَلَفَ الزَّوْجُ أَنَّهَا لَمْ تَلِدْهُ وَانْتَفَى عَنْهُ نَسَبُهُ، فَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَيْهَا، فَإِنْ حَلَفَتْ ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ وَلَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ إِلَّا بِاللِّعَانِ، وَإِنْ نَكَلَتْ فَهَلْ تُوقَفُ الْيَمِينُ عَلَى بُلُوغِ الْوَلَدِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا فِي الرَّهْنِ وَاللِّعَانِ.
وَإِنْ أَنْكَرَ الزَّوْجُ مَا ادَّعَتْهُ مِنَ النِّكَاحِ، أَوِ الرَّجْعَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَإِنْ عَدِمَتِ الزَّوْجَةُ الْبَيِّنَةَ، وَالْبَيِّنَةُ شَاهِدَانِ عَدْلَانِ، فَإِنْ عَدِمَتِ الْبَيِّنَةَ وَحَلَفَ الزَّوْجُ فَلَا نِكَاحَ وَلَا رَجْعَةَ وَالْوَلَدُ مَنْفِيٌّ عَنْهُ نَفْيَ لِعَانٍ، وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهَا فَإِذَا حَلَفَتْ حُكِمَ لَهَا بِالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ فِي النِّكَاحِ، وَالنَّفَقَةِ وَحْدَهَا فِي الرَّجْعَةِ وَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ وَإِنْ نَكَلَتْ فَلَا مَهْرَ لَهَا وَلَا نَفَقَةَ، وَفِي وُقُوفِ نِسَبِ الْوَلَدِ عَلَى يَمِينِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ وَجْهَانِ.

(11/209)


(فَصْلٌ)
وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مَيِّتًا سُمِّعَتِ الدَّعْوَى عَلَى وَارِثِهِ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا أَوْ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ إِنْ كَانُوا عَدَدًا، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا وَصَدَّقَهَا كَانَ كَتَصْدِيقِ الزَّوْجِ فِي ثُبُوتِ مَا ادَّعَتْهُ مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، وَلُحُوقِ نَسَبِ الْوَلَدِ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ.
فَأَمَّا مِيرَاثُ الْوَلَدِ فَيُنْظَرُ فِي الْوَارِثِ الْمُصَدِّقِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُحْجَبُ بِالْوَلَدِ كَالِابْنِ وَرِثَ الْوَلَدُ الْمُسْتَحَقَّ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُحْجَبُ بِهِ كَالْأَخِ ثَبَتَ فِيهِ نَسَبُ الْوَلَدِ، وَلَمْ يَرْثِ لِمَا فِي تَوْرِيثِهِ مِنْ حَجْبِ الْمُقِرِّ وَإِبْطَالِ إِقْرَارِهِ بِحَجْبِهِ، وَإِنْ أَنْكَرَ الْوَارِثُ مَا ادَّعَتْهُ حَلَفَ عَلَى الْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَتْ يَمِينُ الزَّوْجِ عَلَى الْبَتِّ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَنْفِي بِيَمِينِهِ فِعْلَ نَفْسِهِ فَحَلَفَ عَلَى الْبَتِّ وَالْوَارِثَ يَنْفِي يَمِينُهُ فِعْلَ غَيْرِهِ فَحَلَفَ عَلَى الْعِلْمِ، فَإِنْ حَلَفَ أَوْ نَكَلَ كَانَ كَالزَّوْجِ إن حلف أن نَكَلَ وَقَامَ فِيهَا مَقَامَ الزَّوْجِ إِلَّا فِي شَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي صِفَةِ الْيَمِينِ فَإِنَّهَا مِنَ الزَّوْجِ عَلَى الْبَتِّ وَمِنَ الْوَارِثِ عَلَى الْعِلْمِ.
وَالثَّانِي: فِي نَفْيِ الْوَلَدِ بِاللِّعَانِ إِنْ ثَبَتَ نَسَبُهُ فَإِنَّ لِلزَّوْجِ نَفْيَهُ وَلَيْسَ لِلْوَارِثِ نَفْيُهُ وَإِنْ كَانَ الْوَرَثَةُ جَمَاعَةُ سَمِّعَتِ الدَّعْوَى عَلَى جَمِيعِهِمْ وَلَهُمْ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُصَدِّقُوهَا جَمِيعًا عَلَيْهَا فَيَكُونُ كَتَصْدِيقِ الْوَاحِدِ لَهَا فِي لُحُوقِ النَّسَبِ وَاسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ مَعَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُكَذِّبُوهَا جَمِيعًا فَعَلَيْهِمُ الْيَمِينُ فَإِنْ حَلَفُوا أَوْ نَكَلُوا كَانُوا كَالْوَاحِدِ إِذَا حَلَفَ أَوْ نَكَلَ..
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يصدقها بعضهم ويكذبها بعضهم فاللمكذب حالتان:
أحدهما: أَنْ يَحْلِفَ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَنْكُلَ.
فَإِنْ حَلَفَ انْتَفَى نَسَبُ الْوَلَدِ، لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِتَصْدِيقِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ وَلَمْ يُلْزَمِ الْمُكَذِّبُ مَهْرًا، وَلَا نَفَقَةً، وَلَا مِيرَاثًا، فَأَمَّا الْمُصَدِّقُ فَيَلْزَمُهُ الْمَهْرُ، وَالنَّفَقَةُ بِقَدْرِ حَقِّهِ وَلَا يَلْزَمُهُ مِنْ مِيرَاثِ الِابْنِ شَيْءٌ وَفِي الْتِزَامِهِ مِنْ مِيرَاثِ الزَّوْجَةِ بِقِسْطِهِ وَجْهَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ وَإِنْ نَكَلَ الْمُكَذِّبُ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَى الزَّوْجَةِ، فَإِنْ حَلَفَتْ ثَبَتَ مَا ادَّعَتْ وَصَارَ كَمَا لَوْ صَدَّقَهَا جَمِيعُهُمْ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ وَاسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ مَعَ الْمَهْرِ، وَالنَّفَقَةِ، وَإِنْ نَكَلَتْ كَانَ نُكُولُهَا فِي حَقِّهَا كَمَا لَوْ حَلَفَّتِ الْمُكَذِّبَ فَلَا تَسْتَحِقُّ فِي حِصَّتِهِ شَيْئًا وَتَسْتَحِقُّ عَلَى الْمُصَدِّقِ مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ بِقَدْرِ حَقِّهِ وَفِي مِيرَاثِهِ بِقَدْرِ حَقِّهِ وَجْهَانِ.
فَأَمَّا فِي حَقِّ الْوَلَدِ، فَهَلْ يُوجِبُ نُكُولُهَا عَنِ الْيَمِينِ وُقُوفَهَا عَلَى بُلُوغِ الْوَلَدِ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ:

(11/210)


أَحَدُهُمَا: لَا يُوقَفُ فَعَلَى هَذَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ، وَلَا يَرِثُ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ تَصْدِيقُ مَنْ صَدَّقَ مَعَ تَكْذِيبِ مَنْ كَذَّبَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُوقَفُ عَلَيْهِ، فَإِنْ حَلَفَ ثَبَتَ نَسَبُهُ، وَوَرِثَ مَنْ صَدَّقَ وَكَذَّبَ، وَإِنْ نَكَلَ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ وَلَمْ يَرِثْ مِنْ حَقِّ مَنْ صَدَّقَ وَكَذَّبَ، فَهَذَا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ إِنْ كَانَتْ دَعْوَاهُمَا لِرَجْعَةٍ أَوْ نِكَاحٍ.
فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ لِوَاطِئِ شُبْهَةٍ فَإِنَّهَا تَقْصُرُ عَنْ دَعْوَى الرَّجْعَةِ وَالْعَقْدِ فِي حَقَّيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مِيرَاثُهَا فَإِنَّ الْمَوْطُوءَةَ بِشُبْهَةٍ لَا مِيرَاثَ لَهَا.
وَالثَّانِي: فِي النَّفَقَةِ فَإِنَّ الْمَوْطُوءَةَ بِشُبْهَةٍ لَا نَفَقَةَ لَهَا إِنْ كَانَتْ حائلاً، وَفِي نَفَقَتِهَا إِنْ كَانَتْ حَامِلًا قَوْلَانِ، وَهِيَ فِيمَا سِوَى هَذَيْنِ مِنْ لُحُوقِ النَّسَبِ وَاسْتِحْقَاقِ مَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى مَا مَضَى تَقْسِيمًا وَحُكْمًا.

(مسألة)
قال الشافعي: " وَلَوْ نَكَحَ فِي الْعِدَّةِ وَأُصِيبَتْ فَوَضَعَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ نِكَاحِ الْآخَرِ وَتَمَامِ أَرْبَعِ سَنِينَ مِنْ فِرَاقِ الْأَوَّلِ فَهُوَ لِلْأَوَّلِ وَلَوْ كَانَ لَأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ فِرَاقِ الْأَوَّلِ لَمْ يَكُنِ ابْنَ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ لم يمكن من واحد منهما (قال المزني) رحمه الله فهذا قد نفاه بلا لعان فهذا والذي قبله سواء ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي مُعْتَدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ نَكَحَتْ فِي عِدَّتِهَا زَوْجًا، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ لِتَحْرِيمِهَا عَلَى الْأَزْوَاجِ مَعَ بَقَاءِ الْعَدَّةِ وَلَهَا حَالَتَانِ:
أحدهما: أَنْ لَا يَدْخُلَ بِهَا الزَّوْجُ فَتَكُونُ سَارِيَةً فِي عِدَّتِهَا غَيْرَ أَنَّ مَا أَقْدَمَتْ عَلَيْهِ فِي الْعَقْدِ قَدْ أَسْقَطَ نَفَقَتَهَا إِنْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً وَسُكْنَاهَا إِنْ كَانَتْ بَائِنَةً، لِأَنَّهَا قَصَدَتْ بِذَلِكَ إِسْقَاطَ حَقِّ الْمُطَلِّقِ فَسَقَطَ حَقُّهَا عَنِ الْمُطَلِّقِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَدْخُلَ بِهَا الزَّوْجُ الثاني، فلها حالتان:
أحدهما: أَنْ يَعْلَمَا التَّحْرِيمَ فَيَكُونَ الْحَدُّ عَلَيْهَا وَاجِبًا لِارْتِفَاعِ الشُّبْهَةِ بِعِلْمِهَا بِالتَّحْرِيمِ وَتَسْرِي فِي عِدَّتِهَا وَلَا تَنْقَطِعُ بِهَذَا الْوَطْءِ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ بِهِ فِرَاشًا وَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَمْ يُلْحَقْ بِالثَّانِي وَلَحِقَ بِالْأَوَّلِ إِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَجْهَلَا التَّحْرِيمَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا لِلشُّبْهَةِ، وَقَدْ صَارَتْ فِرَاشًا لِلثَّانِي بِالْإِصَابَةِ وَخَرَجَتْ مِنْ عِدَّةِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِرَاشًا لِوَاحِدٍ وَمُعْتَدَّةً مِنْ آخر ووجبت أن يفرق بينهما وَبَيْنَ الثَّانِي، فَإِذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا فَعَلَيْهَا أَنْ تُتِمَّ عِدَّةَ الْأَوَّلِ ثُمَّ تَعْتَدَّ مِنْ إِصَابَةِ الثَّانِي فَيَجْتَمِعَ عَلَيْهَا عِدَّتَانِ، وَلَهَا حَالَتَانِ حَائِلٌ، وَحَامِلٌ.
فَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا فَالْعِدَّتَانِ بِالْأَقْرَاءِ فَتُقَدَّمُ عِدَّةُ الْأَوَّلِ عَلَى عِدَّةِ الثَّانِي لِتَقَدُّمِ وُجُوبِهَا

(11/211)


وَلِاسْتِحْقَاقِهَا عَنْ عَقْدٍ صَحِيحٍ وَتَبْنِي عِدَّةً عَلَى مَا مَضَى مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ الْمَاضِي مِنْهَا قَبْلَ إِصَابَةِ الثَّانِي قُرْءًا اعْتَدَّتْ بِقُرْأَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْمَاضِي مِنْهَا قُرْأَيْنِ اعْتَدَّتْ بِقُرْءٍ لِتَسْتَكْمِلَ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ فَإِذَا اسْتَكْمَلَتْهَا اعْتَدَّتْ مِنَ الثَّانِي ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ وَيَجُوزُ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فِي زَمَانِ عِدَّتِهَا مِنْهُ إِنْ كَانَ طَلَاقُهَا رَجْعِيًّا وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ بَعْدَ الرَّجْعَةِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الثَّانِي وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيهَا نَفَقَةٌ لِتَحْرِيمِهَا عليه ولا على الثاني لفساد عقده فإنه لَمْ يَرْتَجِعْهَا الْأَوَّلُ فِي زَمَانِ عِدَّتِهِ كَانَ الثَّانِي أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي زَمَانِ عِدَّتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَيَسْقُطُ عَنْهَا بَقِيَّةُ عِدَّتِهِ إِنْ تَزَوَّجَهَا. وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْحَمْلِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تُلْحَقَ بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي.
وَالثَّانِي: أَنْ تُلْحَقَ بِالثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا تُلْحَقَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يُمْكِنَ لُحُوقُهُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنْ يُلْحَقَ بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَرْبَعِ سِنِينَ فَمَا دُونَهَا مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ دُخُولِ الثَّانِي فَهُوَ لَاحِقٌ بِالْأَوَّلِ، وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا مِنْهُ بِوَضْعِهِ وَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بَعْدَهُ مِنْ إِصَابَةِ الثَّانِي بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَاحِقًا بِالثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ وَلِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ دُخُولِ الثَّانِي، فَإِنْ كَانَ طَلَاقُ الْأَوَّلِ بَائِنًا فَهُوَ لَاحِقٌ بِالثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا فِي الثَّانِي بِوَضْعِهِ وَتَأْتِي بَعْدَهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الْأَوَّلِ وَبَعْدَ تَقْدِمَةِ عِدَّةِ الثَّانِي عَلَى عِدَّةِ الْأَوَّلِ لِأَجْلِ لُحُوقِ الْحَمْلِ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَ الْحَمْلُ بِشَخْصٍ تَنْقَضِي بِهِ عِدَّةُ غَيْرِهِ فَلِأَجْلِ ذلك قدمت عدة الثاني على عدة لأول وَإِنْ كَانَ طَلَاقُ الْأَوَّلِ رَجْعِيًّا فَعَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي وَلَدِ الرَّجْعِيَّةِ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ هَلْ يَلْحَقُ بِالْمَطَلِّقِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَلْحَقُ بِهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لَاحِقًا بِالثَّانِي وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا مِنْهُ بِوَضْعِهِ وَتَأْتِي بَعْدَهُ بِمَا بَقِيَ فِي عِدَّةِ الْأَوَّلِ، وَلِلْأَوَّلِ أَنْ يُرَاجِعَهَا بَعْدُ مِنَ الْبَقِيَّةِ مِنْ عِدَّتِهِ، وَهَلْ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا قَبْلَ وَضْعِهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَاجِعَهَا، لِأَنَّهَا فِي عِدَّةٍ مِنْ غَيْرِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا لما بقي عليها من عِدَّتِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ وَلَدَ الرَّجْعِيَّةِ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ لَاحِقٌ بِالْمُطَلَّقَةِ، فَعَلَى هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَاحِقًا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَكُونَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي الْقِسْمِ الرَّابِعِ مِنِ ادعاء

(11/212)


الْقَافَةِ لَهُ، وَيَجُوزُ هُنَا لِلْأَوَّلِ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ؛ لِأَنَّنَا لَمْ نَحْكُمْ بِهِ لِغَيْرِهِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ لَا يُلْحَقَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ طلاق الأول ولأقل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ دُخُولِ الثَّانِي، فَإِنْ كَانَ طَلَاقُ الْأَوَّلِ بَائِنًا لَمْ يُلْحَقْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَمْ تَنْقَضِ بِهِ عِدَّةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِوِفَاقِ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ لَاحِقٍ بِأَحَدِهِمَا، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْتُهُ مِنْ قَبْلُ: إِنَّهُ إِذَا لَمْ يُلْحَقُ بِالْمُطَلِّقِ لَمْ تَنْقَضِ بِهِ عِدَّتُهُ، وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّهَا تَنْقَضِي وَإِنْ كَانَ طَلَاقُ الْأَوَّلِ رَجْعِيًّا فَعَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُكْمَهُ كَذَلِكَ لَا يُلْحَقُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَعَلَيْهَا أَنْ تُتِمَّ عِدَّةَ الْأَوَّلِ وَلَهُ مُرَاجَعَتُهَا فِيهَا ثُمَّ تَسْتَأْنِفُ عِدَّةَ الثَّانِي وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِيهَا وَيَكُونُ الْوَلَدُ وَلَدَ زِنًى.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْوَلَدَ يُلْحَقُ بِالْأَوَّلِ وَتَنْقَضِي بِهِ عِدَّتُهَا ثُمَّ تَسْتَأْنِفُ بَعْدَ وِلَادَتِهِ عِدَّةَ الثَّانِي بِالْأَقْرَاءِ وَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ يُمْكِنَ لُحُوقُهُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَرْبَعِ سِنِينَ فَمَا دُونَهَا مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ وَلِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ دُخُولِ الثَّانِي فَنَدَّعِي لَهُ الْقَافَةَ فَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِالْأَوَّلِ كَانَ كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِالثَّانِي كَانَ كَالْقِسْمِ الثَّانِي وَإِنْ أَشْكَلَ عَلَى الْقَافَةِ أَوْ عَدِمُوا وُقِفَ إِلَى زَمَانِ الِانْتِسَابِ حَتَّى يَنْتَسِبَ بِطَبْعِهِ إِلَى أَبِيهِ مِنْهُمَا، وَتَنْقَضِي إِحْدَى الْعِدَّتَيْنِ بِوَضْعِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ لِوَقْتِهِ فَتَأْتِي بِالْعِدَّةِ الثَّانِيَةِ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ اسْتِظْهَارًا؛ لِأَنَّهُ لَحِقَ بِالْأَوَّلِ كَانَ عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ لِلثَّانِي وَإِنْ لَحِقَ بِالثَّانِي كَانَ عَلَيْهَا بَقِيَّةُ عِدَّةِ الْأَوَّلِ فَصَارَتِ الثَّلَاثَةُ الْأَقْرَاءِ احْتِيَاطًا.

(مسألة)
قال الشافعي: " فإن قيل فكيف لم ينف الْوَلَدُ إِذَا أَقَرَّتْ أُمُّهُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ثُمَّ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ إِقْرَارِهَا؟ قِيلَ لَمَّا أَمْكَنَ أَنْ تَحِيضَ وَهِيَ حَامِلٌ فَتُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ عَلَى الظَّاهِرِ وَالْحَمْلُ قَائِمٌ لَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّ الْوَلَدِ بِإِقْرَارِهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَأَلْزَمْنَاهُ الْأَبَ مَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ حَمْلًا مِنْهُ وَكَانَ الَّذِي يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ وَلَا يَمْلِكُهَا فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ لِأَنَّ كِلْتَيْهِمَا تَحِلَّانِ بِانْقِضَاءٍ للأزواج وقال في باب اجتماع العدتين والقافة إن جاءت بولد لأكثر من أربع سنين من يوم طلقها الأول إن كان يملك الرجعة دعا له القافة وإن كان لا يملك الرجعة فهو للثاني (قال المزني) رحمه الله فجمع بين من له الرجعة عليها ومن لا رجعة له عليها في باب المدخول بها وفرق بينهما بأن تحل في باب اجتماع العدتين والله أعلم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي مُطَلَّقَةٍ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِالشُّهُورِ، أَوِ الْأَقْرَاءِ

(11/213)


فِي طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ رَجْعِيٍّ ثُمَّ وَضَعَتْ وَلَدًا، فَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وقت الطلاق كان لاحقاً بِالزَّوْجِ إِجْمَاعًا، وَإِنْ وَضَعَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا أَوْ إِلَى أَرْبَعِ سِنِينَ، وَهِيَ خَلِيَّةٌ مِنْ زَوْجٍ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَاحِقٌ بِالْمُطَلِّقِ وَلَا يَكُونُ إِقْرَارُهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مُبْطِلًا لِنَسَبِهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُلْحَقُ بِهِ وَتَابَعَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْحُكْمَ بِانْقِضَاءِ، عِدَّتِهَا قَدْ أَبَاحَهَا لِلْأَزْوَاجِ فَانْقَطَعَتْ بِهِ أَسْبَابُ الْأَوَّلِ فَلَوْ لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ لَمَا كَانَتْ أَسْبَابُهُ مُنْقَطِعَةً وَلَمَا كَانَتْ مُبَاحَةً لِلْأَزْوَاجِ وَلَنَقَضْنَا حُكْمًا قَدْ نَفَذَ عَلَى الصِّحَّةِ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ وَمُجَوَّزٍ وَهَذَا كُلُّهُ غَيْرُ جَائِزٍ فَامْتَنَعَ بِهِ لُحُوقُ الْوَلَدِ.
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهَا أَتَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْفِرَاشِ وَانْقِطَاعِ أَحْكَامِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُلْحَقَ بِهِ كَمَا لَوْ وَضَعَتْهُ لَأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، وَلِأَنَّهَا مُؤْتَمَنَةٌ عَلَى عِدَّتِهَا وَمُصَدَّقَةٌ فِي انقضائها فوجب أن يُحْكَمَ بِإِبْطَالِهَا مَنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ كَذِبُهَا اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْأُمَنَاءِ وَفِي لُحُوقِ الْوَلَدِ بِهِ تَكْذِيبٌ لَهَا فِي انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا؛ وَلِأَنَّهَا أَتَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ عَدَّتِهَا بِحَمْلٍ لِتَمَامٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُلْحَقَ بِهِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْ ثُمَّ وَضَعَتْهُ لِتَمَامٍ.
قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: وَلِأَنَّهُ لَمَّا انْتَفَى عَنْهُ وَلَدُ أَمَتِهِ إِذَا وَضَعَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا وَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنْهُ حَمْلُ زَوْجَتِهِ إِذَا وَضَعَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ عِدَّتِهَا.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الولد للفراش وللعاهر الحجر " ومعلوم أَنَّهُ لَيْسَ الْخَبَرُ مَقْصُورًا عَلَى أَنْ تَلِدَهُ عَلَى فِرَاشِهِ، لِأَنَّهَا لَوْ وَلَدَتْهُ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْفِرَاشِ لَأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَحِقَ بِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَمَلَتْ بِهِ عَلَى فِرَاشِهِ، وَهَذَا الْوَلَدُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَمَلَتْ بِهِ عَلَى فِرَاشِهِ، فَوَجَبَ بِظَاهِرِ الْخَبَرِ أَنْ يَكُونَ لَاحِقًا بِهِ، وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِالشُّهُورِ تَارَةً وَبِالْأَقْرَاءِ تَارَةً أُخْرَى ثُمَّ وَافَقُونَا أَنَّ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا بِالشُّهُورِ لَا تَمْنَعُ مِنْ لُحُوقِ الْوَلَدِ فَكَذَلِكَ إِذَا انْقَضَتْ بِالْأَقْرَاءِ.
وَيَتَحَرَّرُ مِنْ ذَلِكَ قِيَاسَانِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ كُلَّ وَلَدٍ لَحِقَ بِالْإِمْكَانِ إِذَا انْقَضَتِ الْعِدَّةُ بِالشُّهُورِ لَحِقَ بِالْإِمْكَانِ إِذَا انْقَضَتِ الْعِدَّةُ بِالْأَقْرَاءِ كَالْمَوْلُودِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ وَلَدٍ لَحِقَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ الْعِدَّةِ جَازَ أَنْ يَلْحَقَ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ الْعِدَّةِ كَالْمُعْتَدَّةِ بِالشُّهُورِ، وَلِأَنَّ الْوَلَدَ فِي الِابْتِدَاءِ يُلْحَقُ بِالْإِمْكَانِ إِذَا وَضَعَتْهُ لِأَقَلِّ الْحَمْلِ فَوَجَبَ أَنْ يُلْحَقَ فِي الِانْتِهَاءِ لِإِمْكَانِ إِذَا وَضَعَتْهُ لِأَكْثَرِ الْحَمْلِ

(11/214)


وَلِأَنَّهَا قَدْ تَحِيضُ عَلَى الْحَمْلِ فَإِذَا أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ حَيْضِهَا لَمْ يُوجِبْ إِقْرَارُهَا انْتِفَاءَ النَّسَبِ فِي حَقِّ وَلَدِهَا وَهُوَ اسْتِدْلَالُ الشَّافِعِيِّ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهُ إِلْحَاقُ وَلَدٍ بِحُكْمِ الْفِرَاشِ فَلَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُ بِإِقْرَارِ الْمُفْتَرَشَةِ.
أَصْلُهُ: إِذَا أَقَرَّتْ بِمَا يَتَضَمَّنُ نَفْيَ النَّسَبِ مَعَ بَقَاءِ الْفِرَاشِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِمَا حُكِمَ بِهِ مِنِ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَإِبَاحَتِهَا لِلْأَزْوَاجِ فَلَمْ تَنْقَضِ بِالْجَوَازِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّنَا حَكَمْنَا بِانْقِضَائِهَا فِي الظَّاهِرِ ثُمَّ حَدَثَ مِنْ حَمْلِهَا مَا خَالَفَ الظَّاهِرَ فَجَازَ أَنْ يَنْقَضِيَ كَمَا لَوْ وَلَدَتْهُ لَأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ نَقْضِهَا إِذَا انْقَضَتْ بِالشُّهُورِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ نَقْضِهَا إِذَا انْقَضَتْ بِالْأَقْرَاءِ، وَبِمِثْلِهِ يُجَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِمْ إِنَّهَا مُؤْتَمَنَةٌ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ: إِذَا تَزَوَّجَتْ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا تَقَابَلَ بَعْدَ تَزْوِيجِهَا حُكْمُ فِرَاشٍ ثَابِتٍ وَحُكْمُ فِرَاشٍ زَائِلٍ غَلَبَ أَقْوَاهُمَا، وَهُوَ الْفِرَاشُ الثَّابِتُ فَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ وَإِذَا لَمْ تَتَزَوَّجِ انْفَرَدَ حُكْمُ الْفِرَاشِ الزَّائِلِ فَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِوَلَدِ الْأَمَةِ فَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ، وَالْمَذْهَبُ فِيهِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِيهِ: إِنَّهُ لَا يُلْحَقُ بِهِ إِذَا وَلَدَتْهُ بعد ستة أشهر من استبرائها.
وقال فِي وَلَدِ الْحُرَّةِ: إِنَّهُ يُلْحَقُ بِهِ إِذَا وَلَدَتْهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنِ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ ابْنُ سُرَيْجٍ يَجْمَعُ بَيْنَ الْجَوَابَيْنِ وَيُخْرِجُهَا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُلْحَقُ بِهِ وَلَدُ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ عَلَى مَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي وَلَدِ الْحُرَّةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُلْحَقُ بِهِ وَلَدُ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ عَلَى مَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي وَلَدِ الْأَمَةِ، فَعَلَى هَذِهِ التَّسْوِيَةِ بَطَلَ الِاسْتِدْلَالُ.
وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا: إِنَّ الْجَوَابَ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِ نَصِّهِ فِيهِ فَيُلْحَقُ بِهِ وَلَدُ الْحُرَّةِ بَعْدَ عِدَّتِهَا وَلَا يُلْحَقُ به ولد الأمة بعد استبرائها والفراق بَيْنَهُمَا أَنَّ وَلَدَ الْحُرَّةِ لَحِقَ فِي الِابْتِدَاءِ بِالْإِمْكَانِ فَلَحِقَ فِي الِانْتِهَاءِ بِالْإِمْكَانِ وَوَلَدَ الْأَمَةِ لَمَّا لَمْ يُلْحَقْ فِي الِابْتِدَاءِ بِالْإِمْكَانِ حَتَّى يَعْتَرِفَ بِالْوَطْءِ لَمْ يُلْحَقْ فِي الِانْتِهَاءِ بِالْإِمْكَانِ إِذَا ارْتَفَعَ حُكْمُ الْوَطْءِ، ثُمَّ، يُقَالُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنْتَ تُلْحِقُ الْوَلَدَ مَعَ عَدَمِ الْإِمْكَانِ، وَتَنْفِيهِ مَعَ وُجُودِ الْإِمْكَانِ فَنَقُولُ: فِيمَنْ نَكَحَ فِي مَجْلِسِ الْحَاكِمِ وَطَلَّقَ فِيهِ أَنَّ الْوَلَدَ لَاحِقٌ بِهِ إِذَا وُلِدَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَالْعِلْمُ محيط أنه ليس منه، وتقول فِي الْمُطَلَّقَةِ بَعْدَ الْعِدَّةِ: إِنَّ الْوَلَدَ لَا يُلْحَقُ بِهِ إِذَا

(11/215)


وَلَدَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ وَفِي هَذَا مِنَ الِاسْتِحَالَةِ وَعَكْسِ الْمَعْقُولِ مَا يَمْنَعُ مِنَ الْقَوْلِ بِهِ.
فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: وَكَانَ الَّذِي يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ وَلَا يَمْلِكُهَا فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ يَعْنِي فِي وَضْعِ الْوَلَدِ فِي نَفْيِهِ عَنْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ هَاهُنَا أَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي نَفْيِ الْوَلَدِ عَنْهُ.
وَالثَّانِي: يَفْتَرِقَانِ فَيُنْفَى عَنْهُ فِي الْبَائِنِ وَيُلْحَقُ بِهِ فِي الرَّجْعِيِّ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الفرق بينهما، والله أعلم بالصواب.

(11/216)


(بَابُ لَا عِدَّةَ عَلَى الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بها زوجها)
(مسألة)
قال الشافعي رحمه لله قال اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} الْآيَةَ قَالَ وَالْمَسِيسُ الْإِصَابَةُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَشُرَيْحٌ وَغَيْرُهُمَا لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا إِلَّا بَالْإِصَابَةِ بِعَيْنِهَا لَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ هَكَذَا (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَهَذَا ظَاهِرُ الْقُرْآنِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُطَلَّقَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تُطَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَالْخَلْوَةِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا لِقَوْلِ اللَّهِ: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] وَلَيْسَ لَهَا مِنَ الْمَهْرِ إِلَّا نِصْفَهُ لِقَوْلِ الله: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: يُطَلِّقُهَا بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَا خِلَافَ أَنَّ عَلَيْهَا الْعِدَّةَ، وَلَهَا جَمِيعُ الْمَهْرِ كَامِلًا لِدَلِيلِ الْخِطَابِ فِي الْآيَتَيْنِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ الْخَلْوَةِ وَقَبْلَ الدُّخُولِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ، وَكَمَالِ الْمَهْرِ، عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حتيفة - أن الخلوة فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ وَكَمَالِ الْمَهْرِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ الْقَدِيمِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهَا لَا تُوجِبُ الْعِدَّةَ وَلَا يَكْمُلُ بِهَا الْمَهْرُ لَكِنْ يَكُونُ لِمُدَّعِي الْإِصَابَةِ مِنْهُمَا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ الْقَدِيمِ.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَالْمَعْمُولُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ أَنَّ الْخَلْوَةَ لَا تُوجِبُ الْعِدَّةَ وَلَا يَكْمُلُ بِهَا الْمَهْرُ بِخِلَافِ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَلَا تَكُونُ لِمُدَّعِي الْإِصَابَةِ بِخِلَافِ مَا قَالَ مَالِكٌ وَيَكُونُ وَجُودُهَا فِي الْعِدَّةِ وَالْمِهْرِ كَعَدَمِهَا، وَقَدْ مَضَى فِي كِتَابِ الصَّدَاقِ مِنْ تَوْجِيهِ الْأَقَاوِيلِ وَحِجَاجِ الْمُخَالِفِ مَا أَغْنَى عن الإعادة.
(مسألة)
قال الشافعي: " فَإِنْ وَلَدَتِ الَّتِي قَالَ زَوْجُهَا لَمْ أَدْخُلْ بِهَا لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ لَأَكْثَرِ مَا يَلِدُ لَهُ النِّسَاءُ مِنْ يَوْمِ عَقْدِ نِكَاحِهَا لَحِقَ نَسَبُهُ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ إِذَا أَلْزَمْنَاهُ الْوَلَدَ حَكَمْنَا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مُصِيبٌ مَا لَمْ تَنْكِحْ زَوْجًا غَيْرَهُ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ ".

(11/217)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي الْمُطَلِّقِ إِذَا أَنْكَرَ الْإِصَابَةَ فَجَعَلْنَا الْقَوْلَ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ وَلَمْ يُحْكَمْ لَهَا إِلَّا بِنِصْفِ الْمَهْرِ، إِمَّا مَعَ عَدَمِ الْخَلْوَةِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِمَّا مَعَ وُجُودِهَا عَلَى أَصَحِّ الْأَقَاوِيلِ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ يَوْمِ الْعَقْدِ وَلِأَرْبَعِ سِنِينَ فَمَا دُونَهَا مِنْ يَوْمِ الطَّلَاقِ فَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِهِ إِنْ صَدَّقَهَا عَلَى وِلَادَتِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ " وَلَا يَنْتَفِي عَنْهُ بِاللِّعَّانِ وَإِنْ أَكْذَبَهَا وَادَّعَى أَنَّهَا الْتَقَطَتْهُ حَلَفَ وَهُوَ مَنْفِيٌّ عَنْهُ بِغَيْرِ لِعَانٍ إِلَّا أَنْ تُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى وِلَادَتِهِ فَيَصِيرُ لَاحِقًا بِهِ إِلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ فَأَمَّا اسْتِكْمَالُ الْمَهْرِ فَمُعْتَبَرٌ بِمَا تَدَّعِيهِ الزَّوْجَةُ مِنْ عُلُوقِ الْوَلَدِ فَإِنْ وَافَقَتْهُ عَلَى عَدَمِ الْإِصَابَةِ، وَادَّعَتْ أَنَّهَا عَلِقَتْ بِاسْتِدْخَالِ مَائِهِ قُبِلَ قَوْلُهَا وَلَمْ يُكْمِلْ مَهْرَهَا مَعَ عَدَمِ الْإِصَابَةِ وَإِنْ أَكْذَبَتْهُ وَادَّعَتِ الْإِصَابَةَ، فَهَلْ تَكُونُ وِلَادَتُهَا دَلِيلًا عَلَى صِدْقِهَا فِي الدُّخُولِ وَاسْتِكْمَالِ الْمَهْرِ بِالْإِصَابَةِ أَمْ لَا؟ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْوَلَدِ اللَّاحِقِ لِلنَّسَبِ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يُقِرَّ عَلَى نَسَبِهِ، أَوْ يَنْفِيَ نَسَبَهُ بِاللِّعَانِ.
فَإِنْ أَقَرَّ عَلَى نَسَبِهِ فَالَّذِي نَقَلَ الْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ أَنَّهُ يُحْكَمُ لها بالإصابة وكمال المهر؛ لأنه لُحُوقَ الْوَلَدِ بِهِ شَاهِدٌ لَهَا عَلَى إِصَابَتِهِ قَالَ الرَّبِيعُ: وَفِيهَا قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ لَهَا بِالْإِصَابَةِ وَلَا تَسْتَحِقُّ مِنَ الْمَهْرِ إِلَّا نِصْفَهُ. لِأَنَّهُ قَدْ تَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُلُوقُهَا بِهِ مِنِ اسْتِدْخَالِ مَائِهِ فَلَمْ يُحْكَمْ بِاسْتِكْمَالِ الْمَهْرِ مَعَ الشَّكِّ فِي اسْتِحْقَاقِهِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي تَفَرَّدَ بِهِ الرَّبِيعُ هَلْ قَالَهُ تَخْرِيجًا لِنَفْسِهِ أَوْ نَقْلًا عَنِ الشَّافِعِيِّ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَالَهُ تَخْرِيجًا لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ لِلشَّافِعِيِّ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِهِ وَلَا وَجْهَ لِتَخْرِيجِهِ؛ وَأَنَّ ظاهر الحكم محمول عل غَالِبِ الْحَالِ دُونَ نَادِرِهَا، وَالْغَالِبُ مِنْ عُلُوقِ الْوَلَدِ أَنَّهُ يَكُونُ مِنَ الْوَطْءِ دُونَ الِاسْتِدْخَالِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَيْهِ وَشَاهِدًا فِيهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ نَقْلًا عَنِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ رَاوِي أَقَاوِيلِهِ، وَحَاكِي مَذَاهِبِهِ، فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، هَلْ يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قولين أو على اختلاف حالين؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُكَمَّلُ بِهِ الْمَهْرُ عَلَى مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ.
وَالثَّانِي: لَا يُكَمَّلُ بِهِ الْمَهْرُ عَلَى مَا حَكَاهُ الرَّبِيعُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَحَكَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ لَا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ فَرِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ يُكَمَّلُ بِهِ الْمَهْرُ إِذَا كَانَتِ الْوِلَادَةُ بَعْدَ إِنْكَارِ الزَّوْجِ لِلْإِصَابَةِ وَقَبْلَ اخْتِلَافِهِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِيهَا لَمْ يَنْبَرِمْ وَرِوَايَةُ الرَّبِيعِ أَنَّ الْمَهْرَ لَا يُكَمَّلُ

(11/218)


إذا كانت الولادة بعد إحلافه عليها انبرام الْحُكْمِ فِيهَا فَلَمْ يَتَعَقَّبْ بِنَقْضٍ، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ قَدْ نَفَاهُ بِاللِّعَانِ، فَقَدْ قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ إِنَّ نَفْيَهُ بِاللِّعَانِ كَجُحُودِهِ لِوِلَادَتِهِ وَيَصِيرُ كَاخْتِلَافِهِمَا لَوْ لَمْ تَأْتِ بِوَلَدٍ فَلَا يَكُونُ لَهَا مِنَ الْمَهْرِ إِلَّا نِصْفَهُ وَسَوَّى بين جحوده وولادته وبين فيه، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدِي بَلْ حُكْمُ نَسَبِهِ قَدْ ثَبَتَ فَتَثْبُتُ بِهِ الْوِلَادَةُ، وَإِنَّمَا اسْتَأْنَفَ نَفْيَهُ بَعْدَ لُحُوقِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِمَنْ لَمْ يُلْحِقْ نَسَبَهُ فَاقْتَضَى أَنْ يُسْتَكْمَلَ بِهِ مَهْرُهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا.

(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي: " وَلَوْ خَلَا بِهَا فَقَالَ لَمْ أُصِبْهَا وَقَالَتْ قَدْ أَصَابَنِي وَلَا وَلَدَ فَهِيَ مُدَّعِيَةٌ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَاخْتِلَافُ الزَّوْجَيْنِ فِي الْإِصَابَةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْخَلْوَةِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ أَنْكَرَ الْإِصَابَةَ مِنْهُمَا مَعَ يَمِينِهِ فَإِنْ كَانَ هُوَ الزَّوْجَ فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ وَلَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْمَهْرِ إِلَّا نَصْفُهُ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِإِقْرَارِهَا، وَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَلَا نَفَقَةَ لَهَا.
فَأَمَّا الْمَهْرُ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهَا لَمْ يَسْتَرْجِعِ الزَّوْجُ مِنْهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيهِ وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ لَمْ يَأْخُذْ إِلَّا نِصْفَهُ لِأَنَّهَا لَا تَدَّعِي أَكْثَرَ مِنْهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْإِصَابَةِ بَعْدَ الْخَلْوَةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مُنْكِرِهَا مَعَ يَمِينِهِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مُدَّعِيهَا وَفِي وُجُوبِهَا الْيَمِينَ عَلَيْهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَمِينَ عَلَيْهِ إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْخَلْوَةَ كَالْإِصَابَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ عَلَيْهِ الْيَمِينَ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْخَلْوَةَ يَدٌ لِمُدَّعِي الْإِصَابَةِ، فَإِذَا قِيلَ: إِنِ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُنْكِرِ فَالْجَوَابُ عَلَى مَا مَضَى عِنْدَ عَدَمِ الْخَلْوَةِ فِي اعْتِبَارِ حَالِ مَنْ أَنْكَرَ مِنَ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ.
وَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُدَّعِي لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ أَوِ الزَّوْجَةُ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الزَّوْجُ فَعَلَيْهَا إِذَا حَلَفَ الْعِدَّةُ، وَلَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ وَلَهَا عَلَيْهِ النَّفَقَةُ، لِأَنَّهَا وَإِنْ أَنْكَرَتِ الْإِصَابَةَ الْمُوجِبَةَ لِلنَّفَقَةِ فَقَدْ مُنِعَتْ بِالْعِدَّةِ مِنَ الزَّوْجِ فَاسْتَحَقَّتْ بِالْمَنْعِ النَّفَقَةَ.
فَأَمَّا الْمَهْرُ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهَا لَمْ يَسْتَرْجِعِ الزَّوْجُ شَيْئًا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ لَمْ تَأْخُذْ إِلَّا نِصْفَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي هِيَ الزَّوْجَةَ فَلَهَا إِذَا حَلَفَتْ جَمِيعُ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَا رَجْعَةَ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُهَا.

(11/219)


(مسألة)
قال الشافعي: " وَإِنْ جَاءَتْ بِشَاهِدٍ بِإِقْرَارِهِ أَحْلَفْتُهَا مَعَ شَاهِدِهَا وَأَعْطَيْتُهَا الصَّدَاقَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا جُعِلَ الْقَوْلُ فِي الْإِصَابَةِ قَوْلَ مُنْكِرِهَا إِمَّا مَعَ عَدَمِ الْخَلْوَةِ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِمَّا مَعَ وُجُودِهَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ أَرَادَ مُدَّعِي الْإِصَابَةِ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مُنْكِرِهَا لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الزَّوْجَ أَوِ الزَّوْجَةَ، وَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ هِيَ الْمُدَّعِيَةَ حُكِمَ لَهَا فِي الْإِصَابَةِ بِإِقْرَارِهِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُدَّعِي لَمْ يُحْكَمْ لَهُ فِي الْإِصَابَةِ بِإِقْرَارِهَا إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ دَعْوَى الزَّوْجَةِ لِلْإِصَابَةِ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْمَالِ فِي اسْتِكْمَالِ الصَّدَاقِ وَاسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ، وَالْمَالُ يُحْكَمُ فِيهِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَدَعْوَى الزَّوْجِ فِي الْإِصَابَةِ مَقْصُورَةٌ عَلَى وُجُوبِ الْعِدَّةِ وَاسْتِحْقَاقِ الرَّجْعَةِ، وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(11/220)


(بَابُ الْعِدَّةِ مِنَ الْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ وَزَوْجٍ غَائِبٍ)
(مسألة)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ " وَإِذَا عَلِمَتِ الْمَرْأَةُ يَقِينَ مَوْتِ زَوْجِهَا أَوْ طَلَاقِهِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ أَيِّ عِلْمٍ اعْتَدَّتْ مِنْ يَوْمِ كَانَتْ فِيهِ الْوَفَاةُ وَالطَّلَاقُ وَإِنْ لَمْ تَعْتَدَّ حَتَّى تَمْضِيَ الْعِدَّةُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا غَيْرُهَا لِأَنَّهَا مُدَّةٌ وقت مَرَّتْ عَلَيْهَا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " تَعْتَدُّ مِنْ يَوْمِ تَكُونُ الْوَفَاةُ أَوِ الطَّلَاقُ " وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ وَالزُّهْرِيِّ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا غَابَ الزَّوْجُ عَنِ امْرَأَتِهِ ثُمَّ طَلَّقَ، أَوْ مَاتَ فِي غَيْبَتِهِ فَعِدَّتُهَا إِذَا عَلِمَتْ بِطَلَاقِهَا أو موته في حِينِ الطَّلَاقِ أَوِ الْمَوْتِ لَا مِنْ وَقْتِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ، وَسَوَاءٌ عَلِمَتْ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ خَبَرٍ.
وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ أَوَّلَ عِدَّتِهَا مِنْ وَقْتِ عِلْمِهَا بِطَلَاقِهِ أَوْ مَوْتِهِ، وَلَا تَعْتَدُّ بِمَا مَضَى سَوَاءٌ عَلِمَتْ بِبَيِّنَةٍ أَوْ خَبَرٍ.
وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِنْ عَلِمَتْ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ اعْتَدَّتْ بِمَا مَضَى، وَإِنْ عَلِمَتْهُ بِخَبَرٍ اعْتَدَّتْ مِنْ وَقْتِهَا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وَالتَّرَبُّصُ فِعْلٌ مِنْهَا مَقْصُودٌ فَخَرَجَ مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ، وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ فُرَيْعَةَ بِنْتَ مَالِكٍ قُتِلَ زَوْجُهَا فِي سَفَرٍ بِالْقَدُومِ فَلَمَّا عَلِمَتْ بِقَتْلِهِ أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخْبَرَتْهُ فَقَالَ لَهَا: امْكُثِي فِي بَيْتِكَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَأَمَرَهَا بِاسْتِئْنَافِ الْعِدَّةِ لِوَقْتِهَا وَلَمْ يَعْتَبِرْ بِهَا مَا مَضَى، وَلِأَنَّهَا مَأْمُورَةٌ فِي الْعِدَّةِ بِالْإِحْدَادِ، وَاجْتِنَابِ الطِّيبِ وَأَنْ لَا تَخْرُجَ عَنْ مَسْكَنِهَا، وَهِيَ قَبْلَ عِلْمِهَا غَيْرُ قَاصِدَةٍ لِأَحْكَامِ الْعِدَّةِ فَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ فِي عِدَّةٍ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أَيْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَعْتَدُّنَّ فِيهِ فَدَلَّ عَلَى اتِّصَالِ الْعِدَّةِ بِالطَّلَاقِ، وَلِأَنَّهَا لَوْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا انْقَضَتْ بِهِ عِدَّتُهَا، وَإِنْ

(11/221)


لَمْ تَعْلَمْ بِطَلَاقِهَا كَذَلِكَ إِذَا أَمْضَتْ أَقَرَاءَهَا وَشُهُورَهَا، وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُهَا قَبْلَ عِلْمِهَا بِطَلَاقِهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً أَوْ مُطَلَّقَةً فَبَطَلَ أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً لِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ لَمْ تَرِثْهُ فَثَبَتَ أَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ، وَالْمُطَلَّقَةُ لَا يَخْلُو أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهَا حُكْمُ الْعِدَّةِ أَوْ لَا يَجْرِي عَلَيْهَا فَبَطَلَ أَنْ لَا يَجْرِيَ عَلَيْهَا، لِأَنَّهَا لَوْ تَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ بَطَلَ نِكَاحُهَا، وَإِذَا جَرَى عَلَيْهَا حُكْمُ الْعِدَّةِ وَجَبَ أَنْ تُجْرِيَهَا عَلَيْهَا كَالْعَالِمَةِ وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ هِيَ التَّرَبُّصُ بِنَفْسِهَا عَنِ الْأَزْوَاجِ فِي الْمُدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ لَهَا وَذَلِكَ مَوْجُودٌ وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ فَلَمْ يَكُنْ فَقْدُ الْعِلْمِ مُؤَثِّرًا كَالصَّغِيرَةِ وَالْمَجْنُونَةِ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ فيها غير معتبرة، ولأنها لو علمت فتوت أَنَّهَا غَيْرُ مُعْتَدَّةٍ وَتَرَكَتِ الْإِحْدَادَ، وَاسْتَعْمَلَتِ الطِّيبَ وَخَرَجَتْ مِنْ مَنْزِلِهَا، وَلَمْ تَتَزَوَّجْ حَتَّى مَضَتْ مدة العدة أجزائها، وَإِنْ كَانَتْ عَاصِيَةً فِيمَا فَعَلَتْ وَاعْتَقَدَتْ، وَالَّتِي لم تعلم غير عاصية فكان بأن يجزها أَوْلَى.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ وُجُودُ التَّرَبُّصِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِيهَا مَعَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ فَاقْتَضَى إِجْزَاءَهُ فِي الْحَالَيْنِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ فُرَيْعَةَ فَهُوَ أَنَّ أَمْرَهَا بِالْمُكْثِ يَحْتَمِلُ الِابْتِدَاءَ، وَيَحْتَمِلُ الِاسْتِدَامَةَ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَعَ الِاحْتِمَالِ دَلِيلٌ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ فَإِنَّهَا غير قاصد لِلْعِدَّةِ فَهُوَ أَنَّ الْقَصْدَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِمَا ذَكَرْنَا وَالْإِحْدَادَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِيهَا عَلَى مَا وَصَفْنَا وَلَيْسَ لِلْجَهْلِ بِحَالِهَا تَأْثِيرٌ إِلَّا فِي الْعَقْدِ الَّذِي لَا يُعْتَبَرُ وَتَرْكُ الْإِحْدَادِ الَّذِي لَا يُشْتَرَطُ فِصَحَّ الْإِجْزَاءُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(11/222)


(باب في عدة الأمة)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ " فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ فِي حَدِّ الزِّنَا فَقَالَ فِي الإماء {فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة} الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَذَكَرَ الْمَوَارِيثَ فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ لَقِيتُهُ أَنَّ ذَلِكَ فِي الْأَحْرَارِ دُونَ الْعَبِيدِ وَفَرَضَ اللَّهُ الْعِدَّةَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَفِي الْمَوْتِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعشراً وسن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ تُسْتَبْرَأَ الْأَمَةُ بِحَيْضَةٍ وَكَانَتِ الْعِدَّةُ فِي الْحَرَائِرِ اسْتِبْرَاءً وَتَعَبُّدًا وَلَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا مِمَّنْ حَفِظْتُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ عدة الأمة نصف عدة الحرة فيما له نِصْفٌ مَعْدُودٌ فَلَمْ يَجُزْ إِذَا وَجَدْنَا مَا وَصَفْنَا مِنَ الدَّلَائِلَ عَلَى الْفَرْقِ فِيمَا ذَكَرْنَا وَغَيْرِهِ إِلَّا أَنْ نَجْعَلَ عِدَّةَ الْأَمَةِ نِصْفَ عِدَّةِ الْحُرَّةِ فِيمَا لَهُ نِصْفٌ فَأَمَّا الْحَيْضَةُ فَلَا يُعْرَفُ لَهَا نِصْفٌ فَتَكُونَ عِدَّتُهَا فِيهِ أَقْرَبَ الْأَشْيَاءِ مِنَ النِّصْفِ إِذَا لَمْ يَسْقُطْ مِنَ النِّصْفِ شَيْءٌ وَذَلِكَ حَيْضَتَانِ. وَأَمَّا الْحَمْلُ فَلَا نِصْفَ لَهُ كَمَا لَمْ يَكُنْ لِلْقَطْعِ نِصْفٌ فَقُطِعَ الْعَبْدُ وَالْحُرُّ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُطَلِّقُ الْعَبْدُ تَطْلِيقَتَيْنِ وَتَعْتَدُّ الْأَمَةُ حَيْضَتَيْنِ فَإِنْ لَمْ تَحِضْ فَشَهْرَيْنِ أَوْ شَهْرًا وَنِصْفًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا طُلِّقَتِ الْأَمَةُ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَالْعِدَّةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: عِدَّةٌ بِالْحَمْلِ، وَعِدَّةٌ بِالْأَقْرَاءِ وَعِدَّةٌ بِالشُّهُورِ.
فَأَمَّا الْعِدَّةُ بِالْحَمْلِ فَتَسْتَوِي فِيهِ الْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ فَلَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا إلا بوضع الحمل لِقَوْلِ اللَّهِ: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " عِدَّةُ كُلِّ ذَاتِ حَمْلٍ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا " وَلِأَنَّ مَوْضِعَ الْعِدَّةِ لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ، وَلَا يَبْرَأُ رَحِمُ الْحَامِلِ إِلَّا بِالْوِلَادَةِ فَاسْتَوَتْ فِيهِ الْحُرَّةُ والأمة وأما العدة بالأقراء، فعدة الأمة قرءان بِخِلَافِ الْحُرَّةِ.
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ:
وَقَالَ دَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ: عِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ كَالْحُرَّةِ اسْتِدْلَالًا بقول الله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاث قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ، كَمَا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مُسْلِمَةٍ وَذِمِّيَّةٍ، وَلِأَنَّ الْأَمَةَ لِمَّا سَاوَتِ الْحُرَّةَ فِي الْعِدَّةِ بِالْحَمْلِ وجب

(11/223)


أَنْ تُسَاوِيَهَا فِي الْعِدَّةِ بِالْأَقْرَاءِ، لِأَنَّهَا عِنْدَنَا فُرْقَةٌ وَاحِدَةٌ؛ وَلِأَنَّ الْأَمَةَ مُسَاوِيَةٌ لِلْحُرَّةِ فِي أَحْكَامِ النِّكَاحِ مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، وَالْكِسْوَةِ، وَالسُّكْنَى فَوَجَبَ أَنْ تُسَاوِيَهَا فِي عِدَّةِ النِّكَاحِ.
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يُطَلِّقُ الْعَبْدُ تَطْلِيقتَيْنِ وَتَعْتَدُّ الْأَمَةُ حَيْضَتَيْنِ ".
وَرَوَى مُظَاهِرُ بْنَ أَسْلَمَ عَنِ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " طَلَاقُ الْأَمَةِ طَلْقَتَانِ، وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ " وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَثْبَتُ؛ لِأَنَّ فِي حَدِيثِ مُظَاهِرِ بْنِ أَسْلَمَ الْتِوَاءً، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ قَالَ: يُطَلِّقُ الْعَبْدُ تَطْلِيقتَيْنِ وَتَعْتَدُّ الْأَمَةُ حَيْضَتَيْنِ، وَوَافَقَهُ عَلِيٌّ، وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ مَوْضُوعٌ عَلَى التَّفَاضُلِ فِيمَا عَدَا بِحَسَبِ التَّفَاضُلِ فِي الْمُسْتَبْرَأِ؛ لِأَنَّ اسْتِبْرَاءَ الْأَمَةِ فِي الْمِلْكِ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ لِنَقْصِهَا بِالرِّقِّ وَعَدَمِ الْعَقْدِ وَاسْتِبْرَاءَ الْحُرَّةِ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ لِكَمَالِهَا بِالْحُرِّيَّةِ وَالْعَقْدِ وَنِكَاحُ الْأَمَةِ مُنَزَّلٌ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ سَاوَتِ الْحُرَّةَ فِي الْعَقْدِ، وَشَارَكَتِ الْأَمَةَ فِي الرِّقِّ فَصَارَتْ مُقْتَصِرَةً عَنِ الْحُرَّةِ بِالرِّقِّ وَمُتَقَدِّمَةً عَلَى الْأَمَةِ بِالْعَقْدِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ مَنْزِلَتَيْهِمَا فِي الْحُرْمَةِ فَتَزِيدُ عَلَى الْأَمَةِ قُرْءًا بِالْعَقْدِ، وَتَنْقُصُ عَنِ الْحُرَّةِ قرءاً بالرق فيكون عليها قرءان.
فأما الآية فمخصوصة العموم بما ذكرنا.
أما الْحَمْلُ فَإِنَّمَا سَاوَتِ الْأَمَةُ فِيهِ الْحُرَّةَ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ
وَأَمَّا أَحْكَامُ النِّكَاحِ فَهِيَ فِي أَكْثَرِهَا مُخَالِفَةٌ لِلْحُرَّةِ، وَكَذَلِكَ فِي أَكْثَرِ الْعِدَّةِ.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا عِدَّةُ الْأَمَةِ بِالشُّهُورِ فَعِدَّةُ وَفَاةٍ، وَعِدَّةُ طَلَاقٍ.
فَأَمَّا عِدَّةُ الْوَفَاةِ فَعَلَيْهَا نِصْفُ مَا عَلَى الْحُرَّةِ شَهْرَانِ وَخَمْسُ لَيَالٍ، لِأَنَّ عِدَّةَ الْحُرَّةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
وَأَمَّا عِدَّةُ الطَّلَاقِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَقْرَاءِ لِصِغَرٍ أَوْ إِيَاسٍ فَهِيَ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ عَلَى الْحُرَّةِ؛ وَفِيمَا تَعْتَدُّ بِهِ الْأَمَةُ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ أَقَيْسُ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِنِصْفِهَا، شَهْرًا وَنِصْفًا لِيُجْزِئَهَا عَلَى الصِّحَّةِ كَالْعِدَّةِ مِنَ الْمَوْتِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَعْتَدُّ شَهْرَيْنِ بَدَلًا مِنْ قُرْأَيْنِ، لِأَنَّ كُلَّ شَهْرٍ فِي مُقَابِلِهِ قُرْءٌ.

(11/224)


وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَحْوَطُ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ الزَّمَانِ الَّذِي يُطَهِّرُ فِيهِ اسْتِبْرَاءُ الرَّحِمِ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " يَكُونُ خَلْقُ أَحَدِكُمْ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَقَةً، ثُمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مُضْغَةً " وَهُوَ فِي حَالِ الْمُضْغَةِ يَتَخَلَّقُ وَيَتَصَوَّرُ وَتَظْهَرُ أَمَارَاتُهُ مِنَ الْحَرَكَةِ وَمِنْ غِلَطِ الْجَوْفِ، وَذَلِكَ عِنْدَ انْقِضَاءِ الشهر الثالث.

(مسألة)
قال الشافعي: " وَلَوْ أُعْتِقَتِ الْأَمَةُ قَبْلَ مُضِيِّ الْعِدَّةِ أَكْمَلَتْ عِدَّةَ حُرَّةٍ لِأَنَّ الْعِتْقَ وَقَعَ وَهِيَ فِي مَعَانِي الْأَزْوَاجِ فِي عَامَّةِ أَمْرِهَا وَيَتَوَارَثَانِ فِي عِدَّتِهَا بِالْحَرِيَّةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي أَمَةٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا، وَأَعْتَقَهَا سَيِّدُهَا فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنْ طَلَاقِ الزَّوْجِ وَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهَا مِنْ عِتْقِ السَّيِّدِ، وَلَا يَخْلُو حَالُ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَتَقَدَّمَ الْعِتْقُ عَلَى الطَّلَاقِ فَعَلَيْهَا عِدَّةُ حُرَّةٍ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا، وَهِيَ حُرَّةٌ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ مَعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَتَقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَذَلِكَ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ.
إِمَّا بِأَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ لَهَا: إِذَا أُعْتِقْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ.
وَإِمَّا بِأَنْ يَقُولَ السَّيِّدُ لَهَا: إِذَا طُلِّقْتِ فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَيَلْزَمُهَا فِي اجْتِمَاعِ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ أَحَدُ هَذِهِ الْوُجُوهِ أَنْ تَعْتَدَّ عِدَّةَ حُرَّةٍ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَعْتَدَّ بِالْعِدَّةِ إِلَّا وَهِيَ حُرَّةٌ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَقَدَّمَ الطَّلَاقُ عَلَى الْعِتْقِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقَعَ الْعِتْقُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ عَلَى حُكْمِ الرِّقِّ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهَا مَا حَدَثَ مِنَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ مَا يَقْتَضِي زَمَانَهُ يَقْتَضِي حُكْمَهُ كَمَا لَوْ حَاضَتِ الصَّغِيرَةُ بَعْدَ شُهُورِهَا وَأَيِسَتِ الْكَبِيرَةُ بَعْدَ أَقْرَائِهَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تُعْتَقَ فِي تَضَاعِيفِ عِدَّتِهَا وَقَبْلَ انْقِضَائِهَا فَتَبْنِي عِدَّتَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ عَلَى مَا مَضَى مِنْهَا قَبْلَ الْعِتْقِ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ هَلْ تَقْضِي عِدَّةَ أَمَةٍ اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ أَوْ عِدَّةَ حُرَّةٍ اعْتِبَارًا بِالِانْتِهَاءِ، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا فَمَذْهَبُهُ في الجديد كله، وأحد قوليه في القديم أَنَّهَا تَعْتَدُّ عِدَّةَ حُرَّةٍ، وَلَهُ فِي الْجَدِيدِ قَوْلٌ ثَانٍ: أَنَّهَا تَعْتَدُّ عِدَّةَ حُرَّةٍ فَتَرَتَّبَ له في اعتدادها من الطلاقين ثلاث أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا تَعْتَدُّ فِيهَا عِدَّةَ أَمَةٍ اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ فِي الرِّقِّ لَا يُعْتَبَرُ بِحُدُوثِ الْعِتْقِ كَأُمِّ الْوَلَدِ.

(11/225)


وَالثَّانِي: أَنَّ مَا تَبَعَّضَ كَانَ مُعْتَبَرًا بِحَالِ الْوُجُوبِ كَالْحُدُودِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيُّ أَنَّهَا تَعْتَدُّ فِيهَا عِدَّةَ حُرَّةٍ اعْتِبَارًا بِالِانْتِهَاءِ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا اخْتَلَفَ بِهِ الْعِدَّةُ كَانَ مُعْتَبَرًا بِالِانْتِهَاءِ دُونَ الِابْتِدَاءِ كَالشُّهُورِ وَالْأَقْرَاءِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الِاحْتِيَاطَ لِلْعِدَّةِ أَوْلَى مِنَ الِاحْتِيَاطِ لِلْمُعْتَدَّةِ كَالْمُسْتَرِيبَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا تَعْتَدُّ فِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ عِدَّةَ أَمَةٍ وَفِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ عِدَّةَ حُرَّةٍ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَائِنَ كَالْأَجْنَبِيَّةِ يَقْطَعُ التَّوَارُثَ وَسُقُوطَ النَّفَقَةِ، وَالرَّجْعِيَّةَ كَالزَّوْجَةِ لِاسْتِحْقَاقِ التَّوَارُثِ، وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ فَافْتَرَقَا فِي الْعِدَّةِ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي حُكْمِ الزَّوْجِيَّةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا انْتَقَلَتِ الرَّجْعِيَّةُ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ وَلَمْ تَنْتَقِلْ إِلَيْهَا الْبَائِنُ وَجَبَ أَنْ تَنْتَقِلَ مِنْ عِدَّةِ الرِّقِّ إِلَى عِدَّةِ الْحُرَّةِ وَلَا تَنْتَقِلُ إِلَيْهَا الْبَائِنُ.

(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي: " وَلَوْ كَانَتْ تَحْتَ عَبْدٍ فَاخْتَارَتْ فِرَاقَهُ كَانَ ذَلِكَ فَسْخًا بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَتُكْمِلُ مِنْهُ الْعِدَّةَ مِنَ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي عَبْدٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ، وَهِيَ أَمَةٌ فَتُعْتَقُ بَعْدَ طَلَاقِهِ، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَلَا يَخْلُو طَلَاقُهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا فَإِنْ كَانَ بَائِنًا، فَقَدْ وَقَعَتْ بِهِ الْفُرْقَةُ الْبَائِنَةُ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى فَسْخِ النِّكَاحِ بِالْعِتْقِ لِارْتِفَاعِهِ بِالطَّلَاقِ، فَإِنْ فَسَخَتْ لَمْ يَكُنْ لِفَسْخِهَا تَأْثِيرٌ وَقَدْ كَانَتْ فِي ابْتِدَاءِ عِدَّتِهَا أَمَةً، وَصَارَتْ فِي انْتِهَائِهَا حُرَّةً، فَهَلْ تُبْنَى عَلَى عِدَّةِ أَمَةٍ أَمْ عَلَى عِدَّةِ حُرَّةٍ؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ طَلَاقُهَا رَجْعِيًّا فَلَهَا بِالْعِتْقِ خِيَارُ الْفَسْخِ؛ لِأَنَّهَا تَحْتَهُ وَحُكْمُ الزَّوْجِيَّةِ جَارٍ عَلَيْهَا بِالرَّجْعَةِ فَلِذَلِكَ جَازَ لَهَا الْفَسْخُ بِخِلَافِ الْبَائِنِ، وَهِيَ فِيهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ تَعْجِيلِهِ وَبَيْنَ تَأْخِيرِهِ فَإِنْ أَرَادَتْ تَعْجِيلَهُ كَانَ لَهَا لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بِالطَّلَاقِ جَارِيَةٌ فِي فَسْخٍ فَلَمْ يُنَافِ الْفَسْخَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَسْتَفِيدُ بِهِ قُصُورَ إِحْدَى الْعِدَّتَيْنِ، فَإِذَا فَسَخَتْ، فَهَلْ يَكُونُ فَسْخُهَا قَاطِعًا لِرَجْعَةِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا تَقْطَعُ رَجْعَةَ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَحْكَامِ طَلَاقِهِ، فَعَلَى هَذَا إن راجع الزوج وقعت الفرقة بالفسخ فدون الطَّلَاقِ فَيَكُونُ ابْتِدَاءُ عِدَّتِهَا مِنْ وَقْتِ الْفَسْخِ وَتَعْتَدُّ عِدَّةَ حُرَّةٍ؛ لِأَنَّهَا بَدَأَتْ بِالْعِدَّةِ وَهِيَ حُرَّةٌ، وَإِنْ لَمْ يُرَاجِعِ الزَّوْجُ فَالْفُرْقَةُ وَقَعَتْ بِالطَّلَاقِ دُونَ الْفَسْخِ فَيَكُونُ أَوَّلُ عِدَّتِهَا مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ، وَقَدْ بَدَأَتْ بِهَا وَهِيَ أَمَةٌ ثُمَّ صَارَتْ فِي

(11/226)


تَضَاعِيفِهَا حُرَّةً فَهَلْ تَعْتَدُّ عِدَّةَ أَمَةٍ أَوْ عدة حرة؟ على ما مضى من القولين.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْفَسْخَ قَدْ قَطَعَ رَجْعَةَ الزَّوْجِ عَنْهَا؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ فِي الْإِبَاحَةِ فَمَنَعَ مِنْهَا كَمَا يَمْنَعُ مِنْ رَجْعَةِ مَنِ ارْتَدَّتْ، فَعَلَى هَذَا يُغَلَّبُ فِي الْفُرْقَةِ حُكْمُ الطَّلَاقِ أَوْ حُكْمُ الْفَسْخِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُغَلَّبُ حُكْمُ الطَّلَاقِ لِتَقَدُّمِهِ، فَعَلَى هَذَا هَلْ تَعْتَدُّ عِدَّةَ أَمَةٍ أَوْ عِدَّةَ حُرَّةٍ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ:
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُغَلَّبُ حُكْمُ الْفَسْخِ لِقُوَّتِهِ فَعَلَى هَذَا تَعْتَدُّ عِدَّةَ حُرَّةٍ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ الْفَسْخَ مَا وَقَعَ إِلَّا بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ لَكِنَّهَا تَبْنِي عَلَى مَا مضى من وقت الطلاق ولا تبدئها م وَقْتِ الْفَسْخِ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ قَدْ أَبْطَلَ الرَّجْعَةَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَوَّلَ بِهِ الْعِدَّةُ.

(فَصْلُ)
وَإِنْ أَخَّرَتِ الْفَسْخَ وَلَمْ تُعَجِّلْهُ كَانَتْ عَلَى حَقِّهَا مِنْهُ مَا لَمْ يُرَاجِعْهَا الزَّوْجُ وَلَا يَكُونُ، إِمْسَاكُهَا عَنْهُ اخْتِيَارًا لِلزَّوْجِ وَرِضًا بِالْمُقَامِ مَعَهُ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ تُطَلَّقْ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ تُطَلَّقْ يُؤَثِّرُ رِضَاهَا فِي الِاسْتِبَاحَةِ فَأَثَّرَ سُقُوطُ الْخِيَارِ، وَالْمُطَلَّقَةُ لَا يُؤَثِّرُ رِضَاهَا فِي الِاسْتِبَاحَةِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي سُقُوطِ الْخِيَارِ فَعَلَى هَذَا الزَّوْجِ حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يُرَاجِعَهَا حَتَّى تَمْضِيَ الْعِدَّةُ فَتَكُونَ الْفُرْقَةُ وَاقِعَةً بِالطَّلَاقِ، وَلَيْسَ لَهَا الْفَسْخُ؛ لِأَنَّ لَا تَأْثِيرَ لَهُ مَعَ زَوَالِ الْعَقْدِ، وَهِيَ تُبْنَى عَلَى عِدَّةِ أَمَةٍ أَوْ عَلَى عِدَّةِ حُرَّةٍ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُرَاجِعَهَا الزَّوْجُ فَتَسْتَحِقَّ الْفَسْخَ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ قَدْ رَفَعَتْ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ فَصَارَتْ كَزَوْجَةٍ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهَا طَلَاقٌ، فَإِنْ فَسَخَتِ اسْتَأْنَفَتْ عِدَّةَ حُرَّةٍ مِنْ وَقْتِ الْفَسْخِ لَا يَخْتَلِفُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي: " وَلَوْ أَحْدَثَ لَهَا رَجْعَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا وَلَمْ يُصِبْهَا بَنَتْ عَلَى الْعِدَّةِ الْأُولَى لِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ لم تمسس (قال المزني) رحمه الله هذا عندي غلط بل عدتها من الطلاق الثاني لأنه لما راجعها بطلت عدتها وصارت في معناها المتقدم بالعقد الأول لا بنكاح مستقبل فهو في معنى من ابتدأ طلاقها مدخولاً بها ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي مُطَلِّقٍ رَاجَعَ زَوْجَتَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ رَجْعَتِهِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ بَعْدَ الرَّجْعَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَ أَوْ لَمْ يُصِبْ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَصَابَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ ثُمَّ طَلَّقَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَسْتَأْنِفَ الْعِدَّةَ مِنَ الطَّلَاقِ الْثَانِي وَقَدِ انْهَدَمَ مَا مَضَى مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ بِالْإِصَابَةِ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ حَتَّى طَلَّقَهَا لَمْ يَسْقُطْ بِالثَّانِي مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

(11/227)


وَقَالَ دَاوُدُ: قَدْ سَقَطَتِ الْعِدَّةُ عَنْهَا وَحَلَّتْ للأزواح؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الْأَوَّلَ قَدِ ارْتَفَعَ بِالرَّجْعَةِ فَسَقَطَتْ بَقِيَّةُ الْعِدَّةِ ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ رَجْعَةٍ حَلَّتْ مِنْ إِصَابَتِهِ فَصَارَ كَطَلَاقٍ فِي نِكَاحٍ خَلَا مِنْ إِصَابَةٍ فَلَا يَجِبُ فِيهِ عِدَّةٌ، وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ خَرَقَ بِهِ الْإِجْمَاعَ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ وَفَسَادِ الْأَنْسَابِ وَأَنْ يَنْكِحَ الْمَرْأَةَ فِي يَوْمٍ عِشْرُونَ زَوْجًا يَدْخُلُ بِهَا كل واحد منهم ولم تَعْتَدُّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ يَتَزَوَّجُهَا وَيَدْخُلُ بِهَا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا ثُمَّ يَرْتَجِعُهَا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا فَتَسْقُطُ الْعِدَّةُ وَتَنْكِحُ آخَرَ فَتَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا إِلَى عِشْرِينَ زَوْجًا، وَمَا أَفْضَى إِلَى هَذَا فَالشَّرْعُ مَانِعٌ مِنْهُ؛ وَلِذَلِكَ مَنَعَ الشَّرْعُ أَنْ تَنْكِحَ الْمَرْأَةُ زَوْجَيْنِ لِمَا فِيهِ مِنِ اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ وَفَسَادِ الْأَنْسَابِ، وَقَوْلُ دَاوُدَ: يُؤَدِّي إِلَى أَنْ تَجْمَعَ بَيْنَ مَنْ شَاءَتْ مِنَ الْأَزْوَاجِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَسْقُطُ عَنْهَا فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّ مَا بَيْنَ الرَّجْعَةِ وَالطَّلَاقِ الثَّانِي غَيْرُ مُحْتَسَبٍ بِهِ مِنَ الْعِلَّةِ، لِأَنَّهُ زَمَانٌ قَدْ كَانَتْ فِرَاشًا فِيهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَعْتَدَّ بِهِ، لأن الفراش إِبَاحَةٌ وَالْعِدَّةَ تَحْرِيمٌ فَصَارَا ضِدَّيْنِ فَامْتَنَعَ أَنْ يَجْتَمِعَا، فَأَمَّا مَا مَضَى مِنَ الْعِدَّةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ وَقَبْلَ الرَّجْعَةِ، فَهَلْ تَعْتَدُّ بِهِ وَتَبْنِي عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِهِ وَتَبْنِي عِدَّةَ الطَّلَاقِ الثَّانِي عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ وَيَكُونُ الطَّلَاقُ الثَّانِي قَدْ تَقَدَّمَ الرَّجْعَةَ إِذَا لَمْ يَتَعَقَّبْهَا دُخُولٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّهَا لَا تَعْتَدُّ بِمَا مَضَى قَبْلَ الرَّجْعَةِ وَتَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ مِنَ الطَّلَاقِ الثَّانِي، وَتَكُونُ الرَّجْعَةُ قَدْ هَدَمَتْ عِدَّةَ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ كَمَا لَوْ تَعَقَّبَهَا دُخُولٌ، فَإِذَا قِيلَ بِالْأَوَّلِ أَنَّهَا تُبْنَى عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ، لَا تَسْتَأْنِفُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ فَدَلِيلُهُ ثلاثة أشياء:
أحدها: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] فَلَوْ أَوْجَبَتِ اسْتِئْنَافَ الْعِدَّةِ لَصَارَ مُمْسِكًا لَهَا إِضْرَارًا بِهَا، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَقْصُودَ الرَّجْعَةِ هُوَ الْإِصَابَةُ وَهِيَ أَضْعَفُ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ وَلَيْسَتْ بِأَقْوَى مِنْهُ فَلَمَّا كَانَ الطَّلَاقُ يَرْفَعُ عَقْدَ النِّكَاحِ إِذَا خَلَا مِنْ إِصَابَةٍ فَأَوْلَى أَنْ يَرْفَعَ الرَّجْعَةَ إِذَا خَلَتْ مِنْ إِصَابَةٍ فَإِذَا رَفَعَهَا صَارَ كَطَلَاقٍ بَعْدَ طَلَاقٍ لَمْ يَتَخَلَّلْهَا رَجْعَةٌ وَذَلِكَ يُوجِبُ لِبِنَاءِ الْعِدَّةِ دُونَ الِاسْتِئْنَافِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ اسْتِئْنَافَ العدة من الطلاق الثاني مفضي إِلَى سُقُوطِ الْعِدَّةِ بِالطَّلَاقِ الثَّانِي لِأَنَّهُ طَلَاقٌ خَلَا مِنْ إِصَابَةٍ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ هَذَا، حُمِلَ الطَّلَاقُ الثَّانِي عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ.

(11/228)


وَإِذَا قِيلَ بِالثَّانِي إِنَّهَا تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ مِنَ الطَّلَاقِ الثَّانِي وَلَا تَبْنِي عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ فَدَلِيلُهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: قَوْلُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وَهَذِهِ مُطَلَّقَةٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّجْعَةَ قَدْ رَفَعَتْ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ فَارْتَفَعَ بِهَا حُكْمُ الطَّلَاقِ فَصَارَ الطَّلَاقُ الثَّانِي هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالتَّحْرِيمِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِوُجُوبِ الْعِدَّةِ بَعْدَ التَّحْرِيمِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا قَدْ تَسْرِي فِي الْعِدَّةِ بِطَلَاقِهِ كَمَا تَسْرِي فِيهَا بِرِدَّتِهِ وَالْعِدَّةُ تَرْتَفِعُ بِرَجْعَتِهِ كَمَا تَرْتَفِعُ بِإِسْلَامِهِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ إِسْلَامِهِ اسْتَأْنَفَ الْعِدَّةَ وَلَمْ يَبْنِ كَذَلِكَ إِذَا طَلَّقَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ اسْتَأْنَفَ الْعَدَّةَ وَلَمْ تَبْنِ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَوْجِيهِ القولين بعد ما قَدَّمْنَا مِنْ إِبْطَالِ قَوْلِ دَاوُدَ فِي إِسْقَاطِهِ الْعِدَّةِ بِالطَّلَاقِ بَعْدَ الرَّجْعَةِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِنَّهَا تَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ نُظِرَ فِيمَا مَضَى مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ قَبْلَ الرَّجْعَةِ، فَإِنْ كَانَ قُرْءًا وَاحِدًا اعْتَدَّتْ بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّانِي بِقُرْأَيْنِ فَلَوْ كَانَ قَدْ مَضَى لَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ، وقبل الطلاق الثاني قرءان لَمْ تَعْتَدَّ بِهِمَا لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهَا قَدْ صَارَتْ بَعْدَ الرَّجْعَةِ فِرَاشًا وَزَمَانُ الِافْتِرَاشِ غَيْرُ مُحْتَسَبٍ فِي الْعِدَّةِ وَإِنْ كَانَ الْمَاضِي في العدة قبل الرجعة قرءان اعْتَدَّتْ بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّانِي بِقُرْءٍ وَاحِدٍ وَحَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ، فَإِنْ كَانَ الْمَاضِي لَهَا قَبْلَ الرَّجْعَةِ قرء واحد وَبَعْضَ الثَّانِي لَمْ تَحْتَسِبْ بِبَعْضِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْقُرْءَ لَا يَتَبَعَّضُ وَاحْتُسِبَ قُرْءٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي إِنَّهَا تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ كَامِلَةٍ عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا حَتَّى لَوْ رَاجَعَهَا فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنِ اسْتِكْمَالِ الْعِدَّةِ هَدَمَتِ الرَّجْعَةُ جَمِيعَ مَا مَضَى وَلَزِمَهَا اسْتِئْنَافُ عدة كاملة.
(فصل)
ثم يتفرع ما ذكرنا فرعين:
أَحَدُهُمَا: فِيمَنْ خَالَعَ زَوْجَتَهُ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا وَجَرَتْ فِي عِدَّتِهَا ثُمَّ اسْتَأْنَفَ نِكَاحَهَا فِي الْعِدَّةِ جَازَ.
وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَهَا فِي عِدَّتِهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ كَمَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ منه حفظاً لِمَائِهِ فَلَمْ يَمْنَعِ اسْتِئْنَافَ عَقْدِهِ كَمَا لَوِ اعْتَدَّتْ مِنْهُ عَنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ جَازَ أَنْ يَنْكِحَهَا فِي عِدَّتِهَا وَلَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِئَلَّا يَخْتَلِطَ مَاؤُهُمَا؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تَسْقِ بِمَائِكَ زَرْعَ غَيْرِكَ " فإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ نِكَاحِهِ لَهَا فِي الْعِدَّةِ فَطَلَّقَهَا بَعْدَ النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ إِصَابَةٍ بَنَتْ عَلَى مَا مَضَى مِنْ عِدَّةِ الْخُلْعِ وَلَمْ تَسْتَأْنِفِ الْعَدَّةَ مِنَ الطَّلَاقِ الثَّانِي قَوْلًا وَاحِدًا.

(11/229)


وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ: تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ مِنَ الطَّلَاقِ الثَّانِي وَلَا تَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ عِدَّةِ الْخُلْعِ كَمَا لَا تَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ اسْتَأْنَفَ نِكَاحَهَا بِعَقْدٍ ثَانٍ خَلَا مِنْ دُخُولٍ فَلَمْ يَجِبْ بِالطَّلَاقِ فِيهِ عِدَّةٌ وَلَزِمَهَا أَنْ تَأْتِيَ بِالْبَاقِي مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ وَلَيْسَتِ الْمُطَلَّقَةُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ رَاجَعَهَا فَصَارَتْ مَعَهُ بَعْدَ الرَّجْعَةِ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ وَقَدِ اسْتَقَرَّ فِي حُكْمِ الدُّخُولِ فَجَرَى عَلَى مَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ حُكْمُ الدُّخُولِ فَجَازَ أَنْ تَسْتَأْنِفَ الْعِدَّةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّانِي، وَهَذَا فَرْقٌ، وَدَلِيلٌ، وَلَكِنْ نُحَرِّرُهُ قِيَاسًا، فَنَقُولُ: كُلُّ عَقْدٍ لَمْ يُوجِبِ الْعِدَّةَ بِانْفِرَادِهِ لَمْ يُوجِبْهَا بِانْضِمَامِهِ إِلَى غَيْرِهِ كَالْعَقْدِ الْفَاسِدِ.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْفَرْعُ الثَّانِي فَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ ثُمَّ يُرَاجِعَهَا ثُمَّ يُخَالِعَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ مِنْ غَيْرِ إِصَابَةٍ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ صَارَ كَمَا لَوْ طَلَّقَ ثُمَّ رَاجَعَ ثُمَّ طَلَّقَ فَهَلْ تَبْنِي على العدة أن تَسْتَأْنِفُهَا عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَالطَّلَاقِ أَيْضًا فَتَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْفَسْخَ جِنْسٌ يُخَالِفُ جِنْسَ الطَّلَاقِ فَاقْتَضَى اخْتِلَافُهُمَا فِي الْجِنْسِ أَنْ لَا يَبْنِيَ عِدَّةَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَتَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ بَعْدَ الْخُلْعِ وَلَا تَبْنِيهَا عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأُولَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي: " وَلَوْ كَانَ طَلَاقًا لَا يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ ثَمَّ عُتِقَتْ فَفِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ تَبْنِيَ عَلَى الْعِدَّةِ الْأُولَى وَلَا خِيَارَ لَهَا وَلَا تَسْتَأْنِفُ عِدَةً لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي مَعَانِي الْأَزْوَاجِ والثاني: أن تكمل عدة حرة (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا أَوْلَى بِقَوْلِهِ ومما يدلك على ذلك قوله في المرأة تعتد بالشهور ثم تحيض إنها تستقبل الحيض ولا يجوز أن تكون في بعض عدتها حرة وهي تعتد عدة أمة وكذلك قال لا يجوز أن يكون في بعض صلاته مقيما ويصلي صلاة مسافر وقال هذا أشبه القولين بالقياس (قال المزني) رحمه الله وما احتج به من هذا يقضي على أن لا يجوز لمن دخل في صوم ظهار ثم وجد رقبة أن يصوم وهو ممن يجد رقبة ويكفر بالصيام ولا لمن دخل في الصلاة بالتيمم أن يكون ممن يجد الماء ويصلي بالتيمم كما قال لا يجوز أن تكون في عدتها ممن تحيض وتعتد بالشهور في نحو ذلك من أقاويله وقد سوى الشافعي رحمه الله في ذلك بين ما يدخل

(11/230)


فيه المرء وما بين ما لم يدخل فيه فجعل المستقبل فيه كالمستدبر ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ مَضَتْ وَذَكَرْنَا حُكْمَ عِتْقِهَا فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ وَالْبَائِنِ بِمَا أغنى عن إعادته.

(مسألة)
قال الشافعي: " وَالطَّلَاقُ إِلَى الرَّجَالِ وَالْعِدَّةُ بِالنِّسَاءِ وَهُوَ أَشْبَهُ بِمَعْنَى الْقُرْآنِ مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَثَرِ وَمَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فِيمَا سِوَى هَذَا مِنْ أَنَّ الْأَحْكَامَ تُقَامُ عَلَيْهِمَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْحُرَّ الْمُحْصَنَ يَزْنِي بِالْأَمَةِ فَيُرْجَمَ وَتُجْلَدَ الْأَمَةُ خَمْسِينَ وَالزِّنَا مَعْنًى وَاحِدٌ فَاخْتَلَفَ حُكْمُهُ لِاخْتِلَافِ حَالِ فَاعِلِيهِ فَكَذَلِكَ يُحْكَمُ لِلْحُرِّ حُكْمَ نَفْسِهِ فِي الطَّلَاقِ ثَلَاثًا وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَتُهُ أَمَةً على الْأَمَةِ عِدَّةُ أَمَةٍ وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِمَا:
أَحَدُهُمَا: فِي الْعِدَّةِ أَنَّهَا تُعْتَبَرُ فيه حَالُ الزَّوْجَةِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: فِي الطَّلَاقِ هَلْ يُعْتَبَرُ فِيهِ حال الزَّوْجِ فِي حُرِّيَّتِهِ وَرِقِّهِ أَوْ حَالُ الزَّوْجَةِ فاعتبره أبو حنيفة بحال الزوجة، واعتبر الشَّافِعِيُّ بِحَالِ الزَّوْجِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي حَالِ الْفَصْلَيْنِ بِمَا أَغْنَى عَنِ الْإِعَادَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(11/231)


(باب عدة الوفاة)
(مسألة)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} الْآيَةَ فَدَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهَا عَلَى الْحُرَّةِ غَيْرِ ذَاتِ الْحَمْلِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِسُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ وَقَدْ وَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِنِصْفِ شَهْرٍ " قَدْ حَلَلْتِ فَانْكِحِي مَنْ شِئْتِ " قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوْ وَضَعَتْ وَزَوْجُهَا عَلَى سَرِيرِهِ لَمْ يُدْفَنْ لَحَلَّتْ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا وَضَعَتْ حَلَّتْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْأَصْلُ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ بِحَوْلٍ كامل قال الله: {والذي يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ " [البقرة: 240] فَكَانَتِ الْعِدَّةُ سَنَةً وَلَهَا فِي الْعِدَّةِ النَّفَقَةُ فَنُسِخَتِ النَّفَقَةُ بِالْمِيرَاثِ، وَنُسِخَتِ السَّنَةُ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ وَقَالَ اللَّهُ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] فَصَارَ الْحَوْلُ بِهَا مَنْسُوخًا فَإِنْ قِيلَ: فَنَسْخُ الشُّهُورِ بِالْحَوْلِ أَوْلَى مِنْ نَسْخِ الْحَوْلِ بِالشُّهُورِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ آيَةَ الْحَوْلِ مُتَأَخِّرَةٌ فِي التِّلَاوَةِ عَنْ آيَةِ الشُّهُورِ وَالْمُتَأَخِّرُ هُوَ النَّاسِخُ لِمَا تَقَدَّمَهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَوْلَ أَعَمُّ مِنَ الشُّهُورِ وَأَزْيَدُ، وَالْأَخْذُ بِالزِّيَادَةِ أَوْلَى مِنَ الْأَخْذِ بِالنُّقْصَانِ قِيلَ: هَذَا لَا يَصِحُّ مَعَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ آيَةَ الشُّهُورِ مُتَأَخِّرَةٌ فِي التَّنْزِيلِ عَنْ آيَةِ الْحَوْلِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً عَلَيْهَا فِي التِّلَاوَةِ وَالنَّسْخِ وَإِنَّمَا يَكُونُ بِالْمُتَأَخِّرَةِ فِي التَّنْزِيلِ لَا بِالْمُتَأَخِّرَةِ فِي التِّلَاوَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ تِلَاوَةً مَا تَأَخَّرَ تَنْزِيلُهُ وَتَتأَخَّرَ تِلَاوَةً مَا تَقَدَّمَ تَنْزِيلُهُ مِثْلُ قَوْلِهِ: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ عَنْ قبلتهم التي كانوا عليها} [البقرة: 142] نزل بَعْدَ قَوْلِهِ: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] وَهُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِ فِي التِّلَاوَةِ وَكَقَوْلِهِ {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] مُتَقَدِّمٌ فِي التَّنْزِيلِ عَلَى قَوْلِهِ {إن أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب: 50] وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ في التلاوة.

(11/232)


فَإِنْ قِيلَ: فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّ آيَةَ الشُّهُورِ مُتَقَدِّمَةٌ فِي التَّنْزِيلِ عَلَى آيَةِ الْحَوْلِ.
قُلْنَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: نَقْلٌ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ، وَرَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَوْلَ تَقَدَّمَ فِعْلُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَثَبَتَ حُكْمُهُ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ فَكَانَ مَا خَالَفَهُ طَارِئًا عَلَيْهِ قَالَ لَبِيدٌ.
(إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا ... وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدِ اعْتَذَرَ)

فَثَبَتَ بِذَلِكَ تَقَدُّمُ الْحَوْلِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَصَدْرِ الْإِسْلَامِ فَلِذَلِكَ صَارَتْ آيَةُ الشُّهُورِ بَعْدَهَا فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ قُدِّمَتْ تِلَاوَةُ مَا تَأَخَّرَ تَنْزِيلُهُ، وَهَلَّا كَانَتِ التِّلَاوَةُ مُتَرَتِّبَةً عَلَى التَّنْزِيلِ؟
قِيلَ: قَدْ فَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا تَارَةً وَأَمَرَ بِهَذَا تَارَةً بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ؛ فَإِنَّ تَرْتِيبَ التِّلَاوَةِ عَلَى التَّنْزِيلِ فُقُدِّمَتْ تِلَاوَةُ مَا تَقَدَّمَ تَنْزِيلُهُ وَأُخِّرَتْ تِلَاوَةُ مَا تَأَخَّرَ تَنْزِيلُهُ فَقَدِ انْقَضَى وَإِنْ قُدِّمَتْ تِلَاوَةُ مَا تَأَخَّرَ تَنْزِيلُهُ فَلِسَبْقِ الْقَارِئِ إِلَى تِلَاوَتِهِ وَمَعْرِفَةِ الثَّابِتِ مِنْ حُكْمِهِ حَتَّى إِنْ لَمْ يُقِرَّ مَا بَعْدَهُ مِنْ مَنْسُوخِ الْحُكْمِ أَجْزَأَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ السُّنَّةَ الْوَارِدَةَ تَدُلُّ عَلَى نَسْخِ الْحَوْلِ بِأَرْبَعَةِ أشهر وعشر بخبرين:
أحدهما: مارواه الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ".
وَالثَّانِي: مَا رَوَتْهُ زَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّهَا أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قالت جاءت امرأة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالت: يا رسول الله إن بنتي توفي زَوْجُهَا وَقَدْ رَمِدَتْ

(11/233)


عَيْنُهَا أَفَأَكْحُلُهَا فَقَالَ: لَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا قَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ تَمْكُثُ حَوْلًا ثُمَّ تَرْمِي بالبعرة، وإما هي أربعة اشهر وعشراً.
وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى إِلْقَائِهَا لِلْبَعْرَةِ عَلَى قَبْرِهِ فَقِيلَ: مَعْنَاهَا أَنَّنِي قَدْ أَدَّيْتُ حَقَّكَ وَأَلْقَيْتُهُ عَنِّي كَإِلْقَاءِ هَذِهِ الْبَعْرَةِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَنَّ مَا لَقِيتُهُ فِي الْحَوْلِ مِنَ الشِّدَّةِ هِيَ فِي عِظَمِ حَقِّكَ عَلَيَّ كَهَوَانِ هَذِهِ الْبَعْرَةِ فَأَتَتِ السُّنَّةُ بِهَذَيْنِ الْخَبِرَيْنِ، وَإِنَّ آيَةَ الشُّهُورِ نَاسِخَةٌ لَآيَةِ الْحَوْلِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِفَةِ النَّسْخِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا نَسَخَتْ جَمِيعَ الْحَوْلِ ثُمَّ ثَبَتَ بِهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَهَذَا مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ آيَةَ الشُّهُورِ نَسَخَتْ مِنْ آيَةِ الْحَوْلِ مَا زَادَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ وَبَقِيَ الْحَوْلُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَيَكُونُ وُجُوبُهَا بِآيَةِ الْحَوْلِ وَآيَةُ الشُّهُورِ مَقْصُورَةٌ عَلَى نَسْخِ الزِّيَادَةِ وَمُؤَكِّدَةٌ لِوُجُوبِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ وَلَيْسَ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ تَأْثِيرٌ فِي حُكْمٍ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَعِدَّةُ الْوَفَاةِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ زَوْجَةٍ مِنْ صَغِيرَةٍ، أَوْ كَبِيرَةٍ، عَاقِلَةٍ أَوْ مَجْنُونَةٍ، مَدْخُولٍ بِهَا وَغَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا كَالطَّلَاقِ وَهَذَا قَوْلٌ تَفَرَّدَ بِهِ، وَقَدْ خَالَفَهُ فِيهِ سَائِرُ الصَّحَابَةِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا تَقْتَضِيهِ عُمُومُ الْآيَةِ أَنَّهَا لَمَّا اسْتَكْمَلَتِ الْمَهْرَ بِالْمَوْتِ كَالدُّخُولِ اقْتَضَى أَنْ تَجِبَ بِهِ الْعِدَّةُ كَالدُّخُولِ، وَلِأَنَّ غَايَةَ النِّكَاحِ اسْتِيعَابُ زَمَانِهِ بِالْمَوْتِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْلَبَ حُكْمُ كَمَالِهِ بِسُقُوطِ الْعِدَّةِ كَمَا لَمْ يُسْلَبِ اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَمَسُّكُ الْمَيِّتِ بِعِصْمَتِهَا وَقَطْعُ الْمُطَلِّقِ لَهَا فَلَزِمَ مِنْ حَقِّهِ بَعْدَ الْمَوْتِ مَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ حَقِّهِ بَعْدَ الطَّلَاقِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُطَلِّقَ حَيٌّ يَسْتَظْهِرُ لِنَفْسِهِ أَنْ أُلْحِقَ به تسب أَوْ نُفِيَ عَنْهُ فَكَانَتِ الْعِدَّةُ فِي حَقِّهِ مَقْصُورَةً عَلَى الِاسْتِبْرَاءِ، وَلَيْسَ مَعَ عَدَمِ الدُّخُولِ اسْتِبْرَاءٌ، وَذَلِكَ مَعْدُومٌ مِنْ جِهَةِ الْمَيِّتِ فَاسْتَظْهَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بِوُجُوبِ الْعِدَّةِ فِي حَقِّهِ تَعَبُّدًا فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الدُّخُولُ
(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْعِدَّةِ بِالْوَفَاةِ عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ حَائِلًا، أَوْ حَامِلًا، فَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا فَعِدَّتُهَا بِالشَّهْرِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ ذَاتِ الْأَقْرَاءِ أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ لِلْآيَةِ، وَلِأَنَّ الْأَقْرَاءَ فِي حَقِّ

(11/234)


حَيٍّ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِيفَائِهَا لِنَفْسِهِ فَقَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى عِدَّةَ الْمَيِّتِ بِالشُّهُورِ لِتَكُونَ مُسْتَوْفَاةً بِزَمَانٍ فِيهِ اسْتِظْهَارٌ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى زَادَ عَلَى شُهُورِ الطَّلَاقِ، وَإِذَا كَانَتْ بِالشُّهُورِ فِي الْحَالَيْنِ فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرَةِ أَيَّامٍ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةُ لَيَالٍ فَأَسْقَطَ الْيَوْمَ الْعَاشِرَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ عَدَدًا يَنْطَلِقُ عَلَى الليالي دون الأيام؛ لأنه قال " وعشراً)) بِحَذْفِ الْهَاءِ فَتَنَاوَلَتْ مَا كَانَ مُؤَنَّثًا فِي اللَّفْظِ وَهُوَ اللَّيَالِي؛ لِأَنَّ عَدَدَ الْمُؤَنَّثِ فِي الْآحَادِ مَحْذُوفُ الْهَاءِ وَلَوْ أَرَادَ الْأَيَّامَ لَقَالَ وَعَشْرَةً بِإِثْبَاتِ الْهَاءِ كَمَا قَالَ: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة: 7] وَهَذَا الْمَذْهَبُ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَيَّامَ دَاخِلَةٌ فِيمَا قَبِلَ الْعَاشِرِ فَلَمْ يَمْتَنِعْ دُخُولُهَا فِي الْعَاشِرِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِجَمِيعِ الْعَدَدِ وَاحِدٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ إِطْلَاقَ اللَّيَالِي يَقْتَضِي دُخُولَ الْأَيَّامِ مَعَهَا وَإِطْلَاقَ الْأَيَّامِ يَقْتَضِي دُخُولَ اللَّيَالِي مَعَهَا.
وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّ الْهَاءَ تَدُلُّ عَلَى الْمُذَكَّرِ وَعَدَمَهَا يَدُلُّ عَلَى الْمُؤَنَّثِ إذا كان كان العدد مفسراً فيقال عشرة أيام وعشرة لَيَالٍ، فأمَا إِذَا أُطْلِقَ الْعَدَدُ مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ لَمْ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْمُذَكَّرَ وَالْمُؤَنَّثَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ كُلَّهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ أَرَادَ الْأَيَّامَ الَّتِي يَكُونُ الصَّوْمُ فِيهَا دُونَ اللَّيَالِي.

(فَصْلٌ)
وَإِنْ كَانَتِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا حَامِلًا فَعِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا سَوَاءٌ تَعَجَّلَ أَوْ تَأَخَّرَ وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوْ وَضَعَتْ وَزَوْجُهَا عَلَى السَّرِيرِ حَلَّتْ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَحُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ مِنَ الشُّهُورِ أَوِ الْحَمْلِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى اعْتِدَادِهَا بِالْحَمْلِ مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ الْآيَةُ مُشْتَرَكَةٌ قَالَ أَيُّ آيَةٍ قُلْتُ {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] الْمُطَلَّقَةُ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا قَالَ نَعَمْ.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ حَدِيثَ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ مِنْ طُرُقٍ شَتَّى بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ وَمَعَانٍ

(11/235)


مُتَّفِقَةٍ أَنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ أَبَقُوا وَأَنَّهُ لَقِيَهُمْ فِي الطَّرِيقِ فَقَتَلُوهُ فَوَضَعَتْ سُبَيْعَةُ حَمْلَهَا بَعْدَ قَتْلِ زَوْجِهَا بِنَحْوٍ مِنْ نِصْفِ شَهْرٍ فَمَرَّ بِهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ وَكَانَ يُرِيدُ خِطْبَتَهَا وَقَدْ كَرِهَتْهُ؛ لِأَنَّهُ شَيْخٌ وَقَدْ خَطَبَهَا شَابٌّ فَقَالَ: أَرَاكِ قَدْ تَصَنَّعْتِ لِلْأَزْوَاجِ؛ وَإِنَّمَا عَلَيْكِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ فَأَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأخبرته بذلك فقال: كذب أو السَّنَابِلِ: قَدْ حَلَلْتِ قَدْ حَلَلْتِ فَانْكِحِي مَنْ شِئْتِ.
وَقَوْلُهُ كَذَبَ أَبُو السَّنَابِلِ يَعْنِي أَخْطَأَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرِ.
(كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رَأَيْتَ بِوَاسِطٍ ... غَلَسَ الظَّلَامِ مِنَ الرَّبَابِ خَيَالًا)

قِيلَ: وَكَانَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ بَعْدَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ الَّتِي لَمْ يَعِشْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَهَا إِلَّا شُهُورًا.
وَرَوَى أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ هَذَا الْحَدِيثَ، وأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهَا: يَا سُبَيْعَةُ أَرْبِعِي بِنَفْسِكَ فَتَأَوَّلَهُ مَنْ أَلْزَمَهَا أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ أَقِيمِي فِي رَبْعِكِ لِبَقَائِهَا فِي الْعِدَّةِ، وَتَأَوَّلَهُ مَنْ قَالَ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهِ اسْكُنِي أَيَّ رَبْعٍ شِئْتِ لِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَصَحُّ لِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ اخْتَلَفَا فِي عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إِذَا كَانَتْ حَامِلًا.
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَضْعُ الْحَمْلِ فَأَرْسَلُوا أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرَتْ لَهُمْ قِصَّةَ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ فَرَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى قَوْلِهَا. وَاسْتَدَلَّ ابْنُ مَسْعُودٍ لِذَلِكَ بِمَعْنًى صَحِيحٍ، فَقَالَ: لَمَّا لَحِقَهَا التَّغْلِيظُ إِذَا تَأَخَّرَ لَحِقَهَا التَّخْفِيفُ إِذَا تَقَدَّمَ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تُعْتَبَرِ الْأَقْرَاءُ مَعَ الْحَمْلِ لَمْ تُعْتَبَرِ الشُّهُورُ مَعَ الْحَمْلِ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ لَا يُجْمَعُ فِيهَا بَيْنَ جِنْسَيْنِ.

(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي: " فتحل إذا وضعت قبل أن تَطْهُرَ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَمَفْسُوخٍ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ وَحَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ وَإِنْ كَانَتْ فِي النِّفَاسِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ: هِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْأَزْوَاجِ حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ نِفَاسِهَا وَتَغْتَسِلَ وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ اللَّهِ: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}

(11/236)


[الطلاق: 4] وَلِحَدِيثِ سُبَيْعَةَ وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَجَلُ كُلِّ ذَاتِ حَمْلٍ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا " فَلَمْ تَجُزِ الزِّيَادَةُ فِي عِدَّتِهَا عَلَى نَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلِأَنَّ وَضْعَ الْحَمْلِ قَدْ تَحَقَّقَتْ بِهِ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ وَتَأْثِيرُ النِّفَاسِ بَعْدَهُ فِي تَحْرِيمِ الْوَطْءِ وَهَذَا غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ كَالْحَائِضِ.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَمَفْسُوخٍ يَعْنِي فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِيهِمَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ؛ لِأَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ، لِأَنَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ تَجِبُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ دَخَلَ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ وَعِدَّةُ الْوَفَاةِ لَا تَجِبُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، فَإِنْ لَمْ يقترن بَيْنَهُمَا فَإِذَا مَاتَ عَنْهَا وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِمَوْتِهِ فَاسْتَأْنَفَتْ عِدَّةَ الْفُرْقَةِ لَا عِدَّةَ الْمَوْتِ، فَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَبِوَضْعِ الْحَمْلِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فَثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ فَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ فَصَارَتْ مُخَالِفَةً لِعِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَإِنَّمَا يَجْتَمِعَانِ فِي شَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي ابْتِدَاءِ الْعِدَّةِ أَنَّهَا مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ.
وَالثَّانِي: فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ فَمِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِيمَا سِوَاهُمَا مِنَ الْأَحْكَامِ.

(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَيْسَ لِلْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا نَفَقَةٌ قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ لَا نَفَقَةَ لَهَا حَسْبُهَا الْمِيرَاثُ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ لأن مالكه قد انقطع بالموت (قال الْمُزَنِيِّ) : هَذَا خِلَافُ قَوْلِهِ فِي الْبَابِ الثَّانِي وهو أصح، وهو في الباب الثالث مشروح ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: لَا نَفَقَةَ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا حَامِلًا كَانَتْ أَوْ حَائِلًا.
وَبِهِ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَجُمْهُورُ التَّابِعِينَ، وَالْفُقَهَاءِ، وَحُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّ لَهَا النَّفَقَةَ إِذَا كَانَتْ حَامِلًا لِقَوْلِ اللَّهِ: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] وَكَالْمُطَلَّقَةِ الْحَامِلِ وَاعْتِبَارًا بِوُجُوبِ السُّكْنَى.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنْ لَا نَفَقَةَ لَهَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَّمَا النَّفَقَةُ لِلَّتِي يَمْلِكُ زَوْجُهَا رَجْعَتَهَا " وَلَيْسَ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا رَجْعَةٌ فَلَمْ يَكُنْ لَهَا نَفَقَةٌ؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ مُتَجَدِّدٌ مَعَ الْأَوْقَاتِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ بِالْوَفَاةِ كَنَفَقَاتِ الْأَقَارِبِ، وَلِأَنَّ استحقاقها للنفقة

(11/237)


لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ لِحَمْلِهَا، أَوْ لَهَا، فَإِنْ كَانَ لَهَا فَهِيَ لَا تَسْتَحِقُّهَا لَوْ كَانَتْ حَائِلًا فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ حَامِلًا، لِأَنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ التَّمْكِينِ الْمُرْتَفِعِ بِالْمَوْتِ وَإِنْ كَانَتْ بحملها بالحمل لَوْ وُلِدَ لَمْ يَسْتَحِقَّ نَفَقَةً فَقَبْلَ الْوِلَادَةِ أَوْلَى أَنْ لَا يَسْتَحِقَّهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ وَارِثًا فِي الْحَالَيْنِ، وَقَدِ انْقَطَعَ مِلْكُ الْأَبِ فِي الْحَالَيْنِ؛ وَلِأَنَّ أُجْرَةَ الرِّضَاعِ تَالِيَةٌ لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ لِقَوْلِهِ: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] فَلَمَّا سَقَطَتْ أُجْرَةُ الرِّضَاعِ بِالْمَوْتِ سَقَطَتْ بِهِ النَّفَقَةُ.
فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ فَهِيَ خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ وَلَا يَتَوَجَّهُ إِلَى الْمَيِّتِ خِطَابٌ فَصَارَتْ مَحْمُولَةً عَلَى الطَّلَاقِ اعْتِبَارًا بِأُجْرَةِ الرَّضَاعِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى فَرَّقْنَا بَيْنَ عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ. وَأَمَّا السُّكْنَى فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ كَالنَّفَقَةِ فَاسْتَوَيَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّفَقَةَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ؛ لِأَنَّهُمَا لَوِ اتَّفَقَا عَلَى تَرْكِهَا سَقَطَتْ وَالسُّكْنَى مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهَا لَوِ اتَّفَقَا عَلَى تَرْكِهِ وَالْخُرُوجِ مِنْ مَسْكَنِهَا لَمْ يَسْقُطْ فَافْتَرَقَا فِي الْوُجُوبِ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي التَّغْلِيظِ.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا قَوْلُ الْمُزَنِيِّ: هَذَا خِلَافُ قَوْلِهِ فِي الْبَابِ الثَّانِي، وَهَذَا أَصَحُّ وَهُوَ فِي الْبَابِ الثَّالِثِ مَشْرُوحٌ، فَالْمُرَادُ بِهِ تَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ لسقوط النفقة ها هنا بِأَنَّ مِلْكَهُ قَدِ انْقَطَعَ بِالْمَوْتِ أَصَحُّ مِمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْبَابِ الثَّانِي مِنْ وُجُوبِ السُّكْنَى إِثْبَاتًا لِمِلْكِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَدْ شَرَحَهُ فِي الْبَابِ الثَّالِثِ: أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى لِاسْتِوَائِهِمَا فِي التَّعْلِيلِ بِأَنَّ مِلْكَهُ قَدْ زَالَ بِالْمَوْتِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ.

(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي: " وَإِذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا فَإِنْ مَاتَ نِصْفَ النَّهَارِ وَقَدْ مَضَى مِنَ الْهِلَالِ عَشْرُ لَيَالٍ أَحْصَتْ مَا بَقِيَ مِنَ الْهِلَالِ فَإِنْ كَانَ عِشْرِينَ حَفِظَتْهَا ثُمَّ اعْتَدَّتْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ بِالْأَهِلَّةِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الشَّهْرَ الرَّابِعَ فَأَحْصَتْ عِدَّةَ أَيَامِهِ فَإِذَا كَمُلَ لَهَا ثَلَاثُونَ يَوْمًا بَلَيَالِيهَا فَقَدْ أوفت أربعة اشهر واسقبلت عشراً لياليها فَإِذَا أَوْفَتْ لَهَا عَشْرًا إِلَى السَّاعَةِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا فَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى حُكْمُ هَذِهِ الْعِدَّةِ فِي الْمُطَلَّقَةِ إِذَا اعْتَدَّتْ بِالشُّهُورِ وَذَكَرْنَا مَا فِيهَا مِنْ خِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ وَهِيَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ بِمَثَابَةٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو

(11/238)


حَالُ الْوَفَاةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي مُسْتَهَلِّ شَهْرٍ أَوْ فِي تَضَاعِيفِهِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي مُسْتَهَلِّ شَهْرٍ وَمَعَ أَوَّلِ هِلَالِهِ اعْتَدَّتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بِالْأَهِلَّةِ بِحَسَبِ وَجُودِهَا مِنْ كَمَالٍ وَنُقْصَانٍ ثُمَّ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ مِنَ الشَّهْرِ الْخَامِسِ وَإِنْ كَانَ فِي تَضَاعِيفِ الشَّهْرِ اعْتَدَّتْ بَاقِيَهُ، فَإِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ احْتَسَبَتْهَا وَاعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ بَعْدَهَا بِالْأَهِلَّةِ ثُمَّ اسْتَكْمَلَتْ شَهْرَ الْوَفَاةِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا عَدَدًا سَوَاءٌ كَانَ كَامِلًا أَوْ نَاقِصًا فَتَأْتِي مِنَ الشَّهْرِ الرَّابِعِ بِعِشْرِينَ يَوْمًا تَكْمِلَةَ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَاضِي مِنْهُ عِشْرِينَ يَوْمًا لِكَمَالِهِ، أَوْ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا لِنُقْصَانِهِ، ثُمَّ تَعْتَدُّ بَعْدَ كَمَالِ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ إِلَى مِثْلِ سَاعَةٍ مِنَ الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ زَوْجُهَا فَإِنْ قِيلَ، فلما زِيدَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِتَمَسُّكِهِ بِعِصْمَتِهَا وَحِفْظِهِ لِزِمَامِهَا بِخِلَافِ الْمُطَلِّقِ الَّذِي أَبَتَّ عِصْمَتَهَا وَقَطَعَ زِمَامَهَا فَجُوزِيَ عَلَيْهِ بِالزِّيَادَةِ فِيهَا لِحِفْظِ حُرْمَتِهِ وَالرِّعَايَةِ لِحُسْنِ صُحْبَتِهِ.
وَالثَّانِي: لِيَكُونَ فَقْدُ الزَّوْجِ فِي اسْتِيفَاءِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا مَجْبُورًا بِالزِّيَادَةِ فِي عِدَّتِهَا فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ قَدَّرَهَا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، قِيلَ: لِمَصْلَحَةٍ اسْتَأْثَرَ بِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الزَّمَانِ الَّذِي يَتَكَامَلُ فِيهِ خَلْقُ الْوَلَدِ وَيُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " يَكُونُ خَلْقُ أَحَدِكُمْ نُطْفَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ مُضْغَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ " فَصَارَ نَفْخُ الرُّوحِ فِي الْعَشْرِ الَّتِي بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَلِذَلِكَ قُدِّرَتْ بِأَرْبَعَةِ أشهر والله أعلم.

(مسألة)
قال الشافعي: " وَلَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَأْتِيَ فِيهَا بِحَيْضٍ كَمَا لَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَأْتِيَ فِي الْحَيْضِ بِشُهُورٍ وَلِأَنَّ كُلَّ عِدَّةٍ حَيْثُ جَعَلَهَا اللَّهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: لَا يُعْتَبَرُ الْحَيْضُ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ فَإِذَا اعْتَدَّتْ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ وَلَمْ تَرَ فِيهَا حَيْضًا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا سَوَاءٌ كَانَتْ عَادَتَهَا الْحَيْضُ فِي كُلِّ شَهْرٍ أَمْ لَا؟ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا أَنْ تَحِيضَ فِي كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالشُّهُورِ، وَإِنْ لَمْ تَحِضْ فِيهَا حَيْضَةً، وَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا أن تحيض في شَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ حَيْضَةً لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ إِذَا لَمْ تَكُنْ مِنْهَا حَيْضَةٌ وَمَكَثَتْ مُعْتَدَّةً بَعْدَهَا حَتَّى تَحِيضَ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ تَأَخُّرَ حَيْضِهَا رِيبَةٌ وَالْمُسْتَرِيبَةُ تَمْكُثُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حَتَّى تَزُولَ رِيبَتُهَا كَالْمُعْتَدَّةِ بِالْأَقْرَاءِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] . فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ أَنْ لَا يَتَرَبَّصْنَ أَكْثَرَ مِنْهَا ثُمَّ قَالَ: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ

(11/239)


فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 234] . يَعْنِي فِي التَّزْوِيجِ، وَمَالِكٌ يَجْعَلُ الْجُنَاحَ عَلَيْهَا بَاقِيًا، وَلِأَنَّهَا قَدْ تَعْتَدُّ بِالشُّهُورِ مِنَ الطَّلَاقِ تَارَةً وَفِي الْوَفَاةِ أُخْرَى، فَلَمَّا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي شُهُورِ الطَّلَاقِ غَيْرُهَا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي شُهُورِ الْوَفَاةِ غَيْرُهَا، وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ قَدْ تَكُونُ بِالشُّهُورِ تَارَةً وَبِالْأَقْرَاءِ أُخْرَى، فَلَمَّا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي الشُّهُورِ الْأَقْرَاءُ لَمْ يُعْتَبَرِ الْحَيْضُ فِي الشُّهُورِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ عَادَتُهَا أَنْ تَحِيضَ فِي كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً فَلَمْ تَحِضْ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَالْعَشْرِ إِلَّا حَيْضَةً انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَإِنْ خَالَفَ الْعَادَةَ، كَذَلِكَ وَإِنْ لَمْ تَحِضْ فِيهَا حَيْضَةً.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ تَأَخُّرَ حَيْضِهَا رِيبَةٌ.
قِيلَ: الرِّيبَةُ: إِنَّمَا تَكُونُ بِانْتِفَاخِ الْجَوْفِ وَدُرُورِ اللَّبَنِ وَالْإِحْسَاسِ بِالْحَرَكَةِ، وَلَيْسَ تَأَخُّرُ الْحَيْضِ رِيبَةً كَمَا لَا يَكُونُ تَأَخُّرُهَا عن كل شهر ريبة.

(مسألة)
قال الشافعي: " إِلَّا أَنَّهَا إِنِ ارْتَابَتِ اسْتَبْرَأَتْ نَفْسَهَا مِنَ الرِّيبَةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ الْمُرْتَابَةِ فِي الْمُطَلَّقَةِ، وَقَدْ أَعَادَهَا فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَالرِّيبَةُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَمَارَاتِ الْحَمْلِ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا فِي الرِّيبَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ.
أَحَدُهَا: أَنْ تَحْدُثَ الرِّيبَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ العدة فَهِيَ بَاقِيَةٌ فِي عِدَّتِهَا فَإِنْ نَكَحَتْ قَبْلَ زَوَالِهَا بَطَلَ نِكَاحُهَا.
وَالثَّانِي: أَنْ تَحْدُثَ الرِّيبَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عَدَّتِهَا وَبَعْدَ نِكَاحِهَا فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ، وَيُوقَفُ عَلَى مَا يَكُونُ فِي حَالِ الْحَمْلِ فَإِنِ انْفَشَّ ثَبَتَ النِّكَاحُ، وَإِنْ وَلَدَتْ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ، وَهُوَ لَاحِقٌ بِالثَّانِي وَإِنْ كَانَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ وَهُوَ لَاحِقٌ بِالْأَوَّلِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَحْدُثَ الرِّيبَةُ بَعْدَ الْعِدَّةِ وَقَبْلَ النِّكَاحِ فَفِي بُطْلَانِ النِّكَاحِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ - أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ يُوقَفُ عَلَى مَا تَبَيَّنَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ.
(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي: " وَلَوْ طَلَّقَهَا مَرِيضًا ثَلَاثًا فَمَاتَ مِنْ مَرَضِهِ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَقَدْ قِيلَ لَا تَرِثُ مَبْتُوتَةً وَهَذَا مِمَّا أَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِيهِ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ فِي

(11/240)


مَوْضِعٍ آخَرَ وَهَذَا قَوْلٌ يَصِحُّ لِمَنْ قَالَ بِهِ قُلْتُ فَالِاسْتِخَارَةُ شَكٌّ وَقَوْلُهُ يَصِحُّ إِبْطَالًا للشك (وقال) فِي اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى: إِنَّ المبتوتة لا ترث وهذا أولى بقوله وبمعنى ظاهر القرآن لأن الله تعالى ورث الزوجة من زوج يرثها لو ماتت قبله فلما كانت إن ماتت لم يرثها وإن مات لم تعتد منه عدة من وفاته خرجت من معنى حكم الزوجة من القرآن واحتج الشافعي رحمه الله على من ورث رجلين كل واحد منهما النصف من ابن ادعياه وورث الابن إن ماتا قبله الجميع فقال الشافعي رحمه الله إنما يرث الناس من حيث يورثون يقول الشافعي فإن كانا يرثانه نصفين بالبنوة فكذلك يرثهما نصفين بالأبوة (قال المزني) رحمه الله فكذلك إنما ترث المرأة الزوج من حيث يرث الزوج المرأة بمعنى النكاح فإذا ارتفع النكاح بإجماع ارتفع حكمه والموارثة به ولما أجمعوا أنه لا يرثها لأنه ليس بزوج كان كذلك أيضاً لا ترثه لأنها ليست بزوجة وبالله التوفيق (قال الشافعي) رحمه الله فإن قيل قد ورثها عثمان قيل وقد أنكر ذلك عبد الرحمن بن عوف في حياته على عثمان رضي الله عنهما إن مات أو يورثها منه وقال ابْنِ الزُّبَيْرِ لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أَرَ أن ترث مبتوتة وهذا اختلاف وسبيله القياس وهو ما قلنا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ " الْفَرَائِضِ "، وَفِي كِتَابِ " الطَّلَاقِ " وَأَعَادَ ذِكْرَهَا فِي كِتَابِ " الْعِدَدِ " لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْمِيرَاثِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعِدَّةِ.
وَجُمْلَتُهُ: أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا فِي الْمَرَضِ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ الْمَرِيضُ هِيَ الزَّوْجَةُ الْمُطَلَّقَةُ فَلَا تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ مَاتَ الزَّوْجُ أَوِ الزَّوْجَةُ، وَإِنْ كَانَ الْمَرِيضُ هُوَ الزَّوْجُ الْمُطَلِّقُ، فَإِنْ مَاتَتِ الزَّوْجَةُ لَمْ يَرِثْهَا، وَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ فَفِي تَوْرِيثِهَا مِنْهُ أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.
وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - لَا مِيرَاثَ لَهَا بِحَالٍ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنْ مَاتَ فِي عِدَّتِهَا وَرِثَتْهُ وَاعْتَدَّتْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْعِدَّةِ لَمْ تَرِثْهُ، وَهَذَا قَوْلُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ.

(11/241)


وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّهَا تَرِثُ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ لَمْ تَرِثْ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى.
وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: تَرِثُ أَبَدًا وَإِنْ تَزَوَّجَتْ.
وَبِهِ قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي تَوْجِيهِ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ وَمِنَ التَّفْرِيعِ فِي ذَلِكَ مَا أَغْنَى عن الإعادة.

مسألة: قال الشافعي: " وَلَوْ طَلَّقَ إِحْدَى امْرَأَتَيْهِ ثَلَاثًا فَمَاتَ وَلَا تُعْرَفُ اعْتَدَّتَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا تُكَمِّلُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِيهَا ثَلَاثَ حِيَضٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ طَلَّقَ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ ثُمَّ مَاتَ فَطَلَاقُهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُعَيَّنٍ، وَمُبْهَمٍ فَإِنْ كَانَ طَلَاقُهُ مُعَيَّنًا لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يُبَيِّنَ قَبْلَ مَوْتِهِ أَوْ لَا يُبَيِّنُ، فَإِنْ بَيَّنَ الْمُطَلَّقَةَ مِنْهُمَا قَبْلَ مَوْتِهِ فَقَدْ زَالَ حُكْمُ الْإِشْكَالِ وَأُجْرِيَ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ حُكْمُهَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ، وَأُجْرِيَ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا حُكْمُهَا فِي الْمِيرَاثِ وَالْعِدَّةِ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ وَكَانَ عِنْدَ الْوَرَثَةِ بَيَانٌ عُمِلَ عَلَى بَيَانِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْوَرَثَةِ بَيَانٌ فَقَدْ أُشْكِلَتِ الْمُطَلَّقَةُ مِنَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا مِنْ أَنْ تَتَّفِقَ أَحْوَالُهَا أَوْ تَخْتَلِفَ، فَإِنِ اتَّفَقَتْ أَحْوَالُهُمَا فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَالْمُطَلَّقَةُ مِنْهُمَا لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَإِذَا أَشْكَلَتَا اعْتَدَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا اسْتِظْهَارًا لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا عِدَّةَ الْوَفَاةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا حَيْضٌ لِتَنْقَضِيَ عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا وَلَا يَضُرُّ اعْتِدَادُ الْمُطَلَّقَةِ فِي حُكْمِ الِاسْتِظْهَارِ مَعَ حُدُوثِ الْإِشْكَالِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا، فعلى كل واحد منهما والعدة يَقِينًا لَكِنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِيهِمَا، فَعَلَى الْمُطَلَّقَةِ عِدَّةُ الطَّلَاقِ وَعَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا مَعَ اتِّفَاقِهِمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَا مِنْ ذَوَاتِ الْحَمْلِ، أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ، أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ، فَإِنْ كَانَتَا مِنْ ذَوَاتِ الْحَمْلِ فَقَدِ اتَّفَقَا فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ، وَعِدَّةِ الْوَفَاةِ، لِأَنَّ عِدَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَضْعُ الْحَمْلِ فَأَيَّتُهُمَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَإِنْ كَانَتَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الطلاق في أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا، فَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا فَلَا يَخْلُو مَوْتِ الزَّوْجِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا، فَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ العدة فكل واحد مِنْهُمَا زَوْجَةٌ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ وَيُحْكَمُ لَهَا بِالْمِيرَاثِ، لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ مَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا فَعَلَى هَذَا تَعْتَدُّ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ اعْتِدَادًا يَشْتَرِكَانِ فِي وُجُوبِهِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمَا حَيْضٌ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ

(11/242)


فَالْمُطَلَّقَةُ مِنْهُمَا قَدْ بَانَتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا هِيَ الزَّوْجَةُ الْمُعْتَدَّةُ، وَلَكِنَّ إِشْكَالَهُمَا قَدْ أَوْجَبَ أَنْ تَعْتَدَّ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِأَرْبَعَةِ أشهر وعشر ولا يلزم أن يكون فيها حَيْضٌ وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا فَلَا يَخْلُو مَوْتُ الزَّوْجِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَمُوتَ عَقِيبَ الطَّلَاقِ قَبْلَ مُضِيِّ شَيْءٍ مِنَ الْعِدَّةِ فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، وَعِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ وَعِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَقَدْ أَشْكَلَتْ فَأَوْجَبَ إِشْكَالُهُمَا الِاحْتِيَاطَ فِي عِدَّتِهِمَا، وَذَلِكَ بِأَنْ تَعْتَدَّ كُلُّ وَاحِدَةٍ بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ أَوْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، فَإِنْ مَضَتْ ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ مَكَثَتْ تَمَامَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ اسْتِكْمَالًا لِعِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَإِنْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ قَبْلَ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ مَكَثَتْ تَمَامَ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ اسْتِكْمَالَا لِعِدَّةِ الطَّلَاقِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: " اعْتَدَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فِيهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ "، لِأَنَّ الْإِشْكَالَ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهَا مِنَ الْعِدَّتَيْنِ قَدْ أَوْجَبَ حَمْلَهُمَا عَلَى أَغْلَظِ الْأَمْرَيْنِ احْتِيَاطًا فِي الْعِدَّةِ وَاسْتِظْهَارًا لِلْعِبَادَةِ كَمَنْ أَشْكَلَتْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ مِنْ صَلَاتَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَقْضِيَهُمَا عِنْدَ الْإِشْكَالِ كَذَلِكَ هَاهُنَا.
والْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَمُوتَ الزَّوْجُ بَعْدَ مُضِيِّ الْعِدَّةِ وَبَقَاءِ بَعْضِهَا، كَأَنَّهُ مَاتَ وَقَدْ مَضَى مِنَ الْعِدَّةِ قُرْءُ وَبَقِيَ قُرْءَانِ فَعَلَى كُلِّ واحدة منهما أن تعتد بأربعة أشهر فيما حَيْضَتَانِ، فَإِنْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ قَبْلَ حَيْضَتَانِ مَكَثَتْ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ حَيْضَتَيْنِ لِتَنْقَضِيَ بِالْحَيْضَتَيْنِ عِدَّةُ الطَّلَاقِ وَبِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ عِدَّةُ الْوَفَاةِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَمُوتَ الزَّوْجُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلَيْسَ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ عِدَّةٌ وَعَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا حَيْضٌ، لِأَنَّهَا عِدَّةُ وَفَاةٍ مَحْضَةٍ اخْتَصَّتْ بِإِحْدَاهُمَا، وَإِنَّمَا اشْتَرَكَا فِي الْتِزَامِهِمَا بِحُكْمِ الْإِشْكَالِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ فَعِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ مِنْهُمَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَعِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَتَعْتَدُّ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عِنْدَ الْإِشْكَالِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا فَهَذَا حُكْمُهُمَا مَعَ اتِّفَاقِ أَحْوَالِهِمَا.
فَأَمَّا إِنِ اخْتَلَفَتْ أَحْوَالُهُمَا فَكَانَتْ إِحْدَاهُمَا مَدْخُولًا بِهَا وَالْأُخْرَى غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، أَوْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا حَامِلًا وَالْأُخْرَى حَائِلًا، أَوْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ، وَالْأُخْرَى مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ، فَأُجْرِيَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حُكْمُهَا الَّذِي أَجْرَتْهُ عَلَيْهَا لَوْ شاركتها الأخرى من صِفَتِهَا فَتُجْرِي عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا حُكْمَهَا كَمَا لَوْ كَانَتِ الْأُخْرَى مَدْخُولًا بِهَا وَتُجْرِي عَلَى غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا حُكْمَهَا لَوْ كَانَتِ الْأُخْرَى غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، وَتُجْرِي عَلَى الْحَامِلِ حُكْمَهَا لَوْ كَانَتِ الْأُخْرَى حَامِلًا، وَيَجْرِي عَلَى الْحَائِلِ حكمها لَوْ كَانَتِ الْأُخْرَى حَائِلًا، وَيَجْرِي عَلَى ذَوَاتِ الأقراء حكمها لَوْ كَانَتِ الْأُخْرَى ذَاتَ الْأَقْرَاءِ وَعَلَى ذَاتِ الشهور حكمها إذا لو كَانَتِ الْأُخْرَى ذَاتَ شُهُورٍ.

(11/243)


(فَصْلٌ)
وَإِنْ كَانَ طَلَاقُ الزَّوْجِ مِنْهَا، كَأَنَّهُ قَالَ: إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ، وَلَمْ يُشِرْ بِالطَّلَاقِ إِلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَلَهُ تَعْيِينُهُ فِيمَنْ شَاءَ بَعْدَ وُقُوعِهِ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ.
وَقَالَ دَاوُدُ: لَا يَقَعُ الْمُبْهَمُ وَلَا يَتَعَيَّنُ إِذَا عَيَّنَهُ، لِأَنَّ مَا لَمْ يَسْتَقِرَّ حُكْمُهُ بِاللَّفْظِ لَمْ يَسْتَقِرَّ حُكْمُهُ بَعْدَ اللَّفْظِ، وَهَذَا فَاسِدٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ ". وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ مَوْقُوفًا عَلَى الصِّفَاتِ وَالْمُبْهَمُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَلِأَنَّ حُكْمَ اللَّفْظِ مُسْتَقِرٌّ فِي طَلَاقِ إِحْدَاهُمَا، وَإِنَّمَا وُقِفَ تَعَيُّنُ الْمُطَلَّقَةِ عَلَى خِيَارٍ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أُخِذَ بِالتَّعْيِينِ فِيمَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، وَهَلْ يَكُونُ وَطْؤُهُ تَعْيِينًا لِلطَّلَاقِ فِي غَيْرِ الْمَوْطُوءَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، فَإِذَا عُيِّنَ الطَّلَاقُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَهَلْ يَكُونُ وُقُوعُهُ فِي وَقْتِ اللَّفْظِ أَمْ مِنْ وَقْتِ التَّعْيِينِ عَلَى وَجْهَيْنِ، فَإِنْ فَاتَ التَّعْيِينُ مِنْ جِهَتِهِ فَهَلْ لِلْوَارِثِ تَعْيِينُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.
فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَمَاتَ الرَّجُلُ قَبْلَ التَّعْيِينِ.
فَإِنْ قِيلَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِاللَّفْظِ فَأَوَّلُ الْعِدَّةِ مِنْ حِينِ تَلَفَّظَ بِالطَّلَاقِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَمَا لو أوقع الطلاق فيه معنياً فِي اعْتِبَارِهِ تَلَفَّظَ بِالطَّلَاقِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَمَا لَوْ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ فِيهِ مُعَيَّنًا فِي اعْتِبَارِهِ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا وَفِي اعْتِبَارِهِ مَا بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْمَوْتِ، وَإِنْ قِيلَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِالتَّعْيِينِ فَأَوَّلُ الْعِدَّةِ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَمَا لَوْ مَاتَ عَقِيبَ الطَّلَاقِ الْمُعَيَّنِ.
(فَصْلٌ)
وَإِذَا مَاتَ عَنْ زَوْجَتِهِ فَنَكَحَتْ بَعْدَ شَهْرَيْنِ مِنْ عِدَّتِهِ وَأَصَابَهَا مَعَ دُخُولِ الشُّبْهَةِ عَلَيْهِ وَجَاءَتْ بِوَلَدٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَعَدِمَتِ الْقَافَةُ فِي إِلْحَاقِهِ بِهِ عُلِمَ أَنَّهُ قَدِ انْقَضَتْ عِدَّةُ إِحْدَاهُمَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَلَزِمَهَا عِدَّةُ الْآخَرِ كَانَ الحمل لاحقاً بالميت اعتدت مِنَ الثَّانِي بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ، وَإِنْ كَانَ لَاحِقًا بِالثَّانِي اعْتَدَّتْ لِلْأَوَّلِ بَقِيَّةَ عِدَّتِهِ شَهْرَيْنِ وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَإِذَا أَشْكَلَ فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ أَوْ شَهْرَيْنِ وَعَشَرَةِ أَيَّامٍ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ -.

(11/244)


(بَابُ مُقَامٍ الْمُطَلَّقَةِ فِي بَيْتِهَا وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا من كتاب العدد وغيره)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُطَلَّقَاتِ {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أن يأتين بفاحشة مبينة} وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِفُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكٍ حِينَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ زَوْجَهَا قُتِلَ وَأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْهَا فِي مَسْكَنٍ يَمْلِكُهُ " امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله " وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْفَاحِشَةُ الْمُبَيِّنَةُ أَنْ تَبْدُوَ عَلَى أَهْلِ زَوْجِهَا فَإِذَا بَدَتْ فَقَدْ حَلَّ إخراجها (قال الشافعي) رحمه الله هو معنى سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فيما أمر فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم مع ما جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها أرسلت إلى مروان في مطلقة انتقلها " اتق الله واردد المرأة إلى بيتها " قال مروان أما بلغك شأن فاطمة؟ فقالت لا عليك أن تذكر فاطمة فقال إن كان بك شر فحسبك ما بين هذين من الشر وعن ابن المسيب تعتد المبتوتة في بيتها فقيل له فأين حديث فاطمة بنت قيس؟ فقال قد فتنت الناس كانت في لسانها ذرابة فاستطالت على أحمائها فأمرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم (قال الشافعي) رحمه الله تعالى فعائشة ومروان وابن المسيب يعرفون حديث فاطمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم كما حدثت ويذهبون إلى ذلك إنما كان للشر وكره لها ابن المسيب وغيره أنها كتمت السبب الذي به امرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن تعتد في بيت غير زوجها خوفاً أن يسمع ذلك سامع فيرى أن للمبتوتة أن تعتد حيث شاءت (قال الشافعي) رحمه الله تعالى فلم يقل لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعتدي حيث شئت بل خصها إذ كان زوجها غائباً فبهذا كله أقول ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ عِدَّةَ الزَّوْجَاتِ مِنْ وَجْهَيْنِ مِنْ وَفَاةٍ، وَمِنْ طَلَاقٍ. فَأَمَّا عِدَّةُ الْوَفَاةِ فَلَا نَفَقَةَ فِيهَا، وَفِي السُّكْنَى قَوْلَانِ: نَذْكُرُهُمَا مِنْ بَعْدُ.
وَأَمَّا عِدَّةُ الطَّلَاقِ فَضَرْبَانِ رَجْعِيٌّ وَبَائِنٌ، فَأَمَّا الرَّجْعِيَّةُ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى لِبَقَاءِ أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا الْبَائِنُ فَلَهَا حَالَتَانِ: حَائِلٌ وَحَامِلٌ.

(11/245)


فَأَمَّا الْحَامِلُ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] .
وَأَمَّا الْحَائِلُ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لَهَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: لَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا.
وَمِنَ التَّابِعِينَ: شُرَيْحٌ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ، وَعَطَاءٌ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الزُّهْرِيُّ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّ لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةَ.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا.
وَمِنَ التَّابِعِينَ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَالْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ بِالْمَدِينَةِ.
فَأَمَّا الْكَلَامُ فِي النَّفَقَةِ فَيَأْتِي.
وَأَمَّا السُّكْنَى فَاسْتَدَلَّ مَنْ أَسْقَطَهُ بِمَا رَوَاهُ مُجَاهِدٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَتْ: بَتَّ زَوْجِي طَلَاقِي فَلَمْ يَجْعَلْ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى، وَقَالَ: إِنَّمَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى لِمَنْ يَمْلِكُ زَوْجُهَا رَجْعَتَهَا.
وَرَوَى أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: أَنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ طَلَّقَهَا الْبَتَّةَ، وَهُوَ غَائِبٌ بِالشَّامِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا وَكِيلُهُ بِشَعِيرٍ فَسَخِطَتْهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا لَكَ عَلَيَّ مِنْ شَيْءٍ، وَإِنَّمَا نَتَطَوَّعُ عَلَيْكِ، فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ وَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ ثُمَّ قَالَ: تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي، قِيلَ: لِأَنَّهَا كَانَتْ تُدَاوِي الْجَرْحَى، اعْتَدِّي فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى تَضَعِينَ ثِيَابَكِ حَيْثُ شِئْتِ قَالُوا: وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ والسكنى يجريان مجرى واحد لاجتماعهما في

(11/246)


الْوُجُوبِ وَفِي السُّقُوطِ؛ لِأَنَّهَا فِي حَالِ الزَّوْجِيَّةِ لَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى، فَإِنْ نَشَزَتْ سَقَطَتِ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى فَإِنْ طُلِّقَتْ رَجْعِيَّةً فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى، فَإِنْ طُلِّقَتْ مَبْتُوتَةً فَلَيْسَ لَهَا نَفَقَةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا السُّكْنَى. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ مَا أَسْقَطَ النَّفَقَةَ تُسْقِطُ السُّكْنَى كَالْمَوْتِ، وَالنُّشُوزِ؛ وَلِأَنَّ السُّكْنَى مِنْ مُوجِبَاتِ النِّكَاحِ وَالْمَبْتُوتَةُ قَدْ سَقَطَ حَقُّهَا مِنْ مُوجِبَاتِ النِّكَاحِ كَالنَّفَقَةِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] يَعْنِي مِنْ بُيُوتِ أَزْوَاجِهِنَّ بَعْدَ طَلَاقِهِنَّ.
لِأَنَّ بُيُوتَهُنَّ لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُهُنَّ مِنْهَا بِحَالٍ وَلَوْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، وَالْفَاحِشَةُ الْمُبَيِّنَةُ ها هنا مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنْ تَبْدُوَ عَلَى أَهْلِ زَوْجِهَا، فَدَلَّ عَلَى اسْتِحْقَاقِ السُّكْنَى فِي عُمُومِ الْمُطَلَّقَاتِ فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الرَّجْعِيَّةُ دُونَ الْمَبْتُوتَةِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] يَعْنِي رَجْعَةً.
فَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يُحْدِثُهُ نِكَاحًا.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَامًّا فِي الرَّجْعِيَّةِ وَالْمَبْتُوتَةِ، وَآخِرُهُ خَاصًّا فِي الرَّجْعِيَّةِ دُونَ الْمَبْتُوتَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الزَّوْجَاتِ وَالْمُطَلَّقَاتِ وَإِنْ كَانَ بِالْمُطَلَّقَاتِ أَخَصَّ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا دَلِيلٌ عَلَيْهِ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِفُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكٍ، وَهِيَ أُخْتُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ حِينَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ زَوْجَهَا قُتِلَ، وَلَمْ يَتْرُكْهَا فِي مَسْكَنٍ يَمْلِكُهُ امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ فَلَمَّا أَوْجَبَ السُّكْنَى لَهَا فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ فَأَوْلَى أَنْ تَجِبَ لَهَا فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ، وَلِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْ طَلَاقٍ فَوَجَبَ لَهَا السُّكْنَى كَالرَّجْعِيَّةِ.
فَأَمَّا حَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَكَانَ لِإِخْرَاجِهَا مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا بِسَبَبٍ كَتَمَتْهُ وَقَدْ وَرَدَ مِنْ طَرِيقَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا رَوَاهُ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ قَالَ: دَخَلْتُ الْمَدِينَةَ فَسَأَلْتُ عَنْ أَفْقَهِ النَّاسِ بِهَا فَقَالُوا: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ فَسَأَلْتُهُ عَنْ سُكْنَى الْمَبْتُوتَةِ فَقَالَ: لَهَا السُّكْنَى، فَذَكَرْتُ لَهُ حَدِيثَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَقَالَ: تِلْكَ امْرَأَةٌ فتنت الناس كان في لسانها ذرابة فَاسْتَطَالَتْ عَلَى أَحْمَائِهَا فَنَقَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِطُولِ لِسَانِهَا.
وَالثَّانِي: مَا رُوِيَ أَنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ فَانْتَقَلَهَا أَبُوهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَأَرْسَلَتْ عَائِشَةُ إِلَى مَرْوَانَ اتَّقِ اللَّهَ وَارْدُدِ الْمَرْأَةَ إِلَى

(11/247)


بَيْتِهَا، تَعْنِي أَنَّ سُكْنَاهَا وَاجِبٌ فَقَالَ مَرْوَانُ، أو ما بَلَغَكِ شَأْنُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا لَا عَلَيْكَ أَلَّا تَذْكُرَ فَاطِمَةَ تَعْنِي أَنَّ تِلْكَ كَانَ لَهَا قِصَّةٌ أُخْرِجَتْ لَهَا فَقَالَ مَرْوَانُ إِنْ كَانَ بِكِ الشَّرُّ يَعْنِي الَّذِي كَانَ مِنْ فَاطِمَةَ حِينَ أُخْرِجَتْ فَحَسْبُكِ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ مِنَ الشَّرِّ، يَعْنِي أَنَّنِي أَخْرَجْتُهَا لِأَجْلِ الشَّرِّ الَّذِي أُخْرِجَتْ فَاطِمَةُ مِنْ أَجْلِهِ، وَقَوْلُ فَاطِمَةَ: لَمْ يَجْعَلْ لِي نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى؛ فَلِأَنَّهَا حِينَ كَتَمَتِ السَّبَبَ، وَرَأَتِ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ نَقَلَهَا إِلَى بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ تصورت أنه نقلها لإسقاط سكناها، وهذ أَدَلُّ شَيْءٍ عَلَى وُجُوبِ السُّكْنَى؛ لِأَنَّهُ لَوْ أسقطها لأرسالها لِتَسْكُنَ حَيْثُ شَاءَتْ، وَرِوَايَتُهَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّمَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى لِلَّتِي يَمْلِكُ زوجها رجعيتها " يَعْنِي أَنَّ اسْتِحْقَاقَهُمَا مَعًا بِمَجْمُوعِهِمَا يَكُونُ لِلَّتِي يَمْلِكُ زَوْجُهَا رَجْعَتَهَا؛ لِأَنَّ الْمَبْتُوتَةَ لَا تَسْتَحِقُّهَا، وَإِنَّمَا تَسْتَحِقُّ أَحَدَهُمَا.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْجَمْعِ بَيْنَ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى فِي الْوُجُوبِ وَالْإِسْقَاطِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ السُّكْنَى فِي الزَّوْجِيَّةِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَالنَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى فِي الْعِدَّةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لَا تَسْقُطُ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى النُّقْلَةِ فَسَقَطَتْ بِسُقُوطِ النَّفَقَةِ مَا كَانَ مِنْ سُكْنَى الزَّوْجِيَّةِ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي الْمَعْنَى وَلَمْ يَسْقُطْ سُكْنَى الْعِدَّةِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْعِلَّةِ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى وَفَّيَا فِي الْعِدَّةِ بَيْنَ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ سُكْنَى الْعِدَّةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ تَسْقُطْ بِالْبَذَاءَةِ وَالشَّرِّ. قِيلَ: الْبَذَاءَةُ وَالشَّرُّ غَيْرُ مُوجِبٍ لِسُقُوطِهَا وَإِنَّمَا تُوجِبُ النُّقْلَةُ فِيهَا.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَ وُجُوبُ السُّكْنَى فِي عِدَّةِ الْمَبْتُوتَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حِفْظِ الْأَنْسَابِ فَاسْتَوَى فِيهَا الْمُسْلِمَةُ وَالْكَافِرَةُ.
فَأَمَّا الْأَمَةُ الْمَبْتُوتَةُ فِي الْعِدَّةِ فَلِلسَّيِّدِ فِي زَمَانِ عِدَّتِهَا حَقُّ الِاسْتِخْدَامِ، فَإِنْ رَفَعَ السَّيِّدُ يَدَهُ عَنْهَا وَجَبَ لَهَا السُّكْنَى تَحْصِينًا لِمَاءِ الزَّوْجِ، وَإِنْ لَمْ يَرْفَعْ يَدَهُ وَأَرَادَ اسْتِخْدَامَهَا لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا نَهَارًا مِنْ زَمَانِ الِاسْتِخْدَامِ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْهَا مَعَ زَوَالِهِ وَلِلزَّوْجِ أَنْ يُحَصِّنَهَا لَيْلًا إِنْ شَاءَ وَفِي أَخْذِهِ بِهِ جبراً وجهان.

(مسألة)
قال الشافعي: " فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَهَا السُّكْنَى فِي مَنْزِلِهِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ أَوْ لَا يَمْلِكُهَا فإن كان بكراء فهو عَلَى الْمُطَلِّقِ وَفِي مَالِ الزَّوْجِ الْمَيِّتِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ السُّكْنَى، فَأَمَّا مَوْضِعُهَا فَمُخْتَلَفٌ بِحَسَبِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ فَمَوْضِعُهَا غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ، وَهُوَ إِلَى خِيَارِ الزَّوْجِ فِي إِسْكَانِهَا حَيْثُ شَاءَ مِنَ الْمَوَاضِعِ الْمَأْمُونَةِ؛ لِأَنَّهُ سُكْنَى زَوْجِيَّةٍ يُسْتَحَقُّ مع النفقة

(11/248)


فَأَشْبَهَتْ حَالَهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ وَقَدْ كَانَ مُخَيَّرًا فِي نَقْلِهَا كَذَلِكَ بَعْدَهُ وَيَكُونُ هَذَا السُّكْنَى مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَإِنْ كَانَتِ الْعِدَّةُ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ فَمَوْضِعُهَا مُتَعَيَّنٌ لَا يَجُوزُ نَقْلُهَا منه لغير موجب وهي التي يجعلها مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لِتَحْصِينِ الْمَاءِ وَحِفْظِ النَّسَبِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمَوْضِعُ الْمُعَيَّنُ لِسُكْنَاهَا هُوَ الْمَسْكَنُ الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتي بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] يَعْنِي مِنْ بُيُوتِ أَزْوَاجِهِنَّ وَإِضَافَتُهَا إِلَيْهِنَّ لِاسْتِحْقَاقِهِنَّ سُكْنَاهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِلزَّوْجِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَهَا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهَا.
فَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِلزَّوْجِ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِخْرَاجُهَا مِنْهُ إِلَّا بِالْبَذَاءَةِ وَالِاسْتِطَالَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَنْ تَبْدُوَ عَلَى أَهْلِ زَوْجِهَا.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْفَاحِشَةُ الْمُبَيِّنَةُ هِيَ الزِّنَا وَإِخْرَاجُهَا مِنْهُ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا، وَفِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ تَأْوِيلِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أخراجها من منزل زوجها لاستطالة وذرابة لِسَانِهَا، فَإِذَا خَرَجَتْ لِهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهَا مِنَ السُّكْنَى وَوَجَبَ نَقْلُهَا إِلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ الْمُمْكِنَةِ مِنْهُ لِتَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى الْمَوْضِعِ الْمُسْتَحَقِّ كَمَا تُنْقَلُ الزَّكَاةُ عِنْدَ تَعَذُّرِ مُسْتَحِقِّيهَا فِي الْبَلَدِ الَّذِي هِيَ فِيهِ إِلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إِلَيْهِ مِنْهُ، وَلَوْ بَذَأَ عَلَيْهَا أَحْمَاؤُهَا نقل أحماؤها عنه، وَلَمْ تُنْقَلْ هِيَ لِتَكُونَ النُّقْلَةُ عَنْهُ لِمَنْ بَذَأَ أَوِ اسْتَطَالَ، فَإِنْ كَانَ مَسْكَنُ الزَّوْجِ يَضِيقُ عَنْهُ أُقِرَّتْ فِيهِ وَأُخْرِجَ الزَّوْجُ مِنْهُ وَلَمْ تُجْبَرْ إِذَا انْفَرَدَتْ فِيهِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهُ لِاسْتِطَالَةٍ وَلَا بَذَاءَةٍ لِتَفَرُّدِهَا بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَسْكَنُ لَهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهُ لِاسْتِطَالَةٍ وَلَا غَيْرِهَا وَأُخْرِجَ مِنْهُ الزَّوْجُ إِنْ كَانَ نَازِلًا فِيهِ، وَلَهَا مُطَالَبَةُ الزَّوْجِ بِأُجْرَتِهِ؛ لِأَنَّ سُكْنَاهَا عَلَى الزَّوْجِ لَا عَلَيْهَا، فَإِنْ لَمْ تُطَالِبْهُ بِالْأُجْرَةِ حَتَّى مَضَتْ مُدَّةُ السُّكْنَى فَفِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَسْتَحِقُّهَا؛ لِأَنَّهَا دَيْنٌ كَالنَّفَقَةِ لَوْ وَجَبَتْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَدْ سَقَطَتْ؛ لِأَنَّهَا مِنَ الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ فَصَارَ الْإِمْسَاكُ عَنْهَا عَفْوًا وَإِنْ كَانَ الْمَسْكَنُ لِغَيْرِهِمَا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ بِإِجَارَةٍ أَوْ عَارِيَّةٍ، فَإِنْ كَانَ بإجارة فهي لازمة لا تَخْرُجُ مِنْهُ كَمَا لَا تَخْرُجُ مِنْ مِلْكٍ، وَالْأُجْرَةُ عَلَيْهِ دُونَهَا، فَإِنْ حَدَثَ اسْتِطَالَةٌ وَبَذَاءَةٌ فَعَلَى مَا مَضَى، وَإِنْ كَانَ عَارِيَةً فَهِيَ غَيْرُ لَازِمَةٍ لِلْمُعِيرِ، فَإِنْ أَقَامَ عَلَى الْعَارِيَةِ لَمْ يَجُزْ إِخْرَاجُهَا مِنْهُ وَإِنْ رَجَعَ عَنْهَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى اسْتَدَامَتِهَا لِأَجْلِ الطَّلَاقِ وَجَازَ

(11/249)


إِخْرَاجُهَا مِنْهُ بِغَيْرِ اسْتِطَالَةٍ وَلَا بَذَاءَةٍ، وَسَوَاءٌ كان المعير أجنبياً أو أبا أو واحد مِنْهُمَا وَوَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَنْقُلَهَا إِلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ الْمُمْكِنَةِ مِنْهُ، إِمَّا بِشِرَاءٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ عَارِيَةٍ فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى أُجْرَةٍ تَأْخُذُهَا لِتَسْكُنَ حَيْثُ شَاءَتْ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ فِيهِ إِسْقَاطًا لِتَعْيِينِ الْمَسْكَنِ الْمُسْتَحَقِّ تَعْيِينُهُ.
فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " وَفِي تَرِكَةِ الزَّوْجِ الْمَيِّتِ " فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَهُ عَلَى وُجُوبِ سُكْنَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْمَبْتُوتَةِ إِذَا مَاتَ زَوْجُهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي اسْتِحْقَاقِهَا السُّكْنَى فِي تَرِكَتِهِ قولاً واحداً.

(مسألة)
قال الشافعي: " وَلِزَوْجِهَا إِذَا تَرَكَهَا فِيمَا يَسَعُهَا مِنَ الْمَسْكَنِ وَسَتَرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا أَنْ يَسْكُنَ فِي سِوَى مَا يَسَعُهَا قَالَ الْمُزَنِيُّ: هَذَا خِلَافُ قَوْلِهِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَذَلِكَ عِنْدِي أَوْلَى وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي هَذَا الْبَابِ وَقَالَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ لَا يُغْلِقُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا حُجْرَةً إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ بَالِغٍ مِنَ الرِّجَالِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ سُكْنَى الْمَبْتُوتَةِ ثُمَّ مَضَى الْكَلَامُ بَعْدَهُ فِي مَوْضِعِ السُّكْنَى، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي قَدْرِ الْمَسْكَنِ وَذَلِكَ مُعْتَبَرٌ بِمَسْكَنِ مِثْلِهَا فِي الْعُرْفِ، لِأَنَّ مَا لَمْ يَتَقَدَّرْ لُغَةً وَلَا شَرْعًا تَقَدَّرَ بِالْعُرْفِ الْمَعْهُودِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ رُوعِيَ فِيهِ عَدَمُهَا لَا عُرْفُ الزَّوْجِ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ، وَسُكْنَى الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي يُرَاعَى فِيهَا حَالُ الزَّوْجِ دُونَهَا؛ لِمَا تَوَجَّهَ فِي هَذَا السُّكْنَى مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَتْ جَلِيلَةَ الْقَدْرِ كَثِيرَةَ الْجِهَازِ وَالْخَدَمِ احْتَاجَتْ إِلَى مَسْكَنِ مِثْلِهَا مِنْ دَارٍ وَاسِعَةٍ ذَاتِ حُجَرٍ يَسَعُهَا وَيَسَعُ جِهَازَهَا وَخَدَمَهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَوْسَاطِ النَّاسِ ذَاتَ جِهَازٍ مُقْتَصِدٍ وَخَادِمٍ وَاحِدٍ فَدَارٌ مُقْتَصِدَةٌ لِمِثْلِهَا مِنْ غَيْرِ حُجْرَةٍ تَزِيدُ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ دُنَاةِ النَّاسِ فَمَنْزِلٌ لَطِيفٌ أَوْ بَيْتٌ فِي خَانٍ مُشْتَرَكٍ بِحَسَبِ الْعُرْفِ فِي قَدْرِهِ وَمَوْضِعِهِ مِنْ أَطْرَافِ الْبَلَدِ، فَهَذَا هُوَ الْمَسْكَنُ الْمُعْتَبَرُ فِي سُكْنَاهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ وَلَا يُعْتَبَرُ مَا كَانَ يَسْكُنُهَا الزَّوْجُ فِيهِ قَبْلَ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ جَلِيلَةَ الْقَدْرِ فَتَقْنَعُ مِنْ زَوْجِهَا لِمَا هُوَ أَقَلُّ مِنْ مَسْكَنِ مِثْلِهَا فَلَا يَلْزَمُهَا أَنْ تَسْكُنَ بَعْدَ الطَّلَاقِ فِي مِثْلِهِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ دُنَاةِ النَّاسِ فَيُسْكِنُهَا الزَّوْجُ فِيمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ حَقِّهَا فَلَا يَلْزَمُهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ أَنْ يُسْكِنَهَا فِي مِثْلِهِ فَلَا يُرَاعَى مَا اقْتَضَتْ بِهِ الزَّوْجَةُ وَلَا مَا تَبَرَّعَ بِهِ الزَّوْجُ بَلْ يُرَاعَى الْعُرْفَ فِي مَسْكَنِ مِثْلِهَا.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا لَمْ يَخْلُ مَسْكَنُهَا وَقْتَ الطَّلَاقِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَسْكَنَ مِثْلِهَا، فَعَلَيْهِ أَنْ يُقِرَّهَا فِيهِ وَلَا تَخْرُجُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا قَدْ تَعَيَّنَ فِيهِ بِطَلَاقِهَا فِيهِ فَلَمْ يَجُزْ إِخْرَاجُهَا مِنْهُ وَلَمْ تَنْتَقِلْ عَنْ حَقِّهَا فَوَجَبَ إِخْرَاجُ الزَّوْجِ منه.

(11/250)


والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ مَسْكَنِ مِثْلِهَا، فَإِنْ قَنِعَتْ بِهِ أُقِرَّتْ فِيهِ، وَلَمْ تَخْرُجْ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ تَقْنَعْ وَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُكْمِلَ حَقَّهَا فِي مَسْكَنِ مِثْلِهَا، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى دَارٍ تُلَاصِقُهَا تُضَافُ إِلَيْهَا فَعَلَ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُخْرَجَ مِنْ دَارِهَا إِلَّا لِلِارْتِفَاقِ بِمَا أُضِيفَ إِلَيْهَا مِنْ بَابٍ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَارٍ تُلَاصِقُهَا اسْتَأْجَرَ لَهَا مَسْكَنَ مِثْلِهَا فِي أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ مِنْ دَارِ طَلَاقِهَا، وَكَانَ انْتِقَالُهَا إِلَيْهَا لِعُذْرٍ فِي اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ فَجَازَ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ مَسْكَنِ مِثْلِهَا فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَلِلزَّوْجِ إِذَا تَرَكَهَا فِيمَا يَسَعُهَا مِنَ الْمَسْكَنِ وَسَتَرَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا أَنْ يَسْكُنَ فِي سِوَى مَا يَسَعُهَا ".
وَتَفْصِيِلُهُ أن يراعي حال المسكن، فإن كان دار ذات حجرة تنفذ إليها سكنت فيها مسكناً مِثْلِهَا وَالزَّوْجُ فِي الْأُخْرَى بَعْدَ سَدِّ الْمَنْفَذِ أَوْ غَلْقِهِ، فَإِنْ كَانَ مَسْكَنُ مِثْلِهَا الدَّارَ سَكَنَتْهَا وَالزَّوْجُ فِي الْحُجْرَةِ، وَإِنْ كَانَ مَسْكَنُ مِثْلِهَا الْحُجْرَةَ سَكَنَتْهَا وَالزَّوْجُ فِي الدَّارِ، وَتَكُونُ الدَّارُ وَالْحُجْرَةُ كَدَارَيْنِ مُتَجَاوِرَتَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلدَّارِ حُجْرَةٌ، وَكَانَ لَهَا عُلُوٌّ كَانَ الْعُلُوُّ كَالْحُجْرَةِ، فَإِنْ كَانَ مَسْكَنُ مِثْلِهَا الْعُلُوَّ سَكَنَتْهُ وَالزَّوْجُ فِي السُّفْلِ، وَقُطِعَ مَا بَيْنَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ بِغَلْقِ بَابٍ أَوْ سَدِّهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلدَّارِ عُلُوُّ فَلَهَا حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَكُونَ وَاسِعَةً تَكْتَفِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجَانِبٍ مِنْهَا فَإِنْ قُطِعَ بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ بِحَاجِزٍ مِنْ بِنَاءٍ مَكِينٍ أَوْ خَشَبٍ وَثِيقٍ جَازَ أَنْ تَنْفَرِدَ الزَّوْجَةُ بِالسُّكْنَى فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَالزَّوْجُ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا دُونَ مَحْرَمٍ، وَلَا نِسَاءٍ ثِقَاتٍ، لِأَنَّهَا بِالْقَطْعِ قَدْ صَارَتْ كَالدَّارَيْنِ وَإِنْ لَمْ يُقْطَعْ بَيْنَهُمَا بِحَاجِزٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفَرِدَ بِأَحَدِ الْجَانِبَيْنِ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ أَوْ نِسَاءٍ ثِقَاتٍ قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَخْلُو رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ.
والحال الثانية: أن تكون الدار ضيفة لَا تَحْتَمِلُ أَنْ تُقْطَعَ بِحَاجِزٍ فَلَهَا حَالَتَانِ:
أحدهما: أَنْ تَكُونَ ذَاتَ بُيُوتٍ يُمْكِنُ إِذَا أُسْكِنَ أَحَدُهُمَا فِي بَيْتٍ مِنْهَا، وَسَكَنَ الْآخَرُ فِي بَيْتٍ آخَرَ أَنْ لَا تَقَعَ عَيْنُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَيَجُوزُ أَنْ تَسْكُنَ الزَّوْجَةُ فِي بَيْتٍ مِنْهَا إِذَا كَانَ مَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ بَالِغٌ، أَوْ نِسَاءٌ ثِقَاتٌ لِتَكُونَ مَحْفُوظَةً بِمُرَاقَبَةِ ذِي الْمَحْرَمِ الْبَالِغِ وَالنِّسَاءِ الثِّقَاتِ، وَيَسْكُنُ الزَّوْجُ فِي بَيْتٍ آخَرَ مِنَ الدَّارِ وَإِنْ كَرِهْنَا ذَلِكَ لَهُ حَذَرًا مِنْ أَنْ تَقَعَ عَيْنُهُ عليها.
والحال الثالثة: أَنْ تَكُونَ الدَّارُ ذَاتَ بَيْتٍ وَاحِدٍ إِذَا اجْتَمَعَا فِيهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ لَا تَقَعَ عَيْنُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَسْكُنَ مَعَهُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ أَوْ نِسَاءٌ ثِقَاتٌ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ لَا تُحْفَظُ عِنْدَ إِرْسَالِهَا قَدْ صَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَجْهَ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ، وَكَانَ رَدِيفَهُ بِمِنَى عَنِ الْخَثْعَمِيَّةِ حِينَ جَعَلَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَجَعَلَتْ تنظر إليه،

(11/251)


وَقَالَ: شَابٌّ وَشَابَّةٌ وَخِفْتُ أَنْ يُدْخِلَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمَا فَقَدْ مَنَعَ ذَلِكَ وَهُوَ أَعْظَمُ مِنَ المحرم.

(مسألة)
قال الشافعي: " وَإِنْ كَانَ عَلَى زَوْجِهَا دَيْنٌ لَمْ يَبِعْ مَسْكَنَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَذَلِكَ أَنَّهَا مَلَكَتْ عَلَيْهِ سُكْنَى مَا يُكفِيهَا حِينَ طَلَّقَهَا كَمَا يَمْلِكُ مَنْ يَكْتَرِي ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: لِأَنَّ حَقَّهَا فِي السُّكْنَى مُتَعَلِّقٌ بِذِمَّتِهِ، وَفِي عَيْنِ مَسْكَنِهِ فَكَانَ أَوْكَدَ مِنَ الدُّيُونِ الْمُخْتَصَّةِ بِذِمَّتِهِ فَلَمْ يَجُزْ لِأَجْلِ ذَلِكَ أَنْ يُبَاعَ مَسْكَنُهَا فِي دَيْنِهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، فَإِنْ بَاعَهُ فِي دَيْنٍ أَوْ غَيْرِ دَيْنِ نُظِرَ حَالُ الْعِدَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ مَجْهُولَةَ الْمُدَّةِ لِكَوْنِهَا حَامِلًا أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ بِسُكْنَى الْمُدَّةِ الْمُسْتَحَقَّةِ مُفْضٍ إِلَى الْجَهْلِ بِثَمَنِ الْمَبِيعِ فَصَارَ بِهِ الْبَيْعُ بَاطِلًا، وَإِنْ كَانَتْ مَعْلُومَةَ الْمُدَّةِ لِكَوْنِهَا بِالشُّهُورِ فَصَارَتْ سُكْنَاهَا مُسْتَحَقَّةً فِي الْعِدَّةِ كَاسْتِحْقَاقِهَا فِي الْإِجَارَةِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي بَيْعِ الدَّارِ الْمُؤَاجَرَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ فَعَلَى هذا بيعها في العدة أولى أن يكون بَاطِلًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ بَيْعَهَا فِي الْإِجَارَةِ جَائِزٌ، فَعَلَى هَذَا فِي بَيْعِهَا إِذَا اسْتُحِقَّتْ فِي الْعِدَّةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا بَيْعُهَا جَائِزٌ فِي الْعِدَّةِ لِجَوَازِهِ فِي الْإِجَارَةِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ بَيْعَهَا لَا يَجُوزُ فِي الْعِدَّةِ وَإِنْ جَازَ فِي الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَدَّةَ قَدْ تَمُوتُ فَيَعُودُ السُّكْنَى إِلَيْهِ فَيَصِيرُ فِي حُكْمِ مَنْ بَاعَ دَارًا وَاسْتَثْنَى سُكْنَاهَا لِنَفْسِهِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا فَكَذَلِكَ مَا أَفْضَى إِلَيْهِ وَصَارَ بِخِلَافِ مَوْتِ الْمُسْتَأْجِرِ الَّذِي لَا يَقْتَضِي عَوْدَ السُّكْنَى إِلَيْهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْمُعْتَدَّةُ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ تَنْتَقِلَ عِدَّتُهَا مِنَ الشُّهُورِ إِلَى الْأَقْرَاءِ لِكَوْنِهَا مُرَاهِقَةً يَجُوزُ أَنْ يَتَعَجَّلَ حَيْضُهَا وَمُؤْيِسَةً يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الْحَيْضُ إِلَيْهَا فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْجَهَالَةِ وَالْعِلْمِ؛ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَنْتَقِلَ مِنَ الشُّهُورِ إِلَى الْأَقْرَاءِ لِكَوْنِهَا صَغِيرَةً لَا يَجُوزُ أَنْ تَحِيضَ قَبْلَ شُهُورِ عِدَّتِهَا كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا كَالْإِجَارَةِ وَلَيْسَ لِمَا ذَكَرَ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِحُدُوثِ الْمَوْتِ وَجْهٌ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الْعُقُودِ مَحْمُولَةٌ عَلَى السَّلَامَةِ كَمَا تُحْمَلُ إِجَارَةُ الدَّارِ وَالْعَبْدِ عَلَى الصِّحَّةِ اعْتِبَارًا بِالسَّلَامَةِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ تَبْطُلَ بانهدام الدار وموت العبد.
(مسألة)
قال الشافعي: " وَإِنْ كَانَ فِي مَنْزِلٍ لَا يَمْلِكُهُ وَلَمْ يكتره فالأهلة إِخْرَاجُهَا وَعَلَيْهِ غَيْرُهُ ".

(11/252)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا طَلَّقَهَا وَهِيَ فِي مَنْزِلٍ لَا يَمْلِكُهُ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْجَرًا أَوْ مُعَارًا، فَإِنْ كَانَ مُسْتَأْجَرًا فَقَدْ مَلَكَ سُكْنَاهُ فَيَلْزَمُ إِقْرَارُهَا فِيهِ كَمَا تُقَرَّ فِي مِلْكِهِ مَا لَمْ تَنْقَضِ الْإِجَارَةُ، وَإِنْ كَانَ الْمَنْزِلُ مُعَارًا فَمَا لَمْ يَرْجِعْ فِيهِ الْمُعِيرُ فَهِيَ مُقَرَّةٌ عَلَى السُّكْنَى مَا أَقَرَّهَا الْمَالِكُ، فَإِنْ رَجَعَ الْمُعِيرُ أَوِ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ فَقَدِ اسْتَحَقَّ إِخْرَاجَهَا مِنْهُ، وَلِمَالِكِهِ حَالَتَانِ.
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَبْذُلَهُ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ، فَعَلَى الزَّوْجِ بَذْلُهَا لَهُ وَتُقَرُّ الْمُعْتَدَّةُ فِيهِ إِلَى انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُهَا منه.
والحال الثانية: أن يمتنع المالك في بَذْلِ الْمَنْزِلِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَيُقِيمُ عَلَى اسْتِرْجَاعِهِ أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِهِ فَهُوَ فِي الْحَالَيْنِ مَانِعٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ طَلَبَ الزِّيَادَةِ عَلَى أجرة المثل في المطلق أن يستأجر لها مسكنا مِثْلِهَا فِي أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ بِالْمَسْكَنِ الَّذِي طُلِّقَتْ فِيهِ فَإِنْ أَجَابَ الْمَالِكُ إِلَى بَذْلِهِ بَعْدَ نَقْلِهَا مِنْهُ نُظِرَ فِي بَذْلِهِ، فَإِنْ كَانَ بِعَارِيَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَادَ إِلَيْهِ لِجَوَازِ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْعَارِيَةِ فَيَنْقُلَهَا ثَانِيَةً، وَإِنْ كان بإجارة نظر إلى الْمَسْكَنِ الَّذِي انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ فَإِنْ كَانَ عَارِيَةً أُعِيدَتْ إِلَى الْمَسْكَنِ الَّذِي طُلِّقَتْ فِيهِ لِجَوَازِ أَنْ يَرْجِعَ الْمُعِيرُ فَتُخْرَجَ مِنْهُ فَتَكُونَ فِي عَوْدِهَا إِلَى مَنْزِلِ الطَّلَاقِ مَعَ لُزُومِ سُكْنَاهُ أَحَقَّ مِنْ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا مُسْتَأْجِرَيْنِ احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تُقَرُّ فِي الْمَنْزِلِ الَّذِي انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الِاسْتِقْرَارِ فِيهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُعَادُ إِلَى الْمَنْزِلِ الَّذِي طُلِّقَتْ فِيهِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الطَّلَاقِ فِيهِ.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا إِذَا مَاتَ الزَّوْجُ فِي تَضَاعِيفِ عِدَّتِهَا وَأَرَادَ الْوَرَثَةُ أَنْ يَقْتَسِمُوا مَسْكَنَهَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ قِسْمَةَ مُنَاقَلَةٍ فَيَأْخُذَ بَعْضُهُمُ الدَّارَ، وَيَأْخُذَ الْبَاقُونَ غَيْرَهَا جَازَ سَوَاءٌ قِيلَ: إِنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ أَوْ تَمْيِيزُ نَصِيبٍ لِاسْتِحْقَاقِ السُّكْنَى فِي تَرِكَتِهِمْ بِخِلَافِ الْمُشْتَرَى فِي الْبَيْعِ وَلَهَا سُكْنَى الدَّارِ فِي بَقِيَّةِ عِدَّتِهَا، وَلَا يَرْجِعُ مَنْ صَارَتِ الدَّارُ فِي سَهْمِهِ بِأُجْرَةِ سُكْنَاهَا عَلَى شُرَكَائِهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالْقِسْمَةِ بَعْدَ أَنْ صَارَتْ مَسْكَنَ الْمَنْفَعَةِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: يَقْتَسِمُوهَا قِسْمَةَ إِجَارَةٍ فَيُقَسِّمُ كُلُّ وَاحِدٍ حِصَّتَهُ فيها مجازة فَهَذَا فِي ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْجِزَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا حَازَهُ بِحَاجِزٍ فَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ سَوَاءٌ قِيلَ: إِنَّ

(11/253)


الْقِسْمَةَ بَيْعٌ أَوْ تَمْيِيزُ نَصِيبٍ، لِأَنَّهَا اسْتَحَقَّتْ سُكْنَى دَارٍ غَيْرِ مُحَجَّزَةٍ بِالْقِسْمَةِ فَلَمْ يَجُزْ إِدْخَالُ الضَّرَرِ عَلَيْهَا بِالْقِسْمَةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَحْجِزَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حِصَّتَهُ وَيَقْتَصِرُ عَلَى عَلَامَةٍ يَتَمَيَّزُ بِهَا مَا حَازَهُ فَتَجُوزُ هَذِهِ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ بها ضرر والله أعلم.

(مسألة)
قال الشافعي: " إِلَّا أَنْ يُفْلِسَ فَتَضْرِبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِأَقَلِّ قِيمَةِ سُكْنَاهَا وَتُتْبِعُهُ بِفَضْلِهِ مَتَى أَيْسَرَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يُفْلِسَ زَوْجُ الْمُعْتَدَّةِ وَتَسْتَحِقَّ سُكْنَى الْعِدَّةِ فَلِلزَّوْجِ حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَمْلِكَ مَسْكَنَ عِدَّتِهَا.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَمْلِكَهُ.
فَإِنْ كَانَ مَالِكَهُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْحَجْزِ عَلَيْهِ بِفَلَسِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الطَّلَاقِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الطَّلَاقِ فَقَدْ سَبَقَ اسْتِحْقَاقُ الْغُرَمَاءِ لِذَلِكَ الْمَسْكَنِ عَلَى اسْتِحْقَاقِهَا لِسُكْنَى الْعِدَّةِ؛ فَيَكُونُونَ أَحَقَّ بِهِ مِنْهَا وَيَضْرِبُ مَعَهُمْ بأجرة سكناها وإن أن الْحَجْرُ عَلَيْهِ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَالْمُطَلَّقَةُ أَحَقُّ بِسُكْنَى الدَّارِ فِي عِدَّتِهَا مِنَ الْغُرَمَاءِ لِأَنَّ حَقَّهَا قَدْ تَعَلَّقَ بِذِمَّةِ الزَّوْجِ وَتَعَيَّنَ فِيهِ الْمَسْكَنُ فَاخْتُصَّتْ بِهِ فِي مُدَّةِ السُّكْنَى دُونَهُمْ كَمَا يُخْتَصُّ الْمُرْتَهَنُ بِثَمَنِ الرَّهْنِ دُونَهُمْ لِثُبُوتِ حَقِّهِ في العين والذمة وانفرد حُقُوقِهِمْ بِالذِّمَّةِ دُونَ الْعَيْنِ.

(فَصْلٌ)
وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ غَيْرَ مَالِكٍ لِمَسْكَنِ عِدَّتِهَا ضَرَبَتْ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِأُجْرَتِهِ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ وَكَانَتْ أُسْوَةَ جَمِيعِهِمْ فِي مَالِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى حَجْرِهِ لِلْغُرَمَاءِ أَوْ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ تَقَدَّمَ عَلَى الْحَجْرِ فَقَدْ صَارَ الْحَجْرُ لَهَا ولم وَإِنْ تَأَخَّرَ فَهُوَ سَبَبٌ قَدْ يُقَدَّمُ عَلَى الْحَجْرِ وَهُوَ النِّكَاحُ فَصَارَ كَالْمُسْتَحَقِّ قَبْلَ الْحَجْرِ وَخَالَفَ مَا اشْتَرَاهُ بَعْدَ حَجْرِهِ فِي أَنَّ بَائِعَهُ لَا يَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِثَمَنِهِ لَا مُسْتَحْدِثَ السَّبَبِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بَعْدَ وُقُوعِ الْحَجْرِ.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهَا تَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِأُجْرَةِ سُكْنَاهَا فَلَهَا حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَكُونَ مُقَدَّمَةً بِالشُّهُورِ لِصِغَرٍ أَوْ إِيَاسٍ فَتَضْرِبَ مَعَهُمْ بِأُجْرَةِ مَسْكَنِهَا فِي شُهُورِ الْعِدَّةِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ عِدَّتُهَا غَيْرَ مُقَدَّرَةٍ بِالشُّهُورِ، لِأَنَّهَا حَامِلٌ أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ لَهَا عَادَةٌ فِي الْحَمْلِ وَالْأَقْرَاءِ أَوْ تَكُونَ مُبْتَدَأَةً فَإِنْ كَانَ لَهَا عَادَةٌ فِي الْحَمْلِ وَالْأَقْرَاءِ أَنْ يَكُونَ حَمْلُهَا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، وَأَنْ يَكُونَ لَهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ قُرْءٌ فَتَحْمِلُ فِي سُكْنَى الْعِدَّةِ الَّتِي تَضْرِبُ بِهَا مَعَ الْغُرَمَاءِ عَلَى عَادَتِهَا فِي الْحَمْلِ وَالْأَقْرَاءِ فَإِنْ

(11/254)


كَانَتْ حَامِلًا كَانَتْ مُدَّةُ سُكْنَاهَا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَإِنْ جَازَ أَنْ تَزِيدَ أَوْ تَنْقُصَ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ كَانَ مُدَّةُ سُكْنَاهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَإِنْ جَازَ أَنْ تَزِيدَ أَوْ تَنْقُصَ اعْتِبَارًا بِغَالِبِ عَادَتِهَا لِيَنْظُرَ مَا يَكُونُ مِنْهَا فِي انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهَا عَادَةٌ فِي الْحَمْلِ وَلَا فِي الْأَقْرَاءِ فَقَدْ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَاخْتَارَهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ أَنَّهَا تَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِأَقَلِّ مُدَّةِ الْحَمْلِ وَهِيَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَبِأَقَلَّ مُدَّةٍ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ، وَهِيَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا وَسَاعَتَانِ اعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ فِيمَا تَسْتَحِقُّهُ، وَعِنْدِي: أَنَّهَا تَضْرِبُ مَعَهُمْ فِي الْغَالِبِ مِنْ مُدَّةِ الْحَمْلِ وَهِيَ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ، وَبِالْغَالِبِ مِنْ مُدَّةِ الْأَقْرَاءِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حُمِلَتِ الْمُعْتَادَةُ عَلَى غَالِبِ عَادَتِهَا مَعَ جَوَازِ النُّقْصَانِ وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى الْيَقِينِ فِي الْأَقَلِّ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ غَيْرُ الْمُعْتَادَةِ مَحْمُولَةً عَلَى الْغَالِبِ مِنْ عَادَةِ غَيْرِهَا، وَلَا تُحْمَلُ عَلَى الْيَقِينِ فِي النُّقْصَانِ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ مَا تَضْرِبُ به من الْغُرَمَاءِ، وَكَانَ مُقَدَّرًا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فِي الْأَقْرَاءِ وَبِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ مَعَ الْحَمْلِ نُظِرَ أُجْرَةُ مِثْلِ سُكْنَاهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ فَإِنْ كَانَتْ سِتِّينَ دِرْهَمًا نُظِرَ مَالُ الْمُفْلِسِ مَعَ دُيُونِهِ، فَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ نِصْفِهَا ضَرَبَتْ مَعَهُمْ بِثُلْثِهَا وَذَلِكَ عِشْرُونَ دِرْهَمًا فَإِذَا أَخَذَتْهَا تَوَلَّى الزَّوْجُ اسْتِئْجَارَ الْمَسْكَنِ لَهَا بِذَلِكَ دُونَهَا؛ لِأَنَّ حَقَّهَا فِي السُّكْنَى دُونَ الْأُجْرَةِ فَإِذَا سَكَنَتْ تِلْكَ الْمُدَّةَ سَكَنَتْ بَعْدَهَا فِي بَقِيَّةِ الْمُدَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، لِأَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُحَصِّنَهَا فِي الْعِدَّةِ حَيْثُ يَشَاءُ إِذَا أَقَامَ لَهَا بِالسُّكْنَى فَإِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ سَقَطَ خِيَارُهُ وَكَانَ الْأَمْرُ لَهَا فِي السُّكْنَى حَيْثُ تَشَاءُ مِنَ الْمَوَاضِعِ الْمَأْمُونَةِ عل مِثْلِهَا وَكَانَ مَا بَقِيَ لَهَا مِنْ أُجْرَةِ السُّكْنَى مُعْتَبَرَ الْمِقْدَارِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَلَا يَخْلُو حَالُهَا فِي انْقِضَائِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَنْقَضِيَ فِي مُدَّةٍ مِثْلِ الْمُدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ لَهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَتَضَعُ حَمْلَهَا فِي تِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَيَنْقَضِي أَقَرَاؤُهَا فِي ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فَقَدِ اسْتَوْفَتْ مَا اسْتَحَقَّتْهُ مَعَ الْغُرَمَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي دَيْنًا لَهَا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ يُرْجَعُ بِهِ عَلَيْهِ إِذَا أَيْسَرَ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فِي أَقَلَّ مِنَ الْمُدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ لَهَا فَتَضَعَ حَمْلَهَا فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَتَقْضِيَ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ فِي شَهْرَيْنِ فَتَصِيرَ مُدَّةُ الْعِدَّةِ ثُلْثَيِ الْمُدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ فَتَرُدُّ عَلَى الْغُرَمَاءِ ثُلُثَ مَا أَخَذَتْهُ؛ لِأَنَّهَا ضَرَبَتْ مَعَهُمْ بِمَا هِيَ مُسْتَحِقَّةٌ لِثُلُثَيْهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فِي أَكْثَرَ مِنَ الْعِدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ لَهَا فَتَضَعَ حَمْلَهَا فِي سَنَةٍ وَتَقْضِيَ أَقَرَاءَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَتَزِيدَ عِدَّتُهَا ثُلُثَ الْعِدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ لَهَا فَهَلْ تَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغُرَمَاءِ أَوْ يَكُونُ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّهَا تَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغُرَمَاءِ كَمَا لَوْ ظَهَرَ غَرِيمٌ ضَرَبَ مَعَهُمْ بِقَدْرِ حَقِّهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغُرَمَاءِ وَيَكُونُ مَعَ بَقِيَّةِ السُّكْنَى ديناً على

(11/255)


الزَّوْجِ بِخِلَافِ الْغَرِيمِ إِذَا حَدَثَ؛ لِأَنَّهَا ضَرَبَتْ بِهَذَا الْقَدْرِ مَعَ الْعِلْمِ بِجَوَازِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ وَخَالَفَ الْغَرِيمُ الَّذِي لَمْ يَعْلَمْ بِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ رَجَعَتْ بِهَا عَلَى الْغُرَمَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي مُدَّةِ الْأَقْرَاءِ لَمْ يُرْجَعْ بِهَا عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ وَضْعَ الْحَمْلِ مُشَاهَدٌ يُمْكِنُ أَنْ تَقُومَ بِهِ بَيِّنَةٌ، وَمُدَّةَ الْأَقْرَاءِ مَظْنُونَةٌ لَا تَقُومُ بِهَا بَيِّنَةٌ وَيُرْجَعُ إِلَى قَوْلِهَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ دُونَ غَيْرِهِ فَافْتَرَقَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ فِي مَوْتِهِ فَفِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا مَا وَصَفْتُ وَمَنْ قَالَهُ احْتَجَّ بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِفُرَيْعَةَ: " امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ " وَالثَّانِي أَنَّ الِاخْتِيَارَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَسْكُنُوهَا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَقَدْ مَلَكُوا دُونَهُ فَلَا سكنى لها كما لا نفقة لها ومن قاله قال أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لفريعة: " امكثي في بيتك ما لم يخرجك منه أهلك " لأنها وصفت أن المنزل ليس لزوجها (قال المزني) هذا أولى بقوله لأنه لا نفقة لها حاملاً وغير حامل وقد احتج بأن الملك قد انقطع عنه بالموت (قال المزني) وكذلك قد انقطع عنه السكنى بالموت وقد أجمعوا أن من وجبت له نفقة وسكنى من ولد ووالد على رجل فمات انقطعت النفقة لهم والسكنى لأن ماله صار ميراثا لهم فكذلك امرأته وولده وسائر ورثته يرثون جميع ماله ".
قال الماوردي: أما النفقة فلا تجب فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ إِجْمَاعًا حَامِلًا كَانَتْ أَوْ حَائِلًا، وَفِي وُجُوبِ السُّكْنَى قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا سُكْنَى لَهَا.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعِرَاقِيِّينَ وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَهَا السُّكْنَى.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَكَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَسْقَطَ السُّكْنَى بِأَنَّ السُّكْنَى تَجْرِي مَجْرَى النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِوُجُوبِهَا فِي الزَّوْجِيَّةِ وَتَسْقُطُ بِسُقُوطِهَا في النشور، وَقَدْ سَقَطَتِ النَّفَقَةُ بِالْمَوْتِ فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ بِهِ السُّكْنَى وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّ مَا اسْتُحِقَّ فِي مُدَّةِ الزَّوْجِيَّةِ سَقَطَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ كَالنَّفَقَةِ؛ وَلِأَنَّ مِلْكَهُ قَدِ انْتَقَلَ بِمَوْتِهِ إِلَى وَارِثِهِ فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَجِبَ السُّكْنَى عَلَى الزَّوْجِ لِزَوَالِ مِلْكِهِ كَمَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ، وَأَنْ لَا تَجِبَ عَلَى الْوَارِثِ الْمَالِكِ؛ لأن غَيْرُ زَوْجٍ كَمَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَتْ لَهَا السُّكْنَى حَامِلًا لَوَجَبَتْ لَهَا النَّفَقَةُ حَامِلًا

(11/256)


كَالْمَبْتُوتَةِ، وَفِي سُقُوطِ نَفَقَتِهَا فِي الْحَالَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى سُقُوطِ سُكْنَاهَا فِي الْحَالَيْنِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا سقط بالموت سكنى الأقارب لسقوط نققاتهم وَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ بِهِ سُكْنَى الزَّوْجَاتِ لِسُقُوطِ نَفَقَاتِهِمْ.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَوْجَبَ السُّكْنَى بِمَا رَوَتْهُ زَيْنَبُ بِنْتُ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أَنَّ الْفُرَيْعَةَ بِنْتَ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ أُخْتَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَخْبَرَتْهَا أَنَّهَا جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ أَبَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِطَرَفِ الْقَدُومِ لَحِقَهُمْ فَقَتَلُوهُ، قَالَتْ: فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي فِي بَنِي خُدْرَةَ. فَإِنَّهُ لَمْ يَتْرُكْنِي فِي مَسْكَنٍ يَمْلِكُهُ وَلَا نَفَقَةٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: نَعَمْ، فَخَرَجْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي الْحُجْرَةِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ دَعَانِي أَوْ أَمَرَ بِي فَدُعِيتُ لَهُ، فَقَالَ: كَيْفَ؟ فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ: امْكُثِي فِي بَيْتِكَ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ. فَاعْتَدَّتْ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا؛ فَلَمَّا كان عثمان 7 به عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَرْسَلَ إِلَيَّ وَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرْتُهُ فَاتَّبَعَهُ وَقَضَى بِهِ، فَلَوْ لَمْ تَسْتَحِقَّ السُّكْنَى عَلَى الزَّوْجِ لَمَا أَعَادَهَا إِلَى مَسْكَنٍ قَدِ اسْتَعَارَهُ وَلَمْ يَمْلِكْهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ أَذِنَ لَهَا فِي النُّقْلَةِ ثُمَّ مَنَعَهَا فَفِيهَا تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ لِسَهْوٍ أُسْقِطَ مِنْهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ لِاجْتِهَادٍ نُقِلَ عَنْهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ نَسْخًا وَالنَّسْخُ قَبْلَ الْفِعْلِ لَا يَجُوزُ.
قِيلَ: إِنَّمَا لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ قَبْلَ زَمَانِ فِعْلِهِ، وَيَجُوزُ قَبْلَ فِعْلِهِ، وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ إِذَا وَجَبَتْ بِمَوْتِ الزَّوْجِ تَحْصِينًا لِمَائِهِ وَحِفْظًا لِحُرْمَتِهِ كَانَتْ أَوْكَدَ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْمُخْتَصَّةِ بِتَحْصِينِ مَائِهِ دُونَ حُرْمَتِهِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بِوُجُوبِ السُّكْنَى أَحَقَّ مِنَ الطَّلَاقِ.
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهَا عِدَّةٌ مِنْ نِكَاحٍ فَوَجَبَ أَنْ تَسْتَحِقَّ فِيهَا السُّكْنَى كَالطَّلَاقِ؛ وَلِأَنَّهَا لَمَّا خُصَّتْ بِالسُّكْنَى فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ مَعَ قُدْرَةِ الزَّوْجِ عَلَى نَفْيِ وَلَدِهَا بِاللِّعَانِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَخْتَصَّ بِالسُّكْنَى فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ مَعَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى نَفْيِ وَلَدِهَا بِاللِّعَانِ؛ وَلِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ التَّعَبُّدُ، وَالِاسْتِبْرَاءَ تَبَعٌ، وَالْمُغَلَّبَ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ الِاسْتِبْرَاءُ وَالتَّعَبُّدَ تَبَعٌ، لِأَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا تَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةُ الطَّلَاقِ فَلَمَّا وَجَبَ السُّكْنَى فِي الِاسْتِبْرَاءِ كَانَ أَوْلَى أَنْ تَجِبَ فِي التَّعَبُّدِ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ أَوْكَدُ وَلِفَحْوَى هَذَا الْمَعْنَى فَرَّقْنَا بَيْنَ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَبَيْنَ سُكْنَى الْأَقَارِبِ وَالزَّوْجَاتِ وَاللَّهُ أعلم.

(مسألة)
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلِوَرَثَتِهِ أَنْ يُسْكِنُوهَا حَيْثُ شَاءُوا إِذَا

(11/257)


كَانَ مَوْضِعُهَا حِرْزًا وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ وَلِلسُّلْطَانِ أَنْ يَخُصَّهَا حَيْثُ تَرْضَى لِئَلَّا يَلْحَقَ بِالزَّوْجِ مَنْ لَيْسَ لَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا أَنَّ السُّكْنَى فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ عَلَى قَوْلَيْنِ فَلِلْمُعْتَدَّةِ بَعْدَ الْوَفَاةِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ عَلَى حَال الزَّوْجِيَّةِ إِلَى حِينِ الْوَفَاةِ فَتَعْتَدَّ بِالْمَوْتِ فَهَذِهِ الَّتِي فِي وُجُوبِ سُكْنَاهَا قَوْلَانِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ فَيَمُوتُ زَوْجُهَا، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَتَعْتَدُّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ وَلَهَا السُّكْنَى قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهَا عِدَّةُ طَلَاقٍ لَمْ يَتَعَيَّنْ بِالْوَفَاةِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِهَا حُكْمُ السُّكْنَى، فَإِنْ كَانَتْ فِي مَسْكَنِ زَوْجِهَا اسْتَكْمَلَتْ فِيهِ عِدَّتَهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِهِ أَخَذَتْ مِنْ تَرِكَتِهِ قَدْرَ أُجْرَتِهِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَكُونَ فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ فَيَمُوتُ زَوْجُهَا، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَتُعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ دُونَ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الزَّوْجَاتِ وَتَسْقُطُ نَفَقَتُهَا كَمَا تَسْقُطُ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ، فَأَمَّا السُّكْنَى فَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِهِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ كَانَ وُجُوبُهُ لِهَذِهِ أَوْلَى، وَإِنْ قِيلَ بِسُقُوطِهِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ كَانَ فِيهِ لِهَذِهِ الرَّجْعِيَّةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا سُكْنَى لَهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ أَوْكَدَ حَالًا مِنَ الزَّوْجَاتِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ لَهَا السُّكْنَى وَإِنْ لَمْ تَجِبْ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ اسْتِصْحَابًا لِوُجُوبِهَا فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ عِدَّتِهَا كَالْبَائِنِ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا تَفَرَّعَتْ أَحْكَامُ السُّكْنَى عَلَى الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِهَا اسْتَقَرَّتْ فِي تَرِكَةِ الزَّوْجِ وَرُوعِيَ حَالُ مَسْكَنِهَا فَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِلزَّوْجِ أُخِذَ الْوَرَثَةُ جَبْرًا بِإِقْرَارِهَا فِيهِ وَأُخِذَتْ جَبْرًا إِنِ امْتَنَعَتْ بِالسُّكْنَى فِيهِ، وَإِنْ رَاضَاهَا الْوَرَثَةُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ أَحَدُهُمَا أَوِ السُّلْطَانُ جَبْرًا بِذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لَا يُضَاعُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَسْكَنُهَا مِلْكًا لِلزَّوْجِ وَجَبَ فِي تَرِكَتِهِ أُجْرَةُ مَسْكَنِهَا، وَقُدِّمَتْ بِهِ عَلَى الْوَصَايَا وَالْمِيرَاثِ، فَإِنْ زَاحَمَهَا الْغُرَمَاءُ اسْتَهَمُوا فِي التَّرِكَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي فَلَسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ تَرِكَةٌ يَحْتَمِلُ السُّكْنَى لَمْ يَلْزَمِ الْوَرَثَةَ دَفْعُهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَدَفَعَهَا السُّلْطَانُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي إِقَامَةِ مَا تَعَبَّدَ بِهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ دَفْعُهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ سَكَنَتِ الْمُعْتَدَّةُ حَيْثُ شَاءَتْ، وَحَفِظَتْ فِي نَفْسِهَا حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى، وَحَقَّ الْمَيِّتِ.
وَإِنْ قِيلَ بِسُقُوطِ السُّكْنَى فَلَا حَقَّ لَهَا فِي تَرِكَتِهِ وَلَا عَلَى وَرَثَتِهِ وَلَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَلَهَا أَنْ تَسْكُنَ حيث شاءت؛ لأنه إذا أسقط حقها في السُّكْنَى سَقَطَ مَا عَلَيْهَا مِنْهُ إِلَّا أَنْ

(11/258)


تَجِدَ مُتَطَوِّعًا بِسُكْنَاهَا فَتَصِيرَ السُّكْنَى وَاجِبًا عَلَيْهَا وَلَيْسَ يَخْلُو الْمُتَطَوِّعُ بِسُكْنَاهَا مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ:
أَحَدُهَا: الْوَارِثُ يَتَطَوَّعُ بِسُكْنَاهَا إِمَّا مِنَ التَّرِكَةِ إِنْ كَانَتْ أَوْ مِنْ مَالِهِ تَحْصِينًا لِمَاءِ مَيِّتِهِ فَيَلْزَمُهَا إِجَابَتُهُ إِذَا أَقَامَ لَهَا بِهِ أَوْ بَذَلَ لَهَا أُجْرَتَهُ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ مَسْكَنُ طَلَاقِهَا كَانَ أَوْلَى وَإِنْ أَعْوَزَهُ فَأَقْرَبُ الْمَسَاكِنِ بِهِ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ مَسْكَنُ طَلَاقِهَا فَعَدَلَ بِهَا إِلَى غَيْرِهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ مُتَطَوِّعٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: السُّلْطَانُ لِمَا يَرَاهُ مِنْ حِفْظِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حِرَاسَةِ الْأَنْسَابِ قَدْ خَصَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ فِي عِدَّتِهَا حِينَ أَمَرَهَا أَنْ تَسْكُنَ فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَيَدْفَعُ سُكْنَاهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جعلة الْمَصَالِحِ الْخَاصَّةِ الَّتِي لَهُ فِعْلُهَا وَإِنْ لَمْ تَجِبْ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَجْنَبِيٌّ يَتَطَوَّعُ بِسُكْنَاهَا فَنَنْظُرُ حَالَهُ، فَإِنْ كَانَ مَتْهُومًا ذَا رِيبَةٍ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا، وَإِنْ كَانَ سَلِيمًا ذَا دِينٍ قَامَ بَذْلُه لِسُكْنَاهَا مَقَامَ بَذْلِ الْوَرَثَةِ وَلَزِمَهَا أَنْ تَسْكُنَ حَيْثُ يُسْكِنُهَا إِذَا كَانَ مَسْكَنَ مِثْلِهَا وَأَمِنَتْ عَلَى نَفْسِهَا فَيَكُونُ وُجُوبُ السُّكْنَى عَلَيْهَا مَشْرُوطًا بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ، فَإِنْ رَضِيَتْ بِدُونِ مَسْكَنِ مِثْلِهَا جَازَ، وَإِنْ رَضِيَتْ بِمَا لَا يَأْمَنُهُ عَلَى نَفْسِهَا لَمْ يَجُزْ.

مَسْأَلَةٌ قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أُذِنَ لَهَا أَنْ تَنْتَقِلَ فَنُقِلَ مَتَاعُهَا وَخَدَمُهَا وَلَمْ تَنْتَقِلْ بِبَدَنِهَا حَتَّى مَاتَ أَوْ طَلَّقَ اعْتَدَّتْ فِي بَيْتِهَا الَّذِي كَانَتْ فِيهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا أُذِنَ لِمُسْتَحَقَّةِ السُّكْنَى فِي الْعِدَّةِ أَنْ تَنْتَقِلَ مِنْ دَارِهِ إِلَى أُخْرَى ثُمَّ مَاتَ أَوْ طَلَّقَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ، وَهِيَ مُقِيمَةٌ فِي الدَّارِ الْأُولَى بِبَدَنِهَا، وَرَحْلِهَا، وَخَدَمِهَا اعْتَدَّتْ فِيهَا، وَلَمْ تَعْتَدَّ فِي الثَّانِيَةِ وَلَمْ يَكُنْ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِذْنِ بِالنَّقْلِ بِأَثَرٍ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَنْتَقِلَ فِي الْعِدَّةِ إِلَى الدَّارِ الثَّانِيَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْتُ أَوِ الطَّلَاقُ بَعْدَ الِانْتِقَالِ إِلَى الدَّارِ الثَّانِيَةِ بِبَدَنِهَا وَرَحْلِهَا وَخَدَمِهَا اعْتَدَتْ فِي الدَّارِ الثَّانِيَةِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَعُودَ فِي الْعِدَّةِ إِلَى الدَّارِ الْأُولَى وَإِنْ كَانَ الْمَوْتُ أَوِ الطَّلَاقُ بَعْدَ أَنْ نَقَلَتْ رَحْلَهَا وَخَدَمَهَا إِلَى الدَّارِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ مُقِيمَةٌ بِبَدَنِهَا فِي الدَّارِ الْأُولَى اعْتَدَّتْ فِي الدَّارِ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْتُ أَوِ الطَّلَاقُ بَعْدَ أَنِ انْتَقَلَتْ بِبَدَنِهَا إِلَى الدَّارِ الثَّانِيَةِ، وَبَقِيَ رَحْلُهَا وَخَدَمُهَا فِي الدَّارِ الْأُولَى اعْتَدَّتْ فِي الدَّارِ الثَّانِيَةِ اعْتِبَارًا بِبَدَنِهَا دُونَ رَحْلِهَا وَخَدَمِهَا، وَكَذَلِكَ فِي الْأَيْمَانِ لو قال: والله لأسكنت هَذِهِ الدَّارَ، فَانْتَقَلَ مِنْهَا بِبَدَنِهِ دُونَ رَحْلِهِ وَخَدَمِهِ بَرَّ وَلَوْ نَقَلَ رَحْلَهُ وَخَدَمَهُ وَهُوَ مُقِيمٌ بِبَدَنِهِ حَنِثَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الِاعْتِبَارُ فِي الْأَيْمَانِ بِرَحْلِهِ وَمَالِهِ دُونَ بَدَنِهِ، فَإِذَا حَلَفَ لَا يَسْكُنُهَا فَنَقَلَ رَحْلَهُ وَخَدَمَهُ وَهُوَ مقيم ببدنه بر ولو انتقل ببدنه خلف فِيهَا رَحْلَهُ وَخَدَمَهُ

(11/259)


حَنِثَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَأَسْكُنَنَّ هَذِهِ الدَّارَ، فَالْبِرُّ يَتَعَلَّقُ بِرَحْلِهِ، وَخَدَمِهِ دُونَ بَدَنِهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: وَإِنْ قَالَ وَاللَّهِ لَأَسْكُنَنَّهَا تَعَلَّقَ الْبِرُّ بِنَقْلِ رَحْلِهِ وَخَدَمِهِ دُونَ بَدَنِهِ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَلَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَأَسْكُنَنَّ هَذِهِ الدَّارَ تَعَلَّقَ الْبِرُّ بِبَدَنِهِ دُونَ رَحْلِهِ وَخَدَمِهِ كَمَا قُلْنَا، وَالصَّحِيحُ أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَبَرُ مِنَ الْأَيْمَانِ مِنَ الْعِدَّةِ بِنَقْلِهِ الْبَدَنَ دُونَ الرَّحْلِ وَالْخَدَمِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور: 29] فَأَخْبَرَ أَنَّ بُيُوتَ الْمَتَاعِ غَيْرُ مَسْكُونَةٍ وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذي ذرع عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37] فَأَخْبَرَ بِإِقَامَتِهِمْ فِيهِ مَعَ خُلُوِّهِمْ مِنْ رَحْلِهِمْ وَمَالِهِمْ فَثَبَتَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْبَدَنِ دُونَ الرَّحْلِ وَالْمَالِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُسَافِرُ بِبَدَنِهِ دُونَ مَالِهِ يَزُولُ عَنْهُ حُكْمُ الْمُقَامِ وَتَجْرِي عَلَيْهِ صِفَةُ السَّفَرِ مِنِ اسْتِبَاحَةِ الرُّخَصِ، وَلَوْ أَقَامَ بِبَدَنِهِ دُونَ مَالِهِ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِقَامَةِ فِي حَظْرِ الرُّخَصِ دَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِ السُّكْنَى وَالِانْتِقَالِ بِالْبَدَنِ دُونَ الْمَالِ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنِ اعْتِبَارِ الِانْتِقَالِ بِالْبَدَنِ دُونَ الرَّحْلِ وَالْمَالِ فَطُلِّقَتْ بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنَ الدَّارِ الْأُولَى وَقَبْلَ وُصُولِهَا إِلَى الدَّارِ الثَّانِيَةِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي الدَّارِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ هِيَ الْمَسْكَنَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا بِالْخِيَارِ فِي أَنْ تَعْتَدَّ فِي الْأُولَى أَوِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهَا بَيْنَهُمَا.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُعْتَبَرَ بِالْقُرْبِ فَيَرْجِعَ حُكْمُهُ، فَإِنْ كَانَتْ إِلَى الدَّارِ الْأُولَى أَقْرَبَ اعْتَدَّتْ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ إِلَى الثَّانِيَةِ أَقْرَبَ اعْتَدَّتْ فِيهَا، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ أَبِي الْفَيَّاضِ، وَلَكِنْ لَوِ انْتَقَلَتْ بِبَدَنِهَا إِلَى الدَّارِ الثَّانِيَةِ ثُمَّ عَادَتْ إِلَى الْأُولَى لِنُقِلَّ رَحْلَهَا فَطَلَّقَهَا وَهِيَ فِيهَا اعْتَدَّتْ فِي الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ عَوْدَهَا إلى الأرض لَمْ يَكُنْ بِمُقَامٍ وَنُقْلَةٍ فَصَارَتْ كَالْمُطَلَّقَةِ إِذَا دَخَلَتْ دَارَ جَارٍ لِحَاجَةٍ.
(فَصْلٌ)
وَلَوْ طَلَّقَهَا فِي الدَّارِ الْأُولَى وَاحِدَةً ثُمَّ كَمَّلَ طَلَاقَهَا ثَلَاثًا فِي الدَّارِ الثَّانِيَةِ عَادَتْ إِلَى الدَّارِ الْأُولَى فَأَكْمَلَتْ فِيهَا بَقِيَّةَ الْعِدَّةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ أَوَّلَ عِدَّتِهَا مِنَ الطَّلَاقِ الْمَبْتُوتِ فِي الثَّانِيَةِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ فِي الْأُولَى فَلِذَلِكَ لَزِمَهَا الِاعْتِدَادُ فِيهَا آخِرًا كَمَا اعْتَدَّتْ فِيهَا أولاً والله أعلم.

(مسألة)
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ خَرَجَ مُسَافِرًا بِهَا أَوْ أَذِنَ لَهَا في

(11/260)


الْحَجِّ فَزَايَلَتْ مَنْزِلَهُ فَمَاتَ أَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَسَوَاءٌ لَهَا الْخِيَارُ فِي أَنْ تَمْضِيَ لِسَفَرِهَا ذَاهِبَةً وَجَائِيَةً وَلَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَ سَفَرَهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يَأْذَنَ لِزَوْجَتِهِ فِي السَّفَرِ، إِمَّا مَعَهُ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ ثُمَّ يَمُوتَ عَنْهَا أَوْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ إِذْنِهِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ خُرُوجِهَا مِنْ مَنْزِلِهِ لَزِمَهَا أَنْ تُقِيمَ، وَتَعْتَدَّ فِيهِ سَوَاءٌ بَرَزَتْ بِرَحْلِهَا أَمْ لَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنْ مَنْزِلِهِ فَفِيمَا تَسْتَقِرُّ بِهِ دُخُولَهَا فِي السَّفَرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَالظَّاهِرُ مِنْ مَنْصُوصِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ بِخُرُوجِهَا مِنْ مَنْزِلِهِ قَدِ اسْتَقَرَّ لَهَا السَّفَرُ بِإِذْنِهِ وَإِنْ كَانَتْ فِي بُنْيَانِ بَلَدِهِ اعْتِبَارًا بِمُفَارَقَةِ الْمَنْزِلِ الْمَسْكُونِ فَلَا يَلْزَمُهَا بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْهُ أَنْ تُقِيمَ وَلَهَا أَنْ تَتَوَجَّهَ بَعْدَ الطَّلَاقِ فِي سَفَرِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ دُخُولُهَا فِي السَّفَرِ إِلَّا بِمُفَارَقَةِ آخِرِ بُنْيَانِ الْبَلَدِ اعْتِبَارًا بِمُفَارَقَةِ الْبَلَدِ الْمُسْتَوْطَنِ لِتَصِيرَ بِحَيْثُ يُسْتَبَاحُ قَصْرُ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهَا مَا لَمْ تُفَارِقْ آخِرَ بُنْيَانِ الْبَلَدِ حَتَّى مَاتَ أَوْ طَلَّقَهَا أَنْ تَعُودَ إِلَيْهِ، وَتَعْتَدَّ فِي الْمَنْزِلِ الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ، فَإِنْ طُلِّقَتْ وَقَدْ فَارَقَتْ آخِرَ بُنْيَانِ الْبَلَدِ لَمْ يَلْزَمْهَا الْعَوْدُ إِلَيْهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: حَكَاهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَسْتَقِرُّ دُخُولُهَا فِي السَّفَرِ إِلَّا أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى مَسَافَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ اعْتِبَارًا بِالسَّفَرِ الَّذِي تُسْتَبَاحُ فِيهِ الرُّخَصُ فَمَا لَمْ تَبْلُغْ إِلَيْهِ فَعَلَيْهَا إِذَا مَاتَ أَوْ طَلَّقَ أَنْ تَعُودَ فِي مَنْزِلِهَا، فَإِنْ بَلَغَتْ مَسَافَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ حِينَ مَاتَ أَوْ طَلَّقَ لَمْ يَلْزَمْهَا الْعَوْدُ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا اسْتَقَرَّتْ فِي السَّفَرِ الَّذِي يَسْقُطُ بِهِ وُجُوبُ الْعَوْدِ إِلَى بَلَدِهَا إِذَا مَاتَ أَوْ طَلَّقَ عَلَى ما ذكرنا ما الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى خِيَارِهَا فِي الْعَوْدِ وَالتَّوَجُّهِ وَذَلِكَ مُعْتَبَرٌ بِالسَّفَرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: سَفَرُ عَوْدٍ، وَسَفَرُ نُقْلَةٍ.
فَأَمَّا سَفَرُ الْعَوْدِ فَهُوَ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا فِي السَّفَرِ إِلَى بَلَدِ الْحَجِّ، أَوْ زِيَارَةٍ، أَوْ قَضَاءِ حَاجَةٍ ثُمَّ تَعُودُ مِنْهُ فَهِيَ بَعْدَ حُدُوثِ الْمَوْتِ أَوِ الطَّلَاقِ مُخَيَّرَةٌ بَيْنَ التَّوَجُّهِ أَوِ الْعَوْدِ إِذَا كَانَتْ فِي الْحَالَيْنِ آمِنَةً لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ أَصْحَابُنَا لِتَسَاوِيهِمَا فِي أَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَوْطَنَةٍ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالْأَوْلَى بِهَا أَنْ تَقْصِدَ أَقْرَبَ الْبَلَدَيْنِ إِلَيْهَا لِتَقْضِيَ عِدَّتَهَا فِي الْحَضَرِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَضَائِهَا فِي السَّفَرِ، فَإِنْ قَصَدَتْ أَبْعَدَ الْبَلَدَيْنِ جَازَ وَلَا حَرَجَ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا سَفَرُ النُّقْلَةِ فَهُوَ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا فِي السَّفَرِ إِلَى بَلَدٍ لِتَسْتَوْطِنَهُ وَتُقِيمَ فِيهِ فَفِيهِ عِنْدُ حُدُوثِ الْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، كَمَا لَوْ أَمَرَهَا أَنْ تَنْتَقِلَ مِنْ دَارٍ إِلَى أُخْرَى:

(11/261)


أَحَدُهَا: عَلَيْهَا أَنْ تَتَوَجَّهَ إِلَى الْبَلَدِ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَتَعْتَدَّ فِيهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَعُودَ إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا فَارَقَتِ الْأَوَّلَ صَارَ الثَّانِي هُوَ الْوَطَنَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا بِالْخِيَارِ فِي التَّوَجُّهِ وَالْعَوْدِ لِخُرُوجِهَا عَنْهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي تَنْتَقِلُ إِلَيْهِ أَقْرَبَ فَعَلَيْهَا التَّوَجُّهُ إِلَيْهِ لِتَعْتَدَّ فِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي فَارَقَتْهُ أَقْرَبَ كَانَتْ مُخَيَّرَةً بَيْنَ الْعَوْدِ والتوجه.

(مسألة)
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا تُقِيمُ فِي الْمِصْرِ الَّذِي أَذِنَ لَهَا فِي السَّفَرِ إِلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَذِنَ لَهَا فِي الْمُقَامِ فِيهِ أَوِ النُّقْلَةِ إِلَيْهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَيْهَا إِذَا بَلَغَتْ ذَلِكَ الْمِصْرَ فَإِنْ كَانَ أَخْرَجَهَا مُسَافِرَةً أَقَامَتْ مَا يُقِيمُ الْمُسَافِرُ ثَمَّ رَجَعَتْ وَأَكْمَلَتْ عِدَّتَهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا وَصَلَتْ إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي أَذِنَ لَهَا بِالسَّفَرِ إِلَيْهِ، وَقَدْ عَرَفَتْ مَوْتَهُ، أَوْ طَلَاقَهُ فِي طَرِيقِهَا فَاخْتَارَتِ التَّوَجُّهَ إِلَى الْبَلَدِ، أَوْ عَرَفَتْهُ بَعْدَ وُصُولِهَا إِلَى الْبَلَدِ فَالْحُكْمُ بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ فِي الْحَالَيْنِ سَوَاءٌ، وَلَا يَخْلُو حَال إِذْنِهِ لَهَا فِي السَّفَرِ مِنْ خَمْسَةِ أقسام:
أحدهما: أَنْ يَأْذَنَ لَهَا فِي النُّقْلَةِ إِلَيْهِ مُسْتَوْطِنَةً لَهُ فَعَلَيْهَا أَنْ تَقْضِيَ فِيهِ عِدَّتَهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ لَهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ وَطَنًا فَصَارَ كَطَلَاقِهِ لَهَا فِي بَدَنِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَأْذَنَ لَهَا أَنْ تُسَافِرَ إِلَيْهِ لِحَاجَةٍ تَتَقَدَّرُ بَعْدَ دُخُولِهَا بِالْفَرَاغِ مِنْهَا إِمَّا لِحَجٍّ يُؤَدَّى أَوْ دَارٍ تُبْقَى لَهَا فَلَهَا الْمُقَامُ حَتَّى تُؤَدِّيَ حَجَّتَهَا وَتَبْنِيَ دَارَهَا، وَتَسْتَكْمِلَ ثُمَّ لَهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ فَرَاغُهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلَهَا أَنْ تَضَعَ بِنَفْسِهَا مَا شَاءَتْ مِنْ مُقَامٍ أَوْ عَوْدٍ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً فِي عِدَّتِهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ حَاجَتِهَا، وَيُمْكِنُ إِذَا عَادَتْ إِلَى بَلَدِهَا أَنْ تَقْضِيَ فِيهِ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا فَعَلَيْهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ أَنْ تَعُودَ إِلَى بَلَدِهَا فَتَقْضِيَ فِيهِ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً فِي عِدَّتِهَا، وَإِنْ عَادَتْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الْعِدَّةِ مَا تقضيه في بلدها، ففي وجوب العدة وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجِبُ عَلَيْهَا الْعَوْدُ لِيَكُونَ قَضَاءَ عِدَّتِهَا. فِيمَا قَرُبَ مِنَ الْبَلَدِ إِذَا تَعَذَّرَ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَلَدِ.

(11/262)


وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهَا الْعَوْدُ؛ لِأَنَّهَا لَا تُدْرِكُ قَضَاءَ الْعِدَّةِ فِي الْمِصْرِ، وَتَكُونُ فِيهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمُقَامِ وَالْعَوْدِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَأْذَنَ لَهَا أَنْ تُسَافِرَ إِلَيْهِ لِمَا لَا يُفْتَقَرُ إِلَى مُقَامٍ فِيهِ مِنْ رِسَالَةٍ تُؤَدَّى أَوْ خَبَرٍ يُعْرَفُ فَلَيْسَ لَهَا بَعْدَ دُخُولِهِ أَنْ تُقِيمَ فِيهِ إِلَّا مُقَامَ الْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَذِنَ لِلْمُهَاجِرِ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَعَلَيْهَا أَنْ تَخْرُجَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ إِنْ كَانَ الْمَسِيرُ مُمْكِنًا، وَالطَّرِيقُ مَأْمُونًا لِتَعُودَ إِلَى بَلَدِهَا فَتَقْضِيَ فِيهِ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا، فَإِنْ أَخَّرَهَا بَعْدَ الثَّلَاثِ عُذْرٌ مِنْ مَرَضٍ أَوْ خَوْفٍ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهَا فِي الْمُقَامِ مَا كَانَ عُذْرُهَا بَاقِيًا، فَإِذَا زَالَ فَإِنْ كَانَتِ الْعِدَّةُ قَدِ انْقَضَتْ صَنَعَتْ بِنَفْسِهَا مَا شَاءَتْ وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً وَأَمْكَنَ أَنْ تَقْضِيَ بَقِيَّتَهَا بِبَلَدِهَا لَزِمَهَا الْعَوْدُ إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ تُدْرِكْ بَقِيَّتَهَا فِي بَلَدِهَا فَفِي وُجُوبِ الْعَوْدِ وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَأْذَنَ لَهَا أَنْ تُقِيمَ فِيهِ مُدَّةً قَدَّرَهَا كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: أَقِيمِي شَهْرًا فَهَلْ لَهَا إِذَا أُدْخِلَتْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ طَلَاقِهِ أَنْ تُقِيمَ فِيهِ تِلْكَ الْمُدَّةَ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ أَنْ تُقِيمَ تِلْكَ الْمُدَّةَ لِتَقَدُّمِ الْإِذْنِ بِهَا، وَعَلَيْهَا بَعْدَ انْقِضَائِهَا أَنْ تَعُودَ إِلَى بَلَدِهَا إِنْ أَدْرَكَتْ فِيهِ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا، وَإِنْ لَمْ تُدْرِكْهَا فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ:
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَدْ بَطَلَ الْإِذْنُ بِالْمُدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ لِاسْتِحْقَاقِ الْعِدَّةِ فِي الْوَطَنِ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُقِيمَ إِلَّا مُقَامَ الْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا أَنْ يَقْطَعَهَا عُذْرٌ فَتُقِيمَ مَا بَقِيَ عُذْرُهَا.
وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ يَأْذَنَ لَهَا فِي السَّفَرِ عَنْهُ إِذْنًا مُطْلَقًا لَا يَتَضَمَّنُ مُقَامًا وَلَا عَوْدًا فَتُرَاعِيَ شَوَاهِدَ الْأَحْوَالِ فِيهِ فَإِنْ دَلَّتْ عَلَى الْمُقَامِ أَقَامَتْ، وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى الْعَوْدِ عَادَتْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي شَوَاهِدِ الْأَحْوَالِ دَلِيلٌ اقْتَضَى مُطْلَقُ الْإِذْنِ أَنْ يَكُونَ سَفَرَ مُقَامٍ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ سَفَرٌ آخَرُ يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنٍ فِيهِ فَيَلْزَمُهَا قَضَاءُ الْعِدَّةِ فِي الْبَلَدِ الَّذِي سَافَرَتْ إِلَيْهِ ثُمَّ لَهَا الْخِيَارُ بَعْدَ الْمُدَّةِ.

(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي: " وَلَوْ أَذِنَ لَهَا فِي زِيَارَةٍ أَوْ نُزْهَةٍ فَعَلَيْهَا أَنْ تَرْجِعَ لِأَنَّ الزِّيَارَةَ لَيْسَتْ مُقَامًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ تَأْوِيلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهَا صُورَةٌ فِي الْإِذْنِ لَهَا بِالزِّيَارَةِ وَالنُّزْهَةِ فِي بَلَدِهَا، وَلَمْ يُرِدِ الزِّيَارَةَ وَالنُّزْهَةَ فِي غَيْرِ بَلَدِهَا إِذَا مَاتَ أَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ خُرُوجِهَا لِلزِّيَارَةِ وَالنُّزْهَةِ أَنْ تَعُودَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَتَعْتَدَّ فِيهِ وَلَا تَقُمْ عَلَى زِيَارَتِهَا وَنُزْهَتِهَا بِخِلَافِ إِذْنِهِ لَهَا فِي الِانْتِقَالِ مِنْ دَارٍ إِلَى أُخْرَى، وَلَوْ مَاتَ أَوْ طَلَّقَ قَبْلَ خُرُوجِهَا لِلزِّيَارَةِ

(11/263)


وَالنُّزْهَةِ لَمْ يَكُنْ لَهَا الْخُرُوجُ وَأَقَامَتْ فِي مَنْزِلِهِ لِلْعِدَّةِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْبَلَدِ لَكَانَ حُكْمُهُ كَحُكْمِ غَيْرِهِ مِنَ السَّفَرِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ تَأْوِيلُ مَنْ جَعَلَ اسْتِقْرَارَ سَفَرِهَا بِمَسَافَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِي زِيَارَةٍ أَوْ نُزْهَةٍ عَلَى أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَعَلَيْهَا إِذَا مَاتَ أَوْ طَلَّقَ بَعْدَ خُرُوجِهَا وَقَبْلَ وُصُولِهَا أَنْ تَعُودَ، وَلَوْ كَانَ بَعْدَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَمْ يَلْزَمْهَا الْعَوْدُ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ تَأْوِيلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ وَإِلَيْهِ أَذْهَبُ أَنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِي الزِّيَارَةِ وَالنُّزْهَةِ فِي بَلَدٍ آخَرَ فَإِذَا مَاتَ أَوْ طَلَّقَ بَعْدَ وُصُولِهَا أَوْ فِي طَرِيقِهَا فَعَلَيْهَا بَعْدَ الْوُصُولِ أَنْ تَعُودَ لِوَقْتِهَا لِحُصُولِ الزِّيَارَةِ وَالنُّزْهَةِ عِنْدَ الْوُصُولِ فَلَا تُقِيمُ إِلَّا مُقَامَ الْمُسَافِرِ وَلَا يَجْعَلُ لِلزِّيَارَةِ وَالنُّزْهَةِ حَدًّا زَائِدًا عَلَى مُقَامِ الْمُسَافِرِ، فَيَكُونُ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودَ بِالْمَسْأَلَةِ.
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: وَهُوَ تَأْوِيلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِي الزِّيَارَةِ وَالنُّزْهَةِ فِي بَلَدٍ آخَرَ، فَإِذَا مَاتَ أَوْ طَلَّقَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ سَفَرِهَا وَقَبْلَ وُصُولِهَا لَزِمَهَا الْعَوْدُ وَلَوْ كان وَعَدَمُهَا فِي الزِّيَارَةِ وَالنُّزْهَةِ، وَهَذَا تَفْرِيقٌ لَا أَجِدُ لَهُ فِي التَّحْقِيقِ وَجْهًا.

(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي: " وَلَا تَخْرُجُ إِلَى الْحَجِّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَلَا إِلَى مَسِيرَةِ يَوْمٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ وَتَكُونَ مَعَ نِسَاءٍ ثِقَاتٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ اجْتِمَاعَ الْعِدَّةِ وَالْإِحْرَامِ يَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَتَقَدَّمَ وُجُوبُ الْعِدَّةِ بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ ثُمَّ تُحْرِمُ بِالْحَجِّ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَعَلَيْهَا أَنْ تُقِيمَ لِاسْتِكْمَالِ الْعِدَّةِ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ تَحُجَّ فِي تَضَاعِيفِهَا وَإِنْ خَافَتِ الْفَوَاتَ لِتُقَدِّمِ وُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَى الْإِحْرَامِ، فَإِنِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَوَقْتُ الْحَجِّ مُمْكِنٌ خَرَجَتْ لِأَدَائِهِ وَإِنْ فَاتَهَا الْحَجُّ جَرَى عَلَيْهَا حُكْمُ فَوَاتِهِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَتَقَدَّمَ إِحْرَامُهَا بِالْحَجِّ عَنْ إِذْنِهِ ثُمَّ تَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا بِطَلَاقِهِ أَوْ مَوْتِهِ قَبْلَ أَدَائِهِ فَفَرْضُ الْحَجِّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعِدَّةِ، فَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ مُضَيَّقًا خَرَجَتْ لِلْحَجِّ وَإِنْ كَانَ مُتَّسِعًا كَانَتْ مُخَيَّرَةً بَيْنَ تَقْدِيمِ الْعِدَّةِ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى الْحَجِّ، وَبَيْنَ تَقْدِيمِ الْخُرُوجِ لِلْحَجِّ عَلَى الْمُقَامِ لِلْعِدَّةِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْخُرُوجِ لِلْحَجِّ فَيَلْزَمُهَا الْمُقَامُ لِلْعِدَّةِ، وَإِنْ فَاتَهَا الْحَجُّ؛ لِأَنَّ فَوَاتَ الْحَجِّ يُقْضَى وَفَوَاتَ الْعِدَّةِ لَا يُقْضَى؛ وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ فَكَانَتْ أَوْكَدَ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُفْرَدَةِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وَحَقِيقَةُ الْإِتْمَامِ

(11/264)


إِكْمَالُ مَا دَخَلَ فِيهِ، وَلِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ مُتَقَابِلَتَانِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَرَجَّحَ حُكْمُ أَسْبِقِهِمَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَقَدَّمَتِ الْعِدَّةُ عَلَى الْإِحْرَامِ غُلِّبَ حُكْمُ الْعِدَّةِ، كَذَلِكَ إِذَا تَقَدَّمَ الْإِحْرَامُ عَلَى الْعِدَّةِ، وَجَبَ أَنْ يُغَلَّبَ حُكْمُ الْإِحْرَامِ، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ أَغْلَظُ أَحْكَامًا مِنَ الْعِدَّةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَضْعُفَ عَنْهَا عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ.
وَاسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ فوات الحج قضي فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى قُوَّتِهِ وَتَغْلِيظُ حُكْمِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ عَلَى ضَعْفِهِ وَاسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ الْعِدَّةَ حَقٌّ مُشْتَرَكٌ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الضَّعْفِ دُونَ الْقُوَّةِ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةَ أَوْكَدُ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَقَدَّمَ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ عَلَى الْعِدَّةِ ثُمَّ تَطْرَأَ الْعِدَّةُ بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ بَعْدَ إِتْمَامِ الْحَجِّ فَيَكُونَ حكمها في العدة من سَافَرَتْ عَنْ إِذْنِهِ ثُمَّ وَجَبَتِ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا بَعْدَ السَّفَرِ بِمَوْتِهِ أَوْ طَلَاقِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَعُودَ إِلَى بَلَدِهَا فَتَقْضِيَ فِيهِ عِدَّتَهَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ تَتَقَدَّمَ الْعِدَّةُ عَلَى الْإِحْرَامِ ثُمَّ تَسْتَأْنِفَ الْإِحْرَامَ بَعْدَ كَمَالِ الْعِدَّةِ فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ وَلَيْسَتْ مِنَ الْعِدَدِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا تَبَعًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ مَا اعْتَرَضَ عَلَيْهَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ بَعْدَ كَمَالِ الْعِدَّةِ وَالْكَلَامُ فِي حَجِّهَا، هَلْ يَفْتَقِرُ إِلَى ذِي مَحْرَمٍ أَمْ لَا؟ .
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ أَنْ تُحْرِمَ لِلْحَجِّ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ سَوَاءٌ كَانَ فَرْضًا أَوْ تَطَوُّعًا تَمَسُّكًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ ".
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ كَانَ الْحَجُّ فَرْضًا لَمْ يَكُنِ الْمَحْرَمُ فِيهِ شَرْطًا إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا، وَإِذَا كَانَ تَطَوُّعًا لَمْ تَخْرُجْ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي الْغَرَضِ، وَإِنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ مُعْتَبَرٌ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَلَوْ كَانَ الْمَحْرَمُ شَرْطًا لَكَانَ مِنْ شُرُوطِ الِاسْتِطَاعَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْوُجُوبِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: يُوشِكُ أَنْ تَخْرُجَ الظَّعِينَةُ مِنَ الْحِيرَةِ تَأَمُّ الْبَيْتَ لَا جِوَارَ مَعَهَا لَا تَخَافُ إِلَّا اللَّهَ فَلَوْلَا جَوَازُهُ لِمَا أَقَرَّ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ السَّفَرِ يُسْقِطُ اشْتِرَاطَ الْمَحْرَمِ فِيهِ كَالْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الشِّرْكِ، وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ مُسْتَوْفَاةً وَتَأَوَّلْنَا الْخَبَرَ عَلَى التَّطَوُّعِ دُونَ الْفَرْضِ، كَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: لَا تَصُومَنَّ امْرَأَةٌ وَزَوْجُهَا حَاضِرٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَحُمِلَ عَلَى صَوْمِ التَّطَوُّعِ دُونَ الفرض.

(مسألة)
قال الشافعي: " وَلَوْ صَارَتْ إِلَى بَلَدٍ أَوْ مَنْزِلٍ بِإِذْنِهِ وَلَمْ يَقُلْ لَهَا أَقِيمِي ثُمَّ طَلَّقَهَا فَقَالَ لَمْ أَنْقُلْكِ وَقَالَتْ نَقَلْتَنِي فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا إِلَّا أَنْ تُقِرَّ هِيَ أَنَّهُ كَانَ لِلزِّيَارَةِ أَوْ مدة

(11/265)


تُقِيمُهَا فَيَكُونَ عَلَيْهَا أَنْ تَرْجِعَ وَتَعْتَدَّ فِي بَيْتِهِ وَفِي مُقَامِهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ تُقِيمَ إِلَى الْمُدَّةِ كَمَا جُعِلَ لَهَا أَنْ تُقِيمَ فِي سَفَرِهَا إِلَى غَايَةٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذِهِ مَسْأَلَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى فُصُولٍ قَدِ اخْتَلَطَ فِيهَا كَلَامُ أَصْحَابِنَا، وَنَسَبُوا الْمُزَنِيَّ إِلَى السَّهْوِ فِي نَقْلِهِ وَالْخَطَأِ فِي جَوَابِهِ لِشُبْهَةٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِمْ فِي تَفْرِيقِ أُصُولِهَا، وَسَنُوَضِّحُهَا بِمَا تَزُولُ بِهِ الشُّبْهَةُ وَيَصِحُّ فِيهَا نَقْلُ الْمُزَنِيِّ وَجَوَابُهُ، وَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَقْدِيرِ الْجَوَابِ فِي خَمْسَةِ فُصُولٍ قَدْ ذَكَرْنَاهَا مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَيْهَا، وَنَحْنُ نُعِيدُهَا لِنَبْنِيَ حُكْمَ اخْتِلَافِهِمْ عَلَيْهَا:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِذَا أذن لها في سفر النقلة فَانْتَقَلَتْ ثُمَّ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ قَضَتِ الْعِدَّةَ فِي بَلَدِ النُّقْلَةِ، وَلَمْ يَلْزَمْهَا الْعَوْدُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ أَذِنَ لَهَا فِي سَفَرِ الْعَوْدَةِ ثُمَّ وَجَبَتِ الْعِدَّةُ بَعْدَ وُصُولِهَا لَزِمَهَا الْعَوْدُ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُقِيمَ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا أَذِنَ لَهَا فِي السَّفَرِ إِلَيْهِ إِذْنًا مُطْلَقًا لَمْ يُصَرِّحْ فِيهِ بِنُقْلَةٍ وَلَا عَوْدٍ حُمِلَ عَلَى سَفَرِ النُّقْلَةِ دُونَ الْعَوْدِ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ سَفَرٌ آخَرُ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى إِذْنٍ آخَرَ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ إِذَا أَذِنَ لَهَا فِي السَّفَرِ إِلَيْهِ لِنُزْهَةٍ أَوْ زِيَارَةٍ كَانَ سَفَرَ عَوْدٍ، وَلَمْ يَكُنْ سَفَرَ مُقَامٍ.
وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ إِذَا أَذِنَ لَهَا فِي السَّفَرِ إِلَيْهِ لِتُقِيمَ شَهْرًا ثُمَّ تَعُودَ، فَهَلْ لَهَا بَعْدَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ أَنْ تُقِيمَ تِلْكَ الْمُدَّةَ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا، فَهَذِهِ خَمْسَةُ فُصُولٍ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي جَوَابِهَا مَعَ اتِّفَاقِ الزَّوْجَيْنِ عَلَيْهَا، فَإِنِ اخْتَلَفَا فِيهَا اشْتَمَلَ اخْتِلَافُهُمَا عَلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَدَّعِيَ الزَّوْجَةُ سَفَرَ النُّقْلَةِ، وَيَدَّعِيَ الزَّوْجُ سَفَرَ الْعَوْدِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ الزَّوْجِ فِي حَيَاتِهِ، وَمَعَ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ سَفَرَ النُّقْلَةِ وَاحِدٌ وَسَفَرَ الْعَوْدِ اثْنَانِ فَكَانَ الْقَوْلُ فِي الثَّانِي قَوْلَ مُنْكِرٍ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَدَّعِيَ الزَّوْجَةُ سَفَرَ الْعَوْدِ وَيَدَّعِيَ عَلَيْهَا سَفَرَ النُّقْلَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ خَالَفَهَا مِنَ الزَّوْجِ فِي حَيَاتِهِ، وَالْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي فِيهِ سَفَرًا ثَانِيًا فَكَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ مُنْكِرِهِ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ تَدَّعِيَ فِي السَّفَرِ الْمُطْلَقِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّقْلَةُ، وَيَدَّعِيَ عَلَيْهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّقْلَةُ فَقَوْلُهَا غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي حَيَاتِهِ وَوَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُمْ دُونَهَا، فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ تَسْتَوِي حُكْمُ الِاخْتِلَافِ فِيهَا مَعَ الزَّوْجِ وَالْوَرَثَةِ.
وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ تَدَّعِيَ الزَّوْجَةُ سَفَرًا لِمُدَّةٍ، وَيَدَّعِيَ عَلَيْهَا أَنَّهُ سَفَرٌ لِلنُّزْهَةِ فَإِنْ

(11/266)


قِيلَ: إِنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ مُقَامِ تِلْكَ الْمُدَّةِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الِاخْتِلَافِ تَأْثِيرٌ لِوُجُوبِ الْعَوْدِ فِيهِمَا لِلْوَقْتِ، وَإِنْ قِيلَ: بِمُقَامِهَا تِلْكَ الْمُدَّةَ، فَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهَا مَعَ الْوَرَثَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا وَإِنْ كَانَ مَعَ الزَّوْجِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَعَ تَسَاوِي الظَّاهِرِ فِي اخْتِلَافِهِمَا مُبَايَنَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ، لِأَنَّ الْإِذْنَ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الزَّوْجَانِ فَإِذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا رَجَعَ إِلَى الزَّوْجِ الْإِذْنُ فِي صِفَةِ إِذْنِهِ مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ فِي أَصْلِ إِذْنِهِ، وَإِذَا كَانَ مَعَ الْوَرَثَةِ رَجَعَ فِيهِ إِلَى مَنْ سَوَّمَهُ بِالْإِذْنِ، وَهِيَ الزَّوْجَةُ دُونَ الْوَرَثَةِ.
وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: أَنْ تَدَّعِيَ الزَّوْجَةُ سَفَرَ النُّزْهَةِ وَيَدَّعِيَ عَلَيْهَا أَنَّهُ سَفُرُ الْمُدَّةِ.
فَإِنْ قِيلَ لَا تُقِيمُ تِلْكَ الْمُدَّةَ فَلَا تَأْثِيرَ لِاخْتِلَافِهِمَا لِوُجُوبِ الْعَوْدِ فِيهِمَا.
وَإِنْ قِيلَ بِمُقَامِهَا تِلْكَ الْمُدَّةَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ إِنْ كَانَ حَيًّا وَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ الْوَرَثَةِ إِنْ كَانَ مَيِّتًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فَهَذَانِ قِسْمَانِ يَخْتَلِفُ فِيهِمَا حُكْمُ الزَّوْجِ وَالْوَرَثَةِ وَإِنِ اتَّفَقَ حُكْمُهُمَا فِي تِلْكَ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ، وَقَدْ أَوْضَحْتُ مِنَ التَّعْلِيلِ الْمُوجِبِ لِلْفَرْقِ وَالتَّسْوِيَةِ مَا يَمْنَعُ مِنْ مُخَالَفَتِهِ لِيَسْلَمَ الْمُزَنِيُّ مِنْ خَطَأٍ فِي النَّقْلِ لِحَمْلِ مُرَادِهِ عَلَى مَا وَافَقَهُ مِنْ تِلْكَ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الزَّوْجِ وَوَرَثَتِهِ وَيَسْلَمَ أَصْحَابُنَا مِنَ الْوَهْمِ فِي الشُّبْهَةِ الدَّاخِلَةِ عَلَيْهِمْ فِي تَخْطِئَتِهِ لِحَمْلِ جَوَابِهِ عَلَى مَا وَافَقَهُ مِنَ الْقِسْمَيْنِ الْمُتَأَخِّرَيْنِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الزَّوْجِ وَوَرَثَتِهِ، وَقَدْ يَتَفَرَّعُ عَلَى الْأَقْسَامِ السِّتَّةِ أقسام لا تخرج عن أحكام الأقسام السنة إذا حقق تَعْلِيلُهَا فَاسْتُغْنِيَ بِالْمَذْكُورِ عَنِ الْمُغْفَلِ وَاللَّهُ وَلِيُّ التوفيق.

(مسألة)
قال الشافعي: " وَتَنْتَوِي الْبَدَوِّيةُ حَيْثُ يَنْتَوِي أَهْلُهَا لِأَنَّ سَكَنَ الْبَادِيَةِ إِنَّمَا هُوَ سُكْنَى مُقَامِ غِبْطَةٍ وَظَعْنِ غِبْطَةٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ: لِأَنَّ الْبَادِيَةَ تُخَالِفُ الْحَاضِرَةَ فِي السُّكْنَى مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: صِفَةُ الْمَسَاكِنِ؛ لِأَنَّ بُيُوتَ الْبَادِيَةِ خِيَامُ نُقْلَةٍ، وَبُيُوتَ الْحَاضِرَةِ أَبْنِيَةُ مُقَامٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ البادية ينتقلون للنجعة طلب الكلأ، وَالْحَاضِرَةَ يُقِيمُونَ فِي أَمْصَارِهِمْ مُسْتَوْطِنِينَ فَإِذَا طُلِّقَتِ الْبَدَوِيَّةُ اعْتَدَّتْ فِي الْبَيْتِ الَّذِي هُوَ مَسَكِنُهَا مِنْ خِيَامِ النُّقْلَةِ وَأَقَامَتْ فِيهِ مَا أَقَامَ قَوْمُهَا، فَإِنِ انْتَقَلُوا فَلَهُمْ سَبْعَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَنْتَقِلَ جَمِيعُ الْحَيِّ فَتَنْتَقِلَ بِانْتِقَالِهِمْ مُنْتَجِعَةً بِنَجِيعِهِمْ؛ لِأَنَّ فِي مُقَامِهَا بَعْدَهُمْ خَوْفًا عَلَيْهَا؛ وَلِأَنَّ حَالَ الْبَادِيَةِ هِيَ الْأَوْطَانُ لَا الْمَكَانُ.

(11/267)


وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَنْتَقِلَ رِجَالُهُمْ وَتُقِيمَ نِسَاؤُهُمْ لِحَرْبٍ يَقْصِدُونَهَا فَيَلْزَمُهَا أَنْ تُقِيمَ مَعَ نِسَائِهِمْ إذا آمن على أنفسن وَلِأَنَّ انْتِقَالَ الرِّجَالِ، فِي هَذِهِ الْحَالِ كَسَفَرِ الْحَاضِرَةِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَنْتَقِلَ نِسَاؤُهُمْ وَيُقِيمَ رِجَالُهُمْ لِخَوْفٍ مِنْ عَدُوٍّ يَقْصِدُهُمْ فَتَنْتَقِلُ هَذِهِ مَعَ النِّسَاءِ، وَلَا تُقِيمُ مَعَ الرِّجَالِ.
وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَنْتَقِلَ بَعْضُ الْحَيِّ، وَفِيهِ أَهْلُهَا وَأَهْلُ الزَّوْجِ وَيُقِيمَ بَاقِي الْحَيِّ وَلَيْسَ فِيهِ أَهْلُهَا وَلَا أَهْلُ الزَّوْجِ فَهَذِهِ تَنْتَقِلُ بِانْتِقَالِ أهلها ولا يقيم بِإِقَامَةِ غَيْرِهِمْ.
وَالْحَالُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يُقِيمَ أَهْلُهَا وَأَهْلُ الزَّوْجِ، وَيَنْتَقِلَ مَنْ عَدَاهُمْ فَهَذِهِ تُقِيمُ مَعَ الْمُقِيمِينَ مِنْ أَهْلِهَا وَلَا تَنْتَقِلُ مَعَ الْمُنْتَقِلِينَ مِنْ غَيْرِهِمْ.
وَالْحَالُ السَّادِسَةُ: أَنْ يَنْتَقِلَ أَهْلُهَا وَيُقِيمَ أَهْلُ الزَّوْجِ فَعَلَيْهَا أَنْ تُقِيمَ مَعَ أَهْلِ الزَّوْجِ وَلَا تَنْتَقِلَ مَعَ أَهْلِهَا؛ لِأَنَّهَا أَخَصُّ بِمَسْكَنِ الزَّوْجِ فِي الْعِدَّةِ مِنْ مَسْكَنِ أَهْلِهَا.
وَالْحَالُ السَّابِعَةُ: أَنْ يَنْتَقِلَ أَهْلُ الزَّوْجِ وَيُقِيمَ أَهْلُهَا فَتَكُونُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الِانْتِقَالِ مَعَ أَهْلِ الزَّوْجِ لِاخْتِلَاطِ بَيْتِهَا بِبُيُوتِهِمْ، أَوْ تُقِيمُ مَعَ أَهْلِهَا بِمَكَانِهِمْ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِمَكَانِ الطَّلَاقِ.

(مسألة)
قال الشافعي: " وَإِذَا دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تَخْرُجُ مِنَ الْبَذَاءِ عَلَى أَهْلِ زَوْجِهَا كَانَ الْعُذْرُ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى أَوْ أَكْثَرَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: لِأَنَّ أَحْكَامَ الْإِعْذَارِ مُخَالِفَةٌ لِأَحْكَامِ الْإِخْبَارِ.
وَالْإِعْذَارُ ضَرْبَانِ:
ضَرْبٌ يَجِبُ عَلَيْهَا الِانْتِقَالُ مَعَهُ، وَهُوَ مَا أَدَّى إِلَى الْخَوْفِ عَلَى نَفْسِهَا إِمَّا مِنْ تَلَفِ مُهْجَةٍ، وَإِمَّا مِنْ إِتْيَانِ فَاحِشَةٍ فَهَذِهِ تُؤْخَذُ بِالنُّقْلَةِ جَبْرًا لِتَحْصِينِ نَفْسِهَا، وَفَرَجِهَا.
وَضَرْبٌ يَجُوزُ لَهَا الِانْتِقَالُ مَعَهُ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ وَهُوَ مَا أَدَّى إِلَى الْخَوْفِ عَلَى مَالِهَا مِنْ تَلَصُّصٍ أَوْ أَذِيَّةِ جَارٍ فِي شَتْمٍ أَوْ سَفَهٍ فَتَكُونُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمُقَامِ وَالنُّقْلَةِ، وَلَا تُجْبَرُ عَلَى أَحَدِهِمَا مَعَ أَمْنِهَا عَلَى النَّفْسِ وَالْفَرْجِ.
(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي: " وَيُخْرِجُهَا السُّلْطَانُ فِيمَا يَلْزَمُهَا فَإِذَا فَرَغَتْ رَدَّهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا لَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِغْنَاءِ الْحُقُوقِ مِنْهَا، وَالْحُقُوقُ ضَرْبَانِ: حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى كَالْحُدُودِ، وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ كَالْأَمْوَالِ.
فَأَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى مَطَالِبِهِمْ، فَإِنْ أَخَّرُوهَا فِي الْعِدَّةِ كَانَتْ عَلَى حَالِهَا مُقِيمَةً إِلَى انْقِضَائِهَا، وَإِنْ طَالَبُوهَا بِحُقُوقِهِمْ لَمْ يُمْنَعُوا، فَإِنْ خَرَجَتْ إِلَيْهِمْ مِنْ حقوقهم في ديون قضتها، أو ودائع درتها أُقِرَّتْ فِي مَسْكَنِهَا، وَإِنِ اقْتَضَتِ الْمُحَاكَمَةُ

(11/268)


عِنْدَ التَّنَاكُرِ رُوعِيَ حَالُهَا، فَإِنْ كَانَتْ بَرَزَةً أَخْرَجَهَا السُّلْطَانُ لِلْمُحَاكَمَةِ ثُمَّ رَدَّهَا إِلَى الْعِدَّةِ بَعْدَ انْبِرَامِ الْحُكْمِ، وَإِنْ كَانَتْ خَفِرَةً أَنْفَذَ السُّلْطَانُ إِلَيْهَا مَنْ يَحْكُمُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ خُصُومِهَا فِي مَسْكَنِهَا كَمَا يُفْعَلُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ الْمُعْتَدَّةِ مِنِ اعْتِبَارِ الْبُرُوزِ وَالْخَفَرِ فِي إِخْرَاجِهَا وَإِقْرَارِهَا.
وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحُدُودِ فَيُعَجَّلُ اسْتِيفَاؤُهَا وَلَا يُؤَخَّرُ بِالْعِدَّةِ، وَإِنْ خَرَجَتْ بِالْمَرَضِ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَهَا فِي الْمَرَضِ مُفْضٍ إِلَى تَلَفِهَا بِخِلَافِ الْعِدَّةِ، فَإِذَا أَرَادَ السُّلْطَانُ اسْتِيفَاءَ الْحُدُودِ مِنْهَا رُوعِيَ حَالُهَا أَيْضًا فِي الْبُرُوزِ وَالْخَفَرِ، فَإِنْ كَانَتْ خَفِرَةً أَقَامَ الْحَدَّ عَلَيْهَا فِي مَنْزِلِهَا فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا أُنَيْسُ اغْدُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا " وَإِنْ كَانَتْ بَرَزَةً أَخْرَجَهَا لِإِقَامَةِ الحد عليها قوله تَعَالَى {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] وَالزِّنَا مِنْ أَكْبَرِ الْفَوَاحِشِ فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ بِمَا فِي الزِّنَا فَكَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ وَالْأَقْرَاءِ رُجِمَتْ، وَلَمْ يُنْتَظَرْ بِهَا انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ وَالْعِدَّةُ مَوْضُوعَةٌ لِمَنْعِهَا مِنَ الْأَزْوَاجِ وَرَجْمُهَا أَمْنَعُ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْحَمْلِ أُخِّرَتْ حَتَّى تَضَعَ أَوْ يَنْفَشَّ حَمْلُهَا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يُقَامُ عَلَى حَامِلٍ، وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا فِي الزِّنَا جُلِدَتْ، وَإِنْ كانت حائلاً وفي تَغْرِيبِهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا تغرب إلى بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ تَغْلِيبًا لِحَقِّ الزَّوْجِ فِي تَحْصِينِ مَائِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُغَرَّبُ حَوْلًا إِلَى أَحْصَنِ الْمَوَاضِعِ وَيُرَاعَى تَحْصِينُهَا فِي التَّغْرِيبِ فِي بَقِيَّةِ الْعِدَّةِ، فَإِنِ اسْتَكْمَلَتْ حَوْلَ التَّغْرِيبِ قَبْلَ انقضاء العدة وجب رَدُّهَا إِلَى مَنْزِلِهَا لِتَقْضِيَ فِيهِ بَقِيَّةَ الْعِدَّةِ.

(مسألة)
قال الشافعي: " وَيُكْتَرَى عَلَيْهِ إِذَا غَابَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ فِي السُّكْنَى حَقًّا لَهَا فِي الْمَسْكَنِ وَحَقًّا عَلَيْهَا فِي الْمُقَامِ فِيهِ، فَإِنْ مَلَكَ الزَّوْجُ مَسْكَنًا لَزِمَهُ إِقْرَارُهَا فِيهِ إِذَا كَانَ فِيهِ طَلَاقُهَا، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ مَسْكَنًا اكْتَرَاهُ بِمَالِهِ إِنْ حَضَرَ، وَاكْتَرَاهُ السُّلْطَانُ عَلَيْهِ إِنْ غَابَ إِذَا وَجَدَ لَهُ مَالًا؛ لِأَنَّ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْحُقُوقَ مِمَّنْ غَابَ عَنْهَا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ مَالًا اقْتَرَضَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِيهِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
إِمَّا أَنْ يَقْتَرِضَ عَلَيْهِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ فَيَكُونَ دَيْنًا عَلَى الزَّوْجِ يَأْخُذُهُ بِأَدَائِهِ إِذَا قَدِمَ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا فِي اكْتِرَاءِ مَسْكَنٍ تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِأُجْرَتِهِ إِذَا قَدِمَ، وَبَيْنَ أَنْ يُقْرِضَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أُجْرَةَ مَسْكَنٍ يُطَالِبُهُ بِهِ إِذَا حَضَرَ، فَإِنْ كَانَ السُّلْطَانُ هُوَ الْمُقْتَرِضَ عَلَيْهِ، إِمَّا مِنْ أَجْنَبِيٍّ أَوْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ اكْتَرَى لَهَا مَسْكَنًا تَرْضَاهُ لِنَفْسِهَا، وَلَا يَجُوزُ فِي الْحَالَيْنِ أَنْ تَتَجَاوَزَ بِهِ مَسْكَنَ مِثْلِهَا.

(11/269)


(مسألة)
قال الشافعي: " وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا بِالْمَدِينَةِ فِيمَا مَضَى أَكْرَى مَنْزِلًا إِنَّمَا كَانُوا يَتَطَوَّعُونَ بِإِنْزَالِ مَنِازِلِهِمْ وَبِأَمْوَالِهِمْ مَعْ مَنَازِلِهِمْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالَّذِي أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِذَلِكَ أَنَّ الْحَاكِمَ يَكْتَرِي عَلَى الْغَائِبِ مَسْكَنًا إِذَا لَمْ يَجِدْ مُتَطَوِّعًا بِمَسْكَنٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَإِنْ لَمْ يَكْتَرِ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ مَسْكَنًا عَلَى زَوْجِهَا وَلَا فَعَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ بَعْدَهُ، فَلِأَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ كَانُوا يَتَطَوَّعُونَ بِإِعَارَةِ مَنَازِلِهِمْ وَلَا يَكْرُونَهَا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ فِي زَمَانِنَا مَوْجُودًا فِي عُرْفِ بَعْضِ الْبِلَادِ اسْتَعَارَهُ الْحَاكِمُ لَهَا وَلَمْ يَكْتَرِهِ عَلَى زَوْجِهَا، وَإِنَّمَا اكْتَرَاهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ مُعِيرًا وَسَوَاءٌ وُجِدَ الْمُعِيرُ فِي بَلَدٍ عُرْفُهُ الْعَارِيَةُ أَوِ الْكِرَاءُ، وَأَمَّا الزَّوْجُ إِذَا طَلَّقَهَا وَهِيَ فِي مَسْكَنٍ مُعَارٍ فَأَرَادَ نَقْلَهَا مِنْهُ إِلَى مَسْكَنٍ يَكْتَرِيهِ، فَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ عُرْفُ أَهْلِهِ الْعَارِيَةُ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَقْلُهَا مِنْهُ مَا لَمْ يَرْجِعْ أَهْلُهُ فِي إِعَارَتِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ عُرْفُ أَهْلِهِ الْكِرَاءُ فَفِي جَوَازِ نَقْلِهَا مِنْهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ نَقْلُهَا مَا لَمْ يَرْجِعْ أَهْلُهُ فِي إِعَارَتِهِ كَالْبَلَدِ الْمَعْهُودِ إِعَارَتُهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ نَقْلُهَا مِنْهُ كَيْ لَا يَلْحَقَهُ مِنَ الْمِنَّةِ فِيهِ مَا لَا يَلْحَقُهُ فِي الْبَلَدِ الْمَعْهُودِ إِعَارَتُهُ.
(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي: " وَلَوْ تَكَارَتْ فَإِنَّ الْكِرَاءَ كَانَ لَهَا مِنْ يَوْمِ تَطْلُبُهُ وَمَا مَضَى حَقُّ تَرِكَتِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا طَالَبَتِ الْمُعْتَدَّةُ بِالسُّكْنَى بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ حُكِمَ لَهَا بِسُكْنَى مَا بَقِيَ مِنَ الْعِدَّةِ، وَسَقَطَ حَقُّهَا فِيمَا مَضَى قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ هَذَا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَبْتُوتَةُ ذَاتَ حَمْلٍ وَطَالَبَتْ نَفَقَتَهَا بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِ الْمُدَّةِ حُكِمَ لَهَا بِنَفَقَةِ مَا مَضَى وَمَا بَقِيَ، وَهَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي نَفَقَةِ الْحَامِلِ فَخَالَفَ فِيمَا مَضَى بَيْنَ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَجْمَعُ بَيْنَ الْحَوْلَيْنِ، وَيُخَرِّجُ اخْتِلَافَ نَصِّهِ فِيهِمَا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُحْكَمُ لَهَا بِالسُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي النَّفَقَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُحْكَمُ لَهَا بِالسُّكْنَى وَلَا بِالنَّفَقَةِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي السُّكْنَى وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إِلَى حَمْلِ الْجَوَابِ مِنْهُمَا عَلَى ظَاهِرِهِ فَيُحْكَمُ لَهَا فِيمَا مَضَى بِالنَّفَقَةِ وَلَا يُحْكَمُ لَهَا بِالسُّكْنَى.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ السُّكْنَى تَشْتَمِلُ عَلَى حَقٍّ لَهَا، وَعَلَى حَقٍّ عَلَيْهَا لِأَنَّ لَهَا الْمَسْكَنَ وَعَلَيْهَا الْمُقَامُ، فَإِذَا تَرَكَتِ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهَا فِي تَحْصِينِ مَاءِ الزَّوْجِ حيث

(11/270)


يَشَاءُ، وَأَقَامَتْ حَيْثُ شَاءَتْ سَقَطَ الْحَقُّ الَّذِي لَهَا كَمَا أَسْقَطَتِ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْحَقَّيْنِ إِذَا تَقَابَلَا كَانَ سُقُوطُ أَحَدِهِمَا مُوجِبًا لِسُقُوطِ الْآخَرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ نَفَقَةُ الْحَامِلِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهَا تَفَرَّدَتْ بِهِ إِمَّا بِحَمْلِهَا، وَإِمَّا لَهَا لِأَجْلِ الْحَمْلِ، وَلَيْسَ مُقَابَلَةَ حَقٍّ عَلَيْهَا فَلَمْ يَسْقُطْ بِمُضِيِّ زَمَانِهِ لِوُجُودِ مَعْنَى اسْتِحْقَاقِهَا كَالدُّيُونِ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ لَا سُكْنَى لَهَا بِمَا مَضَى قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ، وَلَهَا السُّكْنَى فِيمَا بَقِيَ بَعْدَهَا، وَكَانَ زَوْجُهَا غَائِبًا أَتَتِ الْحَاكِمَ حَتَّى يَحْكُمَ لَهَا بِالسُّكْنَى لِيَكُونَ دَيْنًا لَهَا عَلَى الزَّوْجِ، فَإِنْ عَدَلَتْ عَنِ الْحَاكِمِ وَهِيَ قَادِرَةٌ عَلَيْهِ لَمْ تَرْجِعْ وَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى الْحَاكِمِ، وَلَمْ يَشْهَدْ عَلَى نَفْيِهَا بِالرُّجُوعِ لَمْ يَرْجِعْ وَإِنْ أَشْهَدَتْ عَلَى نَفْسِهَا أَنَّهَا تَتَكَارَى مَسْكَنًا عَلَى زَوْجِهَا فَفِي رُجُوعِهَا عَلَيْهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَرْجِعُ عَلَيْهِ لِلضَّرُورَةِ.
وَالثَّانِي: لَا تَرْجِعُ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ الْحَاكِمُ شَرْطًا فِيهِ لَمْ يَثْبُتْ مَعَ عَدَمِهِ كَالْعُنَّةِ. 0

(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَأَمَّا امْرَأَةُ صَاحِبِ السَّفِينَةِ إِذَا كَانَتْ مُسَافِرَةً معه فالمرأة الْمُسَافِرَةِ إِنْ شَاءَتْ مَضَتْ وَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ إِلَى مَنْزِلِهِ فَاعْتَدَّتْ بِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَانَ الزَّوْجُ صَاحِبَ سَفِينَةٍ فَسَافَرَ بِزَوْجَتِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا فَلَا يَخْلُو حَالُ صَاحِبِ السَّفِينَةِ مِنْ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَهُ مَسْكَنٌ غَيْرُ السَّفِينَةِ فِي بَلَدٍ مُسْتَوْطَنَةٍ إِذَا عَادَ مِنْ سَفَرِهِ فَتَكُونُ الْمُطَلَّقَةُ فِي عِدَّتِهَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تَعْتَدَّ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ إِذَا اتَّسَعَتْ وَبَيْنَ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى بَلَدِهِ فَتَعْتَدَّ فِي مَنْزِلِهِ، كَمَا قُلْنَا فِي الْمُسَافِرَةِ فِي الْبَرِّ إِذَا طُلِّقَتْ بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنْ بَلَدِهَا.
وَالثَّانِي: لَا يَكُونُ لَهَا مَسْكَنٌ غَيْرُ سَفِينَتِهِ فَهِيَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تَعْتَدَّ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ، وَبَيْنَ أَنْ تَصْعَدَ إِلَى الْبَرِّ فَتَعْتَدَّ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ ثُمَّ فِيهِ إِنْ صَعِدَتْ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّ لَهَا إِذَا صَعِدَتْ أَنْ تَعْتَدَّ فِي أَيِّ بَلَدٍ شَاءَتْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وهو اصح أنها تعتد من أقرب البلاد في الْمَوْضِعِ الَّذِي طَلَّقَهَا فيه.
فَأَمَّا مُقَامُهَا مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ فَمُعْتَبَرٌ بِحَالِ السَّفِينَةِ، فَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً كَالْمَرَاكِبِ الْبَحْرِيَّةِ إِذَا انْفَرَدَتْ فِي مَوْضِعٍ مِنْهَا، وَحَجَزَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَلَمْ تَقَعْ عَيْنُهُ عَلَيْهَا جَازَ أَنْ

(11/271)


تَعْتَدَّ مَعَهُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً لَا حَاجِزَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا ذُو مَحْرَمٍ جَازَ أَنْ تَعْتَدَّ فِيهَا إِذَا سَتَرَتْ عَنْهُ نَفْسَهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ لَمْ يَجُزْ كَالدَّارِ الصَّغِيرَةِ وَكَانَ عَلَيْهَا أَنْ تَصْعَدَ إِلَى الْأَرْضِ، فَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى الصُّعُودِ فَهِيَ حَالُ ضَرُورَةٍ فَتَعْتَدَّ فِيهَا.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ سُكْنَى الْمُعْتَدَّةِ فِي الْمَسْكَنِ الَّذِي يَجِبُ أَنْ تَعْتَدَّ فِيهِ فَأَرَادَتِ الْخُرُوجَ مِنْهُ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: خُرُوجُ نُقْلَةٍ فَلَا يَجُوزُ إِلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ يُخَافُ بِهَا عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ فَيَجُوزُ مَعَهَا الِانْتِقَالُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إِلَيْهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ لِحَاجَةٍ تَعُودُ عَلَيْهِ بَعْدَ قَضَائِهَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ أَوْ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ.
فَإِنْ كَانَتْ فِي عِدَّةِ وَفَاةٍ جَازَ أَنْ يُخْرَجَ بِهَا فِي حَوَائِجِهَا وَتَعُودَ لَيْلًا إِلَى مَسْكَنِهَا وَرَوَى مُجَاهِدٌ، قَالَ: اسْتُشْهِدَ رِجَالٌ يَوْمَ أُحُدٍ فَجَاءَ نِسَاؤُهُمْ، وَكُنَّ مُتَجَاوِرَاتٍ فِي دَارٍ فَجِئْنَ إِلَى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقُلْنَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَسْتَوْحِشُ اللَّيْلَ فَنَبِيتُ عِنْدَ إِحْدَانَا، فَإِذَا أَصْبَحْنَا تَبَدَّدْنَا إِلَى بُيُوتِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَحَدَّثْنَ عِنْدَ إِحْدَاكُنَّ مَا بَدَا لَكُنَّ، فَإِذَا أَرَدْتُنَّ النَّوْمَ فَلْتَأْتِ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْكُنَّ إِلَى بيتها " وإنما لم يفسح لهن في مفارقة منازلهن ليلا وفسح لَهُنَّ فِي مُفَارَقَتِهَا نَهَارًا، لِأَنَّ اللَّيْلَ زَمَانُ الْخَلَوَاتِ وَالِاسْتِخْفَاءِ بِالْفَوَاحِشِ فَمَنَعَهُنَّ تَحْصِينًا لَهُنَّ وَحِفْظًا لِمِيَاهِ أَزْوَاجِهِنَّ فِي زَمَانِ الْحَذَرِ مِنَ اللَّيْلِ، وَرَخَّصَ لَهُنَّ فِي زَمَانِ الْأَمْنِ مِنَ النَّهَارِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ بَاتٍّ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهَا لَيْلًا لِمَا ذَكَرْنَا، وَفِي جَوَازِ خُرُوجِهَا نَهَارًا لِلْحَاجَةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَخْرُجَ نَهَارًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ مَالِكٍ يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ نَهَارًا، وَإِنْ لَمْ يُسْتَحَبَّ كَالْمُتَوَفَّى عنها زوجها؛ لِمَا رَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ: طُلِّقَتْ خَالَتِي، فَأَرَادَتْ أَنْ تَجُدَّ نَخْلَهَا فَزَجَرَهَا رَجُلٌ عَنِ الْخُرُوجِ فَأَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: بَلَى فَجُدِّيَ نَخْلَكِ فَلَعَلَّكِ أَنْ تَتَصَدَّقِي أَوْ تَفْعَلِي خَيْرًا مَعْرُوفًا قَالَ الشَّافِعِيُّ: نَخْلُ الْأَنْصَارِ قَرِيبٌ مِنْ مَنَازِلِهِمْ وَالْجُدَادُ يَكُونُ نَهَارًا فَأَذِنَ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(11/272)


(باب الإحداد) (من كتابي العدد القديم والجديد)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَمَّا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تَحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا " وَكَانَتْ هِيَ وَالْمُطَلَّقَةُ الَّتِي لَا يَمْلِكُ زَوْجُهَا رَجْعَتَهَا مَعًا فِي عِدَّةٍ وَكَانَتَا غَيْرَ ذَوَاتَيْ زَوْجَيْنِ أَشْبَهَ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ إِحْدَادٌ كَهُوَ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ فَأُحِبُّ ذَلِكَ لَهَا وَلَا يَبِينُ أَنْ أُوجِبَهُ عَلَيْهَا لِأَنَّهُمَا قَدْ تَخْتَلِفَانِ فِي حَالٍ وَإِنِ اجْتَمَعَتَا فِي غَيْرِهِ وَلَوْ لَمْ يَلْزَمِ الْقِيَاسُ إِلَّا بَاجْتِمَاعِ كُلِّ الْوُجُوهِ بَطَلَ الْقِيَاسُ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ جَعَلَهُمَا فِي الْكِتَابِ الْقَدِيمِ فِي ذَلِكَ سَوَاءً وَقَالَ فِيهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْإِحْدَادُ فَهُوَ الِامْتِنَاعُ وَالزِّينَةُ مِنْ لِبَاسٍ وَغَيْرِ لِبَاسٍ إِذَا كَانَ يَبْعَثُ عَلَى شَهْوَةِ الرِّجَالِ لَهَا، وَسُمِّيَ إِحْدَادًا لِمَا فِيهِ مِنَ الِامْتِنَاعِ كَمَا سُمِّيَ الْحَدِيدُ حَدِيدًا؛ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ بِهِ وَسُمِّيَ حَدَّ الزِّنَى؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ مُعَاوَدَتِهِ فَلَا يَجِبُ الْإِحْدَادُ عَلَى غَيْرِ مُعْتَدَّةٍ.
فَأَمَّا الْمُعْتَدَّاتُ فَثَلَاثٌ، مُعْتَدَّةٌ يَجِبُ الْإِحْدَادُ عَلَيْهَا، وَمُعْتَدَّةٌ لَا يَجِبُ الْإِحْدَادُ عَلَيْهَا وَمُعْتَدَّةٌ مُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِ الْإِحْدَادِ عَلَيْهَا.
فَأَمَّا الْمُعْتَدَّةُ الَّتِي يَجِبُ الْإِحْدَادُ عَلَيْهَا فَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَيَجِبُ الْإِحْدَادُ عَلَيْهَا، قَالَ جَمِيعُ الْفُقَهَاءِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالشَّعْبِيِّ أَنَّ الْإِحْدَادَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهَا لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ لَمَّا أَتَاهَا نَعْشُ زَوْجِهَا جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " تَسَلَّبِي ثَلَاثًا " فَدَلَّ عَلَى اقْتِصَارِهِ بِنَاءً عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَنَّ مَا عَدَاهَا غَيْرُ وَاجِبٍ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهِ فِي الْعِدَّةِ بِأَسْرِهَا مَا رَوَاهُ حُمَيْدُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، وَهِيَ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ حِينَ تُوُفِّيَ أَبُوهَا أَبُو سُفْيَانَ فَدَعَتْ بِطِيبٍ فِيهِ صُفْرَةُ خَلُوقٍ فَمَسَّتْ بِعَارِضَيْهَا ثُمَّ قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أَنِّي

(11/273)


سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أن تحد على ميت فوق ثلاث لَيَالٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.
قالت زينب، دخلت على زينب بنت جحش - رضي الله عنها - حِينَ تُوُفِّيَ أَخُوهَا فَدَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَّتْ مِنْهُ، وَقَالَتْ وَاللَّهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: " لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أن تحد على مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ".
قَالَتْ زَيْنَبُ: فَسَمِعْتُ أُمِّي أُمَّ سَلَمَةَ تَقُولُ جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالت يا رسول الله إن بنتي توفي زَوْجُهَا، وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا فَنَكْحُلُهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ لَا، ثُمَّ قَالَ: " إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرِ وَعَشْرٌ، وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ " قَالَ حُمَيْدٌ، قُلْتُ: لِزَيْنَبَ مَا تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ فَقَالَتْ زَيْنَبُ كَانْتِ الْمَرْأَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا دَخَلَتْ حِفْشًا، وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا، وَلَمْ تَمَسَّ طِيبًا وَلَا شَيْئًا حَتَّى يَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ ثُمَّ تَأْتِي بِدَابَّةٍ أَوْ حِمَارٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ طَائِرٍ فَقَلَّمَا تَقْبِضُ بِشَيْءٍ إِلَّا مَاتَ يَعْنِي لِطُولِ أَظْفَارِهَا، ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعْرَةً فَتَرْمِي بِهَا ثُمَّ تُرَاجِعُ بَعْدُ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا، وَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ تَدُلُّ كُلُّهَا عَلَى وُجُوبِ الْإِحْدَادِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَقَدْ فَسَّرَ الشَّافِعِيُّ مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْغَرِيبِ فَقَالَ: " الْحِفْشُ هُوَ الْبَيْتُ الصَّغِيرُ الذَّلِيلُ مِنَ الشعر والبناء وغيره ".
وقال الأزهري: " وهو الْبَيْتُ الصَّغِيرُ السُّمْكِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ هَلَّا جَلَسَ فِي حِفْشِ أُمِّهِ " وَسُمِّيَ حِفْشًا لِصِغَرِهِ. وَأَنَّهُ يَجْمَعُهَا، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْمَرْأَةِ حَفَشَتْ زَوْجَهَا إِذَا حَلَّلَتْهُ بِنَفْسِهَا.
وَقِيلَ لِلزَّوْجِ الْحِفْشُ وَقَوْلُهَا: فَتَقْبِضُ فِي رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ الْقَبْضُ بِالْكَفِّ، وَرَوَى غَيْرُهُ فَتَقْتَضُّ الْقَضَّ مِنَ الَّذِي هُوَ الْكَسْرُ لأن القبض الذي هو الأخذ بالكف يؤول إِلَى الْقَضِّ الَّذِي هُوَ الْكَسْرُ فَعَبَّرَ عَنْهُ بما يؤول إِلَيْهِ، وَأَمَّا الْبَعْرَةُ فَفِي إِلْقَائِهَا تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ تَأْوِيلُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تُرِيدُ بِإِلْقَائِهَا أَنَّهَا قَدْ أَلْقَتْ حُقُوقَهُ عَنْهَا بِأَدَائِهَا كَإِلْقَاءِ الْبَعْرَةِ.
وَالثَّانِي: تَعْنِي بِإِلْقَائِهَا أَنَّ مَا مَضَى عَلَيْهَا مِنْ بُؤْسِ الْحَوْلِ هَيِّنٌ فِي وُجُوبِ حَقِّهِ كَهَوَانِ الْبَعْرَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ لِأَسْمَاءَ: " تَسَلَّبِي ثَلَاثًا " فَهُوَ مَحْمُولٌ إِنْ صَحَّ عَلَى أَنَّهُ كَرَّرَ الْقَوْلَ عَلَيْهَا تَسَلَّبِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَأْكِيدًا لِأَمْرِهِ فقد كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَفْعَلُ ذَلِكَ كَثِيرًا وَفِي مَعْنَى تَسَلَّبِي تَأْوِيلَانِ:

(11/274)


أَحَدُهُمَا: نَزْعُ الْحُلِيِّ وَالزِّينَةِ حَكَاهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَالثَّانِي: لُبْسُ الثِّيَابِ السُّودِ، وَهِيَ تُسَمَّى السِّلَابَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
(يَخْمِشْنَ حُرَّ أَوْجُهٍ صِحَاحٍ ... فِي السُّلُبِ السُّودِ وَفِي الْأَمْسَاحِ)

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الَّتِي لَا إِحْدَادَ عَلَيْهَا فَهِيَ الرَّجْعِيَّةُ لَا يَجِبُ الْإِحْدَادُ عَلَيْهَا، لِأَنَّهَا زَوْجَةٌ تَجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُ الزَّوْجَاتِ، وَفِي اسْتِحْبَابِ الْإِحْدَادِ لَهَا وجهان:
أحدهما: يستحب لها ليظهر بالإحداد أسفاً عَلَيْهِ فَيَحْنُوَ عَلَيْهَا، وَيَرْغَبَ فِي مُرَاجَعَتِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُسْتَحَبُّ لَهَا، وَتُنْدَبُ إِلَى التَّصَنُّعِ لَهُ بِالزِّينَةِ لِيَمِيلَ إِلَيْهَا فَيَرْغَبَ فِي مُرَاجَعَتِهَا.
(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِي وُجُوبِ الْإِحْدَادِ عَلَيْهَا فَهِيَ الْمَبْتُوتَةُ، وَالْمُخْتَلِعَةُ، وَالْمُلَاعِنَةُ فَالْإِحْدَادُ مُسْتَحَبٌّ لَهُنَّ وَفِي وُجُوبِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيِّ أَنَّ الْإِحْدَادَ فِي عِدَّةِ الْبَنَاتِ وَاجِبٌ كَوُجُوبِهِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ لِأَنَّهُمَا عِدَّتَانِ عَنْ نِكَاحٍ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِمَا فِيهَا لِزَوْجٍ؛ وَلِأَنَّ عِدَّةَ الْمَبْتُوتَةِ أَغْلَظُ مِنْ عِدَّةِ الْوَفَاةِ؛ لِأَنَّهَا تُمْنَعُ مِنَ الْخُرُوجِ نَهَارًا وَلَا تُمْنَعُ مِنْ عِدَّةِ الْوَفَاةِ فَكَانَتْ بِالْإِحْدَادِ أَوْلَى.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا إِحْدَادَ عَلَيْهَا كَالرَّجْعِيَّةِ لِأَنَّهَا فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ؛ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ مَوْضُوعٌ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ اسْتَنْكَحَهُ المرض إذا دوامه فَإِذَا مَاتَ عَنْهَا فَقَدِ اسْتَوْفَى مُدَّةَ نِكَاحِهِ فَوَجَبَ الْإِحْدَادُ فِي عِدَّتِهِ لِرِعَايَةِ حُرْمَتِهِ، وَخَالَفَ الْمَبْتُوتَةَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَبَى عِصْمَتَهَا فَلَمْ يَجِبِ الْإِحْدَادُ فِي عِدَّتِهِ لِقَطْعِ حُرْمَتِهِ.
(فَصْلٌ)
فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَاعْتَرَضَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي فُرْقَةِ الْإِحْدَادِ بَيْنَ عِدَّةِ الْمَوْتِ وَعِدَّةِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ يَخْتَلِفَانِ فِي حَالٍ وَإِنِ اجْتَمَعَا فِي غَيْرِهِ فَأَنْكَرَ الْمُزَنِيُّ هَذَا التَّعْلِيلَ فِي فُرْقَتِهِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُمَا قَدْ يَخْتَلِفَانِ فِي حَالٍ إِذَا اجْتَمَعَا فِي أُخْرَى فَقَالَ: كُلُّ مَا قِيسَ عَلَى أَصْلٍ فَهُوَ مُشْتَبِهٌ لَهُ مِنْ وَجْهٍ وَإِنْ خَالَفَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَجَعَلَ الْمُزَنِيُّ اجْتِمَاعَهُمَا فِي حَالٍ يُوجِبُ اشْتِرَاكَهُمَا وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي أُخْرَى ثُمَّ قَالَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْقِيَاسِ إِلَّا بِاجْتِمَاعِ كُلِّ الْوُجُوهِ لَبَطَلَ الْقِيَاسُ.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنْ يُقَالَ لِلْمُزَنِيِّ: أَمَّا آخِرُ كَلَامِكَ فِي أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقِيَاسِ

(11/275)


اجْتِمَاعُ كُلِّ الْوُجُوهِ فَصَحِيحٌ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاكَ الشَّيْئَيْنِ الْمَتْبُوعَيْنِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ مُمْتَنِعٌ وَلَوِ اشْتَرَكَا لَمْ يَتَنَوَّعَا، وَأَمَّا أَوَّلُ كَلَامِكَ فِي اعْتِرَاضِكَ فَلَيْسَ إِذَا اجْتَمَعَ الشَّيْئَانِ مِنْ وَجْهٍ وَاخْتَلَفَا من جوه وَجَبَ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ لِأَجْلِ الِاجْتِمَاعِ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا فِيهِ لِأَجْلِ الِاخْتِلَافِ عَلَى إِرْسَالِ هَذَا الْقَوْلِ وَإِطْلَاقِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ غُلِّبَ حُكْمُ الِاجْتِمَاعِ لِمَا اخْتَلَفَ حُكْمَانِ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ شَيْء فِي الْعَالَمِ إِلَّا وَقَدْ يشتركان في الحدوث، ولو غُلِّبَ حُكْمُ الِاخْتِلَافِ لِمَا اجْتَمَعَ حُكْمَانِ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ نَوْعٍ إِلَّا وَقَدْ يُخَالِفُ غَيْرَهُ، وَإِنَّمَا يُجْمَعُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إِذَا اجْتَمَعَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي غَيْرِهِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إِذَا اخْتَلَفَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ وَإِنِ اجْتَمَعَا فِي غَيْرِهِ، وَهَذَا هُوَ مُرَادُ الشَّافِعِيِّ فَلَمْ يَكُنْ لِاعْتِرَاضِ الْمُزَنِيِّ عَلَيْهِ وَجْهٌ، فَإِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ فِي وُجُوبِ الْإِحْدَادِ فِي الْعِدَّةِ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ الْبَائِنَةِ عَنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ فِي الْعِدَّتَيْنِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، وَإِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ لَزِمَ فِي عِدَّةِ الْمَوْتِ، وَلَمْ يَلْزَمْ فِي عِدَّةٍ الطَّلَاقِ عَلَى مَا رَجَّحَهُ الشَّافِعِيُّ.

(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا تَجْتَنِبُ الْمُعْتَدَّةُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَأُمُّ الْوَلَدِ مَا تَجْتَنِبُ الْمُعْتَدَّةُ وَيَسْكُنَّ حَيْثُ شِئْنَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَالْكَلَامُ فِيهَا يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ وَوَطْءِ شُبْهَةٍ لَا إِحْدَادَ عَلَيْهِمَا، وَكَذَلِكَ أُمُّ الْوَلَدِ بَعْدَ مَوْتِ سَيِّدِهَا، وَالْأَمَةُ الْمُسْتَبْرَأَةُ فِي مِلْكٍ؛ لِأَنَّ الْإِحْدَادَ فِيهَا تَأَكَّدَتْ حُرْمَتُهُ مِنْ عُقُودِ الْمَنَاكِحِ الصَّحِيحَةِ رِعَايَةً لِحَقِّ الزَّوْجِ وَحِفْظًا لِحُرْمَتِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَقْصُودٌ فِيمَنْ ذَكَرْنَا من غير الزوجات حكمهن فِي الْإِحْدَادِ.
وَالْفَصْلُ الثَّانِي: فِي السُّكَّنْى فَلَا سُكْنَى لِلْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ وَلَا لِلْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا فَاسِدًا لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبِ السُّكْنَى قَبْلَ الْعِدَّةِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجِبَ فِي الْعِدَّةِ وَكَذَلِكَ أُمُّ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبِ السُّكْنَى قَبْلَ الْعِدَّةِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجِبَ فِي الْعِدَّةِ وَكَذَلِكَ أُمُّ الْوَلَدِ لَا سُكْنَى لَهَا؛ لِأَنَّ سُكْنَاهَا وَجَبَ بِالرِّقِّ فَسَقَطَ بِالْعِتْقِ وَإِذَا لم يكن لهن سكنى سكن حَيْثُ شِئْنَ فَإِنْ أَحَبَّ الْوَاطِئُ بِشُبْهَةٍ أَوْ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ، تَحْصِينَ مَائِهِ فَبَذَلَ السُّكْنَى أُجْبِرَتِ
الْمُعْتَدَّةُ عَلَى السُّكْنَى حَيْثُ شَاءَ الْوَاطِئُ، وَكَذَلِكَ وَرَثَةُ السَّيِّدِ فِي أُمِّ الْوَلَدِ إِذَا بَذَلُوا سُكْنَاهَا لِتَحْصِينِهَا سَكَنَتْ حَيْثُ شَاءُوا لِئَلَّا تُدْخِلَ عَلَيْهِمْ نَسَبًا لَيْسَ مِنْهُمْ.
(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنَّمَا الْإِحْدَادُ فِي الْبَدَنِ وَتَرْكِ زِينَةِ الْبَدَنِ وَهُوَ أَنْ تُدْخِلَ عَلَى الْبَدَنِ شَيْئًا مِنْ غَيْرِهِ أَوْ طِيبًا يَظْهَرُ عَلَيْهَا فَيَدْعُوَ إِلَى شهوتها "

(11/276)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّ الْإِحْدَادَ مُخْتَصٌّ بِالْبَدَنِ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ إِدْخَالِ الزِّينَةِ عَلَيْهِ الَّتِي تَتَحَرَّكُ بِهَا شَهْوَةُ الْجِمَاعِ، إِمَّا شَهْوَتُهَا لِلرِّجَالِ، وَإِمَّا شَهْوَةُ الرِّجَالِ لَهَا؛ لِأَنَّهُ لما حرم نكاحها ووطئها حرم دواعيها كالمحرمة ودواعيها مَا اخْتَصَّ بِالْبَدَنِ لَا مَا فَارَقَهُ مِنْ مَسْكَنٍ وَفَرْشٍ؛ لِأَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهَا فِي اسْتِحْسَانِ مَا سَكَنَتْ وَافْتَرَشَتْ، وَإِنَّمَا الْحَرَجُ فِيمَا زَيَّنَتْ بِهِ بَدَنَهَا وَتَحَرَّكَتْ بِهِ الشَّهْوَةُ لَهَا وَمِنْهَا فَوَافَقَتِ الْمُحْرِمَةَ فِي حَالٍ وَفَارَقَتْهَا فِي حَالٍ، فَأَمَّا حَالُ الْمُوَافِقَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَحْرِيمُ الِاسْتِبَاحَةِ بِوَطْءٍ أَوْ عَقْدٍ.
وَالثَّانِي: حَظْرُ مَا حَرَّكَ الشَّهْوَةَ مِنْ طِيبٍ وَتَرْجِيلٍ. وَأَمَّا حَالُ الْمُفَارَقَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي مَعْنَى الْحَظْرِ، وَأَنَّهُ فِي الْمُحْرِمَةِ مَا أَزَالَ الشَّعَثَ، وَلِذَلِكَ مُنِعَتْ مِنْ أَخْذِ الشَّعْرِ وَتَقْلِيمِ الْأَظَافِرِ وَأُبِيحَ لَهَا الْحُلِيُّ وَالزِّينَةُ، وَمَعْنَى الْحَظْرِ فِي الْمُعْتَدَّةِ اسْتِعْمَالُ الزِّينَةِ، وَلِذَلِكَ مُنِعَتْ مِنَ الْحُلِيِّ وَزِينَةِ الثِّيَابِ، وَأُبِيحُ لَهَا أَخْذُ الشَّعْرِ وَتَقْلِيمُ الْأَظَافِرِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَحْظُورَ عَلَى الْمُحْرِمَةِ يُوجِبُ الْفِدْيَةَ عَلَيْهَا وَالْمَحْظُورَ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ لَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَذِنَ لِأُمِّ سَلَمَةَ فِي إِحْدَادِهَا أَنْ تَكْتَحِلَ بِالصَّبِرِ لَيْلًا وَتَمْسَحَهُ نَهَارًا، وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِالْفِدْيَةِ وَأَذِنَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أَنْ يَحْلِقَ شَعْرَهُ فِي إِحْرَامِهِ، وَأَمَرَهُ بِالْفِدْيَةِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى أَنَّ الْفِدْيَةَ فِي الْإِحْرَامِ لَمَّا وَجَبَتْ فِي فَاسِدِهِ وَجَبَتْ فِي مَحْظُورَاتِهِ، وَلَمَّا لَمْ تَجِبِ الْفِدْيَةُ فِي فَاسِدِ الْعِدَّةِ لَمْ تَجِبْ فِي مَحْظُورَاتِهَا، وَسَنَصِفُ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْدَادِ كَمَا وَصَفْنَا كُلَّ نَوْعٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ الإحرام.

(مسألة)
قال المزني رحمه الله تعالى: " فَمِنْ ذَلِكَ الدُّهْنُ كُلُّهُ فِي الرَّأْسِ وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ الْأَدْهَانِ فِي تَرْجِيلِ الشَّعْرِ وِإِذْهَابِ الشَّعَثِ سَوَاءٌ وَهَكَذَا الْمُحْرِمُ يَفْتَدِي بِأَنْ يَدْهِنَ رَأْسَهُ أَوْ لِحْيَتَهُ بِزَيْتٍ لِمَا وَصَفْتُ وَأَمَّا مَدُّ يَدَيْهَا فَلَا بَأْسَ إِلَّا الطِّيبَ كَمَا لَا يَكُونُ بِذَلِكَ بَأْسٌ لِلْمُحْرِمِ وَإِنْ خَالَفَتِ الْمُحْرِمَ فِي بَعْضِ أَمْرِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الدُّهْنُ فَمِمَّا تَسْتَوِي فِيهِ الْمُعْتَدَّةُ وَالْمُحْرِمَةُ لِوُجُودِ مَعْنَاهُمَا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يُحْدِثُ الزِّينَةَ فَمُنِعَتْ مِنْهُ الْمُعْتَدَّةُ وَيُزِيلُ الشَّعَثَ فَمُنِعَتْ مِنْهُ الْمُحْرِمَةُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: طِيبٍ، وَغَيْرِ طيب فأما الطيب فنوعان: مَا كَانَ طِيبًا لِذَاتِهِ كَالْبَانِ.
الثَّانِي: مَا أُدْخِلَ عَلَيْهِ الطِّيبُ كَالْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ، وَهُمَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ، وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ أَنْ تَسْتَعْمِلَهُ فِي الشَّعْرِ وَالْبَدَنِ؛ لِأَنَّهُ طِيبٌ وَتَرْجِيلٌ.

(11/277)


وَأَمَّا غَيْرُ الطِّيبِ فَكَالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهَا اسْتِعْمَالُهُ فِي تَرْجِيلِ الشَّعْرِ لِمَا يُحْدِثُ فِيهِ مِنْ حُسْنِ مَنْظَرِهِ، وَشِدَّةِ بَصِيصِهِ وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا اسْتِعْمَالُهُ فِي بَدَنِهَا؛ لِأَنَّ فِيهِ تَنْمِيسَ الْبَدَنِ وَاجْتِذَابَ الْوَسَخِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ زِينَةٌ تُمْنَعُ بِهِ الْمُعْتَدَّةُ وَلَا إِزَالَةُ الشَّعَثِ تُمْنَعُ بِهِ الْمُحْرِمَةُ، فَلَوْ قَرِعَ رَأْسُهَا حَتَّى ذَهَبَ شَعْرُهَا جَازَ أَنْ تَسْتَعْمِلَهُ فِي رَأْسِهَا كَمَا تَسْتَعْمِلُهُ فِي بَدَنِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِذَهَابِ الشَّعْرِ كَالْبَدَنِ وَلَوْ حَلَقَتْهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَدْهِنَهُ؛ لِأَنَّ شَعْرَهَا يَنْبُتُ بَصِيصًا مُرَجَّلًا، وَلَوْ نَبَتَ فِي وَجْهِهَا شَعْرُ لِحْيَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَسْتَعْمِلَهُ فِيهَا وَإِنْ نُفِخَتْ بِاللِّحْيَةِ لِمَا فِي الدُّهْنِ مِنْ تَرْجِيلِهَا وَبَصِيصِ شَعْرِهَا.

(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي رحمه الله تعالى: {وَكُلُّ كُحْلٍ كَانَ زِينَةً فَلَا خَيْرَ فِيهِ لَهَا فَأَمَّا الْفَارِسِيُّ وَمَا أَشْبَهَهُ إِذَا احْتَاجَتْ إِلَيْهِ فَلَا بَأْسَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزِينَةٍ بَلْ يَزِيدُ الْعَيْنَ مَرَهًا وَقُبْحًا وَمَا اضْطُرَّتْ إِلَيْهِ مِمَّا فِيهِ زِينَةٌ مِنَ الْكُحْلِ اكْتَحَلَتْ بِهِ لَيْلًا وَتَمْسَحُهُ نَهَارًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَحَظْرُ الْكُحْلِ مُخْتَصٌّ بِالْمُعْتَدَّةِ دُونَ الْمُحْرِمَةِ؛ لِأَنَّهُ زِينَةٌ وَلَا يُزِيلُ الشَّعَثَ، وَهُوَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا فِيهِ زِينَةٌ كَالْإِثْمِدِ وَهُوَ الْأَسْوَدُ وَالصَّهْرُ وَهُوَ الْأَصْفَرُ فَهُوَ زِينَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَسْوَدَ يَصِيرُ عِنْدَ الِاكْتِحَالِ بِهِ كَالْخُطَّةِ السَّوْدَاءِ فِي أُصُولِ أَهْدَابِ الْعَيْنَيْنِ بَيْنَ بَيَاضَيْنِ، بَيَاضِ الْعَيْنِ، وبياض المحاجز فَصَارَ تَحْسِينًا لَهَا وَزِينَةً، فَأَمَّا الْأَصْفَرُ فَإِنَّهُ يُصَفِّرُ مَوْضِعَهُ وَيُحَسِّنُهُ كَالْخِضَابِ فَلِأَجْلِ الزِّينَةِ مُنِعَتْ مِنْهُ الْمُعْتَدَّةُ، رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: جَاءَتِ امرأة إلى النبي فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّ بِنْتِي تُوُفِّيَ زَوْجُهَا عَنْهَا وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنَيْهَا فَنَكْحُلُهَا، فَقَالَ: لَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ لَا وَلِأَنَّ التَّزَيُّنَ بِذَلِكَ مِمَّا يَعْطِفُ أَبْصَارَ الرَّجُلِ فَيَدْعُوهُمْ إِلَى شَهْوَتِهَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مِنْهُ مَا لَا زِينَةَ فِيهِ كَالْفَارِسِيِّ، وَهُوَ الْأَبْيَضُ مِنَ الْبُرُودِ وَالْعَنْزَرُوتِ وَالتُّوتْيَا فَلَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِهِ لِأَنَّهُ لَا تَحْسِينَ فِيهِ بَلْ يَزِيدُ الْعَيْنَ مَرَهًا وَقُبْحًا، وَلَا وَجْهَ لِمَا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِنَّهُ زِينَةٌ لِبِيضِ النِّسَاءِ، وَلَيْسَ بِزِينَةٍ لِسُمْرِهِنَّ وَسُودِهِنَّ كَنِسَاءِ مَكَّةَ فَيُمْنَعُ مِنْهُ الْبِيضُ وَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ السُّمْرُ وَالسُّودُ، بَلْ هُوَ فِي جَمِيعِ النِّسَاءِ إِلَى اخْتِلَافِ أَلْوَانِهِنَّ مُبَاحٌ، وَلَوِ اخْتَلَفَ حُكْمُهُ لِاخْتِلَافِ الْأَلْوَانِ لِلنِّسَاءِ لَكَانَ الْأَبْيَضُ بِالسُّمْرِ وَالسُّودِ أَحْرَى أَنْ يَكُونَ زِينَةً مِنْهُ بِالْبِيضِ، وَلَكَانَ الْأَسْوَدُ مِنْهُ مُخْتَلِفَ الْحُكْمِ فِي الْبِيضِ وَالسُّودِ، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِلَوْنِهِ لَا بِلَوْنِ مُسْتَعْمِلِهِ، فَإِنِ اسْتَعْمَلَتِ الْمُعْتَدَّةُ كُحْلَ الزِّينَةِ فِي غَيْرِ عَيْنِهَا مِنْ يَدِهَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ يَزِيدُ مَا سِوَى الْعَيْنِ مِنَ الْبَدَنِ تَشْوِيهًا وَقُبْحًا إِلَّا الْأَصْفَرَ مِنْهُ الَّذِي لَهُ لَوْنٌ إِذَا طُلِيَ بِهِ الْجَسَدُ كَالصَّبِرِ حَسَّنَهُ فَتَمَنَّعَ مِنْهُ فِيمَا ظَهَرَ مِنَ الْجَسَدِ كَالْوَجْهِ وَلَا تُمْنَعُ مِنْهُ فِيمَا يُظَنُّ لِامْتِدَادِ الْأَبْصَارِ إِلَى مَا ظَهَرَ دون ما بطن فإن

(11/278)


اضطررت الْمُعْتَدَّةُ إِلَى اسْتِعْمَالِ كُحْلِ الزِّينَةِ لِمَرَضٍ بِعَيْنِهَا اسْتَعْمَلَتْهُ لَيْلًا وَمَسَحَتْهُ نَهَارًا؛ رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَنَا حَادَّةٌ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ، وَقَدْ جَعَلْتُ عَلَى عَيْنِي صَبِرًا، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا أُمَّ سَلَمَةَ، فَقَالَتْ: إِنَّمَا هُوَ صَبِرٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ قَالَ: إِنَّهُ يُشِبُّ الْوَجْهُ فَلَا تَجْعَلِيهِ إِلَّا بِاللَّيْلِ وَتَنْزِعِيهِ بالنهار.

(مسألة)
قال الشافعي: " وَكَذَلِكَ الدِّمَامُ دَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَهِيَ حَادٌّ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ فَقَالَ " مَا هَذَا يَا أُمَّ سَلَمَةَ؟ " فَقَالَتْ إِنَّمَا هُوَ صَبْرٌ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ " اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار " (قال الشافعي) الصبر يصفر فيكون زينة وليس بطيب فأذن لها فيه بالليل حيث لا يرى وتمسحه بالنهار حيث يرى وكذلك ما أشبهه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالدِّمَامُ هُوَ مَا يُغْشَى بِهِ الْجَسَدُ، ويُطْلَى عَلَيْهِ حَتَّى يُغَيِّرَ لَوْنَهُ وَيُحَسِّنَهُ كاسفيذاج العرائس الذي يبيض اللَّوْنَ، وَكَالْحُمْرَةِ الَّتِي يُوَرَّدُ بِهَا الْخَدُّ وَالْوَجْهُ، فَهُوَ مَحْظُورٌ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ فِي الْإِحْدَادِ كَالصَّبْرِ الَّذِي نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُمَّ سَلَمَةَ عَنْهُ سُمِّيَ دِمَامًا مِنْ قَوْلِهِمْ قِدْرٌ مَدْمُومَةٌ إِذَا طَلَى عَلَيْهَا الْكَلْكُونَ أَوْ نَحْوَهُ، فَهَذَا مِمَّا يُمْنَعُ مِنْهُ الْمُعْتَدَّةُ فِي الْإِحْدَادِ؛ لِأَنَّهُ زِينَةٌ، وَلَا تُمْنَعُ مِنْهُ الْمُحْرِمَةَ، لأنه لا يزل الشَّعَثَ، وَهَكَذَا الْخِضَابُ تُمْنَعُ مِنْهُ بِالْحِنَّاءِ أَوِ الْكَتَمِ سَوَاءٌ تُرِكَ عَلَى حُمْرَتِهِ أَوْ غُيِّرَ حَتَّى اسْوَدَّ لِأَنَّهُمَا مَعًا زِينَةٌ وَتَحْصِينٌ.
رَوَتْ أم سلمة رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: نَهَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَنْ تَكْتَحِلَ أَوْ تَخْتَضِبَ، وَكَذَلِكَ كُلُّ لَوْنٍ طُلِيَ بِهِ الْجَسَدُ فحسنه منعت منه المعتدة في إحدادها؛ لأن لا يَدْعُوَ شَهْوَةَ الرِّجَالِ إِلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِهِ إِلَّا التَّصَنُّعَ لَهُمْ بِالزِّينَةِ، فَإِنِ اسْتَعْمَلَتْهُ فِيمَا خَفِيَ مِنْ جَسَدِهَا وَوَارَتْهُ ثِيَابُهَا لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَذِنَ لِأُمِّ سَلَمَةَ فِي الصَّبْرِ لَيْلًا وَنَهَاهَا عَنْهُ نَهَارًا؛ لِأَنَّهُ يَخْفَى بِاللَّيْلِ عَنِ الْأَبْصَارِ وَيُرَى فِي النَّهَارِ فَكَذَلِكَ مَا أَخْفَاهُ ثِيَابُهَا وَلَمْ تَرَهُ الْأَبْصَارُ غَيْرَ أَنَّهَا إِنْ فَعَلَتْهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ كُرِهَ فَإِنْ كَانَ لِحَاجَةٍ لَمْ يُكْرَهْ.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا الطِّيبُ فَتُمْنَعُ الْمُعْتَدَّةُ فِي إحداها مِنِ اسْتِعْمَالِ جَمِيعِهِ مِنْ ذِي لَوْنٍ فِي بَخُورٍ وَطَلْيٍ؛ لِأَنَّهُ زِينَةٌ، وَلِأَنَّهُ يُحَرِّكُ الشَّهْوَةَ، وَيَسْتَوِي فِي حَظْرِهِ الْمُعْتَدَّةُ وَالْمُحْرِمَةُ؛ لِأَنَّهُ يُزِيلُ شَعَثَ الْمُحْرِمَةِ، وَيُحْدِثُ الزِّينَةَ فِي الْمُعْتَدَّةِ فَإِنْ أَرَادَتِ الْمُعْتَدَّةُ أَنْ تَتَطَيَّبَ فِيمَا خَفِيَ مِنْ جَسَدِهَا لَمْ يَجُزْ بِخِلَافِ الْخِضَابِ، لِأَنَّ الطِّيبَ رَائِحَتُهُ تَظْهَرُ فَتُحَرِّكُ الشَّهْوَةَ بِخِلَافِ الْخِضَابِ وَهَكَذَا لَوْ أَرَادَتْ أَنْ تَتَطَيَّبَ لَيْلًا دُونَ النَّهَارِ ولم يجز لأنه

(11/279)


يُحَرِّكُ شَهْوَتَهَا وَإِنْ لَمْ يُحَرِّكْ شَهْوَةَ غَيْرِهَا، وَالْخِضَابُ لَا يُحَرِّكُ إِلَّا شَهْوَةَ غَيْرِهَا فَافْتَرَقَا. فَأَمَّا الْمَبْتُوتَةُ فِي الْعِدَّةِ فَالطِّيبُ مَحْظُورٌ عَلَيْهَا إِنْ وَجَبَ الْإِحْدَادُ عَلَيْهَا وَفِي حَظْرِهِ إِنْ لَمْ يَجِبِ الْإِحْدَادُ عَلَيْهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَحْرُمُ كَمَا لَا يَحْرُمُ غَيْرُهُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْدَادِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَحْرُمُ عَلَيْهَا لِاخْتِصَاصِهِ مِنْ بَيْنِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْدَادِ بِتَحْرِيكِ شَهْوَتِهَا وَشَهْوَةِ الرِّجَالِ لها.

(مسألة)
قال الشافعي: " وَفِي الثِّيَابِ زِينَتَانِ إِحْدَاهُمَا جَمَالُ اللَّابِسِينَ وَتَسْتُرُ العورة قال اللَّهُ تَعَالَى {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] فالثياب زينة لمن لبسها فإذا أفردت العرب التزين على بعض اللابسين دون بعض فإنما من الصبغ خاصة ولا باس أن تلبس الحاد كل ثوب من البياض لأن البياض ليس بمزين وكذلك الصوف والوبر وكل ما نسج على وجهه لم يدخل عليه صبغ من خز أو غيره وكذلك كل صبغ لم يرد به تزيين الثوب مثل السواد وما صبغ ليقبح لحزن أو لنفي الوسخ عنه وصباغ الغزل بالخضرة يقارب السواد لا الخضرة الصافية وما في معناه فأما ما كان من زينة أو شيء في ثوب وغيره فلا تلبسه الحاد ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدِ اسْتَوْفَيْنَا نَقْلَ هَذَا الْفَصْلِ لِأَنَّهُ مَشْرُوحٌ، وَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَى عِلَلِهِ.
وَجُمْلَةُ الثِّيَابِ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ عَلَى جِهَتِهِ لَمْ تَدْخُلْ عَلَيْهِ زِينَةٌ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ زِينَةً يَتَزَيَّنُ بِهَا اللَّابِسُ، وَيَسْتُرُ بِهَا الْعَوْرَةَ عَلَى مَا سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ من الزينة في قوله: {خذو زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] وَذَلِكَ هُوَ الْبَيَاضُ مِنْ جَمِيعِ الثِّيَابِ فَمِنْهَا الْقُطْنُ أَرْفَعُهُ وَأَدْوَنُهُ وَمِنْهَا الْكَتَّانُ أَرْفَعُهُ وَأَدْوَنُهُ سَمَّاهُ الشَّافِعِيُّ ثِيَابَ الْوَرَعِ، وَمِنْهَا الْوَبَرُ أَرْفَعُهُ وَهُوَ الْخَزُّ وَأَدْوَنُهُ وَهُوَ الْمِعْزَى، وَمِنْهَا الصُّوفُ أَرْفَعُهُ وَأَدْوَنُهُ، وَمِنْهَا الْإِبْرَيْسَمُ وَهُوَ رَفِيعُ الْجِنْسِ فَيَجُوزُ لَهَا لُبْسُ الْبَيَاضِ كُلِّهِ مَقْصُورًا وَخَامًا، لِأَنَّ الْقِصَارَةَ كَالْغَسْلِ فِي إِنْقَاءِ الثَّوْبِ وَإِذْهَابِ وَسَخِهِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى بَيَاضِ الثِّيَابِ طُرُزٌ، فَإِنْ كَانَتْ أَعْلَامًا كِبَارًا لَمْ يَجُزْ أَنْ تَلْبَسَهَا لِأَنَّهَا زِينَةٌ ظَاهِرَةٌ قَدْ أُدْخِلَتْ عَلَى الثَّوْبِ، وَإِنْ كَانَتْ صِغَارًا خَفِيَّةً فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا زِينَةٌ تَمْنَعُ مِنْ لُبْسِهَا.

(11/280)


وَالثَّانِي: أَنَّهَا عَفْوٌ لَا تَمْنَعُ مِنْ لُبْسِهَا لِخَفَائِهَا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا إِنْ رُكِّبَتْ بَعْدَ النَّسْجِ كَانَتْ زِينَةً مَحْضَةً تَمْنَعُ مِنْ لُبْسِهَا، وَإِنْ كَانَتْ نَسِيجَةً مَعَهَا لَمْ تَمْنَعْ مِنْ لُبْسِهَا؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَزِيدَةٍ فِي الثَّوْبِ.

(فَصْلٌ)
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مِنَ الثِّيَابِ مَا غَيَّرَ بَيَاضَهَا بِالْأَصْبَاغِ الْمُلَوَّنَةِ حَتَّى تَصِيرَ زِينَةً فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُمْزَجَ لَوْنُهُ بِالنُّقُوشِ كَالْوَشْيِ وَالسَّقْلَاطُونِ أَوْ بِالتَّخْطِيطِ كَالْعَتَّابِيِّ فَهُوَ إِدْخَالُ زِينَةٍ مَحْضَةٍ عَلَى الثَّوْبِ وَتَسْتَوِي جَمِيعُ الْأَلْوَانِ فِي حَظْرِهِ عَلَى الْحَادِّ مِنْ سَوَادٍ وَغَيْرِ سَوَادٍ سَوَاءٌ كَانَ نَقْشُهُ نَسْجًا أَوْ تَرْكِيبًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أن يصبغ جميعه لوناً واحداً فألوان الأصابغ تَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا كَانَ زِينَةً مَحْضَةً وَهُوَ الْأَحْمَرُ صَافِيهِ وَمُشَبَّعُهُ، وَالْأَصْفَرُ صَافِيهِ وَمُشَبَّعُهُ فَلُبْسُهُ مَحْظُورٌ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ فِي الْإِحْدَادِ، لِأَنَّهُ زِينَةٌ، وَلَيْسَ بِمَحْظُورٍ عَلَى الْمُحْرِمَةِ لِأَنَّهُ لَا يُزِيلُ الشَّعَثَ.
رَوَتْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: لَا تَلْبَسِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا الْمُعَصْفَرَ وَلَا الْمَمْشُوقَ، وَلَا الْحُلِيَّ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مِنَ الصَّبْغِ مَا لَمْ يَكُنْ زِينَةً وَكَانَ شِعَارًا فِي الْإِحْدَادِ وَلِإِخْفَاءِ الْوَسَخِ، وَهُوَ السَّوَادُ صَافِيهِ وَمُشَبَّعُهُ فَلَا يُمْنَعُ الْحَادُّ لُبْسَهُ؛ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَزِدْهَا قُبْحًا لَمْ يُكْسِبْهَا جَمَالًا وَهُوَ لُبْسُ الْإِحْدَادِ وَشِعَارُهُ حَتَّى اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ لُبْسِهِ فِي الْإِحْدَادِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجِبُ لِاخْتِصَاصِهِ بِشِعَارِ الْحُزْنِ وَالْمَصَائِبِ.
وَالثَّانِي: يُسْتَحَبُّ وَلَا يَجِبُ لِاخْتِصَاصِ الْوُجُوبِ بِمَا يَجْتَنِبُهُ دُونَ مَا يَسْتَعْمِلُهُ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لاسماء بن عُمَيْسٍ حِينَ أَتَاهَا نَعْيُ زَوْجِهَا جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ تَسَلَّبِي فَأَحَدُ تَأْوِيلَيْهِ: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ لُبْسَ السَّوَادِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لُبْسُهُ وَاجِبًا فِي الْإِحْدَادِ لِأَمْرِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ نَزْعَ الْحُلِيِّ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ لُبْسُهُ وَاجِبًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ أَمْرٌ، وَيَكُونُ نَزْعُ الْحُلِيِّ وَاجِبًا لِمَا تَوَجَّهَ إِلَيْهِ مِنَ النَّهْيِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مِنَ الْأَلْوَانِ مَا يَخْتَلِفُ حَالُ مُشَبَّعِهِ وَصَافِيهِ، وَهُوَ الْخُضْرَةُ وَالزُّرْقَةُ فَإِنْ كَانَا صَافِيَيْنِ مُشْرِقَيْنِ فَهُمَا زِينَةٌ كَالْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ فَتُمْنَعُ الْحَادُّ مِنْ لُبْسِهَا لِاخْتِصَاصِهَا بِالزِّينَةِ، وإن كانا مشبعين بَيْنَ كَمُشَبَّعِ الْحُلِيِّ وَالْأَخْضَرِ فَهُمَا كَالسَّوَادِ

(11/281)


يَدْخُلَانِ عَلَى الثَّوْبِ لِإِخْفَاءِ الْوَسَخِ فَلَا تُمْنَعُ الْحَادُّ مِنْ لُبْسِهَا، وَيُفَارِقَانِ السَّوَادَ فِي وُجُوبِ لُبْسِهِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَلَا فَرْقَ فِي أَلْوَانِ الزِّينَةِ الْمَحْظُورَةِ عَلَيْهَا مِنْ صَبْغِ الْغَزْلِ بِهَا قَبْلَ نَسْجِهِ وَبَيْنَ صَبْغِ الثَّوْبِ بِهَا بعد نسجه، لأنهما في الحالتين زِينَةٌ وَوَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَفَرَّقَ بَيْنَ مَا صبغ قبل النسج وبعد فَمَنَعَ مِنَ الْمَصْبُوغِ بَعْدَ نَسْجٍ وَأَبَاحَ الْمَصْبُوغَ قَبْلَ نَسْجِهِ وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي شَرْحِهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عُمُومُ نَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ لُبْسِ الْمُعَصْفَرِ الْمَمْشُوقِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَصْبُوغَ قَبْلَ النِّسَاجَةِ أَحْسَنُ، وَهُوَ بِذَوِي النَّبَاهَةِ أَخَصُّ فَكَانَ بِالْحَظْرِ أَحَقَّ.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا الْحُلِيُّ مَحْظُورٌ عَلَيْهَا فِي الْإِحْدَادِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْهُ، وَلِأَنَّ نَزْعَهُ أَحَدُ التَّأْوِيلَيْنِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَسْمَاءَ: تَسَلَّبِي وَهَذَا مِمَّا تُخْتَصُّ بِهِ الْمُعْتَدَّةُ بِحَظْرِهِ دُونَ الْمُحْرِمَةِ؛ لِأَنَّهُ زِينَةٌ وَلَيْسَ لَهُ فِي زَوَالِ الشَّعَثِ تَأْثِيرٌ وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ حُلِيُّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَاللُّؤْلُؤِ أَوِ الْجَوَاهِرِ وَسَوَاءٌ مَا كَثُرَ مِنْهُ كَالْخَلَاخِلَةِ وَالْأَسْوِرَةِ وَمَا قَلَّ كَالْخَوَاتِيمِ وَالْأَقْرَاطِ، فَأَمَّا إِنْ تَحَلَّتْ بِالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ فَإِنْ كَانَ مُمَوَّهًا بِالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ أَوْ كَانَ مُشَابِهًا لِلْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ يَخْفَى عَلَى النَّاظِرِ إِلَّا بَعْدَ شِدَّةِ التَّأَمُّلِ فَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنْ لُبْسِهِ أَيْضًا كَمَا تُمْنَعُ مِنْ لُبْسِ حُلِيِّ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ فِي لِبَاسِهِ وَتَحْسِينِهَا الدَّاعِي إِلَى اسْتِحْسَانِهَا، فَإِنَّهُ الْمَقْصُودُ بِلُبْسِ الْحُلِيِّ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ.
(وَمَا الْحُلِيُّ إِلَّا زِينَةٌ لِنَقِيضَةٍ ... يُتِمُّ مِنْ حُسْنٍ إِذَا الْحُسْنُ قَصَّرَا)

(فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْجَمَالُ مُوَفَّرًا ... كَحُسْنِكِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَنْ يُزَوَّدَا)

فَأَمَّا إِذَا لَمْ يُشَبَّهْ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَتَمَيَّزَ عَنْهُمَا فِي النَّظَرِ رُوعِيَ فِيهِ حَالُ الْمُعْتَدَّةِ، فَإِنْ كانت من قوم جرت عادتهم أن يتحلو بِالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ مُنِعَتْ مِنْ لُبْسِهِ فِي الْإِحْدَادِ؛ لِأَنَّهُ زِينَةٌ لَهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ لَا يَتَحَلَّوْنَ بِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَعْمِلُونَهُ لِمَا يَتَصَوَّرُونَ فِيهِ مِنَ الْحِرْزِ وَالنَّفْعِ جَازَ لَهَا لُبْسُهُ؛ لأنه ليس يزينة لها، فإذا أرادت المعتدة في إحداها أَنْ تَلْبَسَ حُلِيَّهَا لَيْلًا وَتَنْزِعَهُ نَهَارًا جَازَ ذَلِكَ لَكِنْ إِنْ فَعَلَتْ ذَاكَ لِإِحْرَازِهِ لَمْ يُكْرَهْ وَإِنْ فَعَلَتْهُ لِغَيْرِ إِحْرَازٍ وَحَاجَةٍ كُرِهَ وَإِنْ لَمْ يَحْرُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ)
فَأَمَّا مَا عَدَا زِينَةَ جَسَدِهَا مِنْ زِينَةِ مَنْزِلِهَا وَزِينَةِ فُرِشِهَا فَلَا تُمْنَعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا عَلَى الْإِحْدَادِ مِنَ الْأَجَانِبِ مَنْ يَرَاهَا فِيهِ فَيُحَسِّنُهَا وَكَذَلِكَ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا أَنْ تَنَامَ عَلَى فِرَاشٍ أَوْ تَضَعَ رَأْسَهَا عَلَى وِسَادَةٍ وَلَا تُمْنَعُ مِنْ أَكْلِ اللَّحْمِ وَالْحَلْوَاءِ وَسَائِرِ الْمَآكِلِ الْمُشْتَهَاةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ ".

(11/282)


فَأَمَّا أَكْلُ مَا فِيهِ طِيبٌ مِنَ الْحَلْوَاءِ أَوِ الطَّبِيخِ فَهُوَ مَحْظُورٌ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ يُحَرِّكُ شَهْوَتَهَا لِلرِّجَالِ وَإِنْ لَمْ تَتَحَرَّكْ لَهَا شَهْوَةُ الرجال والله أعلم بالصواب.

(مسألة)
قال الشافعي: " وَكَذَلِكَ كُلُّ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ كَبِيرَةٍ أَوْ صَغِيرَةٍ مُسْلِمَةٍ أَوْ ذِمِّيَّةٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ؛ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى ثَلَاثَةِ مَسَائِلَ:
أَحَدُهَا: فِي الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ فَأَمَّا الْحُرَّةُ فَقَدْ ذَكَرْنَا وُجُوبَ الْإِحْدَادِ عَلَيْهَا، وَأَمَّا الْأَمَةُ فَهِيَ فِي الْإِحْدَادِ كَالْحُرَّةِ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ، فَأَمَّا السُّكْنَى فَإِنْ تَرَكَ السَّيِّدُ اسْتِخْدَامَهَا وَجَبَ لَهَا السُّكْنَى كَالْحُرَّةِ وَلَزِمَهَا الْجَمْعُ بَيْنَ السُّكْنَى وَالْإِحْدَادِ وَإِنِ اسْتَخْدَمَهَا لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا لِحَقِّهِ فِي الْمِلْكِ، وَسَقَطَتِ السُّكْنَى وَلَزِمَ الْإِحْدَادُ وَلَا يَكُونُ سُقُوطُ السُّكْنَى مُوجِبًا لِسُقُوطِ الْإِحْدَادِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْإِحْدَادِ أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِظْهَارُ الْحُزْنِ عَلَى الزَّوْجِ رِعَايَةً لِحُرْمَتِهِ.
وَالثَّانِي: تَرْكُ مَا يُحَرِّكُ الشَّهْوَةَ مِنَ الزِّينَةِ لِأَنْ لَا تَشْتَهِيَ وَيَشْتَهِيَهَا الرِّجَالُ وَلَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ مَا يُخَالِفُ فِيهِ مَعْنَى الْحُرَّةِ وَلَا يُؤَثِّرُ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ السَّيِّدُ مِنَ الْخِدْمَةِ.

(فَصْلٌ)
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ، فَأَمَّا الْكَبِيرَةُ فَقَدْ ذَكَرْنَا وُجُوبَ الْإِحْدَادِ عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ فَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَالْإِحْدَادُ فِيهَا كَالْكَبِيرَةِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَيْسَ عَلَيْهَا الْإِحْدَادُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَلِأَنَّ الْإِحْدَادَ تَعَبُّدٌ مَحْضٌ لَا حَقَّ فِيهِ لِلزَّوْجِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ الصَّغِيرَةَ كَالْعِبَادَاتِ.
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذَكَرَتْ لَهُ أَنَّ بِنْتَهَا مَاتَ زَوْجُهَا، وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا أَفَتَكْحُلُهَا؟ فَقَالَ: لَا وَلَمْ يَسْأَلْهَا عَنْ صِغَرِهَا وَكِبَرِهَا فَدَلَّ عَلَى اسْتِوَاءِ الْأَمْرَيْنِ: وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ وَجَبَ أَنْ تُؤْخَذَ بِأَحْكَامِ تِلْكَ الْعِدَّةِ كَالْكَبِيرَةِ.
فَأَمَّا رَفْعُ الْقَلَمِ عَنْهَا فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ وُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ أَحْكَامِهَا، وَأَمَّا كَوْنُ الْإِحْدَادِ تَعَبُّدًا مَحْضًا فَهُوَ كَالْعِدَّةِ فِيهِ تعبد ويتعلق به حتى الزَّوْجِ إِمَّا لِرِعَايَةِ حُرْمَتِهِ وَإِمَّا لِصَرْفِ الرِّجَالِ عن الرغبة فيها في عدته وَهَذَانِ مِمَّا لَا يَفْتَرِقُ فِيهِمَا حُكْمُ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ)
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي الْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ.
فَأَمَّا الْمُسْلِمَةُ فَقَدْ ذَكَرْنَا وُجُوبَ الْإِحْدَادِ عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ.
وَأَمَّا الذِّمِّيَّةُ فَهِيَ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ وَالْإِحْدَادِ كَالْمُسْلِمَةِ.

(11/283)


وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ زَوْجُهَا مُسْلِمًا فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَيْسَ عَلَيْهَا الْإِحْدَادُ وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا ذِمِّيًّا فَلَا عِدَّةَ وَلَا حِدَادَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: عَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنْهُمَا وَلَا إِحْدَادَ عَلَيْهَا مِنْهُمَا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَلَمَّا خَصَّ الْمُؤْمِنَةَ بِالذِّكْرِ دَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِهَا بِالْحُكْمِ؛ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ فَسَقَطَتْ بِالْكُفْرِ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ؛ وَلِأَنَّهَا لَمَّا أُقِرَّتْ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ كَانَ إِقْرَارُهَا عَلَى تَرْكِ الْإِحْدَادِ أَوْلَى.
وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ أم سلمة رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: الْمُتَوَفَّى زَوْجُهَا لَا تَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ وَلَا الْمُمَشوق وَلَا الْحُلِيَّ وَلَا تَكْتَحِلُ وَلَا تَخْتَضِبُ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ فَدَلَّ عَلَى اشْتِرَاكِهِمَا، فِيهِ؛ وَلِأَنَّهَا بَائِنٌ بِالْوَفَاةِ فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهَا الْعِدَّةُ وَالْإِحْدَادُ كَالْمُسْلِمَةِ، وَلِأَنَّ الْإِحْدَادَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِرِعَايَةِ الْحُرْمَةِ وَإِمَّا لِحِفْظِ الشَّهْوَةِ وَإِنْ كَانَتِ الذِّمِّيَّةُ أَقَلَّ رِعَايَةً لِلْحُرْمَةِ فَهِيَ أَقْوَى شَهْوَةً لِقِلَّةِ الْمُرَاقَبَةِ فَكَانَتْ بِالْإِحْدَادِ أَوْلَى مِنَ الْمُسْلِمَةِ.
فَأَمَّا الْخَبَرُ فَلَمْ يُذْكَرِ الْإِيمَانُ فِيهِ شَرْطًا، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ تَنْبِيهًا عَلَى الْأَدْنَى وكما قال تعالى: {إن نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] فَلَمْ يَكُنْ ذِكْرُ الْإِيمَانِ فِيهِنَّ شَرْطًا، وَكَانَ تَنْبِيهًا يَسْتَوِي فِيهِ مَنْ آمَنَ وَمَنْ كفر.
والجواب عن قولهم: أن تعبد، فهو أن التعبد لما اقْتَرَنَ بِهِ حَقُّ الزَّوْجِ جَازَ أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُؤْخَذْ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى المحضة والله أعلم.

(مسألة)
قال الشافعي: " وَلَوْ تَزَوَّجَتْ نَصْرَانِيَّةٌ نَصْرَانِيًّا فَأَصَابَهَا أَحَلَّهَا لِزَوْجِهَا الْمُسْلِمِ وَيُحْصِنُهَا لِأَنَّهُ زَوْجٌ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا وَلَا يَرْجُمُ إِلَّا مُحَصَّنًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى خَمْسَةِ فُصُولٍ: قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي كُلِّ فَصْلٍ مِنْهَا:
أَحَدُهَا: أَنَّ مَنَاكِحَ الْمُشْرِكِينَ صَحِيحَةٌ وَأَبْطَلَهَا مالك.
والدليل عليه قول تَعَالَى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4] فَجَعَلَهَا زَوْجَةً بِنِكَاحِ الشِّرْكِ وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ لَا مِنْ سِفَاحٍ " وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ إِقْرَارُهُمْ عَلَيْهَا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ جَازَ وَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهَا فِي شِرْكِهِمْ.

(11/284)


وَالْفَصْلُ الثَّانِي: وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي مَنَاكِحِهِمْ حَتَّى إِنْ طَلَّقَهَا فِي الشِّرْكِ ثَلَاثًا ثُمَّ أَسْلَمَا لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَقَعُ بَيْنَهُمْ بطَلَاق بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ فِي فَسَادِ مَنَاكِحِهِمْ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ الله تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ.
وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ: ثُبُوتُ إِحْصَانِهِمْ بِالْإِصَابَةِ فِي مَنَاكِحِهِمْ.
وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا إِحْصَانَ لَهُمْ، وَدَلِيلُنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا " وَلَا يَرْجُمُ إِلَّا مُحَصَّنًا، وَلِأَنَّهَا إِصَابَةٌ فِي نِكَاحٍ يُقِرُّ عَلَيْهَا أَهْلُهُ فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ بِهَا الْحَصَانَةُ كَالْمُسْلِمَةِ.
وَالْفَصْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا طَلَّقَ الذِّمِّيَّةَ ثَلَاثًا، ونكحت بعده ذمياً أجلها لِلْمُسْلِمِ بَعْدَ طَلَاقِهِ لَهَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: لَا يُحِلُّهَا وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ؛ وَلِأَنَّهُ نِكَاحٌ يُقِرُّ عَلَيْهِ الزَّوْجُ فَجَازَ أَنْ يُسْتَبَاحَ بِالْإِصَابَةِ فِيهِ نِكَاحُ الْأَوَّلِ كَالْمُسْلِمِ.
وَالْفَصْلُ الْخَامِسُ: وُجُوبُ الْعِدَّةِ عَلَى الذِّمِّيَّةِ مِنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، عَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنَ الْمُسْلِمِ وَلَيْسَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنَ الْكَافِرِ.
وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] . وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي سَبْيِ هَوَازِنَ: " أَلَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ " وَقَدْ كُنَّ ذَوَاتِ أَزْوَاجٍ فِي الشِّرْكِ، وَلِأَنَّ عليها أن تحفظ أنساب المشتركين كَمَا تَحْفَظُ أَنْسَابَ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [البقرة: 49] وَلِتَمْيِيزِ أَنْسَابِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْسَابِ الْمُشْرِكِينَ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْأَحْكَامِ فَاسْتَوَيَا فِي الْعِدَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(11/285)


(باب اجتماع العدتين والقافة)
(مسألة)
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِذَا تَزَوَّجَتْ فِي الْعِدَّةِ وَدَخَلَ بِهَا الثَّانِي فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ بِنِيَّةِ عِدَّتِهَا مِنَ الْأَوَّلِ ثُمَّ تَعْتَدُّ مِنَ الثَّانِي وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) لَأَنَّ عَلَيْهَا حَقَّيْنِ بِسَبَبِ الزَّوْجَيْنِ وَكَذَلِكَ كُلُّ حَقَّيْنِ لَزِمَا مِنْ وَجْهَيْنِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، وُجُوبُ الْعِدَّةِ تَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ قَبْلَ انْقِضَائِهَا، فَإِنْ نَكَحَتْ فِي عِدَّتِهَا كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا بِالْإِجْمَاعِ الْمُنْعَقِدِ عَنِ النَّصِّ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أجله} [البقرة: 235] ولفساد العقد حالتان:
إحدهما: أَنْ يَخْلُوَ مِنْ وَطْءٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ وَطْءٌ.
فَإِنْ خَلَا مِنَ الْوَطْءِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا فِيهِ لَكِنْ يُعَزَّرَانِ إِنْ عَلِمَا بِالتَّحْرِيمِ، وَلَا يُعَزَّرَانِ إِنْ جَهِلَاهُ، وَالتَّعْزِيرُ لِإِقْدَامِهِمَا عَلَى التَّعَرُّضِ لِمَحْظُورِ النِّكَاحِ وَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَقْدٍ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ فَلَا يُسْتَحَقُّ بِهِ مَهْرٌ، وَلَا نَفَقَةٌ، وَلَا سُكْنَى وَلَا تَصِيرُ فِيهِ فِرَاشًا وَلَا يَثْبُتُ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ، وَلَا يَجِبُ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا عِدَّةٌ، وَلَا تَنْقَطِعُ بِهِ عِدَّةُ الْأَوَّلِ، وَتَكُونُ جَارِيَةً فِيهَا.
فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ الرَّجْعَةُ فِي الْعِدَّةِ تَقْطَعُ عِدَّةَ الْمُطَلَّقِ حَتَّى إِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ لَمْ يَحْتَسِبْ بِمَا بَيْنَ الرَّجْعَةِ، وَالطَّلَاقِ الثَّانِي مِنَ الْعِدَّةِ فَهَلَّا كَانَتِ الْمَنْكُوحَةُ فِي الْعِدَّةِ قَاطِعَةً لِلْعِدَّةِ مَا لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا.
قُلْنَا: لِأَنَّ الْمُرْتَجَعَةَ تَكُونُ فِرَاشًا فَلَمْ يُحْتَسَبْ بِمُدَّةِ الْفِرَاشِ مِنَ الْعِدَّةِ، وَالْمَنْكُوحَةُ فِي الْعِدَّةِ لَا تَكُونُ فِرَاشًا فَجَازَ أَنْ يُحْتَسَبَ بِمُدَّةِ الِاجْتِمَاعِ مِنَ الْعِدَّةِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَكْمَلَتِ الْعِدَّةَ قَبْلَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا فَقَدْ حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ، وَكَانَ لِلنَّاكِحِ لَهَا فِي الْعِدَّةِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ وَأَحْسَبُ مالكاً بقول لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ مَا لَمْ تَنْكِحْ غَيْرَهُ.

(11/286)


(فَصْلٌ)
فَإِنْ وَطِئَهَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَا عَالِمَيْنِ بِالتَّحْرِيمِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَا جَاهِلَيْنِ بِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْوَاطِئُ عَالِمًا وَالْمَوْطُوءَةُ جَاهِلَةً.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْوَاطِئُ جَاهِلًا وَالْمَوْطُوءَةُ عَالِمَةً.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَا عَالِمَيْنِ بِالتَّحْرِيمِ فَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا حَدَّ عَلَيْهِمَا لِشُبْهَةِ الْعَقْدِ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الْوَاطِئِ لِأُمِّهِ بَعْدَ النِّكَاحِ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَقَدْ مَضَى مِنَ الْحِجَاجِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ هَاهُنَا، وَقَدْ رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ قَالَ: رَأَيْتُ عَمِّي وَمَعَهُ رَايَةٌ، فَقُلْتُ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ، فَقَالَ: أَرْسَلَنِي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى رَجُلٍ أَعْرَسَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ أَنْ أَقْتُلَهُ وَآتِيَهُ بِرَأْسِهِ وَأُخَمِّسَ مَالَهُ.
وَالْعَرْسَةُ اسْمٌ لِلْوَطْءِ فِي نِكَاحٍ فَاحْتَمَلَ تَخْمِيسَ مَالِهِ، لِأَنَّهُ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ فَصَارَ مُرْتَدًّا وَصَارَ مَالُهُ بِالرِّدَّةِ فَيْئًا وَاحْتَمَلَ إِنْ لَمْ يَسْتَحِلَّهُ فَقَتَلَهُ حَدًّا وَخَمَّسَ مَالَهُ عُقُوبَةً، لِأَنَّ الْعُقُوبَاتِ كَانَتْ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ بِالْأَمْوَالِ، فَدَلَّ ذِكْرُ الْحَسَبِ عَلَى تَعَلُّقِ الْقَتْلِ بِهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا وَرَدَ النَّصُّ بِتَحْرِيمِهِ ارْتَفَعَتِ الشُّبْهَةُ فِي إِبَاحَتِهِ وَارْتِفَاعُ الشُّبْهَةِ فِي الوطء ويوجب للحد كَالزِّنَا، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا، فَهُوَ كَالزِّنَا لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ الْمَهْرُ وَلَا يَجِبُ فِيهِ الْعِدَّةُ وَلَا يُلْحَقُ فِيهِ النَّسَبُ وَلَا بقطع عِدَّةَ الْأَوَّلِ وَيَسْرِي فِي عِدَّتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الثَّانِي؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ بِهَذَا الْوَطْءِ فِرَاشًا لَهُ.
(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي، وَهُوَ أَنْ يَكُونَا جَاهِلَيْنِ بِالتَّحْرِيمِ: إِمَّا لِجَهْلِهِمَا بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ، وَإِمَّا لِجَهْلِهِمَا بِالتَّحْرِيمِ مَعَ عِلْمِهِمَا بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ فَهُمَا سَوَاءٌ وَلَا حَدَّ عليهما، لأن في الجهل بالتحريم شبهة تدرأها الْحُدُودُ وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْوَاطِئِ أَحْكَامُهُ فِي النِّكَاحِ فَيُسْتَحَقُّ فِيهِ الْمَهْرُ وَيُلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ وَتَجِبُ بِهِ الْعِدَّةُ وَتُقْطَعُ بِهِ عِدَّةُ الْأَوَّلِ مَا لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الثَّانِي، لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ بِوَطْءِ الشُّبْهَةِ فِرَاشًا لَهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِرَاشًا لَهُ وَمُعْتَدَّةً مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّ الْعِدَّةَ تُنَافِي الْفِرَاشَ، فَإِذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا صارت بالتفرقة داخلة في عدة لاأول لِارْتِفَاعِ الْفِرَاشِ بِهَا فَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْهَا ثُمَّ تَعْتَدُّ مِنْ إِصَابَةِ الثَّانِي وَيَجُوزُ إِذَا كَمُلَتْ عِدَّةُ الْأَوَّلِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا الثَّانِي، وَإِنْ كَانَتْ فِي عِدَّتِهِ وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهَا قَدْ حَرُمَتْ عَلَى الثَّانِي أَبَدًا إِذَا كَانَ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ، وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ مَعَ الْعِلْمِ بِالتَّحْرِيمِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ قَالَهُ حِكَايَةً عَنْ مَالِكٍ، أَوْ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ فَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: حَكَاهُ عَنْ غَيْرِهِ.

(11/287)


وَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ: قَالَهُ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ وَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا، هَلْ يَكُونُ تَفْرِيقُ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا شَرْطًا فِي هَذَا التَّحْرِيمِ الْمُؤَبَّدِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَكُونُ شَرْطًا، وَقَدْ حَرُمَتْ أَبَدًا سَوَاءٌ افْتَرَقَا بِأَنْفُسِهِمَا أَوْ فَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ أَسْبَابَ التَّحْرِيمِ لَا تَقِفُ عَلَى الْحُكْمِ كَالنَّسَبِ وَالرَّضَاعِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْحُكْمَ شَرْطٌ فِي تَأْبِيدِ هَذَا الْحُكْمِ كَاللِّعَانِ، وَاحْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ بِأَمْرَيْنِ: هُمَا دَلِيلٌ وَفَرْقٌ بَيْنَ الْعَالَمِ وَالْجَاهِلِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَالِمَ بِالتَّحْرِيمِ مَزْجُورٌ فَاسْتَغْنَى عَنِ الزَّجْرِ بِتَأْبِيدِ تَحْرِيمِهَا عليه والجاهل به غيره مزجوراً بِالْحَدِّ فَزُجِرَ بِتَأْبِيدِ التَّحْرِيمِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْجَاهِلَ بِالتَّحْرِيمِ مُفْسِدٌ لِلنَّسَبِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِيهِ فَزُجِرَ عَلَى إِفْسَادِهِ بِتَأْبِيدِ التَّحْرِيمِ وَالْعَالِمَ بِهِ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلنَّسَبِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُشَارِكٍ فِيهِ فَلَمْ يُزْجَرْ بِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ لِعَدَمِ إِفْسَادِهِ فَهَذَا دَلِيلُ مَا قَالَهُ عُمَرُ، وَمَذْهَبُ مَنْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مَعَ الْجَهْلِ وَالْعِلْمِ جَمِيعًا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَعَ الْعِلْمِ أَغْلَظُ مَأْثَمًا ثُمَّ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ فَكَانَتْ مَعَ ارْتِفَاعِ الْمَأْثَمِ بِالْجَهْلِ أَوْلَى أَنْ لَا يَحْرُمَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَطْءَ لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْمَوْطُوءَةِ عَلَى الْوَاطِئِ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ غَيْرِهَا عَلَى الْوَاطِئِ وَتَحْرِيمَهَا عَلَى غَيْرِ الْوَاطِئِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ حَلَالَ الْوَطْءِ وَحَرَامَهُ مِنْ نِكَاحٍ وَزِنًا لَا يُوجِبُ تَأْبِيدَ تَحْرِيمِ الْمَوْطُوءَةِ عَلَى الْوَاطِئِ، وَهَذَا الْوَطْءُ مُلْحَقٌ بِأَحَدِهِمَا وَلَيْسَ لِلْفَرْقَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ وَجْهٌ؛ لِأَنَّ الزَّجْرَ لَا يَكُونُ بِالتَّحْرِيمِ فَبَطَلَ بِهِ الْفَرْقُ الْأَوَّلُ، وَالْجَاهِلُ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلنَّسَبِ، لِأَنَّهُ يَسْتَضِيفُ وَلَدَهُ إِلَى نَفْسِهِ وَالْعَالِمُ هُوَ الْمُفْسِدُ، لِأَنَّهُ قَدْ أَضَافَ وَلَدَهُ إِلَى غَيْرِهِ فَبَطَلَ بِهِ الْفَرْقُ الثَّانِي.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَاطِئُ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ وَالْمَوْطُوءَةُ جَاهِلَةً بِهِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ دُونَهَا وَلَهَا الْمَهْرُ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِشُبْهَتِهَا وَلَا يُلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ وَلَا تَجِبُ بِهِ الْعِدَّةُ لِأَنَّهُمَا يُعْتَبَرَانِ بِشُبْهَةٍ دُونَهُمَا وَلَا يَنْقَطِعُ بِوَطْئِهِ عِدَّةُ الْأَوَّلِ: لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ بِهِ فِرَاشًا وَيَكُونُ مَا مَضَى مِنْ مُدَّةِ اجْتِمَاعِهِمَا مُحْتَسِبًا بِهِ مِنْ عِدَّةِ الْأَوَّلِ فَتُبْنَى عَلَيْهَا حَتَّى تَسْتَكْمِلَهَا وَيَجْرِي عَلَى هَذَا الْوَطْءِ فِي حَقِّ الْوَاطِئِ حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَفِي حق

(11/288)


الْمَوْطُوءَةِ حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّانِي، وَمَا وَجَبَ مِنَ الْمَهْرِ فِيهِمَا فَهُوَ لِلْمَوْطُوءَةِ وَلَا يَكُونُ فِي بَيْتِ الْمَالِ.
وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَكُونُ مَهْرُهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا " مَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لِغَيْرِهَا.
وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ الَّذِي عَمِلَ بِهِ الشَّافِعِيُّ.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَاطِئُ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ وَالْمَوْطُوءَةُ عَالِمَةً بِهِ فَالْحَدُّ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ دُونَ الْوَاطِئِ، لِأَنَّ الْحَدَّ مُعْتَبَرٌ بِشُبْهَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا مَهْرَ لَهَا، لِأَنَّ الْمَهْرَ مُعْتَبَرٌ بِشُبْهَتِهَا، وَالْوَلَدَ لَاحِقٌ بِهِ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، لِأَنَّهُمَا مُعْتَبَرَانِ بِشُبْهَةٍ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْإِصَابَةُ قَاطِعَةً لِعِدَّةِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ بِهَا فِرَاشًا لِلثَّانِي، فَإِذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا دَخَلَتْ فِي عِدَّةِ الْأَوَّلِ، وَبَنَتْ عَلَى مَا مَضَى مِنْهَا حَتَّى تَسْتَكْمِلَهَا وَتَسْتَأْنِفَ بَعْدَهَا عِدَّةَ الثَّانِي، وَتَجْرِي عَلَى هَذِهِ الْإِصَابَةِ فِي حَقِّ الْمَوْطُوءَةِ حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَفِي حَقِّ الْوَاطِئِ حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّانِي فَتَصِيرُ إِصَابَةُ الثَّانِي قَاطِعَةً لِعِدَّةِ الْأَوَّلِ فِي قِسْمَيْنِ إِذَا جَهِلَا التَّحْرِيمَ أَوْ جَهِلَهُ الْوَاطِئُ دُونَهَا، وَغَيْرَ قَاطِعَةٍ لِعِدَّتِهِ فِي قِسْمَيْنِ إِذَا عَلِمَا بِالتَّحْرِيمِ أَوْ عَلِمَهُ الْوَاطِئُ دُونَهَا.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ وَوَجَبَتْ عَلَيْهَا عِدَّتَانِ عِدَّةٌ مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ وَعِدَّةٌ مِنْ وَطْءِ الثَّانِي لَمْ تَتَدَاخَلِ الْعِدَّتَانِ، وَأَكْمَلَتْ عِدَّةَ الْأَوَّلِ لِتُقَدِّمِهِ وَصِحَّةِ عَقْدِهِ ثُمَّ اسْتَأْنَفَتْ بَعْدَهَا عِدَّةَ الثَّانِي.
وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عنه وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: وَأَبُو حَنِيفَةَ تَتَدَاخَلُ الْعِدَّتَانِ وَلَا يَلْزَمُهَا أَكْثَرُ مِنْ عِدَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَيَكُونُ الْبَاقِي مِنْ عِدَّةِ الْأَوَّلِ دَاخِلًا فِي عِدَّةِ الثَّانِي اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] فَلَمْ يُوجِبْ عَلَى الْحَامِلِ عِدَّةً غَيْرَ وَضْعِ الْحَمْلِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهَا غَيْرَهَا فِي عُمُومِ الْأَحْوَالِ.
قَالُوا: وَلِأَنَّهُمَا عِدَّتَانِ تَرَادَفَتَا فَوَجَبَ أَنْ تَتَدَاخَلَا كَمَا لَوْ كَانَتَا مِنْ وَاحِدٍ، وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ تُرَادُ لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ، فَإِذَا عُرِفَ فِي حق إحداهما عُرِفَ فِي حَقِّهِمَا فَلَمْ يَسْتَفِدْ بِالزِّيَادَةِ مَا لَمْ يَسْتَفِدْ قَبْلَهَا، وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ تَتَّصِلُ بِسَبَبِهَا وَلَا تَتَأَخَّرُ عَنْهُ وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِتَدَاخُلِهِمَا حَتَّى لا تتأخر واحد مِنْهُمَا عَنْ سَبَبِهَا، وَلِأَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ يَجُوزُ لِمُخَالِعِهَا أن يتزوجها في عدتها، ولو طئت فِيهَا بِشُبْهَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَلَوْلَا أَنَّهَا فِي عِدَّةٍ مِنْهُمَا

(11/289)


لَجَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، فَاقْتَضَى هَذَا الْمَنْعُ تَدَاخُلَ الْعِدَّتَيْنِ وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ أَجَلٌ يُقْضَى بِمُرُورِ الزَّمَانِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ أَجَلَانِ فِي دَيْنٍ لِرَجُلَيْنِ تَدَاخَلَا كَذَلِكَ إِذَا اجْتَمَعَتْ عِدَّتَانِ.
وَدَلِيلُنَا إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ مَنْقُولٌ عَنِ اثْنَيْنِ أَمْسَكَ الْبَاقُونَ عَنْ مُخَالَفَتِهِمَا.
أَحَدُهُمَا: عَنْ عُمَرَ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سعيد بن المسيب، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ طُلَيْحَةَ كَانَتْ تَحْتَ رُشَيْدٍ الثَّقَفِيِّ فَطَلَّقَهَا الْبَتَّةَ فَنَكَحَتْ فِي عِدَّتِهَا فَضَرَبَهَا عُمَرُ وَضَرَبَ زَوْجَهَا بِالْمِخْفَقَةِ ضَرَبَاتٍ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ قَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ فِي عِدَّتِهَا فَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا الَّذِي تَزَوَّجَهَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَاعْتَدَّتْ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا مِنْ زَوْجِهَا الْأَوَّلِ ثُمَّ الْآخَرِ وَكَانَ خَاطِبًا مِنَ الْخُطَّابِ وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَاعْتَدَّتْ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا مِنْ زَوْجِهَا الْأَوَّلِ ثُمَّ اعْتَدَّتْ مِنَ الْآخَرِ ثُمَّ لَمْ يَنْكِحْهَا أَبَدًا.
وَالثَّانِي: عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ: أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَاعْتَدَّتْ مِنْهُ حَتَّى إِذَا بَقِيَ مِنْ عِدَّتِهَا نَكَحَهَا رَجُلٌ فِي آخِرِ عَدَّتِهَا وَبَنَى بِهَا فَأُتِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي ذَلِكَ فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّتِهَا الْأُولَى ثُمَّ تَسْتَأْنِفَ عِدَّةَ الثَّانِي، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَهِيَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَتْ نَكَحَتْ وَإِنْ شَاءَتْ فَلَا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَنَا أَقُولُ بِقَوْلِهِمَا فِي أَنْ لَا تَتَدَاخَلَ الْعِدَّتَانِ وَأَقُولُ بِقَوْلِ عَلِيٍّ فِي أَنَّهَا لَا تَحْرُمُ عَلَى الثَّانِي إِذَا كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا، وَلَيْسَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَثَبَتَ إِجْمَاعًا.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ خَالَفَهُمَا ابْنُ مَسْعُودٍ.
قِيلَ: لَيْسَ بِثَابِتٍ مَعَ اشْتِهَارِ هَاتَيْنِ الْقِصَّتَيْنِ مِنْ إِمَامَيْنِ لَوْ خَالَفَهُمَا غَيْرُهُمَا لَاشْتُهِرَ كَاشْتِهَارِهِمَا وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهُمَا حَقَّانِ مَقْصُورَانِ لِآدَمِيِّينَ فَوَجَبَ إِذَا تَرَادَفَا أَنْ لَا يَتَدَاخَلَا، كَمَا لَوْ قَتَلَ رَجُلَيْنِ قُتِلَ بِأَحَدِهِمَا وَأُخِذَتْ مِنْهُ دِيَةُ الْآخَرِ فِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ قُتِلَ لهما وتؤخذ منه الدية تكون بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ يُمْنَى رَجُلَيْنِ اقْتَصَّ مِنْ يَمِينِهِ لِأَحَدِهِمَا، وَأُخِذَتْ مِنْهُ دِيَةُ يَمِينِ الْآخَرِ فِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي النَّفْسِ، وَلَيْسَ تَدَاخُلُ أَحَدِ الْحَقَّيْنِ فِي الْآخَرِ عَلَى كُلِّ الْمَذْهَبَيْنِ فِي النُّفُوسِ، وَالْأَطْرَافِ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَحْبُوسَةٌ عَلَى الزوج على حَقَّيْنِ نِكَاحٍ وَعِدَّةٍ فَلَمَّا امْتَنَعَ اشْتِرَاكُ الزَّوْجَيْنِ امْتَنَعَ تَدَاخُلُ الْعِدَّتَيْنِ، وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي التَّعَبُّدِ وَحَقِّ الزَّوْجِ فِي حِفْظِ مَائِهِ، وَحَقِّ الزَّوْجَةِ فِي السُّكْنَى فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَتَدَاخَلَ مَعَ اختلاف مستحقهما لأنه إن غلب يها حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ تَتَدَاخَلْ كَالْحُدُودِ، وَالْكَفَّارَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَإِنْ غُلِّبَ فِيهَا حَقُّ الْآدَمِيِّينَ لَمْ تَتَدَاخَلْ كَالدُّيُونِ، وَالْقِصَاصِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ فِي عِدَّةٍ أَنْ تَتَدَاخَلَ بِاخْتِلَافِ مَنْ عَلَيْهِ العدة لم

(11/290)


تَتَدَاخَلْ بِاخْتِلَافِ مَنْ لَهُ الْعِدَّةُ، وَلِأَنَّهَا لَوْ وُطِئَتْ بِالشُّبْهَةِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ لَمْ تَتَدَاخَلِ الْعِدَّتَانِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْوَطْءُ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَجَبَ أَنْ لَا تَتَدَاخَلَ الْعِدَّتَانِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَتَيْنِ فَهُوَ أَنَّ صِيغَةَ اللَّفْظِ تَضْمَنُ عِدَّةً وَاحِدَةً فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُحْمَلَ عَلَى عِدَّتَيْنِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى تَدَاخُلِ الْعِدَّتَيْنِ مِنْ وَاحِدٍ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ اسْتِبْرَاءٌ مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ فَجَازَ أَنْ يَتَدَاخَلَ، وَإِذَا كَانَ مِنِ اثْنَيْنِ فَهُوَ اسْتِبْرَاءٌ مِنْ مَائَيْنِ فَلَمْ يَتَدَاخَلَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ إِذَا عُرِفَ بَرَاءَةُ رَحِمِهَا عَنْ أَحَدِهِمَا عُرِفَ بَرَاءَتُهُ فِي حَقِّهِمَا.
فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْعِدَّةَ اسْتِبْرَاءٌ وَتَعَبُّدٌ فَإِذَا عُرِفَ الِاسْتِبْرَاءُ لَمْ يَسْقُطْ مَعَهُ التَّعَبُّدُ كَعِدَّةِ الصَّغِيرَةِ وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا فِي الْوَفَاةِ.
وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ الْعِدَّةَ تَتَّصِلُ بِسَبَبِهَا وَلَا تَنْفَصِلُ عَنْهُ فَفَاسِدٌ بِمَسْأَلَتِنَا لِانْفِصَالِ عِدَّةِ الْأَوَّلِ فِي مُدَّةِ وَطْءِ الثَّانِي ثُمَّ بِالْمُطَلَّقَةِ فِي الْحَيْضِ وَلَيْسَ الحيض، وإنها تستقبل العدة بما بعد بعض حَيْضِ الطَّلَاقِ، وَمَا قَالُوهُ مِنْ تَحْرِيمِ الْمُخْتَلِعَةِ عَلَيْهِ إِذَا وُطِئَتْ فِي عِدَّتِهَا، فَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْ نِكَاحِهَا، لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ بَعْدَ عِدَّتِهِ حَتَّى تَقْضِيَ عِدَّةَ غَيْرِهِ فَصَارَتْ كَالْمُحَرَّمَةِ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ.
وَأَمَّا اعْتِبَارُهُمْ بِتَدَاخُلِ الْأَجَلَيْنِ فَلَا يَصِحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَجَلَ فِي الدَّيْنِ حَقٌّ لِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَلَهُ إِسْقَاطُهُ بِالتَّعْجِيلِ، وَالْأَجَلُ فِي الْعِدَّةِ حَقٌّ عَلَى مَنْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَلَا يَجُوزُ إِسْقَاطُهُ بِالْعَفْوِ فَافْتَرَقَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَقْصُودَ الْآجَالِ مَا بَعْدَهَا مِنَ الْحُقُوقِ وَهِيَ غَيْرُ مُتَدَاخِلَةٍ، وَالْعِدَدُ هِيَ الْحُقُوقُ الْمَقْصُودَةُ فَاقْتَضَى قِيَاسُهُ أَنْ لَا يَتَدَاخَلَ.

(فَصْلٌ)
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قُلْتُمْ بِتَدَاخُلِ الْعِدَّتَيْنِ فِي ثَلَاثِ مَسَائِلَ فَلَزِمَكُمْ أَنْ تَقُولُوا بِهِ فِي جَمِيعِ الْمَسَائِلِ.
إِحْدَاهُنَّ: فِي زَوْجَةٍ لِرَجُلٍ وَطِئَهَا أَجْنَبِيٌّ بِشُبْهَةٍ فَدَخَلَتْ فِي عِدَّةِ الْوَاطِئِ ثُمَّ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّةِ الْوَاطِئِ اسْتَأْنَفَتْ عِدَّةَ الطَّلَاقِ، وَدَخَلَتْ فِيهَا عِدَّةُ الْوَاطِئِ بِشُبْهَةٍ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ لأصحابنا فيها وجهان:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِدَّتَيْنِ لَا يَتَدَاخَلَانِ كَمَا لَمْ يَتَدَاخَلَا فِي غَيْرِهِمَا، وَيَكُونُ هَذَا أَصْلًا مُسْتَمِرًّا وَتَأْتِي بِمَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الْوَطْءِ لِتَقَدُّمِهَا ثُمَّ تَسْتَأْنِفُ عِدَّةَ الطَّلَاقِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَسْتَأْنِفُ عِدَّةَ الطَّلَاقِ، وَيَسْقُطُ بِهَا الْبَاقِي مِنْ عِدَّةِ الْوَطْءِ وَلَا تَدْخُلُ بَقِيَّتُهَا فِي عِدَّةِ الطلاق.

(11/291)


وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَمَسْأَلَةِ الْخِلَافِ: أَنَّ الْعِدَّةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ طَرَأَتْ عَلَى نِكَاحٍ فجاز أن يسقط حكمها له سفعها بِعِدَّةِ النِّكَاحِ لِقُوَّتِهِ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ طَرَأَتْ عِدَّةٌ عَلَى عِدَّةٍ فَلَزِمَتَا مَعًا، وَلَمْ يَتَدَاخَلَا لِأَنَّ فِي تَدَاخُلِهِمَا سُقُوطَ إِحْدَاهُمَا.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنْ قَالُوا قَدْ قُلْتُمْ فِي مُشْرِكٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فِي الشِّرْكِ ثَلَاثًا، فَتَزَوَّجَتْ فِي عِدَّتِهَا وَوَطِئَهَا الثَّانِي ثُمَّ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا أَنَّهَا تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ تُدْخِلُ فِيهَا مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ، فَكَانَ هَذَا تَدَاخُلُ عِدَّتَيْنِ فِي حَقِّ الْمُشْرِكِينَ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَنْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَإِنْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الحرب لم يتداخل عِدَّتَاهُمَا؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُنَا حِفْظُ أَنْسَابِهِمْ كَمَا يَلْزَمُنَا حِفْظُ أَنْسَابِنَا وَإِنْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِدَّتَيْنِ لَا يَتَدَاخَلَانِ فِي حَقِّ الْمُشْرِكِينَ كَمَا لَا يَتَدَاخَلَانِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تَتَدَاخَلُ الْعِدَّتَانِ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُنَا أَنْ نَحْفَظَ أَنْسَابَ الْمُشْرِكِينَ فَلَمْ تَتَدَاخَلِ الْعِدَّتَانِ فِي حُقُوقِهِمْ وَإِنَّمَا تُوجَبُ الْعِدَّةُ عَلَى الْمُشْرِكِ حِفْظًا لِنَسَبِ مَنْ يَتَزَوَّجُهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَسْتَبْرِئُ المسببة حِفْظًا لِنَسَبِ مَنْ يَسْتَمْتِعُ بِهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنْ قَالُوا قَدْ قُلْتُمْ فِي رجل وطأ أَمَةً اشْتَرَاهَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا ثُمَّ بَاعَهَا لَزِمَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِقُرْءٍ وَاحِدٍ، وإن لزمها الاستبراء بقرأين ويدخل أحد الاستبرائين فِي الْآخَرِ كَذَلِكَ تَدَاخُلُ الْعِدَّتَيْنِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ لِأَصْحَابِنَا أَيْضًا فِيهَا وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَلَيْهَا الِاسْتِبْرَاءَ بِقُرْأَيْنِ لِلْمُسْتَبْرَأَيْنِ، وَلَا تَتَدَاخَلُ وَهَذَا أَصَحُّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ عَلَيْهِمَا الاستبراء وَاحِدٌ، وَيَتَدَاخَلُ الِاسْتِبْرَاءَانِ وَإِنْ لَمْ تَتَدَاخَلِ الْعِدَّتَانِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الِاسْتِبْرَاءُ أَخَفُّ مِنَ الْعِدَّةِ، لِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ بِقُرْءٍ وَاحِدٍ، وَالْعِدَّةَ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ فَجَازَ أَنْ يَتَدَاخَلَ الِاسْتِبْرَاءُ لِضَعْفِهِ وَلَمْ تَتَدَاخَلِ الْعِدَّةُ لِقُوَّتِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ يَجِبُ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ فَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْبَائِعِ اسْتِبْرَاءٌ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِهِ، وَوَجَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي لِحُدُوثِ مِلْكِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعِدَّةُ لِأَنَّهَا تَجِبُ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْفِرَاشِ فَلَمْ يُؤَثِّرِ ارْتِفَاعُهُ فِي سُقُوطِهَا، وَهُوَ الْعِلَّةُ فِي وجوبها.

(11/292)


(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْعِدَّتَيْنِ، وَأَنَّهُمَا لَا يَتَدَاخَلَانِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ لِصِغَرٍ، أَوْ إِيَاسٍ فَهِيَ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ إِنْ كَانَتْ حُرَّةً فَيُنْظَرُ فِي الْمَاضِي مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ، فَإِنْ كَانَ شَهْرًا وَاحِدًا اعْتَدَّتْ بِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ شَهْرَانِ مِنْهَا تَسْتَكْمِلُ بِهَا عِدَّةَ الطَّلَاقِ، وَلِلْمُطَلِّقِ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِيهِمَا إِنْ كَانَ طَلَاقُهُ رَجْعِيًّا وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ عِدَّةُ الْوَطْءِ وَلِلْوَاطِئِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِيهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ وَإِنْ مَضَى لَهَا مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ شَهْرَانِ اعْتَدَّتْ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ شَهْرٌ مِنْهَا تَسْتَكْمِلُ بِهِ عِدَّةَ الطَّلَاقِ وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ عِدَّةُ الْوَطْءِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فَيُنْظَرُ فِي الْمَاضِي مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ، فَإِنْ كَانَ قُرْءًا اعْتَدَّتْ بخمسة أقراء منها قرءان تَسْتَكْمِلُ بِهِمَا عِدَّةَ الطَّلَاقِ، وَثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ عِدَّةُ الوطء وإن مضى منها قرءان اعْتَدَّتْ بِأَرْبَعَةِ أَقْرَاءٍ مِنْهَا قُرْءٌ تَسْتَكْمِلُ بِهِ عِدَّةَ الطَّلَاقِ، وَثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ عِدَّةُ الْوَطْءِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الْحَمْلِ فَيُنْظَرُ فِي الْحَمْلِ، فَإِنْ لَحِقَ بِالْأَوَّلِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْهُ بِوَضْعِهِ وَاسْتَأْنَفَتْ لِلثَّانِي ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ وَإِنْ لَحِقَ بِالثَّانِي انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْهُ بِوَضْعِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَاحِقًا بِهِ وَتَنْقَضِي بِهِ عِدَّتُهَا مِنْ غَيْرِهِ فَلِذَلِكَ تَقَدَّمَتْ بِهِ عِدَّةُ الثَّانِي وَلَزِمَهَا أَنْ تَسْتَكْمِلَ مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الْأَوَّلِ وَلَا اعْتِبَارَ بِادِّعَائِهِ لَهُ، لِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ حَقٌّ لِلْوَلَدِ فَإِنْ نَفَاهُ لَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ إِلَّا أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْهُ فَيَنْتَفِيَ بِاللِّعَانِ وَلَا يُلْحَقُ بِالْأَوَّلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَحِقَ بِالْأَوَّلِ فَنَفَاهُ بِاللِّعَانِ لَمْ يُلْحَقْ بِالثَّانِي وَتَكُونُ عِدَّةُ مَنْ نَفَاهُ قَدِ انْقَضَتْ بِوَضْعِهِ، لِأَنَّهُ نُفِيَ بَعْدَ لُحُوقٍ وَلَكِنْ لَوْ لَمْ يُلْحَقْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ تَنْقَضِ بِوَضْعِهِ عِدَّةُ واحد منهما، وكان عليهما أَنْ تَسْتَكْمِلَ مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الْأَوَّلِ، وَتَسْتَأْنِفَ عِدَّةَ الثَّانِي وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُلْحَقَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَعَدِمَتِ الْقَافَةُ وُقِفَ إِلَى زَمَانِ الِانْتِسَابِ وَكَانَ عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ، لِأَنَّ إِحْدَى الْعِدَّتَيْنِ قَدِ انْقَضَتْ بِوَضْعِهِ وَبَقِيَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ الْأُخْرَى، فَإِنْ كَانَتِ الْأُولَى فَهِيَ بَقِيَّتُهَا، وَإِنْ كَانَتِ الثَّانِيَةُ فَهِيَ جَمِيعُهَا فَإِذَا اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ كَانَتْ يَقِينًا.
(فَصْلٌ)
فَأَمَّا اجْتِمَاعُ الْعِدَّتَيْنِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الْعِدَّةُ الْأُولَى عَنْ عَقْدٍ، وَالْعِدَّةُ الثَّانِيَةُ عَنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْأُولَى عَنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ، وَالثَّانِيَةُ عَنْ عَقْدٍ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ كون كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْعِدَّتَيْنِ عَنْ عَقْدٍ.

(11/293)


فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْعِدَّةُ الْأُولَى عَنْ عَقْدٍ، وَالثَّانِيَةُ عَنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ فَصُورَتُهُ فِي رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا ثُمَّ وَطِئَهَا فِي عِدَّتِهَا فَهَذَا الْوَطْءُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَلَا تَصِحُّ بِهِ الرَّجْعَةُ، وَهُوَ حَلَالٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَتَصِحُّ بِهِ الرَّجْعَةُ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ " الرَّجْعَةِ " وَإِذَا كَانَ هَذَا الْوَطْءُ مُحَرَّمًا فَلَا حَدَّ فِيهِ لِأَجْلِ الشُّبْهَةِ وَأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ فِي أَحْكَامِ الزَّوْجَاتِ لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ، وَاسْتِحْقَاقِ التَّوَارُثِ، وَذَلِكَ مِنْ أَقْوَى الشُّبُهَاتِ فِي إِسْقَاطِ الْحَدِّ مَعَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ لَكِنْ يُعَزَّرَانِ إِنْ عَلِمَا تَحْرِيمَهُ وَلَا يعزران إن جهلاه، وعليهما أَنْ تَعْتَدَّ مِنْ هَذَا الْوَطْءِ؛ لِأَنَّهُ وَطْءُ شُبْهَةٍ يُوجِبُ لُحُوقَ النَّسَبِ وَيَدْخُلُ فِي عِدَّةِ الْوَطْءِ مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ، لِأَنَّهُمَا عِدَّتَانِ لِحِفْظِ مَاءٍ وَاحِدٍ فَتَدَاخَلَتَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ حَامِلًا.
فَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتٍ الشُّهُورِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَطْءِ يَدْخُلُ فِيهَا مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ، فَإِنْ كَانَ الْوَطْءُ بَعْدَ أَنْ مَضَى مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ شَهْرٌ وَبَقِيَ مِنْهَا شَهْرَانِ كَانَ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ، وَالشَّهْرُ الثَّانِي مِنَ الْعِدَّتَيْنِ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَمِنْ عِدَّةِ الْوَطْءِ وَلَهَا فِيهِمَا النَّفَقَةُ، وَلَهُ فِيهِمَا الرَّجْعَةُ، وَإِنْ وَطِئَهَا فِيهِمَا لَمْ يُحَدَّ وَكَانَ الشَّهْرُ الثَّالِثُ مُخْتَصًّا بِعِدَّةِ الْوَطْءِ لَا نَفَقَةَ لَهَا فِيهِ وَلَا رَجْعَةَ لَهُ فِيهِ، وَإِنْ وَطِئَهَا فِيهِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ.
وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ مِنْ وَقْتِ الْوَطْءِ، وَأَجْزَأَهَا عَنِ الْعِدَّتَيْنِ فَإِنْ كان الوطء بعد أن مضى قرءان مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ كَانَ الْقُرْءُ الْأَوَّلُ آخِرَ عِدَّةِ الطَّلَاقِ، وَأَوَّلَ عِدَّةِ الْوَطْءِ وَلَهُ فِيهِ الرَّجْعَةُ وَعَلَيْهِ فِيهِ النَّفَقَةُ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ إن وطئ فيه وكان القرءان الْآخَرَانِ مُخْتَصَّيْنِ بِعِدَّةِ الْوَطْءِ لَيْسَ لَهُ فِيهَا رَجْعَةٌ وَلَا عَلَيْهِ فِيهِمَا نَفَقَةٌ وَإِنْ وَطِئَهَا فِيهِمَا حُدَّ.
وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا لَمْ يَخْلُ حَمْلُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا قَبْلَ الطَّلَاقِ أَوْ حَادِثًا بَعْدَ الْوَطْءِ، فَإِنْ كَانَ مُتَقَدِّمًا قَبْلَ الطَّلَاقِ فَعِدَّتُهَا مِنَ الطَّلَاقِ تَكُونُ بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَعِدَّتُهَا مِنَ الْوَطْءِ تَكُونُ بِالْأَقْرَاءِ، وَهُمَا جِنْسَانِ وَفِي تَدَاخُلِهِمَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَتَدَاخَلَانِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، فَعَلَى هَذَا تَنْقَضِي عَدَّتَاهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَلَهُ الرَّجْعَةُ مَا لَمْ تَضَعْ وَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ، وَإِنْ وَطِئَهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَتَدَاخَلَانِ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْجِنْسَيْنِ يَقْتَضِي اخْتِلَافَ الْحُكْمَيْنِ

(11/294)


فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَدَاخَلَا مَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَالْحُكْمِ، وَهَكَذَا لَوْ زَنَا بِكْرًا ثُمَّ زَنَا ثَيِّبًا فَفِي تَدَاخُلِ الْحَدَّيْنِ وَجْهَانِ، فَعَلَى هَذَا إِذَا مُنِعَ مِنْ تَدَاخُلِ هَاتَيْنِ الْعِدَّتَيْنِ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا فِي الْحَمْلِ مِنْ أَنْ تَرَى عَلَيْهِ دَمًا أَوْ لَا تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَرَ دَمًا انْقَضَتْ عِدَّةُ الطَّلَاقِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَلَهُ مَا لَمْ تَضَعْ أَنْ يُرَاجِعَ وَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ فَإِذَا وَضَعَتِ اسْتَأْنَفَتْ عِدَّةَ الْوَطْءِ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ بَعْدَ النِّفَاسِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا رَجْعَةٌ وَلَا عَلَيْهِ فِيهَا نَفَقَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ تَرَى عَلَى الْحَمْلِ دَمًا فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، هَلْ يَكُونُ دَمُهَا عَلَى الْحَمْلِ حَيْضًا أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ في القديم يكون دم فعاد وَلَا يَكُونُ حَيْضًا، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ فِي حُكْمِ مَنْ لَمْ تَرَ عَلَى الْحَيْضِ دَمًا فِي أَنَّ عِدَّتَهَا مِنَ الطَّلَاقِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَمِنَ الْوَطْءِ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ بَعْدَ النِّفَاسِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ الدَّمَ عَلَى الْحَمْلِ يَكُونُ حَيْضًا، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ عِدَّتُهَا مِنَ الطَّلَاقِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَعِدَّتُهَا مِنَ الْوَطْءِ تَكُونُ بِالْأَقْرَاءِ الَّتِي عَلَى الْحَمْلِ وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَعْتَدَّ هَذِهِ الْحَامِلُ بِالْأَقْرَاءِ الَّتِي عَلَى الْحَمْلِ، وَإِنْ لَمْ تَعْتَدَّ غَيْرُهَا بِهِ، لِأَنَّ عَلَى هَذِهِ عِدَّتَيْنِ إِحْدَاهُمَا بِالْحَمْلِ فَجَازَ أَنْ تَكُونَ الْأُخْرَى بِالْأَقْرَاءِ الَّتِي عَلَى الْحَمْلِ وَغَيْرُهَا لَيْسَ عَلَيْهَا إِلَّا عِدَّةٌ وَاحِدَةٌ فَلَمْ تَعْتَدَّ إِلَّا بِالْحَمْلِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ فَإِنِ اسْتَكْمَلَتْ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ قَبْلَ وَضْعِ الْحَمْلِ فَقَدْ مَضَتْ عِدَّةُ الْوَطْءِ وَتَصِيرُ هَذَا الْمَوْضِعَ مُتَقَدِّمَةً عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَتَنْقَضِي عِدَّةُ الطَّلَاقِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَلَهُ الرَّجْعَةُ مَا لَمْ تَضَعْ وَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ وَإِنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا قَبْلَ اسْتِكْمَالِ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ انْقَضَتْ عِدَّةُ الطَّلَاقِ بِوَضْعِهِ،
وَسَقَطَتْ عَنْهُ النَّفَقَةُ وَبَطَلَتِ الرَّجْعَةُ وَلَزِمَهَا أَنْ تُكْمِلَ بَعْدَ الْوَضْعِ مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الْوَطْءِ، وإن كان الحمل حدثاً بَعْدَ الْوَطْءِ فَعِدَّةُ الطَّلَاقِ بِالْأَقْرَاءِ وَعِدَّةُ الْوَطْءِ بِالْحَمْلِ، وَفِي تَدَاخُلِهِمَا مَعَ اخْتِلَافِ جِنْسِهِمَا مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَتَدَاخَلَانِ، فَعَلَى هَذَا تَنْقَضِي عِدَّتَاهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَلَهُ مَا لَمْ تَضَعِ الرَّجْعَةُ وَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَتَدَاخَلَانِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ تَرَ عَلَى الْحَمْلِ دَمًا أَوْ رَأَتْهُ وَلَمْ تَجْعَلْهُ حَيْضًا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنَ الْوَطْءِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَتَكُونُ عدتها الْوَطْءِ هَاهُنَا مُتَقَدِّمَةً عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ، فَإِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا اسْتَكْمَلَتْ مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ، فَإِنْ كَانَ الْمَاضِي مِنْهَا قَبْلَ الْوَطْءِ قُرْءٌ أَتَتْ بِقُرْأَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْمَاضِيَ مِنْهَا قرءان أَتَتْ بِقُرْءٍ وَاحِدٍ، وَلَهُ أَنْ يُرْجِعَهَا فِي الْبَاقِي مِنْ أَقْرَاءِ الطَّلَاقِ بَعْدَ الْحَمْلِ، وَعَلَيْهِ فِيهِ النَّفَقَةُ وَفِي مُرَاجَعَتِهَا وَوُجُوبِ نَفَقَتِهَا قَبْلَ وَضْعِ الْحَمْلِ وَجْهَانِ:

(11/295)


أَحَدُهُمَا: لَا رَجْعَةَ لَهُ، وَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا عِدَّةُ مَنْ وَطِئَ فَعَلَى هَذَا لَوْ وَطِئَهَا فِي الْحَمْلِ حُدَّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ الرَّجْعَةُ وَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَقَّبَ الْحَمْلُ عِدَّةَ الطَّلَاقِ جَرَى عَلَى مُدَّةِ الْحَمْلِ أَحْكَامُ عِدَّةِ الطَّلَاقِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ وَطِئَهَا فِي الحمل لم يجد وَإِنْ رَأَتْ عَلَى الْحَمْلِ دَمًا وَجَعَلْنَاهُ حَيْضًا اعْتَدَّتْ بِالْأَقْرَاءِ عَلَى الْحَمْلِ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَبِوَضْعِ الْحَمْلِ مِنْ عِدَّةِ الْوَطْءِ فَإِنْ سَبَقَ وَضْعَ الْحَمْلِ انْقَضَتْ بِهِ عِدَّةُ الْوَطْءِ وَأَتَتْ بِالْبَاقِي مِنْ أَقْرَاءِ الطَّلَاقِ، وَكَانَ فِي الرَّجْعَةِ وَالنَّفَقَةِ وَالْوَطْءِ عَلَى مَا مَضَى، وَإِنْ سَبَقَتِ الْأَقْرَاءُ عَلَى وَضْعِ الْحَمْلِ انْقَضَتْ بِهَا عِدَّةُ الطَّلَاقِ وَانْقَضَتْ بِوَضْعِ الْحَمْلِ عِدَّةُ الْوَطْءِ.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْعِدَّةُ الْأُولَى عَنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ، وَالْعِدَّةُ الثَّانِيَةُ عَنْ عَقْدِ نِكَاحٍ، فَصُورَتُهُ فِي رَجُلٍ وَطِئَ امْرَأَةً بِشُبْهَةٍ أَوْ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ، لِأَنَّ الْعِدَّةَ مِنْهُ فَإِنْ دَخَلَ بِهَا سَقَطَتْ عِدَّةُ الْوَطْءِ بِدُخُولِهِ، وَعَلَيْهَا إِنْ طَلَّقَ أَنْ تَسْتَأْنِفَ الْعِدَّةَ مِنْ طَلَاقِهِ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى طَلَّقَهَا فَهَلْ تَكُونُ مُدَّةُ النِّكَاحِ قَاطِعَةً لِعِدَّةِ الْوَطْءِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَخَرَجَ بِهِ عَنِ الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَا تُقْطَعُ عِدَّةُ الْوَطْءِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ حَتَّى يَطَأَ فِيهِ كَالْعَقْدِ الْفَاسِدِ وَجَعَلَهَا فِي مُدَّةِ النِّكَاحِ جَارِيَةً فِي عِدَّةِ الْوَطْءِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الْقِيَاسُ الْمُطَّرِدُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عِدَّةَ الْوَطْءِ قَدِ انْقَطَعَتْ بِعَقْدِ النِّكَاحِ إِذَا كَانَ صَحِيحًا، وَإِنْ لَمْ يَطَأْ فِيهِ لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ بِهِ فِرَاشًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِرَاشًا وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ وَخَالَفَتِ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ، لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ فِرَاشًا فِيهِ إِلَّا بِالْوَطْءِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَنْقَطِعْ بِهِ الْعِدَّةُ، فَعَلَى هَذَا إِذَا قَطَعَ الْعَقْدُ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْعِدَّةِ أَكْمَلَتْ بَعْدَ الطَّلَاقِ عِدَّةَ الْوَطْءِ وَبَنَتْ عَلَى مَا مَضَى مِنْهُ وَحَلَّتْ بَعْدَهَا لِلْأَزْوَاجِ، وَلَمْ يَلْزَمْهَا مِنَ الطَّلَاقِ عِدَّةٌ؛ لِأَنَّهُ فِي نِكَاحٍ تَجَرَّدَ عَنْ دُخُولٍ.
(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْعِدَّتَانِ عَنْ عَقْدَيْنِ، فَصُورَتُهُ فِي رَجُلٍ خَالَعَ زَوْجَتَهُ بَعْدَ الدُّخُولِ عَلَى طَلْقَةٍ أَوْ طَلْقَتَيْنِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ، وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ الْمُزَنِيُّ خِلَافًا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ، فَإِنْ طَلَّقَ فِي هَذَا الْعَقْدِ الثَّانِي لَمْ يَخْلُ أَنْ تَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ، أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَقَدْ سَقَطَ بِالدُّخُولِ مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ فِي الْخُلْعِ، وَعَلَيْهَا أَنْ تَسْتَأْنِفَ الْعِدَّةَ مِنَ الطَّلَاقِ الثَّانِي وَإِن لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فِي الْعَقْدِ الثَّانِي حَتَّى طَلَّقَ وَلَمْ يُلْزِمْهَا فِيهِ عِدَّةً، وَلَمْ يُسْقِطْ بِهِ مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ، وَأَسْقَطَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ وَإِذَا لَمْ يَسْقُطْ لَزِمَهَا

(11/296)


إِكْمَالُ الْعِدَّةِ الْأُولَى، وَهَلْ يَكُونُ الْعَقْدُ الثَّانِي مَعَ خُلُوِّهِ مِنَ الْوَطْءِ قَاطِعًا لِلْعِدَّةِ الْأُولَى أَمْ لَا؟
قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: لَا تَقْطَعُهَا وَتَكُونُ جَارِيَةً فِي عِدَّتِهَا حَتَّى تَسْتَكْمِلَهَا، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْعِدَّةَ قَدِ انْقَطَعَتْ بِالْعَقْدِ، وَيَكُونُ الْبِنَاءُ عَلَى الْعِدَّةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَإِنَّمَا أُعِيدَتْ لِاقْتِضَاءِ التَّسْلِيمِ لَهَا.

(فَصْلٌ)
وَإِذَا زَوَّجَ السَّيِّدُ أَمَتَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى السَّيِّدِ حَتَّى تَقْضِيَ عِدَّتَهَا فَإِذَا قَضَتْهَا حَلَّتْ لَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ بَعْدَ الْعِدَّةِ، وَلَوْ بَاعَهَا السَّيِّدُ فِي الْعِدَّةِ صَحَّ الْبَيْعُ، لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا بِالْعِدَّةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ لَهَا كَالْمُحَرَّمَةِ بِنَسَبٍ، أَوْ رَضَاعٍ، فَإِذَا قَضَتْ عِدَّتَهَا لَمْ تَحِلَّ لِلْمُشْتَرِي إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ بِخِلَافِ الْبَائِعِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْبَائِعَ عَادَتْ إِلَيْهِ بِمِلْكٍ مُتَقَدِّمٍ قَدِ اسْتَبْرَأَهَا فِيهِ فلم يلزمه أن يستبرأها ثَانِيَةً لِأَنَّهُ مَا اسْتَحْدَثَ مِلْكًا ثَانِيًا وَإِنَّمَا طَرَأَ عَلَى مِلْكِهِ فِرَاشَ الزَّوْجِ، وَقَدِ ارْتَفَعَ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مِنْهُ فَعَادَتْ إِلَى إِبَاحَتِهِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِبْرَاءٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُشْتَرِي، لِأَنَّهُ اسْتَحْدَثَ مِلْكًا يُوجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءَ فِي حَقِّهِ وَعِدَّةُ الْمُطَلِّقِ كَانَتْ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَصَارَ كَعِدَّتَيْنِ مِنِ اثْنَيْنِ لَا يَتَدَاخَلَانِ كَذَلِكَ لَا يَتَدَاخَلُ الِاسْتِبْرَاءُ وَالْعِدَّةُ.
(فَصْلٌ)
وَإِذَا وَطِئَ الرَّجُلُ أَمَةَ غَيْرِهِ بِشُبْهَةٍ يَظُنُّهَا أَمَةَ نَفْسِهِ لَحِقَ بِهِ وَلَدُهَا، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ وَكَانَتْ عِدَّتُهَا مِنْ إِصَابَةِ الِاسْتِبْرَاءِ بِحَيْضَةٍ وَلَا يَلْزَمُهَا عِدَّةُ الزَّوْجَاتِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ وَلَا ظَنَّهَا الْوَاطِئُ زَوْجَةً فَإِنْ ظَنَّهَا عِنْدَ وَطْئِهِ لَهَا أَنَّهَا زَوْجُهُ فَهَلْ تَكُونُ عِدَّتُهَا مِنْ إِصَابَتِهِ عِدَّةَ زَوْجَةٍ، أَوِ اسْتِبْرَاءَ أَمَةٍ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: استبراء أمة بحيضة واحدة اعتباراً يالموطوءة وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عِدَّةُ الزَّوْجِيَّةِ اعْتِبَارًا بِالْوَطْءِ فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ الَّتِي اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْأَمَةِ الْمَوْطُوءَةِ مَمْلُوكَةً، وَلَمْ تَكُنْ حُرَّةً لَزِمَ الْأَمَةَ الْمَوْطُوءَةَ عِدَّةُ أَمَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً فَفِيمَا يَلْزَمُ الْأَمَةَ الْمَوْطُوءَةَ مِنَ الْعِدَّةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجِ عِدَّهُ حُرَّةٍ ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ اعْتِبَارًا بِاعْتِقَادِ الْوَاطِئِ وَطْءَ زَوْجَتِهِ حُرَّةً.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا عِدَّةُ أَمَةٍ، لأن عدة الزوجية معتبرة بحال الموظوءة دُونَ الْوَاطِئِ فَأَمَّا إِذَا وَطِئَ زَوْجَةَ غَيْرِهِ يَظُنُّهَا أَمَةَ نَفْسِهِ فَعَلَيْهَا مِنْ وَطْئِهِ عِدَّةُ حُرَّةٍ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ أَصْحَابُنَا وَلَا اعْتِبَارَ فِيهَا بِمُعْتَقَدِهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ

(11/297)


الْحُرَّةَ لَا تَسْتَبْرِئُ نَفْسَهَا إِلَّا بِعِدَّةٍ، وَالْأَمَةُ قَدْ تَسْتَبْرِئُ نَفْسَهَا بِغَيْرِ عِدَّةٍ فَجَازَ أَنْ يَخْتَلِفَ حَالُ الْأَمَةِ وَلَا يَخْتَلِفَ حَالُ الْحُرَّةِ.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ اعْتَدَّتْ بِحَيْضَةٍ ثُمَّ أَصَابَهَا الثَّانِي وَحَمَلَتْ وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا اعْتَدَّتْ بِالْحَمْلِ فَإِذَا وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ نَكَحَهَا الْآخَرُ فهو من الأول وإن جاءت به لأكثر من أربع سنين من يوم فارقها الأول وكان طلاقه لا يملك فيه الرجعة فهو للآخر وإن كان يملك فيه الرجعة وتداعياه أو لم يتداعياه ولم ينكراه ولا واحداً منهما أريه القافة فإن ألحقوه بالأول فقد انقضت عدتها منه وتبتدئ عدة من الثاني وله خطبتها فإن ألحقوه بالثاني فقد انقضت عدتها منه وتبتدئ فتكمل على ما مض من عدة الأول وللأول عليها الرجعة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي مُطَلَّقَةٍ نَكَحَتْ فِي عدتها فقد ذكرنا بطلان نكاحها، وأنهإ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا الثَّانِي كَانَتْ جَارِيَةً فِي عِدَّتِهَا، وَكَانَ وُجُودُ النِّكَاحِ فِي النِّكَاحِ كَعَدَمِهِ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي انْقَطَعَتْ عِدَّةُ الْأَوَّلِ بِدُخُولِ الثَّانِي لَا بِعَقْدِهِ، لِأَنَّهُ بِالدُّخُولِ صَارَتْ فِرَاشًا لَهُ وَبِالْفِرَاشِ تَنْقَطِعُ الْعِدَّةُ، فَإِذَا فراق بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الثَّانِي ارْتَفَعَ فِرَاشُهُ، وَلَزِمَهَا أَنْ تَعْتَدَّ مِنْ وَطْئِهِ بَعْدَ أَنْ تُكْمِلَ بَقِيَّةَ عِدَّةِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَامِلًا بَدَّلَتْ بِبَقِيَّةِ عِدَّةِ الْأَوَّلِ مِنْ بَعْدِ فُرْقَةِ الثَّانِي، فَإِذَا أَكْمَلَتْهَا اسْتَأْنَفَتْ بَعْدَهَا عِدَّةَ الثَّانِي بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ كَامِلَةٍ، وَهَذَا قَدْ مَضَى وَإِنْ كَانَتْ حِينَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الثَّانِي حَامِلًا فَلِحَمْلِهَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُلْحَقَ بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُلْحَقَ بِالثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يُلْحَقَ بِالْأَوَّلِ وَلَا بِالثَّانِي. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يُمْكِنَ لُحُوقُهُ بِالْأَوَّلِ وَالثَّانِي.
فَأَمَّا الْحَالُ الْأُولَى: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ لَاحِقًا بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي: فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَرْبَعِ سِنِينَ فَمَا دُونَهَا مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ دُخُولِ الثَّانِي، فَهُوَ لَاحِقٌ بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، لِأَنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ مَا بَيْنَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ إِلَى أَرْبَعِ سِنِينَ اعْتِبَارًا بِالْوُجُودِ عَلَى مَا سَنُوَضِّحُهُ فَكَانَتِ السِّتَّةُ أَشْهُرٍ حَدًّا لِأَقَلِّهِ فَلَمْ يَكُنْ مَا دُونَهَا مُدَّةً لِلْحَمْلِ، وَكَانَتِ الْأَرْبَعُ سِنِينَ حَدًّا لِأَكْثَرِهِ فَلَمْ يَكُنْ مَا زَادَ عَلَيْهَا مُدَّةً لِلْحَمْلِ فَلِذَلِكَ لَحِقَ بِالْأَوَّلِ لِوُجُودِهِ فِي مُدَّةِ حَمْلِهِ، وَانْتَفَى عَنِ الثَّانِي لِقُصُورِهِ عَنْ مُدَّةِ حَمْلِهِ، وَيَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ خَمْسَةُ أَحْكَامٍ النَّسَبُ، وَالْعِدَّةُ، وَالرَّجْعَةُ، وَالتَّزْوِيجُ، وَالنَّفَقَةُ.

(11/298)


فأما النسب فقد ذكرناه، وأنه لا حق به هَاهُنَا بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي.
وَأَمَّا الْعِدَّةُ فَهِيَ عِدَّتَانِ فَتَنْقَضِي عِدَّةُ الْأَوَّلِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ لِلُحُوقِهِ بِهِ وَتَسْتَأْنِفُ عِدَّةَ الثَّانِي بَعْدَ مُدَّةِ النِّفَاسِ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ.
وَأَمَّا الرَّجْعَةُ فَهِيَ مُسْتَحَقَّةٌ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ دُونَ الْفَاسِدِ، فَيَكُونُ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ لِصِحَّةِ نِكَاحِهِ دُونَ الثَّانِي لِفَسَادِ نِكَاحِهِ، فَإِذَا اسْتَحَقَّهَا الْأَوَّلُ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ فَلَيْسَ لَهُ مُرَاجَعَتُهَا فِي مُدَّةِ اجْتِمَاعِهَا مَعَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهَا خَارِجَةٌ فِيهَا عَنْ عِدَّتِهِ وَفِرَاشٌ لِغَيْرِهِ فَإِنْ رَاجَعَ فِيهَا كَانَتِ الرَّجْعَةُ بَاطِلَةً، فَإِذَا فَارَقَتِ الثَّانِي صَارَتْ دَاخِلَةً فِي الْعِدَّةِ فَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْأَوَّلُ فِيهِ الرَّجْعَةَ، فَإِذَا رَاجَعَهَا فَلَهُ حِينَ الرَّجْعَةِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَ فِي وَقْتِ الرَّجْعَةِ بِتَقَدُّمِ حَمْلِهَا عل وَطْءِ الثَّانِي فَرَجْعَتُهُ صَحِيحَةٌ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهَا فِي عِدَّتِهِ وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ، أَنْ يَعْلَمَ تَحَمُّلَهَا وَقْتَ رَجْعَتِهَا، وَلَا يَعْلَمَ تَقَدُّمَهُ عَلَى وَطْءِ الثَّانِي فَفِي صِحَّةِ رَجْعَتِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي إِطْلَاقِهِ أَنَّ الرَّجْعَةَ صَحِيحَةٌ، لِأَنَّهَا صَادَفَتْ مُدَّةَ عِدَّتِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الرَّجْعَةَ فَاسِدَةٌ، لِأَنَّ الْحَمْلَ قَبْلَ وَضْعِهِ مُشْتَبِهُ الْحَالِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ فَيَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يَمْلِكُهَا فَصَارَ شَاكًّا فِي اسْتِحْقَاقِهَا فِيهِ فَبَطَلَتْ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُرَاجِعَهَا مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِحَمْلِهَا فَيَنْظُرَ فِي وَقْتِ رَجْعَتِهِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهَا بَقِيَّةُ عِدَّتِهِ صَحَّتْ رَجْعَتُهُ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ مُضِيِّهَا لَمْ تَصِحَّ.
مِثَالُهُ: أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي مِنْ عدته قرءان فَرَاجَعَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْقُرْأَيْنِ صَحَّتِ الرَّجْعَةُ، لِأَنَّهَا صَادَفَتْ مُدَّةَ عِدَّتِهِ اعْتِقَادًا وَحُكْمًا، وَإِنْ رَاجَعَهَا بَعْدَ مُضِيِّ الْقُرْأَيْنِ لَمْ تَصِحَّ الرَّجْعَةُ اعْتِبَارًا بِالظَّاهِرِ مِنِ انْقِضَائِهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْبَاطِنِ بَاقِيَةً فِيهَا وَصَارَتْ رَجْعَتُهُ مَعَ اعْتِقَادِهِ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ عَبَثًا مِنْهُ، وَإِنْ وَافَقَتْ زَمَانَ الْعِدَّةِ.
وَأَمَّا التَّزْوِيجُ فَلَا يَجُوزُ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ بِحَالٍ، وَأَمَّا فِي عِدَّةِ الثَّانِي بَعْدَ الْحَمْلِ فَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِيهَا، وَيَجُوزُ لِلثَّانِي عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَعَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَالتَّخْرِيجُ الْمَحْكِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ قَدْ حَرُمَتْ عَلَى الثَّانِي أَبَدًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ وَلَا بَعْدَهَا وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ.

(11/299)


وَأَمَّا النَّفَقَةُ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهَا مَسْطُورًا مِنْ بَعْدُ فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ أَحْوَالِهَا الْأَرْبَعِ.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ أَحْوَالِهَا وهو أن يكون لاحقا بالثاني دون الأول فهو أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ طلاق الأول ولستة أشهر فصاعدا من أَوَّلِ دُخُولِ الثَّانِي لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ بِاسْتِكْمَالِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ أَوَّلِ دُخُولِهِ وَنُقْصَانِهَا مِنْ آخِرِ دُخُولِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا الْوَلَدُ لَاحِقٌ بِالثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ إِنْ كَانَ طَلَاقُهُ بَائِنًا، وَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا فَعَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا:
أَحَدُهُمَا: كَالْبَائِنِ يُلْحَقُ بِالثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْبَائِنِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُلْحَقَ بِالْأَوَّلِ وَالثَّانِي فَيَكُونَ كَالْقِسْمِ الرَّابِعِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وَالتَّفْرِيعُ هَاهُنَا يَكُونُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ تَفْرِيعَ الْقَوْلِ الثَّانِي يَدْخُلُ فِي الْقِسْمِ الرَّابِعِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَوَجَّهَ الْكَلَامُ إِلَى بَيَانِ ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ: الْعِدَّةُ، وَالرَّجْعَةُ، وَالتَّزْوِيجُ، لِأَنَّ النَّسَبَ مَضَى، وَالنَّفَقَةَ تَأْتِي.
فَأَمَّا الْعِدَّةُ فَتَنْقَضِي عِدَّةُ الثَّانِي بِوَضْعِ الْحَمْلِ لِأَنَّهُ لَاحِقٌ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُلْحَقَ بِهِ حَمْلٌ تَعْتَدُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّ عِدَّتَهُ لِحِفْظِ مَائِهِ ثُمَّ تَسْتَأْنِفُ مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الْأَوَّلِ بَعْدَ انقطاع دم النفاس والباقي منها قرءان، لِأَنَّ الْمَاضِيَ مِنْهَا قُرْءٌ، فَإِذَا اسْتَكْمَلَتْهَا حَلَّتْ.
وَأَمَّا الرَّجْعَةُ فَهِيَ لِلْأَوَّلِ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، فإذا رَاجَعَهَا بَعْدَ نِفَاسِهَا فِي بَقِيَّةِ عِدَّتِهِ صَحَّتْ رجعته، فإن رَاجَعَهَا قَبْلَ دُخُولِهَا فِي عِدَّتِهِ فَفِي صِحَّةِ رَجْعَتِهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ ذَكَرْنَاهُمَا:
أَحَدُهُمَا: الرَّجْعَةُ صَحِيحَةٌ لِبَقَاءِ عِدَّتِهِ.
وَالثَّانِي: فَاسِدَةٌ، لِأَنَّهَا فِي غَيْرِ عِدَّتِهِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنْ يُفْصَلَ، فَإِنْ كَانَتْ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ بَطَلَتْ، وَإِنْ كَانَتْ فِي مُدَّةِ النِّفَاسِ صَحَّتْ، لِأَنَّهَا فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ مُعْتَدَّةٌ مِنْ غَيْرِهِ وَفِي مُدَّةِ النِّفَاسِ غَيْرُ مُعْتَدَّةٍ مِنْ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا التَّزْوِيجُ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا أَحَدٌ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الْأَوَّلِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي بَقِيَّةِ عِدَّتِهِ فَأَمَّا الْأَوَّلُ، فَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ أَغْنَتْهُ الرَّجْعَةُ عَنِ النِّكَاحِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُهَا وَحَلَّتْ لَهُ قَبْلَ زَوْجٍ جَازَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَإِنْ لَمْ تَحِلَّ لَهُ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَلَمْ يُحِلَّهَا الثَّانِي لَهُ لِفَسَادِ نِكَاحِهِ، وَلِأَنَّ إِصَابَتَهُ كَانَتْ فِي مُدَّةِ عِدَّتِهِ.
(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَحْوَالِهَا الْأَرْبَعَةِ، وَهُوَ أَنْ لَا يُلْحَقَ بالأول ولا

(11/300)


بِالثَّانِي فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ آخِرِ دُخُولِ الثَّانِي فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا لَمْ يُلْحَقْ بِالْأَوَّلِ وَلَا بِالثَّانِي لِتَجَاوُزِ مُدَّةِ أَكْثَرِ الْحَمْلِ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ، وَلِقُصُورِهِ عَنْ مُدَّةِ أَقَلِّ الْحَمْلِ فِي حَقِّ الثَّانِي وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا فَعَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: كَالْبَائِنِ لَا يُلْحَقُ بِالْأَوَّلِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُلْحَقُ بِهِ وَيَكُونُ كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ التَّفْرِيعُ لِدُخُولِ حُكْمِ الْقَوْلِ الثَّانِي فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَلَمْ يُلْحَقِ الْوَلَدُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَعَلَيْهِما عِدَّتَانِ بَقِيَّةُ عِدَّةِ الْأَوَّلِ، وَكُلُّ عِدَّةِ الثَّانِي وَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَنْ تَرَى فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ دَمًا أَوْ لَا تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَرَ عَلَيْهِ دَمًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَسْقُطُ بِوَضْعِ الْحَمْلِ إِحْدَى الْعِدَّتَيْنِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ تَخْرِيجًا - أَنَّهُ تَنْقَضِي بِهِ إِحْدَى الْعِدَّتَيْنِ، لِأَنَّ نَفْيَهُ لَا يَمْنَعُ مِنِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِهِ كَالْمَنْفِيِّ بِاللِّعَانِ، فَعَلَى هَذَا تَنْقَضِي بِهِ إِحْدَى الْعِدَّتَيْنِ لَا بِعَيْنِهَا وَيَلْزَمُهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِعِدَّةٍ أَوْ فِي الْعِدَّتَيْنِ احْتِيَاطًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا - أَنَّ الْعِدَّتَيْنِ بَاقِيَتَانِ لَا تَسْقُطُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا بِوَضْعِهِ، لِأَنَّ الْعِدَّةَ مَوْضُوعَةٌ لِحِفْظِ مَاءٍ مُسْتَلْحَقٍ، وَهَذَا الْحَمْلُ غَيْرُ لَاحِقٍ فَخَرَجَ زَمَانُهُ عَنْ حُكْمِ الْعِدَّةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهَا أَنْ تَسْتَكْمِلَ بَعْدَ دَمِ نِفَاسِهَا مَا بَقِيَ مِنْ عدة الأول، وهي قرءان ثُمَّ تَسْتَأْنِفُ بَعْدَهُمَا عِدَّةَ الثَّانِي، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ، فَإِنْ رَأَتْ عَلَى الْحَمْلِ دَمًا، فَإِنْ قِيلَ فِيهِ إِنَّهُ لَيْسَ بِحَيْضٍ كَانَتْ فِي حكم من لم ترد دَمًا عَلَى مَا مَضَى، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ حَيْضٌ، وَقِيلَ: إِنَّهَا تَعْتَدُّ بِالْحَمْلِ لَمْ يَجُزْ أن تعتد بالحيض الذي على الحمل، لأن لا تَتَدَاخَلَ عِدَّتَانِ فِي حَقَّيْ شَخْصَيْنِ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا لَا تَعْتَدُّ بِالْحَمْلِ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِانْتِفَائِهِ عَنْهُمَا، فَهَلْ تَحْتَسِبُ حَيْضَهَا عَلَيْهِ مِنْ أَقْرَاءِ عِدَّتِهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لا نحتسب بِهِ عِدَّةَ أَقْرَائِهَا لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَعْتَدَّ بِالْحَمْلِ فَأَوْلَى أَنْ لَا تَعْتَدَّ بِالْأَقْرَاءِ الَّتِي عَلَى الْحَمْلِ، وَيَكُونُ زَمَانُ الْحَمْلِ كُلُّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْعِدَّتَيْنِ عَلَى مَا مَضَى مِنِ اسْتِئْنَافِهَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَحْتَسِبُ بِهِ مِنْ عِدَّةِ أَقْرَائِهَا، لِأَنَّهُ إِذَا سَقَطَ حُكْمُ الْحَمْلِ مِنَ الْعِدَّةِ ثَبَتَ فِيهَا حُكْمُ الْأَقْرَاءِ وَكَمَا تَعْتَدُّ بِهَا مَعًا إِذَا كَانَتِ الْعِدَّتَانِ مَعًا مِنْ صَاحِبِ الْحَمْلِ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ مِنْ قَبْلُ، فَعَلَى هَذَا إِذَا مَضَتْ لَهَا فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ خَمْسَةُ أَقْرَاءٍ انْقَضَتْ عدتاها قرءان مِنْهَا بَقِيَّةُ عِدَّةِ الْأَوَّلِ، وَثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ هِيَ عِدَّةُ الثَّانِي لَكِنْ لَا يُحْكَمُ لَهَا فِي

(11/301)


الْحَالِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَعْلَمَ بَعْدَ وَضْعِهَا أَنَّ حَمْلَهَا غَيْرُ لَاحِقٍ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِذَا عَلِمَ تَبَيَّنَا انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا مِنْ قَبْلُ بِانْقِضَاءِ الْأَقْرَاءِ الْخَمْسَةِ، وَلَوْ كَانَتْ أَقَرَاؤُهَا على الحمل أقل من خمسة لم تنقضي عِدَّتُهَا إِلَّا بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الْخَمْسَةِ الْأَقْرَاءِ بَعْدَ ولادتها، فإن كان الماضي على حملها قرءان اسْتَكْمَلَتْ بِهِمَا عِدَّةَ الْأَوَّلِ وَاعْتَدَّتْ بَعْدَ الْوِلَادَةِ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ هِيَ عِدَّةُ الثَّانِي بِكَمَالِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمَاضِيَ عَلَى حَمْلِهَا ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ كَانَ قرءان مِنْهَا بَقِيَّةَ عِدَّةِ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثُ أَوَّلَ قُرْءِ الثَّانِي فَتَأْتِي بَعْدَ الْوِلَادَةِ بِقُرْأَيْنِ تَمَامَ عِدَّتِهِ.
وَأَمَّا الرَّجْعَةُ فَهِيَ لِلْأَوَّلِ فِي طَلَاقِهِ الرَّجْعِيِّ وَاسْتِحْقَاقُهَا مُعْتَبَرٌ بِالْحَمْلِ فِي سُقُوطِ إِحْدَى الْعِدَّتَيْنِ بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ قَدْ سَقَطَتْ بِهِ إِحْدَى الْعِدَّتَيْنِ فَلَا رَجْعَةَ لِلْأَوَّلِ لَا فِي زَمَانِ الْحَمْلِ، وَلَا فِي زَمَانِ الْأَقْرَاءِ بَعْدَ وَضْعِ الْحَمْلِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّمَانَيْنِ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عِدَّةِ الْأَوَّلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عِدَّةِ الثَّانِي فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَشْكُوكًا فِي اسْتِحْقَاقِ الرَّجْعَةِ فِيهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَحِقَّهَا بِالشَّكِّ فَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ رَجْعَتِهَا فِي الْحَمْلِ وَرَجْعَتِهَا فِي الْقُرْأَيْنِ بَعْدَ الْحَمْلِ احْتَمَلَ صِحَّةُ رَجْعَتِهِ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَصِحُّ رَجْعَتُهُ لِمُصَادَفَةِ إِحْدَاهُمَا زَمَانَ الْعِدَّةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَصِحُّ رَجْعَتُهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَعَيَّنِ الصِّحَّةَ فِي إِحْدَاهُمَا لَمْ يَصِحَّ مَعَ إِبْهَامِهِمَا.
وَإِنْ قِيلَ: الْحَمْلُ لَا تَسْقُطُ بِهِ إِحْدَى الْعِدَّتَيْنِ وَافَتْهَا بِالْأَقْرَاءِ فَعِدَّةُ الْأَوَّلِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى عِدَّةِ الثَّانِي سَوَاءٌ اعْتَدَّتْ بِأَقْرَائِهَا عَلَى الْحَمْلِ أَوْ لَمْ تَعْتَدَّ بِهَا فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِي الْبَاقِي مِنْ أَقْرَاءِ عدته، وفي جواز فِي الْحَمْلِ قَبْلَ عِدَّتِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهَا غَيْرُ مُعْتَدَّةٍ بِهِ مِنْهُ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِيهِ، وَإِنْ لَمْ تَعْتَدَّ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ لِلثَّانِي أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي الْحَمْلِ وَلَا فِي عِدَّةِ الْأَوَّلِ، وَيَجُوزُ لِلثَّانِي أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ فِي عِدَّتِهِ وَلَا يَجُوزُ لِلْأَوَّلِ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِيهَا، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنَ الْخُطَّابِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إِلَّا بَعْدَ قَضَاءِ الْعِدَّةِ الثَّانِيَةِ.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ مِنْ أَحْوَالِهَا الْأَرْبَعَةِ وَهُوَ أَنْ يُمْكِنَ لُحُوقُهُ بِالْأَوَّلِ وَبِالثَّانِي فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَرْبَعِ سِنِينَ فَمَا دُونَهَا مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ وَلِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَمَا فَوْقَهَا مِنْ دُخُولِ الثَّانِي فَيُمْكِنُ أَنْ يُلْحَقَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَزِدْ عَلَى هَذِهِ أَكْثَرُ الْحَمْلِ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ وَلَا يَنْقُصُ عَنْ مُدَّةِ أَقَلِّ الْحَمْلِ فِي حَقِّ الثَّانِي فَاسْتَوَيَا فِي لُحُوقِهِ بِهِمَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُدْعَى لَهُ الْقَافَةُ حَتَّى يُلْحِقُوهُ بِأَحَدِهِمَا، فَإِنْ أَلْحَقُوهُ بالأول انقضت

(11/302)


بِهِ عِدَّتُهُ، وَاسْتَأْنَفَتْ عِدَّةَ الثَّانِي بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ، وَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِالثَّانِي انْقَضَتْ بِهِ عِدَّتُهُ وَكَمَّلَتْ عِدَّةَ الْأَوَّلِ بِقُرْأَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْقَافَةِ بَيَانٌ وُقِفَ الْوَلَدُ إِلَى زَمَانِ الِانْتِسَابِ لِيَنْتَسِبَ بِطَبْعِهِ إِلَى أَبِيهِ مِنْهُمَا، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ الرَّحِمَ إِذَا تَمَاسَّتْ تَعَاطَفَتْ " وفي زمان انتسابه ذكر كَانَ أَوْ أُنْثَى قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِذَا اسْتَكْمَلَ سَبْعَ سِنِينَ، وَهُوَ الزَّمَانُ الَّذِي يُخَيَّرُ فِيهِ بَيْنَ أَبَوَيْهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِذَا بَلَغَ لِيَجْرِيَ عَلَيْهِ الْقَلَمُ فَيَكُونَ لِقَوْلِهِ حُكْمٌ، فَإِذَا انْتَسَبَ إِلَى أَحَدِهِمَا أُلْحِقَ بِهِ وَانْقَطَعَتْ عَنْهُ أُبُوَّةُ الْآخَرِ، وَإِنْ تَوَقَّفَ عَنِ الِانْتِسَابِ أُخِذَ بِهِ جَبْرًا حَتَّى يَنْتَسِبَ لِمَا فِي ثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْ حَقٍّ لَهُ وَعَلَيْهِ.
فَأَمَّا الْعِدَّةُ: فَقَدِ انْقَضَتْ بِوَضْعِ الْحَمْلِ إِحْدَى الْعِدَّتَيْنِ، لَا بِعَيْنِهَا، وبقيت عليها إحداها لا يعينها، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِقُرْأَيْنِ إِنْ كَانَ الْوَلَدُ لَاحِقًا بِالثَّانِي أَوْ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ إِنْ كَانَ لَاحِقًا بِالْأَوَّلِ فَلَزِمَهَا أَنْ تَعْتَدَّ أَوْفَاهُمَا وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ لِتَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ قَضَائِهَا.
وَأَمَّا الرَّجْعَةُ فَلَا تَخْلُو مُرَاجَعَةُ الْأَوَّلِ لَهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَمْلِ أَوْ فِي الْأَقْرَاءِ فَإِنْ رَاجَعَهَا فِي الْحَمْلِ كَانَ مُعْتَبَرًا بِحَالِ الْحَمْلِ فَإِنْ لَحِقَ بِالثَّانِي فَرَجْعَةُ الْأَوَّلِ فِيهِ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ لَحِقَ بِالْأَوَّلِ فَفِي صِحَّةِ رَجْعَتِهِ وَجْهَانِ حَكَاهَا أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ:
أَحَدُهُمَا: تَصِحُّ رَجْعَتُهُ، لِأَنَّهَا صَادَفَتْ عِدَّتَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَصِحُّ، لِأَنَّهُ رَاجِعٌ عَلَى شَكٍّ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الرَّجْعَةِ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ كَمَنْ بَاعَ دَارَ أَبِيهِ يَعْتَقِدُ حَيَاتَهُ، وَكَانَ مَيِّتًا فَفِي صِحَّةِ بَيْعِهِ وَجْهَانِ، وَإِنْ رَاجَعَ فِي الْأَقْرَاءِ الَّتِي بَعْدَ الْحَمْلِ نُظِرَ فِي رَجْعَتِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْقُرْءِ الثَّالِثِ لَمْ تَصِحَّ الرَّجْعَةُ، لِأَنَّ الْقُرْءَ الْثالث لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي عِدَّتِهِ يَقِينًا، لِأَنَّهُ إِنْ لَحِقَ بِهِ الْحَمْلُ كَانَتْ عِدَّتُهُ بِهِ، وَالْأَقْرَاءُ مِنَ الثَّانِي، وَإِنْ لَمْ يُلْحَقْ بِهِ الْحَمْلُ كَانَتْ عِدَّتُهُ قُرْأَيْنِ وَكَانَ الثَّالِثُ مِنْ غَيْرِ عِدَّتِهِ فَلِذَلِكَ بَطَلَتْ رَجْعَتُهُ فِيهِ بِكُلِّ حَالٍ، وَإِنْ رَاجَعَ فِي الْقُرْأَيْنِ كَانَ مُعْتَبَرًا بِالْحَمْلِ فَإِنْ كَانَ لَاحِقًا بِهِ بَطَلَتْ رَجْعَتُهُ فِي الْقُرْأَيْنِ، لِأَنَّهُمَا فِي عِدَّةِ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ لَاحِقًا بِالثَّانِي، وكان القرءان مِنْ عِدَّةِ الْأَوَّلِ فَفِي صِحَّةِ رَجْعَتِهِ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَصِحُّ، لِأَنَّهَا صَادَفَتْ عِدَّتَهُ.
وَالثَّانِي: لَا تَصِحُّ لِوُجُودِهَا فِي زَمَانِ الشَّكِّ، وَأَمَّا تَزْوِيجُهَا فَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الثَّانِي أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا، فَأَمَّا الثَّانِي إِذَا قِيلَ بِالصَّحِيحِ مِنَ الْوَجْهَيْنِ أَنَّهَا لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ سَوَاءٌ لَحِقَ بِهِ أَوْ لَمْ يَلْحَقْ، لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ فَهِيَ مُعْتَدَّةٌ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ لَحِقَ بِهِ فَعَلَيْهَا بَعْدَهُ عِدَّةٌ لِغَيْرِهِ، وَإِنْ تَزَوَّجَهَا فِي الْأَقْرَاءِ بَعْدَ الْحَمْلِ نُظِرَ فِي حَالِ تَزْوِيجِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْقُرْأَيْنِ فَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ عِدَّتِهِ فَيَصِحَّ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ عِدَّةِ الْأَوَّلِ فَيَبْطُلُ فَصَارَ متردداً بين

(11/303)


حَظْرٍ وَإِبَاحَةٍ فَبَطَلَ، لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يُسْتَبَاحُ بِالشَّكِّ وَسَوَاءٌ بَانَ مِنْ بَعْدُ أَنَّهُ مِنْ عِدَّتِهِ أَمْ لَا بِخِلَافِ الرَّجْعَةِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، لِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى خُلُوِّهَا مِنَ الْعِدَّةِ، وَالرَّجْعَةُ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَوْقُوفَةً عَلَى بَقَاءِ الْعِدَّةِ، وَإِنْ تَزَوَّجَهَا فِي الْقُرْءِ الثَّالِثِ صَحَّ النِّكَاحُ، لِأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ فِيهِ مُعْتَدَّةً مِنْهُ أَوْ خَالِيَةً مِنْ عِدَّةٍ، وَلَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَانِعٌ مِنْ نِكَاحِهَا.

(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ لَمْ يُلْحِقُوهُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ أَلْحَقُوهُ بِهِمَا أَوْ لَمْ تَكُنْ قَافَةٌ أَوْ مَاتَ قَبْلَ يَرَاهُ الْقَافَةُ أَوْ أَلْقَتْهُ مَيِّتًا فَلَا يَكُونُ ابْنَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا الرُّجُوعَ إِلَى بَيَانِ الْقَافَةِ مَعَ إِشْكَالِ النَّسَبِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ بَيَانٌ فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي ذَلِكَ خَمْسَ مَسَائِلَ:
أَحَدُهَا: أن لا يلحقوه بواحد منها فَلَا يَكُونُ فِيهِ بَيَانٌ، لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ نَفْيُهُ عَنْهُمَا وَقَدْ ثَبَتَ فِرَاشُهُمَا، وَأَوْجَبَ الشَّرْعُ لُحُوقَهُ بِأَحَدِهِمَا، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَوْقُوفَ النَّسَبِ عَلَيْهِمَا فَقُبِلَ مِنْهُمْ لُحُوقُهُ بِأَحَدِهِمَا، لِأَنَّهُ تَمْيِيزٌ مَا اقْتَضَاهُ الشَّرْعُ وَلَمْ يَقْبَلْ نَفْيَهُ عَنْهُمَا، لِأَنَّهُ نَفَى مَا أَثْبَتَهُ الشَّرْعُ فَصَارُوا مِمَّنْ لَا بَيَانَ فِيهِمْ.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا أَلْحَقُوهُ بِهِمَا فَلَا يَلْحَقُ بِهِمَا، لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ مَنَعَ مِنْ لُحُوقِهِ بِأَبَوَيْنِ فَصَارُوا مُثْبِتِينَ لِمَا نَفَاهُ الشَّرْعُ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ بَيَانٌ.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا لَمْ يَكُنْ قَافَةٌ يُرِيدُ فِي مَوْضِعِ الْوَلَدِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَمَا قَارَبَهُ إِلَى مَسَافَةِ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَنِصْفِ لَيْلَةٍ، وَلَمْ يُرِدْ أَنْ لَا يَكُونُوا فِي الدُّنْيَا كُلِّهَا، لِأَنَّهُمْ لَا يَخْلُونَ مِنَ الْحِجَارِ، وَلَا يَلْزَمُ إِذَا بَعُدُوا أَنْ يُحْمَلَ الْوَلَدُ إِلَيْهِمْ، وَلَا أَنْ يُحْمَلُوا إِلَيْهِ كَالشُّهُودِ الَّذِي لَا يَلْزَمُ نَقْلُهُمْ وَلَا الِانْتِقَالُ إِلَيْهِمْ، وَكَالْوَلِيِّ الْغَائِبِ الَّذِي لَا يَلْزَمُ نَقْلُهُ وَلَا الِانْتِقَالُ إِلَيْهِ، وَيَكُونُ خُلُوُّ الْمَوْضِعِ وَمَا قَارَبَهُ مِنَ الْقَافَةِ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْعَدَمِ لَهُمْ وَفَقْدِ الْبَيَانِ مِنْهُمْ، فَإِنْ تَكَلَّفُوا الِانْتِقَالَ إِلَيْهِمْ أَوْ نَقْلَ الْقَافَةِ إِلَيْهِمْ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ وَلَزِمَ بَعْدَ حُضُورِهِمْ أَنْ يُعْمَلَ عَلَى قَوْلِهِمْ إِذَا كَانَ فِيهِ بَيَانٌ.
وَالْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا مَاتَ مِنْهُمْ قَبْلَ بَيَانِ الْقَافَةِ مَيِّتٌ فَيُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتَ الْمُتَنَازِعَانِ، أَوْ أَحَدُهُمَا، وَكَانَ الْقَافَةُ يَعْرِفُونَ الْمَيِّتَ فِي حَيَاتِهِ بِكَلَامِهِ وَأَلْحَاظِهِ وَشَمَائِلِهِ وَأَمَارَاتِهِ فَلَمْ يُؤَثِّرَ مَوْتُهُ فِي حُكْمِ الْقَافَةِ، وَجَازَ أَنْ يُلْحِقُوهُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِمَنْ حَكَمُوا بِشَبَهِهِ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوهُ فِي حَيَاتِهِ أَوْ كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الْوَلَدَ الَّذِي لَمْ يُعْرَفْ نُظِرَ حَالُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِنْ تَغَيَّرَ فِي أَوْصَافِهِ وَحُلَاهُ ارْتَفَعَ حُكْمُ الْقَافَةِ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَكَانَ بَاقِيًا عَلَى أَوْصَافِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا فِي حَيَاتِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَ حُكْمُ الْقَافَةِ فِيهِمْ بِالْمَوْتِ، لِأَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ مَعَ الشَّبَهِ الظَّاهِرِ مَا خَفِيَ مِنَ الشَّبَهِ الْخَفِيِّ فِي الْكَلَامِ وَالْأَلْحَاظِ وَالشَّمَائِلِ وَالْإِشَارَاتِ، وَيَقْتَصِرُونَ عَلَى

(11/304)


أَحَدِهِمَا وَهَذَا الشَّبَهُ الْخَفِيُّ مَفْقُودٌ بِالْمَوْتِ فَلَمْ يَصِحَّ الْحُكْمُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَوْتَ لَا يَمْنَعُ حُكْمَ الْقَافَةِ، لِأَنَّ الشَّبَهَ الظَّاهِرَ أَقْوَى، وَبَيَانَهُ فِي الْحُلَى وَالْأَوْصَافِ أَوْضَحُ، وَإِنَّمَا يَفْتَقِرُونَ إِلَى الشَّبَهِ الْبَاطِنِ فِي الْإِشَارَاتِ عِنْدَ إِشْكَالِ الشَّبَهِ الظَّاهِرِ فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ جَوَازِ الْحُكْمِ بِالْقَافَةِ فَقَدْ مَرَّ مُجَزِّز الْمُدْلِجِيُّ بِأُسَامَةَ وَزَيْدٍ نَائِمَيْنِ وَقَدْ تَغَطَّيَا بِقَطِيفَةٍ بَدَتْ مِنْهُمَا أَقْدَامُهُمَا فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهُمَا مِنْ بَعْضٍ فَقَضَى فِيهِمْ بِالشَّبَهِ الظَّاهِرِ، وَلَمْ يَفْتَقِرْ مَعَهُ إِلَى الشَّبَهِ الْبَاطِنِ فِي الْإِشَارَاتِ وَالنَّوْمِ فِي خَفَاهَا عَلَيْهِ كَالْمَوْتِ.
وَالْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِذَا أَلْقَتِ الْمَوْلُودَ مَيِّتًا، فَإن كَانَ مَوْتُهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَكْمِلَ أَوْصَافَهُ وَتَتَنَاهَى صُورَتُهُ لَمْ يُحْكَمْ فيه بالقافة، وإن كان بعد تناهيها وَاسْتِكْمَالِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ، إِذَا مَاتَ بَعْدَ وِلَادَتِهِ حَيَّا، وَإِنْ كَانَ حُكْمُ الْقَافَةِ فِي الْمَوْلُودِ مَيِّتًا أَضْعَفَ، فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إِذَا عُدِمَ بَيَانُ الْقَافَةِ، فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْخَمْسِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ ابْنَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْنِي بِعَيْنِهِ لِلْجَهْلِ بِهِ، وإن كان ابن أحدهما لا يعنيه كَأَنَّهُ لَا أَبَّ لَهُ سِوَاهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ أَوْصَى لَهُ بِشَيْءٍ وُقِفَ حَتَّى يَصْطَلِحَا فِيهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يَعْنِي بِهِ هَذَا الْوَلَدَ الْمَوْقُوفَ نَسَبُهُ إِذَا أَوْصَى لَهُ بِوَصِيَّةٍ ثُمَّ مَاتَ فَالْوَصِيَّةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُوصِيَ لَهُ بَعْدَ وِلَادَتِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُوصِيَ لَهُ فِي حَالِ حَمْلِهِ.
فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ فِي الْوَصِيَّةِ لَهُ بَعْدَ وِلَادَتِهِ فَلَا يَخْلُو مَوْتُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ قَبُولِ الْوَصِيَّةِ أَوْ قَبْلَهَا، فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ قَبُولِ الْوَصِيَّةِ وَقَبُولُهَا قَدْ يَصِحُّ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ قَبِلَهَا بَعْدَ بُلُوغِهِ، وَمَاتَ قَبْلَ انْتِسَابِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَقْبَلَهَا الْحَاكِمُ لَهُ فِي صِغَرِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَقْبَلَهَا لَهُ الْمُتَنَازِعَانِ فِي نَسَبِهِ فَيَصِحَّ قَبُولُهَا، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا أَبُوهُ، فَإِنْ قَبِلَهَا أَحَدُهُمَا لَمْ يَصِحَّ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَجْنَبِيًّا، وَإِنْ قَبِلَتْهَا أُمُّهُ، فَفِي صِحَّةِ قَبُولِهَا وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي ثُبُوتِ وِلَايَتِهَا عَلَيْهِ عِنْدَ فَقْدِ الْأَبِ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ قَبُولِهَا لَمْ يَبْطُلْ بِمَوْتِهِ وَكَانَ قَبُولُهَا مَوْقُوفًا عَلَى اجْتِمَاعِ وَرَثَتِهِ عَلَى قَبُولِهَا، وَهُوَ أَنْ تَجْتَمِعَ الْأُمُّ مَعَ الْمُتَنَازِعَيْنِ عَلَى الْقَبُولِ فَيَصِحُّ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُمْ وَرِثُوهُ عَنْهُ فَلَا يصح إلا

(11/305)


بِاجْتِمَاعِهِمْ، فَإِنْ تَفَرَّدَتِ الْأُمُّ بِالْقَبُولِ صَحَّ فِي حَقِّهَا، وَإِنْ تَفَرَّدَ الْمُتَنَازِعَانِ بِالْقَبُولِ صَحَّ فِي حَقِّهَا، وَإِنْ تَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِالْقَبُولِ لَمْ يَصِحَّ فِي وَاحِدٍ مِنَ الْحَقَّيْنِ، وَإِنْ قَبِلَ الْحَاكِمُ لَمْ يَصِحَّ قَبُولُهُ، وَإِنْ صَحَّ فِي حَيَاةِ الْمُوصَى لَهُ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِي هَذِهِ الْحَالِ لِمَنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ، وَفِي تِلْكَ الْحَالِ لَا مَوْلَى عَلَيْهِ فَإِذَا صَحَّ قَبُولُ الْوَصِيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَهِيَ مَوْرُوثَةٌ عَنْهُ يَمِينُ أُمِّهِ وَأَبِيهِ وَلِلْأُمِّ فِي قَدْرِ مِيرَاثِهَا مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
حَالٌ تَسْتَحِقُّ فِيهَا الثُّلُثَ يَقِينًا، وَحَالٌ تَسْتَحِقُّ فِيهَا السُّدُسَ يَقِينًا، وَحَالٌ شك في اسحقاقها لثلث أو سدس.
فأما الحال المتيقن فيما اسحقاقها لِلثُّلُثِ فَهُوَ أَنْ لَا يَجْتَمِعَ لِلْمَيِّتِ أَخَوَانِ مُتَحَقِّقَانِ إِمَّا بِأَنْ لَا يَكُونَ لَهَا وَلَا لِأَحَدٍ مِنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ وَلَدٌ وَيَكُونَ لَهَا وَلَدٌ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَدٌ، أَوْ يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَدٌ وَاحِدٌ، وَلَيْسَ لَهَا وَلَدٌ فَمُسْتَحَقُّ الثُّلُثِ فِي هَذِهِ الْحَالِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَحْجُوبَةٍ عَنْهُ لِفَقْدِ الْأَخَوَيْنِ، وَيَكُونُ الثُّلُثَانِ الْبَاقِيَانِ بَعْدَ ثُلُثِهَا مَوْقُوفَيْنِ عَلَى الْمُتَنَازِعَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا عَلَيْهِ عَنْ تَرَاضٍ، إِمَّا بِالتَّسَاوِي فِيهِ أَوْ بِالتَّفَاضُلِ أَوْ بِانْفِرَادِ أَحَدِهِمَا بِهِ.
وَأَمَّا الْحَالُ الْمُتَيَقَّنُ فِيهَا اسْتِحْقَاقُهَا لِلسُّدُسِ فَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ لِلْمَيِّتِ أَخَوَانِ مُتَحَقَّقَانِ إِمَّا بِأَنْ يَكُونَ لَهَا وَلَدَانِ فَيَكُونَا أَخَوَيْنِ مِنْ أُمٍّ، وَإِمَّا بِأَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ وَلَدٌ فَيَكُونَ له لَهُ أَخَوَانِ أَحَدُهُمَا مِنْ أُمٍّ وَالْآخَرُ مِنْ أَبٍّ وَأُمٍّ فَيَحْجُبُونَهَا إِلَى السُّدُسِ فَتُعْطَاهُ وَيَكُونُ مَا عَدَاهُ مَوْقُوفًا بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْحَالُ الْمَشْكُوكُ فِي اسْتِحْقَاقِهَا لِثُلُثٍ أَوْ سُدُسٍ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِلْمَيِّتِ أَخَوَانِ فِي حَالٍ وَوَاحِدٌ فِي حَالٍ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ لِأُمِّهِ وَلَدٌ وَلِأَحَدِ الْمُتَنَازِعَيْنِ وَلَدٌ، وَلَيْسَ لِلْآخَرِ وَلَدٌ أَوْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا وَلَدَانِ وَلَيْسَ لِلْآخَرِ إِلَّا وَلَدٌ وَاحِدٌ، فَقَدْ تَرِثُ الْأُمُّ إِنْ لَحِقَ بِصَاحِبِ الْوَلَدَيْنِ السُّدُسَ، وَإِنْ لَحِقَ بِصَاحِبِ الْوَلَدِ الْوَاحِدِ الثُّلُثَ وَفِي قَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مَعَ هَذَا الشَّكِّ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو إسحاق المروزي:
أحدهما: تعطى السُّدُسَ، لِأَنَّهَا لَا تُوَرَّثُ بِالشَّكِّ وَيَكُونُ السُّدُسُ الْآخَرُ مَوْقُوفًا بَيْنَهَما وَبَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ حَتَّى يُصَالِحْنَهَا عَلَيْهِ، وَتَكُونُ مَا عَدَاهُ مَوْقُوفًا عَلَيْهَا حَتَّى يَصْطَلِحَا عَلَيْهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تُعْطَى الثُّلُثَ، لِأَنَّهَا لَا تُحْجَبُ بِالشَّكِّ، فَإِنْ بَانَ حَجْبُهَا رجع عليها بالسدس الزائد على حقها إن لَمْ يَبِنْ فَلَا رُجُوعَ.
قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَالْأَوَّلُ أَحْوَطُ وَالثَّانِي أَقْيَسُ.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يُوصِيَ لَهُ فِي حَالِ حَمْلِهِ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:

(11/306)


أَحَدُهُمَا: أَنْ تُطْلَقَ الْوَصِيَّةُ لَهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُضَافَ فِيهَا إِلَى أَحَدِ الْمُتَنَازِعَيْنِ.
فَإِنْ أُطْلِقَتِ الْوَصِيَّةُ لَهُ فَقَالَ الْمُوصِي قَدْ وَصَّيْتُ لِحَمْلِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ وَلَهُ حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أن تضعه حياً فتصح بَعْدَ وِلَادَتِهِ، وَيَكُونَ الْقَبُولُ لَهَا وَالْمِيرَاثُ فِيهَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَلِدَهُ مَيِّتًا لَمْ يَسْتَهِلَّ، فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ لَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ، وَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مُضَافَةً إِلَى حَمْلِهِ مِنْ أَحَدِ الْمُتَنَازِعَيْنِ كَقَوْلِهِ قَدْ وَصَّيْتُ لِحَمْلِهَا مِنْ زَيْدٍ، فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ جَائِزَةٌ، وَهِيَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى لُحُوقِهِ بِهِ وَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُلْحَقَ بِهِ فَتَصِحَّ الْوَصِيَّةُ، وَيَكُونَ قَبُولُهَا مَقْصُورًا عَلَيْهِ وَمِيرَاثُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأُمِّ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُلْحَقَ بِغَيْرِهِ فَالْوَصِيَّةُ باطلة لعدة شَرْطِهَا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يُلْحَقَ بِوَاحِدٍ مِنْهَا لِبَقَاءِ الْإِشْكَالِ وَالْإِيَاسِ مِنَ الْبَيَانِ فَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ، لِأَنَّهَا لَا تُسْتَحَقُّ بِالشَّكِّ.

(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالنَّفَقَةُ عَلَى الزَّوْجِ الصَّحِيحِ النِّكَاحِ وَلَا آخُذُهُ بنفقتها حتى تلده فإن ألحق به الولد أعطيتها نفقة الحمل من يوم طلقها وإن أشكل أمره لم آخذه بنفقته حتى ينتسب إليه فإن الحق بصاحبه فلا نفقة منا لأنها حبلى من غيره (قال المزني) رحمه الله خالف الشافعي في إلحاق الولد في أكثر من أربع سنين بأن يكون له الرجعة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَقْصُورَةٌ عَلَى بَيَانِ النَّفَقَةِ لِلْمَنْكُوحَةِ فِي الْعِدَّةِ وَمُقَدِّمَتُهَا أَنَّ الْعِدَّةَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ.
وَالثَّانِي: مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ.
فَأَمَّا الْعِدَّةُ مِنَ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: رَجْعِيَّةٌ.

(11/307)


وَالثَّانِي: مَبْتُوتَةٌ.
فَأَمَّا الرَّجْعِيَّةُ فَلَهَا النَّفَقَةُ فِي الْعِدَّةِ حَامِلًا كَانَتْ أَوْ حَائِلًا، لِأَنَّهَا فِي مَعَانِي الزَّوْجَاتِ وَنَفَقَتُهَا مُعَجَّلَةٌ وَتَسْتَحِقُّهَا يَوْمًا بِيَوْمٍ.
وَأَمَّا الْمَبْتُوتَةُ فَلَهَا حَالَتَانِ: حَامِلٌ وَحَائِلٌ فَالْحَائِلُ لَا نَفَقَةَ لَهَا، وَالْحَامِلُ لَهَا النَّفَقَةُ وَفِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّفَقَةَ وَجَبَتْ لَهَا.
وَالثَّانِي: لِحَمْلِهَا وَفِي صِفَةِ اسْتِحْقَاقِهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مُعَجَّلَةٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ.
وَالثَّانِي: مُؤَجَّلَةٌ بَعْدَ الْوَضْعِ. وَأَمَّا الْعِدَّةُ مِنَ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ بِغَيْرِ حَمْلٍ إِمَّا بِشُهُورٍ أَوْ أَقْرَاءٍ فَلَا نَفَقَةَ فِيهَا لِلْمُعْتَدَّةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ بِحَمْلٍ فَفِي وُجُوبِ نَفَقَتِهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا نَفَقَةَ لَهَا إِذَا قِيلَ إِنْ نَفَقَةَ الْحَامِلِ مُسْتَحَقَّةٌ لِلْحَمْلِ لِكَوْنِهَا حَامِلًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَهَا النَّفَقَةُ إِذَا قِيلَ إِنَّ نَفَقَةَ الْحَامِلِ مُسْتَحَقَّةٌ لِلْحَمْلِ، وَهَلْ تَسْتَحِقُّهَا مُعَجَّلَةً أَوْ بَعْدَ الْوَضْعِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ، وَكَانَتِ الْمَنْكُوحَةُ فِي الْعِدَّةِ ذَاتَ حَمْلٍ تَرَتَّبَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُلْحَقَ بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي فَنَفَقَتُهَا فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَوَّلِ لِصِحَّةِ نِكَاحِهِ، فَإِنْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً اسْتَحَقَّتْهَا مُعَجَّلَةً يَوْمًا بِيَوْمٍ مِنْ بَعْدِ فِرَاقِ الثَّانِي وَإِلَى وَقْتِ الْوِلَادَةِ وَلَا تَسْتَحِقُّهَا فِي نِفَاسِ الْوِلَادَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مَبْتُوتَةً فَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَسْتَحِقُّهَا مُعَجَّلَةً كَذَلِكَ.
وَالثَّانِي: مُؤَجَّلَةٌ بَعْدَ الْوِلَادَةِ وَلَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ الثَّانِي فِي امْتِدَادِهَا مِنْهُ بِالْإِقْرَاءِ لِفَسَادِ نِكَاحِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُلْحَقَ الْوَلَدُ بِالثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، فَهَلْ عَلَى الثَّانِي نَفَقَتُهَا فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:

(11/308)


أَحَدُهُمَا: لَا نَفَقَةَ لَهَا إِذَا قِيلَ إِنْ نَفَقَةَ الْحَامِلِ لِكَوْنِهَا حَامِلًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَهَا النَّفَقَةُ إِذَا قِيلَ لِحَمْلِهَا وَفِي تَعْجِيلِهَا وَتَأْجِيلِهَا قَوْلَانِ: فَأَمَّا نَفَقَتُهَا فِي عِدَّةِ الْأَوَّلِ بِالْأَقْرَاءِ بَعْدَ الْحَمْلِ، فَإِنْ كَانَتْ مَبْتُوتَةً فَلَا نَفَقَةَ لَهَا، وَإِنْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً فَلَهَا النَّفَقَةُ، وَفِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - أَنَّهَا تَسْتَحِقُّهَا مِنْ بَعْدِ انْقِطَاعِ دَمِ نِفَاسِهَا، لِأَنَّ دَمَ النِّفَاسِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهَا النَّفَقَةُ مِنْ بَعْدِ الْوِلَادَةِ فِي مُدَّةِ النِّفَاسِ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا لِأَنَّهَا جَارِيَةٌ فِي الْعِدَّةِ، وَإِنْ لَمْ تَعْتَدَّ بِالنِّفَاسِ كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا حَائِضًا كَانَتْ لَهَا النَّفَقَةُ فِي حَيْضِهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُعْتَدَّةٍ بِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يُلْحَقَ الْوَلَدُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مُدَّةِ حَمْلِهَا، لِأَنَّهُ غَيْرُ لَاحِقٍ به ولا في حال عدتها في الثَّانِي لِفَسَادِ نِكَاحِهِ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنْ كَانَتْ مَبْتُوتَةً مِنْهُ فَكَذَلِكَ لَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَيْهِ فِي عِدَّتِهَا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً فَلَهَا النَّفَقَةُ فِي الْعِدَّةِ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ الْمَنْظُورُ أَنْ يُمْكِنَ لُحُوقُهُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَنَفَقَتُهَا مُعْتَبَرَةٌ بِطَلَاقِ الْأَوَّلِ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: رَجْعِيٍّ، وَبَائِنٍ فَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا فَالنَّفَقَةُ فِي عِدَّتِهِ مُسْتَحَقَّةٌ وَيَتَرَتَّبُ اسْتِحْقَاقُهَا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْحَمْلِ إِنْ لَحِقَ بِالثَّانِي، فَهَلْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ إِذَا قِيلَ: إِنَّ النَّفَقَةَ لِلْحَامِلِ، فَعَلَى هَذَا لَا تَسْتَحِقُّ نَفَقَةَ الْحَمْلِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يُلْحَقَ بِالثَّانِي فَتَسْقُطَ نَفَقَتُهُ وَبَيْنَ أَنْ يُلْحَقَ بِالْأَوَّلِ فَتَجِبَ نَفَقَتُهُ فَصَارَتْ نَفَقَتُهُ مُتَرَدِّدَةً بَيْنَ وُجُودٍ وَإِسْقَاطٍ فَلَمْ تَجِبْ لَكِنَّهَا فِي عِدَّةِ الْأَوَّلِ مُسْتَحِقَّةٌ لِلنَّفَقَةِ لِكَوْنِهَا رَجْعِيَّةً وَنَفَقَتُهَا مُعَجَّلَةٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ، لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الزَّوْجَةِ وَعِدَّتُهَا مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ بِالْحَمْلِ إِنْ لَحِقَ بِهِ أَوْ بِالْأَقْرَاءِ إِنِ انْتَفَى عَنْهُ فَوَجَبَ أَنْ يُؤْخَذَ بِنَفَقَةِ أَقْصَى الْمُدَّتَيْنِ لِاسْتِحْقَاقِهَا يَقِينًا، فَإِنْ كَانَتْ مُدَّةُ الْحَمْلِ أَقْصَرَ أُخِذَ بِنَفَقَتِهَا فِي مُدَّةِ حَمْلِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُدَّةُ الْأَقْرَاءِ أَقْصَرَ أُخِذَ بِنَفَقَةِ قُرْأَيْنِ، لِأَنَّهُمَا قَدْرُ الْبَاقِي مِنْ عِدَّتِهِ، ثُمَّ يُرَاعَى حَالُ الْحَمْلِ بَعْدَ وِلَادَتِهِ، فَإِنْ لَحِقَ بِالْأَوَّلِ تَقَدَّرَتْ نَفَقَتُهَا بِمُدَّةِ الْحَوْلِ، فَإِنْ كَانَتْ هِيَ أَقْصَرَ الْمُدَّتَيْنِ فَقَدِ اسْتَوْفَتْهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَطْوَلَهَا رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِالْبَاقِي مِنْهَا، وَإِنْ لَحِقَ بِالثَّانِي تَقَدَّرَتْ نَفَقَتُهَا بِمُدَّةِ الْقُرْأَيْنِ، فَإِنْ كَانَتْ أَقْصَرَ الْمُدَّتَيْنِ فَقَدِ اسْتَوْفَتْهَا، وَهَلْ تَسْتَحِقُّ مَعَهَا نَفَقَةَ مُدَّةِ النِّفَاسِ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ أَطْوَلَ الْمُدَّتَيْنِ رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِمَا بَقِيَ مِنْهَا، وَهَلْ يُضَافُ إِلَيْهَا مُدَّةُ النِّفَاسِ أَمْ لا؟

(11/309)


عَلَى الْوَجْهَيْنِ، فَهَذَا حُكْمُ النَّفَقَةِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ نَفَقَةَ الْحَمْلِ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَى الثَّانِي، إِنْ لَحِقَ بِهِ إِذَا قِيلَ إِنَّ النَّفَقَةَ لِلْحَمْلِ، فَعَلَى هَذَا يَتَرَتَّبُ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فَهَلْ يَسْتَحِقُّ نَفَقَةَ الْحَمْلِ مُعَجَّلَةً فِي كُلِّ يَوْمٍ أَوْ مُؤَجَّلَةً بَعْدَ الْوِلَادَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تُسْتَحَقُّ مُؤَجَّلَةً بَعْدَ الْوِلَادَةِ، فَعَلَى هَذَا لَا يُؤْخَذُ بِالثَّانِي بِشَيْءٍ مِنْهَا قَبْلَ الْوِلَادَةِ لِجَوَازِ أَنْ يُلْحَقَ بِالْأَوَّلِ، وَيَكُونُ مَأْخُوذًا بِنَفَقَةِ الْعِدَّةِ فِي أَقْصَرِ الْمُدَّتَيْنِ عَلَى مَا مَضَى مُعَجَّلَةً، لِأَنَّهَا فِي حَقِّهِ نَفَقَةُ زَوْجِيَّةٍ، وَفِي حَقِّ الثَّانِي نَفَقَةُ حَمْلٍ، ثُمَّ يُرَاعَى مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ حَالُ الْحَمْلِ، فَإِنْ لَحِقَ بِالْأَوَّلِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الثَّانِي، وَقَدْ تَقَدَّرَتْ نَفَقَتُهَا عَلَى الْأَوَّلِ بِمُدَّةِ الْحَمْلِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ، هَلْ هِيَ أَقْصَرُ الْمُدَّتَيْنِ أَوْ أَطْوَلُهُمَا فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى، وَإِنْ لَحِقَ بِالثَّانِي رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِنَفَقَةِ مُدَّةِ الْحَمْلِ، وَتَقَدَّرَتْ عِدَّةُ الْأَوَّلِ بِقُرْأَيْنِ فَتَكُونُ عَلَى مَا مَضَى وَإِنْ لَحِقَ بِالثَّانِي رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِنَفَقَةِ مُدَّةِ الْحَمْلِ، وَتَقَدَّرَتْ عِدَّةُ الْأَوَّلِ بِقُرْأَيْنِ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ نَفَقَةَ الْحَمْلِ تُسْتَحَقُّ مُعَجَّلَةً فِي كُلِّ يَوْمٍ، فَعَلَى هَذَا قَدِ اسْتَوَى الْأَوَّلُ وَالثَّانِي فِي نَفَقَةِ الْحَمْلِ لِوُجُوبِهَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا إِنْ لَحِقَ بِهِ، وَتَكُونُ نَفَقَةُ الْحَمْلِ هِيَ الْمُعْتَبَرَةَ وَقَدْ صَارَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي فِيهَا سَوَاءً فَيُؤْخَذَانِ جَمِيعًا بِهَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى بِتَحَمُّلِهَا مِنَ الْآخَرِ ثُمَّ يُعْتَبَرُ حَالُهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ، فَإِنْ لَحِقَ بِالْأَوَّلِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الثَّانِي وَيُرْجَعُ عَلَى الْأَوَّلِ بِمَا أَنْفَقَ، وَإِنْ لَحِقَ بِالثَّانِي رَجَعَ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ بِمَا أَنْفَقَ وَكَانَ على الأول نفقة عدته بالأقراء، وهي قرءان، وَهَلْ يُضَمُّ إِلَيْهَا نَفَقَةُ النِّفَاسِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ.

(فَصْلٌ)
فَإِنْ كَانَ طَلَاقُ الْأَوَّلِ بَائِنًا، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ نَفَقَةَ الْحَمْلِ لَا تَجِبُ عَلَى الثَّانِي إِنْ لَحِقَ بِهِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَيْهِ، وَلَا عَلَى الْأَوَّلِ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَلْحَقَ ثُمَّ رُوعِيَ أَمْرُهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ، فَإِنْ لَحِقَ بِالْأَوَّلِ وَجَبَ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، وَإِنْ لَحِقَ بِالثَّانِي لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، وَلَوْ قُلْنَا: إِنَّ نَفَقَةَ الْحَمْلِ عَلَى الثَّانِي وَاجِبَةٌ فَإِنْ جَعَلْنَاهَا مُؤَجَّلَةً لَمْ يُؤْخَذْ وَاحِدٌ مِنْهَا بِهَا حتى كُلِّ يَوْمٍ أُخِذَا جَمِيعًا بِهَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِيهَا، فَإِذَا أُلْحِقَ بَعْدَ الْوِلَادَةِ بِأَحَدِهِمَا رَجَعَ عَلَيْهِ الْآخَرُ بِمَا أَنْفَقَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُ، وَصَارَ هُوَ الْمُخْتَصَّ بِنَفَقَةِ الْوَلَدِ بَعْدَ وَضْعِهِ، وَإِنْ لَمْ يُلْحَقْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَا عَلَى اشْتِرَاكٍ فِي تَحَمُّلِ نَفَقَتِهِ بَعْدَ وَضْعِهِ حَتَّى يَبْلُغَ فَيَنْتَسِبَ إِلَى أَحَدِهِمَا، فَيَصِيرُ الَّذِي انْتَسَبَ إِلَيْهِ هُوَ الْمُتَحَمِّلُ لِجَمِيعِ نَفَقَتِهِ فِي حَالِ حَمْلِهِ، وَبَعْدَ وِلَادَتِهِ، وَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ قَبْلَ أَنْ يَنْتَسِبَ إِلَى أَحَدِهِمَا لَمْ يَرْجِعْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى بِتَحَمُّلِهَا من الآخر وأخذا جميعاً بكفنه، ومؤونة دفنه

(11/310)


إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ، فَتَكُونَ نَفَقَتُهُ في حياته ومؤونة كَفَنِهِ وَدَفْنِهِ فِي مَالِهِ دُونَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ نَفَقَةِ حَمْلِهِ، فَأَمَّا قَوْلُ الْمُزَنِيِّ: " فَإِنْ أُشْكِلَ الْأَمْرُ لَمْ آخُذْهُ بِنَفَقَتِهِ " يَعْنِي لَمْ يَأْخُذْهُ وَحْدَهُ بِهَا كَأَنَّهُ يَأْخُذُهَا مِنْهُمَا؟

(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا وَاشْتَرَكَا فِي تَحَمُّلِ نَفَقَتِهِ حَمْلًا وَمَوْلُودًا ثُمَّ لَحِقَ بِأَحَدِهِمَا، فَإِنْ أَرَادَ الْآخَرُ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ بِمَا أَنْفَقَ لَمْ تَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُدَّعِيًا لِلْوَلَدِ أَوْ غَيْرَ مُدَّعٍ لَهُ، فَإِنْ كَانَ مُدَّعِيًا لَهُ لَمْ يَرْجِعْ بِمَا أَنْفَقَ، لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ أَنْفَقَهَا عَلَى وَلَدٍ، وَإِنْ نَفَاهُ الشَّرْعُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُدَّعٍ لَهُ وَلَا مُنَازِعٍ فِيهِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَنْفَقَ بِحُكْمِ حَاكِمٍ رَجَعَ بِمَا أَنْفَقَ، لِأَنَّ الْحُكْمَ يُوجِبُ تَحَمُّلَهَا فَوَجَبَ الرُّجُوعُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَنْفَقَ بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ فَإِنْ شَرَطَ الرُّجُوعَ فِي حَالِ الْإِنْفَاقِ رَجَعَ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَمْ يَرْجِعْ بِهَا، لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ تَطَوُّعًا، وَحَكَى ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجْهًا آخَرَ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِهَا، لِأَنَّ تَحَمُّلَهَا مَعَ الِاشْتِبَاهِ قَدْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فَاسْتَوَى فِي الرُّجُوعِ بِهَا حُكْمُ الْحَاكِمِ وَعَدَمُهُ.
فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ حَكَى عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَوْلُودِ مِنَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ أَنَّهُ يُلْحَقُ بِهِ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ، وَحُكِيَ عَنْهُ: أَنَّهُ لَا يُلْحَقُ بِهِ كَالْبَائِنِ، وَاخْتَارَهُ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

(11/311)


(بَابُ عِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ يَمْلِكُ رَجْعَتَهَا زَوْجُهَا ثُمَّ يموت أو يطلق)
(مسألة)
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ طَلَّقَهَا طَلْقَةً يَمْلِكُ رَجْعَتَهَا ثُمَ مَاتَ اعْتَدَّتْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ وَوَرِثَتْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَتْ فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ فَمَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَلَوْ بِسَاعَةٍ بَطَلَتْ عِدَّةُ الطَّلَاقِ، وَانْتَقَلَتْ إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ تَعْتَدُّ مِنَ الطَّلَاقِ بِالْأَقْرَاءِ أَوْ بِالشُّهُورِ فَلَوِ اعْتَدَّتْ مِنْ شهور بالطلاق بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ إِلَّا سَاعَةً اسْتَأْنَفَتْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ فِي مَعَانِي الزَّوْجَاتِ لِمَا يَلْحَقُهَا مِنْ طلاقته، وَظِهَارِهِ، وَإِيلَائِهِ، كَذَلِكَ مَا يَلْحَقُهَا مِنْ فُرْقَةِ وَفَاتِهِ، لِأَنَّهَا فُرْقَةُ بَتَاتٍ فَسَقَطَ بِهَا فُرْقَةُ الرَّجْعِيَّةِ وَلَزِمَهَا اسْتِئْنَافُ الْعِدَّةِ عَنِ الْوَفَاةِ، لِأَنَّ الْبَيْنُونَةَ بِهَا وَقَعَتْ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْتَنَبَ بِمَا تَقَدَّمَ عَلَى الْوَفَاةِ مِنَ الشُّهُورِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِتُقَدُّمِهِ عَلَى سَبَبِ الْوُجُوبِ.
وَالثَّانِي: لِاخْتِلَافِ مُوجِبِهَا كَمَنْ زَنَا بِكْرًا ثُمَّ زَنَا ثَيِّبًا لَزِمَهُ حَدَّانِ، وَلَوْ تَكَرَّرَ مِنْ بِكْرٍ أَوْ ثَيِّبٍ لَزِمَهُ حَدٌّ وَاحِدٌ، فَإِذَا ثَبَتَ انْتِقَالُهَا إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ كَانَ لَهَا الْمِيرَاثُ لِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ عَلَيْهَا، وَتَكُونُ مُسَاوِيَةً لِمَنْ يُطَلِّقُهَا مِنْ زَوْجَاتِهِ، وَهَكَذَا لَوْ مَاتَتْ هِيَ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّةِ رَجْعِيَّةٍ بِسَاعَةٍ كَانَ لَهُ الْمِيرَاثُ مِنْهَا.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا مِيرَاثُ الْمَنْكُوحَةِ فِي الْعِدَّةِ إِذَا كَانَتْ حَامِلًا وَأَمْكَنَ لُحُوقُهُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا مِيرَاثَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الثَّانِي لِفَسَادِ نِكَاحِهِ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنْ كَانَ طَلَاقُهُ بَائِنًا فَلَا تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ طَلَاقُهُ رَجْعِيًّا فَإِنْ كَانَ الْمَوْتُ فِي حَالِ الْحَمْلِ تَوَارَثَا سواء لحقه الحمل أو انتفى عنه، لأن إن لحق به كان بِهِ فِي عِدَّتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنْهُ بَعْدَ وَضْعِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْتُ بَعْدَ الْحَمْلِ فِي عِدَّةِ الْأَقْرَاءِ نُظِرَ حَالُ الْحَمْلِ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُلْحَقَ بِالْأَوَّلِ فَلَا تَوَارُثَ لِانْقِضَاءِ عِدَّتِهِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُلْحَقَ بِالثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُمَا يَتَوَارَثَانِ إِنْ كَانَ الْمَوْتُ فِي الْقُرْأَيْنِ دُونَ الثَّالِثِ.

(11/312)


وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يُلْحَقَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لِدَوَامِ إِشْكَالِهِ فَفِي التَّوَارُثِ بَيْنَهُمَا فِي عِدَّةِ القرءين وَجْهَانِ مِنْ وَجْهَيْ مِيرَاثِهَا مِنْ وَلَدِهَا إِذَا حَجَبَهَا وَأَوْلَادَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ مَعَ بَقَاءِ الْإِشْكَالِ: أَحَدُهُمَا: لَهَا الْمِيرَاثُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْعِدَّةِ كَمَا كَانَ الْأَصْلُ هُنَاكَ عَدَمَ الْحَجْبِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا مِيرَاثَ لَهَا، لِأَنَّ الْمِيرَاثَ لَا يُسْتَحَقُّ بِالشَّكِّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ.

(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَاجَعَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا فَفِيهَا قَوْلَانِ أحدهما تعتد من الطلاق الأخير وهو قول ابن جريج وعبد الكريم وطاوس والحسن بن مسلم ومن قال هذا انبغى أن يقول رجعته مخالفة لنكاحه إياها ثم يطلقها قبل أن يمسها لم تعتد فكذلك لا تعتد من طلاق أحدثه، وإن كانت رجعة إذا لم يمسها (قال المزني) رحمه الله المعنى الأول أولى بالحق عندي لأنه إذا ارتجعها سقطت عدتها وصارت في معناها القديم بالعقد الأول لا بنكاح مستقبل فإنما طلق امرأة مدخولاً بها في غير عدة فهو في معنى من ابتدأ طلاقه (قال المزني) رحمه الله ولو لم يرتجعها حتى طلقها فإنها تبنى على عدتها من أول طلاقها لأن تلك العدة لم تبطل حتى طلق وإنما زادها طلاقا وهي معتدة بإجماع فلا تبطل مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ مِنْ عِدَّةٍ قَائِمَةٍ إِلَّا بإجماع مثله أو قياس على نظيره ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَذَكَرْنَا أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ إِذَا رَاجَعَهَا زَوْجُهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا لَمْ يَخْلُ الطَّلَاقُ الثَّانِي مِنْ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْوَطْءِ أَوْ قَبْلَهُ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَنْ وَطِئَهَا فِي رَجْعَتِهِ، فَقَدْ بَطَلَ بِالْوَطْءِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعِدَّةِ، وَعَلَيْهِ إِذَا طَلَّقَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْعِدَّةَ مِنَ الطَّلَاقِ الثَّانِي وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَطَأْ بَعْدَ الرَّجْعَةِ حَتَّى طَلَّقَ فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّ الرَّجْعَةَ قَدْ قَطَعَتْ عِدَّةَ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ، وَهِيَ فِيمَا بَيْنَ الرَّجْعَةِ وَالطَّلَاقِ الثَّانِي غَيْرُ مُعْتَدَّةٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَنْقَطِعُ عِدَّتُهَا بِالرَّجْعَةِ حَتَّى يَطَأَ، وَهَذَا خَطَأٌ. لِأَنَّ الرَّجْعَةَ إِبَاحَةٌ، وَالْعِدَّةَ حَظْرٌ وَهُمَا ضِدَّانِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ، وَإِذَا لَمْ يَجْتَمِعَا فَالْإِبَاحَةُ ثَابِتَةٌ، وَبَطَلَ حُكْمُ الْحَظْرِ لِأَجْلِ الْعِدَّةِ، وَلِأَنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ مُفْضٍ إِلَى أَنْ تَبِينَ مِنْهُ بَعْدَ رجعتها إذا

(11/313)


أَخَّرَ الْإِصَابَةَ إِلَى انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَيَصِيرُ سِرَايَةُ الطَّلَاقِ مُبْطِلًا لِحُكْمِ الرَّجْعَةِ وَالْمُسْتَقِرُّ مِنْ حُكْمِ الرَّجْعَةِ أَنْ تَبْطُلَ سِرَايَةُ الطَّلَاقِ فَصَارَ عَكْسًا فَبَطَلَ قَوْلُهُ، فَإِذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ الثَّانِي فَهَلْ تَسْتَأْنِفُ لَهُ الْعِدَّةَ أَوْ تَبْنِي عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَبْنِي عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ.
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ:
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ مِنَ الطَّلَاقِ الثَّانِي، وَلَا تَبْنِي عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ وَسَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ الثَّانِي بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا.
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ لَكِنِ احْتَجَّ الْمُزَنِيُّ لِمَا اخْتَارَهُ مِنِ اسْتِئْنَافِ الْعِدَّةِ بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّجْعَةَ لَمَّا انْقَطَعَتْ بِهَا سِرَاءَةُ الْعِدَّةِ وَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ بِهَا مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعِدَّةِ كَالْوَطْءِ، وَهَذَا فَاسِدٌ بِالْمُخْتَلِعَةِ إِذَا نَكَحَهَا فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ طَلَّقَهَا لِأَنَّ النِّكَاحَ قَطَعَ الْعِدَّةَ، وَلَمْ يُبْطِلْهَا، وَالطَّلَاقُ فِيهِ مُوجِبٌ لِلْبِنَاءِ دُونَ الِاسْتِئْنَافِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّجْعَةَ لَمَّا رَفَعَتْ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ رَفَعَتْ عِدَّةَ تَحْرِيمِهِ وَصَارَتْ بِمَثَابَةِ مَنْ لَمْ تُطَلَّقْ، فَإِذَا طُلِّقَتْ مِنْ بَعْدُ اسْتَأْنَفَتِ الْعِدَّةَ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّهَا قَطَعَتِ التَّحْرِيمَ وَلَمْ يُرْفَعْ مَا تَقَدَّمَ فَكَذَلِكَ الْعِدَّةُ تَنْقَطِعُ بِالرَّجْعَةِ وَلَا ترفع ما تقدم.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " يشبه أَنْ يَلْزَمَهُ أَنْ يَقُولَ: ارْتَجَعَ أَوْ لَمْ يَرْتَجِعْ سَوَاءٌ وَيَحْتَجُّ بِأَنَّ زَوْجَهَا لَوْ مَاتَ اعْتَدَّتْ مِنْهُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ وَوَرِثَتْ كَمَنْ لَمْ تُطَلَّقْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الْعِدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فَيُرَاعِيَ الطَّلَاقَ الْبَائِنَ فَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا لَمْ تَبْنِ به وبنت عَلَى مَا مَضَى مِنْ عِدَّتِهَا قَوْلًا وَاحِدًا لِاسْتِوَاءِ حُكْمِ الطَّلَاقَيْنِ وَالْعِدَّتَيْنِ، وَإِنَّهَا قَدْ كَانَتْ تَبْنِي مِنْهُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مِنَ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ، وَالطَّلَاقُ الثَّانِي إِنْ لَمْ يَزِدْهَا تَحْرِيمًا لَمْ يَنْقُصْهَا، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ الثَّانِي بَائِنًا وَذَلِكَ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَسْتَكْمِلَ بِهِ عِدَدَ الثَّلَاثِ، وَإِمَّا بِأَنْ يَقْتَرِنَ بِخُلْعٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَابْنِ عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ: أَنَّهُمَا كَالَّتِي قَبْلَهَا إِذَا ارْتَجَعَهَا هَلْ تَبْنِي أَوْ تَسْتَأْنِفُ عَلَى قَوْلَيْنِ، لِأَنَّ حُكْمَ الطَّلَاقِ الثَّانِي مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ لِكَوْنِ الثَّانِي بَائِنًا وَالْأَوَّلِ رَجْعِيًّا، فَلَمْ يُؤَثِّرْ عَدَمُ الرَّجْعَةِ في

(11/314)


استئناف العدة كالموت الذي يوهب اسْتِئْنَافَ الْعِدَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ رَجْعَةٌ، وَتَمَسَّكَ قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ بِظَاهِرِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ " ارْتَجَعَ أَوْ لَمْ يَرْتَجِعْ سَوَاءً ".
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهَا تَبْنِي عَلَى الْعِدَّةِ وَلَا تَسْتَأْنِفُهَا قَوْلًا وَاحِدًا وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ، لِأَنَّ الْمُزَنِيَّ اخْتَارَ بَعْدَ الرَّجْعَةِ أَنْ تَسْتَأْنِفَ وَقَبْلَ الرَّجْعَةِ أَنْ تَبْنِيَ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الرَّجْعَةَ لَمَّا رَفَعَتِ التَّحْرِيمَ رَفَعَتِ الْعِدَّةَ وَالتَّحْرِيمُ لَا يَرْتَفِعُ بِعَدَمِ الرَّجْعَةِ فَلَمْ تَرْتَفِعِ الرَّجْعَةُ.
وَاحْتَجَّ أَبُو إِسْحَاقَ بِأَنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ عِدَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَسَوَاءٌ اجْتَمَعَتْ أَوْ تَفَرَّقَتْ إِذَا لَمْ يَتَخَلَّلْهَا إِبَاحَةٌ، وَتَأَوَّلَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ " ارْتَجَعَ أَوْ لَمْ يَرْتَجِعْ سَوَاءٌ " عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ ليبطل به ما أوجبه ودعي إِلَيْهِ، وَهُنَا لَا يَلْزَمُ فَكَذَلِكَ مَا اقْتَضَاهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ.
وَمِثَالُهُ مَا قَالَهُ فِي كِتَابِ " الْبُيُوعِ " مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي اللُّحْمَانِ وَمَنْ قَالَ إِنَّ اللُّحْمَانَ صِنْفٌ وَاحِدُ لَزِمَهُ أَنْ يَقُولَ فِي الثِّمَارِ أَنَّهَا صِنْفٌ وَاحِدٌ أَيْ لَمْ يَقْبَلْ بِهَذَا أَحَدٌ فِي الثِّمَارِ، فَكَذَلِكَ لَا يُقَالُ بِهِ فِي اللُّحْمَانِ، فَأَمَّا قَوْلُ الْمُزَنِيِّ وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ بِإِجْمَاعٍ فَلَا يَبْطُلُ مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ مِنْ عِدَّةٍ قَائِمَةٍ إِلَّا بِإِجْمَاعٍ مِثْلِهِ، أَوْ قِيَاسٍ عَلَى نَظِيرِهِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ لِمَنْ خَالَفَهُ فِي اخْتِيَارِهِ، وَهُوَ مَا أَجَابَ بِهِ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ بِإِجْمَاعٍ فَلَا تَخْرُجُ مِنْ عِدَّتِهَا إِلَّا بِإِجْمَاعٍ، وَالْإِجْمَاعُ أَنْ تَأْتِيَ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ مِنَ الطَّلَاقِ الثَّانِي وَاللَّهُ أعلم.

(11/315)


(بَابُ امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ وَعِدَّتِهَا إِذَا نَكَحَتْ غَيْرَهُ وغير ذلك)
(مسألة)
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فِي امْرَأَةِ الْغَائِبِ أَيَّ غَيْبَةٍ كَانَتْ لَا تَعْتَدُّ وَلَا تَنْكِحُ أَبَدًا حَتَّى يَأْتِيَهَا يَقِينُ وفاته وترثه ولا يجوز أن تعتد من وفاته ومثلها يرث إلا ورثت زوجها الذي اعتدت من وفاته وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه في امرأة المفقود إنها لا تتزوج ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَلِغَيْبَةِ الرَّجُلِ عَنْ زَوْجَتِهِ حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلَ الْأَخْبَارِ مَعْلُومَ الْحَيَاةِ فَنِكَاحُ زَوْجَتِهِ مُحَالٌ، وَإِنْ طَالَتْ غَيْبَتُهُ وَسَوَاءٌ تَرَكَ لَهَا مَالًا أَمْ لَا، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعَ الْأَخْبَارِ مَجْهُولَ الْحَيَاةِ فَحُكْمُهُ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ فِي سَفَرِهِ وَاحِدٌ، سَوَاءٌ قَعَدَ فِي بَلَدِهِ أَوْ بعده خُرُوجِهِ مِنْهُ فِي بَرٍّ كَانَ سَفَرُهُ أَوْ فِي بَحْرٍ، وَسَوَاءٌ كُسِرَ مَرْكَبُهُ أَوْ فُقِدَ بين صفي حرب فهو في هذه الأحوا كلها مفقود وما له عَلَيْهِ مَوْقُوفٌ يَتَصَرَّفُ فِيهِ وُكَلَاؤُهُ وَيُمْنَعُ مِنْهُ وَرَثَتُهُ، فَأَمَّا زَوْجَتُهُ إِذَا بَعُدَ عَهْدُهُ، وَخَفِيَ خَبَرُهُ فَفِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ بِحُكْمِ حَاكِمٍ ثُمَّ بِحُكْمِ مَوْتِهِ فِي حَقِّهَا خَاصَّةً ثُمَّ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، فَإِذَا انْقَضَتْ فَقَدْ حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ إِلَّا أَنَّ مَالِكًا فَرَّقَ بَيْنَ خُرُوجِهِ لَيْلًا وَنَهَارًا فَجَعَلَهُ مَفْقُودًا إِذَا خَرَجَ لَيْلًا دُونَ النَّهَارِ.
وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] وَفِي حَبْسِهَا عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ إِضْرَارٌ وَعُدْوَانٌ.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَقَالَتْ إِنَّ زَوْجِي خَرَجَ إِلَى مَسْجِدِ أَهْلِهِ وَفُقِدَ فَأَمَرَهَا أَنْ تَتَرَبَّصَ أَرْبَعَ سِنِينَ فَتَرَبَّصَتْ

(11/316)


ثُمَّ عَادَتْ فَقَالَ لَهَا اعْتَدِّي أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعشراً، ففعلت ثم عادت فقالت: قَدْ حَلَلْتُ لِلْأَزْوَاجِ فَتَزَوَّجَتْ فَعَادَ زَوْجُهَا فَأَتَى عُمَرَ فَقَالَ زَوَّجْتَ امْرَأَتِي، فَقَالَ وَمَا ذَاكَ فَقَالَ: غِبْتُ أَرْبَعَ سِنِينَ فَزَوَّجْتَهَا، فَقَالَ: يَغِيبُ أَحَدُكُمْ أَرْبَعَ سِنِينَ فِي غَيْرِ غَزَاةٍ وَلَا تِجَارَةٍ ثُمَّ يَأْتِينِي فَيَقُولُ زَوَّجْتَ امْرَأَتِي، فَقَالَ: خرجت إلى مسجد أهلي فاستلبنني الْجِنُّ فَكُنْتُ مَعَهُمْ فَغَزَاهُمْ جِنٌّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَوَجَدُونِي مَعَهُمْ فِي الْأَسْرِ، فَقَالُوا مَا دِينُكَ قُلْتُ الْإِسْلَامُ فَخَيَّرُونِي بَيْنَ أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ، وَبَيْنَ الرُّجُوعِ إِلَى أَهْلِي فَاخْتَرْتُ الرُّجُوعَ إِلَى أَهْلِي فَسَلَّمُونِي إِلَى قَوْمٍ فَكُنْتُ أَسْمَعُ بِاللَّيْلِ كَلَامَ الرِّجَالِ وَأَرَى بِالنَّهَارِ مِثْلَ الْغُبَارِ فَأَسِيرُ فِي أَثَرِهِ حَتَّى هَبَطْتُ عِنْدَكُمْ فَخَيَّرَهُ عُمَرُ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ زَوْجَتَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ مهرها.
وروى عاصم الأحول عن عُثْمَانَ قَالَ: أَتَتِ امْرَأَةٌ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَقَالَتِ اسْتَهْوَتِ الْجِنُّ زَوْجَهَا، فَأَمَرَهَا أَنْ تَتَرَبَّصَ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ أَمَرَ وَلِيَّ الَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الْجِنُّ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ انْتَشَرَتْ فِي الصَّحَابَةِ، وَحُكِمَ بِهَا عَنْ رَأْيِ الْجَمَاعَةِ فَكَانَتْ حُجَّةً، وَلِأَنَّ الْفَسْخَ لَمَّا اسْتُحِقَّ بِالْعُنَّةِ وَهُوَ فَقْدُ الِاسْتِمْتَاعِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّفَقَةِ، وَاسْتُحِقَّ بِالْإِعْسَارِ وَهُوَ فَقْدُ النَّفَقَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ، فَلِأَنْ تُسْتَحَقُّ بِغَيْبَةِ الْمَفْقُودِ، وَهُوَ جَامِعٌ بَيْنَ فَقْدِ الِاسْتِمْتَاعِ وَفَقْدِ النَّفَقَةِ، أَوْلَى.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى الزَّوْجَةِ مَحْبُوسَةٌ عَلَى قُدُومِ الزَّوْجِ، وَإِنْ طَالَتْ غَيْبَتُهُ مَا لَمْ يَأْتِهَا يَقِينُ مَوْتِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: أَبُو حَنِيفَةَ وَالْعِرَاقِيُّونَ.
وَوَجْهُ مَا رَوَاهُ سَوَّارُ بْنُ مُصْعَبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ امْرَأَتُهُ حَتَّى يَأْتِيَهَا الْخَبَرُ ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ.
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ مِثْلَ ذَلِكَ، وَهُوَ نَصٌّ إِنْ ثَبَتَ، وَلِأَنَّ مَنْ جُهِلَ مَوْتُهُ لَمْ يُحْكَمْ بِوَفَاتِهِ كَمَنْ غَابَ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْوَفَاةِ فِي مَالِهِ مَعَ الْجَهْلِ بِحَيَاتِهِ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْحَيَاةِ فِي زَوْجَاتِهِ كَمَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْحَيَاةِ فِي أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ غَابَتِ الزَّوْجَةُ حَتَّى خَفِيَ خَبَرُهَا لَمْ يُجْزِهَا أَنْ يُحْكَمَ بِمَوْتِهَا فِي إِبَاحَةِ أُخْتِهَا لِزَوْجِهَا، وَنِكَاحِ أَرْبَعٍ سِوَاهَا كَذَلِكَ غَيْبَةُ الزَّوْجِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَرَى عَلَيْهِ فِي غَيْبَتِهِ حُكْمُ طَلَاقِهِ، وَظِهَارِهِ جَرَى عَلَيْهَا حُكْمُ الزَّوْجِيَّةِ فِي تَحْرِيمِهَا عَلَى غَيْرِهِ، فَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ قَضِيَّتِهِ حِينَ رَجَعَ الزَّوْجُ، وَكَذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعُثْمَانُ فَصَارَ إِجْمَاعًا بَعْدَ خِلَافٍ، وَالِاعْتِبَارُ بِالْعُنَّةِ وَالْإِعْسَارِ مَعَ فَسَادِهِ بِغَيْبِهِ الْمَعْرُوفِ حَيَاتِهِ، فَالْمَعْنَى فِي الْعُنَّةِ: نَقْصُ الْخِلْقَةِ، وَفِي الْإِعْسَارِ وَمَا أُلْزِمَهُ، وَهُمَا مَفْقُودَانِ فِي الْمَفْقُودِ بِسَلَامَةِ خِلْقَتِهِ وَصِحَّةِ ذمته.

(11/317)


(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ تفرع الحكم عليهما، فإذا قبل بِالْأَوَّلِ مِنْهُمَا أَنَّهَا تَتَرَبَّصُ بِنَفْسِهَا أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ فَإِنَّمَا تَقَدَّرَتْ مُدَّةُ التَّرَبُّصِ بِأَرْبَعِ سِنِينَ؛ لِأَنَّهَا مُدَّةُ أَكْثَرِ الْعَمَلِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ فِيهِ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ ثُمَّ أُلْزِمَتْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ حَالِ الْمَفْقُودِ مَوْتُهُ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى طَلَاقٍ، فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ أَمَرَ عُمَرُ وَلِيَّ الْمَفْقُودِ أن يطلق قبل لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ ذَلِكَ اسْتِظْهَارًا، لِأَنَّ الْمَحْكُومَ بِمَوْتِهِ لَا تَقِفُ فُرْقَةُ زَوْجَتِهِ عَلَى طَلَاقِ غَيْرِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا سِوَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ اسْتِبْرَاءٌ، لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى غَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا، وَقَدِ اسْتَبْرَأَتْ هَذِهِ نَفْسَهَا بِأَرْبَعِ سِنِينَ فَلَمْ تَحْتَجْ إِلَى الِاسْتِبْرَاءِ، وَأُلْزِمَتْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ إِحْدَادًا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَوَّلُ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ مِنْ وَقْتِ حُكْمِ الْحَاكِمِ لَهَا بِالتَّرَبُّصِ.
وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ:
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: أَوَّلُهَا مِنْ وَقْتِ الْغَيْبَةِ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَمَرَهَا بِالتَّرَبُّصِ مِنْ وَقْتِ قَضَائِهِ وَالْعَمَلِ فِيهَا عَلَى قَوْلِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا مُدَّةٌ تَقَدَّرَتْ بِاجْتِهَادٍ فَاقْتَضَى أَنْ تَتَقَدَّرَ بِالْحُكْمِ كَأَجَلِ الْعُنَّةِ، وَخَالَفَتْ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ الْمُقَدَّرَةُ بِالنَّصِّ، فَإِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ بَعْدَ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِهَا وَتَقَدُّرِهَا، فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ حُكْمًا بِوَفَاتِهِ أَمْ يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْنَافِ حُكْمٍ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُحْتَمَلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحُكْمِ بِتَقْدِيرِ الْمُدَّةِ حُكْمٌ بِالْمَوْتِ بَعْدَ انْقِضَاءِ تِلْكَ الْمُدَّةِ لِأَنَّهُ مَقْصُودُ التَّقْدِيرِ، فَعَلَى هَذَا إِذَا انْقَضَتْ تِلْكَ الْمُدَّةُ لَمْ يَلْزَمْهَا مُعَاوَدَةُ الْحَاكِمِ وَصَارَتْ دَاخِلَةً فِي الْعِدَّةِ بَعْدَ انْقِضَائِهَا، فَإِذَا اقْتَضَتْ عِدَّتَهَا حَلَّتْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ الْحُكْمُ بِتَقْدِيرِ الْمُدَّةِ حُكْمًا بِالْمَوْتِ بَعْدَ انْقِضَائِهَا حَتَّى يَحْكُمَ لَهَا الْحَاكِمُ بِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ اسْتَأْنَفَ حُكْمَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ؛ وَلِأَنَّ الْحُكْمَ بِأَجْلِ الْعُنَّةِ لَا يَكُونُ حُكْمًا بِالْفُرْقَةِ حَتَّى يَحْكُمَ بِهَا الْحَاكِمُ كَذَلِكَ الْحُكْمُ بِأَجْلِ الْغَيْبَةِ، فَعَلَى هَذَا لَا تَدْخُلُ فِي الْعِدَّةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ إِلَّا بِأَنْ يَحْكُمَ لَهَا الْحَاكِمُ بِمَوْتِهِ فتقع الفرقة ما حُكِمَ بِهِ مِنَ الْمَوْتِ ثُمَّ تَدْخُلُ بَعْدَ حُكْمِهِ فِي الْعِدَّةِ وَتَحِلُّ حِينَئِذٍ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِذَا حُكِمَ بِالْفُرْقَةِ عَلَى مَا وَصَفْنَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُقُوعِهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَقَعُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا حَتَّى إِنْ قَدِمَ الزَّوْجُ حَيًّا لَمْ يَبْطُلْ بِهِ النكاح.

(11/318)


وَالثَّانِي: لِأَنَّ لِلْحَاكِمِ مَدْخَلًا فِي إِيقَاعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَقَعُ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ فَإِنْ قَدِمَ الزَّوْجُ حَيًّا بَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِي، لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُحِيلُ الْأُمُورَ عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ، وَفِعْلُ عُمَرَ رضي الله تعالى عنه حين خبر الْأَوَّلَ يَدُلُّ عَلَى احْتِمَالِ الْوَجْهَيْنِ، فَهَذَا حُكْمُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَإِذَا قِيلَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي إِنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ وَمَحْبُوسَةٌ عَلَى نِكَاحِهِ حَتَّى يُعْرَفَ يَقِينُ مَوْتِهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي يُعْمَلُ عَلَيْهِ فَإِنْ نَكَحَتْ قَبْلَ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ أَوْ بَعْدَهَا كَانَ نِكَاحُهَا بَاطِلًا، وَعَلَى هَذَا لَوْ حَكَمَ لَهَا الْحَاكِمُ بِالْمُدَّةِ قَضَى بَعْدَ انْقِضَائِهَا بِالْفُرْقَةِ فَفِي نَقْضِ حُكْمِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُنْقَضُ لِنُفُوذِهِ عَنِ اجْتِهَادٍ مُسَوِّغٍ وَخِلَافٍ مُنْتَشِرٍ
والوجه الثاني: أن حكمه ينقض وقضاؤه يُرَدُّ، لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ مِنْ رُجُوعِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَدْ رَفَعَ الْخِلَافَ وَعَقَدَ الْإِجْمَاعَ، وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ فِيهِمَا قَوِيٌّ لَا يُحْتَمَلُ خلافه والله أعلم.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ طَلَّقَهَا وَهُوَ خَفِيُّ الْغَيْبَةِ أَوْ آلَى مِنْهَا أَوْ تَظَاهَرَ أَوْ قَذَفَهَا لَزِمَهُ مَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ الْحَاضِرَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو مَا فَعَلَهُ الزَّوْجُ فِي غَيْبَتِهِ الَّتِي خَفِيَ فِيهَا خَبَرُهُ مِنْ طَلَاقٍ، وَظِهَارٍ، وَإِيلَاءٍ وَقَذْفٍ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ أَوْ بَعْدَهُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَهُ فَكُلُّ ذلك نافد يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ، وَالظِّهَارُ، وَتَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ بِالْعَوْدِ وَيُؤْخَذُ بِحُكْمِ الْإِيلَاءِ وَوَقْفِ الْمُدَّةِ وَيَلْزَمُهُ الْقَذْفُ وَلَهُ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ وَيَكُونُ فِعْلُهُ لِذَلِكَ فِي غَيْبَتِهِ كَفِعْلِهِ فِي حُضُورِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ بَعْدَ تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ بَيْنِهِ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ وَأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ قِيلَ بِقَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى الزَّوْجِ أَبَدًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ يَقِينُ مَوْتِهِ فَحُكْمُ الْحَاكِمِ بِالْفُرْقَةِ قَدْ بَطَلَ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ تَيَقَّنَ حَيَاتَهُ فَصَارَ كَحُكْمِهِ، مُجْتَهِدًا إِذَا خَالَفَ فِيهِ نَصًّا، وَلَا يَكُونُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي نَقْضِ حُكْمِهِ، لِأَنَّ الْوَجْهَيْنِ فِي نَقْضِهِ مَعَ بَقَاءِ الْإِشْكَالِ لَا مَعَ ارْتِفَاعِهِ، فَعَلَى هَذَا يُؤْخَذُ بِحُكْمِ طَلَاقِهِ، وَظِهَارِهِ، وَإِيلَائِهِ، وَقَذْفِهِ. وَإِنْ قِيلَ: بِقَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ الْفُرْقَةَ وَاقِعَةٌ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي نُفُوذِ حُكْمِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.
فَإِنْ قِيلَ إِنَّ حُكْمَهُ قَدْ نَفَذَ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ كَانَ حُكْمُهُ إِذَا بَانَتْ حَيَاةُ الزَّوْجِ بَاطِنًا وَالزَّوْجُ مَأْخُوذٌ بِحُكْمِ طَلَاقِهِ وَظِهَارِهِ وَإِيلَائِهِ وَلِعَانِهِ وَقَذْفِهِ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّ حُكْمَهُ قَدْ

(11/319)


نَفَذَ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ صَحَّ حُكْمُهُ مَعَ حَيَاةِ الزَّوْجِ وَمَوْتِهِ وَلَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ وَلَا ظهاره، ولا إيلائه وَيُحَدُّ مِنْ قَذْفِهِ وَلَا يَلْتَعِنُ.

(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ اعْتَدَّتْ بِأَمْرِ حَاكِمٍ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا أَوْ نَكَحَتْ وَدَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ كَانَ حُكْمُ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا الْأَوَّلِ بِحَالِهِ غَيْرَ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ فَرْجِهَا بِوَطْءِ شُبْهَةٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ زَوْجَةَ الْمَفْقُودِ إِذَا تَزَوَّجَتْ بَعْدَ أَنْ حَكَمَ لَهَا الْحَاكِمُ بِفَسْخِ نِكَاحِ الْأَوَّلِ ثُمَّ قَدِمَ الْأَوَّلُ حَيًّا أَنَّ الْمَذَاهِبَ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ.
فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْأَوَّلَ يَكُونُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَنْزِعَهَا مِنَ الثَّانِي وَبَيْنَ أَنْ يُقِرَّهَا عَلَيْهِ، وَيَأْخُذَ مِنْهُ مَهْرَ مِثْلِهَا، لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ خَيَّرَ الْمَفْقُودَ حِينَ قَدِمَ بَيْنَ زَوْجَتِهِ أَوْ مَهْرِ مِثْلِهَا، وَهَذَا التَّخْيِيرُ فَاسِدٌ، لِأَنَّهَا لَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً لِلْأَوَّلِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَقِرَّ مَعَ الثَّانِي، أَوْ تَكُونَ زَوْجَةً لِلثَّانِي فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَزِعَهَا الْأَوَّلُ، وَإِذَا بَطَلَ التَّخْيِيرُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَانَ النِّكَاحُ مَحْمُولًا عَلَى صِحَّةِ نِكَاحِ الثَّانِي وَفَسَادِهِ، فَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ نِكَاحُ الثَّانِي وَهِيَ زَوْجَةٌ لِلْأَوَّلِ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الثَّانِي، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَحَلَّتْ لِلْأَوَّلِ مِنْ وَقْتِهَا وَإِنْ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَكَانَ وَطْءَ شُبْهَةٍ يُوجِبُ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْأَوَّلِ مَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا، فَإِذَا انْقَضَتْ حَلَّتْ لَهُ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ إِذَا قَدِمَ الْأَوَّلُ حَيًّا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي نِكَاحِ الْأَوَّلِ بَعْدَ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِفَسْخِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَى حُكْمٍ الْحَاكِمِ هَلْ نَفَذَ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ أَوْ نَفَذَ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ مَعًا فَإِنْ قِيلَ بِنُفُوذِهِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ مَعًا فَقَدْ بَطَلَ نِكَاحُ الْأَوَّلِ سَوَاءٌ كَانَ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، وَيَكُونُ نِكَاحُ الثَّانِي صَحِيحًا.
وَإِنْ قِيلَ: بِنُفُوذِهِ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ فَنِكَاحُ الْأَوَّلِ ثَابِتٌ سَوَاءٌ نَكَحَتْ بَعْدَهُ أَوْ لَمْ تَنْكِحْ لِزَوَالِ الظَّاهِرِ مَعَ وُجُودِ الْحَيَاةِ، وَيَكُونُ نِكَاحُ الثَّانِي بَاطِلًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ نِكَاحَ الْأَوَّلِ ثَابِتٌ فِي الْحَالَيْنِ لِأَنَّ عِلَّةَ الْفَسْخِ تَغْلِيبُ حُكْمِ الْمَوْتِ، وَقَدْ بَطَلَتْ مَعَ وُجُودِ الْحَيَاةِ سَوَاءٌ تَزَوَّجَتْ أَوْ لَمْ تَتَزَوَّجْ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ نِكَاحَ الْأَوَّلِ بَاطِلٌ فِي الْحَالَيْنِ، لِأَنَّ عِلَّةَ الْفَسْخِ انْقِطَاعُ خَبَرِهِ، وَعَدَمُ الْعِلْمِ بِأَثَرِهِ، وَهَذِهِ الْعِلَّةِ مَوْجُودَةٌ، وَإِنْ بَانَ حَيًّا مِنْ بَعْدُ سَوَاءٌ تَزَوَّجَتْ أو لم

(11/320)


تَتَزَوَّجْ فَإِنْ تَزَوَّجَتْ كَانَ نِكَاحُ الثَّانِي صَحِيحًا سَوَاءٌ بَانَتْ حَيَاةُ الْأَوَّلِ أَوْ مَوْتُهُ.
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: حَكَاهُ الدَّارِكِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ نِكَاحَ الْأَوَّلِ ثَابِتٌ إِنْ لَمْ تَتَزَوَّجْ بِغَيْرِهِ وَبَاطِلٌ إِنْ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِهِ، لِأَنَّ مَقْصُودَ الْحُكْمِ بِفَسْخِ نِكَاحِهِ لِتَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِ فَإِذَا وُجِدَ الْمَقْصُودُ اسْتَقَرَّ الْحُكْمُ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ لَمْ يَسْتَقِرَّ كَالْمُتَيَمِّمِ مَقْصُودُهُ فِعْلُ الصَّلَاةِ فَإِذَا وُجِدَ الْمَاءُ بَعْدَ دُخُولِهِ فِيهَا اسْتَقَرَّ حُكْمُهُ، وَإِذَا وُجِدَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِيهَا بَطَلَ، فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ تخَرِّجُ مِنْهَا فِي نِكَاحِ الْأَوَّلِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ عَلَى تَفْصِيلِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ نِكَاحُ الثَّانِي صَحِيحًا وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ الْمُسَمَّى لِلزَّوْجَةِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلْأَوَّلِ، وَحَكَى الْكَرَابِيسِيُّ أَنَّ عَلَيْهِ لِلْأَوَّلِ مَهْرَ مِثْلِهَا، وَأَنْكَرَهُ سَائِرُ أَصْحَابِنَا عَلَيْهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ نِكَاحَ الْأَوَّلِ ثَابِتٌ عَلَى تَفْصِيلِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ نِكَاحُ الثَّانِي بَاطِلًا وَفِي زَمَانِ بُطْلَانِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَقَعَ بَاطِلًا حِينَ الْعَقْدِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَلَيْهِ إِنْ دَخَلَ بِهَا مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى، لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ نِكَاحَ الثَّانِي صَحِيحٌ وَقْتَ الْعَقْدِ، وَبَاطِلٌ عِنْدَ الْعِلْمِ بِحَيَاةِ الْأَوَّلِ كَالْغَاصِبِ إِذَا غَرِمَ قِيمَةَ الْعَبْدِ بَعْدَ إِبَاقِهِ، أَوِ الْجَانِي إِذَا غَرِمَ دِيَةَ الْعَيْنِ بَعْدَ بَيَاضِهَا ثُمَّ وُجِدَ الْعَبْدُ، وَبَرَأَتِ الْعَيْنُ رُدَّتِ الْقَيِّمَةُ بَعْدَ صِحَّةِ مِلْكِهَا كَذَلِكَ النِّكَاحُ فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ الْمَهْرُ الْمُسَمَّى بَعْدَ الدُّخُولِ وَنِصْفُهُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ كُلُّهُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ، فَأَمَّا عَلَى الْجَدِيدِ فَلَا يَخْتَلِفُ أَنَّ نِكَاحَ الْأَوَّلِ ثَابِتٌ، وَنِكَاحَ الثَّانِي بَاطِلٌ مِنْ أَصْلِهِ.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا إِذَا نَكَحَتْ زَوْجَةُ الْمَفْقُودِ ثُمَّ بَانَ أَنَّ زَوْجَهَا كَانَ مَيِّتًا قَبْلَ نِكَاحِهَا فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ نِكَاحُهَا جَائِزٌ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ اعْتِبَارًا بِحَظْرِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ.
وَالثَّانِي: صَحِيحٌ اعْتِبَارًا بِظُهُورِ الْإِبَاحَةِ مِنْ بَعْدُ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ كَاخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِيمَنْ بَاعَ دَارَ أَبِيهِ يَظُنُّهُ حَيًّا فَبَانَ مَيِّتًا، وَكَاخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْوَكِيلِ إِذَا بَاعَ بَعْدَ عَزْلِهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْعَزْلِ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ نِكَاحُ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً يُعْتَقَدُ أَنَّهَا أُخْتُهُ فَكَانَتْ أَجْنَبِيَّةً أَوْ يُعْتِقُ أَمَةَ أَبِيهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَارِثُهَا، وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ كَانَ رَاكِبًا فَزَحَمَ امْرَأَةً فَقَالَ لَهَا تَأَخَّرِي عَنِ الطَّرِيقِ يَا حُرَّةُ ثُمَّ عَرَفَ أَنَّهَا جَارِيَةٌ فَلَمْ يَتَمَلَّكْهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَاحْتَمَلَ ذَلِكَ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَتَقَتْ عِنْدَهُ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَعْتَقَهَا تَبَرُّعًا وَتَوَرُّعًا.

(11/321)


(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا نَفَقَةَ لَهَا مِنْ حِينَ نَكَحَتْ وَلَا فِي حِينِ عِدَّتِهَا مِنَ الْوَطْءِ الْفَاسِدِ لِأَنَّهَا مخرجة نفسها من يديه وغيره وَاقِفَةٍ عَلَيْهِ وَمُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ بِالْمَعْنَى الَّذِي دَخَلَتْ فِيهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ زَوْجَةُ الْمَفْقُودِ لَهَا النَّفَقَةُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَمْتِعْ بِهَا، لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْهُ لَا مِنْهَا فَإِنْ رَفَعَتْ أَمْرَهَا إِلَى حَاكِمٍ لَمْ يَرَ الْفُرْقَةَ وَلَا ضَرْبَ الْمُدَّةِ كَانَتْ عَلَى حَقِّهَا مِنَ النَّفَقَةِ وَإِنْ رَأَى وَحَكَمَ لَهَا أَنْ تَتَرَبَّصَ بِنَفْسِهَا أَرْبَعَ سِنِينَ فَلَهَا النَّفَقَةُ فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ لِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ فِيهَا عَلَيْهِ فَإِذَا انْقَضَتْ بِهِ التَّرَبُّصَ ودخلت في الاعتداد بأربعة أشهر وعشراً، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ لَا نَفَقَةَ لَهَا لِنُفُوذِ الْحُكْمِ بِالْفُرْقَةِ لَكِنْ فِي اسْتِحْقَاقِهَا لِلسُّكْنَى في مدة العدة قولان؛ لأنها من عِدَّةِ وَفَاةٍ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ لَهَا النَّفَقَةُ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ، لِأَنَّ الْفُرْقَةَ لَمْ تَقَعْ، وَالْحُكْمَ بِهَا لَمْ يُنَفَّذْ، وَاعْتِقَادَهَا لِلتَّحْرِيمِ لَا يُسْقِطُ نَفَقَتَهَا مَا كَانَتْ عَلَى الْحَالِ الَّتِي فَارَقَهَا الزَّوْجُ، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ سَقَطَتْ حِينَئِذٍ نَفَقَتُهَا بِالتَّزْوِيجِ سَوَاءٌ قِيلَ: إِنَّ نِكَاحَ الثَّانِي صَحِيحٌ أَوْ بَاطِلٌ، لِأَنَّهَا صَارَتْ بِالنِّكَاحِ نَاشِزًا، فَإِنْ فَارَقَهَا الثَّانِي وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنْ إِصَابَتِهِ فَإِنْ حَضَرَ الْأَوَّلُ وَأُقِرَّتْ عَلَى نِكَاحِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا مَا كَانَتْ فِي عِدَّتِهَا مِنَ الثَّانِي لِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ وَلَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَيْهِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، فَإِذَا قَضَتْهَا وَسَلَّمَتْ نَفْسَهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ نَفَقَتُهَا وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ حِينَ فَارَقَهَا الثَّانِي غَائِبًا، وَقَضَتْ عِدَّتَهَا وَعَادَتْ إِلَى مَسْكَنِ الْأَوَّلِ مُسَلِّمَةً نَفْسَهَا، فَهَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا قَبْلَ أَنْ يَعُودَ فَيَتَسَلَّمَهَا ظَاهِرُ مَا رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا يَقْتَضِي وُجُوبَ نَفَقَتِهَا، لِأَنَّهُ قَالَ لَا نفقة لها من حين نكحت ولا في حِينِ عِدَّتِهَا فَدَلَّ مَجْرَى كَلَامِهِ عَلَى أَنَّ لَهَا النَّفَقَةَ بَعْدَ عِدَّتِهَا.
وَرَوَى الرَّبِيعُ أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا فِي الْعِدَّةِ وَلَا بَعْدَهَا، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ خَرَّجُوا وُجُوبَ النَّفَقَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ:
أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: لَهَا النَّفَقَةُ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ رِوَايَةِ الْمُزَنِيِّ؛ لِأَنَّهَا قَدْ عَادَتْ إِلَى يَدِهِ بِمَعْنَاهَا الْأَوَّلِ مِنَ الْإِبَاحَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا نَفَقَةَ لَهَا حَتَّى يَعُودَ الْأَوَّلُ فَيَتَسَلَّمَهَا عَلَى مَا رَوَاهُ الرَّبِيعُ لِأَنَّ تَسْلِيمَ نَفْسِهَا إِنَّمَا يَصِحُّ مَعَ وُجُودِ مَنْ يَتَسَلَّمُهَا أَلَا تَرَاهُ لَوْ نَكَحَهَا ثُمَّ سَافَرَ قَبْلَ أَنْ تُسَلِّمَ نَفْسَهَا ثُمَّ سَلَّمَتْ نَفْسَهَا فِي غَيْبَتِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَسْلِيمًا تَسْتَحِقُّ بِهِ النَّفَقَةَ كَذَلِكَ هَذِهِ، وَلِأَنَّهَا بِنِكَاحِ الثَّانِي مُتَعَدِّيَةٌ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ فَصَارَتْ كَالْمُتَعَدِّي فِي الْوَدِيعَةِ لَا يَسْقُطُ التَّعَدِّي بِالْكَفِّ عَنْهَا إِلَّا بَعْدَ تَسْلِيمِهَا إِلَى مَالِكِهَا كَذَلِكَ هَذِهِ فَهَذَا أَحَدُ وَجْهَيْ أصحابنا.

(11/322)


وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حالين، واختلاف مَنْ قَالَ بِاخْتِلَافِهِمَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ لَهَا إِذَا كَانَتْ هِيَ الزَّوْجَةَ لِنَفْسِهَا دُونَ الْحَاكِمِ فَلَوْ زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ فَلَا نفقة لهاحتى يَتَسَلَّمَهَا الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ رَافِعٌ لِيَدِ الْأَوَّلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ وُجُوبَ النفقة لَهَا إِذَا أَعَادَهَا الْحَاكِمُ إِلَى نِكَاحِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ عَادَتْ هِيَ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا لِأَنَّ حُكْمَ الحاكم مثبت ليد الأول.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَمْ أُلْزِمِ الْوَاطِئَ بِنَفَقَتِهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الزَّوْجَيْنِ إِلَّا لُحُوقَ الْوَلَدِ فَإِنَّهُ فِرَاشٌ بِالشُّبْهَةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا نَفَقَتُهَا عَلَى الزَّوْجِ الثَّانِي فَمُعْتَبَرَةٌ بِحُكْمِ نِكَاحِهِ.
فَإِنْ قِيلَ بِقَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّ نِكَاحَهُ صَحِيحٌ فَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ وَإِلَى حِينِ الْفُرْقَةِ وَلَا نَفَقَةَ لَهَا فِي الْعِدَّةِ، لِأَنَّهُ لا يملك فيها الرجعة، ولها السكنى كالمتبوتة.
وَإِنْ قِيلَ بِقَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ نِكَاحَهُ بَاطِلٌ فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ بَعْدَ نِكَاحِهِ وَلَا فِي حَالِ دُخُولِهِ، لِأَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجِيَّةِ تُسْتَحَقُّ في مقابلة التمكين المستحق، وفساد النكاح يمنح مِنِ اسْتِحْقَاقِ التَّمْكِينِ فَمَنَعَ مِنِ اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَ كَالْمُتَصَرِّفِ عَنْ إِجَارَةٍ فَاسِدَةٍ يَلْزَمُهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ مَعَ فَسَادِ عَقْدِهِ.
قِيلَ: لِأَنَّ مَنَافِعَ الْإِجَارَةِ فِي يَدِهِ تَضَمَّنَهَا بِالْيَدِ وَمَنَافِعَ الِاسْتِمْتَاعِ فِي يَدِهَا فَلَمْ يُضَمَّنْهَا إِلَّا بِالِاسْتِهْلَاكِ وَالِاسْتِهْلَاكُ هُوَ الْوَطْءُ فَالْوَطْءُ مُوجِبٌ لَغُرْمِ الْمَهْرِ دُونَ النَّفَقَةِ، وَقَدْ وَجَبَ الْمَهْرُ وَإِنْ لَمْ تَجِبِ النَّفَقَةُ فَكَانَ بَيْنَهُمَا شَبَهٌ بِهِ مِنْ وَجْهٍ، وَفَرْقٌ مِنْ آخَرَ، فَإِنْ فَارَقَهَا الثَّانِي فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ فِي عِدَّتِهِ وَلَا سُكْنَى لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ قَبْلَ التفرقة فأولى أن لا يجب بعدها إلى أَنْ تَكُونَ حَامِلًا، فَفِي وُجُوبِ نَفَقَتِهَا مُدَّةَ حَمْلِهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَهَا النَّفَقَةُ إِذَا قِيلَ: إِنَّهَا لِلْحَمْلِ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا نَفَقَةَ لَهَا إِذَا قِيلَ: إِنَّ النَّفَقَةَ لِكَوْنِهَا ذَاتَ حَمْلٍ، فَإِنْ عَادَتْ إِلَى الْأَوَّلِ بَعْدَ وَضْعِهَا، فَفِي وُجُوبِ نَفَقَتِهَا عَلَيْهِ مُدَّةَ نِفَاسِهَا وَجْهَانِ مَضَيَا.
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا وَضَعَتْ فَلِزَوْجِهَا أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ رَضَاعِ وَلَدِهَا إِلَّا اللَّبَأَ وَمَا إِنْ تَرَكَتْهُ لَمْ يَعْتَدَّ غَيْرُهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا عَادَ الزَّوْجُ الْمَفْقُودُ وَزَوْجَتُهُ حَامِلٌ مِنْ نِكَاحِ

(11/323)


غَيْرِهِ كَانَ الْحَمْلُ لَاحِقًا بِالثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهَا تَرَبَّصَتْ لِلْأَوَّلِ بِمُدَّةِ أَكْثَرِ الْحَمْلِ، وَهِيَ أَرْبَعُ سِنِينَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِنْهُ وَأُلْحِقَ بِالثَّانِي؛ لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ بِوَطْءِ نِكَاحٍ أَوْ شُبْهَةِ فِرَاشٍ لَهُ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنَ الْأَوَّلِ حَتَّى تَضَعَ لِبَقَاءِ عِدَّتِهَا مِنَ الثَّانِي، فَإِذَا وَضَعَتْ عَادَتْ إِلَى إِبَاحَةِ الْأَوَّلِ، وإن حرم عليه وطئها فِي مُدَّةِ النِّفَاسِ كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ فِي نِفَاسِهَا مِنْهُ، فَأَمَّا رِضَاعُ الْوَلَدِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُمَكِّنَهَا مِنْ رِضَاعِ اللِّبَأِ وَمَا لَا يَغْذُوهُ غَيْرُهُ وَلَا يُوجَدُ مِنْ غَيْرِهَا فَإِذَا اسْتَغْنَى عَنِ اللِّبَأِ نُظِرَ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَهُ مُرْضِعَةٌ غَيْرُهَا وَجَبَ عَلَيْهِ تَمْكِينُهَا مِنْ رَضَاعِهِ اسْتِيفَاءً لِحَيَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ اسْتِهْلَاكٌ لِحَقِّهِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ كَمَا يَلْزَمُهُ فِي الضَّرُورَةِ أَنْ يُحْيِيَ بِمَالِهِ نَفْسَ غَيْرِهِ، وَإِنْ وُجِدَ لَهُ مُرْضِعَةٌ غَيْرُهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ رَضَاعِهِ؛ لِأَنَّهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ مُتَطَوِّعَةٌ لَا تُجْبَرُ عَلَى رَضَاعِهِ إِذَا امْتَنَعَتْ وَفِي الْحَالِ الْأُولَى مُعْتَرِضَةٌ تُجْبَرُ عَلَى رَضَاعِهِ لَوِ امْتَنَعَتْ فَلَمْ يَكُنْ لَهَا مَعَ التَّطَوُّعِ بِرَضَاعِهِ أَنْ تُسْقِطَ بِهِ حَقَّ اسْتِمْتَاعِهِ كَمَا لَا يَسْقُطُ بِرِضَاعِ غَيْرِهِ، وَلَا يَدُلُّ مَنْعُهُ لَهَا مِنَ الرِّضَاعِ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الرِّضَاعَ كَمَا يَمْنَعُهَا مِنْ خِدْمَةِ غَيْرِهِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا خِدْمَةَ نَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنِ اسْتَأْجَرَ خَيَّاطًا كَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الْبِنَاءِ ولا يستحق عليه البناء.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُنْفِقُ عَلَيْهَا فِي رِضَاعِهَا وَلَدَ غَيْرُهُ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا أَرْضَعَتْ وَلَدَ الثَّانِي بَعْدَ عَوْدِهَا إِلَى الْأَوَّلِ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَنْ تُرْضِعَهُ فِي بَيْتِ الْأَوَّلِ أَوْ فِي غَيْرِ بَيْتِهِ، فَإِنْ أَرْضَعَتْهُ فِي بَيْتِ الْأَوَّلِ وَجَبَتْ نَفَقَتُهَا عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَرْضَعَتْهُ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَكِنْ إِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ لَمْ تَعْصِهِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ عَصَتْهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ رِضَاعُهُ وَاجِبًا عَلَيْهَا فَلَا تَكُونُ بِهِ عَاصِيَةً، وَإِنْ أَرْضَعَتْهُ فِي غَيْرِ بَيْتِ الْأَوَّلِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَقَدْ عَصَتْهُ وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ لَمْ تَعْصِهِ، وَفِي اسْتِحْقَاقِهَا لِلنَّفَقَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَهَا النَّفَقَةُ لِوُجُودِ الْإِذْنِ.
وَالثَّانِي: لَا نَفَقَةَ لَهَا لِتَفْوِيتِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَذَلِكَ كَالْمُسَافِرَةِ إِنْ كَانَتْ مَعَ زَوْجِهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا، وَإِنِ انْفَرَدَتْ عَنْهُ بِالسَّفَرِ، وَكَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ ففي وجوب نفقتها وجهان:
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ ادَّعَاهُ الْأَوَّلُ أُرِيَتْهُ الْقَافَةُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا أَتَتْ بِوَلَدِ زَوْجَةِ الْمَفْقُودِ بَعْدَ التَّرَبُّصِ بِنَفْسِهَا أَرْبَعَ سِنِينَ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ قَدْ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِهِ أَوْ لَمْ تَتَزَوَّجْ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِهِ، فَفِي لُحُوقِ وَلَدِهَا بِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُلْحَقُ بِهِ لِأَنَّهَا إِذَا لَمْ تَصِرْ فِرَاشًا لِغَيْرِهِ كَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى حُكْمِ فِرَاشِهِ.

(11/324)


وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُلْحَقُ بِهِ، لِأَنَّ الْمَفْقُودَ مَنْ عُدِمَتْ أَخْبَارُهُ، وَانْقَطَعَتْ آثَارُهُ، وَقَدْ مَضَى مِنْ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ مَا يَمْنَعُ مِنْ بَقَاءِ مَائِهِ مَعَهَا فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ وَلَدُهَا مِنْهُ، وإن تزوجت غيره ولدت بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ دُخُولِ الثَّانِي فَهُوَ لَاحِقٌ بِالثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ مَا لَمْ يَدِّعِهِ الْأَوَّلُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَكُونُ لَاحِقًا بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي وَإِنْ لَمْ يَدَّعِهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ تَلِدُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الثَّانِي يَكُونُ لَاحِقًا بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي الْمَشْرِقِيِّ إِذَا تَزَوَّجَ بِمَغْرِبِيَّةٍ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِيهِ، فَإِنِ ادَّعَاهُ الْأَوَّلُ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " أُرِيَتْهُ الْقَافَةُ " فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ادِّعَائِهِ لَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقُولَ فِي الدَّعْوَى إِنِّي رَجَعْتُ سِرًّا فَأَصَبْتُهَا، وَيَكُونُ مَا ادَّعَاهُ مُمْكِنًا فيَجُوزُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الثَّانِي فَيَرَى الْقَافَةُ حَتَّى يُلْحِقُوهُ بِأَشْبَهِهِمَا بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا فِي دَعْوَاهُ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْوَلَدِ وَيَكُونُ مِنَ الثَّانِي، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي لَا يُلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ إِذَا لَمْ تَتَزَوَّجْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا ادَّعَاهُ دَعْوَى مُجَرَّدَةً قَبِلْنَا دَعَوَاهُ، وَجَعَلْنَا لَهُ فِي الْوَلَدِ حَقًّا فَيَرَى الْقَافَةُ فَيُلْحِقُوهُ بِأَحَدِهِمَا، وَلَوْ لَمْ يَدَّعِهِ لَجَعَلْنَاهُ لِلثَّانِي تَغْلِيبًا لِلظَّاهِرِ وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُلْحَقُ بِهِ الولد إذا لم تتزوج.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ مَاتَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ وَالْآخُرُ وَلَا يُعْلَمُ أَيُّهُمَا مَاتَ أَوَّلًا بَدَأَتْ فَاعْتَدَّتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، لِأَنَّهُ النِّكَاحُ الصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ثَمَّ اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ. ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ بِالْحُكْمِ بَعْدَ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ ثُمَّ يَمُوتُ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا فَالْكَلَامُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى بَيَانِ حُكْمَيِ الْعِدَّةِ، وَالْمِيرَاثِ، فَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى عَقْدِ الثَّانِي: هَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَوْ فَاسِدٌ، فَإِنْ قِيلَ بِصِحَّتِهِ، وَإنَّ نِكَاحَ الْأَوَّلِ قَدِ انْفَسَخَ بِالْحُكْمِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ نُظِرَ فِي الْمَيِّتِ مِنْهُمَا، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَوَّلَ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا لَهُ وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الثَّانِيَ فَلَهَا مِيرَاثُهُ، وَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ مِنْهُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَيُّهُمَا هُوَ الْمَيِّتُ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَلَا مِيرَاثَ لَهَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مِنْهُمَا هُوَ الثَّانِي وَهِيَ شَاكَّةٌ فِي مَوْتِهِ فَكَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى نِكَاحِهِ حَتَّى يُتَيَقَّنَ مَوْتُهُ فَتَعْتَدَّ مِنْهُ وَتَرِثَهُ.
وَإِنْ قِيلَ: بِفَسَادِ نِكَاحِ الثَّانِي وَبَقَائِهَا عَلَى نِكَاحِ الْأَوَّلِ لَمْ يَخْلُ حَالُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: إِمَّا الْأَوَّلُ أَوِ الثَّانِي أَوْ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ أَوْ هُمَا جَمِيعًا معاً.

(11/325)


فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي فَهُوَ الزَّوْجُ الْمَوْرُوثُ، فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ مِنْهُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا يَكُونُ أَوَّلَهَا وَقْتُ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ فِرَاشًا لِلثَّانِي بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى فِرَاشِ الْأَوَّلِ، فَإِذَا فُرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الثَّانِي بَدَأَتْ بِعِدَّةِ الْأَوَّلِ وَاسْتَحَقَّتْ مِيرَاثَهُ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزَوْجٍ يُورَثُ وَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ مِنْ مَوْتِهِ بِالْأَقْرَاءِ دُونَ الشُّهُورِ، لِأَنَّهَا عِدَّةُ اسْتِبْرَاءٍ لَا عِدَّةَ زَوْجِيَّةٍ فَتَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ مِنْ وَقْتِ مَوْتِهِ بِخِلَافِ مَوْتِ الْأَوَّلِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهَا فِرَاشٌ لِلْأَوَّلِ بِالْعَقْدِ وَفِرَاشٌ لِلثَّانِي بِالْوَطْءِ فَرَاعَيْنَا فِي عِدَّةِ الْأَوَّلِ أَنْ تَبْتَدِئَهَا بَعْدَ رَفْعِ فِرَاشِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ مُسْتَحَقٌّ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ أَحَدُهُمَا وَلَا يُعْلَمُ الْمَيِّتُ مِنْهُمَا فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ أَكْثَرَ الْأَجَلَيْنِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، أَوْ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ هُوَ الميت فقد انقضت عدته بأربعة أشهر وعشراً، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي هُوَ الْمَيِّتُ فَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهُ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ يَمُوتَا مَعًا فَلَا يَخْلُو حَالُ مَوْتِهِمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: إِمَّا أَنْ يَتَقَدَّمَ مَوْتُ الْأَوَّلِ، وَإِمَّا أَنْ يَتَقَدَّمَ مَوْتُ الثَّانِي، وَإِمَّا أَنْ يَمُوتَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، وَإِمَّا أَنْ يُجْهَلَ الْمُتَقَدِّمُ مِنْهُمَا.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنْ يَتَقَدَّمَ مَوْتُ الْأَوَّلِ ثُمَّ يَمُوتَ الثَّانِي بَعْدَهُ فَتَبْدَأُ بِعِدَّةِ الْأَوَّلِ مِنْ بَعْدِ مَوْتِ الثَّانِي بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ ثُمَّ تَعْتَدُّ لِلثَّانِي بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّةِ الْأَوَّلِ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ وَلَهَا مِيرَاثُ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَتَقَدَّمَ مَوْتُ الثَّانِي ثُمَّ يَمُوتَ الْأَوَّلُ بَعْدَهُ فَأَوَّلُ عِدَّتِهَا مِنَ الثَّانِي مِنْ وَقْتِ مَوْتِهِ ثُمَّ يُرَاعَى مَوْتُ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ قَضَاءِ عِدَّةِ الثَّانِي فَقَدْ وَفَّتْ عِدَّةَ الثَّانِي، وَعَلَيْهَا أَنْ تَسْتَأْنِفَ عِدَّةَ الْأَوَّلِ مِنْ وَقْتِ مَوْتِهِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَمُوتَ الْأَوَّلُ فِي تَضَاعِيفِ عِدَّةِ الثَّانِي، كَأَنَّهُ مَاتَ بَعْدَ قُرْءٍ وَاحِدٍ مِنْ عِدَّتِهِ فَتَقْطَعُ وَفَاةُ الْأَوَّلِ عِدَّةَ الثَّانِي لِصِحَّةِ عَقْدِهِ وَقُوَّةِ حَقِّهِ وَتَعْتَدُّ مِنْهُ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، فَإِذَا اسْتَكْمَلَتْهَا عَادَتْ فَتَمَّتْ عِدَّةُ الثَّانِي، وَبَنَتْ عَلَى مَا مَضَى مِنْهَا وَهُوَ قُرْءٌ وَاحِدٌ فَتَأْتِي بِقُرْأَيْنِ، وَقَدْ حَلَّتْ مِنَ الْعِدَّتَيْنِ، وَهَكَذَا لَوْ وُطِئَتْ زَوْجَةُ رَجُلٍ بِشُبْهَةٍ فَشَرَعَتْ فِي الِاعْتِدَادِ مِنْ وَطْئِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ فِي تَضَاعِيفِ عِدَّتِهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا انْقَطَعَتْ عِدَّةُ الْوَطْءِ، وَلَزِمَهَا أَنْ تَعْتَدَّ لِلزَّوْجِ مِنْ طَلَاقِهِ أَوْ مَوْتِهِ، فَإِذَا أَكْمَلَتْ عِدَّتَهُ

(11/326)


عَادَتْ فَتَمَّتْ عِدَّةَ الْوَاطِئِ بِشُبْهَةٍ لِقُوَّةِ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى حَقِّهِ بِصِحَّةِ عَقْدِهِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُجْهَلَ مَا بَيْنَ مَوْتِهِمَا فَيَلْزَمُهَا أَنْ تَعْمَلَ عَلَى أَغْلَظِ الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ أَنْ تَبْتَدِئَ بِعِدَّةِ أَقْرَبِ الْمَوْتَيْنِ بِعِدَّةِ الْوَفَاةِ عَنِ الْأَوَّلِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ثُمَّ تَعْتَدُّ بَعْدَهَا عَنِ الثَّانِي بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَمُوتَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ فَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهَا عِدَّتَانِ لَا يَتَدَاخَلَانِ فَتُقَدَّمُ عِدَّةُ الْأَوَّلِ لِصِحَّةِ عَقْدِهِ وَقُوَّةِ حَقِّهِ فَتَعْتَدُّ مِنْهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، ثُمَّ تَعْتَدُّ بَعْدَ انْقِضَائِهَا عَنِ الثَّانِي بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ، فَلَوْ لَمْ يُعْلَمْ بِمَوْتِهِمَا حَتَّى مَضَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّتَانِ حَلَّتْ، لِأَنَّ الْعِدَّةَ مَضَى زَمَانٌ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ النِّيَّةُ ثُمَّ قَدْ مَضَى الزَّمَانُ فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ بِهِ الِاعْتِدَادُ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ لَا يُعْلَمَ أَيُّهُمَا تَقَدَّمَ مَوْتُهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الِاعْتِدَادُ بِمَا بَيْنَ الْمَوْتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ مَوْتُ الثَّانِي فَتَعْتَدَّ بِهِ مِنْ أَقْرَائِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ مَوْتُ الْأَوَّلِ فَلَا تُعْتَدُّ بِهِ شُهُورِهِ فَلَمْ يَجُزْ مَعَ الْإِشْكَالِ أَنْ تَعْتَدَّ بِهِ فِي حَقِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَأَمَّا مَا بَعْدَ الْمَوْتَتَيْنِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا أَوْ غَيْرَ مَعْلُومٍ، فَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا كَانَ مَحْسُوبًا مِنْ شُهُورِ الْأَوَّلِ، وَلَا يُحْتَسَبُ مِنْ أَقْرَاءِ الثَّانِي لِأَنَّ عِدَّةَ الْأَوَّلِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى عِدَّةِ الثَّانِي، فَإِذَا اسْتَكْمَلَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا اسْتَأْنَفَتْ لِلثَّانِي ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ، وَإِنْ كَانَ مَا بَعْدَ الْمَوْتَيْنِ مَجْهُولًا اسْتَظْهَرَتْ فِيهِ بِأَقْرَبِ عَهْدِهِ وَأَقْرَبِهِ عَهْدًا مَسَافَةً فَإِنْ كَانَ الْمَوْتُ عَلَى مَسَافَةِ شَهْرٍ احْتُسِبَ بِشَهْرٍ مِنْ عِدَّةِ الْأَوَّلِ، وَبَنَتْ، وَإِنْ كَانَ حَتَّى تَسْتَيْقِنَ بَعْدَ الْمَوْتَيْنِ عَلَى مَسَافَةِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ احْتَسَبَتْ بِهَا ثُمَّ بَنَتِ اسْتِكْمَالَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ وَثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ عِنْدَ مَوْتِهِمَا حَامِلًا فَحَبَلُهَا لَاحِقٌ بِالثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَتَنْقَضِي بِهِ عِدَّةُ الثَّانِي، وَإِنْ تَأَخَّرَ مَوْتُهُ، لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يُعْتَدُّ بِوَضْعِهِ إِلَّا مِمَّنْ هُوَ لَاحِقٌ بِهِ ثُمَّ عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بَعْدَ الْوَضْعِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ عَنِ الْأَوَّلِ، وَهَلْ تُحْتَسَبُ بِمُدَّةِ النِّفَاسِ فِيهَا أَمْ لَا: عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أبي علي بن أبي هريرة لَا تُحْتَسَبُ مُدَّةُ نِفَاسِهَا فِي عِدَّةِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ النِّفَاسِ مِنْ تَوَابِعِ الْعِدَّةِ الْفَاسِدَةِ فَكَانَ فِي حُكْمِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تُحْتَسَبُ مُدَّةُ النِّفَاسِ مِنْ عِدَّةِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهَا بِالْوِلَادَةِ خَارِجَةٌ عن عدة الثاني، وتحمل لِلْأَزْوَاجِ لَوْ حَلَّتْ مِنْ عِدَّةٍ أُخْرَى.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا إِذَا مَاتَتِ الزَّوْجَةُ عِنْدَ الثَّانِي فَمِيرَاثُهَا لِمَنْ صَحَّ نِكَاحُهُ مِنْهَا.

(11/327)


فَإِنْ قِيلَ بِصِحَّةِ نِكَاحِ الثَّانِي عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ كَانَ مِيرَاثُهَا لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وإن قبل بِبَقَاءِ النِّكَاحِ لِلْأَوَّلِ وَفَسَادِ نِكَاحِ الثَّانِي كَانَ مِيرَاثُهَا لِلْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " ثُمَّ قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَهْرَهَا، وَنَقَلَ الْمُزَنِيُّ ذَلِكَ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: هَذَا غَلَطٌ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ الْمَهْرَ، لِأَنَّهَا مَلَكَتْهُ فَصَارَ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهَا، وَهَذَا الَّذِي تَوَهَّمَهُ الْمُزَنِيُّ لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ مَهْرُهَا عَلَى الثَّانِي مِلْكٌ لَهَا وَمِنْ جَمَاعَةِ تَرِكَتِهَا وَيَرِثُ الْأَوَّلُ مِنْهُ قَدْرَ حَقِّهِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا عَنَاهُ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ: " وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَهْرَهَا " عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ - إنَّهُ عنى بِهَذَا التَّخْيِيرِ الَّذِي يَذْهَبُ إِلَيْهِ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا بَيْنَ إِقْرَارِهَا عَلَى الثَّانِي وَأَخْذِ مَهْرِهَا مِنْهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ مَهْرَ الِاسْتِمْتَاعِ، لِأَنَّهُ لَهَا دُونَ الزَّوْجِ بِخِلَافِ مَا حَكَاهُ الْكَرَابِيسِيُّ فَيَكُونُ لَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ قَدْرُ مِيرَاثِهِ مِنْهُ، وَلَا يَكُونُ لَهُ جَمِيعُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(11/328)


(باب استبراء أم الولد من كتابين امرأة المفقود وعدتها إذا نكحت غيره وغير ذلك)
(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ يُتَوَفَّى عَنْهَا سَيِّدُهَا تَعْتَدُّ بِحَيْضَةٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا مَاتَ السَّيِّدُ عَنْ أُمِّ وَلَدِهِ لَزِمَهَا أَنْ تَسْتَبْرِئَ نَفْسَهَا بِقُرْءٍ وَاحِدٍ، وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرَةُ، وَالْأَمَةُ الْمُشْتَرَاةُ وَالْحُرَّةُ الْمُسْتَرَقَّةُ بِالسَّبْيِ فَيَلْزَمُ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَ أَنْ يَسْتَبْرِئْنَ أَنْفُسَهُنَّ بِقُرْءٍ وَاحِدٍ، وَوَافَقَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى الْأَمَةِ والمسبية أنهما يستبرئا نفسهما بِقُرْءٍ وَاحِدٍ، وَخَالَفَ فِي الْمُدَبَّرَةِ فَقَالَ: لَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهَا، وَخَالَفَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ فَقَالُ: تَسْتَبْرِئُ نَفْسَهَا بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَهَا سَيِّدُهَا.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: أُمُّ الْوَلَدِ إِذَا مَاتَ عَنْهَا سَيِّدُهَا تَعْتَدُّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا كَالْحُرَّةِ.
فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ عِدَّةَ أُمِّ الْوَلَدِ ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ بِمَا رُوِيَ أَنَّ مَارِيَةَ اعْتَدَّتْ لِوَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ، وَهِيَ لَا تَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، قَالَ وَلِأَنَّهَا عِدَّةٌ وَجَبَتْ فِي حَالِ الْحُرِّيَّةِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ كَامِلَةً كَعِدَّةِ الْحُرَّةِ الْمُطَلَّقَةِ.
قَالَ وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ مُعْتَبَرَةٌ بِأَحَدِ طَرَفَيْهَا وَأُمُّ الْوَلَدِ فِي طَرَفَيْ عِدَّتِهَا حُرَّةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عِدَّتُهَا عِدَّةَ حُرَّةٍ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِقُرْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَوْلُ اللَّهُ تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فَجَعَلَ الْأَقْرَاءَ الثَّلَاثَةَ عِدَّةَ مَنْ يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ، وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالزَّوْجَاتِ دُونَ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، وَلِأَنَّهُ اسْتِبْرَاءٌ عَنْ مِلْكٍ فَوَجَبَ أَنْ تَقْتَصِرَ فِيهِ عَلَى قُرْءٍ كَالْأَمَةِ الْمُشْتَرَاةِ، وَلِأَنَّ ذَوَاتَ الْأَعْدَادِ مِنَ الْعِدَدِ لَا يَجِبُ اسْتِيفَاءُ عَدَدِهَا عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ كَعِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَلِأَنَّهَا عِدَّةٌ وَجَبَتْ عن انتقال رق وَحُرِّيَّةٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ كَامِلَةً كَالْمَسْبِيَّةِ، لِأَنَّ الْمَسْبِيَّةَ كَانَتْ حُرَّةً فَرُقَّتْ كَالسَّبْيِ، وَهَذِهِ كَانَتْ أَمَةً فَعَتَقَتْ بِالْمَوْتِ وَالْجَمِيعُ انْتِقَالُ عِتْقٍ وَحُرِّيَّةٍ، وَلِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَمَّا انْتَفَى عَنْهَا أحكام

(11/329)


النِّكَاحِ مِنَ الطَّلَاقِ، وَالظِّهَارِ، وَالْإِيلَاءِ انْتَفَى عَنْهَا عِدَّةُ النِّكَاحِ؛ وَلِأَنَّهَا لَا تَخْلُو فِي اسْتِبْرَائِهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً بِالْحَرَائِرِ، أَوْ بِالْإِمَاءِ فَلَمَّا لَمْ يَلْزَمْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ بَطَلَ اعْتِبَارُهَا بِالْحَرَائِرِ، وَثَبَتَ اعْتِبَارُهَا بِالْإِمَاءِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اعْتِدَادِ مَارِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا بِثَلَاثَةِ أقراء فهو أن فعلها أضعف حكماً في قَوْلِهَا، وَلَيْسَ قَوْلُهَا حُجَّةً فَفِعْلُهَا أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ حُجَّةً وَعَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ تُعْتَبَرُ مِمَّنْ تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ وَمَارِيَةُ مُحَرَّمَةٌ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ، فَكَانَ كُلُّ زَمَانِهَا عِدَّةً فَلَمْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحُرَّةِ فَالْمَعْنَى فِيهَا: أَنَّهَا تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي أُمِّ الْوَلَدِ فَكَذَلِكَ الْأَقْرَاءُ الثَّلَاثَةُ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِكَمَالِ طَرَفَيْهَا فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، لِأَنَّ الطَّرَفَ الْأَوَّلَ حَالُ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فِي الرِّقِّ، وَهُوَ طَرَفٌ نَاقِصٌ وَنُقْصَانُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ مُوجِبٌ لِنُقْصَانِ الْعِدَّةِ كَالْحُرَّةِ إِذَا سُبِيَتْ لَمَّا نَقَصَ طَرَفُهَا الْأَدْنَى وَإِنْ كَمُلَ طَرَفُهَا الْأَعْلَى اقْتَصَرَتْ عَلَى قُرْءٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ وَانْفِصَالٌ.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَقَدْ رَوَى رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، قَالَ: لَا تُلَبِّسُوا عَلَيْنَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِدَّتُهَا عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وعشراً يَعْنِي أُمَّ الْوَلَدِ فَأَضَافَ ذَلِكَ إِلَى سُنَّةِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَصَارَ كَالرِّوَايَةِ عَنْهُ نَقْلًا، وَهَذَا أَحَدُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 232] فَجَعَلَ عِدَّةَ الْوَفَاةِ مَقْصُورَةً عَلَى الْأَزْوَاجِ دُونَ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، وَلِأَنَّهُ اسْتِبْرَاءٌ عَنْ مِلْكٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِقُرْءٍ كَالْأَمَةِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَمِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: مَا حَكَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّ قَبِيصَةَ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ عَمْرِو.
وَالثَّانِي: أَنَّ الرِّوَايَةَ " لَا تُلَبِّسُوا عَلَيْنَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا " يَعْنِي بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهَا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَحْمُولٌ مِنْهُ عَلَى سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الِاجْتِهَادِ الْمَعْمُولِ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا تَحِلُّ أُمُّ الْوَلَدِ لِلْأَزْوَاجِ حَتَّى تَرَى الطُّهْرَ مِنَ الْحَيْضَةِ ".

(11/330)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اسْتِبْرَاءَ أُمِّ الْوَلَدِ إِذَا مَاتَ سَيِّدُهَا أَوْ أَعْتَقَهَا فِي حياته بقروء وَاحِدٍ كَالْأَمَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْقُرْءِ هَلْ مَقْصُودُهُ الطُّهْرُ، وَالْحَيْضُ فِيهِ تَبَعٌ كَالْعِدَّةِ أَمْ مَقْصُودُهُ الْحَيْضُ، وَالطُّهْرُ فِيهِ تَبَعٌ بِخِلَافِ الْعِدَّةِ عَلَى وَجْهَيْنِ ذكرهما البغدادي.
وَوَجْهٌ ثَالِثٌ ذَكَرَهُ الْبَصْرِيُّونَ فَصَارَ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، لِأَنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ فِيهَا مُحْتَمَلٌ وَلِاحْتِمَالِهِ خَرَّجَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَقَاوِيلَ عَنْهُ، فَأَحَدُ الْوُجُوهِ: أَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهِ الطُّهْرُ، وَالْحَيْضُ تَبَعٌ كَالْعِدَّةِ، فَعَلَى هَذَا لَهَا عِنْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ أَوْ عِتْقِهِ حَالَتَانِ، حَائِضٌ أَوْ طَاهِرٌ، فَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا لَمْ تَعْتَدَّ بِبَقِيَّةِ الْحَيْضِ، فَإِذَا انْقَطَعَ حَيْضُهَا دَخَلَتْ فِي قُرُوئهَا فَإِذَا اسْتَكْمَلَتْ طُهْرَهَا وَرَأَتْ دَمَ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ حَلَّت وَإِنْ كَانَتْ طَاهِرًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي بَقِيَّةِ هَذَا الطُّهْرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ هَلْ يَكُونُ قُرْءًا مُعْتَدًّا بِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ إنَّهُ يَكُونُ قُرْءًا كَمَا يكون في العدة قروءاً لَكِنْ تُضَمُّ إِلَيْهِ حَيْضَةٌ كَامِلَةٌ لِيُعْرَفَ بِهَا بَرَاءَةُ الرَّحِمِ بِبَقِيَّةِ الطُّهْرِ، فَإِذَا مَضَتْ بَقِيَّةُ طُهْرِهَا وَاسْتَكْمَلَتِ الْحَيْضَةَ الَّتِي بَعْدَهَا وَانْقَطَعَتْ حَلَّتْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهَا لَا تَعْتَدُّ بِبَقِيَّةِ، هَذَا الطُّهْرِ قُرْءًا وَإِنْ كَانَ في العدة قروءاً لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ قُرْءًا لَوَقَعَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ، وَلَمْ تُضَمَّ إِلَيْهِ حَيْضَةٌ مُسْتَكْمِلَةً، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ ذَلِكَ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْءٍ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ فَرْقٌ وَتَوْجِيهٌ: أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْعِدَّةِ قُرُوءًا لِكَوْنِهِ تَبَعًا لِأَقْرَاءٍ كَامِلَةٍ فَقَوِيَ حُكْمُهُ بِأَتْبَاعِهَا، وَلَمْ يَكُنْ قُرْءًا فِي العدة لانفراده من غير فَضَعُفَ عَنْ حُكْمِ الْكَمَالِ، فَعَلَى هَذَا لَا تَعْتَدُّ بِبَقِيَّةِ هَذَا الطُّهْرِ حَتَّى يَنْقَضِيَ وَتَحِيضَ ثم الطهر، فَإِذَا اسْتَكْمَلَتْ هَذَا الطُّهْرَ وَرَأَتْ دَمَ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ حَلَّتْ فَهَذَا حُكْمُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الطُّهْرَ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْقُرُوءِ كَالْعِدَّةِ.
والوجه الثاني: أن المقصد في هذا القروء وَالْحَيْضَ، وَالطُّهْرُ فِيهِ تَبَعٌ بِخِلَافِ الْعِدَّةِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ حَيْضًا كَامِلًا فَقَوَّى طُهْرَهَا فِي الِاسْتِبْرَاءِ، فَكَانَ الطُّهْرُ فِيهَا مَقْصُودًا وَطُهْرُ الِاسْتِبْرَاءِ يَضْعُفُ بِانْفِرَادِهِ عَنْ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ فَصَارَ الْحَيْضُ فِيهِ مقُصودًا لِأَنَّ الطُّهْرَ لَا يُنَافِي الْحَمْلَ، وَإِنَّمَا يُنَافِيهِ الْحَيْضُ، فَعَلَى هَذَا لَهَا حَالَتَانِ حَائِضٌ أَوْ طَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا لَمْ تَعْتَدَّ بِبَقِيَّةِ هَذَا الْحَيْضِ بوفاق البغداديين

(11/331)


وَالْبَصْرِيِّينَ وَإِنْ خَالَفَ الْبَغْدَادِيُّونَ فِي الِاعْتِدَادِ بِبَقِيَّةِ الطُّهْرِ، وَجَعَلَهُ الْبَصْرِيُّونَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي بَقِيَّةِ الطُّهْرِ، وَفَرَّقَ الْبَغْدَادِيُّونَ بَيْنَهُمَا: بِأَنَّ بَقِيَّةَ الْحَيْضِ يَتَعَقَّبُهُ طُهْرٌ لَا يَدُلُّ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ فَلَمْ يُعْتَدَّ بِهِ، وَبَقِيَّةُ الطُّهْرِ تَتَعَقَّبُهُ حَيْضٌ يَدُلُّ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ فَاعْتَدَّتْ بِهِ وَهَذَا، وَهَذَا تَزْوِيقٌ، وَلَيْسَ تَحْقِيقًا وَلَوْ عُكِسَ لَكَانَ أَشْبَهَ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ مَاتَ سَيِّدُهَا فِي أَوَّلِ حَيْضِهَا اعْتَدَّتْ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ، وَإِنْ مَاتَ فِي آخِرِهَا لَمْ تَعْتَدَّ بِهِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ أَوَّلِ الْحَيْضِ وَآخِرِهِ بِأَنَّ قُوَّةَ أَوَّلِهِ تَمْنَعُ مِنْ عُلُوقِ الْوَلَدِ فَبَرَأَ بِهِ الرَّحِمُ وَضَعْفُ آخِرِهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ عُلُوقِ الْوَلَدِ، فَلَمْ يَبْرَأْ بِهِ الرَّحِمُ وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ بَرِئَ بِهِ الرَّحِمُ فِي الِاسْتِبْرَاءِ لَبَرِئَ بِهِ الرَّحِمُ فِي الْعِدَّةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ بَرِئَ الرَّحِمُ بِأَوَّلِهِ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى اسْتِكْمَالِ آخِرِهِ.
فَإِذَا ثَبَتَ، مَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا لَا تَعْتَدُّ بَقِيَّةَ حَيْضِهَا، فَإِذَا طَهُرَتْ مِنْهَا، وَدَخَلَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ دَخَلَتْ فِي قُرْئِهَما فَإِذَا اسْتَكْمَلَتْهَا بِانْقِطَاعِ الدَّمِ وَدُخُولِهَا فِي الطهر الثاني حلت، وإن كانت عنه مَوْتِ السَّيِّدِ طَاهِرًا لَمْ تَعْتَدَّ بِبَقِيَّةِ طُهْرِهَا، فَإِذَا رَأَتِ الدَّمَ دَخَلَتْ فِي قُرْئِهَا فَإِذَا اسْتَكْمَلَتِ الْحَيْضَةَ، وَطَهُرَتْ حَلَّتْ فَهَذَا حُكْمُ الْوَجْهِ الثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْحَيْضُ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الَّذِي تَفَرَّدَ بِهِ الْبَصْرِيُّونَ أَنَّ الطُّهْرَ وَالْحَيْضَ مَقْصُودَانِ مَعًا فِي قُرُوءِ الِاسْتِبْرَاءِ، وَإِنْ لَمْ يُقْصَدَا مَعًا فِي أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهُمَا فِي أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ يَجْتَمِعَانِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَقْصُودًا، وَفِي قُرُوءِ الِاسْتِبْرَاءِ لَا يَجْتَمِعَانِ إِلَّا أَنْ يُقْصَدَا فَلِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَا فِيهِ مَقْصُودَيْنِ، فَعَلَى هَذَا لَهَا عِنْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ حَالَتَانِ: حَائِضٌ، أَوْ طَاهِرٌ، فَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا، فَإِذَا انْقَطَعَ دَمُهَا وَرَأَتِ الطُّهْرَ دَخَلَتْ في قرئها، فإذا استكملت طهرها ثم حَيْضَةً كَامِلَةً بَعْدَهُ، وَدَخَلَتْ فِي الطُّهْرِ الثَّانِي حَلَّتْ، وَإِنْ كَانَتْ طَاهِرًا، فَهَلْ تَعْتَدُّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِبَقِيَّةِ هَذَا الطُّهْرِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا تَعْتَدُّ بِهِ كَمَا لَا تَعْتَدُّ بِهِ عَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ إِذَا كَانَ الطُّهْرُ وَحْدَهُ مَقْصُودًا فَعَلَى هَذَا إِذَا رَأَتِ الدَّمَ بَعْدَ بَقِيَّةِ هَذَا الطُّهْرِ دَخَلَتْ فِي قُرْئِهَا، فَإِذَا اسْتَكْمَلَتْ حَيْضَتَهَا ثُمَّ اسْتَكْمَلَتْ بعدها طهر كَامِلًا، وَرَأَتْ دَمَ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ حَلَّتْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِبَقِيَّةِ هَذَا الطُّهْرِ إِذَا كَانَا مَقْصُودَيْنِ، وَلَا تَعْتَدُّ بِهِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مَقْصُودًا لِقُوَّتِهِ إِذَا قُرِنَ بِغَيْرِهِ وَضَعْفِهِ إِذَا انْفَرَدَتْ بِذَاتِهِ، فَعَلَى هَذَا يَدْخُلُ فِي قُرْئِهَا فِي بَقِيَّةِ طُهْرِهَا، فَإِذَا دَخَلَتْ فِي الْحَيْضَةِ وَاسْتَكْمَلَتْهَا بِانْقِطَاعِ الدَّمِ، وَدُخُولِ الطُّهْرِ حَلَّتْ وَيَصِيرُ اسْتِبْرَاؤُهَا بِذَلِكَ مُوَافِقًا لِأَحْكَامِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ والله أعلم.

(11/332)


(مسألة)
قال المزني رضي الله عنه: " وَقَالَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ إِمْلَاءً عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ فَشَهْرٌ (قَالَ) وَإِنْ مَاتَ سَيِّدُهَا أَوْ أَعْتَقَهَا وَهِيَ حَائِضٌ لَمْ تَعْتَدَّ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا كَانَتْ أُمُّ الْوَلَدِ مُؤَيَّسَةً اسْتَبْرَأَتْ نَفْسَهَا بِالشُّهُورِ وَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ - إِنَّهَا تَسْتَبْرِئُ نَفْسَهَا بِشَهْرٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ عَلَيْهَا قُرْءًا وَاحِدًا، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَقْرَاءَ الثَّلَاثَةَ فِي مُقَابَلَةِ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فَصَارَ الْقَرْءُ الْوَاحِدُ مُقَابِلًا لِشَهْرٍ وَاحِدٍ، فَلِذَلِكَ اسْتَبْرَأَتْ نَفْسَهَا فِي الْقُرْءِ الْوَاحِدِ بِشَهْرٍ وَاحِدٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهَا تَسْتَبْرِئُ نَفْسَهَا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ كَالْحُرَّةِ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ الزَّمَانِ الَّذِي يَبْرَأُ فِيهِ الرَّحِمُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّ ابْنَ آدَمَ يَمْكُثُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَقَةً ثُمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مُضْغَةً "، فَهُوَ بَعْدَ انْتِقَالِهِ مِنَ الْعَلَقَةِ إِلَى الْمُضْغَةِ فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ تَظْهَرُ أَمَارَاتُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ فَيُعْرَفُ بِهِ حَالُ الْحَمْلِ، وَبِفَقْدِ أَمَارَاتِهِ تُعْرَفُ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ فَلَمْ يَتَبَعَّضْ هَذَا الزَّمَانُ فِيهِ، وَجَرَى مَجْرَى الْحَمْلِ الَّذِي لَا يَتَبَعَّضُ فَاسْتَوَى فِيهِ اسْتِبْرَاءُ الْأَمَةِ، وَهَذِهِ الْحُرَّةِ كَذَلِكَ الشُّهُورُ.
(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَأَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَنَّ اسْتِبْرَاءَ كُلِّ ذَاتِ حَمْلٍ مِنْ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ يَكُونُ بِوَضْعِ الْحَمْلِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في سبي أوطاس: " أَلَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ ".
وَرَوَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " عِدَّةُ كُلِّ ذَاتِ حَمْلٍ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا " وَلِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يَتَبَعَّضُ فَعَمَّ حُكْمُهُ فِي الْحَرَائِرِ، وَالْإِمَاءِ كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ فَإِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي نِفَاسِهَا لَكِنْ يُمْنَعُ الزَّوْجُ مِنْ وَطْئِهَا فِي النِّفَاسِ كَمَا لَوْ كَانَ مِنْهُ وَصَارَ اسْتِبْرَاءُ أُمِّ الْوَلَدِ، وَالْأَمَةِ الْمُشْتَرَاةِ، وَالْحُرَّةِ الْمَسْبِيَّةِ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بِالْحَمْلِ إِنْ كَانَ وَهْمًا وَهُوَ مِمَّا تَسَاوَى فِيهِ الْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ وَبِالطُّهْرِ وَالْحَيْضِ إِنْ فُقِدَ الْحَمْلُ، وَكَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ، وَهُوَ مِمَّا خَالَفَ فِيهِ الْحُرَّةُ، وَبِالشُّهُورِ إِنْ فُقِدَتِ الْأَمْرَانِ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي مُسَاوَاتِهِمَا فيه الحرة.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا الْمُدَبَّرَةُ إِذَا مَاتَ عَنْهَا سَيِّدُهَا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِرَاشًا عَتَقَتْ بِمَوْتِهِ، وَلَمْ يَلْزَمْهَا اسْتِبْرَاءٌ عَنْهُ، وَحَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ مِنْ سَاعَتِهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِرَاشًا لَهُ اسْتَبْرَأَتْ نَفْسَهَا بَعْدَ موته بقروء وَاحِدٍ كَأُمِّ الْوَلَدِ، وَلَمْ تَحِلَّ لِلْأَزْوَاجِ إِلَّا بعد الاسبتراء.

(11/333)


فأما الأمة إذا مات عنها سيدها لم يَلْزَمْهَا عَنْهُ اسْتِبْرَاءٌ، سَوَاءٌ كَانَ قَدْ وَطِئَهَا أَمْ لَا؟ لَكِنْ لَيْسَ لِمَنِ انْتَقَلَتْ إِلَى مِلْكِهِ مِنْ وَارِثٍ أَوْ مُشْتَرٍ أَنْ يَطَأَهَا إِلَّا بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا كَمَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَبِيعَهَا قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا، وَإِنْ كَانَ وَاطِئًا لَهَا، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَوِّجَهَا إِلَّا بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ يَجُوزُ شِرَاءُ الْأَمَةِ، وَإِنْ حَرُمَتْ فَجَازَ أَنْ يكون استبرائها فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا إِذَا حُرِّمَتْ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا فِي مِلْكِ الزَّوْجِ فَلِذَلِكَ تَقَدَّمَ اسْتِبْرَاءُ الْأَمَةِ عَلَى النِّكَاحِ، وتأخر عن البيع.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنِ اسْتَرَابَتْ فَهِيَ كَالْحُرَّةِ الْمُسْتَرِيبَةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَقَدْ مَضَى حُكْمُ الْحُرَّةِ الْمُسْتَبْرِئَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَهَذِهِ إِذَا اسْتَبْرَأَتْ فِي حُكْمِهَا وَلَا يَخْلُو حَالُ اسْتِرَابَتِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ فِي حَالِ قُرْئِهَا فَهِيَ بَاقِيَةٌ فِي الِاسْتِبْرَاءِ، فَإِنْ نَكَحَتْ قَبْلَ زَوَالِ الرِّيبَةِ بَطَلَ نِكَاحُهَا لَا يَخْتَلِفُ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَحْدُثَ الرِّيبَةُ بَعْدَ نِكَاحِهَا، وَتَقْضِي مُدَّةَ اسْتِبْرَائِهَا فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ إِلَّا أَنْ يَحْدُثَ بَعْدَ وِلَادَتِهَا لِأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مَا يُوجِبُ فَسَادَ النِّكَاحِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ بَاطِلًا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَحْدُثَ الرِّيبَةُ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَقَبْلَ النِّكَاحِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ حُدُوثَ الرِّيبَةِ يَمْنَعُ مِنْ صحة الاستبراء ويوجب بقائها فِيهِ، فَإِنْ نَكَحَتْ كَانَ نِكَاحُهَا بَاطِلًا كَمَا لَوْ تَقَدَّمَتِ الرِّيبَةُ فِي زَمَانِ الِاسْتِبْرَاءِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أن حُدُوثَ الرِّيبَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاسْتِبْرَاءِ اعْتِبَارًا بِالظَّاهِرِ مِنْ حَالِ الصحة، ولا يوجب بقاؤها فِي الِاسْتِبْرَاءِ فَإِنْ نَكَحَتْ كَانَ نِكَاحُهَا جَائِزًا كَمَا لَوْ حَدَثَتِ الرِّيبَةُ بَعْدَ النِّكَاحِ.
(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ مَاتَ سَيِّدُهَا وَهِيَ تَحْتَ زَوْجٍ أَوْ فِي عِدَّةِ زَوْجٍ فَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهَا لِأَنَّ فَرْجَهَا مَمْنُوعٌ مِنْهُ بِشَيْءٍ أَبَاحَهُ لِزَوْجِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا مَاتَ سَيِّدُ أُمِّ الْوَلَدِ وَهِيَ ذَاتُ حَمْلٍ فَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهَا بِمَوْتِهِ لِأَمْرَيْنِ:

(11/334)


أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِرَاشَهُ قَدْ زَالَ عَنْهَا قَبْلَ مَوْتِهِ.
وَالثَّانِي: لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ فِرَاشًا لِغَيْرِهِ.
فَإِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ أَوْ مَاتَ عَنْهَا لَمْ يَخْلُ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ مَوْتِ السَّيِّدِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ طَلَاقُ الزَّوْجِ أَوْ مَوْتُهُ بَعْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ لِطَلَاقِهِ أَوْ مَوْتِهِ عِدَّةَ حُرَّةٍ لِكَمَالِ طَرَفَيْهَا بِالْحُرِّيَّةِ قَبْلَ الطَّلَاقِ وَبَعْدَهُ وَإِنْ كَانَ طَلَاقُ الزَّوْجِ أَوْ مَوْتُهُ مُتَقَدِّمًا عَلَى مَوْتِ السَّيِّدِ لَمْ يَخْلُ مَوْتُ السَّيِّدِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي أَثْنَاءِ عِدَّتِهَا أَوْ بَعْدَ انْقِضَائِهَا، فَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ عِدَّتِهَا فَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهَا بِمَوْتِ السَّيِّدِ، لِأَنَّهَا لَمْ تَعُدْ إِلَى إِبَاحَتِهِ مِعِ بَقَاءِ عِدَّةِ الزَّوْجِ، وَقَدْ كَانَتْ فِي أَوَّلِ عِدَّتِهَا مِنَ الزَّوْجِ فِي حُكْمِ الْأَمَةِ ثُمَّ صَارَتْ فِي آخِرِهَا حُرَّةً فَهَلْ تَبْنِي عَلَى عِدَّةِ أَمَةٍ أَوْ تَسْتَكْمِلُ عِدَّةَ حُرَّةٍ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا مِنْ قَبْلُ، وَإِنْ مَاتَ السَّيِّدُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا مِنَ الزَّوْجِ لَمْ تَكُنْ عِدَّتُهَا مِنَ الزَّوْجِ إِلَّا عِدَّةَ أَمَةٍ لِنُقْصَانِ طَرَفَيْهَا بِالرِّقِّ قبل الطلاق، وبعده هل تَصِيرُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِرَاشًا لِلسَّيِّدِ وَيُسْتَبَاحُ وَطْؤُهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ أَمْ لَا؟ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وما ظهر من منصوصاته في كتبه: أنه قَدْ عَادَتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إِلَى فِرَاشِ السَّيِّدِ، وَحَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ لِرَحِمِهَا بِالْعِدَّةِ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهَا الِاسْتِبْرَاءُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ وطأ أَوْ لَمْ يَطَأْ، وَحَكَى ابْنُ خَيْرَانَ قَوْلًا ثَانِيًا تَفَرَّدَ بِنَقْلِهِ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهَا لَا تَصِيرُ فِرَاشًا لِلسَّيِّدِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، ولا يستباح وطئها إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ؟ لِأَنَّهَا اسْتِبَاحَةٌ تَجَدَّدَتْ فِي مَالِكٍ فَلَزِمَ الِاسْتِبْرَاءُ فِيهَا بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ كَالْمُشْتَرِي يَلْزَمُهُ الِاسْتِبْرَاءُ بَعْدَ الشِّرَاءِ وَلَا يُجْزِئُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاسْتِبْرَاءِ مِنَ الْبَائِعِ، فَعَلَى هَذَا إِنِ اسْتَبْرَأَهَا السَّيِّدُ وَوَطِئَهَا صَارَتْ بِهَذَا الْوَطْءِ فِرَاشًا، وَإِنْ مَاتَ لَزِمَهَا الِاسْتِبْرَاءُ بِمَوْتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَطَأْهَا حَتَّى مَاتَ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ أَوْ بَعْدَهُ فَقَدْ مَاتَ، وَهِيَ غَيْرُ فِرَاشٍ لَهُ، وَفِي وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ بِمَوْتِهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي اسْتِبْرَاءِ أُمِّ الْوَلَدِ، هَلْ وَجَبَ لِحُرْمَةِ الْوَلَدِ أَوْ لِرَفْعِ الْفِرَاشِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الِاصْطَخْرِيِّ أَنَّهُ وَجَبَ لِحُرْمَةِ الْوَلَدِ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِبْرَاءُ لِثُبُوتِ حُرْمَتِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ وَجَبَ لِرَفْعِ الْفِرَاشِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُهَا الِاسْتِبْرَاءُ، لِأَنَّ الْفِرَاشَ لَمْ يَعُدْ.

(فَصْلٌ)
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أُمِّ الْوَلَدِ أَنْ يُزَوِّجَ السَّيِّدُ أَمَتَهُ بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا مِنْ وَطْئِهِ ثُمَّ يُطَلِّقُهَا الزَّوْجُ، وَتَعْتَدُّ مِنْ طَلَاقِهِ فَفِي اسْتِبَاحَةِ السَّيِّدِ لَهَا قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا وَجْهَانِ وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَا تَصِيرُ فِرَاشًا لَهُ إِلَّا بِالْوَطْءِ لِأَنَّ فِرَاشَ أم الولد أثبت، لأن

(11/335)


وَلَدَهَا بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنِ اسْتِبْرَائِهَا يُلْحَقُ بِالسَّيِّدِ، وَلَا يُلْحَقُ بِهِ وَلَدُ الْأَمَةِ، وَإِذَا مَاتَ عَنِ الْأَمَةِ لَمْ يَلْزَمْهَا الاستبراء بموته ويلزم أم الولد.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ مَاتَا فَعُلِمَ أَنَّ أَحَدَهُمَا مَاتَ قَبْلَ الْآخَرِ بِيَوْمٍ أَوْ بِشَهْرَيْنِ وَخَمْسِ لَيَالٍ أَوْ أَكْثَرَ وَلَا نَعْلَمُ أَيُّهُمَا أَوَّلًا اعْتَدَّتْ مِنْ يَوْمِ مَاتَ الْآخِرُ مِنْهُمَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فيها حيضة وإنما لزمها إحداهما فإذا جاءت بهما فذلك أكمل ما عليها (قال المزني) رحمه الله هذا عندي غلط لأنه إذا لم يكن بين موتهما إلا أقل من شهرين وخمس ليال فلا معنى للحيضة لأن السيد إذا كان مات كان أولاً فهي تحت زوج مشغولة به عن الحيضة وإن كان موت الزوج أولاً فلم ينقض شهران وخمس ليال حتى مات السيد فهي مشغولة بعدة الزوج عن الحيضة وإن كان بينهما أكثر من شهرين وخمس ليال فقد أمكنت الحيضة فكما السيد الشافعي ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَمَّا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ يَقِينَ مَوْتِ السَّيِّدِ وَيَقِينَ مَوْتِ الزَّوْجِ، ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي وُقُوعِ الشَّكِّ فِي مَوْتِهِمَا وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَقَعَ الشَّكُّ بَعْدَ غَيْبِهِمَا، هَلْ مَاتَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَمْ لَا؟ فَلَا حُكْمَ لِهَذَا الشَّكِّ وَهِيَ عَلَى حُكْمِهَا كَمَا لَوْ كَانَا بَاقِيَيْنِ فَإِذَا طَالَتْ غَيْبَتُهُمَا، فقد خبرهما جر عَلَيْهِمَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ حُكْمُ الْمَفْقُودِ، وَلَمْ يَجْرِ عَلَيْهَا فِي حُكْمِ السَّيِّدِ حُكْمُ الْمَفْقُودِ، لِأَنَّهَا فِي حَقِّ السَّيِّدِ مُعْتَبَرَةٌ بِمَالِهِ، وَفِي حَقِّ الزَّوْجَةِ مُعْتَبَرَةٌ بِنِكَاحِهِ، وَإِذَا قَضَى لَهَا الْحَاكِمُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ بِالتَّرَبُّصِ لِلزَّوْجِ وَوُقُوعِ الْفُرْقَةِ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِخِلَافِ الْحُرَّةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ ذَلِكَ مِنْ حَقِّ نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا يَمْلِكُهُ السَّيِّدُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُعْلَمَ مَوْتُ أَحَدِهِمَا وَيُشَكَّ فِي الْمَيِّتِ مِنْهُمَا هَلْ هُوَ السَّيِّدُ أَوِ الزَّوْجُ فَلَا تَعْتِقُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ هُوَ الزَّوْجَ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ هُوَ السَّيِّدَ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالشَّكِّ، وَتَكُونُ مُتَرَدِّدَةَ الْحَالِ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا بَيْنَ أَنْ تَكُونَ حُرَّةً ذَاتَ زَوْجٍ إِنْ كَانَ السَّيِّدُ هُوَ الْمَيِّتَ أَوْ تَكُونَ أُمَّ وَلَدٍ خَلِيَّةً مِنْ زَوْجٍ إِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمَيِّتَ غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَعَيَّنْ بِالشَّكِّ أَحَدُهُمَا أُجْرِيَ عَلَيْهِمَا بَقَاءُ حُكْمِهِمَا وَيَجُوزُ أَنْ يُجْرَى عَلَيْهَا فِي الزَّوْجِ حُكْمُ الْمَفْقُودِ دُونَ السَّيِّدِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ أَنْ يُعْلَمَ مَوْتُهُمَا، وَيَقَعَ الشَّكُّ فِيمَنْ تَقَدَّمَ مَوْتُهُ مِنْهُمَا فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُعْلَمَ بَيْنَ مَوْتِهِمَا أَقَلُّ مِنْ شَهْرَيْنِ وَخَمْسِ لَيَالٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُعْلَمَ بَيْنَ مَوْتِهِمَا أَكْثَرُ مِنْ شَهْرَيْنِ وخمس ليال.

(11/336)


وَالثَّالِثُ: أَنْ يَقَعَ الشَّكُّ فِيمَا بَيْنُ مَوْتِهِمَا.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ بين موتهما أقل من شهرين وخمس ليال، فَهَذِهِ يَلْزَمُهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا حَيْضَةٌ اعْتِبَارًا بِأَغْلَظِ حَالَيْهِمَا، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ السَّيِّدُ مَاتَ أَوَّلًا فَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهَا بِمَوْتِهِ وَقَدْ عَتَقَتْ، وَعَلَيْهَا بِمَوْتِ الزَّوْجِ بَعْدَهُ أَنْ تَعْتَدَّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مَاتَ أَوَّلًا فَعَلَيْهَا شَهْرَانِ وَخَمْسُ لَيَالٍ، وَمَوْتُ السَّيِّدِ قَبْلَ انْقِضَائِهَا سَقَطَ لِاسْتِبْرَائِهَا مِنْهُ فَيَسْقُطُ اسْتِبْرَاءُ السَّيِّدِ من الحالين يقين، وَصَارَ الشَّكُّ فِي وُجُوبِ عِدَّتِهَا مِنَ الزَّوْجِ هَلْ هِيَ بِشَهْرَيْنِ وَخَمْسِ لَيَالٍ إِنْ تَقَدَّمَ مَوْتُ الزَّوْجِ أَوْ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، إِنْ تَقَدَّمَ مَوْتُ السَّيِّدِ فَأَوْجَبْنَا عَلَيْهَا أَطْوَلَ الْعِدَّتَيْنِ اعْتِبَارًا بِأَغْلَظِ الْأَمْرَيْنِ لِتَخْرُجَ مِنَ الْعِدَّةِ بِيَقِينٍ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ بين موتهما أكثر من شهرين وخمس ليال فَهَذِهِ يَلْزَمُهَا أَنْ تَعْتَدَّ مِنْ بَعْدِ آخِرِهِمَا مَوْتًا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فِيهَا حَيْضَةٌ هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِأَبْعَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ عِدَّةَ حُرَّةٍ، أَوْ قُرُوءٍ وَهُوَ اسْتِبْرَاءُ أُمِّ وَلَدٍ، لِأَنَّ عَلَيْهَا أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ أَسْبَقَهُمَا مَوْتًا، وَهُوَ الزَّوْجُ فَقَدْ مَضَتْ عِدَّتُهُ شَهْرَانِ وَخَمْسُ لَيَالٍ قَبْلَ مَوْتِ السَّيِّدِ وَلَزِمَهَا أَنْ تَسْتَبْرِئَ نَفْسَهَا بِحَيْضَةٍ لِمَوْتِ السَّيِّدِ، وَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ هُوَ أَسْبَقَهُمَا مَوْتًا فَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهَا لِمَوْتِهِ، وَعَلَيْهَا إِذَا مَاتَ أَنْ تَعْتَدَّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَهُوَ لِأَنَّهَا حُرَّةٌ فَصَارَتْ حَالُهَا مُتَرَدِّدَةً بَيْنَ أَنْ يَلْزَمَهَا حَيْضَةٌ لَا غَيْرَ إِنْ تَقَدَّمَ مَوْتُ الزَّوْجِ أَوْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ إِنْ تَقَدَّمَ مَوْتُ السَّيِّدِ فَأَلْزَمْنَاهَا أَغْلَظَ الْأَمْرَيْنِ وَأَطْوَلَ الزَّمَانَيْنِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، أَوْ قُرْءٍ كَامِلٍ كَالْمُطَلِّقِ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ إِذَا مَاتَ عَنْهُمَا قَبْلَ الْبَيَانِ لَهَا أَنْ تَعْتَدَّ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِأَبْعَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً، أَوْ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ مُطَلَّقَةً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْحَيْضَةُ الَّتِي فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ قَبْلَ شَهْرَيْنِ وَخَمْسِ لَيَالٍ أَوْ بَعْدَهَا، وَوَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَحَكَاهُ عَنْهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ فَقَالَ: إِنَّمَا يُجْزِئُهَا الْحَيْضَةُ فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ إِذَا كَانَتْ بَعْدَ شَهْرَيْنِ وَخَمْسِ لَيَالٍ لِجَوَازِ أَنْ يَتَأَخَّرَ مَوْتُ السَّيِّدِ بَعْدَهَا فَلَا يَجْرِي تَقَدُّمُ الْحَيْضَةِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ يَلْزَمُهَا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ إِلَّا أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّنَا نَأْمُرُهَا بِذَلِكَ بِعِدَّةِ آخِرِهِمَا مَوْتًا فَلَيْسَ تُوجَدُ الْحَيْضَةُ إِلَا بَعْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ سَوَاءٌ تَقَدَّمَتْ فِي أَوَّلِ شُهُورِهِمَا أَوْ تَأَخَّرَتْ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يُشَكَّ فِيمَا بَيْنَ مَوْتِهِمَا فَلَا يُعْلَمُ، هَلْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ

(11/337)


شَهْرَيْنِ وَخَمْسِ لَيَالٍ أَوْ أَكْثَرَ فَيُحْمَلُ عَلَى أَغْلَظِ الْأَمْرَيْنِ، وَأَغْلَظُهُمَا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا أَكْثَرُ مِنْ شَهْرَيْنِ وَخَمْسِ لَيَالٍ، لِأَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ لَزِمَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ فِيهِمَا حَيْضَةٌ فَلَزِمَهَا مَعَ هَذَا الشَّكِّ أَنْ تَعْتَدَّ بِأَبْعَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، أَوْ قُرْءٍ وَاحِدٍ لِتَخْرُجَ مِنْ عَدَّتِهَا بِيَقِينٍ.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى الشَّافِعِيَّ أَطْلَقَ الْجَوَابَ فِي إِيجَابِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فِيهَا حَيْضَةٌ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ فِيمَا بَيْنَ الْمَوْتَيْنِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِي إِطْلَاقِهِ وَنَسَبَهُ إِلَى الْغَلَطِ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَفَصَّلَ الْمُزَنِيُّ اعْتِرَاضَهُ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ فَقَالَ إِنْ أَرَادَ بِهِ إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا أَكْثَرُ مِنْ شَهْرَيْنِ وَخَمْسٍ فَهُوَ صَحِيحٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَقَلَّ فَهُوَ سَهْوٌ وَغَلَطٌ، وَهَذَا الَّذِي اعْتَرَضَ بِهِ الْمُزَنِيُّ، وَإِنْ كَانَ فِي الْفِقْهِ صَحِيحًا فَهُوَ فِي الِاعْتِرَاضِ عَلَى الشَّافِعِيِّ سُوءُ ظَنٍّ بِهِ وَوَهْمٌ مِنْهُ، وَقَدْ فَصَّلَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " بِمَا يُغْنِي عَنْهُ الظَّنُّ وَالِاشْتِبَاهُ، وَفِي إِطْلَاقِهِ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَسْطُورَةٌ فِي الْعِلْمِ بِمَوْتِهِمَا، وَوُقُوعِ الشَّكِّ فِي الْمُتَقَدِّمِ مِنْهُمَا وَفِيمَا بَيْنُ مَوْتِهِمَا وَفِي مَسْطُورِهَا مَا يَقْتَضِيهِ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تَعُمُّ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ، وَالْجَوَابُ عَائِدٌ إِلَى قِسْمَيْنِ مِنْهَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مَأْخُوذٌ مِمَّا تَقَدَّمَ فَاكْتَفَى بِهِ عَنْ تَفْصِيلِ جَوَابِهِ والله أعلم.

(مسألة)
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا تَرِثُ زَوْجَهَا حَتَّى يُسْتَيْقَنَ أَنَّ سَيِّدَهَا مَاتَ قَبْلَ زَوْجِهَا فَتَرِثَهُ وَتَعْتَدَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ كَالْحُرَّةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا اسْتَدَامَ الشَّكُّ فِيمَنْ تَقَدَّمَ مَوْتُهُ مِنْهُمَا لَمْ تَرْثِ زَوْجَهَا تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الرِّقِّ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ قَبْلَ مَوْتِ السَّيِّدِ وَاعْتَدَّتْ عِدَّةَ حُرَّةٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ بَعْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ غَلَّبْتُمْ حُكْمَ الْحُرِّيَّةِ فِي الْعِدَّةِ دُونَ الْمِيرَاثِ، وَغَلَّبْتُمْ حُكْمَ الرِّقِّ فِي الْمِيرَاثِ دُونَ الْعِدَّةِ.
قِيلَ: لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمِيرَاثَ لَا يُسْتَحَقُّ إِلَّا بِيَقِينٍ فَلَمْ تَرِثْ بِالشَّكِّ وَالْعِدَّةُ وَاجِبَةٌ بِيَقِينٍ فَلَمْ تَخْرُجْ مِنْهَا بِالشَّكِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمِيرَاثَ مُسْتَحَقٌّ لِغَيْرِهَا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ حَقِّهِ بِالشَّكِّ وَلَا يَتَعَلَّقَ بِتَغْلِيظِ الْعِدَّةِ إِسْقَاطُ حَقٍّ فَجَازَ أَنْ يَتَغَلَّظَ بِالشَّكِّ.

(11/338)


فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا مُنِعَتْ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ بِالشَّكِّ فَهَلَّا أَوْجَبَتْ بِالشَّكِّ وَقْفَ مِيرَاثِهَا، حَتَّى يَزُولَ الشَّكُّ كَمَنْ طَلَّقَ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ، وَلَمْ يُبِنْ حَتَّى مَاتَ وَقَفَ عَلَيْهِمَا مَعَ الشَّكِّ بِمِيرَاثِ زَوْجَتِهِ حَتَّى يَزُولَ الشَّكُّ، فَهَلَّا كَانَ مِيرَاثُ أُمِّ الْوَلَدِ مَوْقُوفًا كَذَلِكَ.
قِيلَ: لِأَنَّ مِيرَاثَ أُمِّ الْوَلَدِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ اسْتِحْقَاقِهِ وَإِسْقَاطِهِ فَلَمْ يَجُزْ وَقْفُهُ مَعَ الشَّكِّ فِي اسْتِحْقَاقِهِ وَمِيرَاثُ إِحْدَى الزَّوْجَتَيْنِ مُسْتَحَقٌّ قَطْعًا، وَإِنْ أَشْكَلَ مُسْتَحِقُّهُ مِنْهُمَا فَجَازَ أَنْ يُوقَفَ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ عَلَى بَيَانِ مُسْتَحِقِّهِ.
فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا الْفَرْقُ يَفْسُدُ بِمَنْ لَهُ زَوْجَتَانِ، مُسْلِمَةٌ وَذِمِّيَّةٌ طَلَّقَ إِحْدَاهُمَا، وَلَمْ يَبِنْ حَتَّى مَاتَ فَإِنَّهُ يُوقَفُ مِنْ مَالِهِ مِيرَاثُ زَوْجَتِهِ، وَإِنَّ شَكَّ فِي استحقاقه، كأنه متردد بين أن يكون الْمُطَلَّقَةُ هِيَ الذِّمِّيَّةَ فَتَسْتَحِقَّ الْمُسْلِمَةُ الْمِيرَاثَ وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْمُسْلِمَةُ هِيَ الْمُطَلَّقَةَ فَلَا تَسْتَحِقُّ الذِّمِّيَّةُ الْمِيرَاثَ وَلَمْ يَمْنَعْ هَذَا الشَّكُّ فِي اسْتِحْقَاقِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا فَهَلَّا كَانَ مِيرَاثُ أُمِّ الْوَلَدِ مَوْقُوفًا.
قِيلَ: فَهَذَا لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أُمِّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُسْلِمَةِ أَنَّهَا مُسْتَحِقَّةٌ لِلْمِيرَاثِ، فَلَمْ تُسْقِطْ مِيرَاثَهَا بِالشَّكِّ، وَالْأَصْلُ فِي أُمِّ الْوَلَدِ أَنَّهَا غَيْرُ وَارِثَةٍ فَلَمْ يُوقَفْ لَهَا مِيرَاثٌ بِالشَّكِّ، فَصَحَّ بِهَذَا الْفَرْقِ مَا تقد من الفرق.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْأَمَةُ يَطَؤُهَا تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةٍ فَإِنْ نَكَحَتْ قَبْلَهَا فَمَفْسُوخٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا وَطِئَ أَمَتَهُ جَازَ لَهُ بَيْعُهَا قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا إِلَّا بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجَهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ كَالْبَيْعِ وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَبْرِئَ بَعْدَ مِلْكِهِ لِجَوَازِ أن يملك من لا تحل له والزواج لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَبْرِئَ بَعْدَ نِكَاحِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَ مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ فَلِذَلِكَ جَازَ بَيْعُهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَلَمْ يَجُزْ نِكَاحُهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ، فَإِذَا مَلَكَهَا الْمُشْتَرِي حَرُمَ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا بِالْمِلْكِ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا سَوَاءٌ كَانَ الْبَائِعُ قَدِ اسْتَبْرَأَهَا قَبْلَ الْبَيْعِ أَمْ لَا؟ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في سبي أوطاس: " أَلَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ " وَذَلِكَ لِاسْتِحْدَاثِ الْمِلْكِ بِالسَّبْيِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مِلْكٍ مُسْتَحْدَثٍ فَإِنْ أَعْتَقَهَا الْمُشْتَرِي فَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ قَدِ اسْتَبْرَأَهَا قَبْلَ بَيْعِهِ جَازَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ عِتْقِهِ لَهَا، وَإِنْ لَمْ يَسْتَبْرِئْهَا كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا الْبَائِعُ لَوْ لَمْ يَبِعْهَا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَطَأَهَا بِالْمِلْكِ فَلَا تَحِلُّ لَهُ إِلَّا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ وَبَيْنَ أَنْ يَطَأَهَا بِالنِّكَاحِ فَتَحِلُّ لَهُ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ هُوَ أَنَّ اسْتِبْرَاءَ الْبَائِعِ لَهَا قَبْلَ بَيْعِهَا قَدْ أَبْرَأَ رَحِمَهَا في الظاهر،

(11/339)


فَإِنْ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ أَمْكَنَ نَفْيُهُ فِي النِّكَاحِ بِاللِّعَانِ دُونَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ نَفْيُهُ فِي الْمِلْكِ إِلَّا بِالِاسْتِبْرَاءِ فَلِذَلِكَ وَجَبَ تَجْدِيدُ الِاسْتِبْرَاءِ فِي الْوَطْءِ بِالْمِلْكِ وَلَمْ يَجِبْ تَجْدِيدُ الِاسْتِبْرَاءِ فِي الْوَطْءِ بِالنِّكَاحِ وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ مَا اسْتَبْرَأَهَا قَبْلَ بَيْعِهِ لَمْ يَجُزْ لِلْمُشْتَرِي إِذَا أَعْتَقَهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إِلَّا بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا وَيَمْنَعُ وُجُوبُ الِاسْتِبْرَاءِ مِنْ صِحَّةِ النِّكَاحِ كَمَا يَمْنَعُ مِنْهُ وُجُوبُ الْعِدَّةِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ وَلَا يَمْنَعُ وُجُوبُ الِاسْتِبْرَاءِ عِنْدَهُ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ أَبِي يُوسُفَ مَعَ " الرَّشِيدِ " فَإِنَّهُ اسْتَبْرَأَ أَمَةً فَمِنْ شِدَّةِ مَيْلِهِ إِلَيْهَا اسْتَصْعَبَ الصَّبْرَ عَنْهَا إِلَى أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا فَسَأَلَ أَبَا يُوسُفَ عَنِ الْمَخْرَجِ فِي تَعْجِيلِ الِاسْتِبَاحَةِ، فَقَالَ تُعْتِقُهَا وَتَتَزَوَّجُهَا فَحَظِيَ عِنْدَهُ وَوَصَلَهُ وَشَكَرَتْهُ الْجَارِيَةُ وَوَصَلَتْهُ، وَقَالَتْ: فَكَكْتَ رِقِّي، وَجَعَلْتَنِي زَوْجَةَ الرَّشِيدِ وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لا يشترك رجلان في طهر امرأته " وَتَزْوِيجُهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ مُفْضٍ إِلَى اشْتِرَاكِ الْبَائِعِ وَالزَّوْجِ عَلَى وَطْئِهَا فِي الطُّهْرِ الْوَاحِدِ، وَهَذَا مَدْفُوعٌ بِالنَّصِّ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تَسْقِ بِمَائِكَ زَرْعَ غَيْرِكَ " فَلَمْ يَجُزْ لِلزَّوْجِ أَنْ يَسْقِيَ زَرْعَ الْبَائِعِ بِمَائِهِ، وَلِأَنَّ وَطْءَ الْبَائِعِ وَطْءٌ لَهُ حُرْمَةٌ فَلَمْ يَجُزْ نِكَاحُهَا قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا مِنْهُ كَوَطْءِ الشُّبْهَةِ مَعَ حَظْرِ وَطْءِ الشُّبْهَةِ وَإِبَاحَةِ وَطْءِ السيد، والله أعلم.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ وَطِئَ الْمُكَاتِبُ أَمَتَهُ فَوَلَدَتْ أَلْحَقَتْهُ بِهِ ومنعته الوطء وفيها قولان أحدهما لا يبيعها بحال لأني حكمت لولدها بحكم الحرية إن عتق أبوه والثاني أن له بيعها خاف العجز أو لم يخفه (قال المزني) رحمه الله القياس على قوله أن لا يبيعها كما لا يبيع ولدها ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يَجُوزُ لِلْمَكَاتِبِ أَنْ يَسْتَبْرِئَ الرَّقِيقَ مِنَ الْعَبِيدِ، وَالْإِمَاءِ إِذَا قَصَدَ بِهِ تَمْيِيزَ الْمَالِ لِوُجُودِ الْفَضْلِ فِيهِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، فَإِذَا مَلَكَ أَمَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ وَطْؤُهَا لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقِرِّ الْمِلْكِ كَالْعَبْدِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَطَأَ بِالْمِلْكِ إِلَّا مَالِكٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ رُبَّمَا أَحْبَلَهَا فَنَقَصَتْ قِيمَتُهَا، وَلَمْ يُؤْمَنْ تَلَفُهَا، وَالْمُكَاتَبُ مَمْنُوعٌ مِنْ إِتْلَافِ مَا بِيَدِهِ أَوْ إِحْدَاثِ نَقْصٍ فِيهِ، فَإِنِ اسْتَأْذَنَ سَيِّدَهُ فِي وَطْئِهَا، فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فَالْحَظْرُ بَاقٍ لِحَالِهِ، وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي وَطْئِهَا، فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فَالْحَظْرُ بَاقٍ بِحَالِهِ، وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي وَطْئِهَا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَمْلِيكٍ، لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ مَالِكٌ بِالْكِتَابَةِ، وَفِي جَوَازِ وَطْئِهِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ في العيد، هَلْ يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَطَأَ إِذَا أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ لَا يَمْلِكُ

(11/340)


وَإِنْ مُلِّكَ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَطَأَ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ، لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالْوَطْءِ أَنْ لَا يَمْلِكَ إِبَاحَةَ الْفَرْجِ الْمَمْلُوكِ وَالْفَرْجُ لَا يَحِلُّ بِالْإِبَاحَةِ، فَإِنْ وَطِئَهَا الْمُكَاتَبُ فَأَحْبَلَهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ سَوَاءٌ اسْتَأْذَنَ سَيِّدَهُ أَوْ لَمْ يَسْتَأْذِنْهُ، لِأَنَّهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ مَالِكٌ، وَعَلَى الثَّانِي فِي شُبْهَةِ مِلْكٍ، وَلَا حَدَّ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَهْرَهَا مِنْ كَسْبِهِ وَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِهِ لِسُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهُ، وَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ وَلَدَهُ فِي حُكْمِهِ، وَهُوَ لَا يُعْتَقُ عَلَى نَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ وَلَدُهُ وَلَا يَجُوزُ له بيعه، لأن الولد لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ وَلَدِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ نَفْسِهِ، فَإِنْ خَافَ الْعَجْزَ إِنْ لَمْ يَبِعْهُ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ يَجُوزُ لَهُ حِينَئِذٍ بَيْعُهُ، لِأَنَّ عَجْزَهُ مُفْضٍ إِلَى رِقِّهَا فَكَانَ بَيْعُهُ فِي عِتْقِ الْأَبِ أَوْلَى مِنِ اسْتِرْقَاقِهِ مَعَ الْأَبِ. وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ إِنْ خَافَ الْعَجْزَ، لِأَنَّ الْعِتْقَ بِبَيْعِهِ بِظُنُونٍ لِجَوَازِ أَنْ يَتْلَفَ ثَمَنُهُ قَبْلَ أَدَائِهِ فِي الْكِتَابَةِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ بِهَذَا التَّجْوِيزِ مَا اسْتَحَقَّهُ عَلَى أَبِيهِ، وَقَدْ تَقَابَلَ هَذَا التَّجْوِيزَ مِثْلُهُ مِنْ أَنْ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكْتَسِبَ الْمُكَاتِبُ مَالًا قَبْلَ تَعَجُّزِهِ مِنْ هِبَةٍ أَوْ لَفْظَةٍ فَيُعْتَقَانِ مَعًا فَلَا يُرْفَعُ هَذَا التَّجْوِيزُ بِمِثْلِهِ، وَإِذَا تَقَابَلَ التَّجْوِيزُ إِنْ سَقَطَا، وَكَانَ الْأَصْلُ حَظْرَ بَيْعِهِ عَلَيْهِ، فَأَمَّا أُمُّهُ فَهَلْ تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمَكَاتِبِ يُمْنَعُ مِنْ بَيْعِهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمَكَاتِبِ، وَيَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا، لِأَنَّهَا عَلِقَتْ مِنْهُ بِمَمْلُوكٍ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ حُرْمَةُ حُرِيَّةِ مُشْتَرًى إِلَيْهَا، وَلَيْسَ مَا يُرْجَى مِنْ حُدُوثِ عِتْقِهِ بِمُوجِبٍ لِتَحْرِيمِ بَيْعِهَا كَمَا لَوْ أَوْلَدَهَا بِعَقْدِ نِكَاحٍ لَمْ تَصِرْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ إِنْ مَلَكَهَا، وَلَوِ اشْتَرَاهُمَا بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ عُتِقَ عَلَيْهِ الْوَلَدُ وَلَمْ يُوجِبْ حُدُوثُ عِتْقِهِ تَحْرِيمَ بَيْعِهَا، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا سَوَاءٌ أَدَّى فَعَتَقَ أَوْ عَجَزَ فَرَقَّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ إِنَّهَا قَدْ صَارَتْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمَكَاتِبِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ بَيْعُهَا لِأَنَّهُ لَمَّا مُنِعَ مِنْ بَيْعِ وَلَدِهَا انْتَشَرَتْ حُرْمَةُ هَذَا الْمَنْعِ إِلَيْهَا فَصَارَ مَمْنُوعًا مِنْ بَيْعِهَا، فَعَلَى هَذَا يُمْنَعُ مِنْ بَيْعِ وَلَدِهَا، وَبَيْعِ أَمَتِهِ فِي حَالِ كِتَابَتِهِ ثُمَّ يُنْظَرُ مَا يَكُونُ مِنْ حَالِهِ فِي الْكِتَابَةِ فَإِنْ أَدَّى فَعَتَقَ عُتِقَ عَلَيْهِ وَلَدُهُ عِنْدَ عِتْقِهِ بِالْأَدَاءِ، وَاسْتَقَرَّ لِأَمَتِهِ حُكْمُ أُمِّ الْوَلَدِ فَحَرُمَ عَلَيْهِ بَيْعُهَا عَلَى الْأَبَدِ، وَعَتَقَتْ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ، وَإِنْ عَجَزَ وَرَقَّ صَارَ الْوَلَدُ وَأَمَتُهُ مَمْلُوكَيْنِ لِلسَّيِّدِ مَعَ الْأَبِ، وَجَازَ لَهُ بَيْعُهُمْ إِذَا شَاءَ.

(فَصْلٌ)
وَإِذَا اشْتَرَى الْمُكَاتِبُ زَوْجَتَهُ صَحَّ الشِّرَاءُ، وَبَطَلَ عَلَيْهِ نِكَاحُهَا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَطْؤُهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ الشراء، لأنه قبل الشراء يطأها بِالزَّوْجِيَّةِ وَالْمُكَاتِبُ لَا يُمْنَعُ مِنَ الْوَطْءِ بِالزَّوْجِيَّةِ وبعد الشراء يطأها بِالْمِلْكِ، وَالْمُكَاتِبُ مَمْنُوعٌ مِنَ الْوَطْءِ بِالْمِلْكِ، فَإِنْ وَطِئَهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ كَانَ عَلَى مَا مَضَى، وبالله التوفيق.

(11/341)


(باب الاستبراء من كتاب الاستبراء والإملاء)
(مسألة)
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَ سَبْيِ أَوَطَاسٍ أَنْ تُوطَأَ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ أَوْ حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ وَلَا يُشَكُّ أن فيهن أبكاراً وحرائر كن قبل أن يستأمين وَإِمَاءً وَوَضِيعَاتٍ وَشَرِيفَاتٍ وَكَانَ الْأَمْرُ فِيهِنَّ وَاحِدًا (قال الشافعي) رحمه الله فكل ملك يحدث من مالك لم يجز فيه الوطء إلا بعد الاستبراء لأن الفرج كان ممنوعاً قبل الملك ثم حل بالملك ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ كُلُّ مَنْ اسْتَحْدَثَ مِلْكَ أَمَةٍ بِابْتِيَاعٍ، أَوْ مِيرَاثٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ مَغْنَمٍ يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا شَرِيفَةً كَانَتْ أَوْ وَضِيعَةً مَنْ يجوز حبلها أولاً يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ جُومِعَ مِثْلُهَا لَزِمَهُ اسْتِبْرَاؤُهَا، وَإِنْ لَمْ يُجَامَعْ مِثْلُهَا لَمْ يَلْزَمْهُ.
وَقَالَ الليث بن سعيد إِنْ كَانَ مِثْلُهَا يَحْبَلُ لَزِمَهُ اسْتِبْرَاؤُهَا وَإِنْ لَمْ يَحْبَلْ مِثْلُهَا لَمْ يَلْزَمْهُ.
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ: إِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا لَزِمَهُ الِاسْتِبْرَاءُ، وَإِنْ كَانَتْ بكراُ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ رُوَيْفِعِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَلَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا ثَيِّبٌ حَتَّى تَحِيضَ " فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ وَطْءِ الْبِكْرِ قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ، وَبِمَا رُوِيَ عن عمر ابن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " لَا اسْتِبْرَاءَ عَلَى الْعَذْرَاءِ ".
قَالُوا: وَلِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ مَوْضُوعٌ لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ فَلَمْ يَلْزَمْ فِيمَنْ عَلِمَ بَرَاءَةَ رَحِمِهَا، وَلِأَنَّ عَدَدَ الْحَرَائِرِ أَعْلَى مِنِ اسْتِبْرَاءِ الْإِمَاءِ، وَذَلِكَ سَاقِطٌ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا فَكَانَ الِاسْتِبْرَاءُ بِذَلِكَ أَوْلَى.
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَلَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ حَائِلٍ مِنْ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ وَبِكْرٍ

(11/342)


وَثَيِّبٍ مَعَ وُرُودِ ذَلِكَ فِي سَبْيِ أَوْطَاسٍ، وَكَانَ فِيهِنَّ صِغَارٌ وَكِبَارٌ فَعَمَّ وَلَمْ يُفَرِّقْ.
فَإِنْ قِيلَ: فَاسْمُ الْحَائِلِ لَا يَنْطَلِقُ إِلَّا عَلَى مَنْ أَخْلَفَ حَمَلُهَا بَعْدَ تَقَدُّمِهِ مِنْهَا كَمَا يُقَالُ: نَخْلَةٌ حَائِلٌ إِذَا أَخْلَفَتْ بَعْدَ أَنْ حَمَلَتْ، وَتَسْمِيَةُ حَائِلٍ لَا يَنْطَلِقُ ذَلِكَ عَلَى مَا لَمْ تَحْمِلْ مِنْ فَسِيلِ النَّخْلِ، وَصِغَارِ الْبَهَائِمِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ، لِأَنَّ الْحَائِلَ ضِدُّ الْحَامِلِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى عُمُومِهِ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ رَوَى أَبُو الْوَدَّاكِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَلَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ " وَهَذَا لَا يَحْتَمِلُ مَا تَكَلَّفُوهُ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَلِأَنَّ مَنِ اسْتَجَدَّ مِلْكَ أَمَةٍ مُحَرَّمَةٍ لَزِمَهُ اسْتِبْرَاؤُهَا قَبْلَ الِاسْتِمْتَاعِ قِيَاسًا عَلَى مَوْضِعِ الْوِفَاقِ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ مَنْ يُجَامَعُ مِثْلُهَا، وَلَا يُجَامَعُ، وَمَنْ يَحْبَلُ مِثْلُهَا وَلَا يَحْبَلُ يَشُقُّ لِاخْتِلَافِهِ فِي النَّاسِ، وَاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ وَلَا سِيَّمَا مَعَ غَلَبَةِ الشَّهْوَةِ فَحُسِمَ الْبَابُ، وَقُطِعَ التَّنَازُعُ كَالْغُرَّةِ فِي الْجَنِينِ حِينَ قُدِّرَ شَرْعًا لِحَسْمِ التَّنَازُعِ، وَتَحْرِيمِ قَلِيلِ الْخَمْرِ حَسْمًا لِمَا تُفْضِي إِلَيْهِ مِنَ الصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ كَذَلِكَ عُمُومُ الِاسْتِبْرَاءِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ رِوَايَتِهِمْ لِقَوْلِهِ: " وَلَا ثَيِّبٌ حَتَّى تَحِيضَ " فَالْأَثْبَتُ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ قَوْلِهِ: " وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ " وَلَوْ صَحَّتْ لَكَانَتْ بَعْضَ مَا شَمِلَهُ مِنَ الْعُمُومِ فَلَمْ يُعَارِضْهُ.
فَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ: " لَا اسْتِبْرَاءَ عَلَى عَذْرَاءَ "، فَالْمَرْوِيُّ عَنْهُ خِلَافُهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا وُجُوبُ الِاسْتِبْرَاءِ فِي جَمِيعِهِنَّ.
وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ الِاسْتِبْرَاءَ لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ بَلِ الِاسْتِبْرَاءُ لِاسْتِحْدَاثِ الْمِلْكِ، وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ تَارَةً وَلِلتَّعَبُّدِ أُخْرَى، كَالْعِدَّةِ تَكُونُ اسْتِبْرَاءً لِلرَّحِمِ تَارَةً وَلِلتَّعَبُّدِ أُخْرَى إِذَا كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ مُتَوَفًّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَهُوَ جَوَابٌ عَمَّا ذَكَرُوهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْعِدَدِ.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " فَلَوْ بَاعَ جَارِيَةً مِنِ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ وَقَبَضَتْهَا وَتَفَرَّقَا بَعْدَ الْبَيْعِ ثُمَ اسْتَقَالَهَا فَأَقَالَتْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْفَرْجَ حُرِّمَ عَلَيْهِ ثُمَّ حَلَّ لَهُ بِالْمِلْكِ الثَّانِي ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مِمَّا أَوْضَحَ بِهِ الشَّافِعِيُّ اسْتِبْرَاءَ الْإِمَاءِ مَعَ يَقِينِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ أَمَتَهُ عَلَى امْرَأَةٍ، وَتَفَرَّقَا بَعْدَ تَمَامِ الْبَيْعِ ثُمَّ اسْتَقَالَهَا فَأَقَالَتْهُ لَزِمَهُ اسْتِبْرَاؤُهَا بَعْدَ الْإِقَالَةِ سَوَاءٌ أَقْبَضَهَا أَوْ لَمْ يُقْبِضْهَا.

(11/343)


وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَلْزَمُهُ اسْتِبْرَاؤُهَا إِنْ أَقْبَضَهَا، وَلَا يَلْزَمُهُ اسْتِبْرَاؤُهَا إِنْ لَمْ يُقْبِضْهَا اسْتِحْسَانًا، وَإِنْ لَزِمَهُ قِيَاسًا، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ الِاسْتِحْسَانَ لَوْ دَفَعَ الْقِيَاسَ لَكَانَ بِإِيجَابِ الِاسْتِبْرَاءِ وَالِاحْتِيَاطِ فِي الدِّينِ أَحَقَّ، فَأَمَّا إِنْ تَفَاسَخَا فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ قَبْلَ انْبِرَامِ الْبَيْعِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ " الْبُيُوعِ " بِمَا أَغْنَى عَنِ الإعادة.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالِاسْتِبْرَاءُ أَنْ تَمْكُثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي طَاهِرًا بَعْدَ مِلْكِهَا ثَمَّ تَحِيضَ حَيْضَةً مَعْرُوفَةً فَإِذَا طَهُرَتْ مِنْهَا فَهُوَ الِاسْتِبْرَاءُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا ثَبَتَ أَنَّ اسْتِبْرَاءَ الْأَمَةِ وَاجِبٌ فَمَلَكَ الرَّجُلُ أَمَةً بِالِابْتِيَاعِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ، وَيُسْتَحَبُّ لَوِ اسْتَبْرَأَهَا الْبَائِعُ وَإِنْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ.
وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ، الِاسْتِبْرَاءُ وَاجِبٌ عَلَى الْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا الْمُشْتَرِي.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: الِاسْتِبْرَاءُ وَاجِبٌ عَلَى الْبَائِعِ وَعَلَى الْمُشْتَرِي.
وَقَالَ مَالِكٌ: الِاسْتِبْرَاءُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُوَاضَعَةِ بَعْدَ رَفْعِ يَدِ الْبَائِعِ، وَقَبْلَ دُخُولِ يَدِ الْمُشْتَرِي.
فَأَمَّا عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ فاستدل بأنه لما لزم استبراء الحرية قَبْلَ عَقْدِ النِّكَاحِ عَلَيْهَا لَزِمَ اسْتِبْرَاءُ الْأَمَةِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ ابْتِيَاعِ الْمُشْتَرِي لَهَا.
وَأَمَّا النَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، فَإِنَّهُمَا اسْتَدَلَّا بِأَنَّهَا تَسْتَبْرِئُ نَفْسَهَا مِنْ مَاءِ الْبَائِعِ لِتَقَدُّمِ إِصَابَتِهِ، وَمِنْ مَاءِ الْمُشْتَرِي لِمُسْتَحْدِثِ إِصَابَتِهِ فَوَجَبَ أَنْ تَسْتَبْرِئَ نَفْسَهَا فِي مِلْكِ الْبَائِعِ لِحِفْظِ مَائِهِ، وَفِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي لِحِفْظِ مَائِهِ.
وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِأَنَّ اسْتِبْرَاءَهَا عَلَى الْمُوَاضَعَةِ تَنُوبُ عَنِ الْحَقَّيْنِ، وَفِي يَدِ أَحَدِهِمَا تَنُوبُ عَنْ حَقِّهِ فَكَانَ اسْتِيفَاءُ الْحَقَّيْنِ بِالْمُوَاضَعَةِ أَوْلَى مِنِ اسْتِيفَاءِ أَحَدِهِمَا بِالِانْفِرَادِ.
وَدَلِيلُنَا عَلَى جَمَاعَتِهِمْ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَلَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ " فَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْحَيْضَ مُبِيحًا لِلْوَطْءِ وَلَوْ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ لَكَانَ مَانِعًا مِنَ الْوَطْءِ، وَإِنَّمَا يُبِيحُهُ إِذَا كَانَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ سُفْيَانَ وَإِبْرَاهِيمَ لِأَنَّهُ أَبَاحَهَا بَعْدَ حَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا بَعْدَ حَيْضَتَيْنِ، وَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ مَالِكٍ، لِأَنَّهُ قَالَ: ذَلِكَ بَعْدَ حُصُولِ السَّبْيِ فِي مِلْكِ الْغَانِمِينَ، وَفِي أَيْدِيهِمْ، وَلِأَنَّهُ

(11/344)


اسْتِبْرَاءٌ عَنْ إِصَابَةٍ، فَإِنِ احْتَجَجْتُ بِهِ عَلَى الْبَتِّيِّ قُلْتُ: فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ زَوَالِ الْإِبَاحَةِ كَالزَّوْجِيَّةِ، وَإِنِ احْتَجَجْتُ بِهِ عَلَى الثَّوْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ، قُلْتُ: فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ فِيهِ إِلَّا اسْتِبْرَاءٌ وَاحِدٌ كَالزَّوْجِيَّةِ، وَإِنِ احْتَجَجْتُ بِهِ عَلَى مَالِكٍ، قُلْتُ: فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ فِيهِ الْمُوَاضَعَةُ كَالزَّوْجَةِ.
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُ الْبَتِّيِّ بِالنِّكَاحِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِابْتِيَاعِ وَإِنْ كَانَا بَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ مِلْكَ الْمُطَلِّقِ يَزُولُ عَنِ الزَّوْجَةِ إِلَى غَيْرِ مَالِكٍ فَأَمْكَنَ تَقْدِيمُ اسْتِبْرَائِهَا عَلَى عَقْدِ الثَّانِي، وَمِلْكُ الْبَائِعِ يَزُولُ بِمِلْكِ الْمُشْتَرِي فَلَمْ يُمْكِنْ تَقْدِيمُ اسْتِبْرَائِهَا عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي.
وَالثَّانِي: أَنَّ تَحْرِيمَ الْمَنْكُوحَةِ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ نِكَاحِهَا، فَلِذَلِكَ قُدِّمَ اسْتِبْرَاؤُهَا عَلَيْهِ وَتَحْرِيمُ الْأَمَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ بَيْعِهَا، فَجَازَ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَنْكُوحَةَ تَصِيرُ فِرَاشًا بِالْعَقْدِ فَمَنَعَ بَقَاءُ الِاسْتِبْرَاءِ مِنْ صِحَّتِهِ وَلَا تَصِيرُ الْأَمَةُ فِرَاشًا بِالْبَيْعِ فَلَمْ يَمْنَعْ بَقَاءُ الِاسْتِبْرَاءِ مِنْ صِحَّتِهِ.
وَأَمَّا الثَّوْرِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ فَخَالَفَا مَوْضِعَ الِاسْتِبْرَاءِ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا وَاحِدًا يَتَمَيَّزُ لَهُ حِفْظُ مَا فِي الرَّحِمِ عَلَى مُسْتَحَقِّهِ وَهُوَ لا يستحقه إلا واحد فلذلك وجب اسبتراء واحد، ولووجب استبراآن لَجَازَ أَنْ يَكُونَ لَاحِقًا بِاثْنَيْنِ، وَهَذَا مَدْفُوعٌ.
وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ فَرَّقَ فِي اسْتِبْرَاءِ الْأَمَةِ بَيْنَ الْقَبِيحَةِ وَالْمَلِيحَةِ فَأَوْجَبَ الْمُوَاضَعَةَ فِي الْمَلِيحَةِ، وَلَمْ يُوجِبْهُ فِي الْقَبِيحَةِ، وَحُكْمُ الِاسْتِبْرَاءِ لَا يَفْتَرِقُ فِي الْقَبَائِحِ، وَالْمِلَاحِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ قَدْ مَنَعْتَ بِهِ الْمُشْتَرِيَ مِنْ قَبْضِ مَا هُوَ مُسْتَحِقٌّ لِقَبْضِهِ مِنْ مِلْكِهِ بَعْدَ قَبْضِ ثَمَنِهِ؟ وَفَوَّتَ عَلَيْهِ الِانْتِفَاعَ، وَلَيْسَ مَنْعُهُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ يَدُلُّ عَلَى مَنْعِهِ مِنَ الِانْتِفَاعِ، وَقَدْ يَتْلَفُ فِي الْمُوَاضَعَةِ فَمِنْ مَالِ أَيِّهِمَا يَتْلَفُ، فَإِنْ قَالَ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ، وَهُوَ مَذْهَبُهُ، قِيلَ: قَدْ أَقْبَضَ مَا بَاعَ فَلِمَ جَعَلْتَهُ تَالِفًا مِنْ مَالِهِ بَعْدَ إِقْبَاضِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى فَسَادِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ يَكُونُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَبَعْدَ حُدُوثِ كُلِّ مِلْكٍ بِغَيْرِ شِرَاءٍ مِنْ وَصِيَّةٍ، وَهِبَةٍ، وَمَغْنَمٍ، وَمِيرَاثٍ انْقَسَمَتْ أَسْبَابُ الْأَمْلَاكِ ثلاثة أقسام: قسم لا نصح الِاسْتِبْرَاءُ، فِيهِ إِلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ، وَهُوَ مَا كَانَ الْقَبْضُ شَرْطًا فِي ثُبُوتِ مِلْكِهِ وَهُوَ الْهِبَةُ وَالْمَغْنَمُ، فَإِنْ وُجِدَ الِاسْتِبْرَاءُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ لِوُجُودِهِ قَبْلَ الْمِلْكِ، وَلَزِمَ أَنْ تَسْتَبْرِئَ بَعْدَهُ.
وَقِسْمٌ ثَانٍ: يُعْتَدُّ الِاسْتِبْرَاءُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَهُوَ الْمِيرَاثُ، فَإِذَا وُجِدَ الاستبراء

(11/345)


بَعْدَ الْإِرْثِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ اعْتُدَّ بِهِ، لِأَنَّ الْمَوْرُوثَ فِي حُكْمِ الْمَقْبُوضِ، لِأَنَّهُ لَا يَدَ عَلَيْهِ لِغَيْرِ الْوَارِثِ.
وَقِسْمٌ ثَالِثٌ: يُخْتَلَفُ فِيهِ وَهُوَ الِابْتِيَاعُ فَالَّذِي ذَكَرَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ، أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِالِاسْتِبْرَاءِ فِيهِ إِلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ يُعْتَدُّ بِالِاسْتِبْرَاءِ فِيهِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ بِالْبَيْعِ وَالتَّفْرِيقِ، وَقَبْلَ الْقَبْضِ كَالْمَوْرُوثَةِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ هُوَ الْمَنْعُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا بَعْدَ حُدُوثِ الْمِلْكِ لِيُعْلَمَ بِهِ بَرَاءَةُ رَحِمِهَا وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ.

(فَصْلٌ)
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالَّذِي يَكُونُ بِهِ الِاسْتِبْرَاءُ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي اسْتِبْرَاءِ أُمِّ الْوَلَدِ فَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَيُوضَعُ الْحَمْلُ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تُسْتَبْرَأُ بِشَهْرٍ وَاحِدٍ.
وَالثَّانِي: بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ.
وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ فَاسْتِبْرَاؤُهَا بِقُرْءٍ وَاحِدٍ، وَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ هَاهُنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ الْحَيْضُ فَتَسْتَبْرِئُ نَفْسَهَا بِحَيْضَةٍ كَامِلَةٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ " ثُمَّ تَحِيضُ حَيْضَةً مَعْرُوفَةً " يَعْنِي كَامِلَةً، وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ اسْتِبْرَاءِ الْأَمَةِ وَعِدَّةِ الْحُرَّةِ مَا قَدَّمْنَاهُ، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَانٍ ذَهَبَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِيهِ بِالطُّهْرِ كَالْحُرَّةِ وَحَمَلُوا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ هَاهُنَا: " ثُمَّ تَحِيضُ حَيْضَةً مَعْرُوفَةً " لِيَقْوَى بِهَا مَا تَقَدَّمَ مِنَ الطُّهْرِ الَّذِي لَمْ يَكْمُلْ، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ ذَهَبَ إِلَيْهِ الْبَصْرِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: أَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ مُعْتَبَرٌ مَقْصُودُهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَفَرَّدَ اسْتِبْرَاءُ الْأَمَةِ بِقُرْءٍ وَاحِدٍ جُمِعَ فِيهِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ تَقْوِيَةً لِحُكْمِهِ، وَزِيَادَةً فِي الِاسْتِظْهَارِ بِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنِ اعْتِبَارِ حَالِهِمَا عَلَى اخْتِلَافِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ مَا أَغْنَى عَنِ الْإِعَادَةِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَبَاعَدَ حَيْضُهَا كَانَتْ فِي حُكْمِ الْحُرَّةِ إِذَا تَبَاعَدَ حَيْضُهَا فِي الْعِدَّةِ، فَإِنْ كَانَ لِعِلَّةٍ مَكَثَتْ حَتَّى تَحِيضَ فَتَسْتَبْرِئَ نَفْسَهَا بِقُرْءٍ أَوْ تَبْلُغَ زَمَانَ الْإِيَاسِ فَتَسْتَبْرِئَ بشهر في أحد القولين وبثلاثة اشهر من الْقَوْلِ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عِلَّةٍ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: إِنَّهَا تَتَرَبَّصُ بِنَفْسِهَا غَالِبَ الْحَمْلِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ تَسْتَبْرِئُ بِالشُّهُورِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَتَرَبَّصُ بِنَفْسِهَا مُدَّةَ أَكْثَرِ الْحَمْلِ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ تَسْتَبْرِئُ بِالشُّهُورِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّهَا تَسْتَبْرِئُ تَتَرَبَّصُ بِنَفْسِهَا أَبَدًا حَتَّى تَبْلُغَ زَمَانَ الْإِيَاسِ ثُمَّ تَسْتَبْرِئُ بِالشُّهُورِ.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ من حالين:

(11/346)


أَحَدُهُمَا: أَنْ تَظْهَرَ بَرَاءَةُ رَحِمِهَا، وَأَنْ لَا حَمْلَ مَعَهَا فَتَحِلَّ لِلْمُشْتَرِي وَلِكُلِّ مَالِكٍ مِنْ وَارِثٍ وَغَانِمٍ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا بِوَضْعِ وَلَدٍ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ لَا تَكُونَ فِرَاشًا لِزَوْجٍ وَلَا لِسَيِّدٍ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مَسْبِيَّةً أَوْ تَكُونَ حَامِلًا مِنْ زِنًا فَيَكُونَ وَضْعُ الْحَمْلِ اسْتِبْرَاءً، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ صِحَّةِ الشِّرَاءِ، وَهِيَ حَلَالٌ لَهُ بَعْدَ الْوَضْعِ إِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ النِّفَاسِ وَالْوَلَدُ مَمْلُوكٌ لَهُ، وَلَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ قَبْلَ الْوِلَادَةِ لِمَا يَخَافُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْوِلَادَةِ، فَأَمَّا بَعْدَهَا فَإِنْ تَحَقَّقَ حَمْلُهَا قَبْلَ الْوِلَادَةِ فَالْإِمْسَاكُ عَنِ الْعَيْبِ رِضًى بِالْعَيْبِ، فَلَا رَدَّ لَهُ، وَإِنْ لَمْ تَتَحَقَّقْ حَمْلَهَا حَتَّى وَلَدَتْ نُظِرَ حَالُهَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ، وَإِنْ لَمْ تَنْقُصْ قِيمَتُهَا بِالْوِلَادَةِ فَلَا رَدَّ له الزوال الْخَوْفِ وَعَدَمِ الْعَيْبِ، فَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا اعْتُبِرَ النَّقْصُ، فَإِنْ كَانَ حَادِثًا بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَلَا رَدَّ لَهُ لِحُدُوثِهِ فِي يَدِهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَقَدِّمًا وَقْتَ الْحَمْلِ فَلَهُ الرَّدُّ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْأَمَةُ فِرَاشًا لِزَوْجٍ كَأَنَّهَا زَوْجَةُ الْبَائِعِ أَوِ الْوَاهِبِ بِهَا فَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِزَوْجِهَا إِذَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، وَهُوَ مَمْلُوكٌ لِلْمُشْتَرِي أَوِ الْمُسْتَوْهِبِ وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا مِنَ الزَّوْجِ بِوِلَادَتِهِ، وَهَلْ يَلْزَمُ الْمُشْتَرِي اسْتِبْرَاؤُهَا بَعْدَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِبْرَاءُ لِمَا عَلِمَ مِنْ بَرَاءَةِ رَحِمِهَا بِالْوِلَادَةِ، وَتَكُونُ الْوِلَادَةُ اسْتِبْرَاءً فِي حَقِّ الزَّوْجِ وَالْمُشْتَرِي مَعًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ، لِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ فِي حَقِّ اثْنَيْنِ لِمَا يَكُونُ فِيهِ مِنْ تَدَاخُلِ الْعِدَّتَيْنِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْأَمَةُ فِرَاشًا لِلسَّيِّدِ الْبَائِعِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ وِلَادَتُهَا قَبْلَ وَطْءِ الْمُشْتَرِي.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ وَطْءِ الْمُشْتَرِي لَمْ يَخْلُ حَالُ الْبَائِعِ، وَالْمُشْتَرِي فِي الْوَلَدِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَتَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ من البائع، لأنه لم يستبدئها مِنْ وَطْئَهِ وَقَدْ وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ بَيْعِهِ فَيَكُونُ الْوَلَدُ حُرًّا لَاحِقًا بِالْبَائِعِ، وَقَدْ صَارَتْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ فِيهَا وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَتَصَادَقَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَطَأْهَا أَوْ لِأَنَّهَا

(11/347)


وَلَدَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا بَعْدَ اسْتِبْرَائِهِ لَهَا فيكون البيع ماضياً، والولد مملوك لِلْمُشْتَرِي وَتَكُونُ وِلَادَتُهَا اسْتِبْرَاءً فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي، وَيَجُوزُ لَهُ بَعْدَ انْقِطَاعِ نِفَاسِهَا أَنْ يَطَأَهَا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَدَّعِيَهُ الْبَائِعُ وَيُنْكِرَهُ الْمُشْتَرِي فَيَقُولَ الْبَائِعُ وَطِئْتُهَا وَلَمْ أَسْتَبْرِئْهَا وَقَدْ وَلَدَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ وَطْئِي وَقَبْلَ اسْتِبْرَائِي، وَيَقُولَ الْمُشْتَرِي هُوَ مِنْ زِنًا فَلِلْبَائِعِ حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ هُوَ قَدْ سَمِعَ مِنْهُ الْإِقْرَارَ بِوَطْئِهَا قَبْلَ الْبَيْعِ إِمَّا مَعَ الْعَقْدِ أَوْ قَبْلَهُ فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِمَا سَوَاءٌ فَيَكُونُ الْوَلَدُ لَاحِقًا بِهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنِ اعْتِرَافِهِ بِالْوَطْءِ وَالْوَلَدُ حُرٌّ وَقَدْ صَارَتْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَيَكُونُ الْبَيْعُ فِيهِمَا بَاطِلًا وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ إِنْكَارُ الْمُشْتَرِي وَلَا يَمِينَ لَهُ عَلَى الْبَائِعِ، لِأَنَّ الْبَائِعَ لَوْ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ النَّسَبِ وَسُقُوطِ الْعِتْقِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يُسْمَعَ مِنَ الْبَائِعِ الِاعْتِرَافُ بِوَطْئِهَا قَبْلَ الْبَيْعِ وَيَدَّعِيَهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي إِبْطَالِ الْبَيْعِ وَعِتْقِ الْوَلَدِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الْبَيْعِ الصِّحَّةُ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى السَّلَامَةِ وَلَمْ يَنْفُذْ فِيهِ دَعْوَى الْبَائِعِ لِإِبْطَالِهِ كَمَا لَوْ بَاعَ عَبْدًا ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ أَعْتَقَهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مَاضِيًا عَلَى الصِّحَّةِ، وَالْأَمَةُ مَمْلُوكَةٌ لِلْمُشْتَرِي فَتَكُونُ وِلَادَتُهَا اسْتِبْرَاءً فِي حَقِّهِ يَسْتَبِيحُهَا بَعْدَ انْقِطَاعِ دَمِ النِّفَاسِ وَالْوَلَدُ مَمْلُوكٌ لَهُ وَفِي لُحُوقِ نَسَبِهِ بِالْبَائِعِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " وَ " الْإِيلَاءِ " يُلْحَقُ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي لُحُوقِ نَسَبِهِ وَإِنَّمَا الضَّرَرُ عَلَيْهِ فِي عِتْقِهِ فَأَرْفَقْنَاهُ لِنَفْيِ الضَّرَرِ عَنْهُ، وَلَمْ نَنْفِ نَسَبَهُ عَنِ الْبَائِعِ، لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الْمُشْتَرِي أن يكون عدة ذَا نَسَبٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: رَوَاهُ عَنْهُ الْبُوَيْطِيُّ لَا يُلْحَقُ نَسَبُهُ بِالْبَائِعِ، لِأَنَّهُ قَدْ يُدْخِلُ عَلَى الْمُشْتَرِي ضَرَرًا فِي لُحُوقِ نَسَبِهِ بِالْبَائِعِ، إِذَا مَاتَ بَعْدَ عِتْقِهِ فِي أَنْ يَصِيرَ مِيرَاثُهُ لِأَبِيهِ دُونَ مُعْتِقِهِ لِتَقَدُّمِ الْمِيرَاثِ بِالنَّسَبِ عَلَى الْمِيرَاثِ بِالْوَلَاءِ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِيُ إِنَّهُ مِنَ الْبَائِعِ، وَيُنْكِرَ الْبَائِعُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْبَائِعِ مِنْ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ سُمِعَ مِنْهُ الِاعْتِرَافُ بِوَطْئِهَا، فَيُلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ إِذَا وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَلَا يُؤَثِّرُ إِنْكَارُهُ لِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ حَقٌّ لِلْوَلَدِ لَا يَسْقُطُ بِالْجُحُودِ وَتَصِيرُ بِهِ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ لِلْبَائِعِ يَبْطُلُ فِيهَا الْبَيْعُ وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ بِثَمَنِهَا.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يُسْمَعَ مِنْهُ الِاعْتِرَافُ بِوَطْئِهَا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي عليه،

(11/348)


لِأَنَّ الظَّاهِرَ صِحَّةُ الْبَيْعِ وَسَلَامَةُ الْعَقْدِ لَكِنْ يُعْتَقُ الْوَلَدُ عَلَى الْمُشْتَرِي لِاعْتِرَافِهِ بِحُرِّيَّتِهِ وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ أُمُّهُ لِاعْتِرَافِهِ بِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لِبَائِعِهَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ مَقْبُولٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ عَلَى غَيْرِهِ، فَهَذَا حُكْمُ الْوَلَدِ إِذَا لم يكن المشتري قدم وطأها.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا إِذَا وَلَدَتْ بَعْدَ أَنْ وَطِئَهَا الْمُشْتَرِي فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَلَدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُلْحَقَ بِالْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي، وَهُوَ أَنْ تَضَعَ مَعَ اعْتِرَافِهَا بِالْوَطْءِ، لِأَقَلَّ من ستة أشهر من وطء المشتري، فيكون لاحقاً بالبائع نصير بِهِ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَيَكُونُ الْبَيْعُ فِيهَا بَاطِلًا، وَعَلَى الْمُشْتَرِي مَهْرُ مِثْلِهَا لِلْبَائِعِ لِوَطْئِهِ أُمَّ وَلَدِهِ بِشُبْهَةٍ، وَيَتَقَاصَّا ذَلِكَ مِنْ ثَمَنِهَا وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِبَاقِيهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَاحِقًا بِالْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ لِوَضْعِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنِ اسْتِبْرَاءِ الْبَائِعِ وَلِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فصاعداً من وطء المشتري، فالبيع ماضى على الصحة ولا تراجع فيه من الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يُلْحَقَ بِالْبَائِعِ وَلَا بِالْمُشْتَرِي، وَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنِ اسْتِبْرَاءِ الْبَائِعِ، وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَطْءِ الْمُشْتَرِي، فَيَكُونُ الْوَلَدُ منفياً عنهما ومملوك لِلْمُشْتَرِي، وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ لِحُدُوثِهِ فِي مِلْكِهِ، وَهِيَ مَمْلُوكَةُ الْمُشْتَرِي وَحَلَالٌ لَهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: الَّذِي يُمْكِنُ لُحُوقُهُ بِهِمَا فَهُوَ مُمْكِنٌ فِي الْحُرَّةِ وَمُمْتَنِعٌ فِي الْأَمَةِ، لِأَنَّ وَلَدَ الْحُرَّةِ لَاحِقٌ بِهِ إِلَى أَرْبَعِ سِنِينَ مِنَ الْعِدَّةِ وَوَلَدَ الْأَمَةِ لَا يُلْحَقُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنَ الِاسْتِبْرَاءِ إِلَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْحُرَّةِ فَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِهِ تَخْرِيجُ الْقِسْمِ الرَّابِعِ، فَأَمَّا عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَقَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ إِنَّهُ مُنْتَفٍ عَنْهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنَ الِاسْتِبْرَاءِ فَتَخْرِيجُهُ فِي إِمْكَانِ لُحُوقِهِ بِهِمَا مُمْتَنِعٌ لِأَنَّهَا إِنْ وَلَدَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنِ اسْتِبْرَاءِ الْبَائِعِ فَهُوَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَطْءِ الْمُشْتَرِي، لِأَنَّ وَطْأَهُ بَعْدَ وَطْءِ الْبَائِعِ فَيَكُونَ لَاحِقًا بِالْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي وَإِنْ وَلَدَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَطْءِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنِ اسْتِبْرَاءِ الْبَائِعِ، لِأَنَّ اسْتِبْرَاءَهُ قَبْلَ وَطْءِ الْمُشْتَرِي فَيَكُونَ لَاحِقًا بِالْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ فَلِذَلِكَ مَا امْتَنَعَ تخريجه هَذَا الْقِسْمِ فِي إِمْكَانِ لُحُوقِهِ بِهِمَا وَإِنْ وهم أبو حامد الإسفراييني في تخريج.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنِ اسْتَرَابَتْ أَمْسَكَتْ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ تِلْكَ الريبة لم تكن حَمْلًا وَلَا أَعْلَمُ مُخَالِفًا فِي أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ لَوْ حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ وَهِيَ تَرَى أَنَّهَا حَامِلٌ لَمْ تَحِلَّ إِلَّا بِوَضْعِ الْحَمْلِ أَوِ الْبَرَاءَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَمْلًا ".

(11/349)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ الْحُرَّةِ إِذَا اسْتَبْرَأَتْ، وَحُكْمَ أُمِّ الْوَلَدِ إِذَا اسْتَبْرَأَتْ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْأَمَةِ إِذَا اسْتَبْرَأَتْ لَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَظْهَرَ الرِّيبَةُ قَبْلَ اسْتِكْمَالِ الِاسْتِبْرَاءِ، فَتَكُونَ مُحَرَّمَةً عَلَى الْمُشْتَرِي حَتَّى تَزُولَ الرِّيبَةُ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ أُمَّ وَلَدٍ لِغَيْرِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَظْهَرَ الرِّيبَةُ بعد الاستبراء، وبعد إصابة المشتري فلا ففي يحرم عَلَيْهِ إِصَابَتُهَا، لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ لَهُ بِالْإِصَابَةِ فِرَاشًا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَظْهَرَ الرِّيبَةُ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَقَبْلَ إِصَابَةِ الْمُشْتَرِي فَفِي تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَيَقَّنَ بَرَاءَةَ رَحِمِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أنها حَلَالٌ لَهُ مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ حَمْلُهَا.

(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي رضي الله عنه: " فَلَا يَحِلُّ لَهُ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ التَّلَذُّذُ بِمُبَاشَرَتِهَا ولا نظر بشهوة إلهيا وَقَدْ تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ لِغَيْرِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا وَجَبَ اسْتِبْرَاءُ الْأَمَةِ عَلَى مَنِ اسْتَحْدَثَ مِلْكَهَا حَرُمَ عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ الِاسْتِبْرَاءِ وَطْؤُهَا لِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ هُوَ اعْتِزَالُ الْوَطْءِ سَوَاءٌ مَلَكَهَا عَنْ شِرَاءٍ أَوْ سَبْيٍ، فَأَمَّا الِاسْتِمْتَاعُ بِمَا عَدَا الْوَطْءِ مِنَ الْقُبْلَةِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالتَّلَذُّذِ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ فَمُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْحَمْلِ إِنْ ظَهَرَ بِهَا هَلْ تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ لِمَنْ كَانَ مَالِكَهَا، فَإِنْ كَانَتْ تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّهَا مُشْتَرَاةٌ مِنْ مَالِكٍ كَانَتْ لَهُ فِرَاشًا أَوْ مَوْرُوثَةً عَنْهُ أَوْ مُسْتَوْهَبَةً مِنْهُ حَرُمَ عَلَيْهِ التَّلَذُّذُ بمباشرتها، والنظر إليها لشهرة كما يحرم عليه وطئها لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ أُمَّ وَلَدٍ لِغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ كَالْمَسْبِيَّةِ وَالْحَامِلِ مِنْ زِنًا فَفِي تَحْرِيمِ التَّلَذُّذِ بِمُبَاشَرَتِهَا وَمَا دُونُ الْفَرَجِ مِنْهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَحْرُمُ تَبَعًا لِلْوَطْءِ كَالْمُشْتَرَاةِ مِنْ ذِي فِرَاشٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَحْرُمُ، لِأَنَّ الْمُشْتَرَاةَ تَصِيرُ بِالْحَمْلِ أُمَّ وَلَدٍ لِغَيْرِهِ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَحَرُمَتْ قَبْلَهَا، وَالْمَسْبِيَّةُ وَالزَّانِيَةُ لَا تَصِيرُ بِحَمْلِهَا أُمَّ وَلَدٍ لِغَيْرِهِ، وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ، وَإِنَّمَا يَسْتَبْرِئُهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ بِمَائِهِ مَاءُ غَيْرِهِ، فَإِذَا اجْتَنَبَ الْوَطْءُ حَلَّ لَهُ مَا عَدَاهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: وَقَعَ فِي سَهْمِي جارية من سبي جلولاء فرأيت لها عتقا كَإِبْرِيقِ الْفِضَّةِ فَمَا تَمَالَكْتُ أَنْ قَبَّلْتُهَا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا لَامْتَنَعَ مِنْهُ وَلَأَنْكَرَهُ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَهَكَذَا إِذَا وُطِئَتْ زَوْجَةٌ بِشُبْهَةٍ، وَلَزِمَهَا الِاعْتِدَادُ مِنْ وَطْئِهِ حَرُمَ عَلَى زَوْجِهَا وَطْؤُهَا فِي عِدَّةِ الشُّبْهَةِ، وَفِي تَحْرِيمِ التَّلَذُّذِ بِمَا دون الوطء

(11/350)


وجهان: لأن المقصود بالعدة حذراً مِنِ اخْتِلَاطِ الْمَائَيْنِ، وَهِيَ بَعْدَ الْعِدَّةِ حَلَالٌ لِلزَّوْجِ فَأَشْبَهَتِ الْمَسْبِيَّةَ.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا إِذَا اشْتَرَى أَمَةً ذَاتَ زَوْجٍ فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي الْوَطْءِ وَالتَّلَذُّذِ جَمِيعًا، لِأَنَّ التَّلَذُّذَ بِهَا مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِ فَحَرُمَ عَلَى الْمُشْتَرِي كَالْوَطْءِ، فَإِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ.
وَالثَّانِي: بَعْدَهُ.
فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَعَلَى الْمُشْتَرِي أن يستبرئها وهي محرمة عليه لَمْ يَسْتَبْرِئْهَا أَنْ يَطَأَهَا، وَفِي تَحْرِيمِ التَّلَذُّذِ بِمَا دُونَ الْوَطْءِ وَجْهَانِ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ مَالِكًا لَهَا قَبْلَ تَزْوِيجِهَا ثُمَّ طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهَا عِدَّةُ الزَّوْجِ وَحَرُمَتْ عَلَى الْمَالِكِ إِلَّا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ وَجَبَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنْهُ، وَهِيَ فِي زَمَانِ عِدَّتِهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يَطَأَهَا أَوْ يَتَلَذَّذَ بِهَا، لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْعِدَّةِ يَجْرِي مَجْرَى تَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ، فَإِذَا انْقَضَتِ الْعِدَّةُ فَفِي وُجُوبِ اسْتِبْرَائِهَا عَلَى السَّيِّدِ وَجْهَانِ مَضَيَا:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا تَحْرِيمَ بَعْدَ الْعِدَّةِ لِبَرَاءَةِ رَحِمِهَا بِالْعِدَّةِ، فَعَلَى هَذَا يَحِلُّ لَهُ الْوَطْءُ وَغَيْرُهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ بَعْدَ الْعِدَّةِ تَعَبُّدًا فَعَلَى هَذَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ وطئها وَفِي تَحْرِيمِ مَا عَدَاهُ مِنَ التَّلَذُّذِ وَجْهَانِ.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ لَمْ يَفْتَرِقَا حَتَّى وَضَعَتْ حَمْلًا لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ نِفَاسِهَا ثُمَّ تَحِيضَ حَيْضَةً مُسْتَقْبَلَةً مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْبَيْعَ إِنَّمَا تَمَّ حِينَ تَفَرَّقَا عَنْ مَكَانِهِمَا الَّذِي تَبَايَعَا فِيهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْتَبَرَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا وُجُودَ الِاسْتِبْرَاءِ بَعْدَ تَمَامِ الْبَيْعِ وَلُزُومِهِ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ فِيهِ وَجُودَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَفِيهِ شَاهِدٌ مِنْ مَذْهَبِهِ عَلَى مَا أُخْبِرْتُهُ مِنْ أَنَّ الْقَبْضَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الِاسْتِبْرَاءِ وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا فَجَعَلُوهُ شَرْطًا فِيهِ، فَإِذَا وَضَعَتِ الْأَمَةُ الْمُشْتَرَاةُ حَمْلَهَا بَعْدَ الْبَيْعِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنْ تَضَعَهُ بَعْدَ لُزُومِ الْبَيْعِ بِالتَّفَرُّقِ وَمُضِيِّ زَمَانِ الْخِيَارِ فَيَكُونُ اسْتِبْرَاءً يَحِلُّ بِهِ الْمُشْتَرِي.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَضَعَهُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ التَّفَرُّقِ فَيَكُونُ الِاسْتِبْرَاءُ بِهِ مَبْنِيًّا عَلَى

(11/351)


اخْتِلَافِ أَقَاوِيلِهِ فِي انْتِقَالِ الْمِلْكِ، هَلْ يَكُونُ بِالْعَقْدِ وَحْدَهُ أَوْ بِهِ؟ وَيَنْقَضِي زَمَانُ الْخِيَارِ.
فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْمِلْكَ لَا يَنْتَقِلُ إِلَّا بِهِمَا، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَمْ يَكُنْ وَضْعُ الْحَمْلِ اسْتِبْرَاءً لِوُجُودِهِ قَبْلَ الْمِلْكِ فَصَارَ كَوُجُودِهِ قَبْلَ الْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَرَّ عَلَيْهَا قُرْءٌ بِحَيْضٍ أَوْ بِطُهْرٍ لَمْ يَكُنِ اسْتِبْرَاءً، وَلَا يَدْخُلُ بِالنِّفَاسِ فِي اسْتِبْرَاءٍ سَوَاءٌ قِيلَ، إِنَّهُ بِالْحَيْضِ أَوْ بِالطُّهْرِ، فَإِذَا انْقَضَى نِفَاسُهَا، فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الِاسْتِبْرَاءَ بِالطُّهْرِ دَخَلَتْ فِيهِ عِنْدَ تَقَضِّي النِّفَاسِ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ بِالْحَيْضِ لَمْ تَدْخُلْ فِيهِ إِلَّا بَعْدَ تَقَضِّي طُهْرِهَا وَطُهُورِ حَيْضِهَا فَهَذَا حُكْمُ وَضْعِهَا إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْمِلْكَ لَا يَنْتَقِلُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَتَقَضِّي زَمَانِ الْخِيَارِ.
فَأَمَّا إِذَا قِيلَ: وَمَا عَدَاهُ مِنْ أَنَّ الْمِلْكَ مُنْتَقِلٌ إِلَى الْمُشْتَرِي بِنَفْسِ الْعَقْدِ أَوْ مَوْقُوفٌ بِعِلْمِ تَقَضِّي الْخِيَارِ وَوُجُودِ الْمِلْكِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ كَانَ وَضْعُ الحمل استبراءاً لِوُجُودِهِ بَعْدَ الْمِلْكِ فَصَارَ كَوُجُودِهِ بَعْدَ تَقَضِّي الخيار فإن كان بدل الولادة قروءاً مِنْ حَيْضٍ أَوْ طُهْرٍ مَرَّ عَلَيْهَا بَعْدَ الْبَيْعِ، وَقَبْلَ التَّفْرِيقِ فَقَدْ خَرَّجَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ اسْتِبْرَاءً كَالْحَمْلِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ الِاسْتِبْرَاءِ بِخِلَافِ الْحَمْلِ وَلَا أَعْرِفُ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَجْهًا إِلَّا أَنْ يُفَرَّقَ بِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ بِالْحَمْلِ أَقْوَى وَلَيْسَ بِفَرْقٍ، لِأَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ في حصول الاستبراء بهما.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَتْ أَمَةً مُكَاتَبَةً فَعَجَزَتْ لَمْ يَطَأْهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةُ الْفَرْجِ مِنْهُ ثُمَّ أبيح بالعجز ولا يشبه صومها الواجب عليها وحيضتها ثم تخرج من ذلك، لأنه يحل له في ذلك أن يمسها ويقبلها ويحرم عليه ذلك في الكتابة كما يحرم إذا زوجها وإنما قلت طهر ثم حيضة حتى تغتسل مِنْهَا لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دل على أن الأقراء الأطهار بقوله في ابن عمر يطلقها طاهراً من غير جماع فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لها النساء وأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في الإماء أن يستبرئن بحيضة فكانت الحيضة الأولى أمامها طهر كما كان الطهر أمامه الحيض فكان قصد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في الاستبراء إلى الحيض وفي العدة إلى الأطهار ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا كَاتَبَ أَمَتَهُ ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ بِالْعَجْزِ حَرُمَ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا حتى يستبرئها وكذلك لو ارتد أو ثُمَّ أَسْلَمَ أَوْ أَسْلَمَتْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا اعْتِبَارًا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ بِحُدُوثِ الْإِبَاحَةِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ التَّحْرِيمِ.

(11/352)


وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِبْرَاءُ فِي الْمُكَاتَبَةِ إِذَا عَجَزَتْ، وَلَا فِي الْمُزَوَّجَةِ إِذَا طُلِّقَتْ، وَلَا فِي الْمُرْتَدَّةِ إِذَا أَسْلَمَتِ اعْتِبَارًا ببقاء الملك واستدلالا بأن طريان التَّحْرِيمِ عَلَيْهِ بِالْكِتَابَةِ، وَالتَّزْوِيجِ وَالرِّدَّةِ لِحُدُوثِ التَّحْرِيمِ بِالصِّيَامِ، وَالْحَيْضِ، وَالْإِحْرَامِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلِاسْتِبْرَاءِ لِبَقَاءِ الْمِلْكِ كَذَلِكَ لَمْ يَزَلْ بِهِ الْمِلْكُ؛ وَلِأَنَّ الرَّهْنَ يَمْنَعُ مِنْ وَطْئِهَا كَالْكِتَابَةِ، ثُمَّ لَمْ يَلْزَمْهُ الِاسْتِبْرَاءُ بَعْدَ فِكَاكِهَا مِنَ الرَّهْنِ كَذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ بَعْدَ عَجْزِهَا فِي الْكِتَابَةِ وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَلَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ إِبَاحَةٍ حَدَثَتْ بَعْدَ حَظْرٍ، وَلِأَنَّهُ اسْتَحْدَثَ استباحة يملك بَعْدَ عُمُومِ التَّحْرِيمِ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الِاسْتِبْرَاءُ كَالَّتِي اسْتَحْدَثَ مِلْكَهَا، وَخَالَفَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ تَحْرِيمِ الصَّائِمَةِ، وَالْحَائِضِ وَالْمُحْرِمَةِ، لِاخْتِصَاصِهِ بِتَحْرِيمِ الْوَطْءِ دُونَ دَوَاعِيهِ فِي الْحَائِضِ وَالصَّائِمَةِ وَالتَّلَذُّذِ بِالنَّظَرِ إلى المحرمة، وتحريم ما ذَكَرْنَاهُ عَامٌّ زَالَ بِهِ عُمُومُ الِاسْتِبَاحَةِ فَافْتَرَقَا، وَأَمَّا الْمَرْهُونَةُ فَلَا يَحْرُمُ مِنْهَا دَوَاعِي الْوَطْءِ مِنَ الْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِبَاحَةِ وَطْئِهَا إِذَا أُمِنَ حَمْلُهَا بِصِغَرٍ أَوْ إِيَاسٍ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يَجُوزُ وَطْؤُهَا.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ حَبَلَهَا غَيْرُ مَأْمُونٍ، فَكَانَ الْمَنْعُ لِأَجْلِ الْحَبَلِ إِلَّا لِتَحْرِيمِ الْوَطْءِ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ الْمُرْتَهِنُ فِي وَطْئِهَا جَازَ، وَلَوْ كَانَ مَحْظُورًا لَمْ يَجُزْ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا الْأَصْلُ تَفَرَّعَ عَلَيْهِ مَا سَنُوَضِّحُهُ فَمِنْ ذَلِكَ إِذَا اشْتَرَى أَمَةً مَجُوسِيَّةً وَاسْتَبْرَأَهَا ثُمَّ أَسْلَمَتْ فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا، لِأَنَّهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ مُحَرَّمَةٌ، وَبِالْإِسْلَامِ حَلَّتْ فَلَزِمَهُ الِاسْتِبْرَاءُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لِحُدُوثِ الْإِبَاحَةِ بَعْدَ الْحَظْرِ كَالْمُرْتَدَّةِ إِذَا أَسْلَمَتْ وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَمَةً وَيَسْتَبْرِئَهَا فَلَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا، فَأَمَّا اسْتِمْتَاعُ السَّيِّدِ بِهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ مِنْ ثَمَنِهَا، وَلَا مِنْ غَيْرِهِ وَقْتَ اسْتِبْرَائِهَا حَلَّ لِلسَّيِّدِ وَطْؤُهَا لِوُجُودِ الِاسْتِبْرَاءِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَالسَّيِّدُ مَمْنُوعٌ مِنْهَا مَعَ بَقَاءِ الدَّيْنِ، لِأَنَّ مَا بِيَدِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ كَالْمَرْهُونِ عَلَى دَيْنِهِ، فَإِذَا قَضَاهُ قَالَ أَصْحَابُنَا: هِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا، لِأَنَّهَا إِبَاحَةٌ حَدَثَتْ بَعْدَ حَظْرٍ، وَلَا تَعْتَدُّ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَعِنْدِي: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ اسْتِبْرَاءٌ، وتحل له بالاستبراء المتقدم لوجوده بعد استقرار الملك، وَأَنَّ الرَّهْنَ لَا يُوجِبُ الِاسْتِبْرَاءَ، وَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْهُ، فَأَمَّا إِذَا تَزَوَّجَ الْحُرُّ بِأَمَةٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا بَطَلَ نِكَاحُهَا، وَحَلَّتْ لَهُ بِالْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ، لِأَنَّهَا انْتَقَلَتْ مِنْ إِبَاحَةٍ بِزَوْجِيَّةٍ إِلَى إِبَاحَةٍ بِمِلْكٍ فَلَمْ يَتَخَلَّلْهَا حَظْرٌ فَلِذَلِكَ لَمْ تَسْتَبْرِئْ، وَلَكِنْ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَهَا بَعْدَ ابْتِيَاعِهَا لَمْ يَجُزْ إِلَّا بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا، وَبِمَاذَا يَكُونُ اسْتِبْرَاؤُهَا؟ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ السَّيِّدِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ وَطِئَهَا قَبْلَ ابْتِيَاعِهَا اسْتَبْرَأَتْ نَفْسَهَا بِقُرْءٍ وَاحِدٍ اسْتِبْرَاءَ

(11/353)


الْإِمَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ السَّيِّدُ قَدْ وَطِئَهَا بَعْدَ ابْتِيَاعِهَا اسْتَبْرَأَتْ نَفْسَهَا بِقُرْأَيْنِ عِدَّةَ أَمَةٍ، لِأَنَّهُ عَنْ وَطْءٍ فِي زَوْجِيَّةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب.

(11/354)


(كتاب مختصر ما يحرم من الرضاعة
من كتاب الرضاع ومن كتاب النكاح ومن أحكام القرآن)
(مسألة)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَنْ حَرُمَ مَعَ الْقَرَابَةِ {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخوانكم من الرضاعة} وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الْوِلَادَةِ " "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الرَّضَاعُ فَاسْمٌ لِمَصِّ الثَّدْيِ وَشُرْبِ اللَّبَنِ، وَقَدْ كَانَتْ حُرْمَتُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مُنْتَشِرَةً بَيْنَهُمْ وَمَرْعِيَّةً عِنْدَهُمْ، حَكَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ هَوَازِنَ لِمَا سُبِيَتْ وَغُنِمَتْ أَمْوَالُهُمْ لِحُنَيْنٍ قَدِمَتْ وُفُودُهُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُسْلِمِينَ فَقَامَ فِيهِمْ زُهَيْرُ بْنُ صُرَدٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّمَا فِي الْحَظَائِرِ عَمَّاتُكَ وَخَالَاتُكَ وَحَوَاضِنُكَ وَاللَّائِي كُنَّ يُرْضِعْنَكَ وَيَكْفُلْنَكَ وَلَوْ أنا ملحنا أَيْ أَرْضَعْنَا الْحَارِثَ بْنَ أَبِي شِمْرٍ، أَوِ النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ ثُمَّ نَزَلْنَا بِمِثْلِ مَنْزِلِنَا مِنْكَ رَجَوْنَا عَطْفَهُمَا وَفَائِدَتَهُمَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْكَافِلِينَ ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
(امْنُنْ عَلَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي كَرَمٍ ... فَإِنَّكَ الْمَرْءُ نَرْجُوهُ وَنَنْتَظِرُ)

(امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا ... إِذْ فُوكَ تَمْلَؤُهُ مِنْ مَحْضِهَا الدُّرَرُ)

(إِنْ لَمْ تدراكها نَعْمَاءُ نَسْتُرُهَا ... يَا أَرْجَحَ النَّاسِ حِلْمًا حِينَ يُخْتَبَرُ)

(إِنَّا لَنَشْكُرُ لِلنُّعْمَى وَإِنْ كُفِرَتْ ... وَعِنْدَنَا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ مُدَّخَرُ)

فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ أَمْ أَمْوَالُكُمْ فَقَالُوا: أَخَيَّرْتَنَا بَيْنَ أَمْوَالِنَا وَأَحْسَابِنَا بَلْ تَرُدُّ عَلَيْنَا أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا فَهُوَ أَحَبُّ إِلَيْنَا فَقَالَ: أَمَّا كَانَ لِي وَلِبَنِي هَاشِمٍ فَهُوَ لَكُمْ فَرَعَى لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حُرْمَةَ رِضَاعِهِ فِيهِمْ، وَجَرَى عَلَى مَعْهُودِ الْعَرَبِ مَعَهُمْ مِنْ إِثْبَاتٍ لِحُرْمَةِ النَّسَبِ، وَلَا حُكْمَ لِتَحْرِيمٍ وَلَا مُحَرَّمٍ ثُمَّ رَوَى أَبُو الطُّفَيْلِ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُقَسِّمُ لَحْمًا بِالْجِعْرَانَةِ إِذَا أَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ فَدَنَتْ إِلَيْهِ فَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ فَجَلَسَتْ عَلَيْهِ فَقُلْتُ مَنْ هَذِهِ؟ فَقَالُوا: أُمُّهُ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ.

(11/355)


فَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى أَنَّ الْمُرْضِعَةَ تَكُونُ أُمًّا.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: أَنَّهُ كَانَ فِي سَبْيِ هَوَازِنَ الشَّيْمَاءُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى أُخْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الرَّضَاعَةِ فَعِيفَ بِهَا حَتَّى انْتَهَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهي تقول: أنا أُخْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الرَّضَاعَةِ فَقَالَ، وَمَا عَلَامَةُ ذَلِكَ قَالَتْ عَضَّةٌ عَضِضْتَهَا فِي ظَهْرِي وَأَنَا مُتَوَرِّكَتُكَ فَعَرَفَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعَلَامَةَ وَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ وَأَجْلَسَهَا عَلَيْهِ وَخَيَّرَهَا بَيْنَ الْمُقَامِ عِنْدَهُ مُكَرَّمَةً أَوِ الرُّجُوعِ إِلَى قَوْمِهَا مُمَتَّعَةً، فَاخْتَارَتْ أَنْ يُمَتِّعَهَا وَتَرْجِعَ إِلَى قَوْمِهَا فَفَعَلَ.
فَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى أَنَّ بِنْتَ الْمُرْضِعَةِ أُخْتٌ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَثَبَتَ مِنْ هَذَيْنِ الْخَبِرَيْنِ أَنَّهَا كَالنَّسَبِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ النَّسَبِ إِلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مَا بَيَّنَ بِهِ حُكْمَ الرَّضَاعِ فِي تَحْرِيمِ الْمَنَاكِحِ تَعْظِيمًا لِحُرْمَتِهِ فَقَالَ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] إِلَى قَوْلِهِ {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ من الرضاعة} فَسَمَّى الْمُرْضِعَةَ أُمًّا وَبِنْتَهَا أُخْتًا تَأْكِيدًا، لِمَا تَقَدَّمَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنَ الِاسْمِ وَزِيَادَةً عَلَيْهَا فِي الْحُكْمِ وَحُرْمَتُهَا كَتَحْرِيمِ الْأُمِّ، لِأَنَّهَا أَصْلٌ فِي حِفْظِ حَيَاتِهِ كَمَا كَانَتِ الْوَالِدَةُ أَصْلًا فِي إِيجَادِهِ، وَصَارَتْ بِنْتُ الْمُرْضِعَةِ أُخْتًا كَمَا كَانَتْ بِنْتُ الْوَالِدَةِ أُخْتًا، وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِهِمَا فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ مَقْصُورًا عَلَيْهِمَا، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُتَعَدِّيًا عَنْهُمَا إِلَى السَّبْعِ الْمُحَرَّمَاتِ بِالْأَنْسَابِ، فَجَاءَتِ السُّنَّةُ بِبَيَانِ مَا أُرِيدَ بِالْكِتَابِ، فَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الْوِلَادَةِ ".
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ ابْنِ جُدْعَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ يُحَدِّثُ أَنَّ علي ابن أَبِي طَالِبٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لَكَ فِي بِنْتِ عَمِّكَ حَمْزَةَ فَإِنَّهَا أَجْمَلُ فَتَاةٍ فِي قُرَيْشٍ فَقَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ حَمْزَةَ أَخِي فِي الرَّضَاعَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا حَرَّمَ مِنَ النَّسَبِ.
فَدَلَّ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الرَّضَاعَةِ كَتَحْرِيمِ النَّسَبِ فَالَّذِي يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ النِّسَبِ حُكْمَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَحْرِيمُ الْمَنَاكِحِ لِذِكْرِهِ فِي آيَةِ التَّحْرِيمِ.
وَالثَّانِي: ثُبُوتُ الْمُحَرَّمِ فِي إِبَاحَةِ النَّظَرِ إِلَيْهَا وَالْخَلْوَةِ مَعَهَا.
رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ أَفْلَحَ أَخِي أَبِي الْقُعَيْسِ هَلْ يَدْخُلُ عَلَيْهَا؟ وَكَانَتِ امْرَأَةُ أَبِي قُعَيْسٍ قَدْ أَرْضَعَتْهَا فقال: " ليلج عليك، فإنه معك مِنَ الرَّضَاعَةِ)) ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَسْمَعُ صَوْتَ رَجُلٍ فِي مَنْزِلِكَ

(11/356)


عِنْدَ حَفْصَةَ فَقَالَ: أُرَاهُ عَمَّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ.
فَأَمَّا مَا عَدَا هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ مِنَ الْمِيرَاثِ وَالنَّفَقَةِ وَالْوِلَايَةِ وَالْحَضَانَةِ وَسُقُوطِ الْقَوَدِ، وَتَحَمُّلِ الْعَقْلِ وَالْعِتْقِ بِالْمِلْكِ وَالْمَنْعِ مِنَ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهُ مُخْتَصٌّ بالنسب دون الرضاعة وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى بِالْأُمِّ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ مِنَ النِّسَاءِ: الْوَالِدَةُ وَالْمُرْضِعَةُ وَأَزْوَاجُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَالْوَالِدَةُ مُسْتَوْجِبَةٌ لِجَمِيعِ أَحْكَامِ النَّسَبِ، وَالْمُرْضِعَةُ مَقْصُورَةٌ عَلَى حُكْمَيْنِ التَّحْرِيمِ وَالْمُحَرَّمِ وَفِي أَزْوَاجِ الرَّسُولِ وجهان:
أحدهما: يُشَارِكْنَ الْمُرْضِعَةَ فِي التَّحْرِيمِ وَالْمُحَرَّمَ.
وَالثَّانِي: يَنْفَرِدْنَ بالتحريم دون المحرم.

(مسألة)
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ أَنَّ لَبَنَ الْفَحْلِ يُحَرِّمُ كَمَا تُحَرِّمُ وِلَادَةُ الْأَبِ وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَأَرْضَعَتْ إِحْدَاهُمَا غُلَامًا وَالْأُخْرَى جَارِيَةً هَلْ يَتَزَوَّجُ الْغُلَامُ الْجَارِيَةَ؟ فَقَالَ لَا اللِّقَاحُ وَاحِدٌ وَقَالَ مِثْلَهُ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ فَبِهَذَا كُلِّهِ نَقُولُ فَكُلُّ مَا حَرُمَ بِالْوِلَادَةِ وَبِسَبَبِهَا حَرُمَ بِالرَّضَاعِ وَكَانَ بِهِ مِنْ ذَوِي الْمَحَارِمِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ اللَّبَنَ يَحْدُثُ بَعْدَ عُلُوقِ الْحَمْلِ لِيَكُونَ غِذَاءً لِلْوَلَدِ، فَإِذَا كَانَ الْمَوْلُودُ وَلَدًا لِلزَّوْجَيْنِ لِحُدُوثِهِ مِنْ مَائِهِمَا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرْتَضَعُ وَلَدًا لَهَا لِاغْتِذَائِهِ بِلَبَنِهَا، لِأَنَّ اللَّبَنَ تَابِعٌ لِلْمَاءِ، لِأَنَّ الْمَاءَ أَصْلُ خَلْقِهِ، وَاللَّبَنَ حَافِظٌ لِحَيَاتِهِ، وَإِذَا كان كذلك نظر في المولود، فإذا كان لاحقا بِالْوَاطِئِ لِكَوْنِهِ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ أَوْ شُبْهَةِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَبِعَهُ الْمُرْتَضَعُ فِي لَبَنِهِ فَكَانَ وَلَدَ رِضَاعٍ لِلْوَاطِئِ وَالْمُرْضِعَةِ وَإِنْ كَانَ الْمَوْلُودُ غَيْرَ لَاحِقٍ بِالْوَاطِئِ لِكَوْنِهِ مِنْ زِنًا صَرِيحٍ تَبِعَهُ الْمُرْضَعُ فِي انْتِفَائِهِ عَنِ الْوَاطِئِ، وَكَانَ وَلَدَ رِضَاعٍ لِلْمُرْضِعَةِ دُونَ الْوَاطِئِ فَيَصِيرُ الْمُرْتَضَعُ تَابِعًا لِلْمَوْلُودِ فِي لُحُوقِهِ وَانْتِفَائِهِ فَإِذَا أُلْحِقَا بِالزَّوْجِ الْوَاطِئِ فَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ إِنَّ لَبَنَ الْفَحْلِ يُحَرِّمُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ نُزُولَ اللَّبَنِ فِي ثَدْيٍ لَبَنٌ يُرْضِعُ بِهِ وَلَدًا فَيَصِيرُ وَلَدَهُ مِنَ الرَّضَاعِ، فَإِذَا أُلْحِقَ وَلَدُ الرَّضَّاعِ بِهِمَا انْتَشَرَتِ الْحُرْمَةُ مِنْ جِهَتِهِمَا إِلَيْهِ فَهِيَ عَامَّةٌ تَتَعَدَّى إِلَى كُلِّ مَنْ نَاسَبَهُمَا مِنَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ وَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ، فَتَكُونُ الْمُرْضِعَةُ أُمَّهُ وَأُمَّهَاتُهَا جَدَّاتِهِ لِأُمٍّ وَأَبَاؤُهَا أَجْدَادَهُ لِأُمٍّ وَإِخْوَتُهَا أَخْوَالَهُ، وَأَخَوَاتُهَا خَالَاتِهِ، وَأَوْلَادُهَا إِخْوَتَهُ، وَأَخَوَاتِهِ فَإِنْ كَانُوا مِنَ الزَّوْجِ فَهُمْ لِأَبٍّ وَأُمٍّ وَإِنْ كَانُوا مِنْهَا دُونَهُ، فَهُمْ لِأُمٍّ وَيَكُونُ الزَّوْجُ الْوَاطِئُ أَبَاهُ وَآبَاؤُهُ أَجْدَادَهُ لِأَبٍّ وَأُمَّهَاتُهُ جَدَّاتِهِ لِأَبٍّ، وَإِخْوَتُهُ أعمامه وأخواته عماته، وأولاد إِخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ، فَإِنْ كَانُوا مِنَ الْمُرْضِعَةِ فَهُمْ لِأَبٍّ وَأُمٍّ، وَإِنْ كَانُوا مِنْهَا دُونَهَا فَهُمْ لِأَبٍّ فَيَحْرُمُ مِنْ أَقَارِبِ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ من أقارب

(11/357)


النَّسَبِ، وَأَمَّا انْتِشَارُهَا مِنْ جِهَتِهِ إِلَيْهِمَا فَهِيَ مَقْصُورَةٌ عَلَيْهِ وَعَلَى وَلَدِهِ وَإِنْ سَفُلَ دُونَ مَنْ عَلَا مِنْ آبَائِهِ وَأُمَّهَاتِهِ، وَدُونَ مَنْ شَارَكَهُ فِي النِّسَبِ مِنْ إِخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ فَلَا يحرم آباؤه وأمهاته وَلَا أَخَوَاتُهُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ أَبَوَيِ الرَّضَاعِ، فَيَكُونُ انْتِشَارُ الْحُرْمَةِ مِنْ جِهَتِهِ أَخَصَّ، وَانْتِشَارُهَا مِنْ جِهَتِهِمَا أَعَمَّ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي عُمُومِ الْحُرْمَةِ مِنْ جِهَتِهِمَا وَخُصُوصِيَّتِهَا مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ أَنَّ اللَّبَنَ لَهُمَا دُونَهُ، وَفِعْلَ الرَّضَاعِ مِنْهُمَا لَا مِنْهُ، فَكَانَتْ جِهَتُهُمَا أَقْوَى فَعَمَّتِ الْحُرْمَةُ وَضَعُفَتْ مِنْ جِهَتِهِ فَخُصَّتِ الْحُرْمَةُ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُ الرَّضَّاعِ وَبِهِ يُعْتَبَرُ حُكْمَاهُ فِي التَّحْرِيمِ وَالْمُحَرَّمِ فَانْتِشَارُهُمَا مِنْ جِهَةِ الْمُرْضِعَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَانْتِشَارُهُمَا مِنْ جِهَةِ الْفَحْلِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ وَانْتِشَارَهَا مِنْ جِهَةِ الْفَحْلِ فِي التَّحْرِيمِ وَالْمُحَرَّمِ كَثُبُوتِهَا، وَانْتِشَارِهَا مِنْ جِهَةِ الْمُرْضِعَةِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّ الْفَحْلَ لَا يَنْتَشِرُ عَنْهُ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ، وَلَا يَثْبُتُ مِنْ جِهَتِهِ تَحْرِيمٌ وَلَا مُحَرَّمٌ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ الْمُرْتَضَعَةَ بِلَبَنِهِ وَكَذَلِكَ وَلَدُهُ مِنْ غَيْرِ الْمُرْضِعَةِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: ابْنُ عُمَرَ: وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ النَّخَعِيُّ، وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَالْأَصَمُّ وَابْنُ عُلَيَّةَ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّافِعِيُّ، وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ وَجَعَلَهُ دَاوُدُ مَقْصُورًا عَلَى الْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ) [النساء: 23] فَخَصَّهُمَا بِذِكْرِ التَّحْرِيمِ ثُمَّ قَالَ مِنْ بَعْدُ {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] فَدَلَّ عَلَى إِبَاحَةِ مَنْ عَدَاهُمَا وَادَّعَوْا فِي ذَلِكَ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ خَطَبَ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ مِنْ أُمِّهَا أُمِّ سَلَمَةَ، لِأَخِيهِ حَمْزَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَتْ كَيْفَ أُزَوِّجُهَا بِهِ وَهُوَ أَخُوهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ ذَاكَ لَوْ أَرْضَعَتْهَا الْكَلْبِيَّةُ، وَذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أَمُّهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، وَحَمْزَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أُمُّهُ الْكَلْبِيَّةُ، وَكَانَتْ أَسْمَاءُ قَدْ أَرْضَعَتْ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ فَصَارَتْ بِزَيْنَبَ أُخْتًا لِعَبْدِ اللَّهِ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، وَأُخْتًا لِحَمْزَةَ مِنْ أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ فَجَعَلَهَا عَبْدُ اللَّهِ أُخْتًا لِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْهَا أُخْتًا لِأَخِيهِ حَمْزَةَ، وَلَا جَعَلَ اللَّبَنَ لِأَبِيهِ الزُّبَيْرِ، وَقَالَ لِأُمِّ سَلَمَةَ: سَلِي الصَّحَابَةَ، فَسَأَلُوا، وَذَلِكَ فِي أَيَّامِ الْحِيرَةِ فَأَبَاحُوهَا لَهُ، وَقَالُوا: لَبَنُ الْفَحْلِ لَا يُحَرِّمُ فَزُوِّجَتْ بِهِ، وَكَانَتْ عِنْدَهُ إِلَى أَنْ مَاتَ

(11/358)


فَصَارَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّ الْفَحْلَ لَوْ نَزَلَ لَهُ لَبَنٌ فَأَرْضَعَ بِهِ وَلَدًا لَمْ يَصِرْ لَهُ أَبًا فَلِأَنْ لَا يَصِيرَ أَبًا لَهُ بِلَبَنِ غَيْرِهِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ اللَّبَنَ لَوْ كَانَ لَهُمَا لَكَانَ إِذَا أَرْضَعَتْ بِهِ وَلَدًا يَكُونُ أُجْرَةُ الرَّضَاعِ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا اخْتَصَّتِ الْمُرْضِعَةُ بِالْأُجْرَةِ دُونَ الْفَحْلِ دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّبَنَ لَهَا لَا لِلْفَحْلِ، وَلِأَنَّ الرَّضَاعَ لَمَّا اخْتُصَّ بِبَعْضِ أَحْكَامِ النَّسَبِ لِضَعْفِهِ وَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ بِالْمُرْضِعَةِ لِنَفْسِهِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلى قوله {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخوانكم مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] وَمِنَ الْآيَةِ دَلِيلَانِ، وَيَنْفَصِلُ بِهِمَا عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِهَا.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَصَّ عَلَى الْأُمَّهَاتِ تَنْبِيهًا عَلَى الْبَنَاتِ، وَنَصَّ عَلَى الْأَخَوَاتِ تَنْبِيهًا عَلَى الْخَالَاتِ وَالْعَمَّاتِ اكْتِفَاءً بِمَا تقدم تفصيله.
والثاني: أن قوله " وأخواتكم " عُمُومٌ يَتَنَاوَلُ الْأَخَوَاتِ مِنَ الْأُمِّ وَالْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبِ فَلَمْ يَقْتَضِ الظَّاهِرُ تَخْصِيصَ أَحَدِهِمَا، فَقَالَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، وَتَحْرِيمُ النَّسَبِ عَامٌّ فِي جِهَةِ الْأَبَوَيْنِ فَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ.
وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ دَخَلَ عَلَيَّ أَفْلَحُ أَخُو أَبِي قُعَيْسٍ بَعْدَ مَا نَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ، فَاسْتَتَرْتُ مِنْهُ فَقَالَ: تَسْتَتِرِينَ مِنِّي وَأَنَا عَمُّكِ، فَقَالَتْ مِنْ أَيْنَ فَقَالَ أَرْضَعَتْكِ امْرَأَةُ أَخِي فَقَالَتْ: إِنَّمَا أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةٌ وَلَمْ يُرْضِعْنِي رَجُلٌ، فَدَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَحَدَّثَهُ فَقَالَ: إِنَّهُ عَمُّكِ فَلْيَلِجْ عَلَيْكِ.
وَهَذَا نَصٌّ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ مَنْ حَرُمَ بِالنَّسَبِ حَرُمَ بِالرَّضَاعِ كَالْأُمِّ، وَهَذَا مِمَّا وَافَقَ فِيهِ لَفْظُ السُّنَّةِ مَعْنَاهَا، وَلِأَنَّ الْمَوْلُودَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهِمَا، فَكَانَ الْوَلَدُ لَهُمَا وَإِنْ بَاشَرَتِ الْأُمُّ وِلَادَتَهُ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ اللَّبَنُ الْحَادِثُ عَنْهُ لَهُمَا، وَإِنْ بَاشَرَتِ الْأُمُّ رِضَاعَهُ، وَإِذَا كَانَ اللَّبَنُ لَهُمَا وَجَبَ أَنْ تَنْتَشِرَ حُرْمَتُهُ إِلَيْهِمَا وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَبَّهُ الرَّضَاعَ فِي التَّحْرِيمِ بِالنَّسَبِ، وَأَحْكَامُ النَّسَبِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَخْتَصُّ بِعَمُودَيِ النَّسَبِ الْأَعْلَى وَهُمُ الْوَالِدَانِ وَالْأَسْفَلُ وَهُمُ الْمَوْلُودُونَ وَلَا يَتَجَاوَزُهُمَا إِلَى مَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِمَا، وَذَلِكَ وُجُوبُ النَّفَقَةِ وَسُقُوطُ الْقَوَدِ وَالْعِتْقُ بِالْمِلْكِ وَالْمَنْعُ مِنَ الشَّهَادَةِ.
وَقِسْمٌ يَخْتَصُّ بِالنَّسَبِ إِلَى حَيْثُ مَا انْتَشَرَ وَتَفَرَّعَ وَذَلِكَ الْمِيرَاثُ.
وَقِسْمٌ يَخْتَصُّ بِذِي الرَّحِمِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَذَلِكَ تَحْرِيمُ الْمَنَاكِحِ.
فَلَمَّا لَمْ يَلْحَقِ الرَّضَاعُ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ فِي اخْتِصَاصِهِ بِعَمُودَيِ النَّسَبِ لِتَحْرِيمِ الْأَخَوَاتِ، وَلَمْ يَلْحَقْ بِالْقِسْمِ الثَّانِي فِي اخْتِصَاصِهِ بِمَا تَفَرَّعَ عَلَى النَّسَبِ لِإِبَاحَةِ بَنَاتِ

(11/359)


الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ ثَبَتَ لُحُوقُهُ بِالْقِسْمِ الثَّالِثِ فِي اخْتِصَاصِهِ بِذِي الرَّحِمِ وَالْمُحَرَّمِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ ادِّعَائِهِمُ الْإِجْمَاعَ فَقَدْ خَالَفَ فِيهِ عَلِيٌّ وَابْنُ عباس رضي الله تعالى عنهما وَمَعَ خِلَافِهِمَا يَبْطُلُ الْإِجْمَاعُ مَعَ كَوْنِ الْقِيَاسِ مَعَهُمَا بِهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ بِأَنَّ الْفَحْلَ لَوْ أُرْضِعَ بِلَبَنِهِ لَمْ يَحْرُمْ، فَهُوَ أَنَّهُ لَبَنٌ لَمْ يُخْلَقْ مِنْهُ الْمَوْلُودُ فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَعَلَّقْ عَلَيْهِ التَّحْرِيمُ، وَجَرَى مَجْرَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَلْبَانِ وَالْأَغْذِيَةِ، وَخَالَفَ فِيهِ لَبَنَ الْمَرْأَةِ الْمَخْلُوقَ لِغِذَاءِ الْمَوْلُودِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ كَانَ اللَّبَنُ لَهُمَا لَكَانَتْ أُجْرَةُ الرَّضَاعِ بَيْنَهُمَا فَهُوَ أَنَّ أَصْحَابَنَا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي أُجْرَةِ الرَّضَاعِ إِلَى مَاذَا يَنْصَرِفُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِلَى الْحَضَانَةِ وَالرَّضَاعُ تَبَعٌ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِلَى اللَّبَنِ وَالْحَضَانَةُ تَبَعٌ، فَعَلَى هَذَا الْأُجْرَةُ مَأْخُوذَةٌ عَلَى فِعْلِ الرَّضَاعِ، لِأَنَّهُ مُشَاهَدٌ مَعْلُومٌ، وَلَيْسَتْ مَأْخُوذَةً ثَمَنًا لِلَّبَنِ لِلْجَهَالَةِ بِهِ وَفَقْدِ رُؤْيَتِهِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ جَعَلَهَا ثَمَنًا لِلَّبَنِ، وَجَعَلَهَا أَحَقَّ بِهِ، وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي سَبَبِهِ، لِأَنَّهَا مُبَاشِرَةٌ كَرَجُلَيْنِ اشْتَرَكَا فِي حَفْرِ بِئْرٍ فَاسْتَقَى أَحَدُهُمَا مِنْ مَائِهَا كَانَ أَحَقَّ بِمَا اسْتَقَاهُ لِمُبَاشَرَتِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ اخْتِصَاصَهُ بِبَعْضِ أَحْكَامِ النَّسَبِ لِضَعْفِهِ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُ بِبَعْضِ جِهَاتِهِ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا شَارَكَ النَّسَبَ فِي التَّحْرِيمِ وَجَبَ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي غَيْرِ التَّحْرِيمِ وَيَغْلُبُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَيْهِمْ فَيُقَالُ لَهُمْ: لَمَّا كَانَ الْمُرْتَضَعُ مُوَافِقًا لِلْمَوْلُودِ فِي الرَّضَاعِ وَمُفَارِقًا لَهُ فِي الْوِلَادَةِ اقْتَضَى أَنْ يُسْلَبَ بِفَقْدِ النَّسَبِ الْوَاحِدِ مَا تَعَلَّقَ لسبب واحد والله أعلم.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالرَّضَاعُ اسْمٌ جَامِعٌ يَقَعُ عَلَى الْمَصَّةِ وَأَكْثَرَ إِلَى كَمَالِ الْحَوْلَيْنِ وَعَلَى كُلِّ رِضَاعٍ بَعْدَ الحولين فوجب طلب الدلالة في ذلك وقالت عائشة رضي الله عنها كَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ " عشر رضعات معلومات يحرمن " ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهن مما يقرأ من القرآن فكان لا يدخل عليها إلا من استكمل خمس رضعات وعن ابن الزبير قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ وَلَا الرَّضْعَةُ ولا الرضعتان " (قال المزني) رحمه الله قلت للشافعي أفسمع ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال نعم وحفظ عنه وكان يوم سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ابن تسع سنين وعن عروة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمر امرأة أبي حذيفة أن ترضع سالماً خمس رضعات فتحرم بهن (قال) فدل ما وصفت أن الذي يحرم من الرضاع خمس رضعات كما جاء القرآن بقطع السارق فدل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه أراد بعض الشارقين دون بعض

(11/360)


وكذلك أبان أن المراد بمائة جلدة بعض الزناة دون بعض لا من لزمه اسم سرقة وزناً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَدْرِ مَا ثَبَتَ بِهِ تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ تحريم الرضاع إلى بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ وَلَا يَثْبُتُ بِمَا دُونَهُمَا.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَائِشَةُ.
وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَطَاوُسٌ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ.
وَقَالَ دَاوُدُ: مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ إِنَّهُ يَثْبُتُ تَحْرِيمُهُ بِثَلَاثِ رَضَعَاتٍ.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَبُو ثَوْرٍ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّهُ يَثْبُتُ تَحْرِيمُهُ بِرَضْعَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] فَحَرَّمَ أُمًّا أَرْضَعَتْ، وَالَّتِي أَرْضَعَتْهُ مَرَّةً وَاحِدَةً يَقَعُ هَذَا الِاسْمُ عَلَيْهَا، فَوَجَبَ أَنْ تَحْرُمَ، وَبِهَذَا احْتَجَّ ابْنُ عُمَرَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ حِينَ قَالَ: لَا تَحْرُمُ إِلَّا بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ، فَقَالَ كِتَابُ اللَّهِ أَوْلَى مِنْ قَضَاءِ ابْنِ الزبير، بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ يَعْنِي مَا سَدَّ الْجَوْعَةَ وَالرَّضْعَةُ الْوَاحِدَةُ تَسُدُّ الْجَوْعَةَ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " إِنَّ اللِّهَ تَعَالَى حَرَّمَ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا حَرَّمَ مِنَ النَّسَبِ " وَتَحْرِيمُ النَّسَبِ لَا يُرَاعَى فِيهِ الْعَدَدُ فَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ.
وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّ مَا وَقَعَ بِهِ التَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْعَدَدُ كَالْوَطْءِ، وَعَقْدِ النِّكَاحِ، وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالشُّرْبِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِيهِ الْعَدَدُ كَحَدِّ الْخَمْرِ، وَلِأَنَّ الْوَاصِلَ إِلَى الْجَوْفِ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْفِطْرُ تَارَةً وتحريم الرضاع أخرى، فلما لم يتعبر الْعَدَدُ فِي الْفِطْرِ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي الرَّضَاعِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -

(11/361)


قَالَ: " لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ وَلَا الرَّضْعَةُ وَلَا الرَّضْعَتَانِ ".
وَرَوَى أَيُّوبُ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لا يحرم المصة ولا المصتان، فَرَوَى عَنْ عَائِشَةَ مَا سَمِعَ مِنْهَا.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا سَمِعَهُ مِنْهُ.
قَالَ الْمُزَنِيُّ: قُلْتُ لِلشَّافِعِيِّ أَسَمِعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: نَعَمْ سَمِعَ مِنْهُ وَلَهُ تِسْعُ سِنِينَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلِابْنِ الزُّبَيْرِ تِسْعُ سِنِينَ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ وُلِدَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ مِنْ أَوْلَادِ الْمُهَاجِرِينَ بَعْدَ سَنَةٍ مِنْ قُدُومِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَدِينَةَ وَمَنْ لَهُ تِسْعُ سِنِينَ قَدْ يَضْبِطُ مَا يَسْمَعُهُ وَيَصِحُّ نَقْلُهُ وَرِوَايَتُهُ.
وَرَوَتْ أُمُّ الْفَضْلِ قَالَتْ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ تَزَوَّجْتُ امْرَأَتِي، وَعِنْدِي أُخْرَى، وَقَدْ ذَكَرَتِ الْأُولَى أَنَّهَا أَرْضَعَتِ الْحُدْثَى رَضْعَةً أَوْ رَضْعَتَيْنِ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا تُحَرِّمُ الْإِمْلَاجَةُ أَوِ الْإِمْلَاجَتَانِ.
وَقِيلَ: إِنَّ الإملاجة مأخوذة من ملج يملج إذا استحلب اللَّبَنَ مِنَ الثَّدْيِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الثَّلَاثَةِ نُصُوصٌ فِي أَنَّ الرَّضْعَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تُحَرِّمُ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا لَمْ تُحَرِّمْ إِذَا لَمْ تَصِلْ إِلَى الْجَوْفِ بَعْدَ الْحِلَابِ أَوْ بَعْدَ مَصِّهَا مِنَ الثَّدْيِ فَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الرَّضْعَةَ لَا تَنْطَلِقُ إِلَّا عَلَى مَا وَصَلَ إِلَى الْجَوْفِ بِالْمَصِّ وَالِازْدِرَادِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَخْصِيصٌ يُسْقِطُ فَائِدَةَ الْخَبَرِ، لِأَنَّهُ فَرَّقَ فِيمَا لَمْ يَصِلْ إِلَى الْجَوْفِ بَيْنَ رَضْعَتَيْنِ وَبَيْنَ مِائَةِ رَضْعَةٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى عُمُومِ الْأَمْرَيْنِ فِيمَا وَصَلَ إِلَى الْجَوْفِ وَفِيمَا لَمْ يَصِلْ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ كَانَ نُطْقُهُ حُجَّةً عَلَيْنَا فَإِنَّ دَلِيلَهُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ، لِأَنَّ نُطْقَهُ أَنَّ الرَّضْعَتَيْنِ لَا تُحَرِّمَانِ، وَدَلِيلُهُ أَنَّ الثَّلَاثَةَ تُحَرِّمُ وَأَنْتُمْ لَا تُحَرِّمُونَ إِلَّا بِخَمْسٍ، فَصَارَ مَذْهَبُكُمْ مَدْفُوعًا بِدَلِيلِهِ كَمَا دَفَعْتُمْ مَذْهَبَنَا بِنُطْقِهِ.
قِيلَ قَدْ صَحَّ بِهِ بُطْلَانُ مَذْهَبِكُمْ، وَلَوْ تَرَكَنَا وَدَلِيلَ نُطْقِهِ صِرْنَا إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمِ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ عِنْدَكُمْ لَكِنْ يَمْنَعُ مِنْهُ مَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ نَصٍّ مَنْطُوقٍ بِهِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ كَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ تُحَرِّمُ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُنَّ مِمَّا يُقْرَأُ فِي الْقُرْآنِ، فَلَمَّا أَخْبَرَتْ أَنَّ التَّحْرِيمَ بِالْعَشَرِ مَنْسُوخٌ بِالْخَمْسِ دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ بِالْخَمْسِ، لِأَنَّهَا دُونَهَا وَلَوْ

(11/362)


وَقَعَ التَّحْرِيمُ بِأَقَلَّ مِنْهَا بَطَلَ أَنْ تَكُونَ الخمس ناسخاً، وصار منسوخاً كالعشر وهذا خلال النَّصِّ وَمُسْقِطٌ لِتَعَدِّي الْخَمْسِ.
وَاعْتَرَضُوا عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ قَالُوا فِيهِ إِثْبَاتٌ لِذَلِكَ مِنَ الْقُرْآنِ وَهُوَ خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّكُمْ أَثْبَتُّمُ الْقُرْآنَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالْقُرْآنُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِأَخْبَارِ التَّوَاتُرِ وَالِاسْتِفَاضَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنَ القرآن لكان مثبتاً في المصحف متلو فِي الْمَحَارِيبِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّا أَثْبَتْنَاهُ مِنَ الْقُرْآنِ حُكْمًا لَا تِلَاوَةً وَرَسْمًا وَالْأَحْكَامُ تَثْبُتُ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ سَوَاءٌ أُضِيفَتْ إِلَى السُّنَّةِ، أَوْ إِلَى الْقُرْآنِ كَمَا أَثْبَتُوا بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ " فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ " حُكْمَ التَّتَابُعِ، وَإِنْ لَمْ يَكْتُبُوا تِلَاوَتَهُ فَإِنِ اسْتَفَاضَ نَقْلُهُ ثَبَتَ بِالِاسْتِفَاضَةِ تِلَاوَتُهُ وَحُكْمُهُ.
وَمِثَالُهُ مَا نَقُولُ فِي السَّرِقَةِ إِذَا شَهِدَ بِهَا شَاهِدَانِ ثَبَتَ الْمَالُ وَالْقَطْعُ، وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ ثَبَتَ الْمَالُ، وَلَمْ يَثْبُتِ الْقَطْعُ، لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْقَطْعِ مَفْقُودَةٌ وَبَيِّنَةَ الْمَالِ مَوْجُودَةٌ كَذَلِكَ خَبَرُ الِاسْتِفَاضَةِ بَيِّنَةٌ فِي إِثْبَاتِ التِّلَاوَةِ، وَالْحُكْمُ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ بَيِّنَةٌ فِي إِثْبَاتِ الْحُكْمِ دُونَ التِّلَاوَةِ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا مَنْسُوخُ التِّلَاوَةِ ثَابِتُ الْحُكْمِ فَكَانَ وُرُودُهُ بِالِاسْتِفَاضَةِ وَالْآحَادِ سَوَاءً فِي إِثْبَاتِ حُكْمِهِ، وَسُقُوطِ تِلَاوَتِهِ كَالَّذِي رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ كَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ " وَالشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ " وَلَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عَمَرُ فِي الْقُرْآنِ لَكَتَبْتُهَا فِي حَاشِيَةِ الْمُصْحَفِ، وَلَوْ كَانَتْ مِنَ الْمَتْلُوِّ لَكَتَبْتُهَا مَعَ الْمَرْسُومِ الْمَتْلُوِّ وَإِنَّمَا أراد بكتبتها في الحاشية، لأن لا يَنْسَاهَا النَّاسُ ثُمَّ لَمْ يَفْعَلْ لِئَلَّا تَصِيرَ مَتْلُوَّةً، لِأَنَّ الْمَنْسُوخَ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
قِسْمٌ نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ وَحُكْمُهُ كَالَّذِي رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَامَ فِي اللَّيْلِ لِيَقْرَأَ سُورَةً فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا ثُمَّ سَأَلَ آخَرَ عَلَيْهَا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا فَأَتَى جَمِيعُهُمْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّهَا رُفِعَتِ اللَّيْلَةَ مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا نُسِخَ حُكْمُهُ وَبَقِيَتْ تِلَاوَتُهُ كَالْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالِاعْتِدَادِ بِالْحَوْلِ.

(11/363)


وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ، وَبَقِيَ حُكْمُهُ كَالْمَرْوِيِّ عَنْ عُمَرَ فِي الرَّجْمِ، وَعَنْ عَائِشَةَ فِي الرَّضَاعِ.
وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْعَشْرَ نُسِخْنَ بالخمس، إنما هما جميعاً بالسنة إلا بِالْقُرْآنِ وَإِنَّمَا أَضَافَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ إِلَى الْقُرْآنِ لِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ كَالَّذِي رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَتْ لَهُ: امْرَأَةٌ مَا وَجَدْتُ هَذَا فِي الْكِتَابِ فَقَالَ: أَلَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وَمِثْلُهُ مَا حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ سَأَلَنِي عَنْ شَيْءٍ أَخْبَرْتُهُ مِنَ الْقُرْآنِ، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ مُحْرِمٍ قَتَلَ زُنْبُورًا فَقَالَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: فَأَيْنَ هَذَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَقَالَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وَقَالَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اقتدوا بالذين مِنْ بَعْدِي أَيْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَسُئِلَ عَنْ مُحْرِمٍ قَتَلَ زُنْبُورًا، فَقَالَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَالِاعْتِرَاضُ الثَّانِي: إِنْ قَالُوا فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ فِي صَحِيفَةٍ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَشَاغَلْنَا بِغَسْلِهِ فَدَخَلَ دَاجِنُ الْحَيِّ فَأَكَلَهَا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ قُرْآنًا كَانَ مَحْرُوسًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] فَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الَّذِي أَكَلَهُ دَاجِنُ الْحَيِّ رَضَاعُ الْكَبِيرِ وَحُكْمُهُ مَنْسُوخٌ.
وَالثَّانِي: أنه العشر منسوخ بالخمسن وَذَلِكَ غَيْرُ صَائِرٍ لِأَنَّهُ مَحْفُوظٌ فِي صُدُورِ الرِّجَالِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَاجِيلُ أُمَّتِي فِي صُدُورِهَا، وَلَوْ أُكِلَتْ مَصَاحِفُ الْعُمْرِ كُلُّهَا، لَمْ تُؤَثِّرْ فِي الْقُرْآنِ لِحِفْظِهِ فِي الصُّدُورِ.
وَالِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ: إِنْ قَالُوا هَذَا إِثْبَاتٌ نُسِخَ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَنَّهَا قَالَتْ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُنَّ مِمَّنْ يُقْرَأُ فِي الْقُرْآنِ، وَبِهَذَا لَا يَجُوزُ وَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا رَوَتْ بَعْدَ الرَّسُولِ نَسْخًا كَانَ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ وَقَوْلُهَا كَانَ مِمَّا يُقْرَأُ أَيْ مِمَّا يُعْمَلُ بِهِ.
والثاني: أنه كان يقرأ بعد رسول لِإِثْبَاتِ حُكْمِهِ لَا لِإِثْبَاتِ تِلَاوَتِهِ، فَلِمَا ثَبَتَ حُكْمُهُ تُرِكَتْ تِلَاوَتُهُ.
وَالِاعْتِرَاضُ الرَّابِعُ: أَنَّ فِيهِ إِثْبَاتَ نَسْخٍ بِخَبَرِ وَاحِدٍ، وَالنَّسْخُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِإِخْبَارِ التَّوَاتُرِ، وَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الطَّرِيقَ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا خَبَرُ الْمَنْسُوخِ ثَبَتَ بِهَا خَبَرُ النَّاسِخِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ حُجَّةً فِي إِثْبَاتِ الْمَنْسُوخِ دُونَ النَّاسِخِ.

(11/364)


وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ نَسْخًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَإِنَّمَا هُوَ نَقْلُ نَسْخٍ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَنَقْلُ النَّسْخِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ فَعَلِمَتْ عَائِشَةُ الْعَشْرَ وَنَسْخَهَا بِالْخَمْسِ فَرَوَتْهَا وَرَجَعَتْ إِلَى الْخَمْسِ، وَعَلِمَتْ حَفْصَةُ الْعَشْرَ، وَلَمْ تَعْلَمْ نَسْخَهَا بِالْخَمْسِ فَبَقِيَتْ عَلَى الْحُكْمِ الْأَوَّلِ فِي تَحْرِيمِ الرَّضَاعِ بِالْعَشْرِ دُونَ الْخَمْسِ، وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو كَانْتَ زَوْجَةَ أَبِي حُذَيْفَةَ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنْ سَالِمًا كُنَّا نَرَاهُ وَلَدًا، وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيٌّ وَأَنَا فُضُلٌ وَقَدْ نَزَلَ مِنَ التَّبَنِّي وَالْحِجَابِ مَا قَدْ عَلِمْتَ فَمَاذَا تُرَانِي، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَرَضِعِيهِ خَمْسًا يَحْرُمُ بِهِنَّ عَلَيْكِ "، وَمِنْهُ دَلِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ " يَحْرُمُ بِهِنَّ عَلَيْكِ " فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْرُمَ بِمَا دُونَهَا لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ حُكْمِهِ فِي وُقُوعِ التَّحْرِيمِ بِالْخَمْسِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ رَضَاعَ سَالِمٍ حَالُ ضَرُورَةٍ يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ عَلَى مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ وَلَوْ وَقَعَ التَّحْرِيمُ بِأَقَلَّ مِنْهَا لَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، فَإِنْ قَالُوا: هَذَا وَارِدٌ فِي رَضَاعِ الْكَبِيرِ وَرِضَاعُهُ مَنْسُوخٌ فَلَمْ يَجُزِ التَّعَلُّقُ بِهِ، فَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى حُكْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ رَضَاعُ الْكَبِيرِ.
وَالثَّانِي: عَدَدُ مَا يَقَعُ بِهِ التَّحْرِيمُ، وَنَسْخُ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ، لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْآخَرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} [النساء: 15] فَاشْتَمَلَتْ عَلَى حُكْمَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: عَدَدُ الْبَيِّنَةِ فِي الزِّنَا.
وَالثَّانِي: إِمْسَاكُهُنَّ فِي الْبُيُوتِ إِلَى الْمَوْتِ حَدًّا فِي الزِّنَا ثُمَّ نُسِخَ هَذَا الْحَدُّ، وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ سُقُوطَ عَدَدِ الْبَيِّنَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ حُرِّمَ عِنْدَ جَوَازِ التَّبَنِّي، لِأَنَّ سَلَمَةَ وَأَبَا حُذَيْفَةَ تَبَنَّيَا سَالِمًا، وَكَانَ التَّبَنِّي مُبَاحًا، وَكَانَا يَرَيَانِ سَالِمًا وَلَدًا فَلَمَّا حُرِّمَ التَّبَنِّي، وَنَزَلَ الْحِجَابُ حَرَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالرَّضَاعِ عَنْ تَبَنِّيهِ الْمُبَاحِ لِيَعُودَ بِهِ إِلَى التَّبَنِّي الْأَوَّلِ فَلَمَّا نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى حُكْمَ التَّبَنِّي بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عند الله فإن لم تعلموا آبائهم فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5] سَقَطَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ رَضَاعِ الْكَبِيرِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا تَعَلَّقَ بِسَبَبٍ ثَبَتَ بِوُجُودِهِ وَسَقَطَ بِعَدَمِهِ فَصَارَ رَضَاعُ الْكَبِيرِ غَيْرَ

(11/365)


مُحَرِّمٍ لِعَدَمِ سَبَبِهِ لَا لِنَسْخِهِ، وَقَدْ جَاءَ الشَّرْعُ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا فَسْخُ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ أَمَرَ بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْدَ نُفُورِهِمْ مِنَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. فَأَمَرَهُمْ بِفَسْخِ الْحَجِّ بِالْعُمْرَةِ، وَهَذَا أَعْظَمُ مِنِ اسْتِئْنَافِ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ، وَلِيَزُولَ مِنْ نُفُوسِهِمْ مَا اسْتَنْكَرُوهُ فَلَا يَنْفُرُوا مِنْهُ وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ زَالَ لِاسْتِقْرَارِهِ فِي النُّفُوسِ فَزَالَ بِهِ فَسْخُ الْحَجِّ، لَوْ لَمْ يُحْكَمْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا دَاوُدُ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي أَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِثَلَاثَةِ مَعَانٍ فَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَلَا الرَّضْعَتَانِ " فَكَانَ دَلِيلُهُ أَنَّ الثَّالِثَةَ تُحَرِّمُ وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَخْبَارِ فِي تَعْلِيقِ التَّحْرِيمِ بِالْخَمْسِ مَا يَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِ التَّحْرِيمِ بِمَا دُونَ الْخَمْسِ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَلَا الرَّضْعَتَانِ " مَدْفُوعُ الدَّلِيلِ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنَ النَّصِّ، وَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ " وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَوَازَ الرِّبَا فِي النَّقْدِ، ثُمَّ هُوَ مَدْفُوعٌ بِالنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِيهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَلَا الرَّضْعَتَانِ " جَارِيًا عَلَى السؤال عن ذلك، وقد روايناه عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكَذَلِكَ أَبَانَ أَنَّ الْمُرَادَ بِتَحْرِيمِ الرَّضَاعِ بَعْضُ الْمُرْضِعِينَ دُونَ بَعْضٍ وَاحْتَجَّ فِيمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِسَهْلَةَ بِنْتِ سُهَيْلٍ لَمَّا قَالَتْ لَهُ كُنَّا نَرَى سَالِمًا وَلَدًا وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيَّ وَأَنَا فَضْلٌ وَلَيْسَ لَنَا إِلَّا بَيْتٌ وَاحِدٌ فَمَاذَا تَأْمُرِنِي فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا بَلَغَنَا " أَرْضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فَيَحْرُمُ بِلَبَنِهَا " فَفَعَلَتْ فَكَانَتْ تَرَاهُ ابنا من الرضاعة فأخذت بذلك عائشة رضي الله عنها فيمن أحبت أن يدخل عليها من الرجال وأبى سائر أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحد من الناس وقلن ما نرى الذي أمر به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إلا رخصة في سالم وحده وروى الشافعي رحمه الله أن أم سلمة قالت في الحديث هو لسالم خاصة (قال الشافعي) رحمه الله تعالى فإذا كان خاصا فالخاص مخرج من العام والدليل على ذلك قول الله جل ثناؤه {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} فجعل الحولين غاية وما جعل له غاية فالحكم بعد مضي الغاية خلاف الحكم قبل الغاية كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} فإذا مضت الأقراء فحكمهن بعد مضيها خلاف حكمهن فيها (قَالَ الْمُزَنِيُّ) وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عِنْدِي عَلَى نَفْيِ الْوَلَدِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ بِتَأْقِيتِ حَمْلِهِ وفصاله ثلاثين شهراً كما نفى توقيت حولين الرضاع لأكثر من الحولين (قال الشافعي) رحمه الله تعالى وكان عمر رضي الله عنه لا يرى رضاع الكبير يحرم وابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما وقال

(11/366)


أبو هريرة رضي الله عنه لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ لَا يُحَرِّمُ وَقَالَتْ عَائِشَةُ: رَضَاعُ الْكَبِيرِ يُحَرِّمُ كَرِضَاعِ الصَّغِيرِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ احْتِجَاجًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَسَهْلَةَ بِنْتِ سُهَيْلٍ أَرَضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ يَحْرُمُ بِهِنَّ عَلَيْكِ، وَكَانَ سَالِمٌ كَبِيرًا، وَكَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا إِذَا أَحَبَّتْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا مِنَ الرِّجَالِ أَحَدٌ أَمَرَتْ أُخْتَهَا أُمَّ كُلْثُومٍ أَوْ غَيْرَهَا مِنْ بَنَاتِ إِخْوَتِهَا وَبَنَاتِ أَخَوَاتِهَا أَنْ تُرْضِعَهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ يَصِيرُ بِهِنَّ مُحَرَّمًا، وَخَالَفَتْهَا أُمُّ سَلَمَةَ، وَسَائِرُ أَزْوَاجِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ذَلِكَ قُلْنَ مَا نَرَى رَضَاعَ الْكَبِيرِ إِلَّا رُخْصَةً فِي سَالِمٍ وَحْدَهُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ لَا يُحَرِّمُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) [البقرة: 223] فَجُعِلَ تَمَامُ الرَّضَاعِ فِي الشَّرْعِ مُقَدَّرًا بِحَوْلَيْنِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ فِي الشَّرْعِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ مُخَالِفًا لِحُكْمِهِ فِي الْحَوْلَيْنِ، وَحُكْمُهُ فِي الشَّرْعِ هُوَ التَّحْرِيمُ.
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَا رَضَاعَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ نَفْيًا لِتَحْرِيمِهِ لَا لِجَوَازِهِ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لَا رَضَاعَ بَعْدَ فِطَامٍ، يَعْنِي لا تحرم رَضَاعٌ بَعْدَ انْقِضَاءِ زَمَانِهِ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ وَمَا سَدَّ الْجَوْعَةَ وَالْكَبِيرُ لَا يَسُدُّ الرَّضَاعُ جَوْعَتَهُ فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ فِيهِ حُكْمٌ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " الرَّضَاعُ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ العظم وروى الرضاعة ما فتقت الأمعاء وأثبتت اللَّحْمَ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الصَّغِيرِ، وَقَدْ مَضَى الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ سَالِمٍ فِي اخْتِصَاصِهِ بِالرَّضَاعِ فِي الْكَبِيرِ دُونَ الصَّغِيرِ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ تَحْرِيمَ الرَّضَاعَ مُخْتَصٌّ بِالصَّغِيرِ دُونَ الْكَبِيرِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَدِّ تَحْرِيمِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مُحَدَّدٌ بِحَوْلَيْنِ، فَإِنْ وُجِدَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ بِيَوْمٍ لَمْ يُحَرِّمْ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: مَا قَالَهُ مَالِكٌ فِي إِحْدَى رِوَايَاتِهِ إِنَّهُ يُحَرِّمُ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ بِشَهْرٍ فَجَعَلَ زَمَانَهُ مُحَدَّدًا بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا.

(11/367)


وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ إِنَّهُ يُحَرِّمُ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَجَعَلَ زَمَانَهُ مُحَدَّدًا بِثَلَاثِينَ شَهْرًا
وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: مَا قَالَهُ زُفَرُ بْنُ الْهُذَيْلِ أَنَّهُ يُحَرِّمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ مُحَدَّدَةٍ بِسِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قول الله تعالى {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} [النساء: 23] ويقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ " وَلِأَنَّهَا مَنْ يُعْتَدُّ فِيهَا بِالرَّضَاعِ فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ فِيهَا التَّحْرِيمُ كَالْحَوْلَيْنِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] وَمَا حُدَّ فِي الشَّرْعِ إِلَى غَايَةٍ كَانَ مَا عَدَاهَا بِخِلَافِهَا كَالْأَقْرَاءِ، وَهَذِهِ دَلَالَةُ الشَّافِعِيِّ.
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا رَضَاعَ بَعْدَ فِصَالٍ " وَالْفِصَالُ فِي الْحَوْلَيْنِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ أَقَلَّ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْبَاقِيَ هُوَ الْفِصَالُ، وَلِأَنَّهُ حَوْلٌ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الرَّضَاعِ فِي آخِرِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ حُكْمُهُ فِي أَوَّلِهِ كَالْحَوْلِ الرَّابِعِ طَرْدًا، وَالثَّانِي عَكْسًا، وَلِأَنَّ الْحَدَّ إِذَا عُلِّقَ بِالْحَوْلِ وَلَمْ يَبْلُغْ بِهِ الْكَمَالَ قُطِعَ عَلَى التَّمَامِ كَالْحَوْلِ فِي الزَّكَاةِ.
فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِعُمُومِ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ فَمَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحَوْلَيْنِ فَفَاسِدٌ بِالشَّهْرِ السَّابِعِ يُتَغَذَّى فِيهِ بِاللَّبَنِ، وَلَا يَقَعُ بِهِ التَّحْرِيمُ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْحَوْلَيْنِ أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ التَّحْرِيمُ بِالرَّضَاعِ فِي آخِرِهِ وَقَعَ بِالرَّضَاعِ فِي أَوَّلِهِ وَخَالَفَ الثَّالِثَ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ تَحْدِيدُ تَحْرِيمِهِ بِالْحَوْلَيْنِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَسْتَغْنِيَ فِيهَا بِالطَّعَامِ عَنِ الرَّضَاعِ أَمْ لَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّمَا يَثْبُتُ تَحْرِيمُ الرَّضَاعٍ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ غَيْرَ مُسْتَغْنٍ بِالطَّعَامِ عَنْهُ.
وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ تَقْدِيرَ الرَّضَاعِ بِالْحَوْلَيْنِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا بِالزَّمَانِ دُونَ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ تعلقه بالحولين نص، واستغناؤه بِالطَّعَامِ اجْتِهَادٌ، وَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالنَّصِّ أَوْلَى مِنْ تَعْلِيقِهِ بِالِاجْتِهَادِ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَهُ بِالْحَوْلَيْنِ عِلْمٌ وَاعْتِبَارَهُ بِالِاسْتِغْنَاءِ خَاصٌّ وَاعْتِبَارُ مَا عَمَّ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِ مَا خَصَّ.
(فَصْلٌ)
قَالَ الْمُزَنِيُّ: " وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عِنْدِي عَلَى نَفْيِ الْوَلَدِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ بِتَأْقِيتِ حَمْلِهِ وَفِصَالِهِ ثَلَاثِينَ شَهْرًا كَمَا نُفِيَ تَوْقِيتُ الْحَوْلَيْنِ لِلرِّضَاعِ لِأَكْثَرَ مِنْ حَوْلَيْنِ ".
وَالَّذِي أَرَادَهُ الْمُزَنِيُّ بِهَذَا الْفَصْلِ أَنْ يَحْتَجَّ بِهِ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ أَكْثَرِ الحمل أنه

(11/368)


مُقَدَّرٌ بِسَنَتَيْنِ كَالرَّضَاعِ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ إِذَا وُلِدَ لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا لَا يُحَرَّمُ بِالرَّضَاعِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] فَجَعَلَ مُدَّتَهَا ثَلَاثِينَ شَهْرًا فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِينَ شَهْرًا وهذا الذي ذكره المزني فاسد، لأته لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا قَدَّرَهُ بِثَلَاثِينَ شَهْرًا مُدَّةً لِأَكْثَرِهِمَا لِزِيَادَتِهِمَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ بِإِجْمَاعٍ، وَلَا مُدَّةَ لِأَقَلِّهِمَا بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ أَقَلَّ الرَّضَاعِ غَيْرُ مُحَدَّدٍ، وَلَا مُدَّةَ لِأَكْثَرِ الْحَمْلِ وأقل الرضاع، لأن أقل الرضاع غير ممدود فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُدَّةً لِأَكْثَرِ الرَّضَاعِ، وَأَقَلُّ الْحَمْلِ وَأَكْثَرُ الرَّضَاعِ مُقَدَّرٌ بِحَوْلَيْنِ فَكَانَ الْبَاقِي بِعْدَهُمَا مُدَّةَ أَقَلِّ الْحَمْلِ، وَهُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى مُدَّةِ أَكْثَرِ الْحَمْلِ، وَإِنَّمَا جَمَعَ بَيْنَ مُدَّتَيْ أَكْثَرِ الرَّضَاعِ وَأَقَلِّ الْحَمْلِ تَنْبِيهًا عَلَى حُقُوقِ الْأُمَّهَاتِ وَوُجُوبِ حَقِّ الْوَالِدَيْنِ لِيَعْلَمَ مَنْ وُلِدَ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَنَّ حَقَّ وَالِدَتِهِ أَكْثَرُ وَشُكْرَهَا أَعْظَمُ كَمَا قَالَ {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] فَخَصَّصَ التَّأْفِيفَ بِالتَّحْرِيمِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ أَغْلَظُ ولم يذكر أول الرضاع، لأن لا تَقْتَصِرَ الْأُمَّهَاتُ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعِ إِلَّا خَمْسُ رَضْعَاتٍ مُتَفَرَّقَاتٍ كُلُّهُنَّ فِي الْحَوْلَيْنِ قَالَ وَتَفْرِيقُ الرَّضَعَاتِ أَنْ تُرْضِعَ الْمَوْلُودَ ثُمَّ تَقْطَعَ الرَّضَاعَ ثُمَّ تُرْضِعَ ثُمَ تَقْطَعَ كَذَلِكَ فَإِذَا رَضَعَ فِي مَرَّةٍ مِنْهُنَّ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ مَا قَلَّ مِنْهُ وَمَا كَثُرَ فَهِيَ رضعة وإن التقم الثدي فلها قليلا وأرسله ثم عاد إليه كانت رضعة واحدة كما يكون الحالف لا يأكل بالنهار إلا مرة فيكون يأكل ويتنفس بعد الازدراد ويعود يأكل فذلك أكل مرة وإن طال وإن قطع قطعا بعد قليل أو كثير ثم أكل حنث وكان هذا أكلتين ولو أنفد ما في إحدى الثديين ثم تحول إلى الأخرى فأنفد ما فيها كانت رضعة واحدة ".
قال الماوردي: ومنها قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لعائشة رضي الله تعالى عنها " اشتري واشترطي لهم الولاء " ثم شرط الولاء، وصحح الشراء ليستقر في نفوسهم المنع من اشتراط الولاء في البيع، ومع استقراره فالبيع باشتراطه باطل ولو لم يستقر لأجيز البيع حتى يستقر، فصارت هذه الأحكام مرتفعة لزوال أسبابها لا لنسخها، وهذا قول حكاه المروزي، وبعض أصحابنا واختاره ابن أبي هريرة.
والدليل من طريق المعنى أن كل سبب رفع به التحريم المؤبد إذا عرى عن جنس الاستباحة افتقر إلى العدد كاللعان وما لم يعر عن جنس الاستباحة لم يفتقر إلى العدد كالنكاح والوطء، ولأنه شرب لا يعدوه في العرف فوجب أن لا يقع به التحريم كالرضاع الكبير، ولأن ما يقع به التحريم نوعان، أقوال وأفعال، فلما كان من الأقوال ما يفتقر

(11/369)


إلى العدد، وهو اللعان وجب أن يكون من الأفعال ما يفتقر إلى العدد، وهو الرضاع.
وتحريره: أنه أحد فرعي التحريم فوجب أن يكون منه ما يفتقر إلى العدد كالأقوال، ولان وصول اللبن إلى الجوف إذا عرى عن عدد لم يقع به التحريم كالحقنة والسعطة فإن أكثرهم يوافق عليه.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وهو محكى عن ابن أبي هريرة أن قوله {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} [النساء: 23] يقتضي إثباتها أما أولاً ثم ترضع فتحرم، وليس في عموم الآية ما يدل على إثباتها أماً، ولو قال واللاتي أرضعنكم هن أمهاتكم صح لهم استعمال العموم.
والثاني: أنه لا فرق بين تقدم الوصف للموصوف وتأخره في استعماله على عمومه ما لم يرد تخصيص، وقد خصه ما رويناه من الأخبار التي قصد بها قدر ما يقع به التحريم وقول ابن عمر قضاء الله أولى من قضاء ابن الزبير فهو كمال قال: ونحن إنما خصصناه برواية ابن الزبير لانقضائه.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْأَخْبَارِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أن قوله " الرضاعة من المجاعة " يدفع أن تكون المصة محرمة، لأنها لا تسد جوعه.
والثاني: أنها اخبار قصد بها تحريم الرضاع، وأخبارنا قصد بها عدد الرضاع فاقتضى أن يكون كل واحد منهما محمولاً على ما قصد به.
وأما قياسهم على النكاح والوطء فالمعنى فيه أنه تحريم لم يرد عن جنس الاستباحة وأما قياسهم على الحد في الشرب فالمعنى فيه أن المشروب محرم فلم يعتبر فيه العدد واستوى حكم قليله وكثيره، والرضاع يحدث عنه التحريم فافترق حكم قليله وكثيره.
وأما استدلالهم بالفطر فمعناه مخالف لمعنى الرضاع، لأن الفطر يقع بما وصل إلى الجوف على أي صفة كان، ولذلك لو خرج جائفة أفطر بها، والرضاع يحرم إذا غذى وأنبت اللحم وأنشز العظم فافترق أكلتين ولو أنفد ما في إحدى الثديين ثم يحول إلى الأخرى فأنفذ ما فيها كانت رضعة واحدة، وَهَذَا كَمَا قَالَ: لِأَنَّ تَحْرِيمَ الرَّضَاعِ إِذَا كَانَ مُحَدَّدًا بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ وَجَبَ تَحْدِيدُ الرَّضْعَةِ وَتَقْدِيرُهَا وَالْمَقَادِيرُ تُؤْخَذُ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: مِنْ شَرْعٍ أَوْ لُغَةٍ أَوْ عُرْفٍ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ حَدٌّ فَوَجَبَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ، وَالْعُرْفُ فِي الرَّضْعَةِ أَنَّهَا مَا اتَّصَلَ شُرْبُهَا ثُمَّ انْفَصَلَ تَرْكُهَا، فإن تخلل

(11/370)


فَتْرَةَ الِانْقِطَاعِ نَفَسٌ أَوْ لَهَثٌ أَوْ لِازْدِرَادِ مَا اجْتَمَعَ فِي فَمِهِ أَوْ لِاسْتِمْرَاءِ مَا حصل فيه فمه حلقه ثُمَّ عَاوَدَ الثَّدْيَ مُرْتَضِعًا، فَهِيَ رَضْعَةٌ وَاحِدَةٌ، لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي الرَّضْعَةِ أَنْ يَتَخَلَّلَهَا فَتَرَاتٌ وَاسْتِرَاحَةُ وَلَهَثٌ كَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ إِلَّا مرة مقتر فِي أَكْلَةٍ لِقَطْعِ نَفْسٍ أَوِ ازْدِرَادٍ أَوْ لَهَثٍ ثُمَّ عَاوَدَ الْأَكْلَ كَانَتْ أَكْلَةً وَاحِدَةً وَلَمْ يَحْنَثْ، وَهَكَذَا لَوِ انْتَقَلَ الطِّفْلُ مِنْ أَحَدِ الثَّدْيَيْنِ إِلَى الْآخَرِ كَانَتْ رَضْعَةً وَاحِدَةً كَمَا انْتَقَلَ الْحَالِفُ مِنْ لَوْنٍ إِلَى لَوْنٍ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ تَرَكَ الثَّدْيَ وَقَطَعَ الرَّضْعَةَ لغير سبب، ثم عاود مرتضعاً نظر إلى زَمَانِ الْفَتْرَةِ، فَإِنْ قَلَّ فَهِيَ رَضْعَةٌ وَإِنْ طَالَ فَهِيَ رَضْعَتَانِ وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْحَالِفِ إِذَا قَطَعَ ثُمَّ عَاوَدَهُ.

(فَصْلٌ)
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا التقدير فَرْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَلْتَقِمَ الثَّدْيَ وَيَمُصَّهُ فَيَخْرُجَ الثَّدْيُ مِنْ فَمِهِ وَيَقْطَعَ عَلَيْهِ رَضَاعَهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْقَطْعِ، هَلْ يَسْتَكْمِلُ بِهِ الرَّضْعَةَ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّضْعَةَ لَمْ تَكْمُلْ حَتَّى يَقْطَعَهَا بِاخْتِيَارِهِ وَلَا يَحْتَسِبَ بِهَا مِنَ الْخَمْسِ لِعَدَمِ كَمَالِهَا كَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ إِلَّا مَرَّةً فَقُطِعَ عَلَيْهِ الْأَكْلُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ ثُمَّ عَاوَدَ الْأَكْلَ بَعْدَ تَمْكِينِهِ لَمْ يَحْنَثْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَكُونُ رَضْعَةً كَامِلَةً يُحْتَسَبُ بِهَا مِنَ الْخَمْسِ، لِأَنَّ الرَّضَاعَ يُعْتَبَرُ فِيهِ فِعْلُ الْمُرْضِعَةِ وَالْمُرْضَعِ عَلَى الِانْفِرَادِ وَلَا يُعْتَبَرُ اجْتِمَاعُهُمَا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَوِ ارْتَضَعَ مِنْهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ كَانَ لَهَا رَضَاعًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا فِعْلٌ، وَلَوْ أَوْجَرَتْهُ لَبَنَهَا، وَهُوَ نَائِمٌ كَانَ رَضَاعًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِعْلٌ.
وَالْفَرْعُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَرْتَضِعَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنِ امْرَأَتَيْنِ أَرْبَعًا أَرْبَعًا ثُمَّ يُرْضَعُ الْخَامِسَةَ مِنْ إِحْدَاهُمَا ثُمَّ يَعْدِلُ عَنْ ثَدْيَيْهَا إِلَى ثَدْيِ الْأُخْرَى فَتُرْضِعُهُ، فَفِي تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا لِأَنَّ الرَّضْعَةَ الْخَامِسَةَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا، فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَعْضُهَا فَلَمْ تَكْمُلْ بِهَا الْخَامِسَةُ كَمَا لَوِ انْتَقَلَ الْحَالِفُ مِنْ مَائِدَةٍ إِلَى أُخْرَى.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَدْ حَرُمَتَا عَلَيْهِ، وَيُعْتَدُّ بِمَا شَرِبَهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رَضْعَةً كَامِلَةً، لِأَنَّهُ قَطَعَ ثَدْيَهَا تَارِكًا لَهُ فَلَمْ يَقَعِ الْفَصْلُ فِي تَرْكِهِ بَيْنَ إِمْسَاكِهِ وَارْتِضَاعِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْفَرْعِ أَنْ يَحْلُبَ لَبَنًا فِي إِنَاءٍ يَمْتَزِجُ فِيهِ لَبَنُهُمَا ثُمَّ يَشْرَبُهُ الطِّفْلُ فِي رَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا تُعْتَدُّ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا، وَيُعْتَدُّ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رَضْعَةً كَامِلَةً والله أعلم بالصواب.

(11/371)


(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْوُجُورُ كَالرَّضَاعِ وَكَذَلِكَ السُّعُوطُ لِأَنَّ الرَّأْسَ جَوْفٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا الْوُجُورُ فَهُوَ صَبُّ اللَّبَنِ فِي حَلْقِهِ، وَأَمَّا السُّعُوطُ فَهُوَ صَبُّ اللَّبَنِ فِي أَنْفِهِ وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْرِيمِ الرَّضَاعِ بِهِمَا إِذَا وَصَلَ اللَّبَنُ بِالْوُجُورِ إِلَى جَوْفِهِ، وَبِالسُّعُوطِ إِلَى دِمَاغِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ إِنَّ التَّحْرِيمَ بِهِمَا ثَابِتٌ كَالرَّضَاعِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ، وَدَاوُدَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ بِهِمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] .
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّحْرِيمَ ثَبَتَ بِالْوُجُورِ، وَلَا يَثْبُتُ بِالسُّعُوطِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ " وَالْوُجُورُ يَحْصُلُ بِهِ الِاعْتِدَادُ لِوُصُولِهِ إِلَى الْجَوْفِ، وَالسُّعُوطُ لَا يَحْصُلُ بِهِ الِاعْتِدَادُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَى الْجَوْفِ فَأَشْبَهَ الْحُقْنَةَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهَا فِي الْوُجُورِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الرَّضَاعُ مِنَ الْمَجَاعَةِ " وَالْوُجُورُ يَحْصُلُ بِهِ الِاعْتِدَادُ لِوُصُولِهِ إِلَى الْجَوْفِ، وَالسُّعُوطُ لَا يَحْصُلُ بِهِ الِاعْتِدَادُ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَرَ الْعَظْمَ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْوُجُورِ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي سَالِمٍ " أَرَضِعِيهِ خَمْسًا يَحْرُمُ بِهِنَّ عَلَيْكِ " وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ ارْتِضَاعَهُ مِنَ الثَّدْيِ بِتَحْرِيمِهِ عَلَيْهِ فَثَبَتَ أَنَّهُ أَرَادَ الْوُجُورَ.
وَالدَّلِيلُ على أبي حنيفة في السعود قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلَقِيطِ بْنِ صَبْرَةَ بَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أن تكون صائماً، لأن لا يَصِيرَ بِالْمُبَالَغَةِ وَوُصُولِ الْمَاءِ إِلَى الرَّأْسِ مُفْطِرًا كَوُصُولِهِ إِلَى الْجَوْفِ كَذَلِكَ الرَّضَاعُ، وَلِأَنَّ مَا أَفْطَرَ بِاعْتِدَائِهِ مِنْ لَبَنِهَا أَثْبَتَ تَحْرِيمَ الرَّضَاعِ فِي زَمَانِهِ كَالرَّضَاعِ فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتي أرضعنكم} ، فَهَذَا يَتَنَاوَلُ الرَّضَاعَ اسْمًا وَمَعْنًى.
وَأَمَّا الْحُقْنَةُ فَفِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: ثَبَتَ بِهَا تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ فَيَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ.
وَالثَّانِي: لَا يَثْبُتُ بِهَا تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ وَإِنْ أَفْطَرَ بِهَا الصَّائِمُ، لِأَنَّ تَأْثِيرَ الِاعْتِدَاءِ فِي السُّعُوطِ وَالْوُجُورِ، وَتَأْثِيرَهُ فِي الْحُقْنَةِ غَيْرُ مَوْجُودٍ.
فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَلَا فَرْقَ فِي الْخَمْسِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا رَضَاعًا أَوْ كُلُّهَا سُعُوطًا أَوْ كُلُّهَا وُجُورًا أَوْ بَعْضُهَا رَضَاعًا، وَبَعْضُهَا سُعُوطًا أَوْ بَعْضُهَا وجوراً.
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ حُقِنَ بِهِ كَانَ فِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أنه

(11/372)


جوف وذلك أنها تفطر الصائم والآخر أن ما وصل إلى الدماغ كما وصل إلى المعدة لأنه يغتذي من المعدة وليس كذلك الحقنة (قال المزني) رحمه الله قد جعل الحقنة في معنى من شرب الماء فأفطر فكذلك هو في القياس في معنى من شرب اللبن وإذ جعل السعوط كالوجور لأن الرأس عنده جوف فالحقنه إذا وصلت إلى الجوف عندي أولى وبالله التوفيق ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْحُقْنَةُ بِاللَّبَنِ أَنْ تُوَصَّلَ إِلَى دُبُرِهِ، وَفِي ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ بِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ التَّحْرِيمُ كَالسُّعُوطِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فِي إِفْطَارِ الصَّائِمِ بِهِ كَالسُّعُوطِ، وَكَذَلِكَ فِي تَحْرِيمِ الرَّضَاعِ بِمَثَابَتِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ السُّعُوطُ كَالْوُجُورِ، لِأَنَّ الرَّأْسَ جَوْفٌ، وَالْوَاصِلَ مِنَ الدُّبُرِ، وَاصِلٌ إِلَى الْجَوْفِ فَكَانَ بِالتَّحْرِيمِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ أَحَقَّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهِ التَّحْرِيمُ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الرَّضَاعُ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ " وَهَذَا مَعْدُومٌ فِي الْحُقْنَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَى مَحَلِّ الْغِذَاءِ لِلْإِسْهَالِ وَإِخْرَاجِ مَا فِي الْجَوْفِ فخالفت حكم ما يصل إلى جوف ".

(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَأَدْخَلَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ قَالَ إِنْ كَانَ مَا خَلَطَ بِاللَّبَنِ أَغْلَبَ لَمْ يَحْرُمْ وَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ الْأَغْلَبَ حَرُمَ فَقَالَ أَرَأَيْتَ لَوْ خَلَطَ حَرَامًا بِطَعَامٍ وَكَانَ مُسْتَهْلَكًا فِي الطَّعَامِ أَمَا يَحْرُمُ فَكَذَلِكَ اللَّبَنُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا شِيبَ اللَّبَنُ بِمَائِعٍ اخْتَلَطَ بِهِ مِنْ مَاءٍ أَوْ خَلٍّ أَوْ خَمْرٍ ثَبَتَ بِهِ التَّحْرِيمُ غَالِبًا كَانَ أَوْ مَغْلُوبًا، وَكَذَلِكَ لَوْ شِيبَ اللَّبَنُ بِجَامِدٍ كَالدَّقِيقِ وَالْعَصِيدِ فَأَكَلَهُ ثَبَتَ بِهِ التَّحْرِيمُ غَالِبًا كَانَ أَوْ مَغْلُوبًا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِنِ اخْتَلَطَ بِمَائِعٍ نَشَرَ الْحُرْمَةَ إِنْ كَانَ غَالِبًا، وَلَمْ يَنْشُرِ الْحُرْمَةَ إِنْ كَانَ مَغْلُوبًا، وَإِنِ اخْتَلَطَ بِجَامِدٍ لَمْ يَنْشُرِ الْحُرْمَةَ سَوَاءٌ كَانَ غَالِبًا أَوْ مَغْلُوبًا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: نَشَرَ الْحُرْمَةَ إِذَا كَانَ غَالِبًا سَوَاءٌ اخْتَلَطَ بِمَائِعٍ أَوْ بِجَامِدٍ، وَلَا يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ إِنْ كَانَ مَغْلُوبًا وَحَكَى الْمُزَنِيُّ نَحْوَهُ اسْتِدْلَالًا عَلَى اعتبار

(11/373)


الْغَلَبَةِ، فَإِنَّ اللَّبَنَ إِذَا كَانَ مَغْلُوبًا صَارَ مُسْتَهْلَكًا بِمَا غَلَبَ عَلَيْهِ، وَزَالَ عَنْهُ الِاسْمُ، وَارْتَفَعَ عَنْهُ الْحُكْمُ.
أَمَّا زَوَالُ اسْمِهِ فَلِأَنَّ رَجُلًا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ اللَّبَنَ فَغَلَبَ عَلَيْهِ الْمَاءُ لَمْ يَحْنَثْ بِشُرْبِهِ.
وَأَمَّا ارْتِفَاعُ حُكْمِهِ فَلِأَنَّ الْخَمْرَ لَوْ كَانَ مَغْلُوبًا فِي الْمَاءِ لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ بِشُرْبِهِ، وَلَوْ كَانَ الطِّيبُ مَغْلُوبًا فِي الْمَاءِ لَمْ يُفْدِ الْمُحْرِمُ بِاسْتِعْمَالِهِ، فَإِذَا زَالَ عَنِ الْمَغْلُوبِ اسْمُهُ، وَحُكْمُهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَثْبُتَ بِمَغْلُوبِ اللَّبَنِ تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ لِمَا فِيهِ مِنْ ذَهَابِ اسْمِهِ وَحُكْمِهِ وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ تَحْرِيمَ اللَّبَنِ إِذَا كَانَ خَالِصًا يَتَعَلَّقُ بِهِ فَتَعَلَّقَ بِهِ إِذَا كَانَ مُخْتَلِطًا قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا كَانَ غَالِبًا، وَلِأَنَّ كُلَّ مُمَازَجَةٍ تَسْلُبُ حُكْمَ اللَّبَنِ إِذَا كَانَ غَالِبًا لَمْ تَسْلُبْ حُكْمَهُ إِذَا كَانَ مَغْلُوبًا.
دليله إذا خلط بن آدَمِيَّةٍ بِلَبَنِ بَهِيمَةٍ فَإِنَّهُمْ يُوَافِقُونَ عَلَى ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ، وَإِنْ كَانَ لَبَنُ الْبَهِيمَةِ أَكْثَرَ، وَلِأَنَّ كل ما تعلق به التحريم غائبا تَعَلَّقَ بِهِ مَغْلُوبًا كَالنَّجَاسَةِ فِي قَلِيلِ الْمَاءِ، وَلِأَنَّ اخْتِلَاطَ اللَّبَنِ بِالْمَاءِ قَبْلَ دُخُولِهِ فَمَهُ كَاخْتِلَاطِهِ بِهِ فِي فَمِهِ، وَلَوِ اخْتَلَطَ بِهِ فِي فَمِهِ ثَبَتَ بِهِ التَّحْرِيمُ وَإِنْ كَانَ مَغْلُوبًا كَذَلِكَ إِذَا اخْتَلَطَ قَبْلَ دُخُولِهِ فَمَهُ.
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِزَوَالِ اسْمِهِ الْمُوجِبِ لِارْتِفَاعِ حُكْمِهِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مُطْلَقَ الِاسْمِ يَتَنَاوَلُ الْخَالِصَ دُونَ الْغَالِبِ ثُمَّ لَا يَقْتَضِي زَوَالَ الِاسْمِ عَنْهُ إِذَا كَانَ غَالِبًا مِنْ وُقُوعِ التَّحْرِيمِ بِهِ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ مَغْلُوبًا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَعْنَى دُونَ الِاسْمِ، وَالْمَعْنَى حُصُولُ اللَّبَنِ فِي جَوْفِهِ، وَقَدْ حصل بالامتزاح غَالِبًا وَمَغْلُوبًا كَالنَّجَاسَةِ إِذَا غَلَبَ الْمَاءُ عَلَيْهَا ثَبَتَ حُكْمُهَا مَعَ زَوَالِ اسْمِهَا.
فَأَمَّا سُقُوطُ الْحَدِّ بِمَغْلُوبِ الْخَمْرِ دُونَ غَالِبِهِ، فَلِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبَهَاتِ.
فَأَمَّا سُقُوطُ الْفِدْيَةِ بِمُسْتَهْلَكِ الطِّيبِ فِي الْمَاءِ فَلِزَوَالِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِ.
وَأَمَّا سُقُوطُ الْكَفَّارَةِ عَنِ الْحَالِفِ فَلِأَنَّ الْأَيْمَانَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْعُرْفِ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَ التَّحْرِيمُ بِاللَّبَنِ الْمَشُوبِ غَالِبًا وَمَغْلُوبًا، فَلَا يَخْلُو أَنْ يُشْرَبَ جَمِيعُ الْمَشُوبِ أَوْ بَعْضُهُ، فَإِنْ شُرِبَ جَمِيعُ الْمَشُوبِ بِاللَّبَنِ ثَبَتَ بِهِ التَّحْرِيمُ، وَإِنْ شُرِبَ بَعْضُهُ لَمْ يَخْلُ أَنْ يُعْلَمَ اخْتِلَاطُ اللَّبَنِ بِجَمِيعِهِ أَوْ لَا يُعْلَمَ، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمِ اخْتِلَاطُ اللَّبَنِ بِجَمِيعِهِ كَقَطْرَةٍ مِنْ لَبَنٍ وَقَعَتْ فِي جُبٍّ مِنْ مَاءٍ فَشَرِبَ الطِّفْلُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ، لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ وَإِنْ عُلِمَ اخْتِلَاطُ اللَّبَنِ بِجَمِيعِهِ كَأُوقِيَّةٍ مِنْ

(11/374)


لَبَنٍ مُزِجَتْ بِأُوقِيَّتَيْنِ مِنْ مَاءٍ حَتَّى لَمْ يَتَمَيَّزِ الْمَاءُ مِنَ اللَّبَنِ، فَحُكْمُ جَمِيعِهِ فِي حُكْمِ اللَّبَنِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ التَّحْرِيمِ فَأَيُّ شَيْءٍ شَرِبَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَشُوبِ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ ثَبَتَ بِهِ التَّحْرِيمُ.

(فَصْلٌ)
وَإِذَا امْتَزَجَ لَبَنُ امرأتين ثم شربه المولود ثبت به تحريمها عَلَيْهِ سَوَاءٌ تَسَاوَى لَبَنُهُمَا أَوْ غَلَبَ لَبَنُ إِحْدَاهُمَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ، يَخْتَصُّ التَّحْرِيمُ بِأَغْلَبِهِمَا لَبَنًا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمَا فِي اعتبار الأغلب.

(مسألة)
قال الشافعي رحمه الله تعالى " وَلَوْ جَبَّنَ اللَّبَنَ فَأَطْعَمَهُ كَانَ كَالرَّضَاعِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا جَبَّنَ اللَّبَنَ أَوْ أَغْلَاهُ بِالنَّارِ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) [النساء: 23] وَهَذَا مَفْقُودٌ فِي الْمُجَبَّنِ وَالْمَغْلِيِّ، وَلِأَنَّ زَوَالَ اسْمِ اللَّبَنِ مُوجِبٌ لِارْتِفَاعِ حُكْمِهِ بِنَاءً عَلَى مَا قَالَهُ فِي الْمَشُوبِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ " وَهَذَا أَبْلَغُ فِي سَدِّ المجاعة من مائع اللبن فوجب أَنْ يَكُونَ أَخَصَّ بِالتَّحْرِيمِ، وَلِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ مَائِعًا تَعَلَّقَ بِهِ جَامِدًا كَالنَّجَاسَةِ وَالْخَمْرِ، وَلِأَنَّ انْعِقَادَ أَجْزَائِهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ بَقَاءِ تَحْرِيمِهِ كَمَا لَوْ ثَخُنَ، وَلِأَنَّ تَغْيِيرَ صِفَتِهِ لَا تُوجِبُ تَغْيِيرَ حُكْمِهِ كَمَا لَوْ حَمُضَ وَقَدْ مَضَى الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ.
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه " ولا يحرم لبن البهمية إِنَّمَا يُحَرِّمُ لَبَنُ الْآدَمِيَّاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى جل ثناؤه {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} وقال {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا ارْتَضَعَ رَجُلَانِ مِنْ لَبَنِ بَهِيمَةٍ لَمْ يَصِيرَا أَخَوَيْنِ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِلَبَنِهَا تَحْرِيمٌ.
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ وَأُضِيفَ ذَلِكَ إِلَى مَالِكٍ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ أَصْحَابُهُ إِنَّ لَبَنَ الْبَهِيمَةِ يُحَرِّمُ وَيَصِيرَا بِلَبَنِهَا أَخَوَيْنِ اسْتِدْلَالًا بِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَى لَبَنٍ وَاحِدٍ فَوَجَبَ أَنْ يَصِيرَا بِهِ أَخَوَيْنِ كَلَبَنِ الْآدَمِيَّاتِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتي أرضعنكم) وَالْبَهِيمَةُ لَا تَكُونُ بِارْتِضَاعِ لَبَنِهَا أُمًّا مُحَرَّمَةً كَذَلِكَ لَا يَصِيرُ الْمُرْتَضِعَانِ بِلَبَنِهَا أَخَوَيْنِ، لِأَنَّ الْأُخُوَّةَ فَرْعٌ مِنَ الْأُبُوَّةِ. وَلِأَنَّ الرَّضَاعَ يُلْحِقُ بِالنَّسَبِ فَلَمَّا لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْأَبَوَيْنِ وَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ الرَّضَاعُ إلا من جهتهما.

(11/375)


(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " قَالَ وَلَوْ حُلِبَ مِنْهَا رَضْعَةٌ خَامِسَةٌ ثُمَّ مَاتَتْ فَأُوجِرَهُ صَبِيٌّ كَانَ ابْنَهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَوْتَهَا بَعْدَ حَلْبِ اللَّبَنِ فِي الْإِنَاءِ كَوْنُهَا بَعْدَ اجْتِمَاعِ اللبن في فمه، لأن فهمه كَالْإِنَاءِ فَلَمَّا كَانَ مَوْتُهَا بَعْدَ اجْتِمَاعِ اللَّبَنِ في فمه وقبل ازْدِرَادُهُ ثَبَتَ بِالتَّحْرِيمِ إِذَا ازْدَرَدَهُ كَذَلِكَ إِذَا مَاتَتْ بَعْدَ حَلْبِ اللَّبَنِ فِي الْإِنَاءِ فَوَجَبَ التَّحْرِيمُ إِذَا شَرِبَهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّضَاعَ مُعْتَبَرٌ بِشَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مِنْ جِهَةِ الْمُرْضِعَةِ، وَهُوَ خُرُوجُ اللَّبَنِ مِنْ ثَدْيِهَا.
وَالثَّانِي: وُلُوجُهُ فِي جَوْفِ الْمُرْتَضَعِ فَاعْتَبَرْنَا حَيَاةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا يُخْتَصُّ بِهِ وَلَمْ يَعْتَبِرْهَا فِيمَا يُخْتَصُّ بِصَاحِبِهِ كَالْجَارِحِ رَجُلًا إِذَا مَاتَ قَبْلَ الْمَجْرُوحِ كَانَ مَأْخُوذًا بِدِيَتِهِ إِذَا مَاتَ مِنْ جِرَاحَتِهِ كَمُرْسِلِ السَّهْمِ إِذَا مَاتَ قَبْلَ وُصُولِ السَّهْمِ إِلَى الْمَرْمَى ثُمَّ وَصَلَ السَّهْمُ إِلَيْهِ، فَمَاتَ كَانَ الرَّامِي مَأْخُوذًا بِدِيَتِهِ، وَإِنْ كَانَ وَصُولُ السَّهْمِ بَعْدَ مَوْتِهِ لِوُجُودِ الْإِرْسَالِ فِي حَيَاتِهِ، وَكَالْحَافِرِ بِئْرًا إِذَا تَلِفَ فِيهَا إِنْسَانٌ بَعْدَ مَوْتِ حَافِرَهَا كَانَ مَأْخُوذًا بِدِيَتِهِ فِيمَا خَلَّفَهُ مَنْ تَرِكَتِهِ لِوُجُودِ الْحَفْرِ فِي حَيَاتِهِ فَإِنْ قِيلَ: فَيَدْخُلُ عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ مَوْتُ الْمُكَاتَبِ بَعْدَ اكْتِسَابِ الْوَفَاءِ أَنْ يُعْتَقَ بِأَدَائِهِ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لِوُجُودِ الْكَسْبِ فِي حَيَاتِهِ.
قِيلَ: لَا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ مَا ذَكَرَ مِنْ كسب المكاتب، لأن المعتبر في الكتابة في جِهَةِ السَّيِّدِ الْعَقْدُ، وَمِنْ جِهَةِ الْمُكَاتَبِ الْأَدَاءُ فَمِثَالُهُ مِنَ الرَّضَاعِ مَوْتُ السَّيِّدِ بَعْدَ عَقْدِهِ، وَذَلِكَ لَا يُبْطِلُ الْكِتَابَةَ وَمَوْتُ الْمُكَاتَبِ قَبْلَ الْأَدَاءِ كَمَوْتِ الطِّفْلِ قَبْلَ الرَّضَاعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَضَعَ مِنْهَا بَعْدَ مَوْتِهَا لَمْ يَحْرُمْ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَبَنُ الْمَيِّتَةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ، إِذَا ارْتُضِعَ الْمَوْلُودُ مِنْ لَبَنِ الْمَيِّتَةِ الْحَاصِلِ مِنْ ثَدْيِهَا بَعْدَ مَوْتِهَا لَمْ يَثْبُتْ بِهِ التَّحْرِيمُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ، يَثْبُتُ بِهِ التَّحْرِيمُ كَارْتِضَاعِهِ فِي حَيَاتِهِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الرضاعة من المجاعة ".
وقول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الرَّضَاعُ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ "، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي لَبَنِ

(11/376)


الْمَيِّتَةِ كَوُجُودِهِ فِي لَبَنِ الْحَيَّةِ وَلِأَنَّهُ لَبَنُ آدَمِيَّةٍ وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ فِي زَمَانِ التَّحْرِيمِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ كَمَا لَوْ شربه في حياتنا.
وَلِأَنَّهُ لَبَنٌ لَوْ وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ فِي حياتها ثبت من التَّحْرِيمُ فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ التَّحْرِيمُ إِذَا وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ بَعْدَ مَوْتِهَا كَالْمَحْلُوبِ مِنْهَا فِي حَيَاتِهَا، وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ ثَبَتَ بِهِ التَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ.
فَاسْتَوَى وُجُودُهُ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْوَفَاةِ كَالْوِلَادَةِ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَوْتِهَا أَكْثَرُ مِنْ سُقُوطِ فِعْلِهَا، وَهَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي تَحْرِيمِ الرَّضَاعِ كَمَا لَوِ ارْتَضَعَ مِنْهَا فِي نَوْمِهَا.
وَلِأَنَّ لَبَنَهَا مَا مَاتَ بِمَوْتِهَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ بِهِ التَّحْرِيمُ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْحَرَامُ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ " وَهَذَا اللَّبَنُ مُحَرَّمٌ لِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ، فَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ تَحْرِيمُ مَا كَانَ حَلَالًا مِنْ قَبْلِهِ، وَلِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ تَحْرِيمُ النِّكَاحِ يَنْتَفِي مِنْ حُدُوثِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَالنِّكَاحِ، وَلِأَنَّ الرَّضَاعَ ثَبَّتَ تَحْرِيمَ الْمُصَاهَرَةِ كَالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ، فَلَمَّا كَانَ الْمَوْتُ مَانِعًا مِنْ ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ بِالْوَطْءِ، لِأَنَّهُ لَوْ وَطِئَ الْمَيِّتَةَ بَعْدَ مَوْتِهَا مُعْتَقِدًا أَنَّهَا فِي الْحَيَاةِ لَمْ يَثْبُتْ بِوَطْئِهِ التَّحْرِيمُ كَذَلِكَ ارْتِضَاعُ لَبَنِ الْمَيِّتَةِ. وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ مَا ثَبَتَ بِهِ التَّحْرِيمُ إِذَا اتَّصَلَ بِحَيَاتِهَا زَالَ عَنْهُ التَّحْرِيمُ إِذَا اتَّصَلَ بِمَوْتِهَا كَالْوَطْءِ، وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الرَّضَاعِ مُتَعَلِّقٌ بِانْفِصَالِهِ مِنْ ثَدْيِ الْأُمِّ وَوُصُولِهِ إِلَى جَوْفِ الْوَلَدِ فَلَمَّا كَانَ وَصُولُ اللَّبَنِ إِلَى الْوَلَدِ بَعْدَ مَوْتِهَا مَانِعًا مِنْ ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ انْفِصَالُهُ بَعْدَ مَوْتِ الْأُمِّ مَانِعًا مِنْ ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ.
وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ أَحَدُ جِهَتَيِ التَّحْرِيمِ فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ الْمَوْتُ مِنْ ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ كَالْوَلَدِ، وَلِأَنَّ الْمَوْتَ لَمَّا أَسْقَطَ حُرْمَةَ وَطْئِهَا وَجَبَ أَنْ يُسْقِطَ حُرْمَةَ لَبَنِهَا كَالزِّنَا، وَلِأَنَّ الرَّضَاعَ كَالْجِنَايَةِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ ضَمَانِ التَّحْرِيمِ وَالْمَيِّتُ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْجِنَايَةِ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ ثَبَتَ فِي حَقِّ النَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَيِّتًا لَوْ سَقَطَ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ، وَلَوْ سَقَطَ عَلَيْهِ نَائِمٌ أَوْ مَجْنُونٌ ضَمِنَهُ وَلَا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا حَافِرُ الْبِئْرِ إِذَا حَدَثَتْ بِهَا جِنَايَةٌ بَعْدَ مَوْتِهِ لِوُجُودِ الْحَفْرِ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ، وَإِذَا سَقَطَ بِالْمَوْتِ حُكْمُ الْجِنَايَةِ سَقَطَ بِهَا حُكْمُ الضَّمَانِ.
وَلِأَنَّ لَبَنَ الرَّضَاعِ مَا أَنْبَتَ اللحم وأنشزالعظم، وَلِهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَثْبُتْ رَضَاعُ الْكَبِيرِ، وَلَبَنُ الْمَيِّتَةِ دَاءٌ لَا يَنْبُتُ بِهِ اللَّحْمُ وَلَا يَنْتَشِرُ بِهِ الْعَظْمُ فَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ التَّحْرِيمُ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى يُجَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْخَبَرَيْنِ.
وَبِمِثْلِهِ يُجَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى شُرْبِهِ فِي حَيَاتِهَا أَنَّ لَبَنَ الْحَيَّةِ يُنْبِتُ اللَّحْمَ وَيُنْشِزُ الْعَظْمَ.

(11/377)


وَجَوَابٌ ثَانٍ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ أَنَّهَا حَالٌ لَوْ وَطِئَتْ فِيهَا لَمْ يَثْبُتْ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ فَيَثْبُتُ بِهِ تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ، وَالْوَطْءُ بَعْدَ الْمَوْتِ، لَا يَثْبُتُ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ، فَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْوِلَادَةِ فَهُوَ أَنَّ لُحُوقَ النَّسَبِ بِالْعُلُوقِ، وَإِنَّمَا يَسْتَقِرُّ حُكْمُهُ وَتَتَحَقَّقُ حَالُهُ بِالْوِلَادَةِ بَعْدَ تَقَدُّمِ ثُبُوتِهِ بِعُلُوقِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَرِثُ وَيُوَرَّثُ قَبْلَ وِلَادَتِهِ وَيُضْمَنُ دِيَتُهُ جَنِينًا.
وَالْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ سُقُوطَ فِعْلِهَا لَا يُؤَثِّرُ فِي تَحْرِيمِ الرَّضَاعِ كَالنَّائِمَةِ فَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يُضَافُ إِلَيْهِ فِعْلٌ، وَيُضَافُ إِلَى النَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ فَافْتَرَقَا وَقَوْلُهُمْ إِنَّ لَبَنَهَا لَمْ يَمُتْ فَهُوَ وَإِنْ لَمْ تُحِلَّهُ حَيَاةٌ تَبَعٌ لِمَا فِيهِ حَيَاةٌ فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُهَا وَزَالَ عَنْهُ الْحُكْمُ لِعَدَمِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ حُلِبَ مِنِ امْرَأَةٍ لَبَنٌ كَثِيرٌ فَفُرِّقَ ثُمَّ أُوجِرَ مِنْهُ صَبِيٌّ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً لَمْ يَكُنْ إِلَّا رَضْعَةً وَاحِدَةً وَلَيْسَ كَاللَّبَنِ يَحْدُثُ فِي الثَّدْيِ كُلَّمَا خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ حَدَثَ غَيْرُهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ إِذَا حُلِبَ لَبَنُهَا وَشَرِبَهُ الْوَلَدُ أَرْبَعَةَ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُحْلَبَ لَبَنُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً وَيَشْرَبَهُ الْمَوْلُودُ فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ فَهَذِهِ رَضْعَةٌ وَاحِدَةٌ سَوَاءٌ قَلَّ اللَّبَنَ أَوْ كَثُرَ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُحْلَبَ لَبَنُهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ فِي خَمْسِ أَوَانِي وَيَشْرَبَهُ فِي خَمْسِ مَرَّاتٍ فَهَذِهِ خَمْسُ رَضَعَاتٍ لِوُجُودِ الْعَدَدِ مِنَ الْجِهَتَيْنِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُحْلَبَ لَبَنُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ، وَيَشْرَبَهُ الْمَوْلُودُ فِي خَمْسِ مَرَّاتٍ فَالَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَجَامِعِهِ وَنَقَلَهُ الرَّبِيعُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ أَنَّهَا رَضْعَةٌ وَاحِدَةٌ اعْتِبَارًا بِفِعْلِ الْمُرْضِعَةِ قَالَ الرَّبِيعُ وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ إِنَّهَا خَمْسُ رَضَعَاتٍ اعْتِبَارًا بِشُرْبِ الْمُرْتَضَعِ، وَاخْتُلِفَ فِي تَخْرِيجِ الرَّبِيعِ، هَلْ هُوَ قَوْلٌ ثَانٍ لِلشَّافِعِيِّ أَوْ هُوَ وَجْهٌ قَالَهُ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ، فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَجْعَلَانِهِ وَجْهًا، قَالَهُ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ، وَكَانَ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ وَجَمِيعُ الْبَصْرِيِّينَ يُخَرِّجُونَهُ قَوْلًا ثَانِيًا لِلشَّافِعِيِّ، فَإِذَا قِيلَ بِالْقَوْلِ الْمَشْهُورِ إِنَّهُ يَكُونُ رَضْعَةً وَاحِدَةً اعْتِبَارًا بِفِعْلِ المرضعة فوجه قول الله تعالى {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} [النساء: 23] فَأَضَافَ فِعْلَ الرَّضَاعِ إِلَيْهِنَّ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُنَّ فِيهِ أَغْلَبَ، وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي الْحُكْمِ ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِسَهْلَةَ فِي سَالِمٍ " أَرَضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ يَحْرُمُ بِهِنَّ عَلَيْكِ " فَاعْتَبَرَ فِعْلَهَا، وَإِذَا قِيلَ

(11/378)


بِالثَّانِي وَهُوَ تَخْرِيجُ الرَّبِيعِ إِنَّهُ يَكُونُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ اعْتِبَارًا بِشُرْبِ الْمُرْتَضَعِ فَوَجْهُهُ أَنَّ جِهَتَهُ أَقْوَى مِنْ جِهَةِ الْمُرْضِعَةِ لِوُقُوعِ التَّحْرِيمِ بِوُصُولِ اللَّبَنِ إِلَيْهِ لَا بِانْفِصَالِهِ عَنْهَا، وَلِأَنَّ الْحَالِفَ لَا يَأْكُلُ إِلَّا مَرَّةً إِذَا جُمِعَ لَهُ الطَّعَامُ فَأَكَلَهُ مِرَارًا حَنِثَ اعْتِبَارًا بِأَكْلِهِ لَا يجمعه كَذَلِكَ الرَّضَاعُ.
وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يُحْلَبَ لَبَنُهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ فِي خَمْسَةِ أَوَانِي، وَيَشْرَبَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً فَفِيهِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ:
أَحَدَهُمَا: يَكُونُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ اعْتِبَارًا بِفِعْلِ الْمُرْضِعِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ رَضْعَةً وَاحِدَةً اعْتِبَارًا بِشُرْبِ الْمُرْتَضَعِ.
وَأَمَّا إِذَا حُلِبَ خَمْسَ مَرَّاتٍ فِي خمس اواني ثُمَّ جُمِعَ فِي إِنَاءٍ وَشَرِبَهُ الْمُرْتَضَعُ فِي خَمْسِ مَرَّاتٍ فَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أنه يكون خمس رَضَعَاتٍ اعْتِبَارًا بِوُجُودِ الْعَدَدِ فِي الِانْفِصَالِ وَالِاتِّصَالِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُعْتَبَرُ بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ كَالْحَلْبَةِ الْوَاحِدَةِ يَشْرَبُهَا الْمُرْتَضَعُ خَمْسَ مَرَّاتٍ فَيَكُونُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ فِيهِ صَارَ شَارِبًا فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنْ كُلِّ حَلْبَةٍ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ الِاجْتِمَاعُ بَعْدَ وُجُودِ التفرقة.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ تَزَوَّجَ صَغِيرَةً ثُمَّ أَرْضَعَتْهَا أُمُّهُ أَوِ ابْنَتُهُ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوِ امْرَأَةُ ابْنِهِ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ بِلَبَنِ ابْنِهِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الصَّغِيرَةُ أَبَدًا وَكَانَ لَهَا عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ وَرَجَعَ عَلَى الَّتِي أَرْضَعَتْهَا بِنِصْفِ صَدَاقِ مِثْلِهَا لِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَفْسَدَ شَيْئًا لَزِمَهُ قِيمَةُ مَا أَفْسَدَ بِخَطَأٍ أَوْ عَمْدٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ صَغِيرَةً لَهَا دُونَ الْحَوْلَيْنِ، فَأَرْضَعَتْهَا ذَاتُ قُرَابَةٍ لَهُ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ:
أَحَدُهَا: فِي تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: فِيمَا تَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ الصَّغِيرَةُ الْمُرْضَعَةُ.
وَالثَّالِثُ: فِيمَا تَسْتَحِقُّهُ عَلَى الْكَبِيرَةِ الْمُرْضِعَةِ.
فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ فَهُوَ أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُ الْمُرْضِعَةِ، فَإِنْ كَانَتْ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ ابْنَتُهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ الصَّغِيرَةُ بِرِضَاعِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مَنْ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ ابْنَتُهَا لَمْ تَحْرُمِ الصَّغِيرَةُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُنْظَرَ حَالُ الْمُرْضِعَةِ، فَإِنْ كَانَتْ أُمَّ الزَّوْجِ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ حَرُمَتِ الصَّغِيرَةُ، لِأَنَّهَا صَارَتْ أُخْتَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرْضَعَتْهَا إِحْدَى جَدَّاتِهِ، لِأَنَّهَا صَارَتْ خَالَتَهُ، وَلَوْ أَرْضَعَتْهَا ابْنَتُهُ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ حَرُمَتِ الصَّغِيرَةُ، لِأَنَّهَا صَارَتْ

(11/379)


بِنْتَ بِنْتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرْضَعَتْهَا وَاحِدَةٌ مِنْ بَنَاتِ بَنِيهِ أَوْ بَنَاتِهِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ وَلَدَ وَلَدِهِ وَلَوْ أَرْضَعَتْهَا أُخْتُهُ مَنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ بَنَاتُ إِخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ.
وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ لَوْ أَرْضَعَتْهَا خَالَتُهُ أَوْ عَمَّتُهُ، لِأَنَّهَا لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بَنَاتُ خَالَاتِهِ وَلَا بَنَاتُ عَمَّاتِهِ، وَلَوْ أَرْضَعَتْهَا زَوْجَةُ أَبِيهِ بِلَبَنِ أَبِيهِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا صَارَتْ أُخْتَهُ وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ لَوْ أَرْضَعَتْهَا بِغَيْرِ لَبَنِ أَبِيهِ، لِأَنَّهَا رَبِيبَةُ أَبِيهِ، وَلَوْ أَرْضَعَتْهَا امْرَأَةُ ابْنِهِ بِلَبَنِ ابْنِهِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا صَارَتْ بِنْتَ ابْنِهِ، وَلَا تَحْرُمُ لَوْ أَرْضَعَتْهَا بِغَيْرِ لَبَنِ ابْنِهِ، لِأَنَّهَا رَبِيبَةُ ابْنِهِ ثُمَّ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ، فَإِذَا لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ كَانَ النِّكَاحُ بِحَالِهِ، وَإِنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ بَطَلَ نِكَاحُهَا لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا مُؤَبَّدٌ، وَمَنْ تَأَبَّدَ تَحْرِيمُهَا بَطَلَ نِكَاحُهَا فِي الِابْتِدَاءِ وَالِاسْتِدَامَةِ كَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ إِذَا ثبت بها تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ بَطَلَ بِهَا نِكَاحُ الْمُحَرَّمَةِ.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: فِيمَا يَجِبُ لِلْمُحَرَّمَةِ عَلَى الزَّوْجِ فَذَلِكَ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الرَّضَاعِ وَهُوَ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَنْفَرِدَ بِهِ الصَّغِيرَةُ فَتَرْضَعَ مِنْ لَبَنِ الْكَبِيرَةِ وَهِيَ نَائِمَةٌ لَا تَعْلَمُ بِارْتِضَاعِ الصَّغِيرَةِ فَلَا مَهْرَ لَهَا، لِأَنَّ الْفَسْخَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَسَقَطَ بِهِ مَهْرُهَا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَنْفَرِدَ بِهِ الْكَبِيرَةُ فَتُرْضِعَهَا فَلِلصَّغِيرَةِ عَلَى زَوْجِهَا نِصْفُ مَهْرِهَا الْمُسَمَّى لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهَا فِي الْفَسْخِ فَصَارَ كَطَلَاقِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَشْتَرِكَا فِيهِ وَالِاشْتِرَاكُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَمَيَّزَا فِي الشَّرِكَةِ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَتَمَيَّزَا فِيهَا.
فَالَّذِي لَا يَتَمَيَّزَانِ فِيهِ أَنْ تَبْتَدِئَ الصَّغِيرَةُ فِي كُلِّ رَضْعَةٍ بِالْتِقَامِ الثَّدْيِ، وَتُمَكِّنُهَا الْكَبِيرَةُ مِنْ شُرْبِهِ وَلَا تَنْزِعُ ثَدْيَهَا مِنْ فَمِهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُغَلَّبُ فِيهِ فِعْلُ الْكَبِيرَةِ، لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ تَبَعٌ لَهَا، فَعَلَى هَذَا يَجِبُ لِلصَّغِيرَةِ نِصْفُ مَهْرِهَا الْمُسَمَّى.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَكُونَانِ فِي التَّحْرِيمِ سَوَاءً، لِأَنَّ الْبُلُوغَ فِي فِعْلِ هَذَا التَّحْرِيمِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَعَلَى هَذَا يَصِيرُ التَّحْرِيمُ مِنْ فِعْلِهَا فَيَسْقُطُ مَنْ نِصْفِ الْمَهْرِ مَا قَابَلَ فِعْلَهَا وَهُوَ نِصْفُ النِّصْفِ، وَيَبْقَى نِصْفُهُ وَهُوَ الرُّبْعُ فَتَسْتَحِقُّ رُبْعَ مَهْرِهَا عَلَى الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الرَّضَاعِ مُتَمَيِّزًا. مِثَالُهُ أَنْ تَنْفَرِدَ الْكَبِيرَةُ بِأَنْ تُرْضِعَهَا بَعْضَ الرَّضَعَاتِ الْخَمْسِ وَتَنْفَرِدَ الصَّغِيرَةُ بِأَنْ تَرْضَعَ بَعْضَ الرَّضَعَاتِ الْخَمْسِ فَفِيهِ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ:

(11/380)


أَحَدُهُمَا: يُغَلَّبُ فِيهِ حُكْمُ مَنْ تَفَرَّدَ بِالرَّضْعَةِ الْخَامِسَةِ، لِأَنَّ بِهَا وَقَعَ التَّحْرِيمُ فَإِنْ تَفَرَّدَتْ بِهَا الصَّغِيرَةُ فَلَا مَهْرَ لَهَا، وَإِنْ تَفَرَّدَتْ بِهَا الْكَبِيرَةُ فَلِلصَّغِيرَةِ نِصْفُ مَهْرِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَتَقَسَّطُ نِصْفُ الْمَهْرِ عَلَى أَعْدَادِ الرَّضَعَاتِ، لِأَنَّ الْخَامِسَةَ لَمْ تُحَرِّمْ إِلَّا بِمَا تَقَدَّمَهَا فَصَارَ لِكُلِّ رَضْعَةٍ تَأْثِيرٌ فِي التَّحْرِيمِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتِ الصَّغِيرَةُ قَدِ انْفَرَدَتْ بِرَضْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْكَبِيرَةُ بِأَرْبَعِ رَضَعَاتٍ سَقَطَ مِنْ نِصْفِ مَهْرِ الصَّغِيرَةِ خَمْسَةٌ وَوَجَبَ لَهَا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ النصف من مهرها، وإن تفردت مرضعة وَاحِدَةٍ وَالصَّغِيرَةُ بِأَرْبَعِ رَضَعَاتٍ سَقَطَ مِنْ نِصْفِ مَهْرِهَا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ، وَوَجَبَ لَهَا مِنْ نِصْفِ مَهْرِهَا خُمْسُهُ ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا يَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجُ عَلَى الْمُرْضِعَةِ الْمُحَرَّمَةِ إِذَا صَارَ التَّحْرِيمُ مَنْسُوبًا إِلَيْهَا فَمُعْتَبَرٌ بِحَالِهَا، وَلَهَا حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ لَا يَثْبُتُ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا، وَفِي ذِمَّتِهَا مَالٌ كَأُمِّ الْوَلَدِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ، لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَمْلِكُ فِي ذِمَّةِ أَمَتِهِ مَالًا، وَإِنْ كَانَتْ مُكَاتَبَةً رَجَعَ عَلَيْهَا، لِأَنَّهَا بِالْكِتَابَةِ قَدْ مَلَكَتْ مَا بِيَدِهَا، وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا إِنْ كَانَتْ مُدَبَّرَةً، لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ مَا بِيَدِهَا كَالْأَمَةِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ مَنْ يَمْلِكُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا وَفِي ذِمَّتِهَا مَالًا كَسَائِرِ الْحَرَائِرِ فَلَهَا فِي الرَّضَاعِ حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَكُونَ بِإِذْنِ الزَّوْجِ فَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ، لِأَنَّ إِرَادَتَهُ كَالْإِبْرَاءِ كَمَنِ اسْتَحْفَرَ أَجِيرًا بِئْرًا فِي أَرْضٍ لَا يَمْلِكُهَا كَانَ غُرْمُ مَا تَلَفَ بِهَا مَضْمُونًا عَلَى الْآمِرِ، وَلَا يُرْجَعُ بِهِ عَلَى الْمَأْمُورِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَأْذَنَ لَهَا الزَّوْجُ وَتَكُونَ هِيَ الْمُنْفَرِدَةَ بِالرَّضَاعِ فَالْكَلَامُ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ:
أَحَدُهَا: فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ.
وَالثَّانِي: فِي قَدْرِهِ.
وَالثَّالِثُ: فِي صِفَتِهِ.
(فَصْلٌ)
فَأَمَّا الْحُكْمُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُرْضِعَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُرْضِعَةَ ضَامِنَةٌ يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا بِغُرْمِ التَّحْرِيمِ سَوَاءٌ قَصَدَتِ الْمُرْضِعَةُ التَّحْرِيمَ أَوْ لَمْ تَقْصِدْهُ.

(11/381)


وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ الْمُرْضِعَةَ غَيْرُ ضَامِنَةٍ لِغُرْمِ التَّحْرِيمِ سَوَاءٌ قَصَدَتِ التَّحْرِيمَ أَوْ لَمْ تَقْصِدْهُ بِأَنْ خَافَتْ تَلَفَ الصَّغِيرَةِ فَأَرْضَعَتْهَا أَوِ اسْتُؤْجِرَتْ مُرْضِعًا لَهَا.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا إِنْ قَصَدَتِ التَّحْرِيمَ ضَمِنَتْ، وَإِنْ لَمْ تَقْصِدْهُ لَمْ تَضْمَنْ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ تَحْرِيمَ الرَّضَاعِ سَبَبٌ، لِأَنَّ الرَّضَاعَ يُثْبِتُ الْحُرْمَةَ ثُمَّ يَبْطُلُ النِّكَاحُ بِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ، وَالِاسْتِهْلَاكُ، إِذَا كَانَ بِسَبَبٍ لَمْ يَكُنْ عَنْ مُبَاشَرَةٍ، فُرِّقَ فِيهِ بَيْنَ التَّعَدِّي بِالْقَصْدِ، وَبَيْنَ مَنْ لَيْسَ بِقَاصِدٍ وَلَا مُتَعَدٍّ، كَحَافِرِ الْبِئْرِ إِنْ تَعَدَّى بِحَفْرِهَا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ ضَمِنَ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَدَّ بِحَفْرِهَا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ لَمْ يَضْمَنْ.
والدليل على ذلك قول الله تعالى {يأيها الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} إلى قوله {وآتوهم ما أنفقوا} فَمَنَحَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ رَدَّ الْمُسْلِمَةَ الْمُهَاجِرَةَ عَلَى زَوْجِهَا مَعَ اشْتِرَاطِ رَدِّ مَنْ أَسْلَمَ عَلَيْهِمْ وَأَوْجَبُ غُرْمَ مَهْرِهَا لِلزَّوْجِ لِأَنَّهُ قَدْ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ فَكَذَلِكَ الْمُرْضِعَةُ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا بِالْعَقْدِ صَحَّ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ كَالْأَمْوَالِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ أَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ إِذَا ضُمِّنَتْ بِالْعَمْدِ ضُمِّنَتْ بِالْخَطَأِ كَالْأَمْوَالِ، وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الزَّوْجَةِ بِالرَّضَاعِ يُوجِبُ الضَّمَانَ كَالْعَمْدِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ التَّحْرِيمَ عَنْ سَبَبٍ فَهُوَ أَنَّ كَوْنَ السَّبَبِ عُدْوَانًا يُوجِبُ الضَّمَانَ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ كَمَا فِي حَفْرِ الْبِئْرِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ يَضْمَنُ لِتَعَدِّيهِ وَفِي مِلْكِهِ لَا يَضْمَنُ لِعَدَمِ تَعَدِّيهِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ الْمُرْضِعَةَ إِنْ أَرْضَعَتْ بِشَرْعٍ أَوْجَبَ عَلَيْهَا الرَّضَاعَ كَالَّتِي يُخَافُ تَلَفُهَا إِنْ لَمْ تُرْضِعْهَا لَمْ تَضْمَنْ وَإِنْ لَمْ يُوجِبْهُ الشَّرْعُ عَلَيْهَا ضَمِنَتْ، وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ مِنْ سُقُوطِ الْغُرْمِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَجْهٌ فِي سُقُوطِ الْمَاءِ ثُمَّ كَمَنَ خَافَ تَلَفَ نَفْسِهِ فَأَحْيَاهَا بِمَالِ غَيْرِهِ ضَمِنَ وَلَمْ يَأْثَمْ.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّانِي وَهُوَ قَدْرُ الضَّمَانِ إِذَا وَجَبَ عَلَى الْمُرْضِعَةِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الْمَهْرِ، وَقَالَ فِي الشَّاهِدَيْنِ " إِذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ ثُمَّ رَجَعَا عَنِ الشَّهَادَةِ غَرِمَا لَهُ جَمِيعَ الْمَهْرِ " فِيمَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ عَنْهُ بِخِلَافِ الرَّضَاعِ، وَنَقَلَ الرَّبِيعُ عَنْهُ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْمَهْرِ كَالرَّضَاعِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الرضاع والشهادة على ثلاثة طُرُقٍ:
أَحَدُهَا: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنْ جَمَعُوا بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَخَرَّجُوهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أحدهما: وهي طرية أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنْ جَمَعُوا بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَخَرَّجُوهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُرْجَعُ فِي الرَّضَاعِ وَالشَّهَادَةِ بِنِصْفِ الْمَهْرِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الرَّضَاعِ، لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الَّذِي غَرِمَهُ الزَّوْجُ فَلَمْ يُرْجَعْ بِأَكْثَرَ مِنْهُ.

(11/382)


وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُرْجَعُ فِي الرَّضَاعِ وَالشَّهَادَةِ بِجَمِيعِ الْمَهْرِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الشَّهَادَةِ لِمَا فِيهِمَا مِنِ اسْتِهْلَاكِ الْبُضْعِ عَلَيْهِ بِالْإِحَالَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَوَجَبَ ضَمَانُ قِيمَتِهِ، وَهُوَ جَمِيعُ الْمَهْرِ.
وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ الْجَوَابَ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَيُرْجَعُ فِي الرَّضَاعِ بِنِصْفِ الْمَهْرِ، وَيُرْجَعُ فِي الشَّهَادَةِ بِجَمِيعِ الْمَهْرِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْفُرْقَةَ فِي الرَّضَاعِ وَقَعَتْ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ حَقِيقَةً وَالزَّوْجُ بِهَا مُعْتَرِفٌ، وَقَدْ رَجَعَ إِلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ فَلَمْ يُرْجَعْ عَلَى الْمُرْضِعَةِ إِلَّا بِالنِّصْفِ الَّذِي الْتَزَمَهُ، وَخَالَفَ الشَّهَادَةَ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِهَا فِي الظَّاهِرِ وَاعْتِرَافِ الشُّهُودِ بِإِحْلَالِهَا لَهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَسْتَرْجِعْ مِنَ الْمَهْرِ شَيْئًا فَلِذَلِكَ رَجَعَ عَلَيْهِمْ بِقِيمَةِ مَا فَوَّتُوهُ عَلَيْهِ مِنَ الْبُضْعِ وَهُوَ جَمِيعُ الْمَهْرِ.
وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ يُرْجَعُ فِي الرَّضَاعِ بِنِصْفِ الْمَهْرِ، فَأَمَّا الشَّهَادَةُ فَعَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَالْمَوْضِعُ الَّذِي قَالَ يُرْجَعُ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ بِجَمِيعِ الْمَهْرِ، إِذَا كَانَ الزَّوْجُ قَدْ سَاقَ إِلَيْهَا جَمِيعَهُ، لِأَنَّهُ بِإِنْكَارِ الطَّلَاقِ لَا يُرْجَعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ مِنْهُ فَصَارَ مُلْتَزِمًا بِجَمِيعِهِ، فَلِذَلِكَ رَجَعَ بِجَمِيعِهِ عَلَى الشُّهُودِ وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يُرْجَعُ بِنِصْفِ الْمَهْرِ إِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ دُفِعَ إِلَيْهَا جَمِيعُ الصَّدَاقِ فَلَا يَلْزَمُهُ إِلَّا دَفْعُ نِصْفِهُ، لِأَنَّ الزَّوْجَةَ بِادِّعَاءِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا تَسْتَحِقُّ إِلَّا نِصْفَ الْمَهْرِ فَصَارَ الَّذِي لَزِمَهُ نِصْفُ الْمَهْرِ فَلَا يُرْجَعُ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ بِأَكْثَرَ مِنْهُ.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ صِفَةُ الضَّمَانِ فَالْكَلَامُ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: صِفَةُ مَا تَضَمَّنَهُ الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ الْمُرْتَضَعَةِ، وَذَلِكَ مُعْتَبَرٌ بِالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ قَدْرَ مَهْرِ الْمِثْلِ فَمَا زَادَ وَجَبَ لَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الَّذِي بِيَدِهِ عَقْدُ النِّكَاحِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ الزَّوْجُ دُونَ الْأَبِ لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَهُ الصَّغِيرَةَ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فَيَكُونَ الْمُسَمَّى إِذَا نَقَصَ منه باطلاً، يجب لَهَا نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ الْأَبُ، فَفِي جَوَازِ تَزْوِيجِهِ لَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لَهُ أَنْ يُبَرِّئَ مِنْ جَمِيعِ الْمَهْرِ، فَأَوْلَى أَنْ يُزَوِّجَ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَتَكُونُ لَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى، وَإِنْ نَقَصَ عَنْ مَهْرِ مِثْلِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا، وَإِنْ جَازَ أَنْ يُبَرِّئَ مِنْ جَمِيعِ مَهْرِهَا، لِأَنَّهُ يُبَرِّئُ مِنْهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ لِيَسْتَفِيدَ مِثْلُهُ فِي النِّكَاحِ الْمُسْتَقْبَلِ وَخَالَفَ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ لَهَا حَقًّا لَا يَسْتَفِيدُ مثله.

(11/383)


وَالْفَصْلُ الثَّانِي: صِفَةُ مَا تَضْمَنُهُ الْمُرْضِعَةُ لِلزَّوْجِ، وَهُوَ نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى سَوَاءٌ زَادَ عَلَيْهِ أَوْ نَقَصَ مِنْهُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُرْجَعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْمُسَمَّى، لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الَّذِي غَرِمَهُ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَّا بِمِثْلِهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الزَّوْجَ ضَمِنَ الْمَهْرَ بِالْعَقْدِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا الْمُسَمَّى فِيهِ، وَالْمُرْضِعَةُ اسْتَهْلَكَتِ الْبُضْعَ بِالتَّحْرِيمِ فَلَزِمَهَا قِيمَةُ مَا اسْتَهْلَكَتْ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ كَمَنِ اسْتَهْلَكَ عَلَى الْمُشْتَرِي مَا اشْتَرَاهُ لَمْ يُغَرَّمْ إِلَّا الْقِيمَةَ، وَإِنْ غُرِّمَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ الْمُسَمَّى بِزِيَادَتِهِ وَنَقْصِهِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفًا وَقَدْ أَصْدَقَهَا أَلْفَيْنِ غَرِمَ لَهَا أَلْفًا وَرَجَعَ عَلَى الْمُرْضِعَةِ بِخَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مُحَابَاةٌ كَالْعَطَايَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَرْضَعَتْهَا امْرَأَةٌ لَهُ كَبِيرَةٌ لَمْ يُصِبْهَا حَرُمَتِ الْأَمُّ لِأَنَّهَا مِنْ أُمَّهَاتِ نِسَائِهِ وَلَا نِصْفَ مَهْرٍ لَهَا وَلَا مُتْعَةَ لِأَنَّهَا الْمُفْسِدَةُ وَفَسَدَ نِكَاحُ الْمُرْضَعَةِ بِلَا طَلَاقٍ لِأَنَّهَا صَارَتْ وَأُمُّهَا فِي مِلْكِهِ فِي حَالٍ وَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ وَيُرْجَعُ عَلَى الَّتِي أَرْضَعَتْهَا بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ لَهُ زَوْجَتَانِ صُغْرَى وَكُبْرَى أَرْضَعَتِ الْكُبْرَى الصُّغْرَى خَمْسَ رَضَعَاتٍ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ:
أَحَدُهَا: فَسْخُ النِّكَاحِ.
وَالثَّانِي: ثُبُوتُ التَّحْرِيمِ.
وَالثَّالِثُ: الْمَهْرُ.
فَأَمَّا الْحُكْمُ الْأَوَّلُ فَهُوَ بُطْلَانُ النِّكَاحِ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي ذُؤَيْبٍ إِنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْفَسِخُ بِرِضَاعِ الضَّرَائِرِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: مَا حَكَاهُ ابْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَدْخُلْ بِالْكُبْرَى بَطَلَ نِكَاحُهَا وَثَبَتَ نِكَاحُ الصُّغْرَى.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ إِنَّهُ إِذَا لَمْ يَدْخُلْ بِالْكُبْرَى ثَبَتَ نِكَاحُهَا وَبَطَلَ نِكَاحُ الصُّغْرَى.
وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ إِنَّهُ بَطَلَ بِالرَّضَاعِ نِكَاحُهُمَا مَعًا سَوَاءٌ دَخَلَ بِالْكُبْرَى أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، لِأَنَّهُ صَارَ جَامِعًا بَيْنَ امْرَأَةٍ وَبِنْتِهَا.
وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّانِي: وَهُوَ التَّحْرِيمُ فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ الْكُبْرَى عَلَى التَّأْبِيدِ، لِأَنَّهَا مِنْ أُمَّهَاتِ نِسَائِهِ، وَأَمَّا الصُّغْرَى فَتَحْرِيمُهَا مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْكُبْرَى فَإِنْ دَخَلَ بِهَا حَرُمَتِ

(11/384)


الصُّغْرَى، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا لَمْ تَحْرُمِ الصُّغْرَى، لِأَنَّهَا مِنْ رَبَائِبِهِ وَتَحْرِيمُ الرَّبِيبَةِ يَكُونُ بِدُخُولِهِ بِالْأُمِّ.
وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْمَهْرُ فَلِلصُّغْرَى عَلَيْهِ نِصْفُ مَهْرِهَا الْمُسَمَّى، لِأَنَّ فَسْخَ نِكَاحِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ كَانَ مِنْ غَيْرِهَا، وَيُرْجَعُ عَلَى الْكُبْرَى بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ بِجَمِيعِهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ.
وَأَمَّا مَهْرُ الْكُبْرَى فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَقَدِ اسْتَحَقَّتْ جَمِيعَهُ وَإِلَّا سَقَطَ بِالرَّضَاعِ كَالْمُرْتَدَّةِ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا سَقَطَ مَهْرُهَا، لِأَنَّ الْفَسْخَ مِنْ جِهَتِهَا كالردة.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ تَزَوَّجَ ثَلَاثًا صِغَارًا فَأَرْضَعَتِ امْرَأَةٌ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ الرَّضْعَةَ الْخَامِسَةَ مَعًا فَسَدَ نِكَاحُ الْأُمِّ وَنِكَاحُ الصَّبِيَّتَيْنِ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ نِصْفُ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى ويرجع على امرأته بمثل نصف مهر كل واحدة منهما وتحل له كل واحدة منهما على الانفراد لأنهما ابنتا امرأة لم يدخل بها فإن أرضعت الثالثة بعد ذلك لم تحرم لأنها منفردة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا اعْتَمَدَتِ الْكُبْرَى وَلَهُ مَعَهَا ثَلَاثٌ صِغَارٌ فَأَرْضَعَتِ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ خَمْسَ رَضَعَاتٍ مَعًا بَطَلَ نِكَاحُهَا، وَنِكَاحُ الْكُبْرَى، وَلِتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْكُبْرَى عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، لِأَنَّهَا صَارَتْ مِنْ أُمَّهَاتِ نِسَائِهِ فَكَانَ تَحْرِيمُهَا مُؤَبَّدًا، وَلِتَحْرِيمِ نِكَاحِ الصَّغِيرَتَيْنِ عِلَّتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُمَا مِنْ رَبَائِبِهِ فإن دخل بالأم حرمتا على التأييد، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا لَمْ يَتَأَبَّدْ تَحْرِيمُهُمَا.
وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ فَحَرُمَتَا تَحْرِيمَ جَمْعٍ، وَحَلَّ لَهُ إِذَا لَمْ يَدْخُلْ بِالْأُمِّ أَنْ يَنْكِحَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي عَقْدٍ، فَأَمَّا مُهُورُهُنَّ فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الصَّغِيرَتَيْنِ نِصْفُ مَهْرِهَا الْمُسَمَّى فَيَرْجِعُ عَلَى الْكُبْرَى بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ.
وَأَمَّا الْكُبْرَى فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا جَمِيعُ مَهْرِهَا وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا، لِأَنَّ الْفَسْخَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهَا، فَعَلَى هَذَا لَوْ عَادَتِ الْكُبْرَى فَأَرْضَعَتِ الصَّغِيرَةَ الثَّالِثَةَ لَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ دَخَلَ بِالْكُبْرَى وَيَبْطُلُ إِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا.
(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَرْضَعَتْ إِحْدَاهُنَّ الرَّضْعَةَ الْخَامِسَةَ ثُمَّ الْأُخْرَيَيْنِ الْخَامِسَةَ مَعًا حَرُمْتَ عَلَيْهِ وَالَّتِي أَرْضَعَتْهَا أَوَّلًا لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُمًّا وَبِنْتًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مَعًا وَحَرُمَتِ الْأُخْرَيَانِ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ فِي وقت معا ".

(11/385)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ الْكُبْرَى إِذَا أَرْضَعَتِ الْأُولَى مِنَ الصَّغَائِرِ بَطَلَ نِكَاحُهُمَا لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُمًّا وَبِنْتًا وَحَرُمُ نِكَاحُ الْكُبْرَى، عَلَى التَّأْبِيدِ، فَأَمَّا الصُّغْرَى، فَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِالْكُبْرَى حَرُمَتْ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ دَخَلَ بِهَا حَلَّتْ، وَلِلصَّغِيرَةِ نِصْفُ مَهْرِهَا، وَيَرْجِعُ عَلَى الْكَبِيرَةِ بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَفِي الْآخَرِ بِجَمِيعِهِ عَلَى مَا مَضَى وَلَا مَهْرَ لِلْكَبِيرَةِ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَلِأَنَّ الْفَسْخَ مِنْ قِبَلِهَا وَلَهَا جَمِيعُ الْمَهْرِ إِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا، فَإِنْ عَادَتِ الْكُبْرَى فَأَرْضَعَتِ الصَّغِيرَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ مَعًا، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ دُخُولِهِ بِالْكُبْرَى حَرُمَتَا عَلَى التَّأْبِيدِ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِالْكُبْرَى حَرُمَتَا تَحْرِيمَ الْجَمْعِ، لِأَنَّهُ صَارَ جَامِعًا بَيْنَ أُخْتَيْنِ، وَحَلَّ لَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ نِكَاحَ مَنْ شَاءَ مِنَ الثَّلَاثِ الصَّغَائِرِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ، لِأَنَّهُنَّ أَخَوَاتٌ وَالْكَلَامُ عَلَى الْمَهْرِ عَلَى مَا مَضَى.

(فَصْلٌ)
وَإِذَا كَانَ لَهُ زَوْجَةٌ صَغِيرَةٌ وَثَلَاثُ زَوْجَاتٍ كِبَارٌ فَأَرْضَعَتْ إِحْدَى الْكِبَارِ الصَّغِيرَةَ بَطَلَ نِكَاحُهَا، فَإِنْ جَاءَتْ ثَانِيَةٌ مِنَ الْكِبَارِ فَأَرْضَعَتِ الصَّغِيرَةَ بَعْدَ بُطْلَانِ نِكَاحِهَا حَرُمَتِ الْكَبِيرَةُ، لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ مَنْ كَانَتْ زَوْجَةً لَهُ فَإِنْ جَاءَتِ الثَّالِثَةُ فَأَرْضَعَتْ تِلْكَ الصَّغِيرَةَ بَطَلَ نِكَاحُهَا أَيْضًا لِهَذَا الْمَعْنَى.
(فَصْلٌ)
وَإِذَا كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ صُغْرَى وَكُبْرَى فَطَلَّقَ إِحْدَاهُمَا ثُمَّ أَرْضَعَتِ الْكُبْرَى قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا الصُّغْرَى نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتِ الْمُطَلَّقَةُ هِيَ الصُّغْرَى حُرِمَّتْ عَلَيْهِ الْكُبْرَى، لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ مَنْ كَانَتْ زَوْجَتَهُ، وَإِنْ كَانَتِ الْمُطَلَّقَةُ هِيَ الْكُبْرَى لَمْ تَحْرُمِ الصُّغْرَى، لِأَنَّهَا رَبِيبَتُهُ لم يدخل بأمها.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَرْضَعَتْهُمَا مُتَفَرِّقَتَيْنِ لَمْ يَحْرُمَا مَعًا لَأَنَّهَا لم ترضع واحدة منهما إلا بعد ما بَانَتْ مِنْهُ هِيَ وَالْأُولَى فَيَثْبُتَ نِكَاحُ الَّتِي أَرْضَعَتْهُمَا بَعْدَ مَا بَانَتِ الْأُولَى وَيَفْسَدَ نِكَاحُ الَّتِي أَرْضَعَتْهَا بَعْدَهَا لِأَنَّهَا أُخْتُ امْرَأَتِهِ فَكَانَتِ كامرأة نكحت على أختها (قال المزني) رحمه الله ليس ينظر الشافعي في ذلك إلا إلى وقت الرضاع فقد صارتا أختين في وقت معا برضاع الآخرة منهما (قال المزني) رحمه الله ولا فرق بين امرأة كبيرة أرضعت امرأة له صغيرة فصارتا أما وبنتا في وقت معا وبين أجنبية أرضعت له امرأتين صغيرتين فصارتا أختين في وقت معا ولو جاز أن تكون إذا أرضعت صغيرة ثم صغيرة كامرأة نكحت على أختها لزم إذا نكح كبيرة ثم صغيرة فأرضعتها أن تكون كامرأة نكحت على أمها وفي ذلك دليل على ما قلت أنا وقد قال في كتاب النكاح القديم لو تزوج صبيتين فأرضعتهما امرأة واحدة بعد واحدة انفسخ

(11/386)


نكاحهما (قال المزني) رحمه الله وهذا وذاك سواء وهو بقوله أولى ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ كَبِيرَةً وَثَلَاثًا صِغَارًا فَأَرْضَعَتِ الْكَبِيرَةُ مِنْ قَبْلِ دُخُولِهِ بِهَا إِحْدَى الصِّغَارِ فَبَطَلَ نِكَاحُهُمَا مَعًا، لِأَنَّهُمَا أُمٌّ وَبِنْتٌ ثُمَّ عَادَتِ الْكَبِيرَةُ فَأَرْضَعَتْ ثَانِيَةً مِنَ الصَّغِيرَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ لَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُ الصَّغِيرَةِ، لِأَنَّهَا بِنْتُ امْرَأَةٍ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ فَإِنْ عَادَتِ الْكَبِيرَةُ فَأَرْضَعَتِ الصَّغِيرَةَ الثَّالِثَةَ بَطَلَ نِكَاحُ الثَّالِثَةِ، لِأَنَّهَا صَارَتْ أُخْتَ الثَّانِيَةِ، وَهَلْ يَبْطُلُ بِهَا نِكَاحُ الثَّانِيَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيِّ وَأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يَنْفَسِخُ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ بِرِضَاعِ الثَّالِثَةِ، لِأَنَّهُمَا قَدْ صَارَتَا أُخْتَيْنِ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَرْضَعَتْهُمَا مَعًا، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ بِصُغْرَى وَكُبْرَى فَأَرْضَعَتِ الْكُبْرَى الصُّغْرَى بَطَلَ نِكَاحُهُمَا، لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ، وَإِنْ تَقَدَّمَ سَبَبُ الْكُبْرَى عَلَى رَضَاعِ الصُّغْرَى كَذَلِكَ هَاهُنَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ إِنَّ نِكَاحَ الثَّانِيَةِ بِحَالِهِ لَا يَنْفَسِخُ بِرِضَاعِ الثَّالِثَةِ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْفَسِخْ نِكَاحُهَا بِرِضَاعِهَا لَمْ يَنْفَسِخْ بِرِضَاعِ غَيْرِهَا وَصَارَتْ كَامْرَأَةٍ نُكِحَتْ عَلَيْهَا أُخْتُهَا يَبْطُلُ نِكَاحُ الْأُخْتِ وَثَبَتَ نِكَاحُهَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَ أَمَتَيْنِ أُخْتَيْنِ فَوَطِئَ إِحْدَاهُمَا كَانَتِ الْأُخْرَى مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ، فَإِنْ وَطِئَهَا لَمْ تَحْرُمِ الأولى بوطء الثانية وكانت الأولة عَلَى إِبَاحَتِهَا كَذَلِكَ تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ، فَعَلَى هَذَا، لَوْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ صِغَارٌ، فَأَرْضَعَتْ أَجْنَبِيَّةٌ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الصِّغَارِ الْأَرْبَعِ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ قد بطل نكاحهن كلهن فيبطل نكاح الأولة بِرِضَاعِ الثَّانِيَةِ، وَيَبْطُلُ نِكَاحُ الثَّالِثَةِ بِرِضَاعِ الرَّابِعَةِ.
والقول الثاني: ثبت نكاح الأولة، ويبطل نكاح الثلاث برضاعهن بعد الأولة.

(فَصْلٌ)
وَلَوْ كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ صَغِيرَتَانِ فَأَرْضَعَتْ أَجْنَبِيَّةٌ إِحْدَاهُمَا ثُمَّ أَرْضَعَتْ أُمُّ الْأَجْنَبِيَّةِ الْأُخْرَى بَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ، لِأَنَّهَا صَارَتْ خَالَةَ الْأُولَى، وفي بطلان نكاح الأولة قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَبْطُلُ نِكَاحُ الْأُولَى بِرِضَاعِ الثَّانِيَةِ.
والقول الثاني: لا يبطل نكاح الأولة، وَإِنْ بَطَلَ بِالرَّضَاعِ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ، وَكَانَ لِلَّتِي بَطَلَ نِكَاحُهَا نِصْفُ مَهْرِهَا، وَيَرْجِعُ بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَبِجَمِيعِهِ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ، وَفِي الَّتِي يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِذَلِكَ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَى الْمُرْضِعَةِ الثَّانِيَةِ، لِأَنَّ بِرِضَاعِهَا انْفَسَخَ النكاح.

(11/387)


وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُرْضِعَتَيْنِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، لِأَنَّ بِرِضَاعِهِمَا اسْتَقَرَّ فَسْخُ النِّكَاحِ.

(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ كَانَ لِلْكَبِيرَةِ بَنَاتٌ مَرَاضِعُ أَوْ مِنْ رَضَاعٍ فَأَرْضَعْنَ الصِّغَارَ كُلَّهُنَّ انْفَسَخَ نِكَاحُهُنَّ مَعًا وَرُجِعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِنِصْفِ مَهْرِ التي أرضعت (قال المزني) رحمه الله ويرجع عليهن بنصف مهر امرأته الكبيرة إن لم يكن دخل بها لأنها صارت جدة مع بنات بناتها معاً وتحرم الكبيرة أبداً ويتزوج الصغار على الانفراد ولو كان دخل بالكبيرة حرمن جميعاً أبداً ولو لم يكن دخل بها فأرضعتهن أم امرأته الكبيرة أو جدتها أو أختها أو بنت أختها كان القول فيها كالقول في بناتها في المسألة قبلها ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يَتَزَوَّجَ كَبِيرَةً وَثَلَاثَ صِغَارٍ، وَلِلْكَبِيرَةِ ثَلَاثُ بَنَاتٍ مَرَاضِعَ أَيْ لَهُنَّ لَبَنٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص: 2] فَتُرْضِعُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ بَنَاتِ الْكَبِيرَةِ وَاحِدَةً مِنَ الزَّوْجَاتِ الصِّغَارِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْكَبِيرَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَدْخُولًا بِهَا أَوْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، فَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا بَطَلَ نِكَاحُ الْكَبِيرَةِ وَنِكَاحُ الثَّلَاثِ الصغار عَلَى التَّأْبِيدِ سَوَاءٌ كَانَ رَضَاعُهُنَّ مَعًا أَوْ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ.
أَمَّا الْكُبْرَى فَلِأَنَّهَا جَدَّةُ الصِّغَارِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ بَنَاتِهَا مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ.
وَأَمَّا الصِّغَارُ فَلِأَنَّهُنَّ صِرْنَ بَنَاتِ امْرَأَةٍ قَدْ دَخَلَ بِهَا، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الصِّغَارِ نِصْفُ مَهْرِهَا، وَتَرْجِعُ عَلَى الَّتِي حَرَّمَتْهَا بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا الْكُبْرَى فَلَهَا جَمِيعُ مَهْرِهَا لِاسْتِقْرَارِهِ بِالدُّخُولِ، فَإِنْ كَانَ بَنَاتُهَا أَرْضَعْنَ الصَّغَائِرَ مُتَفَرِّقَاتٍ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى رَجَعَ بِمِثْلِ مَهْرِ الْكُبْرَى عَلَى الْمُرْضِعَةِ الْأُولَى عَلَى بَنَاتِهَا الثَّلَاثِ بِالسَّوِيَّةِ، لِأَنَّهُنَّ يَشْتَرِكْنَ فِي تَحْرِيمِهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ مِنْ بَعْدُ أَنْ يَنْكِحَ وَاحِدَةً مِنَ الصَّغَائِرِ، لِأَنَّهُنَّ رَبَائِبُ قَدْ دُخِلَ بِجَدَّتِهِنَّ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ وَاحِدَةً مِنَ الْبَنَاتِ الْمُرْضَعَاتِ، لِأَنَّهُنَّ مِنْ أُمَّهَاتِ نِسَائِهِ، وَلِأَنَّهُنَّ بَنَاتُ امْرَأَةٍ قَدْ دَخَلَ بِهَا.

(فَصْلٌ)
وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِالْكُبْرَى لَمْ يَخْلُ رَضَاعُ بَنَاتِهَا لِلصَّغَائِرِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يُرْضِعْنَ الصَّغَائِرَ مَعًا أَوْ مُتَفَرِّقَاتٍ.
فَإِنْ أَرْضَعَهُنَّ مَعًا مِثْلَ أَنْ يَنْفَرِدَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ بَنَاتِ الْكُبْرَى بِوَاحِدَةٍ مِنَ الصَّغَائِرِ فَتُرْضِعُهَا أَرْبَعَ رَضَعَاتٍ، إِمَّا عَلَى الِاجْتِمَاعِ أَوْ عَلَى الِانْفِرَادِ، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى إِجْمَاعِهِنَّ فِي الرَّضْعَةِ الْخَامِسَةِ مَعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ فَيَبْطُلُ نِكَاحُ الْكُبْرَى وَالصَّغَائِرِ مَعًا، لِأَنَّهُ صَارَ جَامِعًا بَيْنَ امْرَأَةٍ وَبَنَاتِ بَنَاتِهَا، وَحَرُمَتِ الْكُبْرَى عَلَى التَّأْبِيدِ، لِأَنَّهَا جَدَّةُ نِسَائِهِ وَحَرُمَ

(11/388)


بَنَاتُهَا الْمَرَاضِعُ عَلَى التَّأْبِيدِ، لِأَنَّهُنَّ أُمَّهَاتُ نِسَائِهِ وَحَلَّ لَهُ الصَّغَائِرُ أَنْ يَتَزَوَّجَهُنَّ، لِأَنَّهُنَّ رَبَائِبُ مِنْ غَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا، وَجَازَ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُنَّ، لِأَنَّهُنَّ بَنَاتُ خَالَاتٍ، وَلَسْنَ بِأَخَوَاتٍ.
وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: يُنْكَحْنَ عَلَى الِانْفِرَادِ.
وَهَذَا وَهْمٌ مِنَ الْمُزَنِيِّ سَهَا فِيهِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَيْسَ ذَلِكَ بِوَهْمٍ مِنْهُ، وَلَا سَهْوٍ، وَإِنَّمَا صور الْمَسْأَلَةِ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ بَنَاتِ الْكُبْرَى أَرْضَعَتِ الثَّلَاثَ كُلَّهُنَّ فَصِرْنَ أَخَوَاتٍ وَبَنَاتِ خَالَاتٍ فَحَرُمَ الْجَمْعُ بَيْنَهُنَّ، لِأَنَّهُنَّ أَخَوَاتٌ وَإِنْ لَمْ يَحْرُمْ بِأَنَّهُنَّ بَنَاتُ خَالَاتٍ.
فَأَمَّا الْمَهْرُ فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الصَّغَائِرِ نِصْفُ مَهْرِهَا، وَتَرْجِعُ بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا عَلَى الَّتِي حَرَّمَهَا وَيَكُونُ لِلْكُبْرَى نِصْفُ مَهْرِهَا، وَتَرْجِعُ بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا عَلَى بَنَاتِهَا لِاشْتِرَاكِهِنَّ فِي تَحْرِيمِهَا.

(فَصْلٌ)
وَإِنِ افْتَرَقْنَ فِي الرَّضَاعِ فَأَرْضَعَتْ وَاحِدَةٌ مِنْ بَنَاتِ الْكُبْرَى لِوَاحِدَةٍ مِنَ الزَّوْجَاتِ ثُمَّ أَرْضَعَتْ ثَانِيَةٌ لِثَانِيَةٍ ثُمَّ أَرْضَعَتْ ثَالِثَةٌ لِثَالِثَةٍ بَطَلَ نِكَاحُ الْكُبْرَى وَالصَّغِيرَةِ الْأُولَى، وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ مَهْرِهَا، وَيُرْجَعُ بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا عَلَى الْمُرْضِعَةِ الْأُولَى، لِأَنَّهَا الْمُخْتَصَّةُ بِتَحْرِيمِهَا، وَأَمَّا نِكَاحُ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ فَبِحَالِهِ، وَعَلَى صِحَّتِهِ لِأَنَّهَا بَنَاتُ خَالَاتٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تَتَزَوَّجَ الْأُولَى فَيَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَهُنَّ كُلِّهِنَّ لِهَذَا الْمَعْنَى.
(فَصْلٌ)
وَإِنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ زَوْجَاتٍ كِبَارٍ وَرَابِعَةٌ صَغِيرَةٌ، فَاجْتَمَعَ الْكِبَارُ عَلَى رَضَاعِ الصَّغِيرَةِ فَأَرْضَعْنَهَا خَمْسَ رَضَعَاتٍ بَيْنَهُنَّ لَمْ تَصِرْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ، إِمَّا لِلصَّغِيرَةِ، لِأَنَّهَا لَمْ تَسْتَكْمِلْ رَضَاعَهَا خَمْسًا، وَفِي تَحْرِيمِ الصَّغِيرَةِ عَلَى الزَّوْجِ إِذَا كَانَ اللَّبَنُ لَهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ وَأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ لَا تَحْرُمُ عَلَى الزَّوْجِ وَلَا تَصِيرُ لَهُ وَلَدًا، لِأَنَّ تَحْرِيمَ الرَّضَاعِ يَنْتَشِرُ عَنِ الْمُرْضِعَةِ إِلَى غَيْرِهَا فَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ فِي الْمُرْضِعَةِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَنْتَشِرَ إِلَى غَيْرِ الْمُرْضِعَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ نِكَاحُ الصَّغِيرَةِ وَالْكِبَارِ بِحَالِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّ الصَّغِيرَةَ قَدْ صَارَتْ بِنْتًا لِلزَّوْجِ، وَإِنْ لَمْ تَصِرْ بِنْتًا لِوَاحِدَةٍ مِنَ الْمُرْضِعَاتِ، لِأَنَّ الْمُرْضِعَةَ تَصِيرُ أُمًّا إِذَا أَرْضَعَتْ خَمْسًا، وَهَذِهِ قَدِ اسْتَكْمَلَتْ خَمْسَ رَضَعَاتٍ مِنْ لَبَنِهِ فَاسْتَوَى حُكْمُ الْخَمْسِ مِنْ وَاحِدَةٍ أَوْ مِنْ خَمْسٍ. فَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ نِكَاحُ الصَّغِيرَةِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِنْتَهُ، وَلَا يَبْطُلُ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنَ

(11/389)


الْكِبَارِ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ مِنْ أُمَّهَاتِ نِسَائِهِ، وَيَكُونُ لِلصَّغِيرَةِ نِصْفُ مَهْرِهَا وَتَرْجِعُ بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا عَلَى الْكِبَارِ بَيْنَهُنَّ عَلَى أَعْدَادِ الزَّوْجَاتِ.
وَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ خَمْسُ بَنَاتٍ مَرَاضِعُ اشْتَرَكْنَ فِي إِرْضَاعِ صَغِيرَةٍ فَأَرْضَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ رَضْعَةً فَلَا تَكُونُ فِيهِنَّ أُمٌّ لَهَا، وَهَلْ أَبُوهُنَّ جَدٌّ لَهَا وَيَصِرْنَ بِذَلِكَ اللَّبَنِ خَالَاتٍ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْأَنْمَاطِيِّ إِنَّهُ لَا يَصِيرُ أَبُوهُنَّ جَدًّا لَهَا، وَلَا هُنَّ خَالَاتِهَا وَلَا تَحْرُمُ عَلَى أَبِيهِنَّ وَلَا على إخواتهن، وَيَجُوزُ لِلْأَجْنَبِيِّ إِذَا تَزَوَّجَ الصَّغِيرَةَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَنْ شَاءَ مِنَ الْمُرْضِعَاتِ الْخَمْسِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ صَارَ أَبُوهُنَّ جَدًّا لَهَا لِارْتِضَاعِهَا مِنْ لَبَنِ بَنَاتِهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَوْلَادِهِ؛ لِأَنَّهُمْ أَخْوَالُهَا، وَلَا يَجُوزُ لِلْأَجْنَبِيِّ إِذَا تَزَوَّجَهَا أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ إِحْدَى الْمُرْضِعَاتِ، لِأَنَّهَا خَالَتُهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب.

(مسألة)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً أَرْضَعَتْ مَوْلُودًا فَلَا بَأْسَ أَنْ تَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةُ الْمُرْضِعَةُ أَبَاهُ وَيَتَزَوَّجَ الْأَبُ ابْنَتَهَا أَوْ أُمَّهَا عَلَى الِانْفِرَادِ لِأَنَّهَا لَمْ تُرْضِعْهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مَا تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ، وَقُلْنَا: إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا أَرْضَعَتْ طِفْلًا بِلَبَنِ زَوْجِهَا صَارَ ابْنًا لَهُمَا وَصَارَا أَبَوَيْنِ لَهُ فَانْتَشَرَتْ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ مِنْهُمَا إِلَيْهِ، بِأَنْ صَارَ وَلَدًا لَهُمَا، وَانْتَشَرَتِ الْحُرْمَةُ مِنْهُ إِلَيْهِمَا بِأَنْ صَارَا أَبَوَيْنِ لَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ التَّحْرِيمُ الْمُنْتَشِرُ إِلَى الْأَبَوَيْنِ مُتَعَدِّيًا عَنْهُمَا إِلَى كُلِّ مَنْ نَاسَبَهُمَا فَيَصِيرُ أَبُو الزَّوْجِ جَدًّا لَهُ مِنْ أَبٍ، وَأُمُّهُ جَدَّةً لَهُ مِنْ أَبٍ، وَإِخْوَةُ الْأَبِ أَعْمَامَهُ، وَأَخَوَاتُ الْأَبِ عَمَّاتِهِ، وَأَبُو الْمُرْضِعَةِ جَدًّا لَهُ مِنْ أُمٍّ، وَأُمُّهَا جَدَّةً لَهُ مِنْ أُمٍّ فَكَذَلِكَ مَا عَلَا مِنْهُمَا.
وَأَمَّا التَّحْرِيمُ الْمُنْتَشِرُ إِلَى الْوَلَدِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ وَعَلَى وَلَدِهِ وَلَا يَتَعَدَّى مِنْهُ إِلَى أَبَوَيْهِ فَيَجُوزُ لِأَبِيهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْمُرْضِعَةِ، لِأَنَّ أُمَّ وَلَدِهِ مِنَ النَّسَبِ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ لِأُمِّهِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِأَبِيهِ من الرضاع، ويجيز لِإِخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ أَنْ يَتَزَوَّجُوا بِأَبَوَيْهِ مِنَ الرَّضَاعِ، لِأَنَّهُ لَا نَسَبَ بَيْنَهُمْ وَلَا رَضَاعَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(فَصْلٌ)
وَإِذَا زَوَّجَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ الصَّغِيرَ بِأَمَتِهِ ثُمَّ أَعْتَقَهَا، وَاخْتَارَتْ فَسْخَ نِكَاحِهِ، وَتَزَوَّجَتْ فَنَزَلَ لَهَا مِنْ زَوْجِهَا لَبَنٌ أَرْضَعَتْ بِهِ الزَّوْجَ الْأَوَّلَ بَطَلَ نِكَاحُهَا مِنَ الثَّانِي، لِأَنَّهُ صَارَ أَبًا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ، فَصَارَتْ مِنْ حَلَائِلِ أَبْنَائِهِ فَحَرُمَتْ عَلَيْهِ، وَلَوْ زَوَّجَ السَّيِّدُ أُمَّ وَلَدِهِ بِصَغِيرٍ فَأَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِهَا انْفَسَخَ نِكَاحُهَا، لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ زَوْجِهَا وَحَرُمَتْ عَلَى سَيِّدِهَا، لِأَنَّ زَوْجَهَا صَارَ ابْنًا لِسَيِّدِهَا فَحَرُمَتْ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا صَارَتْ مَنْ حَلَائِلِ أَبْنَائِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(11/390)


(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ شَكَّ أَرْضَعَتْهُ خَمْسًا أَوْ أَقَلَّ لَمْ يَكُنِ ابْنًا لَهَا بِالشَّكُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ الشَّكَّ إِذَا طَرَأَ عَلَى الْيَقِينِ سَقَطَ حُكْمُهُ كَالشَّاكِّ فِي الطَّلَاقِ وَالْحَدَثِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ شَكَّ فِي الَّتِي طَلَّقَهَا مِنْ نِسَائِهِ، حَرُمْنَ عَلَيْهِ كُلُّهُنَّ، وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا التَّحْرِيمُ بِالشَّكِّ قَبْلَ الْجَوَابِ، لِأَنَّ التَّحْرِيمَ فِي الْمُطَلَّقَةِ مُتَيَقَّنٌ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُطَلَّقَةَ، وَخَالَفَ هَذَا التَّحْرِيمَ الْمَشْكُوكَ في وقوعه والله أعلم بالصواب.

(11/391)


(باب لبن الرجل والمرأة)
(مسألة)
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَاللَّبَنُ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ كَمَا الْوَلَدُ لَهُمَا وَالْمُرْضَعُ بِذَلِكَ اللَّبَنِ وَلَدُهُمَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا قَدْ مَضَى فِي أَوَّلِ الْبَابِ، وَذَكَرْنَا أَنَّ لَبَنَ الرضاع للرجل والمرأة، والمرضع به ابناً لَهُمَا، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ دَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ فَجَعَلُوا اللَّبَنَ لِلْمَرْأَةِ دُونَ الرَّجُلِ وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَوْفَاةً فِيمَا تَقَدَّمَ إِلَى آخِرِهَا.
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ وَلَدَتِ ابْنًا مِنْ زِنًا فَأَرْضَعَتْ مَوْلُودًا فَهُوَ ابْنُهَا وَلَا يَكُونُ ابْنَ الَّذِي زَنَى بِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَلَدُ الرَّضَاعِ تَبَعٌ لِوَلَدِ الْوِلَادَةِ فَإِذَا وَلَدَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجٍ أَوْ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ، كَانَ وَلَدُهَا الذي ولدته لاحقاً بِزَوْجِهَا الَّذِي وَلَدَتْ مِنْهُ وَبِالْوَطْءِ لَهَا بِالشُّبْهَةِ فَإِنْ أَرْضَعَتْ بِلَبَنِهِ وَلَدًا كَانَ وَلَدُ الرَّضَاعِ وَلَدًا لِلزَّوْجِ الَّذِي تَزَوَّجَتْ بِهِ، وَلِلْوَاطِئِ الَّذِي وطئها بالشبهة لأنه مخلوق من مائهما كان ولد الرضا لهما لأنه معتد بِلَبَنِهِمَا، فَإِنْ زَنَتْ وَوَلَدَتْ وَلَدًا مِنْ زِنًا وَأَرْضَعَتْ بِلَبَنِهِ وَلَدًا كَانَ وَلَدُ الزِّنَا وَوَلَدُ الرَّضَاعِ لَاحِقَيْنِ بِهَا وَلَمْ يُلْحَقَا بِالزَّانِي، لِأَنَّ ابْنَهَا الْمَوْلُودَ عَنِ الزَّانِي يُوجِبُ انْتِفَاءَ الْمُرْضَعِ عَنْهُ، لِأَنَّ وَلَدَ النَّسَبِ أَقْوَى حُكْمًا مِنْ وَلَدِ الرَّضَاعِ، وَقَدِ انْتَفَى عَنِ الزَّانِي فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَنْتَفِيَ عَنْهُ وَلَدُ الرَّضَاعِ.
(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَكْرَهُ لَهُ فِي الْوَرَعِ أَنْ يَنْكِحَ بَنَاتِ الَّذِي وَلَدَهُ مِنْ زِنًا فَإِنْ نَكَحَ لَمْ أفسخه لأنه ابنه في حكم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى عليه الصلاة والسلام بابن وليدة زمعة لزمعة وأمر سودة أن تحتجب منه لما رأى من شبهه بعتبة فلم يرها وقد حكم أنه أخوها لأن ترك رؤيتها مباح وإن كان أخاها (قال المزني) رحمه الله وقد كان أنكر على من قال يتزوج ابنته من زنا ويحتج بهذا المعنى وقد زعم أن رؤية ابن زمعة لسودة مباح وإن كرهه فكذلك في القياس لا يفسخ نكاحه وإن كرهه ولم يفسخ نكاح ابنه من زنا بناته من حلال لقطع الأخوة فكذلك في القياس لو تزوج ابنته من زنا لم

(11/392)


يفسخ وإن كرهه لقطع الأبوة وتحريم الأخوة كتحريم الأبوة ولا حكم عنده لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وللعاهر الحجر " فهو في معنى الأجنبي وبالله التوفيق ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ قَدْ مَضَتْ وَذَكَرْنَا أَنَّ وَلَدَ الزِّنَا لَا يُلْحَقُ بِالزَّانِي وَأَنَّ الْفُقَهَاءَ قَدِ اخْتَلَفُوا هَلْ يَجُوزُ لِلزَّانِي أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إِذَا كَانَتْ بِنْتًا عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ نِكَاحَهَا حَرَامٌ عَلَيْهِ وَمَتَى أَقَرَّ بِهَا لَحِقَتْهُ، حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ وَلَا تُلْحَقُ بِهِ إِذَا أَقَرَّ بِهَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا تَحِلُّ لَهُ وَلَا يُكْرَهُ لَهُ نِكَاحُهَا وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ.
وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا، وَيَكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي مَعْنَى كَرَاهِيَتِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَخْلُوقَةً مِنْ مَائِهِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَحَقَّقَ خَلْقُهَا مِنْ مَائِهِ بِأَنْ حُبِسَا مَعًا مِنْ مُدَّةِ الزِّنَا إِلَى وَقْتِ الْوِلَادَةِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهُ يُكْرَهُ نِكَاحُهُمَا لِمَا فِيهِ مِنِ اخْتِلَافٍ كَمَا كُرِهَ الْقَصْرُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ جَائِزًا لِمَا فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَحَقَّقَ خَلْقُهَا مِنْ مَائِهِ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لثلاثة أمور:
أحدها: لانتقاء نَسَبِهَا عَنْهُ كَالْأَجَانِبِ.
وَالثَّانِي: لِانْتِفَاءِ أَحْكَامِ النِّسَبِ بَيْنَهُمَا مِنَ الْمِيرَاثِ وَالنَّفَقَةِ وَالْقِصَاصِ كَذَلِكَ تَحْرِيمُ النِّكَاحِ.
وَالثَّالِثُ: لِإِبَاحَتِهَا لِأَخِيهِ وَلَوْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ الْأَبُ لَحَرُمَتْ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ الْعَمُّ، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ تَكَلَّمَ عَلَى كَرَاهَةِ الشَّافِعِيِّ لَهُ، فَإِنْ نَسَبَ ذَلِكَ إِلَى التَّحْرِيمِ كَانَ غَلَطًا مِنْهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ نَسَبَهُ إِلَى كَرَاهَةِ اخْتِيَارٍ مَعَ جَوَازِهِ كَانَ مُصِيبًا وَقَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَى الكراهية.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي عِدَّتِهَا فَأَصَابَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَأَرْضَعَتْ مَوْلُودًا كَانَ ابْنَهَا وَأُرِيَ الْمَوْلُودُ الْقَافَةَ فَبِأَيِّهِمَا أُلْحِقَ لَحِقَ وَكَانَ الْمُرْضَعُ ابْنَهُ وَسَقَطَتْ أَبُوَّةُ الْآخَرِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ فِي عِدَّتِهَا وَوَضَعَتْ وَلَدًا أَرْضَعَتْ بلبنه طفلا فالمرضع تابع للمولود، وللمولود أربعة أحوال:

(11/393)


أَحَدُهَا: أَنْ يُلْحَقَ بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي فَيَتْبَعَهُ الْمُرْضَعُ، وَيَكُونَ لِلْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْمَوْلُودُ يُلْحَقُ بِالثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَيَتْبَعَهُ الْمُرْضَعُ، وَيَكُونَ ابْنًا لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَنْتَفِيَ الْمَوْلُودُ عَنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فَيَتْبَعَهُ الْمُرْضَعُ، وَيَنْتَفِيَ عَنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ إِلْحَاقَ الْمُرْضَعِ بِالْأَوَّلِ لِثُبُوتِ لَبَنِهِ كَمَا لَوْ لَمْ تَلِدِ الْمُرْضِعَةُ وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لَأَنَّ لَبَنَ الْوِلَادَةِ قَاطِعٌ لِحُكْمِ مَا تَقَدَّمَهُ فَإِذَا انْتَفَتِ الْوِلَادَةُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَأَوْلَى أَنْ يَنْتَفِيَ الرَّضَاعُ عَنْهُمَا.
وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يُمْكِنَ لُحُوقُ الْمَوْلُودِ بكل واحد منهما فيرى المولد لِلْقَافَةِ فَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِالْأَوَّلِ لَحِقَ بِهِ وَتَبِعَهُ الْمُرْضَعُ، وَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِالثَّانِي لَحِقَ بِهِ، وَتَبِعَهُ الْمُرْضَعُ وَإِنْ أَشْكَلَ عَلَى الْقَافَةِ أَوْ عُدِمُوا وُقِفَ الْمَوْلُودُ إِلَى زَمَانِ الْأَنْسَابِ، فَإِذَا انْتَسَبَ إِلَى أَحَدِهِمَا لَحِقَ بِهِ وَتَبِعَ الْمُرْضَعُ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الِانْتِسَابِ، وَكَانَ لَهُ وَلَدٌ قَامَ وَلَدُهُ مَقَامَهُ فِي الِانْتِسَابِ، فَإِذَا انْتَسَبَ إِلَى أحدهما لَحِقَ بِهِ وَتَبِعَهُ الْمُرْضَعُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ صَارَ ثُبُوتُ النَّسَبِ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلُودِ مَعْدُومًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: " ضَاعَ نَسَبُهُ " وَمَعْنَاهُ: ضَاعَ النَّسَبُ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَفِي الْمُرْضَعِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ ابْنًا لَهُمَا جَمِيعًا بِخِلَافِ الْمَوْلُودِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَوْلُودِ أَبَوَانِ مِنْ نَسَبٍ، لِأَنَّهُ لَا يُخْلَقُ إِلَّا مِنْ مَاءِ أَحَدِهِمَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَبَوَانِ مِنْ رَضَاعٍ لِأَنَّهُ قَدْ يُرْتَضَعُ مِنْ لَبَنِهِمَا وَيَكُونُ غِذَاءُ اللَّبَنِ لَهُمَا، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ لِأَحَدِهِمَا لِأَنَّ اللَّبَنَ قَدْ يَحْدُثُ بِالْوَطْءِ تَارَةً وَبِالْوِلَادَةِ أُخْرَى فَلِذَلِكَ صَارَ الْمُرْضَعُ ابْنًا لَهُمَا، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ ضَعْفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ صَارَ ابْنًا لَهُمَا بِمَوْتِ الْوَلَدِ لَمَا جَازَ أَنْ يَنْقَطِعَ عَنْهُ أُبُوَّةُ أَحَدِهِمَا بِحَيَاةِ الْوَلَدِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ نُزُولَ اللَّبَنِ إِنَّمَا يُضَافُ إِلَى الْوَاطِئِ بِالْوِلَادَةِ لَا بِالْوَطْءِ، لِأَنَّهُ لَوْ نَزَلَ لَهَا بِوَطْئِهِ لَبَنٌ فَأَرْضَعَتْ بِهِ وَلَدًا لَمْ يَصِرِ ابْنًا لِلزَّوْجِ حَتَّى تَلِدَ مِنْهُ فَيَصِيرَ اللَّبَنُ لَهُ وَالْمُرْضَعُ بِهِ ابْنًا لَهُ فَهَذَا قَوْلٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْمُرْضَعَ يُنْسَبُ إِلَى أَحَدِهِمَا، كَمَا كَانَ الْمَوْلُودُ يُنْسَبُ إلى أحدهما لأنهذذ تَابِعٌ لَهُ فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا انْتَسَبَ الْمَوْلُودُ، لِأَنَّ الطَّبْعَ جَاذِبٌ وَالشَّبَهَ غَالِبٌ، وَهَذَا مَفْقُودٌ فِي

(11/394)


الْمُرْضَعِ، وَلِذَلِكَ رُجِعَ إِلَى الْقَافَةِ فِي الْمَوْلُودِ، وَلَمْ يُرْجَعْ إِلَيْهِمْ فِي الْمُرْضَعِ.
قِيلَ: قَدْ يُحْدِثُ الرَّضَاعُ مِنْ شَبَهِ الْأَخْلَاقِ مِثْلَ مَا تُحْدِثُهُ الْوِلَادَةُ مِنْ شَبَهِ الْأَجْسَامِ وَالصَّوْتِ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا تَسْتَرْضِعُوا الْحَمْقَى فَإِنَّ اللَّبَنَ يُغَذِّي ".
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنَا أَفْصَحُ الْعَرَبِ بَيْدَ أَنِّي مِنْ قُرَيْشٍ وَأَخْوَالِي بَنُو زُهْرَةَ وَارْتُضِعْتُ فِي بَنِي سَعْدٍ ".
وَرَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَجُلًا فَقَالَ أَنْتَ مِنْ بَنِي فُلَانٍ قَالَ مِنْهُمْ رَضَاعًا لَا نَسَبًا فَأَضَافَهُ إِلَيْهِمْ بِشَبَهِ الْأَخْلَاقِ كَمَا تُضِيفُهُ الْقَافَةُ بِشَبَهِ الْأَجْسَامِ، وَلَمْ يُعَوَّلْ عَلَى الْقَافَةِ فِي إِلْحَاقِ الْمُرْضَعِ، وَإِنْ عُوِّلَ عَلَيْهِمْ فِي إِلْحَاقِ الْمَوْلُودِ، لِأَنَّ شَبَهَ الْأَجْسَامِ وَالصُّوَرِ أَقْوَى بِظُهُورِهِ، وَشَبَهَ الْأَخْلَاقِ وَالشِّيَمِ أَضْعَفُ لَحْقًا بِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَنْقَطِعُ عَنْهُ أُبُوَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الِانْتِسَابِ إِلَى أَحَدِهِمَا لِأَنَّ الْأَنْسَابَ تَثْبُتُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ بِالْفِرَاشِ ثُمَّ الْقَافَةِ ثُمَّ الِانْتِسَابِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي الرَّضَاعِ فِرَاشٌ، وَلَمْ يَثْبُتْ بِالْقَافَةِ لَمْ يَثْبُتْ بِالِانْتِسَابِ وَإِنْ ثَبَتَ بِهِ النَّسَبُ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّسَبَ لَا يَقَعُ فِيهِ اشْتِرَاكٌ فَجَازَ أَنْ يُعَوَّلَ فِيهِ عَلَى الطَّبْعِ الْحَادِثِ وَيَقَعُ فِي الرَّضَاعِ اشْتِرَاكٌ فَعُدِمَ فِيهِ الطَّبْعُ الْحَادِثُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ امْتِزَاجَ النَّسَبِ مَوْجُودٌ مَعَ أَصْلِ الْخِلْقَةِ، وَالرَّضَاعَ حَادِثٌ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الْخَلْقِ وَاسْتِقْرَارِ الْخَلْقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ مَاتَ فَالْوَرَعُ أَنْ لَا يَنْكِحَ ابْنَةَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا يَكُونَ مَحْرَمًا لَهَا وَلَوْ قَالُوا الْمَوْلُودُ هُوَ ابْنُهُمَا جُبِرَ إِذَا بَلَغَ على الانتساب إلى أحداهما وَتَنْقَطِعُ أُبُوَّةُ الْآخَرِ وَلَوْ كَانَ مَعْتُوهًا لَمْ يُلْحَقْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يَمُوتَ وَلَهُ وَلَدٌ فَيَقُومُونَ مَقَامَهُ فِي الِانْتِسَابِ إِلَى أَحَدِهِمَا أَوْ لَا يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ فَيَكُونُ مِيرَاثُهُ مَوْقُوفًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا حُدُوثُ الْمَوْتِ بَعْدَ الِاشْتِبَاهِ فَالْكَلَامُ فِيهِ مُتَعَلِّقٌ بِفَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: نَسَبُ الْمَوْلُودِ.
وَالثَّانِي: أُبُوَّةُ الْمُرْضَعِ.
فَأَمَّا نَسَبُ الْمَوْلُودِ، فَالْكَلَامُ فِيهِ مُتَعَلِّقٌ بِفَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: حُكْمُ الْقِيَافَةِ.
وَالثَّانِي: حكم الانتساب.

(11/395)


فَأَمَّا حُكْمُ الْقِيَافَةِ فَمُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْمَيِّتِ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الْمَوْلُودَ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِهِ حُكْمُ الْقِيَافَةِ وَقَامَ وَلَدُهُ فِي إِلْحَاقِ الْقَافَةِ مَقَامَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَلَدًا نُظِرَ فَإِنْ دُفِنَ انْقَطَعَ بدفنه حكم القيافة وإن لم يدفن فتى انْقِطَاعِ حُكْمِ الْقِيَافَةِ بِمَوْتِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَنْقَطِعُ لِبَقَاءِ الصُّوَرِ الْمُشَاكِلَةِ أَوِ الْمُتَنَافِيَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِهِ حُكْمُ الْقِيَافَةِ لِأَنَّ فِي إِشَارَاتِ الْحَيِّ وَحَرَكَاتِهِ عَوْنًا لِلْقَافَةِ عَلَى إِلْحَاقِهِ، وَذَلِكَ مَفْقُودٌ بِمَوْتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ هو الواطئان أَوْ أَحَدُهُمَا، فَإِنْ تَرَكَ الْمَيِّتُ وَالِدًا لَمْ يَنْقَطِعْ حُكْمُ الْقَافَةِ بِمَوْتِهِ، وَقَامَ وَالِدُهُ مَقَامَهُ كَمَا قَامَ وَلَدُ الْمَوْلُودِ مَقَامَهُ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وَلَدِ الْوَاطِئِ وَأَخِيهِ، هَلْ يَقُومَانِ بَعْدَ مَوْتِهِ مَقَامَ أَبِيهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَقُومَانِ مَقَامَهُ لِامْتِزَاجِ النَّسَبِ.
وَالثَّانِي: لَا يَقُومَانِ مَقَامَهُ لِبُعْدِ الِامْتِزَاجِ وَتَغَيُّرِ الْخَلْقِ بِاخْتِلَافِ الْأُمَّهَاتِ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكِ الْوَاطِئُ بَعْدَ مَوْتِهِ أَحَدًا فَفِي انْقِطَاعِ الْقِيَافَةِ بِمَوْتِهِ قَبْلَ دَفْنِهِ الْوَجْهَانِ الْمَاضِيَانِ: وَأَمَّا الِانْتِسَابُ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلُودِ دُونَ الْوَاطِئِ، وَإِنَّمَا انْفَرَدَ بِهِ الْمَوْلُودُ لِانْفِرَادِهِ، وَمُنِعَ مِنْهُ الْوَاطِئُ لِاشْتِرَاكِهِ فِيهِ مَعَ غَيْرِهِ، وَأُخِذَ بِهِ الْمَوْلُودُ جَبْرًا وَإِنِ امْتَنَعَ لِأَنَّ فِي انْتِسَابِهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى بِمَنْعِهِمْ مِنَ الِاتِّفَاقِ عَلَى نَفْيِ الِانْتِسَابِ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَعَنَ اللَّهُ مَنِ انْتَفَى مِنْ نَسَبٍ وَإِنْ رُقَّ "، وَلِأَنَّ فِي الِانْتِسَابِ حَقًّا لَهُ وَحَقًّا عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ فِي الْمَيِّتِ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَوْلُودَ رُوعِيَ حَالُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَإِنْ تَرَكَ وَلَدًا قَامَ وَلَدُهُ فِي انْتِسَابِ مَقَامِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الطَّبْعِ الْحَادِثِ كالأب، وإن لم بترك وَلَدًا انْقَطَعَ حُكْمُ النَّسَبِ بِمَوْتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الْوَاطِئَ نُظِرَ حَالُ الْمَوْلُودِ عِنْدَ مَوْتِهِ، فَإِنْ كَانَ مُرَاهِقًا قَوِيَّ الْفِطْنَةِ صَحِيحَ الذَّكَاءِ قَدْ شَاهَدَ الْوَاطِئَ لَمْ يَنْقَطِعِ انْتِسَابَهُ بموت المواطئ، وَكَانَ لَهُ الِانْتِسَابُ بَعْدَ مَوْتِهِ مَا كَانَ لَهُ مِنَ الِانْتِسَابِ فِي حَيَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ طِفْلًا لَا يُمَيِّزُ أَوْ لَمْ يَرَهُ فِي حَيَاتِهِ سَقَطَ حُكْمُ انْتِسَابِهِ فَهَذَا حُكْمُ نَسَبِ الْمَوْلُودِ إِنْ حَدَثَ مَوْتٌ.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا أُبُوَّةُ الْمُرْضَعِ فَمُعْتَبَرَةٌ بِنَسَبِ الْمَوْلُودِ فَإِنْ لَمْ يَنْقَطِعْ نَسَبُهُ بِالْمَوْتِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمُقَدَّمِ لَمْ تَنْقَطِعْ أُبُوَّةُ الْمُرْضَعِ، وَكَانَ فِيمَا تَبِعَ الْوَلَدُ النَّسَبَ عِلَّةُ مَا قَدَّمْنَاهُ وَإِنِ انْقَطَعَ نَسَبُ الْمَوْلُودِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمُقَدَّمِ، كَانَ فِي بُنُوَّةِ الْمُرْضَعِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ، وَعَلَيْهَا تُبْنَى مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فِي تَزْوِيجِهِ بِنْتًا مِنَ الْوَاطِئَيْنِ فَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِنَّهُ ابْنٌ لَهُمَا حَرُمَ عَلَيْهِ بَنَاتُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَكَانَ مَحْرَمًا لَهُنَّ.

(11/396)


وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي إِنَّهُ نُسِبَ إِلَى أَحَدِهِمَا فَإِذَا انْتَسَبَ إِلَيْهِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ بَنَاتُهُ فَصَارَ مَحْرَمًا لَهُنَّ لِثُبُوتِ الْأُخُوَّةِ بَيْنَهُمْ، وَلَمْ يَصِرْ مَحْرَمًا لِبَنَاتِ الْآخَرِ، وَفِي تَحْرِيمِهِ عَلَيْهِنَّ وجهان:
أحدهما: يحرم عليهن تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْحَظْرِ قَبْلَ الِانْتِسَابِ.
وَالثَّانِي: لَا يَحْرُمْنَ لِانْقِطَاعِ النَّسَبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ، وَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْهُنَّ وَرَعًا، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ.
وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّالِثِ: إِنَّهُ يَنْقَطِعُ عَنْهُ أُبُوَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَصِرْ مَحْرَمًا لِبَنَاتِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَفِي إِبَاحَةِ تَزْوِيجِهِ بَنَاتِهِمَا أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ بَنَاتُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِانْقِطَاعِ الْأُبُوَّةِ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ بِنْتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا يُمْنَعُ مِنْ تَزْوِيجِهِمَا وَرَعًا لَا تَحْرِيمًا، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ بَنَاتُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَصِرْ مَحْرَمًا لَهَا تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْحَظْرِ الْمُشْتَبَهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَلَا يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ بِنْتِ الْآخَرِ، فَإِذَا فَارَقَهُمَا حَلَّ لَهُ نِكَاحُ بِنْتِ الْآخَرِ فَجَعَلَهُ مُخَيَّرًا فِي نِكَاحِ بِنْتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَمَنَعَهُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا.
قَالَ: لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ لَا يَتَعَيَّنُ الْحَظْرُ فِيهَا، وَتَعَيَّنَ فِي الشَّيْئَيْنِ فَمُنِعَ مِنَ الْجَمْعِ وَلَمْ يُمْنَعْ مِنَ الِانْفِرَادِ، وَضَرَبَ بِذَلِكَ مِثَالًا لِرَجُلَيْنِ رَأَيَا طَائِرًا فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إِنْ كَانَ هَذَا الطَّائِرُ غُرَابًا فَعَبْدِي حُرٌّ، وَقَالَ الْآخَرُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا فَعَبْدِي حُرٌّ، فَطَارَ وَلَمْ يُعْلَمْ هَلْ كَانَ غُرَابًا أَوْ غَيْرَ غُرَابٍ لَا عِتْقَ عَلَى واحد منهما لانفراد بِمَشْكُوكٍ فِي عِتْقِهِ فَإِنِ اجْتَمَعَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ عِتْقُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي مِلْكٍ.
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ بِنْتَ أَيِّهِمَا شاء، فإن نَكَحَهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ بِنْتُ الْآخَرِ كَالْمُجْتَهِدِ فِي إِنَائَيْنِ مِنْ مَاءٍ إِذَا اسْتَعْمَلَ أَحَدَهُمَا حَرُمَ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ الْآخَرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَرْضَعَتْ بِلَبَنِ مَوْلُودٍ نَفَاهُ أَبُوهُ بِاللِّعَانِ لَمْ يَكُنْ أَبًا لِلْمُرْضَعِ فَإِنْ رَجَعَ لَحِقَهُ وَصَارَ أَبًا لِلْمُرْضَعِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا أَرْضَعَتِ الْمَرْأَةُ بِلَبَنِ وِلَادَتِهَا طِفْلًا وَنَفَى الزَّوْجُ وَلَدَهَا بِاللِّعَانِ انْتَفَى عَنْهُ نَسَبُ الْمَوْلُودِ بِلِعَانِهِ، وَتَبِعَهُ الْمُرْضَعُ فِي نَفْيِهِ، لِأَنَّ بُنُوَّةَ النَّسَبِ أَقْوَى مِنْ بُنُوَّةِ الرَّضَاعِ فَإِذَا انْتَفَتْ بُنُوَّةُ النَّسَبِ بِاللِّعَانِ، فَأَوْلَى أَنْ تَنْتَفِيَ بُنُوَّةُ الرضاع

(11/397)


سَوَاءٌ أُرْضِعَ قَبْلَ اللِّعَانِ أَوْ بَعْدَهُ، وَسَوَاءٌ ذَكَرَ الْمُرْضَعَ فِي لِعَانِهِ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ، لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْمَوْلُودِ فِي الثُّبُوتِ وَالنَّفْيِ، فَلَوِ اعْتَرَفَ بِهِ الْأَبُ بَعْدَ نَفْيِهِ لَحِقَ بِهِ الْمَوْلُودُ، وَتَبِعَهُ وَلَدُ الرَّضَاعِ فَصَارَ لَهُ ابْنًا مِنَ الرَّضَاعِ كَمَا صَارَ الْمَوْلُودُ ابْنًا لَهُ مِنَ النَّسَبِ لِاتِّبَاعِهِ لَهُ فِي الْحَالَيْنِ.

(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِثَلَاثِ حِيَضٍ وَثَبَتَ لَبَنُهَا أَوِ انْقَطَعَ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ زَوْجًا فَأَصَابَهَا فَثَابَ لَهَا لَبَنٌ وَلَمْ يَظْهَرْ بِهَا حَمْلٌ فَهُوَ من الأول ولو كان لبنها ثبت فحملت من الثاني فنزل بها لبن في الوقت الذي يكون لها فيه لبن من الحمل الآخر كان اللبن من الأول بكل حال لأنا على علم من لبن الأول وفي شك من أن يكون خلطه لبن الأخر فلا أحرم بالشك وأحب للمرضع لو توقى بنات الزوج الآخر (قال المزني) رحمه الله عليه: هذا عندي أشبه (قال الشافعي) رحمه الله ولو انقطع فلم يثب حتى كان الحمل الآخر في وقت يمكن من الأول ففيها قولان أحدهما إنه من الأول بكل حال يثوب بأن ترحم المولود أو تشرب دواء فتدر عليه، والثاني أنه إذا انقطع انقطاعاً بينا فهو من الآخر وإن كان لا يكون من الآخر لبن ترضع به حتى تلد فهو من الأول في جميع هذه الأقاويل وإن كان يثوب شيء ترضع به وإن قل فهو منهما جميعاً وَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اللَّبَنِ وَالْوَلَدِ قَالَ هو للأول ومن فرق قال هو منهما معاً ولو لم ينقطع اللبن حتى ولدت من الآخر فالولادة قطع للبن الأول فمن أرضعت فهو ابنها وابن الزوج الآخر ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ إِذَا كَانَ لَهَا لَبَنٌ مِنْ وَلَدِ الزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ فَكُلُّ مَنْ أَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِهَا كَانَ ابْنًا لَهَا وَلِزَوْجِهَا الْمُطَلِّقِ، لِأَنَّ اللَّبَنَ يُدِرُّ عَلَى الْمَوْلُودِ لِحَاجَتِهِ إِلَى اغْتِذَائِهِ بِهِ فَصَارَ اللَّبَنُ لَهُ، وَهُوَ وَلَدُ الْمُطَلِّقِ فَكَانَ وَلَدُ الرَّضَاعِ بِمَثَابَتِهِ، وَعَلَى حُكْمِهِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ فِي عِدَّتِهَا أَوِ انْقَضَتْ فَإِنْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ عِدَّتِهَا زَوْجًا كَانَ مَنْ أَرْضَعَتْهُ بَعْدَ تَزْوِيجِهَا ابْنًا لِلْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي أَوْ لَمْ يَدْخُلْ مَا لَمْ تَحْبَلْ فَلَوْ كَانَ اللَّبَنُ قَدِ انْقَطَعَ قَبْلَ دُخُولِ الثَّانِي ثُمَّ ثَابَ وَنَزَلَ بَعْدَ دُخُولِ الثَّانِي كَانَ اللَّبَنُ لِلْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ لِغِذَاءِ الْوَلَدِ وَالْوَلَدُ لِلْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا ثَابَ لِلثَّانِي بَعْدَ انْقِطَاعِهِ، لِأَنَّ الْجِمَاعَ لِقَاحٌ مُبَاحٌ بِهِ اللَّبَنُ فَثَابَ وَظَهَرَ بَعْدَ كَوْنِهِ فَلِذَلِكَ كَانَ لِلْأَوَّلِ وَكَانَ الْمُرْضَعُ ابْنًا لَهُ دُونَ الثَّانِي.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا إِذَا حَمَلَتْ مِنَ الثَّانِي ثُمَّ أَرْضَعَتْ عَلَى حَمْلِهَا وَلَدًا فَيُنْظَرُ في وقت

(11/398)


الرضاع فإن كان في مبادئ الْحَمْلِ فِي وَقْتٍ لَا يُخْلَقُ لِلْحَمْلِ فِيهِ اللَّبَنُ؛ لِأَنَّ لَبَنَ الْحَمْلِ يَحْدُثُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي زَمَانٍ يُسْتَكْمَلُ فِيهِ خَلْقُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُولَدَ فِيهِ حَيًّا فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْحَمْلُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ، فَالْوَلَدُ لِلْأَوَّلِ وَإِنْ ثَابَ وَنَزَلَ بَعْدَ انْقِطَاعِهِ بِتَهَيُّجِ الْجِمَاعِ فَيَكُونُ الْمُرْضَعُ ابْنًا لِلْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ، قَدِ انْتَهَى إِلَى وَقْتٍ يَجُوزُ أَنْ يَنْزِلَ لِمِثْلِهِ لَبَنٌ لَمْ يَخْلُ حِينَئِذٍ لَبَنُ الْحَمْلِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ حَالُهُ قَبْلَ الْحَمْلِ لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ فَيَكُونَ لَبَنُهَا لِلْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْحَمْلَ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَقَصَ لَبَنُهَا بِالْحَمْلِ فَيَكُونُ الْمُرْضَعُ بِهِ ابْنًا لِلْأَوَّلِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَبَنُهَا قَدْ زَادَ بِالْحَمْلِ، وَلَمْ يَنْقُصْ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ إِنَّهُ يَكُونُ اللَّبَنُ لِلْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَالْمُرْضَعُ بِهِ ابْنًا لَهُمَا، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْحَمْلِ تَكُونُ مُضَافَةً إِلَيْهِ، وَحَادِثَةً عَنْهُ، فَامْتَزَجَ اللَّبَنَانِ فَصَارَ كَامْتِزَاجِهِ مِنِ امْرَأَتَيْنِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ اللَّبَنَ لِلْأَوَّلِ، وَالْمُرْضَعُ بِهِ ابناً لَهُ دُونَ الثَّانِي لِأَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ بقاء اللبن من الأول في شَكٍّ مِنَ الزِّيَادَةِ أَنْ تَكُونَ لِلثَّانِي لِجَوَازِ حُدُوثِهَا وَبِتَهَيُّجِ الْجِمَاعِ كَحُدُوثِهَا قَبْلَ الْحَمْلِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ، قَالَ الشَّافِعِيُّ " وَأُحِبُّ لَهُ تَوَقِّي بَنَاتِ الثَّانِي لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ لَهُ ".
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ لَبَنُهَا قَدِ انْقَطَعَ ثُمَّ ثَابَ وَنَزَلَ بِالْحَمْلِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
أحدها: أنه للأول والمرضع به ابناً لَهُ، دُونَ الثَّانِي اعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ فِي بَقَاءِ لَبَنِهِ وَأَنَّهُ مُبَاحٌ بِالْجِمَاعِ فَثَابَ وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ لَوْ تَوَقَّى بَنَاتِ الثَّانِي.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أنه للثاني والمرضع به ابناً لَهُ دُونَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حُدُوثِهِ بِالْحَمْلِ أَنَّهُ مِنْهُ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَوْ تَوَقَّى بَنَاتِ الْأَوَّلِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَهُمَا وَالْمُرْضَعُ به ابناً لَهُمَا وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ بَنَاتُهُمَا، لِأَنَّ احْتِمَالَ الْأَمْرَيْنِ يُوجِبُ تَسَاوِي حُكْمِهِمَا، وَأَنْ لَا يُخْتَصَّ بِأَحَدِهِمَا.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا إِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا فَاللَّبَنُ بَعْدَهُ حَادِثٌ مِنْهُ وَمُضَافٌ إِلَى الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، لِأَنَّ حَاجَةَ الْمَوْلُودِ إِلَى اغْتِذَائِهِ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ فَيَكُونَ الْمُرْضَعُ بِهِ ابْنًا لِلثَّانِي وَهُوَ فِي بَنَاتِ الْأَوَّلِ عَلَى حُكْمِ الْإِبَاحَةِ.
فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اللَّبَنِ وَالْوَلَدِ قَالَ هُوَ لِلْأَوَّلِ وَمَنْ فَرَّقَ، قَالَ: هُوَ بَيْنَهُمَا جَمِيعًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:

(11/399)


أَحَدُهُمَا: وَهُوَ تَأْوِيلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ " وَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اللَّبَنِ وَالْوَلَدِ " يَعْنِي أَنَّ اللَّبَنَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ مِنْ رَجُلَيْنِ كَمَا أَنَّ الْمَوْلُودَ لَا يَكُونُ مِنْ أَبَوَيْنِ.
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرْضَعُ ابْنًا لِلْأَوَّلِ مَا لَمْ تَضَعْ حَمْلَ الثَّانِي، فَإِذَا وَضَعَتْهُ صَارَ الْمُرْضَعُ بَعْدَ وَضْعِهِ ابْنًا لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرْضَعُ ابْنًا لَهُمَا، كَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمَوْلُودُ ابْنًا لَهُمَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: " وَمَنْ فَرَّقَ قَالَ هُوَ بَيْنَهُمَا جَمِيعًا " يَعْنِي وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ اللَّبَنِ وَالْوَلَدِ فَجَعَلَ اللَّبَنَ لِرَجُلَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمَوْلُودُ لِأَبَوَيْنِ، لأنه يجوز أن يكون للمرضع أمين، ولا يجوز أن يكون للمولود أمين.
فعلى هذا يجوز أن يكون للمرضع بِاللَّبَنِ الزَّائِدِ قَبْلَ الْوِلَادَةِ ابْنًا لَهُمَا، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمَوْلُودُ إِلَّا لِأَحَدِهِمَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ " وَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اللَّبَنِ وَالْوَلَدِ " يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَوْلُودِ قَبْلَ وِلَادَتِهِ لَبَنٌ، وَيُجْعَلَ جَمِيعُهُ مَعَ الزِّيَادَةِ لِلْأَوَّلِ جَعَلَ الْمُرْتَضِعَ قَبْلَ الْوِلَادَةِ ابْنًا لِلْأَوَّلِ، وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا يَعْنِي جَعَلَ لَهُ اللَّبَنَ الْحَادِثَ قَبْلَ وِلَادَتِهِ إِذَا زاد بحمله قال: إن المرتضع به ابناً لَهَا، حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا فَيَصِيرَ الْمُرْتَضِعُ بَعْدَ الْحَمْلِ ابْنًا لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَكِلَا التَّأْوِيلَيْنِ محتمل والله أعلم.

(11/400)


(الشهادات في الرضاع والإقرار من كتاب الرضاع ومن كتاب النكاح القديم)

(مسألة)
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ جَائِزَةٌ فِيمَا لَا يَحِلُّ لِلرِّجَالِ مِنْ غَيْرِ ذَوِي الْمَحَارِمِ أَنْ يَتَعَمَّدُوا النَّظَرَ إِلَيْهِ لِغَيْرِ شَهَادَةٍ مِنْ وِلَادَةِ الْمَرْأَةِ وَعُيُوبِهَا الَّتِي تَحْتَ ثِيَابِهَا وَالرَّضَاعُ عِنْدِي مِثْلُهُ لَا يَحِلُّ لِغَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ أَنْ يَتَعَمَّدَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى ثَدْيِهَا وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى رَضَاعِهَا بِغَيْرِ رُؤْيَةِ ثَدْيَيْهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يَجُوزُ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ: الْوِلَادَةُ وَالِاسْتِهْلَالُ، وَالرَّضَاعُ، وَعُيُوبُ النِّسَاءِ الَّتِي تَحْتَ الثِّيَابِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: لا تقبل شهادتين إلا في الولادة وحدها، واستدلالا بِأَنَّ الرَّضَاعَ يَجُوزُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ الرِّجَالُ من ذوي المحارم، فَلَمْ يُقْبَلْ فِيهِ النِّسَاءُ عَلَى الِانْفِرَادِ كَالَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ الرِّجَالُ الْأَجَانِبُ.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ، وَكُنَّ فِيهِ عَلَى اسْتِتَارٍ وَصِيَانَةٍ جَازَ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ النِّسَاءُ مُنْفَرِدَاتٍ كَالْوِلَادَةِ، وَخَالَفَ الزِّنَا لِأَنَّهُنَّ هَتَكْنَ فِيهِ الْعَوْرَةَ فَلَمْ تُقْبَلْ فِيهِ إِلَّا الرِّجَالُ.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُسْتَوْفَى فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ فَإِنْ شَهِدَ الرِّجَالُ بِذَلِكَ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ لِلنَّظَرِ فَهُمْ عَلَى الْعَدَالَةِ وَشَهَادَتُهُمْ مَقْبُولَةٌ، وَإِنْ تَعَمَّدُوا النَّظَرَ لِغَيْرِ الشَّهَادَةِ كَانُوا فَسَقَةً لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَإِنْ تَعَمَّدُوا النَّظَرَ لِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ فَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ إِنَّهُمْ فَسَقَةٌ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، لأنهم عمدوا النَّظَرَ إِلَى عَوْرَةٍ مُحَرَّمَةٍ عَلَيْهِمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهُمْ عَلَى الْعَدَالَةِ وَشَهَادَتُهُمْ مَقْبُولَةٌ لِمَا فِي النَّظَرِ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي يَلْزَمُ حِفْظُهَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهُمْ يُقْبَلُونَ فِي الزِّنَا وَلَا يُقْبَلُونَ

(11/401)


فِيمَا عَدَاهُ، لِأَنَّ الزَّانِيَ قَدْ هَتَكَ حُرْمَةَ نَفْسِهِ فَجَازَ النَّظَرُ إِلَيْهِ لِإِقَامَةِ حَدِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَخَالَفَ حُكْمَ مَنْ كَانَ عَلَى ستره وصيانته.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَجُوزُ مِنَ النِّسَاءِ عَلَى الرَّضَاعِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِ حَرَائِرَ بَوَالِغَ عُدُولٍ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لما أجاز شهادتين فِي الدَّيْنِ جَعَلَ امْرَأَتَيْنِ يَقُومَانِ مَقَامَ رَجُلٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَدَدِ النِّسَاءِ فِيمَا يَشْهَدُونَ فِيهِ مُنْفَرِدَاتٍ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَعَطَاءٍ، أَنَّهُ لَا يقبل منهن أقل من أربع. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَعَطَاءٍ، أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ
وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُنَّ ثَلَاثٌ.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِ امْرَأَتَانِ.
وَالرَّابِعُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ شَهَادَةُ الْوَاحِدَةِ.
وَاحْتَجَّ مَنِ اعْتَبَرَ الثَّلَاثَ بِأَنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَتَيْنِ بَيِّنَةٌ كَامِلَةٌ، وَقَدْ أُقِيمَ النِّسَاءُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَقَامَ الرِّجَالِ فَأُبْدِلَ الرَّجُلُ بِامْرَأَتَيْنِ فَصِرْنَ ثَلَاثًا.
وَاحْتَجَّ مَنِ اعْتَبَرَ شَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ امْرَأَةً شَهِدَتْ عِنْدَهُ أَنَّهَا أَرْضَعَتْ رَجُلًا وَامْرَأَةً فَقَالَ اطْلُبُوا لِي مَعَهَا أُخْرَى، وَلَمْ يَفْسَخِ النِّكَاحَ، وَلِأَنَّهُنَّ قَدْ أُقِمْنَ مَقَامَ الرِّجَالِ فَاقْتُصِرَ مِنْهُنَّ عَلَى عَدَدَ الرِّجَالِ.
وَاحْتَجَّ مَنْ قَبِلَ شَهَادَةَ الْوَاحِدَةِ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سمع شهادة القائلة؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا اقْتُصِرَ عَلَى قَبُولِ النِّسَاءِ لِلضَّرُورَةِ قُبِلَتِ الْوَاحِدَةُ، لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لا يجوز أن يقبل منهم أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعٍ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282] وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَجْعَلَهَا كَالذَّكَرِ.
وَالثَّانِي: أَنْ تُذَكِّرَهَا إِذَا نَسِيَتْ فَلَمَّا أَقَامَ الْمَرْأَتَيْنِ مَقَامَ الرَّجُلِ لَمْ يُقْبَلْ مِنَ الرِّجَالِ أَقَلُّ مِنَ اثْنَيْنِ، وَجَبَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنَ النِّسَاءِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعٍ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ إِذَا كَانَ لِلنِّسَاءِ فِيهَا مَدْخَلٌ لَمْ يقتصر على شهادة الواحدة كَالْأَمْوَالِ.
فَأَمَّا شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ يَأْتِي.

(11/402)


فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً فَجَاءَتْ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: إِنِّي أَرْضَعْتُكُمَا فَجِئْتُ إِلَى النَبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَلْتُ: إِنَّ السَّوْدَاءَ قَالَتْ كَذَا، وَهِيَ كَاذِبَةٌ، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " دَعْهَا لَا خَيْرَ لَكَ فِيهَا ".
قِيلَ عَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهَا: مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْرَضَ عَنْهُ، وَقَالَ: وَكَيْفَ وَقَدْ زَعَمَتِ السَّوْدَاءُ أَنَّهَا أَرْضَعَتْكُمَا، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ بشادتها فِي الْإِمْضَاءِ، وَلَا فِي الرَّدِّ وَأَجْرَاهُ فَجَرَى الْخَبَرُ الَّذِي يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ فَلَمْ يَقْطَعْ بِأَحَدِهِمَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " دَعْهَا لَا خَيْرَ لَكَ فِيهَا " طَرِيقُهُ طَرِيقُ الِاخْتِيَارِ وَالِاسْتِحْبَابِ دُونَ الِالْتِزَامِ وَالْإِيجَابِ لِقَوْلِهِ " لَا خَيْرَ لَكَ فِيهَا " وَلَوْ حَرُمَتْ لَأَخْبَرَهُ بِتَحْرِيمِهَا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ السَّوْدَاءَ الَّتِي شَهِدَتْ كَانَتْ أَمَةً وَشَهَادَةُ الْأَمَةِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَقَدْ رَوَى الْحَدِيثَ عَلَى سِيَاقِهِ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ الْحَارِثِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ نَكَحَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إِهَابٍ فَقَالَتْ لَهُ أَمَةٌ سَوْدَاءُ قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، قَالَ: فَجَاءَتْ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهَا، قَالَ: فَجِئْتُ فذكرته ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: " وَكَيْفَ وَقَدْ زَعَمَتِ السَّوْدَاءُ أَنَّهَا أَرْضَعَتْكُمَا "، قَالَ: فَنَهَى عَنْهَا.
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لَمْ يَكُنْ لِلشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا كَانَ لِلِاحْتِيَاطِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عبد الرحمن السلماني عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَمَّا يَجُوزُ فِي الرَّضَاعِ فَقَالَ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ.
قِيلَ: هَذَا رَوَاهُ حَرَامٌ، وَرَوَاهُ أَيْضًا عُمَارَةُ بْنُ حَرَمِيٍّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، قَالَ الشافعي حديث حرام قبوله حرام وابن السلماني ضَعِيفٌ وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى جَوَازِ أَنْ يَشْهَدَ فِيهِ الرِّجَالُ إِذَا انْفَرَدُوا وَيَشْهَدَ بِهِ النِّسَاءُ إِذَا انْفَرَدْنَ وَاللَّهُ أعلم.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ تُنْكِرُ الرَّضَاعَ فَكَانَتْ فِيهِنَّ أُمُّهَا أَوِ ابْنَتُهَا جُزْنَ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ تَدَّعِي الرَّضَاعَ لَمْ يَجُزْ فِيهَا أُمُّهَا وَلَا أُمَّهَاتُهَا وَلَا ابْنَتُهَا وَلَا بَنَاتُهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُدَّعِي الرَّضَاعَ بَعْدَ الزَّوْجِيَّةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الزَّوْجَ أَوِ الزَّوْجَةَ، فَإِنْ كَانَ مُدَّعِيهِ الزَّوْجَ فَقَدِ انفسخ نكاح بِدَعْوَاهُ، لِأَنَّ الْفُرْقَةَ بِيَدِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ " وَأُحِبُّ أن يطلق واحدة ليستبيح الأزواج بيقين ".
وإنما قيل قَوْلُهُ فِي الْفُرْقَةِ " بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ "، لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ وَلَمْ يُقْبَلْ فِي الْمَهْرِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ

(11/403)


لِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الدُّخُولِ نِصْفُ الْمُسَمَّى وَبَعْدَ الدُّخُولِ جَمِيعُهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ بَيِّنَةٌ، وبينته شَاهِدَانِ، أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ، أَوْ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ عَلَى الرَّضَاعِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَبْلَ الدُّخُولِ مَهْرٌ، وَعَلَيْهِ بَعْدَ الدُّخُولِ مَهْرُ الْمِثْلِ يُسْتَحَقُّ بِالْإِصَابَةِ دُونَ الْمُسَمَّى، لِفَسَادِ الْعَقْدِ.
فَلَوْ شَهِدَ لَهُ بِالرَّضَاعِ أُمَّهَاتُهُ أَوْ بَنَاتُهُ لَمْ يُقْبَلْنَ، لِأَنَّ شَهَادَةَ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ مَرْدُودَةٌ، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِنَّ أُمُّ الزَّوْجَةِ أَوْ بِنْتُهَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهَا، لِأَنَّ شَهَادَةَ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ مَقْبُولَةٌ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ لَهُ.
وَإِنْ كَانَ مُدَّعِي الرَّضَاعَةِ الزَّوْجَةَ، وَالزَّوْجُ مُنْكِرٌ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فِي الْفُرْقَةِ إلا ببنية لأنها لا تملك الفرقة، فإن أقامت بينة بِرَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ أَوْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ يَشْهَدْنَ بِالرَّضَاعِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهَا، وَوَقَعَتِ الْفُرْقَةُ، وَسَقَطَ مَهْرُهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَكَانَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَلَوْ كَانَ فِي شُهُودِهَا أُمُّهَا أَوْ بِنْتُهَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا لِلتُّهْمَةِ، وَلَوْ كَانَ فيهن أو الزَّوْجِ أَوْ بِنْتُهُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا عَلَيْهِ لِارْتِفَاعِ التُّهْمَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ تَشْهَدَ الْبِنْتُ عَلَى رَضَاعِ أَبِيهَا وَأُمِّهَا وَالرَّضَاعُ يَكُونُ فِي الصِّغَرِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَهُ الْوَلَدُ، قِيلَ: لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ كَبِيرًا لَهُ وَلَدٌ يَكُونَ الْآخَرُ صَغِيرًا فَيَرْتَفِعَ مِنْ أُمِّ الْكَبِيرِ وَتَشْهَدَهُ بِنْتُهُ فتشهد بالرضاع له وعليه.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَجُوزُ فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ الَّتِي أَرْضَعَتْ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا فِي ذَلِكَ وَلَا عَلَيْهَا مَا ترد به شهادتهما (قال المزني) رحمه الله وكيف تجوز شهادتهما على فعلها ولا تجوز شهادة أمها وأمهاتها وبناتها فهن في شهادتهن على فعلها أجوز في القياس من شهادتها على فعل نفسها ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا شَهَادَةُ الْمُرْضِعَةِ بِالرَّضَاعِ فَمَقْبُولَةٌ مَا لَمْ تَدَّعِ بِهَا أُجْرَةَ الرَّضَاعِ، لِأَنَّهَا لَا تَسْتَفِيدُ بِهَا نَفْعًا، وَلَا تَسْتَدْفِعُ بِهَا ضَرَرًا، فَزَالَتِ التُّهْمَةُ عَنْهَا فَقُبِلَتْ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهِيَ تَشْهَدُ عَلَى فِعْلِهَا وَشَهَادَةُ الْفَاعِلِ عَلَى فِعْلِهِ مَرْدُودَةٌ كَالْحَاكِمِ إِذَا شَهِدَ بِمَا حَكَمَ بِهِ، وَالْقَاسِمِ إِذَا شَهِدَ بِمَا قَسَّمَهُ.
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَاكِمَ وَالْقَاسِمَ تَفَرَّدَا بِالْفِعْلِ فَلَمْ تَصِحَّ شَهَادَتُهُمَا بِهِ وَالْمُرْضِعَةُ إِمَّا أَنْ يَنْفَرِدَ الْوَلَدُ بِالرَّضَاعِ وَهِيَ نَائِمَةٌ، وَإِمَّا أَنْ تُمَكِّنَهُ فَيَكُونَ الْوَلَدُ هُوَ الْمُرْتَضِعَ فَلَمْ تَكُنْ شَهَادَتُهُمَا عَلَى مُجَرَّدِ فِعْلِهَا.

(11/404)


وَالثَّانِي: أَنَّ فِي شَهَادَةِ الْحَاكِمِ وَالْقَاسِمِ تَزْكِيَةً لَهُمَا، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهَا مَعَ الْفُسُوقِ وَالْكُفْرِ فَلَمْ تُرَدَّ بِهِ شَهَادَتُهَا مَعَ الْعَدَالَةِ.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا إِذَا ادَّعَتِ الْمُرْضِعَةُ بِشَهَادَتِهَا الْأُجْرَةَ لَمْ يُقْبَلْ بِهِ قَوْلُهَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ، وَهَلْ تُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُا فِي الرَّضَاعِ وَثُبُوتِ التَّحْرِيمِ بِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهَا تُقْبَلُ وَلَا تُرَدُّ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا تُرَدُّ وَلَا تُقْبَلُ، وَاخْتِلَافُهُمَا فِي ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الشَّاهِدِ إِذَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ فِي بَعْضِ مَا شَهِدَ بِهِ هَلْ تُرَدُّ فِي الْبَاقِي؟ عَلَى قَوْلَيْنِ يُذْكَرَانِ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ.
(فَصْلٌ:)
فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ غَلِطَ عَلَى الشَّافِعِيِّ غَلَطًا وَاضِحًا فَظَنَّ أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ الْمُرْضِعَةِ وَرَدَّ شَهَادَةَ أُمِّهَا.
فَقَالَ: " كَيْفَ يجوز شَهَادَتُهُا عَلَى فِعْلِهَا، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ أُمِّهَا؟
وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُ عَلَى الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ إِنَّمَا رَدَّ شَهَادَةَ أُمِّ الزَّوْجَيْنِ مِنَ النَّسَبِ وَلَمْ يَرُدَّ شَهَادَةَ أُمِّ الْمُرْضِعَةِ؟ لِأَنَّ أُبُوَّةَ الرَّضَاعِ لَا تَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا منعت أبوة النسب منها.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُوقَفْنَ حَتَّى يَشْهَدْنَ أَنْ قَدْ رَضَعَ الْمَوْلُودُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ يَخْلُصْنَ كُلُّهُنَّ إِلَى جَوْفِهِ وَتَسَعُهُنَّ الشهادة على هذا لأنه ظاهر علمهن وذكرت السوداء أنها أرضعت رجلاً وامرأة تناكحا فسال الرجل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن ذلك فأعرض فقال " وكيف وقد زعمت السوداء أنها قد ارضعتكما " (قال الشافعي) إعراضه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يشبه أن يكون لم ير هذا شهادة تلزمه وقوله " وكيف وقد زعمت السوداء أنها قد أرضعتكما " يشبه أن يكره له أن يقيم معها وقد قيل إنها أخته من الرضاعة وهو معنى ما قلنا يتركها ورعاً لا حكما ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لَا تُسْمَعُ الشَّهَادَةُ عَلَى الرَّضَاعِ مَعَ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ إِلَّا مَشْرُوحَةً يَنْتَفِي عَنْهَا الِاحْتِمَالُ وَيَنْقَطِعُ بِهَا النِّزَاعُ، فَإِذَا شَهِدْنَ أَنَّهُمَا أَخَوَانِ مِنَ الرَّضَاعِ لَمْ تسمع شهادتين حَتَّى يَصِفْنَ الرَّضَاعَ، وَيَذْكُرْنَ الْعَدَدَ وَصِفَةَ الرَّضَاعِ فَجَمَعَ ثَلَاثَةَ شُرُوطٍ:
أَحَدُهَا: مُعَايَنَةُ الْتِقَامِ الْمَوْلُودِ لِثَدْيِ الْمَرْأَةِ، لِأَنَّ هَذَا إِنَّمَا يُعَايَنُ وَيُشَاهَدُ فَلَمْ يُعْمَلْ فِيهِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ كَالْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ، وَالْغَاصِبِ وَالْمَغْصُوبِ، فَلَوْ دَخَلَ الْمَوْلُودُ

(11/405)


فِي ثِيَابِ الْمُرْضِعَةِ مُسْتَتِرًا بِهَا لَمْ تَصِحَّ شهادتين بِالرَّضَاعِ لِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ قَطْعًا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَشْهَدْنَ أَنَّ فِي ضَرْعِ الْمُرْضِعَةِ لَبَنًا بِفِعْلِ الْمَفْطُومِ، وَعِلْمُهُنَّ بِوُجُودِ اللَّبَنِ فِي الثَّدْيِ يَكُونُ بِأَنْ يُحْلَبَ فَيُرَى لَبَنُهُ، وَهَذَا مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ فِي الرجعة الْأُولَى فَأَمَّا فِيمَا بَعْدَهَا إِلَى اسْتِكْمَالِ الْخَمْسِ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ إِنْ قَرُبَ الزَّمَانُ لِتَقَدُّمِ الْعِلْمِ بِهِ، وَيُحْتَاجُ إِلَى مُشَاهَدَتِهِ بَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ وَبَعْدَهُ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَشْهَدْنَ بِوُصُولِ اللَّبَنِ إِلَى جَوْفِهِ، وَهَذَا يُعْمَلُ فِيهِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِيهِ مُتَعَذِّرَةٌ، لِأَنَّهُ إِذَا عُلِمَ جُوعُ الطِّفْلِ، وَقَدِ الْتَقَمَ الثَّدْيِ وَمَصَّهُ وَتَحَرَّكَ حُلْقُومُهُ حَرَكَةَ الشُّرْبِ وَسَكَنَ مَا كَانَ فِيهِ من الهتم بِالْتِقَامِ الثَّدْيِ عُلِمَ وُصُولُ اللَّبَنِ إِلَى جَوْفِهِ بِظَاهِرِ الِاسْتِدْلَالِ، وَغَالِبِ الظَّنِّ الَّذِي لَا يُوجَدُ طريقاً إِلَى الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ فَجَازَتِ الشَّهَادَةُ بِهِ قَطْعًا مَعَ عَدَمِ الْمُشَاهَدَةِ، لِأَنَّهَا غَايَةُ مَا يُعْلَمُ بِهِ مِثْلُهُ كَالشَّهَادَةِ بِالْأَنْسَابِ وَالْأَمْلَاكِ حَيْثُ جَازَتْ بِشَائِعِ الْخَبَرِ فَتَحَرَّرَتْ بِصِفَةِ الشَّهَادَةِ هَذِهِ الشُّرُوطُ أن يشهدن فيقلن نشهد أنه التقم ثدييها، وَفِيهِ لَبَنٌ ارْتَضَعَ خَمْسَ رَضَعَاتٍ وَصَلْنَ كُلُّهُنَّ إلى جوفه فيحكم حينئذ بشهادتين لا ينفى الاحتمال عنها.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ هَذِهِ أُخْتِي مِنَ الرَّضَاعَةِ أَوْ قَالَتْ هَذَا أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ وَكَذَّبَتْهُ أَوْ كَذَّبَهَا فَلَا يَحِلُّ لِوَاحِدٍ مِنْهَا أَنْ يَنْكِحَ الْآخَرَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ لَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا فَأَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّهَا أُخْتُهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ أَوْ بِنْتُهُ أَوْ أُمُّهُ، أَوْ أَقَرَّتِ الْمَرْأَةُ بِأَنَّهُ أَخُوهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَوِ ابْنُهَا أَوْ أَبُوهَا كَانَ قَوْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي التَّحْرِيمِ مَقْبُولًا عَلَيْهَا إِذَا كَانَ مُمْكِنًا سَوَاءٌ صَدَّقَهُ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ أَوْ كَذَّبَهُ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ وَاسْتَحَالَ مِثْلَ أَنْ يَتَسَاوَى بَيْنَهُمَا أَوْ يَتَقَارَبَ فَتَقُولَ الْمَرْأَةُ: هَذَا أَبِي مَنَ الرَّضَاعَةِ، أَوْ يَقُولَ الرَّجُلُ: هَذِهِ أُمِّي مِنَ الرَّضَاعَةِ فَيُعْلَمَ اسْتِحَالَةُ هَذَا الْإِقْرَارِ فَيَكُونُ مَرْدُودًا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقْبَلُ الْإِقْرَارُ وَيَثْبُتُ بِهِ التَّحْرِيمُ مَعَ اسْتِحَالَتِهِ الْتِزَامًا لِلْإِقْرَارِ، وَتَغْلِيبًا لِلْحَظْرِ وَبِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدٍ لَهُ هُوَ أَكْبَرُ سِنًّا مِنْهُ، أَنْتَ ابْنِي، عَتَقَ عَلَيْهِ مَعَ اسْتِحَالَةِ بُنُوَّتِهِ وَهَذَا قَوْلٌ مُسْتَهْجَنٌ يَدْفَعُهُ الْمَعْقُولُ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ يَأْتِي بَعْدُ، فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا وَحُكِمَ بِتَحْرِيمِ الرَّضَاعِ بَيْنَهُمَا بِوُجُودِ الْإِقْرَارِ مِنْ أَحَدِهِمَا لَمْ يُحْتَجْ فِي الْإِقْرَارِ إِلَى صِفَةِ الرَّضَاعِ وَذِكْرِ الْعَدَدِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَصِحُّ إِلَّا عَنْ مُشَاهَدَةٍ فَاسْتَوْفَى فِيهَا شُرُوطَ الْمُشَاهَدَةِ وَالْإِقْرَارُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْمُشَاهَدَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُشَاهِدُ رَضَاعَ نَفْسِهِ مِنْ لَبَنِ أُمِّهِ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُ عَلَى الْخَبَرَ الَّذِي يُوَثَّقُ لَهُ فَيُصَدِّقُهُ.

(11/406)


وَالثَّانِي: أَنَّ فِي الشَّهَادَةِ الْتِزَامَ حَقٍّ عَلَى غَيْرِ الْمُشَاهِدِ فَبُنِيَ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فِي نَفْيِ الِاحْتِمَالِ، وَالْإِقْرَارُ الْتِزَامُ حَقٍّ عَلَى النَّفْسِ فَكَانَ في ترك الاحتياط تقصير عن المقر فالتزام حُكْمُ إِقْرَارِهِ هَذَا فِيمَا تَعَلَّقَ بِصِفَةِ الرَّضَاعِ.
فَأَمَّا الْعَدَدُ فَمُعْتَبِرٌ بِحَالِ الْإِقْرَارِ فَإِنْ قَالَ الرَّجُلُ: بَيْنِي وَبَيْنَهَا رَضَاعٌ افْتَقَرَ التَّحْرِيمُ إِلَى ذِكْرِ الْعَدَدِ، وَإِنْ قَالَ: هِيَ أُخْتِي مِنَ الرَّضَاعِ لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى ذِكْرِ الْعَدَدِ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، لِأَنَّ فِي اعْتِرَافِهِ بِأُخُوَّتِهَا الْتِزَامًا بِحُكْمِ التَّحْرِيمِ بِالْعَدَدِ الْمُحَرَّمِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ ذِكْرُ الْعَدَدِ وَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَيْهِ بَعْدَ إِقْرَارِهِ بِجَهْلِهِ بِالتَّحْرِيمِ الْمُحْتَمَلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُ ذِكْرُ الْعَدَدِ، وَلَا يُرْجَعُ فِيهِ إِلَيْهِ بَعْدَ إِطْلَاقِ الْإِقْرَارِ بِالتَّحْرِيمِ كَمَا لَا يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي صِفَةِ الطَّلَاقِ بَعْدَ إِقْرَارِهِ بِهِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِأَنَّهَا أُخْتُهُ مِنَ النَّسَبِ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَاهُ مِنْ ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ بِإِقْرَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنَّهُمَا يمنعان من النكاح، فإن تناحكا فُسِخَ النِّكَاحُ عَلَيْهِمَا وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا سَوَاءٌ كَانَ الْإِقْرَارُ مِنْ جِهَتِهَا أَوْ مِنْ جِهَتِهِ لِفَسَادِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا حُدَّا إِنْ عَلِمَا تَحْرِيمَ الرضاع، ولا تحد عَلَيْهِمَا، إِنْ لَمْ يَعْلَمَا وَلَا مَهْرَ لَهَا إِنْ حُدَّتْ وَلَهَا الْمَهْرُ إِنْ لَمْ تُحَدَّ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَتْ أَمَةً فَوَطِئَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ كَانَ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا مَعَ عِلْمِهِمَا بِالتَّحْرِيمِ قَوْلَانِ، كَالْأُخْتِ مِنَ النَّسَبِ.
فَلَوْ رَجَعَا عن الرضاع بعد إقراراهما اعْتُبِرَ حَالُ إِقْرَارِهِمَا، فَإِنْ لَزِمَهُمَا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ لِعِلْمِهِمَا بِهِ لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُمَا فِيهِ ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا، وَإِنْ لَزِمَهُمَا إِقْرَارُهُمَا فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ لِجَهْلِهِمَا بِهِ لَمْ يُقْبَلْ رجوعهما ظاهراً، وقيل بَاطِنًا.
فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ لَوِ ادَّعَتِ امْرَأَةٌ عَلَى رَجُلٍ عَقْدَ نِكَاحٍ وَأَنْكَرَهَا ثُمَّ اعْتَرَفَ بِهَا حَلَّتْ لَهُ؟ فَهَلَّا كَانَ فِي الرَّضَاعِ كَذَلِكَ؟
قِيلَ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الَّتِي أَنْكَرَهَا غَيْرُ مُؤَبَّدٍ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَبِيحَهَا بِالِاعْتِرَافِ، وَتَحْرِيمَ الرَّضَاعِ مؤبد فلم يستبحها بالاعتراف.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ بَعْدَ عَقْدِ نِكَاحِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا فَإِنْ كَذَّبَتْهُ أَخَذَتْ نِصْفَ مَا سُمِّيَ لَهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَقُلْنَا إِنَّ دَعْوَى أَحَدِهِمَا لِلرِّضَاعِ بَعْدَ وُجُودِ العقد بينهما مقبول فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ، وَغَيْرُ مَقْبُولٍ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي أَنَّ الْفُرْقَةَ يَمْلِكُهَا الزَّوْجُ ولا تملكها،

(11/407)


فَلِذَلِكَ قُبِلَ فِي الْفُرْقَةِ قَوْلُ الزَّوْجِ دُونَ الزَّوْجَةِ، فَأَمَّا سُقُوطُ الْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَالِانْتِقَالُ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجِ، وَإِنْ قُبِلَ قَوْلُهُ فِي الْفُرْقَةِ، لِأَنَّ الْعَقْدَ حَقٌّ لَهُ وَالْمَهْرَ حَقٌّ عَلَيْهِ فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِيمَا لَهُ، وَلَمْ يُقْبَلْ فِيمَا عَلَيْهِ فَتَحْلِفُ الزَّوْجَةُ إِذَا أَكْذَبَتْهُ وَتَسْتَحِقُّ نِصْفَ الْمُسَمَّى قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَمِيعَهُ بَعْدَهُ وَيَمِينُهَا عَلَى الْعِلْمِ، لِأَنَّهَا عَلَى نَفْيٍ فِي فِعْلِ الْغَيْرِ فَتَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّهَا لَا تَعْلَمُ أَنَّ بَيْنَهُمَا رَضَاعًا فَإِنْ نَكَلَتْ عَنْهَا رُدَّتْ عَلَى الزَّوْجِ وَحَلَفَ عَلَى الْبَتِّ بِاللَّهِ أَنَّ بَيْنَهُمَا رَضَاعًا يَصِفُهُ، لِأَنَّ يَمِينَهُ كَالْبَيِّنَةِ.

(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَتْ هِيَ الْمُدَّعِيَةَ أَفْتَيْتُهُ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ وَيَدَعَ نِكَاحَهَا بِطَلْقَةٍ لِتَحِلَّ بِهَا لِغَيْرِهِ إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً وَأُحَلِّفُهُ لَهَا فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَتْ وَفَرَّقْتُ بَيْنَهُمَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا ادَّعَتِ الزَّوْجَةُ بِالرَّضَاعِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الزوج معها من ثلاثة أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُصَدِّقُهَا فَيُفْسَخَ النِّكَاحُ بِتَصْدِيقِهِ وَيَسْقُطَ الْمَهْرُ الْمُسَمَّى بِدَعْوَاهَا وَتَحِلَّ لِلْأَزْوَاجِ بَعْدَ عِدَّتِهَا.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُكَذِّبَهَا فَلَا يُقْبَلَ دَعْوَاهَا عَلَيْهِ وَيَحْلِفَ لَهَا الزَّوْجُ، وَيَكُونَانِ عَلَى النِّكَاحِ وَفِي صِفَةِ يَمِينِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا عَلَى الْعِلْمِ كَيَمِينِ الزَّوْجَةِ إِذَا أَنْكَرَتِ الرَّضَاعَ.
وَالثَّانِي: عَلَى الْبَتِّ وَالْقَطْعِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ يَمِينِ الزَّوْجِ وَيَمِينِ الزَّوْجَةِ، وَإِنْ كَانَتَا عَلَى نَفْيِ فِعْلِ الْغَيْرِ أَنَّ فِي يَمِينِ الزَّوْجِ مَعَ تَصْحِيحِ الْعَقْدِ فِيمَا مَضَى إِثْبَاتَ اسْتِبَاحَةٍ فِي الْمُسْتُقْبَلِ فَكَانَتْ عَلَى الْبَتِّ تَغْلِيظًا، وَيَمِينُ الزَّوْجَةِ لِبَقَاءِ حَقٍّ وَجَبَ بِالْعَقْدِ فَكَانَتْ عَلَى الْعِلْمِ تَحْقِيقًا، فَإِنْ كَانَ نَكَلَ الزَّوْجُ عَنْهَا رُدَّتْ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَحَلَفَتْ عَلَى الْبَتِّ، لِأَنَّهَا يَمِينُ إثبات فكانت على البت.
والحال الثانية: أَنْ يَسْكُتَ فَلَا يَقَعَ فِي نَفْسِهِ صِدْقُهَا وَلَا كَذِبُهَا فَفِي جَوَازِ إِحْلَافِهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي صِفَةِ يَمِينِهِ.
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ يَحْلِفَ إِذَا قِيلَ إِنَّ يَمِينَهُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا حُكْمًا وَيَخْتَارَ أَنْ يُفَارِقَهَا وَرَعًا.

(11/408)


وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ إِذَا قِيلَ: إِنَّ يَمِينَهُ عَلَى الْبَتِّ، وَيَكُونَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا الْيَمِينَ فَإِذَا حَلَفَتْ فُسِخَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا، وَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً لِتَحِلَّ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَزْوَاجِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَفْتَيْتُهُ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ وَيَدَعَ نِكَاحَهَا بِطَلْقَةٍ وَهَذَا أَوْلَى الْأَمْرَيْنِ، لِأَنَّهَا تَسْتَبِيحُ الْأَزْوَاجَ بِيَقِينٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ فِي دَعْوَى الرَّضَاعِ صَادِقَةً فَالنِّكَاحُ مَفْسُوخٌ، وَالطَّلَاقُ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ فَلَيْسَ بِضَارٍّ، وَإِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً حَلَّتْ بِالطَّلَاقِ لِلْأَزْوَاجِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(11/409)


(باب رضاع الخنثى)
(مسألة)
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " إِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ مِنَ الْخُنْثَى أَنَّهُ رَجُلٌ نَكَحَ امْرَأَةً وَلَمْ يُنْزِلْ فَنَكَحَهُ رَجُلٌ فَإِذَا نَزَلَ لَهُ لَبَنٌ فَأَرْضَعَ بِهِ صَبِيًّا لَمْ يَكُنْ رَضَاعًا يُحَرِّمُ وَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ أَنَّهُ امْرَأَةٌ فَنَزَلَ لَهُ لَبَنٌ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ فَأَرْضَعَ صَبِيًّا حَرَّمَ وَإِنْ كَانَ مُشْكِلًا فَلَهُ أَنْ يُنْكَحَ بِأَيِّهِمَا شَاءَ وَبِأَيِّهِمَا نُكِحَ به أولاً أجزته ولم أجعل له يُنْكَحَ بِالْآخَرِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ تَكَرَّرَ فِي كِتَابِنَا هَذَا ذِكْرُ الْخُنْثَى، وَذَكَرْنَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْهُ مِنْ أَحْكَامِهِ طَرَفًا وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْحَيَوَانَ ذُكُورًا وَإِنَاثًا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الشَّبَهِ لِيَأْنَسَ الذَّكُورُ بِالْإِنَاثِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي آلَةِ التَّنَاسُلِ فَجَعَلَ لِلرَّجُلِ ذَكَرًا وَلِلْمَرْأَةِ فَرْجًا لِيَجْتَمِعَا عَلَى الْغَشَيَانِ بِمَا رَكَّبَهُ فِي طِبَاعِهِمَا مِنْ شَهْوَةِ الِاجْتِمَاعِ فَيَمْتَزِجُ الْمَنِيَّانِ فِي قَرَارِ الرَّحِمِ، وَهُوَ مَحَلُّ الْعُلُوقِ لِيَحْفَظُ بِالتَّنَاسُلِ بَقَاءَ الْخَلْقِ فَمَنْ أَفْرَدَهُ بِالذَّكَرِ كَانَ رَجُلًا، وَمَنْ أَفْرَدَهُ بِالْفَرْجِ كَانَ امْرَأَةً، وَمَنْ جَمَعَ هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ الذَّكَرَ وَالْفَرْجَ فَهُوَ الْخُنْثَى سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاشْتِرَاكِ الشَّبَهَيْنِ فِيهِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: تَخَنَّثَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ إِذَا اشْتَبَهَ أَمْرُهُ فَلَمْ يَخْلُصْ طَعْمُهُ الْمَقْصُودُ وَشَارَكَهُ طَعْمٌ غَيْرُهُ، وَرَجُلٌ مُخَنَّثٌ لِأَنَّهُ شُبِّهَ بِالْإِنَاثِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ جَعَلَ لِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنْ عُضْوَيِ الذَّكَرِ وَالْفَرْجِ مَنْفَعَتَيْنِ عَامَّةٍ وَخَاصَّةٍ فَالْمَنْفَعَةُ الْعَامَّةُ، هِيَ الْبَوْلُ وَالْمَنْفَعَةُ الْخَاصَّةُ هِيَ غَشَيَانُ التَّنَاسُلِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ الْعُضْوَانِ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ فَكَانَ لَهُ ذَكَرٌ وَفَرْجٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا وَأُنْثَى، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لَا ذَكَرًا وَلَا أُنْثَى، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ ذَكَرًا وَبَعْضُهُ أُنْثَى لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ خَرْقِ الْعَادَةِ الَّتِي رَكَّبَهَا فِي خَلْقِهِ، وَحَفِظَ بِهَا تَنَاسُلَ الْعَالَمِ وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ، إِمَّا ذِكْرًا وَإِمَّا أُنْثَى، وَقَدِ اشْتَبَهَ الْأَمْرُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الذَّكَرِ الدَّالِّ عَلَى كَوْنِهِ رَجُلًا، وَالْفَرْجِ الدَّالِّ عَلَى كَوْنِهِ امْرَأَةً، فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِالْغَالِبِ الظَّاهِرِ مِنْ مَنَافِعِهِمَا، وَهُوَ الْبَوْلُ فَإِنْ بَالَ مِنَ الذَّكَرِ كَانَ رَجُلًا وَكَانَ الْفَرْجُ عُضْوًا زَائِدًا، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الرِّجَالِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، وَإِنْ بَالَ مِنَ الْفَرْجِ كَانَ امْرَأَةً وَكَانَ الذَّكَرُ عُضْوًا زَائِدًا، وَأُجْرِيَ عَلَيْهَا حُكْمُ النِّسَاءِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهَا، لِأَنَّ وُجُودَ مَنْفَعَةِ الْعُضْوِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَخْلُوقٌ لَهُ، وَلِذَلِكَ لَمَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي غُلَامٍ مَيِّتٍ حُمِلَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَنْصَارِ لَهُ ذَكَرٌ وَفَرْجٌ فَقَالَ وَرِّثُوهُ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ، وَهَذَا الْخُنْثَى غَيْرُ مُشْكِلٍ، وَإِنْ كَانَ

(11/410)


يَبُولُ مِنْهُمَا فَيَخْرُجُ بَوْلُهُ مِنْ ذَكَرِهِ وَمِنْ فَرْجِهِ، وَجَبَ أَنْ يُرَاعَى أَسْبَقُهُمَا بَوْلًا لِقُوَّتِهِ فَيُحْكَمَ بِهِ فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي السَّبْقِ وَجَبَ أَنْ يُرَاعَى آخِرُهُمَا انْقِطَاعًا لِغَلَبَتِهِ فَيُحْكَمَ بِهِ فإن استويا في السبق والخروج غير مشكل.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْتَبَرُ أَكْثَرُهُمَا بَوْلًا فَيُحْكَمُ بِهِ، وَحَكَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ الدَّارَكِيُّ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَأَنْكَرَهُ سَائِرُ أَصْحَابِنَا وَجَعَلُوهُ مُشْكِلًا فَلَوْ سَبَقَ بوله في أَحَدِهِمَا، وَتَأَخَّرَ انْقِطَاعُهُ مِنَ الْآخَرِ بِقَدْرِ السَّبْقِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُحْكَمُ بِالسَّبْقِ.
وَالثَّانِي: قَدِ اسْتَوَيَا، وَيَكُونُ مُشْكِلًا، فَلَوْ سَبَقَ بَوْلُهُ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَكَانَ قَلِيلًا وَتَأَخَّرَ مِنَ الْآخَرِ، وَكَانَ كثيراً ففيه ثلاثة أوجه:
أحدهما: يُحْكَمُ بِالسَّابِقِ مِنْهُمَا.
وَالثَّانِي: يُحْكَمُ بِأَكْثَرِهِمَا.
وَالثَّالِثُ: يَكُونُ مُشْكِلًا فَلَوْ كَانَ يَبُولُ مِنْ أَحَدِهِمَا تَارَةً، وَمِنَ الْآخَرِ تَارَةً، أَوْ كَانَ يَسْبِقُ أَحَدُهُمَا تَارَةً وَيَتَأَخَّرُ تَارَةً، اعْتُبِرَ أَكْثَرُ الْحَالَتَيْنِ مِنْهُمَا، فَإِنِ اسْتَوَيَا فَهُوَ مُشْكِلٌ.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: اعْتُبِرَ صِفَةُ الْبَوْلِ فَإِنْ زَرَقَ فَهُوَ ذَكَرٌ وَإِنْ رَشَّشَ فَهُوَ أُنْثَى. وَأَنْكَرَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا هَذَا الِاعْتِبَارَ وَجَعَلُوهُ مُشْكِلًا، فَإِذَا عُدِمَ الْبَيَانُ مِنْ طَرِيقِ الْمَبَالِ الَّذِي هُوَ الْأَعَمُّ مِنْ مَنْفَعَتِي الْعُضْوَيْنِ وَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَى اعْتِبَارِ الْمَنْفَعَةِ الْخَاصَّةِ، وَهِيَ الْمَنِيُّ، وَذَلِكَ يَكُونُ عِنْدَ الْبُلُوغِ فَإِنْ أَمْنَى مَنْ ذَكَرِهِ فَهُوَ رَجُلٌ، وَإِنْ أَمْنَى مِنْ فَرْجِهِ فَهِيَ امْرَأَةٌ، وَإِنْ أَمْنَى مِنْهُمَا فَلَا بَيَانَ فِيهِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُعْتَبَرُ بِالْحَيْضِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُعْتَبَرُ بِالْحَيْضِ فَإِنْ حَاضَ فَهُوَ أُنْثَى، وَإِنْ لَمْ يَحِضْ فَهُوَ ذَكَرٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا اعْتِبَارَ بِالْحَيْضِ، وَإِنِ اعْتُبِرَ الْمَنِيُّ، لِأَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْمَنِيِّ، وَيَخْتَلِفَانِ فِي مَخْرِجِهِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا كَمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْبَوْلِ، وَيَخْتَلِفَانِ فِي مَخْرِجِهِ وَلَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْحَيْضِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدَّمُ لَيْسَ بِحَيْضٍ، فَإِذَا فَاتَ الْبَيَانُ مِنَ الذَّكَرِ وَالْفَرْجِ بِاعْتِبَارِ الْبَوْلِ وَالْمَنِيِّ فَلَا اعْتِبَارَ بَعْدَهُمَا بِشَيْءٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْجَسَدِ وَصِفَاتِهِ فَلَا تَكُونُ فِي اللِّحْيَةِ دَلِيلٌ، لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ لِبَعْضِ النِّسَاءِ، وَلَا تَكُونُ فِي الثَّدْيِ وَاللَّبَنِ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِبَعْضِ الرِّجَالِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ اعْتَبَرَ بِعَدَدِ الْأَضْلَاعِ فإن أضلاع المرأة متساوية في الْجَانِبَيْنِ، وَأَضْلَاعَ الرَّجُلِ تَنْقُصُ مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ، ضِلْعًا لِأَجْلِ مَا حُكِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ الْأَيْسَرِ، وَبِهَذَا قَالَ حَسَنٌ الْبَصْرِيُّ وَحَكَاهُ

(11/411)


ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِعَدَدِ الْأَضْلَاعِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا لَقُدِّمَ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَبَالِ، لِأَنَّهُ أَصْلٌ ثَابِتٌ فِي الْخِلْقَةِ.
وَالثَّانِي: مَا حُكِيَ عَنْ أَصْحَابِ التَّشْرِيحِ وَمَا تُوجَدُ شَوَاهِدُهُ فِي الْبَهَائِمِ بَعْدَ الذَّبْحِ أَنَّ أَضْلَاعَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى، وَأَنَّهَا أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ ضِلْعًا مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَفِي كُلِّ جَانِبٍ مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ ضِلْعًا خَمْسَةٌ مِنْهَا تَتَلَاقَى، وَسَبْعَةٌ مِنْهَا أَضْلَاعُ الْخَلَفِ وَهِيَ الَّتِي لَا تَتَلَاقَى، فَإِذَا لَمْ يزل إشكاله بالأمارات الظاهرة لتكافئ دَلَائِلِهَا وَجَبَ أَنْ يُرْجَعَ إِلَى الْأَمَارَاتِ الْبَاطِنَةِ الْمَرْكُوزَةِ فِي طَبْعِهِ، فَإِنَّ الذَّكَرَ مَطْبُوعٌ عَلَى مَا رَكَّبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ مِنْ شَهْوَةِ الْأُنْثَى وَالْأُنْثَى مَطْبُوعَةٌ عَلَى مَا رَكَّبَهُ اللَّهُ تعالى فيها من شهوة الرجال الذكر لِيَحْفَظَ بِالشَّهْوَةِ الْغَرِيزِيَّةِ بَقَاءَ التَّنَاسُلِ.
وَمِثَالُهُ مَا يَقُولُهُ فِي لُحُوقِ الْأَنْسَابِ عِنْدَ الِاشْتِرَاكِ وَالِاشْتِبَاهِ، وَإِنَّمَا يُرْجَعُ بِالْقَافَةِ إِلَى الْأَمَارَاتِ الظَّاهِرَةِ فِي الْجَسَدِ فَإِذَا عُدِمَ الْبَيَانُ مِنْهَا رَجَعْنَا إِلَى الْأَمَارَاتِ الْبَاطِنَةِ فِي الْمَيْلِ بِالطَّبْعِ الْمَرْكُوزِ فِي الْخِلْقَةِ إِلَى الْمُتَمَازِجِينَ فِي الِانْتِسَابِ فَيُؤْخَذَ بِالِانْتِسَابِ إِلَى مَنْ مَالَ طَبْعُهُ إِلَيْهِ كَذَلِكَ الْخُنْثَى، وَهَذِهِ الشَّهْوَةُ تُسْتَكْمَلُ بِالْبُلُوغِ فَلَا اعْتِبَارَ بِهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ وَالَّذِي يَكُونُ بِهِ الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ بَالِغًا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ الصَّلَاةِ فَإِذَا بَلَغَ اعْتُبِرَتْ حِينَئِذٍ شَهْوَتُهُ فِي الْمَيْلِ إِلَى أَحَدِ الْجِنْسَيْنِ فَإِنْ مَالَتْ شَهْوَتُهُ إِلَى النِّسَاءِ حُكِمَ بِأَنَّهُ رَجُلٌ وَإِنْ مَالَ إِلَى شَهْوَةِ الرِّجَالِ حُكِمَ بِأَنَّهُ امْرَأَةٌ، وَلَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ كَمَا أُجْرِيَ عَلَيْهِ مِنْ حُكْمِ أَحَدِ الْجِنْسَيْنِ إِلَّا أَنْ تَظْهَرَ مِنْ دَلَائِلِ أَصِلِ الْخِلْقَةِ مَا تَقْتَضِيهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَرْجِعَ إِلَى شَهْوَتِهِ عِنْدَ عَدَمَ الْبَيَانِ فِي الْمَبَالِ لِتَسَاوِيهِمَا، وَيُحْكَمُ بِمَيْلِهِ إِلَى الرِّجَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ ثُمَّ يَنْقَطِعُ بَوْلُهُ مِنَ الْفَرْجِ وَيَسْتَدِرُّ مِنَ الذَّكَرِ، فَيُحْكَمُ بِأَنَّهُ رَجُلٌ بَعْدَ أَنْ جَرَى حُكْمُ النِّسَاءِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْأَمَارَاتِ الظَّاهِرَةَ أَقْوَى بَيَانًا مِنَ الْأَمَارَاتِ الْبَاطِنَةِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ رَجُلًا فُسِخَ نِكَاحُهُ وَزُوِّجَ امْرَأَةً إِنْ شَاءَ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حَالِ الْخُنْثَى فِي زَوَالِ إِشْكَالِهِ أَوْ بَقَائِهِ عَلَى إِشْكَالِهِ فيحكم مَنْ أَرْضَعَهُ مِنَ الْأَطْفَالِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِهِ فَإِنْ أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الرِّجَالِ، وَنَزَلَ لَهُ لَبَنٌ فَأَرْضَعَ بِهِ طِفْلًا لَمْ تَنْتَشِرْ بِهِ الْحُرْمَةُ وَلَمْ يَصِرِ ابْنًا لَهُ مِنَ الرَّضَاعِ، لِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يَصِيرُ بِلَبَنِهِ أَبًا وَقَالَ الْحُسَيْنُ الْكَرَابِيسِيُّ: يَصِيرُ بِلَبَنِهِ أَبًا كَالْأُمِّ تَصِيرُ بِلَبَنِهَا أُمًّا وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ بِالرَّضَاعِ أُمًّا، وَلَمْ يُثْبِتْ بِهِ أَبًا فَقَالَ {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] .

(11/412)


وَالثَّانِي: أَنَّ الْحُرْمَةَ تَنْتَشِرُ عَنِ ارْتِضَاعِ اللَّبَنِ الْمَخْلُوقِ لِغِذَاءِ الْوَلَدِ، وَذَلِكَ مَخْصُوصٌ فِيمَا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى غَالِبًا مِنْ أَلْبَانِ النِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ، وَصَارَ لَبَنُ الرَّجُلِ أَضْعَفَ حُكْمًا مِنْ لَبَنِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي لَا يَنْتَشِرُ بِهِ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ، وَلِأَنَّ الرَّضَاعَ تَبَعٌ لِلْوِلَادَةِ فَلَمَّا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مَحَلَّ الْوِلَادَةِ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَحَلَّ الرَّضَاعِ، وَإِذَا لَمْ تَنْتَشِرِ الْحُرْمَةُ بِلَبَنِ الرَّجُلِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَرِهْتُ لَهُ إِنْ كَانَ الْمُرْضَعُ بِنْتًا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِاغْتِذَائِهَا بِلَبَنِهِ، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا لَمْ يُفْسَخْ نِكَاحُهُ لِعَدَمِ حُرْمَتِهِ، وَإِنْ أُجْرِيَ عَلَى الْخُنْثَى حُكْمُ النِّسَاءِ وَأُبِيحِ لَهُ التَّزْوِيجُ بِالرِّجَالِ انْتَشَرَتِ الْحُرْمَةُ عَنْ لَبَنِهِ قَبْلَ التَّزْوِيجِ وَبَعْدَهُ، لِأَنَّ لَبَنَ النِّسَاءِ مَخْلُوقٌ لِلِاغْتِذَاءِ، وَلَيْسَ جِمَاعُ الرَّجُلِ شَرْطًا فِيهِ وَإِنْ كَانَ سَبَبًا لِنُزُولِهِ فِي الْأَغْلَبِ فَصَارَ كَالْبِكْرِ إِذَا نَزَلَ لَهَا لَبَنٌ فَأَرْضَعَتْ بِهِ طِفْلًا انْتَشَرَتْ بِهِ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ فَلَوْ حُكِمَ بِانْتِشَارِ حُرْمَةِ اللَّبَنِ بِمَا أُجْرِيَ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ النِّسَاءِ وَتَزَوَّجَ رَجُلًا ثُمَّ ذَكَرَ مَيْلَهُ إِلَى طَبْعِ الرِّجَالِ، وَقَالَ أَنَا رَجُلٌ، نُظِرَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِمَا ادَّعَاهُ مِنَ انْتِقَالِ الشَّهْوَةِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، لِأَنَّهُ مُتَهَوِّمٌ فِيهِ، وَكَانَ عَلَى حُكْمِهِ الْأَوَّلِ فِي كَوْنِهِ امْرَأَةً، وَكَانَ الزَّوْجُ عَلَى نِكَاحِهِ لَكِنْ يُقَالُ لَهُ: نَخْتَارُ لَكَ فِي الْوَرَعِ أَنْ تُفَارِقَهَا إِنْ صَدَّقْتَهَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِالْأَمَارَاتِ الظَّاهِرَةِ فِي الْبَوْلِ وَالْمَنِيِّ الَّذِي لَا يُتَّهَمُ فِيهِ قُبِلَ مِنْهُ، وَنُقِلَ عَنْ أَحْكَامِ النِّسَاءِ إِلَى أَحْكَامِ الرِّجَالِ وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الزَّوْجِ، وَبَطَلَ مَا انْتَشَرَ مِنْ حُرْمَةِ الرَّضَاعِ، وَكَرِهْنَا لَهُ إِنْ كَانَ الْوَلَدُ بِنْتًا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَأُبِيحَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَ بِرَجُلٍ، وَإِنْ كَانَ عَلَى إِشْكَالِهِ فَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ إِذَا فَاتَ الْبَيَانُ بِالْأَمَارَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ لِتَكَافُئِهَا وَعَدَمِ الشَّهْوَةِ الْمَرْكُوزَةِ فِي الطَّبْعِ صَارَ نُزُولُ اللَّبَنِ بَيَانًا، لِأَنَّهُ لَا يَنْزِلُ فِي الْغَالِبِ إِلَّا مِنَ امْرَأَةٍ فَاعْتُبِرَ الْإِشْكَالُ بِالْأَغْلَبِ مِنْهُمَا لَا اللَّبَنُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ النِّسَاءِ وَانْتَشَرَتِ الْحُرْمَةُ عَنْ لَبَنِهِ، وَقَدْ حَكَى هَذَا الْوَجْهَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا اخْتَلَفَ عَنْهُ فِي ظُهُورِ اللِّحْيَةِ هَلْ يَصِيرُ بَيَانًا عِنْدَ عَدَمِ الْبَيَانِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَصِيرُ بَيَانًا كَاللَّبَنِ.
وَالثَّانِي: لَا يَصِيرُ بَيَانًا، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَدَمُ اللِّحْيَةِ دَلِيلًا عَلَى الْأُنُوثَةِ لَمْ يَكُنْ وُجُودُهَا دَلِيلًا عَلَى الذُّكُورِيَّةِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِنَّهُ لَا يَصِيرُ اللَّبَنُ وَاللِّحْيَةُ بَيَانًا، لِأَنَّهُمَا قَدْ يَشْتَرِكُ فِيهِمَا الْجِنْسَانِ، وَإِنْ كَانَ نَادِرًا فَلَمْ يَصِرْ بَيَانًا، وَإِذَا فَاتَ الْبَيَانُ وَدَامَ الْإِشْكَالُ وَأَرْضَعَ بِلَبَنِهِ مَوْلُودًا لَمْ يُحْكَمْ لِلَبَنِهِ بِانْتِشَارِ الْحُرْمَةِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا، وَلَا يُعْدَمْهَا، لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً، وَكَانَ عَلَى الْوَقْفِ مَا بَقِيَ عَلَى الْإِشْكَالِ، لِأَنَّ مَا مِنْ وَقْتٍ يَحْدُثُ إِلَّا وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَحْدُثَ فِيهِ مَا يَزُولُ بِهِ الْإِشْكَالُ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ وُقِفَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(11/413)